الاجتهاد في مناط الحكم الشرعي دراسة تأصيلية تطبيقية

بلقاسم الزبيدي

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة أم القرى كلية الشريعة والدراسات الإسلامية قسم الشريعة - تخصص أصول الفقه الاجتهاد في المناط عند الأصوليين وعلاقته بالأدلة الشرعية وتطبيقاته في فقه النوازل المعاصرة

بحث مقدَّم لنيل درجة الدكتوراه في أصول الفقه إعداد بلقاسم بن ذاكر بن محمد الزُّبيدي إشراف أ. د. غازي بن مرشد العتيبي 1434 هـ - 1435 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

المقدمة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70 - 71]. أما بعد: فإن من أعظم أوصاف الشريعة المحمدية أنها شريعةٌ عامة , وهذا الوصف يشمل العموم في خطاب المكلَّفين بها ,كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)} [سبأ: 28]. كما يشمل العموم في تناولها لأحكام الواقعات بالنصِّ أو الاجتهاد في كل زمانٍ ومكان, كما قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].

قال الشافعي رحمه الله: " "فليستْ تنزلُ بأحدٍ من أهل دين الله نازلةٌ إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها." (¬1). وقال الخطابي: "الله تعالى لم يترك شيئاً يجب له حكمٌ إلا وقد جعل فيه بياناً، ونصب عليه دليلاً ولكن البيان ضربان، بيانٌ جليٌّ يعرفه عامة الناس كافة، وبيانٌ خفيٌّ لا يعرفه إلا الخاصّ من العلماء الذين عُنوا بعلم الأصول فاستدركوا معاني النصوص، وعرفوا طرق القياس والاستنباط , وردِّ الشيء إلى المثل والنظير" (¬2). ولاريب أن العموم في خطاب المكلَّفين وأحكام الواقعات يستلزم الاجتهاد في استنباط المعاني التي أنيطت بها الأحكام في الكتاب والسُّنَّة , ثم الاجتهاد في إدراج الأشخاص المعينة والحوادث المستجدة في كل زمانٍ ومكانٍ تحت تلك المعاني التي أنيطت بها أحكامها. وذلك لأن " الشريعة لم تنصّ على حكم كلِّ جزئيةٍ على حِدتها , وإنما أتت بأمورٍ كليةٍ وعباراتٍ مطلقةٍ تتناول أعداداً لا تنحصر" (¬3). وبناءً على ذلك فإن " كل حكمٍ لله أو لرسوله وُجِدت عليه دلالةٌ فيه أو في غيره من أحكام الله أو رسوله بأنه حُكِم به لمعنىً من المعاني، فنزلت نازلةٌ ليس فيها نصُّ حكمٍ: حُكِم فيها حكمُ النازلة المحكومِ فيها، إذا كانت في معناها" (¬4). ويعتبر الاجتهاد في استنباط الأوصاف والمعاني التي أنيطت بها أحكام الشريعة, وتنزيلها على الوقائع والمستجدات المختلفة في كل عصرٍ ومصرٍ من أدقِّ أنواع الاجتهاد في الشريعة. قال ابن تيمية: " فالكتاب والسُّنة بيَّنا جميعَ الأحكام بالأسماء العامة , لكن يحتاج إدخال الأعيان في ذلك إلى فهمٍ دقيقٍ ونظرٍ ثاقبٍ لإدخال كلِّ ¬

(¬1) الرسالة: (20). (¬2) معالم السنن مع التهذيب: (3/ 56). (¬3) الموافقات: (5/ 14). (¬4) الرسالة: (512).

أسباب اختيار الموضوع

معينٍ تحت نوع, وإدخال ذلك النوع تحت نوعٍ آخر بيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم " (¬1). ولما كان الاجتهاد في مناطات الأحكام استنباطاً وتنزيلاً من أدقّ أنواع الاجتهاد في الشريعة لقي هذا الموضوع مزيد اعتناءٍ عندي , ووقع عليه الاختيار دون غيره من الموضوعات. أسباب اختيار الموضوع: من أهم الأسباب التي دفعتني لبحث هذا الموضوع -إضافةً إلى ماتقدم- مايأتي: 1 - إن شرف العلم بشرف المعلوم، وشرف البحث بشرف المبحوث، وهذا البحث يتعلق بأهم مباحث أصول الفقه , وهو الاجتهاد في الأوصاف والمعاني التي أنيطت بها الأحكام استنباطاً وتنقيحاً وتنزيلاً على الأشخاص والأحوال والوقائع المستجدَّة في كل عصرٍ ومصر. 2 - الاجتهاد في المناط يتعلق غالباً بالنظر في أهم ركنٍ من أركان القياس وهو العِلَّة؛ وذلك لأن الأنواع الثلاثة للاجتهاد في المناط تشترك كلها في أنها تَرِدُ على العِلَّة، إما لتنقيحها إذا كانت العِلَّة منصوصةً واقترنت بها أوصافٌ لاتصلح للعليَّة، أو لتخريجها إذا كانت العِلَّة مستنبطة، أو لتحقيقها في الفرع سواءً ثبتت العِلَّة في حكم الأصل بالنصِّ أو الإجماع أو الاستنباط. ويعتبر الاجتهاد في العِلَّة من أدقِّ مباحث القياس الأصولي, وأكثرها اشتباهاً, وأشدها التباساً , وهو أمرٌ يستدعي البحث والتحقيق في المطالب المتعلقة بالاجتهاد فيها. 3 - الاجتهاد في المناط يشمل جميع الأحكام الشرعية، فلا يخلو حكمٌ شرعيٌّ من الحاجة إلى النظر في تنقيح المناط أو تحقيقه أو تخريجه. قال الشاطبي: " ولو فُرِض ارتفاع هذا الاجتهاد - أي: تحقيق المناط - لم تنزَّل الأحكام الشرعية على أفعال المكلَّفين إلا في الذهن؛ لأنها مطلقاتٌ ¬

(¬1) درء تعارض العقل والنقل: (7/ 342 - 343).

وعمومات, وما يرجع إلى ذلك منزَّلاتٌ على أفعال مطلقاتٍ كذلك , والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة , وإنما تقع معينةً مشخصةً , فلا يكون الحكم واقعاً عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام " (¬1). 4 - الاجتهاد في المناط يتعلق بجميع الأدلة الشرعية، ولا يخلو دليلٌ شرعيٌّ من تعلُّقٍ بأحد أنواعه الثلاثة. 5 - الاجتهاد في المناط سببٌ من أهم أسباب اختلاف المجتهدين في عامة أبواب الشريعة. فالناظر في كثيرٍ من المسائل الخلافية بين المجتهدين في القديم والحديث يجد أن من أهم أسباب الاختلاف في تلك المسائل ما يرجع إلى الاختلاف في مناط الحكم ,ومعرفة المحكوم فيه على حقيقته, وما يدخل فيه وما لا يدخل ,ومكونات الأشياء ومميزاتها ,وخصائص الأعيان وأوصافها, وأسباب الأفعال ومآلاتها, ونحو ذلك مما له تأثيرٌ في الحكم حسب نظر المجتهد. وكما يقول ابن رشد القرطبي: " لربما اتفقوا على مضمون القاعدة الأصولية أو الفقهية إلا أنهم يختلفون في تحققها في الواقعة والنازلة المعروضة " (¬2). 6 - كثرة الوقائع والحوادث التي تختلف أحكامها بحسب اختلاف مناطاتها، وهو ما يستوجب ضبط الاجتهاد في طلب أحكام تلك الوقائع وتحقيق مناطاتها, والإسهام بجهدٍ تأصيليٍّ وتطبيقيٍّ في هذا الموضوع. ولا شك أن التقصير في هذا النوع من الاجتهاد يفضي إلى تنزيل الأحكام الشرعية على صورٍ متشابهةٍ في الظاهر متباينةٍ في الحقيقة, كما يفضي إلى صرف الحكم الشرعي عن بعض أفراده المنطبقة عليه. قال الشاطبي: " الشريعة لم تنصّ على حكم كلِّ جزئيةٍ على حِدتها , ¬

(¬1) الموافقات: (5/ 17). (¬2) بداية المجتهد: (1/ 458).

الدراسات السابقة

وإنما أتت بأمورٍ كليَّةٍ وعباراتٍ مطلقةٍ تتناول أعداداً لا تنحصر , ومع ذلك فلكل معينٍ خصوصيةٌ ليست في غيره ولو في نفس التعيين " (¬1). بل قد يفضي عدم مراعاة ضوابط الاجتهاد في المناط إلى الابتداع في الدين, والتزيُّد على الشريعة وإدخال ما ليس منها فيها، وقد ذكر الشاطبي أن من خفيات تحريف الكلِم عن مواضعه تحريف الأدلة عن مواضعها ,وذلك بأن يرد الدليل على مناطٍ فيصرف عن ذلك المناط إلى أمرٍ آخر موهماً بأن المناطين واحد (¬2). 7 - لم أعثر حسب اطلاعي على دراسةٍ أصوليةٍ تُعنَى بموضوع الاجتهاد في المناط تخريجاً وتنقيحاً وتحقيقاً , وضوابط ذلك الاجتهاد , ومسالكه , وعلاقته بالأدلة الشرعية, مع التطبيق على فقه النوازل المعاصرة. لهذه الأسباب وغيرها رغبت في بحث هذا الموضوع تحت عنوان: ((الاجتهاد في المناط وعلاقته بالأدلة الشرعية وتطبيقاته في فقه النوازل المعاصرة)) استكمالاً لمتطلبات شهادة العالمِية العالية (الدكتوراه) في أصول الفقه. الدراسات السابقة: أهم الدراسات السابقة التي لها علاقةٌ مباشرةُ بموضوع البحث ما يأتي: 1 - الاجتهاد بتحقيق المناط وسلطانه في الفقه الإسلامي , للباحث: عبد الرحمن زايدي ,رسالة ماجستير بالجامعة الأمريكية المفتوحة بالقاهرة، نوقشت سنة 2001 م. ومما يلحظ على هذه الدراسة: أولاً: تغليب الأسلوب الثقافي والفكري في لغة البحث على قواعد التأصيل العلمي وتحقيق المسائل والاستدلال لها والتطبيق عليها. ¬

(¬1) الموافقات: (5/ 14). (¬2) ينظر: الاعتصام: (1/ 249).

ثانياً: التوسع والإطالة في بحث موضوعات ليس لها علاقةٌ مباشرةٌ بموضوع البحث مما جعل ثلثي الكتاب خارج صلب الموضوع. ومن تلك الموضوعات: تجزؤ الاجتهاد ,وشروط المجتهد , والاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم , ومراعاة الخلاف , وتجديد الاجتهاد , ونقض الاجتهاد ,والعزائم والرخص وأقسامها وضوابطها , وأقسام المشقة وضوابطها , وتتبع رخص الفقهاء , والكتب المعتمدة في الفتوى , وتطور الإفتاء , والفتاوى الجماعية , وغيرها من الموضوعات التي توسع فيها الباحث ولم يبين وجه علاقتها العلمية أو العملية بموضوع البحث. ثالثاً: لم تتناول الدراسة كلاً من الموضوعات الآتية: -مسالك تحقيق المناط , ومنها: الكتاب ,والسُّنة ,والإجماع , وقول الصحابي, ولغة العرب، والعُرْف، والحِسّ، وقول أهل الخبرة، والبينات الشرعية، والحساب والعدد. -ضوابط تحقيق المناط , ومنها: التصوُّر الصحيح التام للواقعة ,ومراعاة اختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة , واعتبار مآلات الأفعال , ومراعاة اختلاف مقاصد المكلفين, والموازنة بين المصالح والمفاسد. - العلاقة بين تحقيق المناط والأدلة الشرعية المتفق عليها والمختلف فيها. رابعاً: اقتصرت الدراسة على بحث الاجتهاد في تحقيق المناط , ولم تتناول الاجتهاد في تخريج المناط , أو الاجتهاد في تنقيح المناط. 2 - تحقيق المناط وأثره في اختلاف الفقهاء, للباحث: حمادة مصطفى علي القضاة, رسالة ماجستير بالجامعة الأردنية، نوقشت سنة 2000 م. وهذا البحث يتناول موضوع تحقيق المناط باعتباره سبباً من أسباب اختلاف الفقهاء , مع بيان أثر ذلك في بعض المسائل الفقهية التراثية ,وهي: زكاة الحلي , ونكاح التحليل , والتفريق بين الزوجين قضاءً بسبب إعسار الزوج , وإقامة الحدّ على النباش , واشتراك من لايجب عليه القصاص مع من يجب عليه القصاص في القتل.

ولم تتناول الدراسة: مسالك تحقيق المناط , أو العلاقة بين تحقيق المناط والأدلة الشرعية ,كما إن الدراسة اقتصرت على بحث الاجتهاد في تحقيق المناط , ولم تتناول الاجتهاد في تخريج المناط ,أو الاجتهاد في تنقيح المناط. 3 - تحقيق المناط دراسة أصولية تطبيقية , للباحث: العربي الإدريسي ,بحث منشور في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة ,العدد (75) الصادر بتاريخ 1/ 8/2007 م. ومما يلحظ على هذا البحث: أولاً: اقتصر البحث على دراسة الاجتهاد في تحقيق المناط , ولم يتناول الاجتهاد في تخريج المناط , أو الاجتهاد في تنقيح المناط. ثانياً: لم يتناول البحث مسالك تحقيق المناط، أو ضوابط تحقيق المناط، أو العلاقة بين تحقيق المناط والأدلة الشرعية. ثالثاً: خلو البحث من التطبيق على النوازل المعاصرة , واكتفاء الباحث بالتطبيق على بعض المسائل الفقهية التراثية , وهي: زكاة الحلي, ونكاح التحليل , والتفريق بين الزوجين للإعسار بالنفقة , وحكم النبَّاش. 4 - تحقيق المناط , للباحث: د. صالح العقيل ,بحث منشور في مجلة العدل الصادرة عن وزارة العدل بالمملكة العربية السعودية، ,العدد (20) شوال 1424 هـ، والعدد (26) ربيع الآخر 1426 هـ. ومما يلحظ على هذا البحث: أولاً: اقتصر البحث على دراسة الاجتهاد في تحقيق المناط ,ولم يتناول الاجتهاد في تخريج المناط , أو الاجتهاد في تنقيح المناط. ثانياً: لم يتناول البحث كلاً من الموضوعات الآتية: -ضوابط تحقيق المناط , ومنها: التصوُّر الصحيح التام للواقعة ,ومراعاة اختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة , واعتبار مآلات الأفعال , ومراعاة اختلاف مقاصد المكلفين, والموازنة بين المصالح والمفاسد.

-العلاقة بين تحقيق المناط والأدلة الشرعية المتفق عليها والمختلف فيها. ثالثاً: لم يتضمن البحث دراسةً تطبيقيةً على النوازل المعاصرة، وقد اكتفى بذكر الشواهد دون دراستها. 5 - تحقيق المناط عند الأصوليين وأثره في اختلاف الفقهاء, للباحث: د. عبدالرحمن إبراهيم الكيلاني, بحث منشور في مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية ,جامعة الكويت, العدد 58, سنة 1425 هـ -2004 م. ومما يلحظ على هذا البحث: أولاً: اقتصر البحث على دراسة الاجتهاد في تحقيق المناط , ولم يتناول الاجتهاد في تخريج المناط , أو الاجتهاد في تنقيح المناط. ثانياً: لم يتناول البحث بعض مسالك تحقيق المناط ,ومنها: الكتاب ,والسُّنة , والإجماع , وقول الصحابي , وقول أهل الخبرة، والبينات الشرعية، والحساب والعدد. ثالثا: لم يتناول البحث ضوابط تحقيق المناط، أو العلاقة بين تحقيق المناط والأدلة الشرعية. رابعاً: لم يتضمن البحث دراسةً تطبيقيةً على النوازل المعاصرة. 6 - المناط في أصول الفقه, للباحث: رائد عبدالله نمر بدير, رسالة ماجستير في جامعة النجاح الوطنية في غزة , نوقشت سنة 1424 هـ, ثم طبعت سنة 1427 هـ, من منشورات دار ابن الجوزي بالقاهرة. ومما يلحظ على هذا البحث: أولاً: لم يتناول البحث طرق تنقيح المناط , أو مسالك تخريج المناط , أو مسالك تحقيق المناط. ثانياً: لم يتناول البحث ضوابط تحقيق المناط , ومنها: التصوُّر الصحيح التام للواقعة ,ومراعاة اختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة , واعتبار مآلات الأفعال , ومراعاة اختلاف مقاصد المكلفين, والموازنة بين المصالح والمفاسد.

جوانب الإضافة في هذا البحث على الدراسات السابقة

ثالثاً: لم يتناول البحث العلاقة بين الاجتهاد في المناط والأدلة الشرعية المتفق عليها والمختلف فيها, واكتفى الباحث بدراسة ما أسماه بالخطط التشريعية التي تفرعت على قاعدة تحقيق المناط الخاص , وهي: الاستحسان ,وسد الذرائع, وفتح الذرائع , ومراعاة الخلاف. رابعاً: لم يتضمن البحث دراسةً تطبيقيةً على النوازل المعاصرة. جوانب الإضافة في هذا البحث على الدراسات السابقة: بعد الاطلاع على تلك الدراسات التي لها قَصْب السَّبْق في جوانب عدةٍ من هذا الموضوع فإن الإضافة التي أطمح إلى تحقيقها من خلال هذا البحث تتميماً لتلك الجهود المشكورة تتلخص في الجوانب الآتية: -دراسة موضوع الاجتهاد في المناط بأنواعه الثلاثة وهي: (تخريج المناط، وتنقيح المناط، وتحقيق المناط) وبيان مسالكها , وأوجه العلاقة بينها. -دراسة العلاقة بين الاجتهاد في المناط والأدلة الشرعية المتفق عليها والمختلف فيها. -ربط الجانب التأصيلي للموضوع بالجانب التطبيقي ,وذلك من خلال إفراد بابٍ مستقلٍ يتناول تطبيقات الاجتهاد في المناط على (15) مسألةٍ من فقه النوازل والمستجدات الفقهية تشمل: العبادات, والمعاملات, والنكاح وتوابعه, والحدود والجنايات. ويهدف هذا الباب إلى ربط المستجدات الفقهية بعلم أصول الفقه وقواعده , وهو أمرٌ بالغ الأهمية؛ لأنه يسهم في إحياء وظيفة علم أصول الفقه في واقعنا المعاصر , كما يزيل الغموض عن بعض القواعد والمسائل النظرية التي تبحث في هذا العلم؛ وذلك لأن"معظم الغموض في هذه القواعد منشؤه الاكتفاء بالتراجم والمعاقد , دون التهذيب بالأمثلة" (¬1). كما أن الملكة لاتحصل بمعرفة الشيء مجرداً عن تطبيقاته , بل لابد ¬

(¬1) شفاء الغليل للغزالي: (208).

خطة البحث

من الارتياض فيه والدربة عليه كما قال الزركشي: " ليس يكفي في حصول الملكة على شيءٍ تعرُّفُه، بل لا بدَّ مع ذلك من الارتياض في مباشرته " (¬1). خطة البحث: يتكون هذا البحث من مقدمة, وتمهيد, وخمسة أبواب, وخاتمة, وفهارس تفصيلية ,وبيانها على النحو الآتي: المقدمة , وتشتمل على: أسباب اختيار الموضوع , والدراسات السابقة التي لها علاقةٌ مباشرةٌ به, وجوانب الإضافة التي أطمح إليها من خلال بحث هذا الموضوع , وخطة البحث , ومنهج البحث, والشكر والتقدير لمشايخي الكرام. التمهيد: تعريف الاجتهاد في المناط، وبيان أنواعه , وأوجه الجمع والفرق بينها. ويشتمل على أربعة مباحث: المبحث الأول: تعريف الاجتهاد لغةً واصطلاحاً. ويشتمل على ثلاثة مطالب: المطلب الأول: تعريف الاجتهاد لغةً. المطلب الثاني: تعريف الاجتهاد اصطلاحاً. المطلب الثالث: وجه المناسبة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي. المبحث الثاني: تعريف المناط لغةً واصطلاحاً. ويشتمل على ثلاثة مطالب: المطلب الأول: تعريف المناط لغةً. المطلب الثاني: تعريف المناط اصطلاحاً. المطلب الثالث: وجه المناسبة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي. المبحث الثالث: تعريف الاجتهاد في المناط، وبيان أنواعه. ¬

(¬1) البحر المحيط: (6/ 228).

ويشتمل على مطلبين: المطلب الأول: تعريف الاجتهاد في المناط. المطلب الثاني: أنواع الاجتهاد في المناط. المبحث الرابع: أوجه الجمع والفرق بين أنواع الاجتهاد في المناط. ويشتمل على مطلبين: المطلب الأول: أوجه الجمع بين أنواع الاجتهاد في المناط. المطلب الثاني: أوجه الفرق بين أنواع الاجتهاد في المناط. الباب الأول: الاجتهاد في تنقيح المناط. ويشتمل على خمسة فصول: الفصل الأول: تعريف تنقيح المناط لغةً واصطلاحاً. ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعريف تنقيح المناط لغةً. المبحث الثاني: تعريف تنقيح المناط اصطلاحاً. المبحث الثالث: وجه المناسبة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي. الفصل الثاني: حكم العمل بتنقيح المناط والأدلة على اعتباره. ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: حكم العمل بتنقيح المناط. المبحث الثاني: الأدلة على اعتبار العمل بتنقيح المناط. الفصل الثالث: العلاقة بين تنقيح المناط وإلغاء الفارق. ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعريف إلغاء الفارق لغةً واصطلاحاً. ويشتمل على مطلبين: المطلب الأول: تعريف إلغاء الفارق لغةً. المطلب الثاني: تعريف إلغاء الفارق اصطلاحاً.

المبحث الثاني: أقسام إلغاء الفارق. المبحث الثالث: العلاقة بين تنقيح المناط وإلغاء الفارق. الفصل الرابع: العلاقة بين تنقيح المناط والسَّبْر والتقسيم. ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: تعريف السَّبْر والتقسيم لغةً واصطلاحاً. ويشتمل على مطلبين: المطلب الأول: تعريف السَّبْر والتقسيم لغةً. المطلب الثاني: تعريف السَّبْر والتقسيم اصطلاحاً. المبحث الثاني: العلاقة بين تنقيح المناط والسَّبْر والتقسيم. الباب الثاني: الاجتهاد في تخريج المناط. ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: تعريف تخريج المناط لغةً واصطلاحاً. ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعريف تخريج المناط لغةً. المبحث الثاني: تعريف تخريج المناط اصطلاحاً. المبحث الثالث: وجه المناسبة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي. الفصل الثاني: حكم العمل بتخريج المناط والأدلة على اعتباره. ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: حكم العمل بتخريج المناط. المبحث الثاني: الأدلة على اعتبار العمل بتخريج المناط. الفصل الثالث: مسالك تخريج المناط. ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تخريج المناط بمسلك المناسبة. ويشتمل على أربعة مطالب:

المطلب الأول: تعريف المناسبة لغةً واصطلاحاً. المطلب الثاني: أقسام المناسب باعتبار شهادة الشرع له بالملائمة وعدمها. المطلب الثالث: حُجِّية مسلك المناسبة. المطلب الرابع: صورة تخريج المناط بمسلك المناسبة. المبحث الثاني: تخريج المناط بمسلك السَّبْر والتقسيم. ويشتمل على خمسة مطالب: المطلب الأول: تعريف السَّبْر والتقسيم لغةً واصطلاحاً. المطلب الثاني: أقسام السَّبْر والتقسيم. المطلب الثالث: حجية السَّبْر والتقسيم. المطلب الرابع: شروط صحة السَّبْر والتقسيم. المطلب الخامس: صورة تخريج المناط بمسلك السَّبْر والتقسيم. المبحث الثالث: تخريج المناط بمسلك الدوران. ويشتمل على ثلاثة مطالب: المطلب الأول: تعريف الدوران لغةً واصطلاحاً. المطلب الثاني: حجية مسلك الدوران. المطلب الثالث: صورة تخريج المناط بمسلك الدوران. الباب الثالث: الاجتهاد في تحقيق المناط. ويشتمل على خمسة فصول: الفصل الأول: تعريف تحقيق المناط لغةً واصطلاحاً. ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعريف تحقيق المناط لغةً. المبحث الثاني: تعريف تحقيق المناط اصطلاحاً. المبحث الثالث: وجه المناسبة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي.

الفصل الثاني: أقسام تحقيق المناط. ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: أقسام تحقيق المناط بالنظر إلى نوع المناط. المبحث الثاني: أقسام تحقيق المناط بالنظر إلى وضوحه وخفائه. المبحث الثالث: أقسام تحقيق المناط بالنظر إلى مراتبه. الفصل الثالث: حكم العمل بتحقيق المناط والأدلة على اعتباره. ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: حكم العمل بتحقيق المناط. المبحث الثاني: الأدلة على اعتبار العمل بتحقيق المناط. الفصل الرابع: ضوابط تحقيق المناط. ويشتمل على خمسة مباحث: المبحث الأول: التصوُّر الصحيح التام للواقعة ومعرفة حقيقتها. المبحث الثاني: مراعاة اختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة. المبحث الثالث: اعتبار مآلات الأفعال والأقوال الصادرة عن المكلَّفين. المبحث الرابع: مراعاة اختلاف مقاصد المكلَّفين. المبحث الخامس: الموازنة بين المصالح والمفاسد المتعارضة. الفصل الخامس: مسالك تحقيق المناط. ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: المسالك النقلية. المبحث الثاني: المسالك الاجتهادية. الباب الرابع: علاقة الاجتهاد في المناط بالأدلة الشرعية. ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: علاقة الاجتهاد في المناط بالأدلة المتفق عليها. ويشتمل على أربعة مباحث:

المبحث الأول: علاقة الاجتهاد في المناط بالكتاب. المبحث الثاني: علاقة الاجتهاد في المناط بالسُّنَّة. المبحث الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بالإجماع. المبحث الرابع: علاقة الاجتهاد في المناط بالقياس. الفصل الثاني: علاقة الاجتهاد في المناط بالأدلة المختلف فيها. ويشتمل على ثمانية مباحث: المبحث الأول: علاقة الاجتهاد في المناط بالاستصحاب. المبحث الثاني: علاقة الاجتهاد في المناط بشرع مَنْ قبلنا. المبحث الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بقول الصحابي. المبحث الرابع: علاقة الاجتهاد في المناط بالاستحسان. المبحث الخامس: علاقة الاجتهاد في المناط بالمصلحة المرسلة. المبحث السادس: علاقة الاجتهاد في المناط بسدِّ الذرائع. المبحث الثامن: علاقة الاجتهاد في المناط بالعُرْف. الباب الخامس: تطبيقات الاجتهاد في المناط في فقه النوازل المعاصرة. ويشتمل على خمسة عشر مبحثاً: المبحث الأول: استخدام مياه الصرف الصحي المُعالَجة في الطهارة. المبحث الثاني: تحديد أوقات الصلاة في البلدان الواقعة على خطوط العرض العالية. المبحث الثالث: زكاة أسهم الشركات. المبحث الرابع: استخدام الحقن العلاجية أثناء الصيام. المبحث الخامس: الإحرام بالحج أو العمرة للقادمين جواً بالطائرة. المبحث السادس: المتاجرة بالهامش في الأسواق المالية. المبحث السابع: خطاب الضمان البنكي. المبحث الثامن: التورُّق المصرفي المنظَّم.

منهج البحث

المبحث التاسع: تحديد النَّسْل. المبحث العاشر: إنشاء بنوك الحليب البشري والرضاع منها. المبحث الحادي عشر: إجراء عمليات التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب. المبحث الثاني عشر: إسقاط الجنين المشوه خِلْقياً. المبحث الثالث عشر: رفع أجهزة الإنعاش عن المتوفى دماغياً. المبحث الرابع عشر: زراعة ونقل الأعضاء التناسلية. المبحث الخامس عشر: زراعة عضوٍ استُؤصِل في حدٍّ أو قصاص. خاتمة البحث. فهرس الآيات القرآنية. فهرس الأحاديث النبوية. فهرس الآثار. فهرس الأعلام. فهرس المصادر والمراجع. فهرس الموضوعات. منهج البحث: أما منهج البحث الذي سلكته فيتلخص في الآتي: - الرجوع إلى المصادر الأصلية في البحث والنقل عن أصحابها مباشرةً ما أمكن ذلك. - الالتزام بقواعد البحث العلمي المتعارَف عليها في النقل والعزو والتوثيق والاقتباس ونحو ذلك. - عزو الآيات القرآنية إلى سورها مع ذكر أرقامها. - تخريج الأحاديث النبوية من مصادرها الأصلية , فإذا كان الحديث في الصحيحين أو في أحدهما اكتفيت بالعزو إلى ذلك ,وإن كان في غيرهما

صعوبات البحث

عزوت الحديث إلى أشهر مصادره الأصلية , ثم نقلت كلام بعض المحققين في بيان درجته. - وضع ترجمةٍ مختصرةٍ للأعلام الوارد ذكرهم في البحث , وقد استثنيت من ذلك الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم , وأمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن؛ وذلك لشهرتهم التي أطبقت الآفاق. - توضيح الغريب من الألفاظ الواردة في البحث بما يكشف معناها , ويزيل الغموض عنها. - الإيجاز في تعريف الاصطلاحات الأصولية التي ليست من صلب البحث , والاكتفاء في تعريفها بمايناسب المقام دون توسعٍ يخرج عن المقصود. - الاقتصار في الجانب التطبيقي من الدراسة على بعض النوازل والمستجدات الفقهية التي لها علاقةٌ بموضوع البحث , والاستناد في أحكام تلك التطبيقات على قرارات الفتوى في بعض مؤسسات الاجتهاد الجماعي الموثوقة , كالمجامع الفقهية, وهيئة كبار العلماء بالسعودية , واللجنة الدائمة للإفتاء , ولم أتعرض إلى ذكر الخلاف في تلك النوازل, أو أدلة المخالفين ومناقشتها؛ لأن إيراد ذلك إنما يناسب أبحاث الفقه المقارن , أما هذه الدراسة فإنها تهدف إلى إبراز العلاقة بين الجانب النظري والتطبيقي في موضوع البحث , ولا تهدف إلى بحث أصل المسألة وأقوال المجتهدين فيها وأدلتهم كما هو الحال في الأبحاث الفقهية. - تذييل البحث بفهارس تفصيليةٍ تسهل الاستفادة من الدراسة , وقد شملت الآيات القرآنية, والأحاديث النبوية, والآثار, والأعلام ,والمصادر والمراجع , وفهرس الموضوعات. صعوبات البحث: حينما شرعت في بحث هذا الموضوع اعترضتني بعض صعوباتٍ يسَّر الله تجاوزها وذلَّلها بفضله ورحمته , ومن أهم الصعوبات التي واجهتني في هذا البحث مايأتي:

شكر وتقدير

- لمَّا طفقت أجمع مواد البحث من مدونات علمي الأصول والجدل عثرت على مادةٍ علميةٍ نفيسة , ولكنه اتضح لي فيما بعد أن أكثر هذه المواد عبارةٌ عن جملٍ مقتضبة ,وعباراتٍ دقيقة ,وإشاراتٍ خفيةٍ في جوانب عديدةٍ من هذا الموضوع , مما كان يستدعي مني التأمل الطويل ,مع التحليل والاستقراء والاستنتاج والتركيب, حتى أظفر بمزيد بيانٍ ووضوحٍ في تلك المسائل وعلائقها بغيرها , ثم أضعها في موضعها اللائق من هذا البحث. - التداخل والترابط الكبير بين أجزاء الموضوع ومقدماته ,وعلاقته بالأدلة الشرعية, وتطبيقاته , مما استدعى كثرة الإحالات إلى متقدمٍ أو متأخر ,والتكرار عند الحاجة إلى ذلك, كتكرار ذكر بعض الأمثلة في مواضع عدةٍ من البحث؛ وذلك لأنه يتجاذبها أكثر من أصل ,ولكل مثالٍ مناسبته التي تليق به من وجهٍ دون آخر , فلا أجد حينئذٍ بأسا في التكرار؛ إذ المقصود الجانب التأصيلي في تلك المواضع , لاسيما وأني قد أفردت باباً مستقلاً للتطبيق على موضوع البحث يشتمل على (15) مسألةً معاصرةً من عدة أبوابٍ فقهيةٍ متفرقة. - جِدَة بعض الموضوعات التي لم أعثر على بحثٍ مفردٍ فيها , أو إيضاحٍ مقصودٍ يستقل بها , وهو ما دفعني إلى بذل مزيدٍ من الجهد في التأمل والتحليل والربط والتركيب أكثر من بذل الجهد في جمع المعلومات وتنظيمها , وذلك مثل موضوع علاقة الاجتهاد في المناط بالأدلة الشرعية المتفق عليها والمختلف فيها. شكر وتقدير: في الختام أتقدم بجزيل الشكر والامتنان لشيخي الكريم فضيلة الأستاذ الدكتور /غازي بن مرشد العتيبي الذي أشرف على هذه الرسالة , وأفادني باستدراكاته الدقيقة, وتنبيهاته النفيسة, وتوجيهاته النيرة , ومنحني من وقته وجهده -رغم أشغاله العلمية والعملية - ما أسهم في تكميل نواقص البحث , وتسديد ثغراته, فأسأل الله أن يجزيه خير الجزاء , وأن يرفع درجاته في عليين إنه سميعٌ قريب.

كما لا يفوتني أن أتقدم بالشكر الجزيل إلى جامعة أم القرى منارة العلم في مهبط الوحي , وأخصّ بالشكر والتقدير كلية الشريعة والدراسات الإسلامية التي يبذل المخلصون فيها وسعهم لبث علوم الشريعة وتأصيلها, وتخريج الكفاءات العلمية المتميزة , من خلال برامج الدراسات العليا المختلفة , فجزاهم الله خير الجزاء على ذلك , وبارك في أوقاتهم وجهودهم , إنه سميعٌ مجيب. وأخيرا - كما هو أولاً- أحمد الله تبارك وتعالى حمداً كثيراً يليق بجلاله وكماله على ما أنعم به علي من نعمٍ جليلة , ومنها إتمام هذا البحث ,فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ,ثم إني أسأله جل في علاه أن يتقبل مني هذا العمل , وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم , وأن يعفو عني الزلل فيه , ويجبر الناقص منه , وأن يجعله مكمِّلاً لغيره من جهود إخواني الباحثين في بث علوم الشريعة وتحريرها , إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ,وعلى آله ,وصحبه أجمعين , ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

تمهيد تعريف الاجتهاد في المناط، وبيان أنواعه، وأوجه الجمع والفرق بينهما

تمهيد تعريف الاجتهاد في المناط، وبيان أنواعه، وأوجه الجمع والفرق بينهما ويشتمل على أربعة مباحث: المبحث الأول: تعريف الاجتهاد لغةً واصطلاحاً. المبحث الثاني: تعريف المناط لغةً واصطلاحاً. المبحث الثالث: تعريف الاجتهاد في المناط، وبيان أنواعه. المبحث الرابع: أوجه الجمع والفرق بين أنواع الاجتهاد في المناط.

المبحث الأول تعريف الاجتهاد لغةً واصطلاحاً ويشتمل على ثلاثة مطالب: المطلب الأول: تعريف الاجتهاد لغةً. المطلب الثاني: تعريف الاجتهاد اصطلاحاً. المطلب الثالث: وجه المناسبة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي.

المبحث الأول تعريف الاجتهاد لغة واصطلاحا

المبحث الأول تعريف الاجتهاد لغةً واصطلاحاً سأتناول في هذا المبحث تعريف الاجتهاد في اللغة، وتعريفه في اصطلاح الأصوليين، وبيان وجه المناسبة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي، وذلك من خلال ثلاثة مطالب: المطلب الأول: تعريف الاجتهاد لغةً. تكاد تتفق المعاجم اللغوية على أن لفظ"الاجتهاد" مشتقٌ من مادة (جـ هـ د)، وتُطْلَق على: بذل الوسع والطاقة، وبلوغ الغاية في الطلب، وتحمُّل المشقة (¬1). قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79]، أي: طاقتهم (¬2). ويقال: جَهَدَ دابته وأجْهَدها، إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها (¬3). والجهد (بالفتح والضم): الطاقة والوسع، وقيل (بالفتح): المشقة، و (بالضم): الوسع والطاقة (¬4). ¬

(¬1) ينظر: الصحاح (2/ 460 - 461)، معجم مقاييس اللغة (1/ 486 - 487)، لسان العرب (3/ 223 - 225)، تاج العروس (2/ 329 - 330) " مادة: جـ هـ د ". (¬2) ينظر: المفردات في غريب القرآن للأصفهاني (208)، معاني القرآن وإعرابه للزجاج (2/ 284)، "مادة: جـ هـ د". (¬3) ينظر: الصحاح (2/ 460) "مادة: جـ هـ د". (¬4) ينظر: تاج العروس (2/ 329) "مادة: جـ هـ د".

وقيل: الجُهْدُ (بالضم) لغة أهل الحجاز، و (بالفتح) لغة غيرهم (¬1). ومن خلال االنظر في أهم الاستعمالات اللغوية للفظ " الاجتهاد " يمكن تقرير ما يأتي: أولاً: أن لفظ " الاجتهاد " في اللغة يدور على معنى بذل الوسع والطاقة في طلب الأمر، وتحمُّل المشقة من أجل الوصول له. ثانياً: أن لفظ " الاجتهاد " في اللغة لا يُطْلَق إلا على مَنْ بذل الوسْعَ في تحصيل ما فيه كلفةٌ ومشقة، ومن طلب أمراً دون أن يتحمَّل في طلبه مشقةً فإنه لا يكون مجتهِداً فيه. قال الغزالي (¬2): " وهو - أي: الاجتهاد في اللغة -: عبارةٌ عن بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعلٍ من الأفعال، ولا يُسْتَعْمَلُ إلا فيما فيه كلفةٌ وجهد، فيقال: اجتهد في حمل حجر الرَّحا، ولا يقال: اجتهد في حمل خردلة " (¬3). وقال الشوكاني (¬4): " هو في اللغة مأخوذٌ من الجهد وهو المشقة والطاقة، فيختصُّ بما فيه مشقةٌ لِيُخْرِجَ عنه ما لا مشقةَ فيه " (¬5). ثالثاً: أن لفظ " الاجتهاد " كما يُسْتَعْمَلُ لغةً في الأمور الحسيَّة كبذل الوسع في حمل الحجر الثقيل فإنه يُسْتَعْمَلُ - أيضاً- في الأمور المعنوية كبذل الوسع في اجتهاد الرأي، ومنه قول معاذ بن جبلٍ (¬6) رضي الله عنه: " اجتهد رأيي " (¬7). ¬

(¬1) ينظر: المصباح المنير (43) " مادة: جـ هـ د". (¬2) هو: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي الشافعي، الملقب بحجة الإسلام، أصولي فيلسوف، وفقيه متكلم، من أنجب تلاميذ إمام الحرمين الجويني، شهرته في الفقه وأصوله، وفي التصوف والسلوك تغني عن الإطناب، له في الأصول: المستصفى (ط)، والمنخول (ط)، وشفاء الغليل (ط)، وأساس القياس (ط)، وفي الفقه: الوجيز (ط)، والوسيط (ط)، وفي التصوف والسلوك: إحياء علوم الدين (ط)، وغيرها، توفي سنة (505 هـ). ينظر ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (6/ 191)، طبقات الشافعية للإسنوي (2/ 242)، الأعلام للزركلي (2/ 242). (¬3) المستصفى: (4/ 4). (¬4) هو: أبو عبدالله محمد بن علي الشوكاني الخولاني، ثم الصنعاني، ولد بهجرة شوكان باليمن، ونشأ بصنعاء، قرأ على والده وكثيرِ من علماء بلده، عالمٌ محقق، أتقن جملةً من العلوم، من مؤلفاته: فتح القدير (ط) في التفسير، ونيل الأوطار شرح منتقى الأخبار (ط)، وإرشاد الفحول (ط) في أصول الفقه، توفي سنة (1250 هـ). ينظر في ترجمته: البدر الطالع (2/ 214)، الأعلام للزركلي (6/ 298). (¬5) إرشاد الفحول: (2/ 715). (¬6) هو: معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري، صحابيٌّ جليل، شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزواته، من علماء الصحابة المشهورين، ومن أعلمهم بالحلال والحرام، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم معلماً لأهل اليمن، توفي سنة (18 هـ). ينظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (1/ 443)، الإصابة (3/ 426 - 427)، الأعلام للزركلي (7/ 258). (¬7) أخرجه أحمد في " مسنده "، رقم (22357)، وأبو داود في " سننه "، كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء، رقم (3592)، والترمذي في " جامعه "، كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي كيف يقضي برقم (1327)، وصححه: الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (1/ 472)، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم (2/ 894)، وابن القيم في أعلام الموقعين (2/ 354) وهو من الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول.

المطلب الثاني: تعريف الاجتهاد اصطلاحا.

رابعاً: أن لفظ " الاجتهاد " على وزن " افتعال "، وهذه الصيغة تدل على المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قولٍ أو فعلٍ لتحصيل أمرٍ من الأمور. المطلب الثاني: تعريف الاجتهاد اصطلاحاً. تعدَّدت واختلفت تعريفات الأصوليين للاجتهاد، وحاصل ذلك التعدد والاختلاف يرجع - غالباً - إلى اختلافهم في نوع المجتهَد فيه: هل يشمل القطعيات والظينات أو ينحصر في الظينات دون القطعيات؟ فالقائلون بأنه يشمل القطعي والظني عرَّفوا الاجتهاد وقيدوه بما يفيد العلم الذي هو: مُطْلَق الإدراك الشامل للقطع والظن؛ باعتبار أن الأحكام الثابتة بالاجتهاد منها ما هو قطعي، ومنها ما هو ظنِّي. ومن تلك التعريفات: - تعريف الغزالي، وهو: " بَذْلُ المجتهدِ وُسْعَهُ في طلب العلم بأحكام الشرع " (¬1). - وتعريف ابن قدامة (¬2)، وهو: " بذل المجهود في العلم بأحكام الشرع" (¬3). - وتعريف علاء الدين البخاري (¬4) وهو: " بذل المجهود في طلب العلم بأحكام الشرع " (¬5). وقد نصَّ بعض العلماء - من أصحاب هذا الاتجاه - في تعريف " الاجتهاد " على قيد " القطع " و"الظن"، وهو تصريحٌ منهم بدخول الأحكام القطعية والظنية في التعريف. ¬

(¬1) المستصفى: (4/ 4). (¬2) هو: أبو محمد موفق الدين عبدالله بن أحمد بن قدامة الجمَّاعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، كان فقيهاً وَرِعاً زاهداً، من أئمة المذهب الحنبلي في زمانه، من مؤلفاته: المغني (ط)، والكافي (ط)، والعدة (ط) في الفقه، وروضة الناظر (ط) في أصول الفقه، وغيرها، توفي في دمشق سنة (620 هـ). ينظر ترجمته في: ذيل طبقات الحنابلة (2/ 133)، شذرات الذهب (7/ 155)، الأعلام للزركلي (4/ 67). (¬3) روضة الناظر: (3/ 959). (¬4) هو: عبدالعزيز بن أحمد بن محمد، علاء الدين البخاري، فقيهٌ حنفي، أصوليُّ، من مؤلفاته: كشف الأسرار شرح فيه أصول البزدوي (ط)، وغاية التحقيق شرح فيه أصول الأخسيكثي (ط)، توفي سنة (730 هـ). ينظر ترجمته في: الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية (1/ 317)، تاج التراجم في طبقات الحنفية لابن قطلوبغا، (35)، الأعلام للزركلي (4/ 13). (¬5) كشف الأسرار: (4/ 26).

ومن تلك التعريفات: - تعريف الشاطبي (¬1)، وهو: " استفراغ الوسع لتحصيل العلم أو الظنِّ بالحُكْم " (¬2). - وتعريف ابن الهمام الحنفي (¬3)، وهو: " بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حُكْمٍ شرعيٍّ عقلياً كان أو نقلياً قطعياً كان أو ظنياً " (¬4). بينما بعض العلماء أطلق العبارة، ولم ينصّ في تعريف"الاجتهاد "على قيد "القطع" أو "الظن"، وهو إطلاقٌ قد يفيد -ظاهراً- دخول الأحكام القطعية والظنية في التعريف. ومن تلك التعريفات: - تعريف البيضاوي (¬5)، وهو: "استفراغ الجهد في درك الأحكام الشرعية" (¬6). أما القائلون بأن الاجتهاد محلُّه الظينات لا القطعيات، فقد عرَّفوا الاجتهاد وقيَّدوه بما لا يلحق المجتهد فيه لومٌ مع استفراغ الوسع فيه أو بما يفيد الظن؛ وذلك باعتبار أن الأحكام الثابتة بالاجتهاد ظنيةٌ غالباً. ومن تلك التعريفات: - تعريف الرازي (¬7)، وهو: "استفراغ الوسع في النظر فيما لايلحقه فيه لومٌ مع استفراغ الوسع فيه" (¬8). حيث قال -بعد أن ساق التعريف-: "وهذا سبيل مسائل الفروع، ولذلك تُسمَّى هذه المسائل مسائل الاجتهاد، والناظر فيها مجتهداً" (¬9). - وتعريف الآمدي (¬10)، وهو: "استفراغ الوسع في طلب الظنِّ بشيءٍ من الأحكام الشرعيَّة على وجهٍ يُحِسُّ من النفس العجزَ عن المزيد" (¬11). ¬

(¬1) هو: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي، الشاطبي، عالمٌ مجتهدٌ أصولي، من أئمة المالكية في زمانه، من مؤلفاته: الموافقات في أصول الشريعة (ط)، والاعتصام (ط) في ذم البدع، والإفادات والإنشادات (ط)، وغيرها، توفي سنة (790 هـ). ينظر ترجمته في: دُرَّةْ الحِجَال (1/ 182) نيل الابتهاج (1/ 33)، الأعلام للزركلي (1/ 75). (¬2) الموافقات: (5/ 51). (¬3) هو: محمد بن عبدالواحد بن عبدالحميد بن مسعود السيواس ثم الإسكندري، كمال الدين، المعروف بابن الهمام، من فقهاء الحنفية، من مؤلفاته: التحرير في أصول الفقه (ط)، وفتح القدير (ط) في الفقه، وزاد الفقير (ط) في الفقه، توفي سنة (861 هـ). ينظر ترجمته في: الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية (2/ 86)، الفوائد البهية (180)، الأعلام للزركلي (6/ 255). (¬4) التحرير في أصول الفقه مع شرحه التيسير: (4/ 178). (¬5) هو: عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي الشافعي، فقيهٌ أصوليٌّ متكلمٌ مفسِّر، من كبار فقهاء الشافعية، من مؤلفاته: منهاج الوصول (ط) في أصول الفقه، أنوار التنزيل (ط) في التفسير، وغيرهما، توفي سنة (691 هـ). ينظر ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (8/ 157)، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/ 272)، الأعلام للزركلي (4/ 110). (¬6) منهاج الوصول: (247). (¬7) هو: أبو عبدالله محمد بن عمر بن الحق بن الحسين التميمي البكري، فخر الدين الرازي، ويقال له: ابن خطيب الرّي، قرشي النسب، عالمٌ باللغة والفقه والأصول والتفسير، شافعي المذهب، من مؤلفاته: المحصول في الأصول (ط)، والمعالم في الأصول (ط)، ومفاتيح الغيب (ط) في التفسير، وغيرها، توفي بهراة سنة (606 هـ). ينظر ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى (8/ 81)، شذرات الذهب (7/ 40)، الأعلام للزركلي (6/ 313). (¬8) المحصول: (6/ 6). (¬9) المرجع السابق. (¬10) هو: أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التغلبي، سيف الدين، الآمدي، من كبار الأصوليين المتكلمين، كان حنبلياً ثم انتقل إلى مذهب الشافعي، من مؤلفاته: الإحكام في أصول الأحكام (ط)، والمبين في شرح معاني الحكماء والمتكلمين (ط)، توفي بدمشق سنة (631 هـ). ينظر ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (8/ 306)، طبقات الشافعية للإسنوي (1/ 137)، الأعلام للزركلي (4/ 332). (¬11) الإحكام: (4/ 197).

- وتعريف ابن الحاجب (¬1)، وهو: " استفراغُ الفقيه الوسع لتحصيل ظنِّ بحُكْمٍ شرعي" (¬2). - وتعريف تاج الدِّين ابن السبكي (¬3)، وهو: " استفراغُ الفقيه الوُسْعَ لتحصيل ظنٍّ بحُكْمٍ " (¬4). - وتعريف الزركشي (¬5)، وهو: " بَذْلُ الوُسْعِ في نيل حُكْمٍ شرعيٍّ عمليٍّ بطريق الاستنباط " (¬6). التعريف المختار: التعريف الذي أحسبه جامعاً مانعاً - كما سيظهر في شرحه وبيان محترزاته - هو تعريف ابن الحاجب، وهو أن الاجتهاد: " استفراغُ الفقيه الوُسْعَ لتحصيل ظنٍّ بحُكْمٍ شرعي" (¬7)، وفيما يأتي شرحٌ للتعريف، وبيانٌ لأهم محترزاته. شرحُ التعريف وبيانُ محترزاته: قوله: " استفراغ الفقيه الوسع " معناه: بذل تمام الطاقة بحيث يُحِسُّ من نفسه العجزَ عن المزيد عليه (¬8). واحتُرِزَ به عن اجتهاد المُقَصِّر في اجتهاده مع إمكان الزيادة عليه؛ فإنه لا يُعدُّ في اصطلاح الأصوليين اجتهاداً معتبراً (¬9). واستفراغ الفقيه قد يتعلق بالوسع، وقد يتعلق بغير الوسع، فقيد " الوسع" يخرج استفراغ الفقيه غير الوسع (¬10). ¬

(¬1) هو: عثمان بن عمر بن أبي بكر، جمال الدين، أبو عمر الكردي، المالكي، إمامٌ في الأصول والفقه والعربية والقراءات، من مؤلفاته: منتهى الوصول والأمل (ط) في الأصول، ومختصره (ط)، والكافية في النحو (ط)، توفي سنة (646 هـ). ينظر ترجمته في: الديباج المذهب (2/ 86)، غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 508)، الأعلام للزركلي (4/ 211). (¬2) مختصر ابن الحاجب: (2/ 1204). (¬3) هو: عبدالوهاب تاج الدِّين بن تقي الدِّين علي بن عبدالكافي الأنصاري السبكي، الشافعي، الأصولي، الفقيه، أبو نصر، انتهى إليه القضاء بالشام، من مؤلفاته: جمع الجوامع في أصول الفقه (ط) اعتنى بشرحه العلماء، ومنع الموانع (ط) تعليق على جمع الجوامع، وطبقات الشافعية الكبرى (ط)، وغيرها، توفي بدمشق سنة (771 هـ). ينظر ترجمته في: طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (3/ 104)، الدرر الكامنة (2/ 425)، الأعلام للزركلي (4/ 184). (¬4) جمع الجوامع: (118). (¬5) هو: محمد بن بهادر بن عبدالله الزركشي، أبو عبدالله، بدر الدين، فقيهٌ شافعي، عالمٌ بالأصول، تركي الأصل، مصري المولد والوفاة، من مؤلفاته: البحر المحيط (ط) في أصول الفقه، وإعلام الساجد بأحكام المساجد (ط)، والمنثور في القواعد (ط)، توفي سنة (794 هـ). ينظر ترجمته في: الدرر الكامنة (3/ 397)، شذرات الذهب (8/ 572)، الأعلام للزركلي (6/ 60). (¬6) البحر المحيط: (8/ 227). (¬7) مختصر ابن الحاجب: (2/ 1204). (¬8) ينظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 289). (¬9) ينظر: الإحكام للآمدي (4/ 198)، إرشاد الفحول (2/ 715). (¬10) ينظر: بيان المختصر للأصفهاني (3/ 288).

واستفراغ الوسع كالجنس؛ لأنه قد يكون من الفقيه، وقد يكون من غيره، فقيد " الفقيه " يخرج استفراغ غير الفقيه (¬1). و" الفقيه ": احتراز عن المقلِّد؛ فإنه لا يُسَمَّى مجتهداً (¬2). والمراد بـ " الفقيه " هنا: المتهيئ للفقه، الممارِس له، وليس المراد من يحفظ الفروع الفقهية فقط دون القدرة على الاستنباط والاستدلال (¬3). ولم يَقُلْ في التعريف: " استفراغ المجتهد الوسع "؛ لأنه يلزم منه التسلسل، إذ تكون معرفة الاجتهاد متوقفةً على المجتهد، ومعرفة المجتهد متوقفةٌ على الاجتهاد (¬4). وقوله: " لتحصيل ظنٍّ بحُكْمٍ ": قيدٌ مهمٌ في التعريف يحصر محلَّ الاجتهاد في الظنيات دون القطعيات؛ إذ لا اجتهاد فيها؛ لأنها تستند إلى أدلةٍ قطعية الثبوت والدلالة، فلا تحتاج إلى استفراغ الوسع لدركها، كالأحكام المعلومة من الدِّين بالضرورة (¬5). وقوله: " لتحصيل ظنٍّ بحُكْمٍ شرعي ": احترازٌ عن استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظنٍّ بحُكْمٍ عقليٍّ أو حسيٍّ أو لغوي؛ فإنه لا يُسْمَّى مَنْ بَذَلَ وسْعَهُ في تحصيلها " مجتهداً " اصطلاحاً؛ لأن الكلام هنا يقتصر على الاجتهاد في الشرعيات دون غيرها (¬6). ¬

(¬1) ينظر: المرجع السابق (3/ 288). (¬2) ينظر: رفع الحاجب (4/ 529). (¬3) ينظر: حاشية السعد التفتازاني على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 289)، فواتح الرحموت (2/ 404)، حاشية البناني على شرح المحلى لجمع الجوامع (2/ 587). (¬4) ينظر: مسلم الثبوت وشرحه مع المستصفى (2/ 362). (¬5) ينظر: بيان المختصر (3/ 289)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 289). (¬6) ينظر: بيان المختصر (3/ 289)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 290)، البحر المحيط (8/ 227)، إرشاد الفحول (2/ 716).

المطلب الثالث: بيان وجه المناسبة بين التعريف اللغوي والإصطلاحي

المطلب الثالث: بيان وجه المناسبة بين التعريف اللغوي والإصطلاحي: بعد إيراد التعريفين اللغوي والاصطلاحي للاجتهاد نلحظ أن كلاً منهما يشترك في استفراغ الوسع، إلا أن " الاجتهاد " في اللغة يشمل استفراغ الوسع في طلب أي شيءٍ، بينما " الاجتهاد " في اصطلاح الأصوليين يختصُّ باستفراغ الوسع في إدراك الأحكام الشرعيَّة الظنية. وبهذا يتضح أن العلاقة بين التعريفين اللغوي والاصطلاحي علاقة عمومٍ وخصوصٍ مطلق؛ فالتعريف اللغوي يَعُمُّ بذلَ الوسع في تحصيل أي شيءٍ فيه كُلْفةٌ ومشقة، والتعريف الاصطلاحي خاصُّ ببذل الوسع في إدراك الأحكام الشرعيَّة الظنية.

المبحث الثاني تعريف المناط لغةً واصطلاحاً ويشتمل على ثلاثة مطالب: المطلب الأول: تعريف المناط لغةً. المطلب الثاني: تعريف المناط اصطلاحاً. المطلب الثالث: وجه المناسبة بين التعريف اللغوي الاصطلاحي.

المبحث الثاني تعريف المناط لغة واصطلاحا

المبحث الثاني تعريف المناط لغةً واصطلاحاً سأتناول في هذا المبحث تعريف المناط في اللغة، وتعريفه في اصطلاح الأصوليين، وبيان وجه العلاقة بين التعريفين، وذلك من خلال ثلاثة مطالب: المطلب الأول: تعريف المناط لغةً: مادة (النُّون، والواو، والطَّاء) تدلُّ على تعليق شيءٍ بشيء، يقال: نُطُّته به، أي: علَّقته به، والنَّوط: ما يَتَعلَّقُ به، والجمع: أنواط (¬1). وناط الشيء: علَّقه، ونيط عليه الشيء: عُلِّق عليه، ونيط به الشيء: عُلِّق، وكلُّ ما عُلِّق من شيءٍ فهو نوط، والأنواط: المعاليق (¬2). ومنه: (ذات أنواط) اسم شجرةٍ كانت تُعْبَدُ في الجاهلية، وكان المشركون ينوطون بها أسلحتهم (¬3)، أي: يعلِّقونها بها (¬4). ومنه: قول حسان بن ثابت (¬5) رضي الله عنه فيمن هجاه: ¬

(¬1) ينظر: معجم مقاييس اللغة " مادة: ن وط " (5/ 370). (¬2) ينظر: لسان العرب (14/ 384 - 385)، تاج العروس (5/ 235) " مادة: ن وط ". (¬3) كما روى الترمذي عن أبي واقدٍ الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى حُنَيْن مرَّ بشجرةٍ للمشركين يقال لها ذات أنواطٍ يُعلِّقون عليها أسلحتهم، قالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " سبحان الله هذا كما قال قوم موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبنّ سُنَّةَ من كان قبلكم ". أخرجه الترمذي في " جامعه "، كتاب الفتن، باب ما جاء لتركبن سنة من كان قبلكم، رقم (2180)، وقال: حديث حسن صحيح. (¬4) ينظر: لسان العرب (14/ 386)، تاج العروس (5/ 234) " مادة: ن وط ". (¬5) هو: حسان بن ثابت المنذر الخزرجي الأنصاري، صحابيٌّ جليل، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في خلافة معاوية رضي الله عنه، وقيل: إنه عاش عشرين ومائة سنة، توفي سنة (54 هـ). ينظر ترجمته في: الاستيعاب (1/ 335)، الإصابة (1/ 326)، الأعلام للزركلي (2/ 175).

المطلب الثاني: تعريف المناط اصطلاحا.

وأنت دَعىٌّ نِيطَ في آل هاشم ... كما نِيطَ خلف الراكب القَدَحُ الفردُ أي: كما عُلِّق القدح خلف الراكب (¬1). والمناط: مصدرٌ ميميٌّ بمعنى اسم المكان، وهو موضع التعليق، أو مُتَعلَّق الشيء (¬2). وموضع التعليق أو المحَلُّ الذي عُلِّق عليه الشيء كما يكون حسيَّاً فإنه يكون -أيضاً- معنوياً (¬3)، كما نحن بصدد البحث فيه، حيث أطلق الأصوليون (المناط) على مُتَعَلَّق الحُكْم، وهو العِلَّة الجامعة بين الأصل والفرع؛ لأن الحُكْم عُلِّق بالعِلَّة ورُبِطَ بها، فَسُمِّيَتْ (مناطاً) تشبيهاً بالمحسوس الذي تعلَّق بغيره (¬4). المطلب الثاني: تعريف المناط اصطلاحاً. يُطْلَقُ لفظ " المناط " في اصطلاح الأصوليين على: عِلَّة الحُكْم؛ لأنه نِيطَ -أي: عُلِّق- الحُكْم بها. و"المناط" و "العِلَّة": لفظان مترادفان لمدلولٍ واحدٍ في اصطلاح الأصوليين، فإذا أُطْلِقَ لفظ "المناط" فإنه يُرَادُ به "العِلَّة" في باب القياس، وكذا إذا أُطْلِقَ لفظ "العِلَّة" فإنه يُرَادُ به "المناط". قال الحسَنُ العُكْبَري (¬5): "ويُعنى بالعِلَّة: مناط الحُكْم" (¬6). وقال الغزالي: "اعلم أنا نعني بالعِلَّة في الشرعيات: مناط الحُكْم، أي: ما أضافَ الشرعُ الحُكْمَ إليه ونَصَبَهُ علامةً عليه" (¬7). ¬

(¬1) ينظر: لسان العرب " مادة: ن وط " (14/ 385). (¬2) ينظر: القاموس المحيط (3/ 404)، الكليات للكفوي (4/ 305) " مادة: ن وط ". (¬3) ينظر: حاشية العطار على شرح جمع الجوامع (2/ 337). (¬4) ينظر: المستصفى (3/ 485)، شرح تنقيح الفصول للقرافي (388)، البحر المحيط للزركشي (7/ 146). (¬5) هو: أبو علي الحسن بن شهاب بن الحسن العُكْبَري، فقيهٌ حنبلي، كان شديداً في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم، برع في الفقه والأصول والعربية، من مؤلفاته: المبسوط في أصول الفقه، ورسالة في أصول الفقه (ط) وغيرهما، توفي في عُكْبَرا بالعراق سنة (428 هـ). ينظر ترجمته في: طبقات الحنابلة (2/ 186)، سير أعلام النبلاء (17/ 542)، الأعلام للزركلي (2/ 193). (¬6) رسالة في أصول الفقه: (79). (¬7) المستصفى: (3/ 485).

وقال ابن قدامة: " ونعني بالعِلَّة: مناط الحُكْم " (¬1). ولما فرغ الآمدي في الباب الثاني من بحث مسائل العِلَّة ذيَّل الباب بخاتمةٍ عَنْوَنَ لها بقوله: " خاتمةٌ في أنواع النظر والاجتهاد في مناط الحُكْم، وهو: العِلَّة" (¬2). وقال القرافي (¬3): " والعِلَّةُ رُبِطَ بها الحُكْم وعُلِّق عليها فسُمِّيَتْ مناطاً على وجه التشبيه والاستعارة " (¬4). وقال ابن دقيق العيد (¬5): " وتعبيرهم عن العِلَّة بالمناط من باب المجاز اللغوي؛ لأن الحُكْم لما عُلِّق بها كان كالشيء المحسوس الذي تعلَّق بغيره، فهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، وصار ذلك في اصطلاح الفقهاء بحيث لا يُفْهَمُ عند الإطلاق غيره " (¬6). وقال الطُّوفي (¬7): " والمناط: ما نيط به الحُكْم، أي: عُلِّق به، وهو: العِلَّة التي رُتِّبَ عليها الحُكْم في الأصل " (¬8). وقال الزركشي: " والمناط هو: العِلَّة " (¬9). وقال ابن النجَّار الفتوحي (¬10): " وهو - أي: المناط -: العِلَّة التي رُتِّبَ عليها الحُكْم في الأصل " (¬11). وقال الشوكاني: " والمناط هو: العِلَّة " (¬12). فهذه النصوص وغيرها تُقَرِّرُ أن عامة الأصوليين لا يُفَرِّقون في اصطلاحهم بين لفظ " المناط" ولفظ " العِلَّة "، ويعتبرونهما لفظين مترادفين في الاصطلاح كلاً منهما يُطْلَق إزاء الآخر، وقد غلب في استعمالهم إضافة لفظ ¬

(¬1) روضة الناظر: (3/ 800). (¬2) الإحكام: (3/ 379). (¬3) هو: أبو العباس أحمد بن إدريس بن عبدالرحمن شهاب الدين الصنهاجي القرافي المالكي، ولد في مصر ونشأ بها، من العلماء المحققين في الفقه وأصوله، وكان متبحراً في عدة علوم، من مؤلفاته: أنوار البروق في أنواء الفروق (ط)، تنقيح الفصول (ط) في الأصول، وشرحه (ط)، ونفائس الأصول في شرح المحصول (ط)، والذخيرة (ط) في الفقه، وغيرها، توفي بالقاهرة سنة (684 هـ). ينظر ترجمته في: الديباج المذهب (1/ 205)، شجرة النور الزكية (118)، الأعلام للزركلي (1/ 95). (¬4) شرح تنقيح الفصول: (388). (¬5) هو: أبو الفتح تقي الدين محمد بن علي بن وهب القشيري المالكي المعروف كأبيه وجده بابن دقيق العيد، كان بارعاً في الفقه والأصول والحديث واللغة مع ذكاءٍ وسعة علمٍ وورعٍ جمّ، وكان من العلماء المحققين، من مؤلفاته: الاقتراح في علوم الحديث، والإلمام في أحاديث الأحكام، وإحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (ط)، توفي بالقاهرة سنة (702 هـ). ينظر ترجمته في: الدرر الكامنة (4/ 91)، طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (6/ 2)، الأعلام للزركلي (6/ 273). (¬6) البحر المحيط: (7/ 146). (¬7) هو: سليمان بن عبدالقوي بن سعيد نجم الدين الطُّوفي البغدادي الحنبلي، نشأ وتعلم في طوفا بالعراق، ثم انتقل إلى بغداد ودمشق، وزار مصر، وجاور بالحرمين، من مؤلفاته: شرح مختصر الروضة (ط) في أصول الفقه، والإكسير في قواعد التفسير (ط)، والإشارات الإلهية في المباحث الأصولية (ط)، وغيرها، توفي بالخليل في فلسطين سنة (716 هـ). ينظر ترجمته في: الدرر الكامنة (2/ 295)، شذرات الذهب (3/ 39)، الأعلام للزركلي (3/ 127). (¬8) شرح مختصر الروضة: (2/ 233). (¬9) البحر المحيط: (7/ 322). (¬10) هو: محمد بن أحمد بن عبدالعزيز الفتوحي، تقي الدين أبو البقاء، الشهير بابن النجار، فقيهٌ حنبليُّ مصري، كان جميل المنطق، كثير الأدب، من مؤلفاته: شرح الكوكب المنير (ط) في أصول الفقه، ومنتهى الإرادات (ط) في الفقه، وغيرهما، توفي سنة (972 هـ). ينظر ترجمته في: مختصر طبقات الحنابلة (87)، النعت الأكمل لأصحاب الإمام أحمد (141). (¬11) شرح الكوكب المنير: (4/ 200). (¬12) إرشاد الفحول: (2/ 640 - 641).

" المناط " إلى أنواع الاجتهاد في العِلَّة، وهي: تنقيح المناط، وتخريج المناط، وتحقيق المناط. فإذا أضيف لفظ " المناط " إلى أحد هذه الاصطلاحات الثلاثة فإنه يراد به - غالباً - العِلَّة. إلا أنه في " تخريج المناط " يراد به: العِلَّة المُسْتَنْبطة (¬1)، وفي " تنقيح المناط " يراد به: العِلَّة المنصوصة التي اقترن بها أوصافٌ لا تصلح للعِلِّية (¬2)، أما في" تحقيق المناط " فإنه يراد به: متعلَّق الحكم الشرعي مطلقاً، أي: سواءٌ كان عِلَّةً أو قاعدةً شرعيةً أو معنى لفظٍ عامٍّ أو مطلقٍ تعلَّق به حكمٌ شرعي (¬3). وإذا تقرر أن المراد بـ " المناط " في الاصطلاح - أصالةً - العِلَّة فإن ذلك يقتضي أن أُعَرِّج على تعريف " العِلَّة " لغةً واصطلاحاً، مقتصراً في ذلك على أهمِّ التعريفات، مع شرحها، وإيضاح مُحترَزاتِها، وبيان التعريف المُختار منها، كلُّ ذلك على سبيل الإيجاز والاختصار الملائِم لمقام التمهيد، فأقول وبالله التوفيق: العِلَّة في اللغة: ذكر أهل اللغة للعِلَّة معاني كثيرةً من أهمها (¬4): - المرض، يقال: اعتلَّ فلانٌ: إذا مَرِضَ. - والسبب، يقال: هذا عِلَّة لهذا، أي: سببٌ له. - والدوام والتكرار، يقال: عَلَلٌ بعد نهَل: للشرب بعد الشرب تباعاً، و (علَّ) (يَعُلُّ) أي: كرَّرَ وتكرَّرَ. ¬

(¬1) ينظر: (128). (¬2) ينظر: (71). (¬3) ينظر: (194). (¬4) ينظر: معجم مقاييس اللغة (4/ 12 - 14)، لسان العرب (10 - 259 - 262)، تاج العروس (8/ 32 - 33) " مادة: ع ل ل ".

العلة في الاصطلاح

العِلَّة في الاصطلاح: اختلف الأصوليون في تعريف العِلَّة اصطلاحاً على مذاهب عدَّة، سأكتفي بذكر أشهرها، مع بيان التعريف المُختار منها، وهي على النحو الآتي: التعريف الأول: العِلَّة هي: الوصف المؤثِّر في الحُكْم بِجَعْلِ الشارع لا لذاته. وقد ذهب إلى هذا التعريف: الغزالي (¬1). قوله: (الوصف) جنسٌ في التعريف يشمل كلَّ وصف، سواءً كان مؤثِّراً أو مُعرِّفاً. قوله: (المؤثِّر): قيدٌ يُخْرِجُ العلامة؛ لأنه لا تأثير لها في الحكم، فلا تُسَمَّى عِلَّةً. ومعنى التأثير: أن الله أجرى عادته بأنه كلما وُجِدَ الوصف وُجِدَ معه الحُكْم، كما رُبِطَ بين الرقبة وإزهاق الروح، والنارِ والإحراق (¬2). وقد يُعبَّرُ عنه تارةً بالمؤثِّر، وتارةً بالموجِب (¬3). قوله: (بِجَعْلِ الشارع): أي أن الشارع هو الذي جعل الوصف مؤثِّراً في الأحكام، وليس الوصف ذاته موجِباً لها؛ لأن الأوصاف لا توجِب الأحكام لذواتها، بل لأن الشرع جعلها موجِبَةً لهذا الأحكام (¬4). التعريف الثاني: العِلَّة هي: الوصف الباعث على شَرْع الحُكْم. وقد ذهب إلى هذا التعريف: الآمدي (¬5)، وابن الحاجب (¬6)، ¬

(¬1) ينظر: شفاء الغليل (20 وما بعدها)، نهاية السول (3/ 54)، البحر المحيط (7/ 144). (¬2) ينظر: التوضيح شرح التنقيح (2/ 143 - 144)، حاشية العطار على شرح جمع الجوامع (2/ 173). (¬3) ينظر: البحر المحيط للزركشي (7/ 144)، نبراس العقول (217). (¬4) ينظر: شفاء الغليل (21). (¬5) ينظر: الإحكام (2/ 254)، البحر المحيط للزركشي (7/ 144). (¬6) ينظر: مختصر ابن الحاجب (2/ 1039 - 1040)، البحر المحيط للزركشي (7/ 144).

التعريف الثالث: العلة هي: الوصف المعرف للحكم بوضع الشارع.

وجمهور الحنفية (¬1). ويقصدون بالباعث: كون الوصف مشتملاً على حكمةٍ صالحةٍ لِأَنْ تكون مقصودةً للشارع من شَرْع الحُكْم به، من تحصيل مصلحةٍ أو تكميلها، أو دفع مفسدةٍ أو تقليلها (¬2). التعريف الثالث: العِلَّة هي: الوصف المعرِّف للحُكْم بوضع الشارع. وقد ذهب إلى هذا التعريف: الفخر الرازي (¬3)، وابن قدامة (¬4)، والبيضاوي (¬5)، وتاج الدين ابن السبكي (¬6). قولهم: (المعرِّف للحُكْم) أي: جُعِل علامةً وأمارةً على الحُكْم، إن وُجِد المعنى وُجِد الحُكْم (¬7). وهو قيدٌ يُخرِج: المؤثِّر في الحُكْم؛ فالعِلَّة أمارةٌ على الحكم، وليست موجِبَةً له. كما أن هذا القيد يُخرِج: الباعث على الحُكْم؛ فالعِلَّة ليست هي الباعث على الحُكْم، وإنما هي علامةٌ على وجود الحُكْم. قولهم: (بوضع الشارع) أي: أن الشرع هو الذي جعل الوصف علامةً على الحُكْم، كالإسكار، فإنه كان موجوداً في الخمر، ولم يدل وجوده على تحريمه حتى جعله الشارع عِلَّةً في تحريمه، فالإسكار وصفٌ معرِّفٌ للحُكْم بوضع الشارع (¬8). ¬

(¬1) ينظر: التوضيح شرح التنقيح (2/ 144)، تيسير التحرير (3/ 303)، فواتح الرحموت (2/ 310). (¬2) ينظر: الإحكام للآمدي (4/ 254)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 213)، البحر المحيط للزركشي (5/ 113)، التوضيح شرح التنقيح (2/ 144). (¬3) ينظر: المحصول (5/ 134 - 135). (¬4) ينظر: روضة الناظر (3/ 886). (¬5) ينظر: منهاج الوصول (199). (¬6) ينظر: جمع الجوامع (84). (¬7) ينظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 315)، البحر المحيط للزركشي (7/ 143)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 231)، شرح الكوكب المنير (4/ 39)، نشر البنود (2/ 123). (¬8) ينظر: المراجع السابقة.

التعريف المختار

التعريف المختار: التعريف الذي سأعتمده في بحثي عند إطلاق العِلَّة هو التعريف الثالث الذي يَعْتَبِر "العِلَّة": الوصف الظاهر المنضبط المعرِّف للحُكْم بوضع الشارع. وذلك لأن الشارع نَصَبَ الأوصاف الظاهرةَ علامةً على الأحكام؛ تيسيراً على العباد في ربط الأحكام بأوصافها الظاهرة، وإن كانت تلك الأوصاف ليست عِلَلاً حقيقية؛ لأن العِلَّة الحقيقية هي الحكمة المقصودة من شَرْع الحُكْم، فالسرقة وصفٌ ظاهرٌ لوجوب القطع، أما العِلَّة الحقيقية لوجوب القطع فهي صيانة الأموال، ولكن لما كانت العِلَّة الحقيقية - وهي الحكمة - قد تخفى ولا تنضبط، ويتعذَّر الوقوف على حقائق مقاديرها؛ لاختلاف مراتبها التي لا نهاية لها بحسب الأشخاص والأزمان والأحوال، وليس كلُّ قَدْرٍ منها صالحاً لإناطة الحُكْم به، لذا فإن الشارع ناط الأحكام بالأوصاف الظاهرة المنضبطة كالسفر مثلاً، فإنه نِيْطَ به حُكْم قصر الصلاة والإفطار في رمضان، ولم يُنَطْ بالمشقة التي هي العِلَّة الحقيقية؛ لِما ذُكِرَ من اختلاف مراتبها، وعدم انضباطها (¬1). المطلب الثالث: وجه المناسبة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي. تقدَّم أن المناط في اللغة يعني: مُتَعَلَّق الشيء، أو موضع التعليق (¬2). كما تقدَّم أن المناط اصطلاحاً يعني: العِلَّة، وهي: ما أناطَ الشارعُ الحُكْم به وأضافه إليه، وقد يراد به متعلَّق الحكم الشرعي مطلقاً، فيكون أعمَّ من العِلَّة القياسية (¬3). ووجه المناسبة بين المعنيين ظاهر؛ إذ لما عَلَّقَ الشارع الحُكْمَ بالعِلَّة، ¬

(¬1) ينظر: المحصول (5/ 288)، الإحكام للآمدي (3/ 255)، نهاية السول (4/ 262)، البحر المحيط للزركشي (7/ 168)، تيسير التحرير (4/ 2) شرح الكوكب المنير (4/ 48)، إرشاد الفحول (2/ 607). (¬2) ينظر: (30). (¬3) ينظر: (33).

وأضاف الحُكْم إليها، ونصبها علامةً عليه وجوداً وعدماً، ناسب تسميتها بـ"المناط". قال الطُّوفي: " ومعنى كونها مناطاً كما سبق بيانه، وهو أن الحُكْم يُناط بها، أي: يُعلَّق " (¬1). وقال ابن دقيق العيد: " وتعبيرهم عن العِلَّة بالمناط من باب المجاز اللغوي؛ لأن الحُكْم لما عُلِّق بها كان كالشيء المحسوس الذي تعلَّق بغيره، فهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، وصار ذلك في اصطلاح الفقهاء بحيث لا يُفْهَمُ عند الإطلاق غيره " (¬2). وقال القرافي: " والعِلَّة رُبِطَ بها الحُكْم وعُلِّق عليها، فسُمِّيَت مناطاً على وجه التشبيه والاستعارة " (¬3). ¬

(¬1) شرح مختصر الروضة: (3/ 316). (¬2) البحر المحيط: (7/ 322). (¬3) شرح تنقيح الفصول: (388).

المبحث الثالث تعريف الاجتهاد في المناط، وبيان أنواعه ويشتمل على مطلبين مطالب: المطلب الأول: تعريف الاجتهاد في المناط. المطلب الثاني: أنواع الاجتهاد في المناط.

المبحث الثالث تعريف الاجتهاد في المناط وبيان أنواعه

المبحث الثالث تعريف الاجتهاد في المناط وبيان أنواعه سأتناول في هذا المبحث تعريف الاجتهاد في المناط، وبيان أنواعه، وذلك من خلال مطلبين: المطلب الأول: تعريف الاجتهاد في المناط. " الاجتهاد في المناط " مصطلحٌ يُمْكِن أن يُعرَّف باعتبارين: الأول: باعتباره مُركَّباً إضافياً يتكوَّن من كلمتين: " الاجتهاد " و " المناط"، وتعريفه بهذا الاعتبار يستلزم تعريف جزئيه، فيُعرَّف كلُّ لفظٍ - على حِدَة - لغةً واصطلاحاً، ثم يُبيّن وجه العلاقة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي في كلٍّ منهما، وقد تقدَّم ذلك في المبحثين الأول (¬1) والثاني (¬2). الثاني: باعتباره مُركَّباً وصفياً أو لقباً يُطلق على معنىً بخصوصه في علم أصول الفقه لا يُفْهَمُ عند الإطلاق غيره. ومن خلال استقرائي لما كتبه الأصوليون بشأن "الاجتهاد في المناط" لم أجد - حسب اطلاعي - لأحدٍ من العلماء الأقدمين أو الباحثين المعاصرين تعريفاً لمصطلح " الاجتهاد في المناط " بهذا الاعتبار، وقد اقتصرت جهودهم على بيان أنواعه، وتعريفها، وضرب الأمثلة عليها، دون وضعٍ حدٍّ أو رسمٍ ¬

(¬1) ينظر: (21 وما بعدها). (¬2) ينظر: (30 وما بعدها).

لمصطلح "الاجتهاد في المناط" كما هو شأنهم مع باقي الاصطلاحات الدائرة في هذا العلم. وقد اسْتُعمِل هذا المصطلح في مؤلفات أصول الفقه منذ زمنٍ مُبَكِّر، وحسب استقرائي تبين لي أن أقدم كتابٍ مطبوعٍ في أصول الفقه وَرَدَ فيه ذكر أنواع الاجتهاد في المناط هو كتاب: "رسالة في أصول الفقه" لأبي علي الحسن بن شهاب العُكْبَري الحنبلي المتوفَّى سنة (428 هـ) أي في القرن الخامس الهجري، حيث عرَّف "الاجتهاد"، ثم ذكر أنه على ثلاثة أضرب: تحقيق المناط، وتنقيح المناط، وتخريج المناط، ثم عرَّف كلَّ نوع، وساق مثالاً عليه يوضح المقصود منه (¬1). ثم جاء من بعده أبو حامد الغزالي المتوفَّى سنة (505 هـ) فوضع مقدمتين على كتاب القياس في "المستصفى"، عَنْوَنَ للمقدمة الثانية بقوله: " مقدمةٌ في حصر مجاري الاجتهاد في العِلَل " (¬2)، وذكر أن المقصود بالعِلَّة في الشرعيات: مناط الحُكْم. ثم أوضح أنواع الاجتهاد في العِلَّة فقال " والاجتهاد في العِلَّة: إما أن يكون في تحقيق مناط الحكم، أو في تنقيح مناط الحُكْم، أو في تخريج مناط الحُكْم " (¬3)، ثم عرَّف الأنواع الثلاثة، وذكر أمثلةً عليها (¬4). وبهذا يكون الغزالي حصر الأنواع الثلاثة تحت مُسمَّى" الاجتهاد في العِلَّة "، وليس كما صنع أبوعلي العُكْبَري حيث أطلق لفظ " الاجتهاد " ولم يقيده بالعِلَل، ثم ذكر تحته أنواع الاجتهاد في العِلَّة الشرعيَّة المتعلِّقة بالأقيسة، وربما أن العُكْبَري قد تسامح في إطلاق لفظ " الاجتهاد " على القياس كما يصنع بعض الفقهاء (¬5). ¬

(¬1) ينظر: رسالة في أصول الفقه للعُكْبَري (79 - 87). (¬2) المستصفى: (1/ 485). (¬3) المرجع السابق: (1/ 485). (¬4) ينظر: المستصفى (1/ 485 - 492). (¬5) والأرجح أن الاجتهاد أعمُّ من القياس؛ لأنه كما يكون بالقياس قد يكون بالنظر في العمومات، ودقائق الألفاظ، والاستحسان، والاستصلاح، وسائر طرق الأدلة الشرعية المعتبرة. ينظر: المستصفى (3/ 483 - 484)، روضة الناظر (3/ 798)، الإحكام للآمدي (4/ 36)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 224)، البحر المحيط للزركشي (7/ 14).

ثم جاء ابن قدامة المقدسي المتوفى سنة (620 هـ) وعقد فصلاً في أول باب القياس من كتابه "روضة الناظر" استفتحه بقوله: " ونعني بالعِلَّة: مناط الحُكْم" (¬1)، ثم قال: "والاجتهاد في العِلَّة على ثلاثة أضرب: تحقيق المناط للحُكْم، وتنقيحه، وتخريجه" (¬2)، وقد سلك بهذا مسلك الغزالي في حصر الأنواع الثلاثة تحت مُسمَّى "الاجتهاد في العِلَّة". ثم أعقبه أبو الحسن الآمدي المتوفى سنة (631 هـ) وذيَّل الباب الثاني في مسالك العِلَّة من كتابه "الإحكام" بخاتمةٍ عَنْوَنَ لها بقوله: "خاتمةٌ في أنواع النظر والاجتهاد في مناط الحُكْم، وهو العِلَّة" (¬3). كما أوضح أنواع الاجتهاد في المناط فقال: "ولما كانت العِلَّة مُتَعَلَّقُ الحُكْم ومناطه فالنظر والاجتهاد فيه: إما في تحقيق المناط، أو تنقيحه، أو تخريجه" (¬4)، ثم عرَّف كلَّ نوعٍ، وضرب عليه من الأمثلة ما يوضِّح المراد منه (¬5). وبهذا يتبيَّن أن الآمدي استعمل مصطلح "الاجتهاد في مناط الحُكْم " بدلاً عن مصطلح "الاجتهاد في العِلَّة" الذي استعمله الغزالي وابن قدامة، وذلك باعتبار أن "العِلَّة" و "المناط" لفظان مترادفان كلٌّ منهما يُطْلَقُ إزاء الآخر. ثم جاء الطُّوفي المتوفَّى سنة (716 هـ) وعدَّد أنواع الاجتهاد في العِلَّة عند ذكرها ضمن أركان القياس في كتابه "شرح مختصر الروضة"، وعرَّف كلَّ نوعٍ، وضرب عليه أمثلةً توضِّح المراد منه (¬6)، ثم قال: "هذا إشارةٌ إلى أنواع ¬

(¬1) روضة الناظر: (3/ 800). (¬2) المرجع السابق: (3/ 801). (¬3) الإحكام: (3/ 379). (¬4) المرجع السابق: (3/ 379). (¬5) ينظر: المرجع السابق (3/ 379 - 381). (¬6) ينظر: شرح مختصر الروضة (3/ 232 - 241).

الاجتهاد في العِلَّة الشرعيَّة المتعلَّقة بالأقيسة، وهو إما بتحقيق المناط، أو تنقيحه، أو تخريجه، والمناط: ما نيط به الحُكْم، أي: عُلِّق به، وهو: العِلَّة التي رُتِّبَ عليها الحُكْم في الأصل " (¬1)، وقد سلك بهذا مسلك الغزالي وابن قدامة في حصر الأنواع الثلاثة تحت مُسمَّى " الاجتهاد في العِلَّة ". ثم جاء من بعد الطوفي أبو إسحاق الشاطبي المتوفَّى سنة (790 هـ) وذكر في المسألة الأولى من كتاب الاجتهاد في كتابه " الموافقات " أن الاجتهاد على ضربين (¬2): أحدهما: اجتهادٌ لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف وذلك عند قيام الساعة، وهو الاجتهاد المتعلِّق بتحقيق المناط العام. والثاني: اجتهادٌ يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا، وهو ثلاثة أنواع: تنقيح المناط، وتخريج المناط، وتحقيق المناط الخاص. وبهذا يتضح أن الشاطبي أدخل الأنواع الثلاثة تحت مُسمَّى " الاجتهاد "، ولكن باعتبار انقطاعه وعدمه. ثم تلا الشاطبي أبو الحسن المرداوي الحنبلي المتوفَّى سنة (885 هـ) (¬3) وذيَّل مسالك العِلَّة بفوائد، ذكر منها أنواع الاجتهاد في العِلَّة الشرعيَّة المتعلِّقة بالأقيسة، وهي: تحقيق المناط، وتنقيحه، وتخريجه (¬4)، وسلك في ذلك مسلك الغزالي وابن قدامة والطُّوفي في حصر الأنواع الثلاثة تحت مُسمَّى" الاجتهاد في العِلَّة ". ثم جاء ابن بدران الدمشقي (¬5) المتوفَّى سنة (1346 هـ) وذكر أركان القياس في كتابه "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد"، وبعد أن ذكر العِلَّة عَدَّدَ أنواع الاجتهاد فيها، وهي: تحقيق المناط، وتنقيحه، وتخريجه (¬6)، وسلك في ذلك مسلك الغزالي وابن قدامة والطُّوفي والمرداوي في حصر الأنواع الثلاثة تحت مُسمَّى" الاجتهاد في العِلَّة". ¬

(¬1) المرجع السابق: (3/ 332). (¬2) ينظر: الموافقات (5/ 11/23). (¬3) هو: علي بن سليمان بن أحمد المرداوي الدمشقي، من كبار فقهاء الحنابلة، ومحققي المذهب، من مؤلفاته: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (ط)، وتحرير المنقول (ط) مع شرحه التحبير في أصول الفقه، والتنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع (ط) في الفقه، انتقل إلى دمشق وتوفي بها سنة (885 هـ) ينظر ترجمته في: الضوء اللامع (5/ 225)، البدر الطالع (1/ 446)، الأعلام للزركلي (4/ 292). (¬4) ينظر: التحبير شرح التحرير (7/ 3451). (¬5) هو: عبدالقادر بن أحمد بن مصطفى بن محمد بدران، فقيهٌ أصولي، حنبلي، كان سلفي العقيدة، حسن المحاضرة، ولي إفتاء الحنابلة في الشام، من مؤلفاته: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد (ط)، ونزهة الخاطر العاطر وشرح روضة الناظر لابن قدامة (ط)، توفي بدمشق سنة (1346 هـ) ينظر ترجمته في: أعيان دمشق لمحمد جميل الشطي (345)، الأعلام للزركلي (4/ 37 - 38). (¬6) ينظر: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد (306 - 310).

هذا ما وقفت عليه من المصنفات الأصولية التي اكتفى أصحابها بذكر الأنواع الثلاثة للاجتهاد في المناط، ولم يَعْمِدْ أحدٌ منهم إلى وضع حدٍّ أو رسمٍ لمصطلح " الاجتهاد في المناط ". أما سائر المصنفات الأصولية فقد تداولت المصطلحات الثلاثة: تحقيق المناط، وتنقيح المناط، وتخريج المناط، ولكن دون أن تقرن بينها تحت مُسَمَّى "الاجتهاد في المناط" أو "الاجتهاد في مناط الحُكْم" أو "الاجتهاد في العِلَّة"، وإنما ذُكِرَتْ تلك المصطلحات في مواضِعَ متفرِّقةٍ من كتاب القياس عند البحث في مسالك العِلَّة. وهذه المواضِع على النحو الآتي: الموضع الأول: في مسلك الإيماء والتنبيه، وذلك عند الكلام عن أنواعه، وأن من أنواعه ما يُسَمَّى عند بعضهم بـ "تنقيح المناط" (¬1). الموضع الثاني: في مسلك المناسبة والإخالة، وذلك عند الإشارة إلى تسمية بعض العلماء هذا المسلك بـ"تخريج المناط" (¬2). الموضع الثالث: في مسلك تنقيح المناط، وهل يُعْتَبر دليلاً تثبت به العِلَّة؟ (¬3). الموضع الرابع: في مسلك تنقيح المناط، وذلك عند بيان الفرق بينه وبين تحقيق المناط وتخريجه، إذ يُعْتَبر ذكر مصطلح "تنقيح المناط" في هذا الموضع مناسباً لذكر المصطلحين الآخرين "تحقيق المناط" و "تخريجه"، وتعريفها، وضرب الأمثلة التي توضح المراد منهما، ليبيِّن الفرق بين ¬

(¬1) ينظر: البحر المحيط للزركشي (7/ 253)، شرح الكوكب المنير (4/ 131)، مسلم الثبوت مع فواتح الرحموت (2/ 360). (¬2) ينظر: بيان المختصر للأصفهاني (3/ 111)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239)، البحر المحيط للزركشي (7/ 262)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 273)، شرح الكوكب المنير (4/ 152)، إرشاد الفحول (2/ 625). (¬3) ينظر: المحصول (5/ 229)، شرح تنقيح الفصول (398)، نهاية السول (4/ 141)، البحر المحيط للزركشي (7/ 322) شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 292)، إرشاد الفحول (2/ 640).

المصطلحات الثلاثة وتتمايز عن بعضها (¬1). الموضع الخامس: في مسلك تحقيق المناط، ولم أجد - حسب اطلاعي- أحداً من الأصوليين ذكر " تحقيق المناط " باعتباره مسلكاً من مسالك العِلَّة سوى الشوكاني في " إرشاد الفحول "، حيث ذكره في المسلك الحادي عشر (¬2). الموضع السادس: عقب الفراغ من بحث مسالك العِلَّة، وذلك أثناء الإشارة إلى بعض الألفاظ التي اصطلح عليها أهل الأصول والجدل ومنها: تنقيح المناط، وتخريج المناط، وتحقيق المناط (¬3). ومن خلا ل ما تقدَّم ذكره يتضح لي أن الأصوليين لم يُعْنَوا بتعريف مصطلح " الاجتهاد في المناط " كما عُنُوا بذكر أنواعه، وتعريفها، وضرب الأمثلة عليها، لتوضيح المراد منها، ولا ريب أن المقصود إذا حصل بأيسر عبارةٍ فهو المُبتغَى، ولكن جرت العادة في صناعة البحوث العلمية على تحديد مدلولات عنوان البحث تحديداً دقيقاً، ومن أنفع الطرق الموصلة إلى ذلك الاعتناء بتعريف المصطلحات المستعمَلة في هذا البحث. لذا فقد أرتأيت أن أضع حدَّاً لمصطلح "الاجتهاد في المناط" يُقَرُّبُ المراد به، ويُدْخِلُ تحته ما هو منه، ويُخْرِجُ ما ليس منه، فأقول وبالله التوفيق: إذا تقرر ما سبق فيمكن تعريف " الاجتهاد في المناط " باعتباره لقباً يُطْلَق على معنىً بخصوصه في علم أصول الفقه كما يأتي: " الاجتهاد في المناط هو: استفراغ الوُسْعَ في تنقيح عِلَّةٍ منصوصة، أو استخراجِ عِلَّةٍ غيرِ منصوصة، أو إثباتِ متعلَّق حُكْمٍ شرعيٌّ في بعض أفراده ". وهذا التعريف -كما هو ظاهرٌ- يشمل الأنواع الثلاثة للاجتهاد في ¬

(¬1) ينظر: الكاشف عن المحصول للأصفهاني (6/ 435)، تقريب الوصول لابن جزي (370)، نهاية السول (4/ 142)، البحر المحيط للزركشي (7/ 322)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 293)، نشر البنود (2/ 202). (¬2) ينظر: إرشاد الفحول (2/ 641 - 642). (¬3) ينظر: شرح الكوكب المنير (4/ 199).

العِلَّة، وهي: تنقيح المناط، وتخريجه، وتحقيقه، كما يشمل - أيضاً - المعنى الأعمّ لـ "تحقيق المناط" الذي يدخل تحته ثلاث صور (¬1): الأولى: إثبات عِلَّة حكم الأصل في الفرع. والثانية: إثبات مقتضى قاعدةٍ كليةٍ تعلَّق بها حكمٌ شرعيُّ في بعض جزئياتها. والثالثة: إثبات معنى لفظ عامٍّ أو مطلَّقٍ تعلق به حكمٌ شرعيٍّ في بعض أفراده. وعند المقارنة بين مُسَمَّى "الاجتهاد في المناط" حسب إطلاق الآمدي، ومُسَمَّى "الاجتهاد في العِلَّة" حسب إطلاق الغزالي ومن تبعه، فإني أجد مُسَمَّى "الاجتهاد في المناط" أكثر دِقَّةً وشمولاً للتعبير عن جميع الأفراد الداخلة تحته، ويرجع ذلك إلى أمرين: أولهما: أن عادة الأصوليين جرت على إضافة الأنواع الثلاثة إلى أحد ألقاب العِلَّة وهو (المناط)، فاشتمال المُسَمَّى على نفس اللفظ وهو "المناط" أولى من اشتماله على لفظ " العِلَّة ". ثانيهما: أن مُسمَّى "الاجتهاد في المناط" يصلح لِأَنْ يشمل "تحقيق المناط" بمعناه الأعمّ الذي هو إثبات معنىً تعلَّق به حُكْم شرعيٌّ في بعض أفراده، وبمعناه الأخصّ الذي هو إثبات عِلَّةِ حكم الأصل في الفرع. أما مُسَمَّى "الاجتهاد في العِلَّة" فهو يُشْعِرُ بحصر النظر في العِلَّة فلا يدخل فيه "تحقيق المناط" بمعناه الأعمَّ إلا تَجَوُّزَاً. ولهذا فقد اخترت مُسَمَّى "الاجتهاد في المناط" ليكون عنواناً لبحثي يعبِّر عن مضمونه كما يتداوله أهل هذا الشأن، وإذا ضُبِطَتْ المدلولات وتحرَّرَت المعاني فلا مُشَاحةَ في الاصطلاح. ¬

(¬1) ينظر: (194).

المطلب الثاني: أنواع الاجتهاد في المناط.

المطلب الثاني: أنواع الاجتهاد في المناط. يُقَسِّمُ الأصوليون الاجتهاد بالنظر إلى مناط الحُكْم إلى ثلاثة أنواع: الأول: تحقيق المناط. والثاني: تنقيح المناط. والثالث: تخريج المناط. وقد ذكر هذا التقسيم ثلةٌ من الأصوليين منهم: الحسَن العْكْبَري (¬1)، والغزالي (¬2)، وابن قدامة (¬3)، والآمدي (¬4)، والطُّوفي (¬5)، والمرداوي (¬6)، وابن بدران الدمشقي (¬7)، ومحمد الأمين الشنقيطي (¬8). وبيان هذه الأنواع الثلاثة - إجمالاً - على النحو الآتي: النوع الأول: تحقيق المناط. ويطلق على ثلاثة معاني: المعنى الأول: إثبات علة حكم الأصل في الفرع بعد معرفتها بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط (¬9). ومثاله: أن يُجعل (الطواف) عِلَّةً لطهارة الهرّ في قوله صلى الله عليه وسلم: " إنها ليست ¬

(¬1) ينظر: رسالة في أصول الفقه (80). (¬2) ينظر: المستصفى (3/ 485). (¬3) ينظر: روضة الناظر (3/ 803). (¬4) ينظر: الإحكام (3/ 379). (¬5) ينظر: شرح مختصر الروضة (3/ 233). (¬6) ينظر: التحبير شرح التحرير (7/ 3451). (¬7) ينظر: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد (306 - 309). (¬8) ينظر: مذكرة أصول الفقه (429). (¬9) ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 379)، نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (7/ 3044)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 232)، الإبهاج للسبكي (3/ 82)، نهاية السول (4/ 143)، التلويح على التوضيح (2/ 162 - 163)، البحث المحيط للزركشي (5/ 256)، تيسير التحرير (4/ 42)، شرح الكوكب المنير (4/ 200 - 201)، إرشاد الفحول (2/ 920).

بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات " (¬1)، فيبين المجتهد ثبوت العِلَّة - التي هي الطواف- في صغار الحشرات كالفأرة ونحوها، ليلحقها بالهِرّ في الطهارة (¬2). والمعنى الثاني: إثبات مقتضى قاعدةٍ شرعيةٍ ثبتت بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباطٍ في بعض جزئياتها (¬3). ومثاله: أوجب الله المِثْلَ من النَّعمَ على المُحْرِم في جزاء الصيد بقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، فالأصل الواجب هو المِثْل، والمثلية هي مناط الحكم، وقد عُلِمت بالنصّ، أما تحقُّق المثلية في البقرة عند الجناية على حمار الوحش- مثلاً - فلا يُعلَم إلا بنوعٍ من الاجتهاد والظنِّ المبني على الاستدلال بالأمارات (¬4). والمعنى الثالث: إثبات معنى لفظٍ عامٍّ أو مطلقٍ تعلَّق به حكمٌ شرعيٌّ في بعض أفراده (¬5). ومثاله: لفظ " الخمر " في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] فإنه لفظٌ عامٌ يتناول تحريم كل مُسْكرٍ من الأشربة والأطعمة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " كل مُسْكِرٍ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في " سننه "، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة، رقم (75)، والترمذي في " جامعة "، كتاب الطهارة، باب ما جاء في سؤر الهرة، رقم (92)، والنسائي في " سننه "، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة والرخصة فيه، رقم (367)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الحاكم في " مستدركه " (1/ 160)، وابن خزيمة في " صحيحه "، رقم (104)، والبغوي في " شرح السنة " (2/ 69). (¬2) ينظر: رسالة في أصول الفقه للعُكْبَري (83)، روضة الناظر (3/ 802)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 235)، شرح الكوكب المنير (4/ 201)، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (306 - 307). (¬3) ينظر: المستصفى (3/ 485 - 487)، روضة الناظر (3/ 801 - 802)، نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (7/ 3044 - 3045)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 233)، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (302 - 303). (¬4) ينظر: المراجع السابقة. (¬5) ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (19/ 282 - 283)، درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (7/ 337)، الموافقات للشاطبي (5/ 12).

النوع الثاني: تنقيح المناط.

خمر" (¬1)، فيبين المجتهد ثبوت معنى الإسكار في بعض أفراده كالحشيشة مثلاً، فيتناولها الحكم الشرعي وهو " التحريم " (¬2). النوع الثاني: تنقيح المناط. وهو: أن يدلَّ نصٌّ ظاهرٌ على التعليل بوصفٍ، فيُحذف خصوصه عن الاعتبار، ويناط الحكم بالمعنى الأعمِّ، أو يقترن بالحكم أوصاف مذكورةٌ في النصِّ لا مدخل لها في العِلِّية، فتُحذَف عن الاعتبار، ويناط الحكم بالباقي (¬3). ومثاله: قصة الأعرابي الذي جامع أهله في رمضان، وجاء يضرب صدره وينتف شعره - كما في بعض الروايات - ويقول: هلكتُ وأهلكت، واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أعتق رقبة " (¬4). فكونه أعرابياً، وكونه يضرب صدره، وينتف شعره، وكون الموطوءة زوجته، وكونه واقع أهله في ذلك الشهر بعينه، كلُّها أوصافٌ لا تصلح للعليَّة، فتُلْغَى تنقيحاً للعِلَّة، ويثبت ما يصلح للتعليل، فيُلْحَق به الأعرابي الآخر، ¬

(¬1) أخرجه مسلم في " صحيحه "، كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مُسْكِرٍ خمر وكل خمرٍ حرام، رقم (2003) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما. (¬2) ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (19/ 282 - 283)، منهاج السنة لابن تيمية (2/ 287)، الموافقات للشاطبي (3/ 232). (¬3) ينظر: رسالة في أصول الفقه للعُكْبَري (83 - 84)، المستصفى (3/ 488)، المحصول (5/ 230)، شفاء الغليل (411 - 412)، روضة الناظر (3/ 803)، الإحكام للآمدي (3/ 380) شرح تنقيح الفصول (389)، المسودة في أصول الفقه (387)، نهاية السول (4/ 139)، البحر المحيط للزركشي (7/ 322)، تيسير التحرير (4/ 42)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 292)، شرح الكوكب المنير (4/ 203)، إرشاد الفحول (2/ 641). (¬4) أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب الصوم، باب المُجِامع في رمضان هل يُطْعِم أهله من الكفارة إذا كانوا محاويج، رقم (1937)، ومسلم في " صحيحه "، كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم ووجوب الكفارة الكبرى فيه، رقم (1111)، وأبو داود في " سننه "، كتاب الصوم، باب كفارة من أتى أهله في رمضان، رقم (724)، وابن ماجه في " سننه "، كتاب الصوم، باب ما جاء في كفارة من أفطر يوماً من رمضان، رقم (1671). وينظر في روايات الحديث: نصب الراية (2/ 451)، التلخيص الحبير (2/ 206)، المعتبر في أحاديث المختصر للزركشي (214).

النوع الثالث: تخريج المناط.

ويُلْحَق به غير الأعرابي، ويُلْحَق به مَنْ أفطر في رمضانٍ آخر، ويُلْحَقُ به مَنْ وطِئ أَمَتَهُ، ويُلْحَق به الزاني، وبهذا يكون الوصف الصالح للتعليل هو" وقاعُ مُكَلَّفٍ في نهارِ رمضان" (¬1). النوع الثالث: تخريج المناط. وهو: استنباط عِلَّة الحُكْم الذي دلَّ النصُّ أو الإجماع عليه من غير تعرُّضٍ لبيان عِلَّته لا صراحةً ولا إيماءً (¬2). ومثاله: قوله صلى الله عليه وسلم: " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبُرّ بالبرّ والتمر بالتمر والشعير بالشعير والملح بالملح مِثْلاً بِمِثْل" (¬3). فإن هذا النصَّ لم يتضمَّن ما يدل على عِلَّة تحريم الرِّبا في هذه الأصناف المذكورة لا صراحةً ولا إيماءً، فيُجْتَهَد في استنباط عِلَّة الحُكْم بمسلكٍ من مسالك العِلَّة المُسْتَنْبَطَة (¬4). ولا يستدعي المقام - هنا - الإسهاب والتفصيل؛ لأني أفردت كل نوعٍ من أنواع الاجتهاد في المناط ببابٍ مستقِلٍّ يشتمل على تعريفه، وصوره، وأمثلته، والمسائل المتعلِّقة به (¬5). ¬

(¬1) ينظر: رسالة في أصول الفقه للعُكْبَري (85)، المستصفي (3/ 488 - 489) روضة الناظر (3/ 804)، الإحكام للآمدي (3/ 380)، شرح تنقيح الفصول (389) تيسير التحرير (4/ 42)، شرح الكوكب المنير (4/ 131). (¬2) ينظر: رسالة في أصول الفقه للعُكْبَري (85)، المستصفى (3/ 490)، روضة الناظر (3/ 805)، الإحكام للآمدي (3/ 380)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 242)، شرح تنقيح الفصول (389)، الإبهاج في شرح المنهاج (6/ 2401)، نهاية السول (4/ 142)، شرح المحلى على جمع الجوامع (2/ 273)، البحر المحيط للزركشي (7/ 324)، تيسير التحرير (4/ 43)، شرح الكوكب المنير (4/ 202). (¬3) أخرجه مسلم في " صحيحه "، كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق، رقم (1586)، وأخرجه البيهقي في " سننه " رقم (10261)، بلفظ " لا تبيعوا البر بالبر إلا مثلاً بمثل "، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (4/ 76) بلفظ " لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة ولا البر بالبر ولا الشعير بالشعير ولا الملح بالملح إلا مثلاً بمثل .. ". (¬4) ينظر: الابهاج في شرح المنهاج (6/ 2401 - 2402). (¬5) ينظر: (58 - 283).

أما بخصوص ترتيب الأنواع الثلاثة للاجتهاد في المناط فالطريقة التي سلكها عامة الأصوليين في ترتيبها على النحو الآتي (¬1): أولاً: تحقيق المناط. وثانياً: تنقيح المناط. وثالثاً: تخريج المناط. وربما يرجع هذا الترتيب عند عامة الأصوليين إلى درجة الخلاف في كلِّ نوع، حيث قُدِّم ذكر النوع الذي لا خلاف فيه وهو " تحقيق المناط " بالمعنى الذي تكون فيه القاعدة الكلية متفقاً أو منصوصاً عليها، أو كانت العِلَّة فيه معلومةً بنصٍّ أو إجماع، ويُجْتَهد في إثبات وجودها في الفرع. ولذلك لما ذُكِرَ "تحقيقً المناط" في الترتيب أولاً قال العُكْبَري: " لا نعرف في جوازه خلافاً " (¬2). وقال الغزالي: " " أما الاجتهاد في تحقيق مناط الحُكْم فلا نعرف خلافاً من الأُمَّة في جوازه " (¬3). وقال الآمدي: " ولا نعرف خلافاً في صحة الاحتجاج بتحقيق المناط إذا كانت العِلَّة فيه معلومةً بنصٍّ أو إجماع، وإنما الخلاف فيه فيما إذا كان مُدْرَك معرفتها الاستنباط " (¬4). ولما أُتْبِع ثانياً بذكر النوع الذي أقرَّ به أكثر المنكرين للقياس، وهو" تنقيح المناط" قال الغزالي: " وهذا - أيضاً - يُقِرُّ به أكثرُ منكري القياس " (¬5). ¬

(¬1) ينظر: رسالة في أصول الفقه للعُكْبَري (80)، المستصفى (3/ 485)، روضة الناظر (3/ 801)، الإحكام للآمدي (3/ 379)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 233)، التحبير شرح التحرير (7/ 3451)، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (306 - 309). (¬2) رسالة في أصول الفقه: (81). (¬3) المستصفى: (3/ 485). (¬4) الإحكام: (3/ 380). (¬5) المستصفى: (3/ 488).

وقال الآمدي: "وهذا النوع وإن أقرَّ به أكثر منكري القياس فهو دون الأول" (¬1). وقال الطُّوفي: "أكثر منكري القياس استعملوا هذا النوع من الاجتهاد في العِلَّة الشرعيَّة " (¬2). ولمَّا أُتْبِع ثالثاً بذكر النوع الذي عَظُمَ فيه الخلاف، وهو " تخريج المناط " قال الغزالي: " فهذا هو الاجتهاد القياسي الذي عَظَمُ الخلاف فيه " (¬3). وقال الآمدي: " وهذا في الرتبة دون النوعين الأَوَلَيْن " (¬4). وبعد التأمل والنظر في ترتيب أنواع الاجتهاد في المناط ظهر لي أن ترتيبها بحسب أسبقيتها على بعضٍ بالنسبة لعمل المجتهد أَوْلَى - في هذا البحث - من ترتيبها بحسب درجة الخلاف في كلِّ نوع، على أن يكون ترتيبها وفق الآتي: أولاً: تنقيح المناط. وثانياً: تخريج المناط. وثالثاً: تحقيق المناط. ووجه تقديم تنقيح المناط على تخريجه: أن العِلَلَ من حيث طريقة ثبوتها إما منصوصةٌ أو مستنبطةٌ، فإن كانت منصوصةً واقترن بها من الأوصاف ما لا يصلح للتعليل فالنظر فيها يتعلَّق بتنقيح المناط. وإن كانت مُسْتَنْبَطَةً فالنظر فيها يتعلق بتخريج المناط، والعِلَلُ المنصوصة تُقَدَّمُ على العلل المُسْتَنْبَطَة كما هو مُقَرَّرٌ في ترتيب العِلِل، فناسب حِينئذٍ تقديم تنقيح المناط على تخريجه. أما وجه تأخير تحقيق المناط عن تنقيحه وتخريجه: فلأِن القياس مبنيٌّ على مقدمتين: ¬

(¬1) الإحكام: (3/ 380). (¬2) شرح مختصر الروضة: (3/ 241). (¬3) المستصفى: (3/ 491). (¬4) الإحكام: (3/ 381).

الأولى: إثبات العِلَّة في حُكْم الأصل، وهي إما منصوصةٌ اقترن بها من النصوص ما لا يصْلُح لِلْعِلِّية فيتعلَّق النظر فيها بتنقيح المناط، أو مُسْتَنْبّطَةٌ فيتعلَّق النظر فيها بتخريج المناط. الثانية: إثبات وجود عِلَّةِ الأصل في الفرع، وهو تحقيق المناط. ولا ريب أن ثبوت المقدمة الثانية يستلزم ثبوت المقدمة الأولى، وهو ما يقتضي أن تكون متأخرةً عنها، فناسب تأخير تحقيق المناط عن تنقيحه وتخريجه. أما إذا كان تحقيق المناط بالمعنى الذي تكون فيه القاعدة الكلية متفقاً أو منصوصاً عليها، ويُجْتَهد في إثبات وجودها في بعض الجزئيات والصور، فهو نوع اجتهادٍ لا يُحْتَاجُ فيه إلى تنقيح المناط ولا تخريجه، وحينئذٍ لا يُتَصَوَّر بينه وبين تنقيح المناط أو تخريجه تقديمٌ ولا تأخير. ولهذا قال الغزالي: " وهذا لا خلاف فيه بين الأُمَّة، وهو نوع اجتهاد، والقياس مختَلفٌ فيه " (¬1). وقال ابن قدامة: " وأما النوع الأول فليس ذلك قياساً، فإن هذا مُتَفَقٌ عليه، والقياس مُخْتَلَفٌ فيه " (¬2). ¬

(¬1) المستصفى: (3/ 487). (¬2) روضة الناظر: (3/ 802 - 803).

المبحث الرابع أوجه الجمع والفرق بين أنواع الاجتهاد في المناط ويشتمل على ثلاثة مطلبين: المطلب الأول: أوجه الجمع بين أنواع الاجتهاد في المناط. المطلب الثاني: أوجه الفرق بين أنواع الاجتهاد في المناط.

المبحث الرابع أوجه الجمع والفرق بين أنواع الاجتهاد في المناط

المبحث الرابع أوجه الجمع والفرق بين أنواع الاجتهاد في المناط تَقَدَّم أن أنواع الاجتهاد في المناط ثلاثة (¬1): الأول: تنقيح المناط. والثاني: تخريج المناط. والثالث: تحقيق المناط. وهذه الأنواع الثلاثة يوجد بينها قدرٌ مشتركٌ يجمعها، كما يوجد بينها اختلافٌ يُمَيِّزُ بعضها عن بعض، وقد اكتفى بعض الأصوليين في التفريق بينها بذكر حقيقة كلٍّ منها مع ضرب المثال الذي يوضِّح المراد، كلُّ ذلك على سبيل الإيجاز دون استطرادٍ أو تتبعٍ لوجوه الجمع والفرق بينها؛ لأنه لما ذُكِرَ " تنقيح المناط " ضمن مسالك العِلَّة ناسب في ذلك الموضع أن يُذْكَرَ " تخريج المناط " و" تحقيق المناط " كما جرت بذلك عادة الجدليين، فَنَبَّه الأصوليون على الفرق بينها بذكر حقيقة كلٍّ منها، وقد جرى ذلك بالقصد التابع لا بالقصد الأصلي. ولهذا لما ذكر البيضاوي " تنقيح المناط " في المسلك التاسع ضمن الطرق الدالة على العِلِّية عرَّف السبكي " تنقيح المناط "، وضرب له أمثلةً توضِّح المراد منه ثم قال: " فائدة: قد اقتصر المصنِّف على ذكر تنقيح المناط دون تحقيق المناط وتخريج المناط، ونحن لا نطيب قلباً بإخلاء الشرح عن الكلام فيهما ليتحصَّل ¬

(¬1) ينظر: (45).

المطلب الأول: أوجه الجمع بين أنواع الاجتهاد في المناط.

التفرقة بينهما وبين تنقيح المناط " (¬1). ولما ذكر صاحب " مراقي السعود " تنقيح المناط ضمن مسالك العِلَّة وأشار إلى تحقيق المناط، قال في " نشر البنود ": " وإنما ذكرته هنا جرياً على عادة أهل الجدل في قرانهم بين الثلاثة: تنقيح المناط، وتخريج المناط، وتحقيق المناط." (¬2). ولكن لما أُفْرِدَ البحث - هنا - في أنواع الاجتهاد في المناط، واعتُبِرَ الموضوع مقصوداً بالأصالة اقتضى الحال استكمال النظر - قدر الإمكان - في أوجه الجمع والفرق بينها، مما يزيدها وضوحاً وتحريراً من كلِّ وجه، وذلك من خلال مطلبين: المطلب الأول: أوجه الجمع بين أنواع الاجتهاد في المناط. يوجد بين أنواع الاجتهاد في المناط قَدْرٌ مشتركٌ يجمعها، وتتلخص أوجه الجمع بينها فيما يأتي: 1 - تنقيح المناط وتخريجه وتحقيقه كلها أنواعٌ تُطْلَقُ على أفعال المجتهد أثناء اجتهاده في العِلَّة، ولا تُعْتَبَرُ من مسالك العِلَّة أو الطرق الدالة على العِلِّية، كما سيأتي بيانه في مواضعه (¬3). 2 - تُعتبر الأنواع الثلاثة كلها من مقدمات القياس، وليست هي القياس نفسه. وتوضيح ذلك أن قياس العِلَّة - حسب الاصطلاح الأصولي - لابد فيه من مقدمتين (¬4): ¬

(¬1) الإبهاج في شرح المنهاج: (3/ 82). (¬2) نشر البنود: (2/ 202). (¬3) ينظر: (67، 132، 194). (¬4) ينظر: المستصفى (3/ 503 - 504)، المحصول (5/ 20)، نبراس العقول (48).

المقدمة الأولى: إثبات العِلَّة في حُكْم الأصل، فإن كانت العِلَّة منصوصةً واقترن بها من الأوصاف ما لا يصلح للتعليل فالنظر فيها يتعلق بتنقيح المناط، وإن كانت مُسْتَنْبَطَةً فالنظر فيها يتعلق بتخريج المناط. المقدمة الثانية: إثبات عِلَّة الأصل في الفرع، وهو ما يُسمَّى بـ " تحقيق المناط ". وناتج هاتين المقدمتين حصول المساواة في العِلَّةُ بين الأصل والفرع، وهذه المساواة علامةٌ نَصَبَهَا الشارع للدلالة على الأحكام التي لم يَرِدْ بشأنها نصٌّ بعينه، ولا إجماع. ثم تأتي بعد ذلك ثمرة المساواة بين الأصل والفرع، وهي: إثبات مثل حُكْم الأصلِ في الفرع، وهو ما يُطْلَقُ عليه اصطلاحاً " القياس ". وبهذاَ يَتَبَيِّن أن القياس مبنيٌّ على مقدمتين، الأولى تتعلق بتنقيح المناط إن كانت العِلَّةُ منصوصةً واقترن بها من الأوصاف ما لا يصلح للتعليل، أو تتعلق بتخريج المناط إن كانت العِلَّة مُسْتَنْبَطَة، والثانية تتعلق بتحقيق المناط بعد إثبات عِلَّة الحُكْم في الأصل، ونتيجة هاتين المقدمتين هي القياس، وليس المقدمتان هما القياس. 3 - تنقيح المناط وتخريجه وتحقيقه كلها أنواعٌ تشترك في أن النظر فيها يتعلق بالعِلَّة، وإن كان تحقيقُ المناط أعمَّ مورداً من التنقيح والتخريج كما سيأتي في أوجه الفرق بينها (¬1). فالنظر في العِلَّة إما أن يتعلق بتنقيحها، أو تخريجها، أو تحقيقها، ولذلك أضيف لفظ " المناط " إلى التنقيح والتخريج والتحقيق باعتباره أحد إطلاقات العِلَّة كما سبقت الإشارة إلى ذلك (¬2). ¬

(¬1) ينظر: (55 - 56). (¬2) ينظر: (33).

المطلب الثاني: أوجه الفرق بين أنواع الاجتهاد في المناط.

المطلب الثاني: أوجه الفرق بين أنواع الاجتهاد في المناط. كما يوجد بين أنواع الاجتهاد في المناط قَدْرٌ مشتركٌ يجمعها فكذلك يوجد بينها اختلافٌ يميِّزُ بعضها عن بعض، وتتلخص أوجه الفرق بينها فيما يأتي: 1 - تنقيح المناط وتخريجه لا يَرِدَانِ إلا على العِلَّة، بينما تحقيق المناط يَرِدُ على العِلَّة وعلى غيرها فهو أعمُّ منهما، حيث يُطْلَقُ على إثبات عِلَّة حُكْم الأصلِ في الفرع، ويُطْلَقُ على إثبات كلِ معنىً تَعَلَّقَ به حُكْمٌ شرعيٌّ في بعض أفراده. قال الطُّوفي: " وكلُّ واحدٍ منهما يُسمىَّ تحقيق المناط؛ لأن معنى تحقيق المناط هو إثبات عِلَّة حُكْم الأصلِ في الفرع، أو إثبات معنىً معلومٍ في محلٍّ خَفِيَ فيه ثبوتُ ذلك المعنى، وهو موجودٌ في النوعين وإن اختلفا في أن أحدهما قياسٌ دون الآخر، فتحقيق المناط أعمُّ من القياس " (¬1). 2 - في " تخريج المناط " يَسْتَخْرِجُ المجتهدُ العِلَّة بأحد مسالكها المُسْتَنْبَطَة، بخلاف " تنقيح المناط " فإنه لا يَسْتَخْرِجُ العِلَّة، لكونها مذكورةً في النصِّ، بل يُنَقِّحُ العِلَّة المنصوصةَ التي اقترنت بها أوصافٌ ات تصلح للعلِّية بإثبات الوصف الصالح للعِلِّية وإلغاء ما سواه، فالأوصاف في تنقيح المناط مذكورةٌ في النصّ، بينما الأوصاف في تخريج المناط غير مذكورة، أما في تحقيق المناط فإن المجتهد يثبت وجود عِلَّة الأصل في الفرع بعد ثبوتها في نفسها بنصٍّ أو إجماع أو استنباط (¬2). 3 - النظر في " تنقيح المناط " يتعلق بالعِلَّة التي عُرِفَتْ بالنصِّ، واقترنت بها أوصافٌ ات تصلح للعلِّية وفي " تخريج المناط " يتعلق النظر بالعِلَّة التي تُعْرَفُ بالاستنباط، أما في" تحقيق المناط " فإن النظر يتعلق بإثبات وجود العِلَّة في ¬

(¬1) شرح مختصر الروضة: (3/ 236). (¬2) ينظر: الابهاج (6/ 2402)، البحر المحيط للزركشي (7/ 324 - 325).

آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط (¬1). 4 - بالنظر إلى ترتيب الأنواع الثلاثة حسب عمل المجتهد فإن تنقيح المناط وتخريجه يتقدمان على تحقيق المناط، حيث لابدَّ من ثبوت عِلَّة حُكْم الأصلِ أولاً، ثم إثبات وجود هذه العِلَّة في الفرع ثانياً، فإن كانت العِلَّة منصوصةً واقترن بها من الأوصاف ما لا يصلح للتعليل تَقَدَّمَ تنقيحُ المناط على تحقيقه، وكذلك إن كانت العِلَّة مُسْتَنْبَطَةً فإنه يتَقَدَّمَ - أيضاً - تخريجُ المناط على تحقيقه، وقد سبق التنبيه على ترتيب الأنواع الثلاثة (¬2). 5 - لا يلزم في " تخريج المناط " أن تكون هناك أوصافٌ، بل قد لا يكون في محل الحُكْم إلا وصفٌ واحدٌ وهو العِلَّة فَسُتْخَرَجُ بالاجتهاد. بينما في " تنقيح المناط " يلزم أن تكون هناك أوصافٌ حتى يُحْذَفَ منها ما لا مدخل له في العِلِّية، ويثبت ما يصلح وصفاً يقترن به الحُكْم. ولهذا لما نَقَلَ الطُّوفي عن بعض الأصوليين أن تخريج المناط: استخراج العِلَّة من أوصافٍ غير مذكورة، قال: " وفيه نظر؛ إذ لا يلزم في تخريج المناط تعداد الأوصاف، بل قد لا يكون في محل الحُكْم إلا وصفٌ واحدٌ وهو العِلَّة، فسُّتَخْرَج بالاجتهاد " (¬3). 6 - بالنظر إلى درجة الخلاف في كلِّ نوعٍ من الأنواع الثلاثة فإن تحقيق المناط بمعناه الأعمّ لا خلاف فيه (¬4)، وتنقيح المناط أكثر منكري القياس يُقِرُّون به (¬5)، أما تخريج المناط فقد عَظَمُ فيه الخلاف (¬6)، ولذلك ¬

(¬1) ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 379). (¬2) ينظر: (49 - 51). (¬3) شرح مختصر الروضة: (3/ 244). (¬4) ينظر: رسالة في أصول الفقه للعُكْبَري (81)، المستصفى (3/ 485)، روضة الناظر (3/ 802 - 803)، الإحكام للآمدي (3/ 380)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 235). (¬5) ينظر: المستصفى (3/ 488)، روضة الناظر (3/ 804 - 805)، الإحكام للآمدي (3/ 380)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 241). (¬6) ينظر: المستصفى (3/ 491)، روضة الناظر (3/ 805)، الإحكام للآمدي (3/ 381)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 245).

اعتبر الأصوليون تحقيق المناط في الرتبة الأولى، كما اعتبروا تنقيح المناط دونه في الرتبة، واعتبروا تخريج المناط دون الرتبتين، وقد سبق بيان ذلك (¬1). ¬

(¬1) ينظر: (49 - 51).

الباب الأول الاجتهاد في تنقيح المناط

الباب الأول الاجتهاد في تنقيح المناط ويشتمل على ستة فصول: الفصل الأول: تعريف تنقيح المناط لغةً واصطلاحاً. الفصل الثاني: حكم تنقيح المناط والأدلة على اعتباره. الفصل الثالث: العلاقة بين تنقيح المناط وإلغاء الفارق. الفصل الرابع: العلاقة بين تنقيح المناط والسَّبْر والتقسيم. الفصل الخامس: طرق تنقيح المناط.

الفصل الأول تعريف تنقيح المناط لغة واصطلاحا

الفصل الأول تعريف تنقيح المناط لغةً واصطلاحاً ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعريف تنقيح المناط لغةً. المبحث الثاني: تعريف تنقيح المناط اصطلاحاً. المبحث الثالث: وجه المناسبة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي.

المبحث الأول تعريف تنقيح المناط لغة

المبحث الأول تعريف تنقيح المناط لغةً سأتناول في هذا المبحث تعريف تنقيح المناط لغةً، وذلك من خلال مطلبين: المطلب الأول: تعريف التنقيح لغةً. التنقيح في اللغة: التهذيب والتشذيب، وأصلها: " نَقَح " (¬1). ومنه قولهم: نقَّح الكلام، إذا هذَّبه وأحسَنَ أوصافه (¬2). وشعْرٌ مُنَقَّحٌ، أي: مُفَتَّشٌ مُلقىً عنه ما لا يصلحُ فيه (¬3). ونقَّح العَظْمَ: إذا استخرج مُخَّه (¬4). ونقَّح الجِذْعَ: إذا شَذَّبه وأصلحه (¬5). ¬

(¬1) ينظر: الصحاح (1/ 413)، معجم مقاييس اللغة (5/ 467)، لسان العرب (14/ 333)، تاج العروس (2/ 243) " مادة: ن ق ح ". (¬2) ينظر: لسان العرب (14/ 333) " مادة: ن ق ح ". (¬3) ينظر: معجم مقاييس اللغة (5/ 467) " مادة: ن ق ح ". (¬4) ينظر: الصحاح (1/ 413)، معجم مقاييس اللغة (5/ 467)، لسان العرب (14/ 333)، تاج العروس (2/ 243) " مادة: ن ق ح ". (¬5) ينظر: الصحاح (1/ 413)، لسان العرب (14/ 333)، تاج العروس (2/ 243) " مادة: ن ق ح ".

المطلب الثاني: تعريف المناط لغة.

المطلب الثاني: تعريف المناط لغةً. المناط في اللغة: مصدرٌ ميميٌّ بمعنى اسم المكان، وهو موضع التعليق، ومناط الشيء: المَحَلُّ الذي عُلِّق عليه، وقد سبق بيان ذلك من خلال ما ورد في معاجم اللغة من معاني مادة (ن وط) (¬1). وبناءً على ما تقدَّم من تعريف لفظي " التنقيح " و " المناط " في اللغة يتَّضح أن " تنقيح المناط " في اللغة يعني: تهذيب وتشذيب الموضع الذي عُلِّق عليه الشيء، وتخليصه مما ليس منه. ¬

(¬1) ينظر: (30 - 31).

المبحث الثاني تعريف تنقيح المناط اصطلاحا

المبحث الثاني تعريف تنقيح المناط اصطلاحاً " تنقيح المناط " مصطلحٌ استعمله الأصوليون وتناولوه بالبحث في مواضع مختلفةٍ من كتاب القياس فبعض الأصوليين يذكره قبل البحث في مسالك العِلَّة، وبعضهم يذكره عند البحث في مسالك العلة، وبعضهم يذكره بعد الفراغ من البحث في مسالك العلة. ويظهر لي أن اختلاف الأصوليين في مواضع بحث " تنقيح المناط " في المدونات الأصولية ينبِّه على اختلافهم في حقيقته: هل يُعْتَبر في نفسه مسلكاً من مسالك العِلَّة؟ أو يُعْتَبر من طرق الاجتهاد في العِلَّة بعد إثباتها بمسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه؟ وحاصل أنظار الأصوليين في ذلك تتمثل في اتجاهين: الاتجاه الأول: ذهب بعض الأصوليين إلى أن " تنقيح المناط " يُعْتَبر من طرق الاجتهاد في العِلَّة بعد إثباتها بأحد المسالك المُعْتَبرة وهو" مسلك النصِّ " أو" مسلك الإيماء والتنبيه "، ولا يُعْتَبر في نفسه مسلكاً من مسالك العِلَّة. وبناءً على ذلك فقد ذكر أصحاب هذا الاتجاه " تنقيح المناط " مستقلاً عن مسالك العِلَّة إما قبلها أو بعدها، وأدرجوه تحت ما يُسَمَّى بـ " أنواع الاجتهاد في العِلَّة " أو " أنواع الاجتهاد في مناط الحُكْم "، ولم يذكروه ضمن مسالك العِلَّة (¬1). ¬

(¬1) ينظر: المستصفى (3/ 488)، روضة الناظر (3/ 803)، الإحكام للآمدي (3/ 380)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 237)، الموافقات (5/ 19 - 20)، التحبير شرح التحرير (7/ 3333)، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (307).

وقد ذهب إلى هذا الاتجاه: الغزالي، وابن قدامة، والآمدي، والطُّوفي، والشاطبي، والمرداوي، وابن بدران الدمشقي. وفيما يأتي تعريفاتهم لـ " تنقيح المناط " وقد اقتصر أكثرهم على ما بين المراد دون التقيد بشروط الحدود: - عرَّفه الغزالي بقوله: " أن يضيف الشارع الحُكْم إلى سببٍ وينوطه به، وتقترن به أوصافٌ لا مدخل لها في الإضافة، فيجب حذفها عن درجة الاعتبار حتى يتسع الحُكْم " (¬1). - وعرَّفه ابن قدامة بقوله: " أن يضيف الشارع الحُكْم إلى سببه، فيقترن به أوصافٌ لا مدخل لها في الإضافة، فيجب حذفها عن الاعتبار ليتسع الحكم" (¬2). - وعرَّفه الآمدي بأنه: " النظر والاجتهاد في تعيين ما دلَّ النصُّ على كونه عِلَّةً من غير تعيين، بحذف ما لا مدخل له في الاعتبار مما اقترن به من الأوصاف" (¬3). - وعرَّفه الطُّوفي بأنه: " إلغاء بعض الأوصاف التي أضاف الشارع الحُكْم إليها، لعدم صلاحيتها للاعتبار في العِلَّة " (¬4). - وعرَّفه الشاطبي بقوله: " أن يكون الوصف المُعْتَبَر في الحُكْم مذكوراً مع غيره في النصِّ، فَيُنَقَّح بالاجتهاد حتى يُميَّز ما هو معتبرٌ مما هو ملغيٌّ" (¬5). - وعرَّفه المرداوي بأنه: " الاجتهاد في تحصيل المناط الذي ربط به الشارع الحُكْم، فيُبْقِي من الأوصاف ما يصلح، ويُلْغِي ما لا يصلح " (¬6). - وعرَّفه ابن بدران الدمشقي بأنه: " إلغاء بعض الأوصاف التي أضاف ¬

(¬1) المستصفى: (3/ 488). (¬2) روضة الناظر: (3/ 803). (¬3) الإحكام: (3/ 380). (¬4) شرح مختصر الروضة: (3/ 237). (¬5) الموافقات: (5/ 19 - 20). (¬6) التحبير شرح التحرير: (7/ 3333).

الشارع الحُكْم إليها؛ لعدم صلاحيتها للاعتبار في العِلَّة " (¬1). ويتضح من خلال النظر في التعريفات السابقة لـ " تنقيح المناط " أن تلك التعريفات وإن كانت مختلفةً في بعض ألفاظها إلا أنها متقاربةٌ في معانيها، فأصحاب هذا الاتجاه يعتبرون أن وظيفة المجتهد في "تنقيح المناط " حذف الأوصاف غير المُعْتَبرة، وتعيين الباقي من الأوصاف عِلَّةً للحُكْم، وذلك بعد أن أُثْبِتت العِلَّة بمسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه، واقترن بالحُكْم أوصافٌ بعضها يصلح للعِلَّيَّة وبعضها لا يصلح، فاحتيج حينئذٍ إلى تمييز وتعيين الوصف الذي يصلح أن يكون عِلَّةً للحُكْم، وإلغاء ما سواه من الأوصاف. ومثاله: قصة الأعرابي الذي جامع أهله في رمضان فقال: هلكت يا رسول الله، قال: " ما صنعت "؟ قال: " وقعت على أهلي في نهار رمضان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " أعتق رقبة" (¬2). فالتعليل بالوقاع وإن كان قد أُومِئَ إليه بالنصِّ غير أنه يُفْتَقَرُ في معرفته إلى حذف كلِّ ما اقترن به من الأوصاف غير المُعْتَبَرة في العِلِّيَّة، وإبقاء الوصف أو الأوصاف الصالحة للعِلَّيَّة، وذلك بأن يبين المجتهد بالدليل أن كونه أعرابياً، وكونه شخصاً معيناً، وأن كون ذلك الزمان وذلك الشهر بخصوصه، وذلك اليوم بعينه، وكون الموطوءة زوجةً أو امرأةً معينةً لا مدخل له في التأثير، حتى يتعدَّى الحُكْم إلى كلِّ مكلفٍ وطئ في نهار رمضان عامداً (¬3). الاتجاه الثاني: ذهب بعض الأصوليين إلى أن " تنقيح المناط " يُعْتَبر بنفسه مسلكاً مستقلاً من المسالك التي تثبت بها العِلَّة. وبناءً على ذلك فقد ذكر أصحاب هذا الاتجاه " تنقيح المناط " ضمن مسالك العِلَّة، واعتبروه دليلاً تثبت به العِلَّة الشرعيَّة. ¬

(¬1) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد: (307). (¬2) تقدم تخريجه: (48). (¬3) ينظر: المراجع السابقة.

وقد ذهب إلى هذا الاتجاه: الفخر الرازي (¬1)، والبيضاوي (¬2)، والقرافي (¬3)، وصفي الدين الهندي (¬4)، وصدر الشريعة الحنفي (¬5) (¬6)، وتاج الدين ابن السبكي (¬7)، والزركشي (¬8)، والشوكاني (¬9). ثم اختلف أصحاب هذا الاتجاه في تعريفه على مذهبين: المذهب الأول: تعريف " تنقيح المناط " على أنه اجتهادٌ في حذف خصوص وصفٍ مذكورٍ في النصِّ عن الاعتبار، وإناطة الحُكْم بالمعنى الأعمّ، أو حذف بعض الأوصاف المذكورة في النصِّ عن الاعتبار، وتعيين الباقي من الأوصاف عِلَّةً للحكم. وقد عرَّفه بذلك تاج الدين ابن السُّبكي حيث قال: " هو: أن يدلَّ ظاهرٌ على التعليل بوصفٍ، فَيُحْذَف خصوصه عن الاعتبار، ويُنَاطُ بالأعمّ، أو تكون أوصافٌ، فَيُحْذَف بعضها، ويُنَاطُ بالباقي " (¬10). وبهذا التعريف يتضح أن ابن السُّبكي يقسِّم " تنقيح المناط " إلى قسمين: القسم الأول: أن يدلَّ نصٌّ ظاهرٌ على تعليل الحُكْم بوصفٍ، فَيُحْذَف، خصوص ذلك الوصف عن الاعتبار بالاجتهاد، ويُنَاطُ الحُكْم بالمعنى الأعمّ. ومثاله: قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يقضين حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان " (¬11). فإنَّ ذكر الغضب مقروناً بالحُكْم يدل بظاهره على التعليل بالغضب، لكن ¬

(¬1) ينظر: المحصول (5/ 137). (¬2) ينظر: منهاج الوصول (209). (¬3) ينظر: شرح تنقيح الفصول (398 - 399). (¬4) ينظر: نهاية الوصول (8/ 3381). (¬5) ينظر: التوضيح شرح التنقيح (2/ 174). (¬6) هو: عبيد الله بن مسعود بن محمود المحبوبي البخاري الحنفي، صدر الشريعة الأصغر ابن صدر الشريعة الأكبر، فقيه، أصولي، جدلي، من مؤلفاته: التنقيح وشرحه التوضيح في أصول الفقه (ط)، وشرح الوقاية (ط) في الفقه الحنفي، توفي في بخارى سنة (747 هـ). ينظر ترجمته في: الفوائد البهية (109)، الأعلام للزركلي (4/ 198). (¬7) ينظر: جمع الجوامع (95). (¬8) ينظر: البحر المحيط (7/ 322). (¬9) ينظر: إرشاد الفحول (2/ 640 - 641). (¬10) جمع الجوامع: (95). (¬11) أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان، رقم (1758)، ومسلم في "صحيحه "، كتاب الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان، رقم (1717).

ثبت بالنظر والاجتهاد أنه ليس عِلَّةً لذاته، بل لما يلازمه من التشويش المانع من استيفاء الفكر، فَيُحْذَف خصوص الغضب، ويُنَاطُ النهي بالمعنى الأعمّ، فيشمل النهيُ كلَّ ما يشغل القلب ويمنع من استيفاء النظر، كالجوع والعطش المفرطين (¬1). القسم الثاني: أن يدلَّ نصٌّ ظاهرٌ على تعليل الحُكْم بمجموع أوصافٍ بعضها يصلح للتعليل وبعضها لا يصلح، فَيُحْذَف ما لا يصلح للتعليل عن درجة الاعتبار، ويُنَاطُ الحُكْم بالباقي من الأوصاف. ومثاله: قصة الأعرابي الذي جامع أهله في رمضان، وجاء يضرب صدره وينتف شعره - كما في بعض الروايات - ويقول: هلكت، واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أعتق رقبة" (¬2). فكونه أعرابياً، وكونه يضرب صدره، وينتف شعره، وكون الموطوءة زوجته، وكونه واقع أهله في ذلك الشهر بعينه، كُلُّها أوصافٌ لا تصلح للعِلِّيَّة فَتُحْذَف عن درجة الاعتبار، ويُنَاطُ الحُكْم بالوصف الباقي الصالح للتعليل، وهو " وقاع مكلَّفٍ في نهار رمضان "، فَيُلْحق بالأعرابي غير الأعرابي، ويُلْحَق به مَنْ جامع في رمضان آخر، ويُلْحَق به من وطِئَ أَمَتَه، ويُلْحَق به الزاني (¬3). وبهذا فإن حاصل " تنقيح المناط " بقسميه المذكورين آنفاً عند أصحاب هذا الاتجاه هو الاجتهاد في الحذف والتعيين. قال المحلِّي (¬4): " وحاصله - أي: تنقيح المناط - أنه الاجتهاد في الحذف والتعيين " (¬5). وهذا ظاهر؛ ففي القسم الأول يُجْتَهَدُ في حذف خصوص الوصف المذكور في النصِّ عن الاعتبار، ويُنَاطُ الحُكْم بالمعنى الأعمّ، وفي القسم ¬

(¬1) ينظر: الضياء اللامع شرح جمع الجوامع (2/ 381)، نشر البنود (2/ 205)، نثر الورود (2/ 522 - 523). (¬2) تقدم تخريجه: (48). (¬3) ينظر: تشنيف المسامع (3/ 318 - 319)، الغيث الهامع (3/ 735)، الضياء اللامع شرح جمع الجوامع (2/ 381)، نشر البنود (2/ 207)، نثر الورود (2/ 523). (¬4) هو جلال الدين محمد بن أحمد بن محمد المحلي الشافعي، أصولي، مفسِّر، كان مهيباً صداعاً بالحق، من مؤلفاته: البدر الطالع في حل جمع الجوامع (ط) في أصول الفقه، وشرح الورقات (ط) في أصول الفقه، وصنف كتاباً في التفسير أتمه جلال الدين السيوطي، فسمي " تفسير الجلالين " (ط)، توفي بالقاهرة سنة (864 هـ). ينظر ترجمته في: شذرات الذهب (9/ 447)، الضوء اللامع (7/ 39)، الأعلام للزركلي (5/ 333). (¬5) شرح المحلي على جمع الجوامع: (2/ 292).

الثاني يُجْتَهَدُ في حذف بعض الأوصاف، وتعيين الباقي من الأوصاف عِلَّةً للحُكْم. المذهب الثاني: تعريف " تنقيح المناط " على أنه اجتهادٌ في إلغاء الفارق بين الأصل والفرع، فيلزم حينئذٍ اشتراكهما في الحُكْم. - وقد عرَّفه بذلك البيضاوي، فقال: "تنقيح المناط: بأن يبيِّن إلغاء الفارق" (¬1). قال شارحه الإسنوي (¬2): " هو: أن يبين المُسْتَدِل إلغاء الفارق بين الأصل والفرع، وحينئذٍ فيلزم اشتراكهما في الحُكْم " (¬3). - وعرَّفه القرافي بقوله: " هو: إلغاء الفارق، فيشتركان - أي: الاصل والفرع - في الحُكْم " (¬4). - وعرَّفه صفي الدين الهندي (¬5) بأنه: " إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه بإلغاء الفارق " (¬6). - وعرَّفه صدر الشريعة الحنفي بقوله: " أن يبين عدم عِلِّيَّة الفارق؛ ليثبت عِلِّيَّه المشترك " (¬7). - وعرَّفه الشوكاني بأنه: " إلحاق الفرع بالأصل بإلغاء الفارق " (¬8). ومثاله: إلغاء الوصف الفارق بين الأَمَة والعبد في قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أعتق شِرْكاً له في عَبْدٍ، فكان له مالٌ يبلغ ثمن العبد، قوِّم عليه قيمة عدل، فأَعطَى شركاءَه حصَصَهُمْ، وعَتَقَ عليه، وإلا فقد عَتَقَ منه ما عَتَقَ " (¬9) فهذا النصُّ لا ¬

(¬1) منهاج الوصول: (209). (¬2) هو: جمال الدين عبدالرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي الشافعي، فقيه، أصولي، من علماء العربية، انتهت إليه رياسة الشافعية في القاهرة، من مؤلفاته: نهاية السول شرح منهاج الوصول (ط) في أصول الفقه، والتمهيد في تخريج الفروع على الأصول (ط)، وطبقات الفقهاء الشافعية (ط)، توفي بالقاهرة سنة (772 هـ). ينظر ترجمته في: طبقات الفقهاء الشافعية لابن شهبة (2/ 171)، شذرات الذهب (6/ 223)، الأعلام للزركلي (3/ 344). (¬3) نهاية السول: (4/ 139). (¬4) شرح تنقيح الفصول: (398). (¬5) هو: صفي الدين محمد بن عبدالرحيم بن محمد الأرموي الهندي، ولد بالهند واستوطن دمشق، فقيه، أصولي، جدلي، من مؤلفاته: نهاية الوصول إلى علم الأصول (ط)، والفائق في أصول الفقه (ط) توفي بدمشق سنة (715 هـ). ينظر ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (9/ 162)، طبقات الشافعية للإسنوي (2/ 354)، الأعلام للزركي (6/ 200). (¬6) نهاية الوصول: (8/ 3381). (¬7) التوضيح شرح التنقيح: (2/ 174). (¬8) إرشاد الفحول: (2/ 641) (¬9) أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب العتق، باب إذا أعتق عبداً بين اثنين أو أَمَةً بين الشركاء، رقم (2522)، وأخرجه مسلم في " صحيحه "، كتاب العتق، رقم (1501).

المقارنة بين التعريفات

يتناول الأَمَة، ولا فارق بين العبد والأَمَة إلا الذُّكورة، وهو ملغيٌّ في باب العتق بالإجماع؛ إذ لا مدخل له في العِلِّية، وإن كان للذكورة والأنوثة تأثيرٌ في الفرق في بعض الأحكام كولاية النكاح والقضاء والشهادة (¬1). وبهذا فإن حاصل " تنقيح المناط " عند أصحاب هذا المذهب هو: الاجتهاد في إلغاء الوصف الفارق بين الأصل والفرع، وحذفه عن درجة الاعتبار، فيلزم حينئذٍ اشتراكهما في الحُكْم. المقارنة بين التعريفات: من خلال التأمل في التعريفات التي سبق إيرادها ضمن الاتجاهين المذكورين يتبين لي الآتي: أولاً: إن تعريف " تنقيح المناط " على أنه من طرق الاجتهاد في العِلَّة بعد إثباتها بمسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه يُعْتَبر أرجح من تعريفه على أنه دليلٌ تثبت به العِلَّة فيُعَدُّ مسلكاً من مسالكها؛ لأن العِلَّة - هنا- ثبتت بمسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه، واقترنت بها أوصافٌ لا تصلح للعِلِّية، فاحتيج إلى تهذيبها وتمييزها عن تلك الأوصاف غير المُعْتَبَرة، وهو اجتهادٌ لا يُعْتَبر في ذاته دليلاً على العِلَّة؛ لأنه من أفعال المجتهد، أما دليل ثبوت العِلَّة فهو مسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه، ومن شأن الدليل أن يكون ثابتاً في نفسه مع قطع النظر عن فعل المجتهد (¬2). قال الغزالي: " والمقصود أن هذا تنقيح المناط بعد أن عُرِف المناط بالنصِّ لا بالاستنباط " (¬3). ولهذا المعنى فقد قيَّد الآمدي تنقيح المناط بالاجتهاد في تعيين ما دل ¬

(¬1) ينظر: الكاشف عن المحصول (6/ 435 - 438)، نفائس الأصول (7/ 3087)، شرح تنقيح الفصول (388)، شرح مختصر الروضة (3/ 352)، الإبهاج (6/ 2396)، البحر المحيط للزركشي (7/ 322)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 272)، إرشاد الفحول (2/ 641). (¬2) ينظر: سلم الوصول إلى منهاج الأصول (4/ 143). (¬3) المستصفى: (3/ 490).

النصُّ على كونه عِلَّةً من غير تعيين، فعرَّفه بأنه: " النظر والاجتهاد في تعيين ما دل النصُّ على كونه عِلَّةً من غير تعيين، بحذف ما لا مدخل له في الاعتبار مما اقترن به من الأوصاف" (¬1). وتنقيح المناط ليس هو طريق استخراج العِلَّة، وإنما هو طريق تمييزها وتهذيبها بعد ثبوتها بمسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه. قال صفي الدين الهندي: " وحاصله - أي: تنقيح المناط - يرجع إلى أن تصرَّف المجتهد فيه إنما هو في تعيين السبب الذي ناط الشارع الحُكْم به، دون استنباطه وتخريجه " (¬2). ثانياً: إن الاجتهاد في " تنقيح المناط " إما أن يتجه إلى حذف خصوص الوصف المذكور في النصِّ لعدم اعتباره، وإناطة الحُكْم بالمعنى الأعمّ، أو يتجه إلى حذف بعض الأوصاف المذكورة في النصِّ لعدم تأثيرها في الحُكْم، وإناطة الحُكْم بالباقي من الأوصاف. وفي كلتا الحالتين فإن الاجتهاد في الحذف والتعيين قد يكون بإلغاء الفارق أو بالسَّبْر والتقسيم، وإن كان النظر يتوجه في الأصل إلى الحذف والتعيين، لا إلى إلغاء الفارق أو السَّبْر والتقسيم. قال المطيعي (¬3): " فالمنظور إليه في تنقيح المناط بالمعنى الأول هو حذف خصوصية الوصف الذي دلَّ ظاهر النصّ على عليَّته صريحاً أو إيماءً، وإن كان يلزمه إلغاء الفارق أو السَّبْر أيضاً، لكنه غير منظورٍ إليه، والمنظور إليه في تنقيح المناط بالمعنى الثاني مجرد الأوصاف التي في محلِّ الحُكْم، ولا يجب عليه الحصر، فَيُحْذَف بعضها عن الاعتبار بالاجتهاد، ويُنَاطُ الحُكْم بالباقي، وإن كان يلزم إلغاء الفارق والسَّبْر والتقسيم لكنه غير منظورٍ إليه " (¬4). وعلى هذا فإن تعريف " تنقيح المناط " بالنظر إلى أنه اجتهادٌ في الحذف ¬

(¬1) الإحكام: (3/ 380). (¬2) نهاية الوصول: (7/ 3046). (¬3) هو: محمد بن بخيت بن حسين المطيعي، مفتي الديار المصرية، ومن كبار فقهائها، تعلَّم في الأزهر، واشتغل بالتدريس فيه، ثم انتقل إلى القضاء سنة 1297 هـ، وعُيِّن مفتياً للديار المصرية سنة 1333 هـ إلى أن توفي بالقاهرة سنة (1354 هـ)، من مؤلفاته: البدر الساطع على جمع الجوامع (ط)، وسلم الوصول على نهاية السول (ط)، وأحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدع من الأحكام (ط)، وغيرها. ينظر ترجمته في: الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (4/ 38)، الأعلام للزركلي (6/ 50). (¬4) سلم الوصول على نهاية السول: (4/ 140).

والتعيين أرجح من تعريفه بالنظر إلى أنه اجتهادٌ في إلغاء الفارق؛ لأن الحذف والتعيين هو الأصل الذي يتوجه إليه الاجتهاد في " تنقيح المناط "، وقد يكون ذلك بإلغاء الفارق أو السَّبْر والتقسيم كما سيأتي بيانه (¬1). ثالثاً: إن الاجتهاد في إلغاء الفارق لا يُحْتَاج معه إلى الوصف الجامع بين الأصل والفرع وهو العِلَّة، بل يقال فيه: لم يوجد بين هذا المنطوق به والمسكوت عنه فرقٌ يؤثر في الحُكْم ألبتة، فهو مثله في الحُكْم؛ لأن الإلحاق بنفي الفارق لا يدل على أن الوصف المعين عِلَّةً، وإنما يدل على أن عِلَّة الأصل من حيث الجملة مُتَحَقِّقَةٌ في الفرع من غير تعيين (¬2). أما الاجتهاد في الحذف والتعيين فإن الباقي من الأوصاف هو الذي يتعين عِلَّةً للحُكْم، وذلك بعد حذف الأوصاف غير المؤثرة. ومع اختلاف الطريقة في كلٍّ منهما إلا أن نتيجتهما تُلْزِم بالتسوية بين الأصل والفرع في الحُكْم؛ لاشتراكهما في الموجب له، غير أن العِلَّة في الطريقة الأولى لم تتعين، وإنما حصل الإلحاق بمجرد إلغاء الوصف الفارق، وفي الطريقة الثانية تعين الباقي من الأوصاف المذكورة في النصِّ عِلَّة للحُكْم بعد حذف الأوصاف غير المُعْتَبَرة. ولهذا فقد أطلق بعض الأصوليين كتاج الدين ابن السُّبكي (¬3)، وصفي الدين الهندي (¬4) مُسمىَّ " تنقيح المناط " على إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه بإلغاء الفارق. كما اعتبر بعض الأصوليين "إلغاء الفارق" ضرباً من " تنقيح المناط ". قال الطُّوفي: " لا بأس بتسمية إلغاء الفارق تنقيحاً؛ إذ إنَّ التنقيح هو ¬

(¬1) ينظر: (100، 112 - 113). (¬2) ينظر: المستصفى (3/ 602)، البحر المحيط للزركشي: (7/ 326). (¬3) ينظر: الابهاج (3/ 80). أما في جمع الجوامع (ص 95) فقد غاير ابن السبكي بينهما كما سيأتي بيانه في العلاقة بينهما (94، 95). (¬4) ينظر: نهاية الوصول (8/ 3381)، الفائق في أصول الفقه (4/ 210).

التخليص والتصفية، وبإلغاء الفارق يصفو الوصف ويخلص للعِلِّيَّة، فلا يكون هذا قولاً ثانياً في تنقيح المناط كما قال القرافي، بل يكون إلغاء الفارق ضرباً من تنقيح المناط" (¬1). وقال صاحب " نشر البنود " (¬2): " وهو - أي: إلغاء الفارق - عند التحقيق قسمٌ من تنقيح المناط؛ لأن حذف خصوص الوصف عن الاعتبار قد يكون بإلغاء الفارق، وقد يكون بدليلٍ آخر ". ولما ذكر الأمين الشنقيطي (¬3) أنواع الاجتهاد الذي دلَّت عليه نصوص الشرع قال: " ومنها: الاجتهاد في تنقيح المناط، ومن أنواعه: السَّبْر والتقسيم، والإلحاق بنفي الفارق " (¬4). وعند قول الناظم في مراقي السعود: فمنه ما كان بإلغاء الفارق ... وما بغير من دليلٍ رائقِ قال في شرحه: " يعني أن من تنقيح المناط قسماً يقال له إلغاء الفارق، فَسُمِّيَ تنقيح المناط وإلغاء الفارق " (¬5). ومن خلال ما تقدم ذكره يُسْتَخْلَص ما يأتي: 1 - يُعْتَبر " تنقيح المناط " من طرق الاجتهاد في العِلَّة بعد إثباتها بمسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه، ولا يُعْتَبَر بذاته دليلاً تثبت به العِلَّة. 2 - الأصل في " تنقيح المناط " أنه اجتهادٌ في الحذف والتعيين، وله صورتان: الأولى: أن يدلَّ نصٌّ ظاهرٌ على تعليل الحُكْم بوصفٍ، فَيُحْذَف خصوص ذلك الوصف عن الاعتبار، ويُنَاطُ الحُكْم بالمعنى الأعمّ. الثانية: أن يدلَّ نصٌّ ظاهرٌ على تعليل الحُكْم بمجموع أوصافٍ بعضها ¬

(¬1) شرح مختصر الروضة: (3/ 244 - 245). (¬2): (2/ 199). (¬3) هو: محمد الأمين بن محمد المختار بن عبدالقادر الجكني الشنقيطي، قدم إلى الحج في رحلة سجل فيها فنوناً من العلم، ودرّس بالمعهد العلمي بالرياض، ثم انتقل إلى المدينة ودرّس في المسجد النبوي، فقيه، أصولي، مفسِّر، كان قوي الحجة، واسع الإطلاع، من مؤلفاته: أضواء البيان (ط) في التفسير، وآداب البحث والمناظرة (ط)، ومذكرة أصول الفقه (ط) على روضة الناظر لابن قدامة، توفي سنة (1393 هـ). ينظر ترجمته في: أضواء البيان (9/ 471) بقلم تلميذه عطية محمد سالم، وعلماء ومفكرون عرفتهَم للمجذوب (1/ 171). (¬4) أضواء البيان: (4/ 175). (¬5) نثر الورود: (2/ 523).

التعريف المختار

يصلح للتعليل وبعضها لا يصلح للتعليل، فَيُحْذَف ما لا يصلح للتعليل عن درجة الاعتبار، ويُنَاطُ الحُكْم بالباقي من الأوصاف. 3 - الاجتهاد في الحذف والتعيين قد يكون بإلغاء الفارق (¬1)، وقد يكون بالسَّبْر والتقسيم كما سيأتي بيانه في مواضعه (¬2). التعريف المختار: بعد استعراض تعريفات الأصوليين والمقارنة بينها يظهر لي أن التعريف الأرجح لـ"تنقيح المناط " هو الذي يجمع بين الصورتين الداخلتين تحت هذا النوع من الاجتهاد في العِلَّة وهو: " أن يدلَّ نصٌّ ظاهرٌ على التعليل بوصفٍ، فَيُحْذَف خصوصه عن الاعتبار، ويُنَاطُ الحُكْم بالمعنى الأعمِّ، أو يقترن بالحُكْم أوصافٌ مذكورةٌ في النصِّ لامدخل لها في العِلِّيَّة، فَتُحْذَف عن الاعتبار، ويُنَاطُ الحُكْم بالباقي". وأصل هذا التعريف مُسْتَخْلَصٌ من تعريف تاج الدين ابن السُّبكي في " جمع الجوامع " (¬3)، مع اعتبار أن " تنقيح المناط " من طرق الاجتهاد في العِلَّة بعد ثبوتها بمسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه، لا باعتبار أنه مسلكٌ مستقِلٌ من مسالك العِلَّة. وفيما يأتي شرحٌ للتعريف وبيانٌ لأهم محترزاته: قوله: (أن يدلَّ نصٌّ) المقصود بالنصِّ - هنا -: اللفظ الوارد في الكتاب أو السُّنَّة، وليس المراد منه ما يقابل الظاهر. قوله: (ظاهرٌ) قيدٌ يخرج النصَّ الصريح الذين يُعَيِّن العِلَّة، وهو ما صرَّح الشارع فيه بكون الوصف عِلَّةً للحُكْم من غير احتياجٍ فيه إلى نظرٍ واستدلال، كما لو قال: العِلَّة كذا أو لأجل كذا (¬4). ¬

(¬1) ينظر: (100). (¬2) ينظر: (112 - 113). (¬3) ينظر: (95). (¬4) ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 317)، البحر المحيط للزركشي (7/ 238)، شرح الكوكب المنير (4/ 117)، إرشاد الفحول (2/ 616).

كقوله عليه الصلاة والسلام: " إنما جُعِل الاستئذان من أجل البصر" (¬1). قوله: (على التعليل بوصفٍ) أي: على تعليل الحُكْم المذكور في النصِّ بوصفٍ من الأوصاف. قوله: (فَيُحْذَف خصوصه عن الاعتبار) أي: يُلغي المجتهد خصوص ذلك الوصف عن اعتباره عِلَّةً في الحُكْم؛ لأن ذلك الوصف ليس عِلَّةً لذاته، بل لما يلازمه. قوله: (ويُنَاطُ الحُكْم بالمعنى الأعمِّ) أي: يُعلَّق الحُكْم وجوداً وعدماً سواءٌ كان أمراً أو نهياً بالمعنى الأوسع الذي ثبت بالشرع اعتباره وصفاً مؤثراً في الحُكْم. قوله: (أو) للتنويع، وذلك ليشمل التعريف الصورتين الداخلتين تحت " تنقيح المناط ". قوله (يقترن بالحُكْم أوصاف) أي: يقترن بالحُكْم المذكور في النصِّ مجموع أوصاف. قوله: (لا مدخل لها في العِلِّيَّة) أي: لا تأثير لتلك الأوصاف في الحكم؛ إما لكونها طرديةً كالطول والقصر، أو لثبوت الحُكْم بدون تلك الأوصاف، أو لغير ذلك كما سيأتي بيانه في طرق تنقيح المناط (¬2). قوله: (فَتُحْذَف عن الاعتبار) أي: فيُلْغِي المجتهد اعتبار تلك الأوصاف عِلَّةً للحُكْم؛ لعدم اعتبار الشارع لها. قوله: (ويُنَاطُ الحُكْم بالباقي) أي: يُعلَّق الحُكْم وجوداً وعدماً بالباقي من الأوصاف التي لم تُحْذَف؛ لكونها أوصافاً صالحةً للتأثير في الحُكْم. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب الاستئذان، باب الاستئذان من أجل البصر، رقم (6241)، وأخرجه مسلم في " صحيحه "، باب تحريم النظر في بيت غيره، رقم (2156). (¬2) ينظر: (118 - 124).

المبحث الثالث وجه المناسبة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي

المبحث الثالث وجه المناسبة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي تقرَّر فيما سبق أن " تنقيح المناط " في اللغة يعني: تهذيب وتشذيب الموضع الذي عُلِّق عليه الشيء، وتخليصه مما ليس منه (¬1). وهو في التعريف الاصطلاحي غير خارجٍ عن وضع اللغة، ولكنه يختصُّ بتهذيب العِلَّة وتشذيبها من الأوصاف المختلِطة بها التي لا تصلح للعِلَّيَّة (¬2). ولهذا المعنى اصطلح علماء الأصول على تلقيبه بـ " تنقيح المناط " قال الزركشي: " ولما كانت هذه العِلَّة منصوصاً عليها، ولكنها تختلط بغيرها محتاجةً إلى ما يميُّزها لقَّبوه بهذا اللقب " (¬3). وقال القرافي: " لأنه - أي: تنقيح المناط - تصفيةٌ وإزالةٌ لما لا يصلح عما يصلح، وتنقيح الشيء إصلاحه، فهذا اصطلاحٌ مناسب " (¬4). ¬

(¬1) ينظر: (30 - 31). (¬2) ينظر: التحبير شرح التحرير (7/ 3455)، شرح الكوكب المنير (4/ 204)، نشر البنود (2/ 198)، نثر الورود (2/ 522)، مذكرة أصول الفقه للشنقيطي (381). (¬3) البحر المحيط: (7/ 322). (¬4) شرح تنقيح الفصول: (389).

الفصل الثاني حكم العمل بتنقيح المناط والأدلة على اعتباره

الفصل الثاني حكم العمل بتنقيح المناط والأدلة على اعتباره ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: حكم العمل بتنقيح المناط. المبحث الثاني: الأدلة على اعتبار العمل بتنقيح المناط.

المبحث الأول: حكم العمل بتنقيح المناط

المبحث الأول: حكم العمل بتنقيح المناط: اتفق الأصوليون على العمل بـ "تنقيح المناط"، إما باعتباره مسلكاً من المسالك التي تثبت بها العِلَّة (¬1)، أو باعتباره طريقاً من طرق الاجتهاد في العِلَّة بعد إثباتها بمسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه (¬2). وبالاستقراء والتتبع لم أجد -حسب اطلاعي- أحداً من الأصوليين حكى الخلاف في العمل بـ "تنقيح المناط"، بل إن بعضهم يثبت العمل به عند أكثر منكري القياس. قال الغزالي: "أَقرَّ به أكثر منكري القياس" (¬3). وقال الطُّوفي: "أكثر منكري القياس استعملوا هذا النوع من الاجتهاد في العِلَّة الشرعيَّة، وهو تنقيح المناط" (¬4). وقال ابن تيمية: " وهذا مما لا خلاف فيه بين الناس نعلمه، نعم قد يختلفون في نفس الموجِب: هل هو مجموع تلك الأوصاف أو بعضها، وهو نوعٌ من تنقيح المناط " (¬5). ¬

(¬1) ينظر: المحصول (5/ 229)، منهاج الوصول للبيضاوي (209)، شرح تنقيح الفصول (398)، نهاية الوصول للهندي (8/ 3381)، التوضيح شرح التنقيح لصدر الشريعة الحنفي (2/ 174)، جمع الجوامع (95)، إرشاد الفحول (2/ 640). (¬2) ينظر: المستصفى (3/ 488)، شفاء الغليل (413)، روضة الناظر (3/ 803)، الإحكام للآمدي (3/ 380)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 237)، التحبير شرح التحرير (7/ 3333)، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (307). (¬3) المستصفى: (3/ 490). (¬4) شرح مختصر الروضة: (3/ 241). (¬5) الصارم المسلول: (2/ 338).

وقال أيضاً: "وهذا النوع يُقرُّ به كثيرٌ من منكري القياس أو أكثرهم" (¬1). وقال ابن النجَّار: "وقد أَقرَّ به أكثر منكري القياس" (¬2). وقال ابن عبدالشكور البهاري (¬3): "وهو مقبولٌ عند الكلِّ" (¬4). وقال المطيعي: "وهو مقبولٌ عند كلِّ أهل المذاهب من أهل الحق" (¬5). وقال الأمين الشنقيطي: "إجماع العلماء على العمل بنوع الاجتهاد المعروف بالإلحاق بنفي الفارق الذي يسمِّيه الشافعي في معنى الأصل، وهو تنقيح المناط" (¬6). وقد يتصور بعض العلماء وقوع الخلاف في العمل بتنقيح المناط من بعض منكري القياس، وذلك بحُجَّة أنه لا معنى لتنقيح العِلَّة عند من لا يقول أصلاً بتعليل الأحكام. ولهذا لما حكى الزركشي عن الغزالي قوله: " تنقيح المناط يقول به أكثر منكري القياس، ولا نعرف بين الأُمَّة خلافاً في جوازه" تعقَّبه بقوله: "ونازعه العَبْدَري (¬7) بأن الخلاف فيه ثابتٌ بين من يثبت القياس ومن ينكره؛ لرجوعه إلى القياس" (¬8). وفيما ذكر العَبْدَري -نقلاً عن الزركشي- نظر؛ لأن " الذين نفوا القياس لم يقولوا بإهدار كلِّ ما يُسمَّى قياساً، وإن كان منصوصاً على عِلَّته أو مقطوعاً فيه بنفي الفارق، وما كان من باب فحوى الخطاب أو لحنه على اصطلاح من يُسمِّى ذلك قياساً، بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلولاً عليه بدليل الأصل، مشمولاً به مندرجاً تحته " (¬9). ¬

(¬1) درء تعارض العقل والنقل: (7/ 339). (¬2) شرح الكوكب المنير: (4/ 132). (¬3) هو: محب الله بن عبدالشكور البهاري الهندي الحنفي، فقيه أصولي، ولي قضاء لكهنو، ثم قضاء حيدر آباد الركن، من مؤلفاته: مُسَلَّم الثبوت (ط) في أصول الفقه، وسُلَّم العلوم (ط) في المنطق، توفي سنة (1119 هـ). ينظر ترجمته في: الفتح المبين في طبقات الأصوليين (3/ 122)، الأعلام للزركلي (5/ 283). (¬4) مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت: (2/ 350). (¬5) سلم الوصول على نهاية السول: (4/ 138). (¬6) أضواء البيان: (4/ 172). (¬7) هو: أبو عبدالله محمد بن محمد بن علي بن أحمد العَبْدَري، صاحب الرحلة المعروفة، أصله من بلنسية، رحل من المغرب حاجاً سنة (688 هـ)، ودخل باجة وتونس والقيروان والقاهرة وغيرها وأفاد واستفاد، وأخذ عن الأعلام وأثنى عليهم، وليس فيما وقفت عليه من المصادر ذكرٌ لسنة وفاته. وقد ذكر الرزكشي في مقدمته على البحر المحيط (1/ 8) أن له شرحاً على المستصفى للغزالي اسمه "المستوفي". ينظر في ترجمته: جذوة الاقتباس (179)، شجرة النور الزكية (217)، الأعلام للزركلي (7/ 32). (¬8) البحر المحيط: (7/ 323). (¬9) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران: (309 - 310).

وقال ابن تيمية (¬1): " وكثيرٌ من الفقهاء لا يسمِّيه قياساً، بل يثبتون به الكفارات والحدود، وإن كانوا لا يثبتون ذلك بالقياس، فإنه هنا قد عُلِمَ يقيناً أن الحُكْم ليس مخصوصاً بمورد النصِّ، فلا يجوز نفيه عما سواه بالاتفاق كما يمكن ذلك في صور القياس المحض " (¬2). ولهذا قال الغزالي: " فمن جحد هذا الجنس من منكري القياس وأصحاب الظاهر لم يَخْفَ فسادُ كلامه " (¬3). وقال أيضاً: " ولذلك لا يُتَصَّور الخلاف من القائسين في هذا الجنس" (¬4). وقال الأمين الشنقيطي: " لا ينكره - أي: تنقيح المناط - إلا مكابر" (¬5). ومع اتفاق العلماء على اعتبار العمل بـ " تنقيح المناط " إلا أنهم اختلفوا في تسميته، وهل هو من باب القياس أو لا؟ أما جمهور الأصوليين فقد اصطلحوا على تسميته بـ "تنقيح المناط" (¬6)، واعتبروه قياساً خاصاً مندرجاً تحت مُطْلَق القياس (¬7). قال صفي الدين الهندي: " والحقُّ أن تنقيح المناط قياسٌ خاصٌّ مندرجٌ تحت مُطْلَق القياس، وهو عامٌّ يتناوله وغيرَه " (¬8). بينما اصطلح الحنفية على تسميته بـ" الاستدلال "، وفرَّقوا بينه وبين القياس: بأن القياس يجري فيه إلحاق الفرع بالأصل بذكر الجامع الذي لا ¬

(¬1) هو: أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية الحراني الدمشقي الحنبلي، يلقب بشيخ الإسلام، كان إماماً في العلوم النقلية والعقلية، عارفاً بالفقه واختلافه، أنكر مقالات أهل البدع، وردَّ على أهل الكتاب، وشارك في قتال أهل التتار، له رسائل ومؤلفات نفيسة، من أهمها درء تعارض العقل والنقل (ط)، ومنهاج السنة (ط)، واقتضاء الصراط المستقيم (ط)، وجمعت أكثر رسائله وفتاويه في مجموع الفتاوى (ط)، توفي سنة (728 هـ). ينظر في ترجمته: تذكرة الحفاظ للذهبي (4/ 192)، الدرر الكامنة (1/ 145)، الأعلام للزركلي (1/ 144) (¬2) درء تعارض العقل والنقل: (7/ 339 - 341). (¬3) المستصفى: (3/ 490). (¬4) شفاء الغليل: (415). (¬5) أضواء البيان: (4/ 172). (¬6) ينظر: المستصفى (3/ 488)، المحصول (5/ 229)، الإحكام للآمدي (3/ 380)، شرح تنقيح الفصول (388)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 241)، نهاية السول (4/ 128)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 292)، شرح الكوكب المنير (4/ 131). (¬7) ينظر: نهاية الوصول (8/ 3381)، الإبهاج (6/ 2396)، البحر المحيط للرزكشي (7/ 323)، إرشاد الفحول (2/ 641). (¬8) نهاية الوصول: (8/ 3381).

يفيد إلا غَلَبَة الظن، أما الاستدلال فيكون بإلغاء الفارق لما ثبت عِلَّته بالنصِّ بحذف خصوص عِلَّة النصِّ، وهذا يفيد القطع، فيكون أقوى من القياس، فلذا أجروه مجرى القطعيات في النسخ به ونسخِه (¬1). قال الغزالي: " والمقصود: أن هذا تنقيح المناط بعد أن عُرِف المناط بالنصِّ لا بالاستنباط، ولذلك أَقَرَّ به أكثر منكري القياس، بل قال أبو حنيفة - رحمه الله - لا قياس في الكفارات، وأثبت هذا النمط من التصرف، وسمَّاه استدلالاً " (¬2). وقال ابن قدامة: " وأجراه أبو حنيفة في الكفارات مع أنه لا قياس فيها عنده " (¬3). وقال صفي الدين الهندي: " وهذا الذي يُسَمِّيه الحنفية بالاستدلال، ويفرِّقون بينه وبين القياس بأن يخصصون اسم القياس بما يكون الإلحاق فيه بذكر الجامع الذي لا يفيد إلا غَلَبَة الظن، والاستدلال بما يكون الإلحاق فيه بإلغاء الفارق الذي يفيد القطع، حتى أجروه مجرى القطعيات في النسخ به ونسخه، فجوَّزوا الزيادة على النصِّ به، ولم يجوَّزوا نسخَه بخبر الواحد " (¬4). وقال ابن تيمية: "وهذا النوع يُسَمِّيه بعض الناس قياساً، وبعضهم لا يُسَمِّيه قياساً، ولهذا كان أبو حنيفة وأصحابه يستعملونه في المواضع التي لا يستعلمون فيها القياس " (¬5). وقال الإسنوي: " وهذا النوع عند الحنفية يُسَمُّونه بالاستدلال، وليس عندهم من باب القياس " (¬6). ¬

(¬1) ينظر: نهاية الوصول (8/ 3381)، الإبهاج (3/ 80 - 81)، البحر المحيط للزركشي (7/ 323) التقرير والتجير (3/ 287)، تيسير التحرير (4/ 172). (¬2) المستصفى: (3/ 490). (¬3) روضة الناظر: (3/ 805). (¬4) نهاية الوصول: (8/ 3381). (¬5) مجموع الفتاوى: (22/ 329). (¬6) نهاية السول: (4/ 141).

وقال ابن النجَّار الفتوحي: "وأجراه أبو حنيفة في الكفارات مع منعه القياس فيها" (¬1). وقال ابن عبدالشكور البهاري: "وهو مقبولٌ عند الكلِّ إلا أن الحنفية لم يصطلحوا على هذا الاسم، كما لم يضعوا تخريج وتحقيق المناط للنظر في تعرُّف تحُّقِقها في الجزئيات مع الاتفاق في المُسَمَّى " (¬2). وقال ابن العطَّار (¬3): "إن أبا حنيفة يستعمل تنقيح المناط في الكفارة وإن منع القياس فيها لكنَّه لايسمِّيه قياساً بل استدلالاً" (¬4). وبهذا يتضح من خلال ما تقدَّم أن الحنفية يتفقون مع الجمهور على اعتبار تنقيح المناط والعمل به، إلا أنهم اصطلحوا على تسميته بـ "الاستدلال"، وفرَّقوا بينه وبين القياس بأن القياس ما أُلْحقَ فيه حُكْمٌ بآخر بجامعٍ يفيد غَلَبَة الظن، والاستدلال ما أُلْحِقَ فيه ذلك بإلغاء الفارق المفيد للقطع. وقد اعتذر بعض الحنفية عن عدم ذكرهم " تنقيح المناط " بأن مرجعه إلى النصِّ؛ ولم يضعوا له اسماً اصطلاحياً مع العمل به. قال ابن الهمام الحنفي: "واعتذر بعض الحنفية عن عدم ذكرهم تنقيح المناط بأن مرجعه إلى النصِّ، ولا شك أن معنى تنقيح المناط واجبٌ على كلِّ مجتهدٍ حنفيٍّ وغيره، وإلا مُنِع الحُكْم في موضع وجود العِلَّة، غير أنَّ الحنفية لم يضعوا له اسماً اصطلاحياً كما لم يضعوا المفرد وتخريج المناط وتحقيقه مع العمل بها في الكلِّ" (¬5). ولا شك أن المعاني إذا تحرَّرَت فلا مشاحة في الإصطلاح، ولكن لابدَّ في الاصطلاح من استعمال لفظٍ لا يلتبس معناه أو بعضه مع غيره، وأجدر اصطلاح بالمعنى الذي سبق تقريره هو "تنقيح المناط"؛ لأن تنقيح الشيء: ¬

(¬1) شرح الكوكب المنير: (4/ 132). (¬2) مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت: (2/ 350). (¬3) هو: حسن بن محمد بن محمود العطار، من علماء مصر، أصله من المغرب، ومولده ووفاته بالقاهرة، تولى مشيخة الأزهر سنة (1246 هـ)، من مؤلفاته: حاشية على شرح المحلي على جمع الجوامع (ط)، وكتاب في الإنشاء والمراسلات (ط)، وغيرهما، توفي سنة (1250 هـ). ينظر في ترجمته: الأعلام للزركلي (2/ 220)، شيوخ الأزهر لأشرف فوزي (2/ 35 - 40). (¬4) حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع: (2/ 337). (¬5) التحرير في أصول الفقه مع شرحه تيسير التحرير: (4/ 43).

تهذيبه، وتنقيح المناط: تهذيب العِلَّة وتمييزها من بين عِدَّة أوصافٍ لا مدخل لها في العِلِّية، وهذا اصطلاحٌ مناسب (¬1). ولهذا قال الغزالي: " نرى أن يُلَقَّب هذا القياس بتنقيح مناط الحُكْم ومُتَعَلَّقِه" (¬2). أما تفريق الحنفية بينه وبين القياس بأن القياس ما أُلْحِقَ فيه حُكْمٌ آخر بجامعٍ يفيد غَلَبَة الظن، والاستدلال ما أُلْحِقَ فيه الحُكْم بإلغاء الفارق المفيد للقطع، فقد أجاب عنه صفي الدين الهندي بقوله: " والحقُّ أن تنقيح المناط قياسٌ خاصٌّ مندرجٌ تحت مُطْلَق القياس، وهو عامُّ يتناوله وغيرَه، وكلُّ واحدٍ من القياسين- أعني ما يكون الإلحاق بذكر الجامع وبإلغاء الفارق - يُحْتَمَلُ أن يكون ظنياً وهو الأكثر؛ إذ قلما يوجد الدليل القاطع على أن الجامع عِلَّة، أو أن ما به الامتياز لا مدخل له في العِلِّية، وقد يكون قطعياً بأن يوجد ذلك فيه، نعم حصول القطع فيما فيه الإلحاق بإلغاء الفارق أكثر من الذي فيه الإلحاق بذكر الجامع، لكن ليس ذلك فرقاً في المعنى بل في الوقوع، وحينئذٍ ظهر أنه لا فرق بينهما في المعنى " (¬3). وذهب الأبياري (¬4) وابن تيمية إلى أن " تنقيح المناط " خارجٌ عن باب القياس المتنازع فيه، وهو راجعٌ إلى نوعٍ من تأويل الظواهر يتناول كلَّ حُكْمٍ تعلَّق بعينٍ معينةٍ مع العلم بأنه لا يختص بها، فيحتاج أن يُعْرف المناط الذي تعلَّق به ذلك الحُكْم. قال الأبياري: " هو خارجٌ عن القياس، وكأنه يرجع إلى تأويل الظواهر" (¬5). وقال ابن تيمية: " وهذا بابٌ واسع، وهو متناولٌ لكلِّ حُكْمٍ تعلَّق بعينٍ ¬

(¬1) ينظر: شرح تنقيح الفصول (389)، البحر المحيط للزركشي (7/ 322)، رفع النقاب عن تنقيح الشهاب (5/ 293). (¬2) شفاء الغليل: (130). (¬3) نهاية الوصول: (8/ 3381 - 3382). (¬4) هو: أبو الحسن علي بن إسماعيل بن علي بن عطية الأبياري، شمس الدين، فقيهٌ مالكي، وأصوليُّ مبرِّز، من مؤلفاته: التحقيق والبيان في شرح البرهان في أصول الفقه، وسفينة النجاة في التصوف والسلوك، وغيرهما، توفي بمصر سنة (618 هـ). ينظر ترجمته في: الديباج المذهب (2/ 110)، شجرة النور الزكية (1/ 166). (¬5) البحر المحيط للزركشي: (7/ 323).

معينةٍ مع العلم بأنه لا يختصُّ بها، فيحتاج أن يُعَرْف المناط الذي يتعلَّق به الحُكْم، وهذا النوع يُسَمِّيه بعض الناس قياساً، وبعضهم لا يُسَمِّيه قياساً، ولهذا كان أبو حنفية وأصحابه يستعملونه في المواضع التي لا يستعملون فيها القياس، والصواب أن هذا ليس من القياس الذي يمكن فيه النزاع " (¬1). وقال أيضاً في موضعٍ آخر: " تنقيح المناط: بأن يُنَصَّ على حُكْم أعيانٍ معينةٍ لكن قد علمنا أن الحُكْم لا يختصُّ بها، فالصواب في مثل هذا أنه ليس من باب القياس؛ لاتفاقهم على النصِّ، بل المعين هنا نصَّ على نوعه، ولكنَّه يحتاج إلى أن يُعْرَفَ نوعه " (¬2). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى: (22/ 328 - 329). (¬2) مجموع الفتاوى: (22/ 330).

المبحث الثاني الأدلة على اعتبار العمل بـ "تنقيح المناط"

المبحث الثاني الأدلة على اعتبار العمل بـ "تنقيح المناط" تقرَّر فيما تقدَّم أن العلماء اتفقوا على اعتبار العمل بـ " تنقيح المناط"، وهو اتفاقٌ على أصل العمل بهذا النوع من الاجتهاد، لا على اجتهادهم الذي قد ينتج عنه اختلافهم في إلغاء بعض الأوصاف أو اعتبارها، كما في قصة الأعرابي الذي واقع أهله في نهار رمضان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أعتق رقبة " (¬1)، حيث اختلف الفقهاء في تنقيح مناط الحُكْم وهو "وجوب الكفارة". فالحنفية (¬2)، والمالكية (¬3): حذفوا خصوص وصف " المواقعة " عن الاعتبار، وأناطوا الحُكْم بالمعنى الأعمِّ الذي هو "إفساد الصوم بالإفطار". أما الشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5): فقد حذفوا بعض الأوصاف المذكورة في النصِّ التي لا تصلح للعِلَّية، مثل: كونه أعرابياً، وكون الموطوءة زوجته، وكون الوطء في ذلك الشهر بعينه، ونحو ذلك، وأناطوا الحُكْم بالباقي من الأوصاف، وهو: "وقاع مكلَّفٍ في نهار رمضان". قال البروي (¬6): "حذف أبو حنيفة - رضي الله عنه - خصوص الوقاع حتى أوجب الكفارة بالأكل والشرب، وهذا كلُّه من باب تنقيح المناط، غير أن ¬

(¬1) سبق تخريجه: (48). (¬2) ينظر: بدائع الصنائع (2/ 97)، تبيين الحقائق (1/ 327). (¬3) ينظر: مواهب الجليل (2/ 433)، جواهر الإكليل (1/ 150). (¬4) ينظر: المجموع (6/ 360)، مغني المحتاج (1/ 596). (¬5) ينظر: المغني (4/ 372)، منتهى الإرادات (2/ 367 - 368). (¬6) هو: محمد بن محمد بن محمد بن سعد البروي، من فقهاء الشافعية، كان بارعاً في علم الكلام والجدل والمناظرة، من مؤلفاته: تعليقه في الخلاف، والمقترح في المصطلح في الجدل والمناظرة (ط)، توفي ببغداد سنة (567 هـ). يننظر ترجمته في: وفيات الأعيان (4/ 225)، طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (6/ 389)، الأعلام للزركلي (7/ 24).

الشافعي - رضي الله عنه - ينازعه في دليل الحذف، وإلا فهما متفقان على صحة هذا النوع من النظر" (¬1). وقال ابن تيمية: " وهذا مما لا خلاف فيه بين الناس نعلمه، نعم قد يختلفون في نفس الموجِب: هل هو مجموع تلك الأوصاف أو بعضها" (¬2). وتتلخص أدلة اعتبار العمل بـ"تنقيح المناط" في الآتي: 1 - إذا كان الحُكْم مُعَلَّلاً وَجَبَ على المجتهد البحث عن عِلَّة الحُكْم، وإذا أُثْبِتَتْ العِلَّة بمسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه ثم اقترنت بها أوصافٌ ليس لها تأثيرٌ في الحُكْم وجب على المجتهد تهذيب الوصف الذي تعلَّق به الحُكْم؛ حتى تتعين العِلَّة، ولا يدخل فيها من الأوصاف ما ليس له مدخلٌ في التأثير أو يخرج منها ما هو من الأوصاف المُعْتَبرة، وإلا مُنِعَ الحُكْم في موضع وجود العِلَّة، أو أُثْبِتَ في غير مواضع وجودها. قال ابن الهمام الحنفي: " ولا شك أن معنى تنقيح المناط واجبٌ على كلِّ مجتهدٍ حنفيٍّ وغيرِه، وإلا مُنِعَ الحُكْم في موضع وجود العِلَّة" (¬3). قال الشارح ابن أمير بادشاه (¬4): " فيمنع وجوب الكفارة على غير الأعرابي، وعلى من جامع في رمضان غير أهله؛ لعدم حذف الزوائد من الصفات التي لا مدخل لها في العِلَّة " (¬5). 2 - إن المجتهد إذا علم يقيناً أو غلب على ظنِّه أن الحُكْم ليس مخصوصاً بما ورد في النصِّ من أوصافٍ اقترنت بالحُكْم، بل يتعلَّق بمعنىً أعمَّ فلا يجوز حينئذٍ للمجتهد أن ينفي الحُكْم عن غير ما ورد به النصِّ؛ لأن في ذلك تخصيصاً للحُكْم لم يقصده الشارع. فقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يقضيَنَّ حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان " (¬6)، يدل ظاهراً على ¬

(¬1) المقترح في المصطلح: (217). (¬2) الصارم المسلول: (2/ 337 - 338). (¬3) التحرير في أصول الفقه مع شرحه تيسير التحرير: (4/ 43). (¬4) هو: محمد أمين بن محمود البخاري، المعروف بأمير بادشاه، فقيهٌ، حنفيٌّ، من أهل بخارى، كان نزيلاً بمكة، من مؤلفاته: تيسير التحرير في شرح التحرير في أصول الفقه لابن الهمام الحنفي (ط)، وشرح تائية ابن الفارض، وغيرهما، توفي تقريباً سنة (972 هـ). ينظر ترجمته في: كشف الظنون (1/ 358)، هدية العارفين (6/ 349)، الأعلام للزركلي (6/ 41). (¬5) تيسير التحرير: (4/ 43). (¬6) سبق تخريجه: (64).

أن الحُكْم مُعَلّلٌ بوصف " الغضب "، إلا أنه ثبت بالنظر والاجتهاد أن الحُكْم ليس مخصوصاً بذلك الوصف، بل يشمل كلَّ ما يُشْغِل القلبَ ويمنع من استيفاء النظر، فإذا عُلِمَ يقيناً أو غلب على الظن أن الحُكْم ليس مخصوصاً بذلك الوصف لذاته، بل يتعلَّق بالمعنى الأعمِّ الذي هو لازمه، فإنه لا يجوز حينئذٍ للمجتهد نفي الحُكْم عما سواه مما هو في معناه. قال ابن تيمية: " فإن - هنا - قد عُلِم يقيناً أن الحُكْم ليس مخصوصاً بمورد النصِّ، فلا يجوز نفيه عما سواه بالاتفاق " (¬1). 3 - إن الأصل في كلِّ مِثْلَيْن أن يكون حكمهما واحداً، فإذا حصل التساوي بين صورتين ولم يوجد بينهما فارقٌ فالظنُّ القوي القريب من القطع أنهما مستويان في الحُكْم، فإذا حصل اعتقادٌ أو ظنٌ غالبٌ بذلك وجبت التسوية بينهما في الحُكْم، وإذا حصل اعتقادٌ أو ظنٌ غالبٌ بوجود الفرق بينهما وجبت التفرقة بينهما أيضاً في الحُكْم؛ لأنه لا يجوز التفريق بين المتماثلات والتسوية بين المختلفات، لا شرعاً ولا عقلاً ولاعادةً (¬2). والإلحاق بنفي الفارق أحد صور تنقيح المناط إذا تهذَّبت العِلَّة وتعيَّنت، كما سيأتي بيانه في العلاقة بين تنقيح المناط وإلغاء الفارق (¬3). ¬

(¬1) درء تعارض العقل والنقل: (7/ 341). (¬2) ينظر: شرح تنقيح الفصول (399)، رفع النقاب عن تنقيح الشهاب (5/ 379). (¬3) ينظر: (100).

الفصل الثالث العلاقة بين تنقيح المناط وإلغاء الفارق

الفصل الثالث العلاقة بين تنقيح المناط وإلغاء الفارق ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعريف إلغاء الفارق لغةً واصطلاحاً. المبحث الثاني: أقسام إلإلحاق بإلغاء الفارق. المبحث الثالث: العلاقة بين تنقيح المناط وإلغاء الفارق.

المبحث الأول تعريف إلغاء الفارق لغة واصطلاحا

المبحث الأول تعريف إلغاء الفارق لغةً واصطلاحاً سأتناول في هذا المبحث تعريف إلغاء الفارق لغةً واصطلاحاً، وذلك من خلال مطلبين: المطلب الأول: تعريف إلغاء الفارق لغةً. الإلغاء في اللغة هو (¬1): الإبطال والإسقاط. يقال: ألغيت الشيء، إذا أبطلته وأسقطته. ويقال: ألغيت هذه الكلمة، إذا رأيتها باطلاً أو فضلاً. ويقال: ألغاه من العدد، إذا ألقاه منه. والفارق في اللغة (¬2): اسمُ فاعلٍ، من فرَّق بين الشيئين: إذا فَصَلَ بينهما. والفَرْق: خلاف الجمع، فَرَقه يَفْرقُه فَرْقاً وفَرَّقه. وفَارَقَ الشيء مُفَارقةً وفِراقاً: باينه. قال ابن فارس: " الفاء والراء والقاف أصلٌ صحيح يدل على تمييزٍ وتزييلٍ بين شيئين " (¬3). ¬

(¬1) ينظر: الصحاح (6/ 2483)، لسان العرب (13/ 213 - 214)، تاج العروس (10/ 329) " مادة: ل غ و". (¬2) ينظر: الصحاح (4/ 1540)، لسان العرب (11/ 168 - 169)، تاج العروس (7/ 47) " مادة: ف ر ق ". (¬3) معجم مقاييس اللغة (5/ 493) " مادة: ف رق ".

المطلب الثاني: تعريف إلغاء الفارق اصطلاحا.

والفارق من الناس: الذي يَفرِق بين الأمور، أي: يَفْصِلُها. والفارق من الإبل: التي تفارق إِلْفَها فَتَنْتِجُ وحْدَها. وقيل: هي التي أخذها المخاض فذهبت نادَّةً في الأرض (¬1). المطلب الثاني: تعريف إلغاء الفارق اصطلاحاً. إلغاء الفارق اصطلاحاً هو: بيان أن الفرق بين الأصل والفرع لا مدخل له في التأثير، فيلزم اشتراكهما في الحُكْم (¬2). وتوضيحه أن يقال: لا فارق بين الأصل والفرع إلا كذا، وهو مُلْغَى؛ لأنه غير مؤثِّرٍ في الحُكْم، فيلزم اشتراكهما في ذلك الحُكْم؛ لاشتراكهما في الموجِب له. ومثاله: إلحاق الأَمَة بالعبد في السراية الثابتة في قوله صلى الله عليه وسلم: " من أعتق شِرْكاً له في عَبْدٍ فكان له مالٌ يبلغ ثمن العبد قوِّم عليه قيمة عدلٍ، فأَعطى شركاءَه حصَصَهم وعَتَقَ عليه العبد، وإلا فقد عَتَقَ منه ما عتق " (¬3). فالفارق بين الأَمَة والعبد الأنوثة، ولا تأثير لها في منع السراية، فتثبت السراية فيها لِما شاركت فيه العبد (¬4). وهذا المعنى يُطْلِقُ عليه جمهور الأصوليين مُسمَّى "إلغاء الفارق"، أو ¬

(¬1) ينظر: الصحاح (4/ 1540 - 1541)، لسان العرب (11/ 168 - 169)، تاج العروس (7/ 47) " مادة: ف ر ق ". (¬2) ينظر: المحصول (5/ 230)، المقترح في المصطلح (231)، البحر المحيط للزركشي (7/ 326)، تشنيف المسامع (3/ 321)، الغيث الهامع (3/ 737)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 293)، الضياء اللامع شرح جمع الجوامع (2/ 382)، تيسير التحرير (4/ 77)، نشر البنود (2/ 205 - 206)، نثر الورود (2/ 523)، نبراس العقول (383). (¬3) سبق تخريجه: (66). (¬4) ينظر: المستصفى (5/ 597)، الإحكام للآمدي (3/ 7)، الإبهاج (3/ 80)، البحر المحيط للزركشي (7/ 322)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 293)، شرح الكوكب المنير (4/ 207).

" نفي الفارق " وذلك بالنظر إلى أنه لا فارق مؤثِّرٌ بين الأصل والفرع، فيشتركان في الحُكْم (¬1). كما يُطْلِقُون عليه مُسَمَّى " القياس في معنى الأصل " وذلك إذا كان القياس بإلغاء الفارق، باعتبار أن الفرع فيه بمنزلة الأصل؛ لأنه في معناه فيؤخذ حكمه، وهو راجعٌ إلى أنه لا أثر للفارق (¬2). ويُطْلِقُون عليه - أيضاً - مُسَّمَى " القياس الجلي " وذلك إذا قُطِعَ فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع، أو " القياس الخفي " إذا لم يُقْطَعْ فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع بل كان مظنوناً (¬3) كما سيأتي بيانه في أقسام إلغاء الفارق (¬4). ويُعَدُّ الإلحاق بإلغاء الفارق عند جمهور الأصوليين من أقسام القياس كما هو ظاهرٌ في تسميته بـ" القياس في معنى الأصل"، و" القياس الجلي"، و " القياس مع نفي الفارق "، وذلك لأن إلحاق الفرع بحُكْم الأصل - عندهم - له طريقان (¬5): الأول: أن لا يُتَعَرَّض إلا للفارق بين الفرع والأصل، فيُعْلَم أنه لا فارق بينهما إلا فرقٌ غير مؤثرٍ في الشرع، فلا فرق حينئذٍ بينهما في الحُكْم. قال الغزالي: " وهذا إنما يحسُن إذا ظهر التقارب بين الفرع والأصل، ¬

(¬1) ينظر المراجع السابقة. (¬2) ينظر: الإحكام للآمدي (4/ 7)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 353)، بيان المختصر للأصفهاني (3/ 139)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 341)، شرح الكوكب المنير (4/ 209)، نهاية السول (4/ 27 - 28)، مفتاح الوصول (124). (¬3) ينظر: الإحكام للآمدي (4/ 6)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 223)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 247)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 339)، تيسير التحرير (4/ 76)، شرح الكوكب المنير (4/ 207). (¬4) ينظر: (90 - 91). (¬5) ينظر: المستصفى (3/ 602)، أساس القياس (65)، المحصول (5/ 20)، روضة الناظر (3/ 834 - 835) شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 353)، مجموع الفتاوى لابن تيمية (19/ 285 - 286)، إرشاد الفحول (2/ 596)، مذكرة أصول الفقه للشنقيطي (387 - 391).

كقرب الأَمَة من العبد؛ لأنه لا يحتاج التعرُّض للجامع؛ لكثرة ما فيه من الاجتماع " (¬1). الثاني: أن يُتَعَرَّض للوصف الجامع فيثبته في الأصل، ويظهر تأثيره في الحُكْم، ثم يبيِّن وجوده في الفرع، ولا يُلْتَفَت إلى الفوارق غير المؤثرة وإن كَثُرَت. وذهب الحنفية إلى عدم اعتبار " نفي الفارق " من القياس، وسمَّوه "استدلالاً"؛ وذلك لمنافاته عندهم حقيقة القياس، إذ إنَّ حقيقته التسوية بين أمرين، وهو حاصلٌ في القياس الذي يُبْنَى على العِلَّة ابتداءً، وهذا لم يُبْنَ على العِلَّة، وإنما قُصِدَ فيه نفي الفرق ليس إلا، فحصل الاجتماع بالقصد الثاني لا بالقصد الأول، فلم يكن على صورة المقايسة. (¬2) قال ابن الهمام الحنفي: "ولا يخفى أن هذا تقسيمٌ لما يطلق عليه لفظ القياس؛ إذ الجمع بنفي الفارق ليس من حقيقته " (¬3). وما ذكره الحنفية لا يُخْرِج الإلحاقَ بنفي الفارق عن كونه قياساً؛ لأنه " إن نُظِرَ إلى العِلَّة فهي واحدةٌ في الصورتين، أعني صورة التي ذُكِر الجامع فيها والتي تُعُرِّض فيها لنفي الفارق، وإن نُظِرَ إلى ما فيه العِلَّة فهما صورتان مختلفتان، إذ صورة الإفطار بالجماع غير صورة الإفطار بالأكل والشرب قطعاً، غاية ما في الباب أنه يُظَنُّ اتحاد العِلَّة في الصورة الأولى بالمناسبة أو بغيرها من الطرق من غير تعرُّضٍ لنفي ما عداها، فيحصل الجمع بين الصورتين بالقصد الأول، وفي الثانية تُعْلَم العِلَّة لنفي ما عداها عن درجة الاعتبار باستقراء أحكام الشرع، فيحصل نفي الفارق بين الصورتين بالقصد الأول، ويحصل الجمع بينهما بالقصد الثاني، وذلك لا يُخْرِجُه عن كونه قياساً " (¬4). ¬

(¬1) المستصفى: (3/ 602). (¬2) ينظر: المستصفى (3/ 602 - 603)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 353)، نهاية الوصول (7/ 3178)، البحر المحيط للزركشي (7/ 65)، التقرير والتحبير (3/ 282)، تيسير التحرير (4/ 77). (¬3) التحرير مع شرحه تيسير التحرير: (4/ 77). (¬4) نهاية الوصول: (7/ 3179).

وأياً كانت التسمية فالأمر في ذلك قريب، ولا مشاحة في الأسامي إذا استبانت المعاني؛ لأن من كان القياس عنده عبارة عن نوعٍ من الإلحاق تندرج تحته هذه الصور فإنما مخالفته في التسمية، فيكون الاختلاف في ذلك آيلاً إلى اللفظ ولا يترتب عليه فائدةٌ معنوية، وإن كان الأَوْلى تسمية الإلحاق بنفي الفارق قياساً؛ لأن النصَّ غيرُ مُشْعِرٍ به من طريق وضع اللغة (¬1). قال إمام الحرمين الجويني (¬2): " وهذه مسألة لفظيةٌ ليس وراءها فائدةٌ معنوية، ولكن الأمر إذا رُدَّ إلى حُكْم اللفظ فَعَدُّ ذلك من القياس أمثل؛ من جهة أن النصَّ غير مُشْعِرٍ به من طريق وضع اللغة وموضع اللسان" (¬3). ¬

(¬1) ينظر: البرهان (2/ 516 - 517)، المستصفى (3/ 601)، نهاية الوصول (7/ 3179)، البحر المحيط للزركشي (7/ 65)، إرشاد الفحول (2/ 596). (¬2) هو: عبدالملك بن عبدالله بن يوسف الجويني، الشافعي، الملقب بإمام الحرمين، العلامة الأصولي، الفقيه، من مؤلفاته: الورقات (ط)، والبرهان (ط)، والتلخيص، في أصول الفقه، ونهاية المطلب في الفقه الشافعي (ط)، وغيرها، توفي سنة (478 هـ). ينظر ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (5/ 165)، طبقات الشافعية لابن هداية الله (174)، الأعلام للزركلي (4/ 160). (¬3) البرهان: (2/ 516)

المبحث الثاني أقسام الإلحاق بإلغاء الفارق

المبحث الثاني أقسام الإلحاق بإلغاء الفارق يُقسِّم الأصوليون الإلحاق بـ " إلغاء الفارق " إلى قسمين (¬1): القسم الأول: أن يكون الإلحاق بـ "إلغاء الفارق" بين الأصل والفرع مقطوعاً به، ويُسَمَّى "القياس الجلي". وضابطه: أن لا يُحْتاج إلى التعرُّض للعِلَّة الجامعة بل يُتَعَرَّض للفارق، ويُعْلَم أنه لا فارق إلا كذا، ولا مدخل له في التأثير قطعاً (¬2). وهذا القسم على مرتبتين (¬3): المرتبة الأولى: أن يكون الفرع أولى بالحُكْم من الأصل مع القطع بنفي الفارق بينهما. ومثاله: إلحاق تحريم ضرب الوالدين بتحريم التأفيف لهما، فالفارق بين الأصل والفرع مقطوعٌ بنفي تأثيره؛ لأن الضرب أشدُّ في الأذى، فيكون أولى بالتحريم من التأفيف. ¬

(¬1) ينظر: البرهان (2/ 517)، المستصفى (3/ 593 - 602)، الإحكام للآمدي (4/ 6)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 350 - 355)، بيان المختصر للأصفهاني (3/ 140)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 247)، نهاية السول (4/ 27 - 28)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 339)، تيسير التحرير (4/ 76)، شرح الكوكب المنير (4/ 207 - 208)، نشر البنود (2/ 206)، نثر الورود (2/ 523 - 524). (¬2) ينظر: المستصفى (3/ 598)، روضة الناظر (3/ 834)، نهاية الوصول (7/ 3170 - 3171). (¬3) ينظر: المحصول (6/ 123 - 124)، المستصفى (3/ 593 - 598)، روضة الناظر (3/ 833 - 834)، الإبهاج (6/ 2236)، نهاية السول (4/ 27 - 28)، مذكرة أصول الفقه للشنقيطي (383 - 384).

القسم الثاني: أن يكون الإلحاق بـ "إلغاء الفارق" بين الأصل والفرع مظنونا به، ويسمي "القياس الخفي".

المرتبة الثانية: أن يكون الفرع مساوياً للأصل في الحُكْم، وليس أولى منه، ولا هو دونه، مع القطع بنفي الفارق بينهما. ومثاله: قوله صلى الله عليه وسلم: " من ابتاع عبداً وله مال فمالُهُ للذي باعه إلا أن يشترطه المُبتاع " (¬1) فإن الجارية في معناه؛ لأن الفارق بينهما وهو الأنوثة لا مدخل له في التأثير في باب البيع. القسم الثاني: أن يكون الإلحاق بـ "إلغاء الفارق" بين الأصل والفرع مظنوناً به، ويُسَمَّي "القياس الخفي". وضابطه: أن يتطرق الاحتمال إلى قول المجتهد: " لا فارق إلا كذا " بأن احتمل أن يكون ثَمَّ فارقٌ آخر، أو يتطرق الاحتمال إلى قوله: " لا مدخل له في التأثير " بأن احتمل أن يكون له مدخلٌ في التأثير (¬2). وهذا القسم - أيضاً - على مرتبتين (¬3): المرتبة الأولى: أن يكون الفرع أولى بالحُكْم من الأصل، إلا أن نفي الفارق بينهما ليس قطعياً، بل مظنوناً ظنَّاً قوياً مزاحِماً لليقين. ومثاله: وجوب الكفارة في قتل العَمْد أَوْلَى من وجوبها في قتل الخطأ؛ لأن فيه ما في الخطأ وزيادة عدوان، إلا أنه لا نقطع بنفي الفارق بينهما؛ لأن العَمْد نوعٌ يخالف الخطأ، فيجوز أن لا تقوى الكفارة على رفعه، بخلاف الخطأ. المرتبة الثانية: أن يكون الفرع مساوياً للأصل في الحُكْم، وليس أولى منه، ولا هو دونه، إلا أن نفي الفارق بينهما ليس قطعياً، بل مظنوناً ظنَّاً قوياً مزاحماً لليقين. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في "صحيحه "، كتاب المساقاة، باب الرجل يكون له مَمَرٌّ أو شِرْبٌ في حائطٍ أو في نخل، رقم (2379)، وأخرجه مسلم في"صحيحه"، كتاب البيوع، باب من باع نخلاً عليه ثمر، رقم (1543) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما. (¬2) ينظر: المستصفى (3/ 598)، روضة الناظر (3/ 834). (¬3) ينظر: المحصول (6/ 123 - 124)، المستصفى (3/ 598 - 602)، نهاية الوصول (7/ 3170 - 3171)، الإبهاج (6/ 2236 - 2238)، نهاية السول (4/ 27 - 28)، مذكرة أصول الفقه للشنقيطي (389 - 390).

مثاله: إلحاق الأَمَة بالعبد في سراية العتق التي دلَّ عليها قوله صلى الله عليه وسلم: " من أعتق شِرْكاً له في عبدٍ قوِّم عليه .. " (¬1)، فهذا الإلحاق لا يصل إلى درجة القطع؛ لاحتمال أن الشارع له اعتبارٌ في عتق الذَّكَر لم يكن في عتق الأنثى، ككونه يقف في صفوف القتال، ويولَّى القضاء والإمامة، وغير ذلك من الولايات، إلا أن هذا الاحتمال بعيد؛ لأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا يناط بهما حُكْم. وبهذا يكون حاصل أقسام الإلحاق بـ " إلغاء الفارق " أربعة أقسام: الأول: أن يكون الفرع أولى بالحُكْم من الأصل، مع القطع بنفي الفارق بينهما. الثاني: أن يكون الفرع مساوياً للأصل في الحُكْم، وليس أولى منه، ولا هو دونه، مع القطع بنفي الفارق بينهما. الثالث: أن يكون الفرع أولى بالحُكْم من الأصل، إلا أن نفي الفارق بينهما ليس قطعياً، بل مظنوناً ظنَّاً قوياً مزاحِماً لليقين. الرابع: أن يكون الفرع مساوياً للأصل في الحُكْم، إلا أن نفي الفارق بينهما ليس قطعياً، بل مظنوناً ظنَّاً قوياً مزاحِماً لليقين. قال الأمين الشنقيطي: "التحقيق أن نفي الفارق أربعة أقسام؛ لأن نفيه إما أن يكون قطعياً أو مظنوناً، وفي كلٍّ منهما إما أن يكون المسكوت عنه أولى بالحُكْم من المنطوق أو مساوياً له " (¬2). ¬

(¬1) سبق تخريجه: (66). (¬2) مذكرة أصول الفقه: (388).

المبحث الثالث العلاقة بين تنقيح المناط وإلغاء الفارق

المبحث الثالث العلاقة بين تنقيح المناط وإلغاء الفارق اختلفت اتجاهات الأصوليين في بيان العلاقة بين تنقيح المناط وإلغاء الفارق، وحاصلها ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول: يقصر تنقيح المناط على صورة الإلحاق بإلغاء الفارق، حيث يُقسِّم أصحاب هذا الاتجاه " إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه " إلى قسمين (¬1): الأول: الإلحاق باستخراج الجامع. والثاني: الإلحاق بإلغاء الفارق. ويطلقون على القسم الثاني مُسَمَّى: " تنقيح المناط "، وهو الذي يُسَمِّيه الحنفية بـ " الاستدلال " كما سبق بيانه (¬2). وقد ذهب إلى هذا الإتجاه: الرازي (¬3)، والبيضاوي (¬4)، والقرافي (¬5)، وصفي الدين الهندي (¬6)، والإسنوي (¬7)، والبدخشي (¬8) والشوكاني (¬9). ¬

(¬1) ينظر: المحصول (5/ 229 - 230)، شرح تنقيح الفصول (388)، الفائق في أصول الفقه (4/ 319 - 320)، الإبهاج (3/ 80)، إرشاد الفحول (2/ 596). (¬2) ينظر: (78). (¬3) ينظر: المحصول (5/ 229 - 230). (¬4) ينظر: منهاج الوصول (209). (¬5) ينظر: شرح تنقيح الفصول (398). (¬6) ينظر: نهاية الوصول (8/ 3381)، الفائق في أصول الفقه (4/ 27). (¬7) ينظر: نهاية السول (4/ 139). (¬8) ينظر: مناهج العقول (3/ 99). والبدخشي هو: محمد بن الحسن البَدَخْشي، فقيه، حنفي، أصولي، عالمٌ في المنطق والجدل، من مؤلفاته: مناهج العقول في شرح منهاج الوصول للبيضاوي (ط)، وحاشية على تحرير القواعد المنطقية في شرح الرسالة الشمسية، توفي سنة (922 هـ). ينظر ترجمته في: كشف الظنون (2/ 1063)، معجم المؤلفين (9/ 99) ولم أجد له ترجمة في المصادر المشهورة. (¬9) ينظر: إرشاد الفحول (2/ 641).

وبناءً عليه فإن أصحاب هذا الاتجاه يُعَرِّفون تنقيح المناط - كما سبق - بأنه: الاجتهاد في إلغاء الفارق بين الأصل والفرع (¬1). وهو أن يقال: لا فرق بين الفرع والأصل إلا كذا وكذا، وذلك لا مدخل له في الحُكْم ألبتة، فيلزم اشتراكها في الحُكْم. الاتجاه الثاني: يغاير بين تنقيح المناط وإلغاء الفارق. وقد ذهب إلى هذا الاتجاه: الغزالي (¬2)، والبروي (¬3)، وابن السبكي (¬4)، والزركشي (¬5)، وابن العطَّار (¬6). وبناءً على المغايرة بينهما فإن أصحاب هذا الاتجاه يُعرِّفون "تنقيح المناط " - كما سبق- بـ: أن يدل نصٌّ ظاهرٌ على التعليل بوصفٍ فَيُحْذَف خصوصه عن الاعتبار ويُنَاطُ الحُكْم بالمعنى الأعمِّ، أو يقترن بالحُكْم أوصافٌ مذكورةٌ في النصِّ لا مدخل لها في العِلِّية فتُحْذْف عن الاعتبار، ويُنَاطُ الحُكْم بالباقي (¬7). ويُعرِّفون " إلغاء الفارق " - كما سبق - بأنه: بيان أن الفرق بين الأصل والفرع لا مدخل له في التأثير، فيلزم اشتراكهما في الحُكْم (¬8). ويُفرِّق أصحاب هذا الاتجاه بينهما بأن " تنقيح المناط ": اجتهادٌ في الحذف والتعيين؛ فهو اجتهادٌ في حذف خصوص الوصف المذكور في النصِّ عن الاعتبار وإناطة الحُكْم بالمعنى الأعمِّ، أو اجتهادٌ في حذف بعض الأوصاف المذكورة في النصِّ وتعيين الباقي من الأوصاف عِلَّةً للحُكْم، وفي ¬

(¬1) ينظر: (65 - 67). (¬2) ينظر: أساس القياس (68 - 69)، المستصفى (3/ 603). (¬3) ينظر: المقترح في المصطلح (231 - 234). (¬4) انظر: جمع الجوامع (95)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 292 - 293)، الغيث الهامع (3/ 737). (¬5) ينظر: البحر المحيط (7/ 326)، تشيف السامع (3/ 322). (¬6) ينظر: حاشية ابن العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 338). (¬7) ينظر: (64 - 65). (¬8) ينظر: (86).

كلتا الصورتين لابدَّ فيه من تعيين العِلَّة (¬1). أما "إلغاء الفارق" فهو اجتهادٌ في إلغاء الوصف الفارق بين الأصل والفرع ببيان عدم تأثيره في الحُكْم، وليس فيه تعيينٌ للعِلَّة، وإنما يدل على أن عِلَّة الأصل من حيث الجملة مُتَحَقِّقَةٌ في الفرع من غير تعيين (¬2). قال الزركشي: "ولهذا لم يَعُدُّه -أي: إلغاء الفارق- أحدٌ من الجدليين من مسالك العِلَّة" (¬3). الاتجاه الثالث: يُعِتبر إلغاء الفارق قسماً من تنقيح المناط، حيث يُقسِّم أصحاب هذا الاتجاه تنقيح المناط إلى قسمين (¬4): القسم الأول: الاجتهاد في إلغاء الفارق. و"إلغاء الفارق" - كما سبق - هو: بيان أن الفرق بين الأصل والفرع لا مدخل له في التأثير، فيلزم اشتراكهما في الحُكْم (¬5). قال ناظم "مراقي السعود" (¬6): فمنه ما كان بإلغاء الفارق ... وما بغيرٍ من دليلٍ رائق قال شارحه: "يعني: أن إلغاء الفارق قسمٌ من تنقيح المناط وإن جعله السبكي العاشر من مسالك العِلَّة، ويُسمَّى حينئذٍ تنقيح المناط وإلغاء الفارق" (¬7). وقال -أيضاً-: " وهو -أي: إلغاء الفارق- عند التحقيق قسمٌ من تنقيح المناط؛ لأن حذف خصوص الوصف عن الاعتبار قد يكون بإلغاء الفارق، ¬

(¬1) ينظر: أساس القياس (68 - 69)، المستصفى (3/ 603)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 292 - 293)، سلم الوصول للمطيعي (4 - 139 - 141)، نبراس العقول (384 - 385). (¬2) ينظر: المراجع السابقة. (¬3) البحر المحيط (7/ 326). (¬4) ينظر: شرح مختصر الروضة (3/ 244 - 245)، نشر البنود (2/ 205 - 207)، نثر الورود (2/ 523 - 524)، مذكرة أصول الفقه للشنقيطي (390). (¬5) ينظر: (86). (¬6): (16). (¬7) نشر البنود: (2/ 205).

وقد يكون بدليلٍ آخر " (¬1). وقال الأمين الشنقيطي: "يعني: أن من تنقيح المناط قسماً يقال له إلغاء الفارق فُسُمِّيَ تنقيح المناط وإلغاء الفارق، خلافاً لمن جعل إلغاء الفارق مسلكاً عاشراً كالسبكي" (¬2). وهذا الإطلاق يشمل جميع أقسام إلغاء الفارق التي تقدَّم ذكرها في المبحث السابق (¬3). قال الأمين الشنقيطي: " اعلم أن نفي الفارق الذي ذكرنا أقسامه الأربعة إنما هو قسمٌ من تنقيح المناط " (¬4). القسم الثاني: الاجتهاد في الحذف والتعيين. وصورته: الاجتهاد في حذف بعض الأوصاف المذكورة في النصِّ، وتعيين الباقي من الأوصاف عِلَّةً للحُكْم (¬5). قال ناظم "مراقي السعود" (¬6): من المناط أن تجي أوصافُ ... فبعضها يأتي له انحذافُ عن اعتباره وما قد بقيا ... ترتب الحُكْم عليه اقْتُفِيا قال شارحه: " يعني: أن هذا القسم من تنقيح المناط، وهو قسيمٌ للقسم الأول، وهو: أن تكون أوصافٌ في محلِّ الحُكْم فَيُحْذَف بعضها عن الاعتبار بالاجتهاد، ويُنَاطُ الحُكْم بالباقي من الأوصاف، وحاصله أن الاجتهاد في الحذف والتعيين " (¬7). وقد ذهب إلى هذا الاتجاه: الطُّوفي (¬8)، وعبدالله الشنقيطي صاحب ¬

(¬1) المرجع السابق: (2/ 200). (¬2) نثر الورود: (2/ 523). (¬3) ينظر: (64 - 65). (¬4) مذكرة أصول الفقه: (390). (¬5) ينظر: (64 - 65). (¬6): (16). (¬7) نشر البنود: (2/ 207). (¬8) ينظر: شرح مختصر الروضة (3/ 244 - 245).

تحليل اتجاهات الأصوليين والترجيح بينها

مراقي السعود (¬1)، ومحمد الأمين الشنقيطي (¬2). وبناءً على ما سبق فإنه يصح عندهم إطلاق مُسَمَّى " تنقيح المناط " على " إلغاء الفارق "، وذلك باعتباره قسماً من أقسامه. قال الطُّوفي: " لا بأس بتسمية إلغاء الفارق تنقيحاً؛ إذ التنقيح هو التخليص والتصفية، وبإلغاء الفارق يصفو الوصف ويخلص للعِلِّية، فلا يكون هذا قولاً ثانياً في تنقيح المناط كما قال القرافي، بل يكون إلغاء الفارق ضرباً من تنقيح المناط" (¬3). تحليل اتجاهات الأصوليين والترجيح بينها: من خلال تأمل اتجاهات الأصوليين في بيان العلاقة بين تنقيح المناط وإلغاء الفارق تبين لي الآتي: أولاً: إذا عمَّمنا النظر في إلغاء الفارق عند أصحاب الاتجاه الأول بحيث يشمل ما إذا تعينت العِلَّة بعد الإلغاء أو لم تتعين يكون تنقيح المناط عندهم أعمّ منه عند أصحاب الاتجاه الثاني؛ وذلك لأن تنقيح المناط عند أصحاب الاتجاه الثاني لابدَّ فيه من تعيين العِلَّة، والذي يظهر من تعريف أصحاب الاتجاه الأول لتنقيح المناط أنه غير مقيدٍ بتعيين العِلَّة أو عدمه، فيكون إلغاء الفارق أعمّ من تنقيح المناط عند أصحاب الاتجاه الثاني الذين يغايرون بينهما (¬4). ثانياً: اعتبر أصحاب الاتجاه الثاني الذين يُفرِّقون بين تنقيح المناط وإلغاء الفارق أن المقصود الأصلي المنظور إليه في إلغاء الفارق هو بيان أن الوصف الفارق بين الأصل والفرع لا تأثير له فيلزم اشتراكهما في الحُكْم، إلا ¬

(¬1) ينظر: نشر البنود (2/ 205 - 207). عبدالله الشنقيطي هو: عبدالله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي، فقيهٌ مالكي، تجرَّد أربعين سنة لطلب العلم في الصحاري والمدن، وأقام بفاس، ثم حج وعاد إلى بلاده شنقيط، من مؤلفاته: مراقي السعود (ط) نظمٌ في أصول الفقه، ونشر البنود على مراقي السعود (ط)، وغيرهما، توفي بشنقيط سنة (1235 هـ). ينظر ترجمته في: الوسيط في تراجم أدباء شنقيط (38)، الأعلام للزركلي (4/ 65). (¬2) ينظر: نثر الورود (2/ 523 - 524)، مذكرة أصول الفقه (390). (¬3) شرح مختصر الروضة (3/ 244 - 245). (¬4) ينظر: الإبهاج (3/ 81)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 292 - 293)، حاشية ابن العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 338)، سلم الوصول للمطيعي (4/ 139 - 141)، نبراس العقول (384).

أنه بالتأمل يلزم عن ذلك تبعاً حذف خصوصية الوصف الذي دلَّ ظاهر النصِّ على عِلِّيته صراحةً أو إيماءً، وإناطة الحُكْم بالمعنى الأعمّ الذي هو أحد صور تنقيح المناط كما سبق (¬1)، فإلحاق الأَمَة بالعبد في السراية بناءً على إلغاء الوصف الفارق وهو أن العبد مُذَكَّرٌ وأن الأَمَة مؤنَّثٌ يلزم عنه حذف خصوصية الوصف وهو الذكورة في العبد، وإناطة الحُكْم بالمعنى الأعمّ وهو العبودية، ولكن ذلك غير منظورٍ إليه بالقصد الأصلي عند أصحاب الاتجاه الثاني؛ لأن المقصود - عندهم - هو إلغاء تأثير الوصف الفارق في الحُكْم ليس إلا، ولا ينفي ذلك حصول الجمع بين الصورتين، ولكن بالقصد الثاني (¬2). قال صفي الدين الهندي: " تُعْلَم العِلَّة لنفي ما عداها عن درجة الاعتبار باستقراء أحكام الشرع، فيحصل نفي الفارق بين الصورتين بالقصد الأول، ويحصل الجمع بينهما بالقصد الثاني" (¬3). أما أصحاب الاتجاه الثالث الذين يُعتبرون إلغاء الفارق من أقسام تنقيح المناط فإنهم نظروا إلى أن إلغاء الفارق طريقٌ إلى حذف خصوصية الوصف الذي دلَّ ظاهر النصِّ على عِلِّيته صراحةً أو إيماءً وإناطة الحُكْم بالمعنى الأعمِّ، ولذلك قسَّموا تنقيح المناط إلى قسمين كما سبق (¬4)، قسمٌ يكون فيه تنقيح المناط بإلغاء الفارق، وقسمٌ يكون فيه تنقيح المناط بالحذف والتعيين (¬5). فمن نظر إلى أن المقصود من إلغاء الفارق هو إلغاء الوصف الفارق بين الأصل والفرع ببيان أنه لا أثر له في الحُكْم، وليس فيه تعيينٌ للعِلَّة، فرَّق بناءً على ذلك بين تنقيح المناط وإلغاء الفارق. ¬

(¬1) ينظر: (64). (¬2) ينظر: شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 292 - 293)، حاشية ابن العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 338)، سلم الوصول للمطيعي (4/ 139 - 141)، نشر البنود (2/ 205 - 206)، نثر الورود (2/ 523 - 524). (¬3) نهاية الوصول: (7/ 3179). (¬4) ينظر: (64 - 65). (¬5) ينظر: نشر البنود (2/ 205 - 206)، نثر الورود (2/ 523 - 524)، مذكرة أصول الفقه للشنقيطي (390).

ومن نظر إلى أن إلغاء الفارق طريقٌ إلى حذف خصوصية الوصف الذي دلَّ ظاهر النصِّ على عِلِّيته، وإناطة الحُكْم بالمعنى الأعم، اعتبر إلغاء الفارق من أقسام تنقيح المناط. ثالثاً: الذي يفرِّقون بين تنقيح المناط وإلغاء الفارق بناءً على تعيين العِلَّة وعدمه لا ينفون عن إلغاء الفارق تصوُّر المعنى الجامع على الإجمال. قال الغزالي: " وهذا يدلُّك على أن هذا الطريق وإن كان راجعاً إلى التعرُّض للفارق فليس يخلو عن توسُّم المعنى الجامع على إجمالٍ من غير تفصيل " (¬1). ولذلك استدلَّ القرافي على حجية تنقيح المناط باعتباره اجتهاداً في إلغاء الفارق بين الأصل والفرع فقال: "الأصل في كلِّ مِثْلَيْن أن يكون حكمهما واحداً، فإذا استوى صورتان ولم يوجد بينهما فارقٌ فالظن القوي القريب من القطع أنهما مستويان في الحُكْم. . . فوجب كونه دليلاً على عِلِّية المشترك على سبيل الإجمال وإن كنا لا نُعيِّنَه، بل نجزم بأن ما اشتركا فيه هو موجب العِلَّة" (¬2). وقال الزركشي: "فإنه -أي: نفي الفارق- لا يدل على أن الوصف المعين عِلَّةٌ، وإنما يدل على أن عِلَّة الأصل من حيث الجملة مُتَحَقِّقةٌ في الفرع من غير تعيين" (¬3). بل إن الغزالي يُعِتبر توسُّم المعنى المشترك على سبيل الإجمال ذلك شرطاً في جواز الإلحاق بإلغاء الفارق دون تحديد المناط أوتعيينه. قال -رحمه الله-: "اعلم أن حذف تأثير الفارق وإن جوَّزنا الإلحاق به دون تنقيح المناط واستنباط العِلَّة وتعيينها، ولكن الحقّ فيه أن ذلك لا يُتجاسر عليه ¬

(¬1) أساس القياس: (69). (¬2) شرح تنقيح الفصول: (399). (¬3) البحر المحيط: (7/ 326).

الترجيح بين الاتجاهات السابقة

إلا بعد استنشاق رائحة المعنى الذي هو مناط الحُكْم، وإن لم يُطلَّع بَعْدُ على تحديدْه أو تعيينه " (¬1). ولهذا المعنى عَدَّ ابن السبكي " إلغاء الفارق " ضمن مسالك العِلَّة، وذكر أنه يرجع إلى ضرب شبه؛ لأنه يحصل به ظن العِلِّية في الجملة (¬2). وإذا كان "إلغاء الفارق "لا يخلو من وجود معنىً جامعٍ مجملٍ بخلاف "تنقيح المناط" الذي لابد فيه من تعيين المعنى الجامع، فقد قيَّد الغزالي المواضع التي يُحْذَف فيها تأثير الفارق، ويجوز الإلحاق به دون تنقيح المناط واستنباط العِلَّة وتعيينها، حيث قال: "والطريق الأول الذي هو التعرُّض للفارق ونفيه ينتظم: حيث لم تُعْرف عِلَّة الحُكْم، بل ينتظم في حُكْمٍ لا يُعَلَّل، وينتظم حيث عُرِف أنه مُعَلَّل، لكن لم تتعين العِلَّة، فإنا نقول: الزبيب في معنى التمر في الرِّبا قبل أن يتعين -عندنا- عِلَّة الرِّبا أنه الطعم أو الكيل أو القوت، وينتظم حيث ظهر أصل العِلَّة وتعيَّن -أيضاً- ولكن لم تتلخَّص بَعْدُ أوصافه، ولم تتحرَّر بَعْدُ قيوده وحدوده" (¬3). الترجيح بين الاتجاهات السابقة: من خلال ما سبق من المقارنة بين اتجاهات الأصوليين في بيان العلاقة بين تنقيح المناط وإلغاء الفارق فإنه يترجَّح -والعلم عند الله- أن "إلغاء الفارق" إذ أُظْهِر معه حذف خصوصية الوصف الذي دلَّ ظاهر النصِّ على عِلِّيته صراحةً أو إيماءً، وأنيط الحُكْم بالمعنى الأعمِّ بعد تعيينه، فهو أحد صور تنقيح المناط. قال الغزالي: " وإنما الشأن في تنقيح المناط وتلخيصه وتجريده عن كلِّ ما لا مدخل له في الاعتبار، وتقييده بكلِّ وصفٍ له دَخْلٌ في الاعتبار، حتى يصير محدوداً مميزاً لا يدخل فيه ما ليس منه، ولا يخرج منه ما هو مناطٌ ¬

(¬1) أساس القياس: (68 - 69). (¬2) ينظر: جمع الجوامع (95)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 293). (¬3) المستصفى: (3/ 603).

للحُكْم أصلاً" (¬1). ومن الأمثلة التي توضح ذلك: إلغاء الوصف الفارق وهو الذُّكورة بين العبد والأَمَة في قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وذلك بحذف خصوصية الوصف الذي دلَّ ظاهر النصِّ على عليِّته وهو " الأنوثة "، وتعيين وصف " الرِّق " مناطاً للحُكْم الذي هو تشطير الحدِّ، فوجب استواؤهما فيه (¬2). ففي هذا المثال لم يُقْتَصَر على التعرُّض لنفي الفارق وهو "الذكورة"، بل تعيَّن مناط الحُكْم وهو "الرِّق" بحذف خصوصية الوصف الذي دلَّ ظاهر النصِّ على عِلِّيته وهو "الأنوثة"، فحينئذٍ يصدق على هذه الصورة تسميتها بـ " تنقيح المناط "؛ لأن مناط الحُكْم -هنا- تعيَّن وتميَّز. أما إذا اقْتُصِرَ على إلغاء الوصف الفارق بين الأصل والفرع، ولم تُعَيَّن فيه العِلَّة وتتميَّز كما لو كان ذلك في الحالات التي ذكرها الغزالي (¬3) فإنه لا يُعَدُّ إلغاء الفارق في هذه الصورة من تنقيح المناط؛ لأن "تنقيح المناط" يعني: تهذيب العِلَّة وتمييزها، فإذا لم تُعيَّن العِلَّة وتُهَذَّب لم تصدق التسمية بذلك. ¬

(¬1) أساس القياس: (51). (¬2) ينظر: شرح تنقيح الفصول (388)، رفع النقاب عن تنقيح الشهاب (5/ 288)، نثر الورود (2/ 522)، نشر البنود (2/ 205). (¬3) ينظر: (99 - 100).

الفصل الرابع العلاقة بين تنقيح المناط والسبر والتقسيم

الفصل الرابع العلاقة بين تنقيح المناط والسَّبْر والتقسيم ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: تعريف السَّبْر والتقسيم لغةً واصطلاحاً. المبحث الثاني: العلاقة بين تنقيح المناط والسَّبْر والتقسيم.

المبحث الأول تعريف السبر والتقسيم لغة واصطلاحا

المبحث الأول تعريف السَّبْر والتقسيم لغةً واصطلاحاً سأتناول في هذا المبحث تعريف السَّبْر والتقسيم لغةً واصطلاحاً، وذلك من خلال مطلبين: المطلب الأول: تعريف السَّبْر والتقسيم لغةً. السَّبْر في اللغة هو: التجربة، والاختبار، واستخراج كُنْه الأمر. وسَبَرَ الشيء سَبْرَاً: حَزَرَه وخَبَرَه. وسَبَرَ الجرح: إذا نظر مقداره وقاسه ليعرف غَوْره. والمِسْبار: ما سُبِر به وقُدِّر غَوْرُ الجراحات (¬1). والتقسيم في اللغة هو: التفريق، والتجزئة. وقسَّم الشيء: إذا جزَّأه وفرَّقه. وقسَّمهم الدهر فتقسَّموا، أي: فرَّقهم فتفرَّقوا (¬2). ¬

(¬1) ينظر: الصحاح (2/ 675)، معجم مقاييس اللغة (3/ 127)، لسان العرب (7/ 109)، تاج العروس (3/ 252) " مادة: س ب ر ". (¬2) ينظر: الصحاح (5/ 2011)، معجم مقاييس اللغة (5/ 86)، لسان العرب (12/ 102 - 103)، تاج العروس (12/ 103) " مادة: ق س م ".

المطلب الثاني: تعريف السبر والتقسيم اصطلاحا.

المطلب الثاني: تعريف السَّبْر والتقسيم اصطلاحاً. السَّبْر والتقسيم لقبٌ مركبٌ من جزأين يُطلق في اصطلاح الأصوليين على مسلكٍ خاصٍّ من مسالك العِلَّة، وهو: حصر الأوصاف الموجودة في الأصل المقيس عليه، وإبطال ما لا يصلح منها للعِلِّية، فيتعين الباقي عِلَّةً (¬1). وسُمِّي هذا المسلك بالسَّبْر وحَدْه، وبالتقسيم وحَدْه، وبالسَّبْر والتقسيم مركَّباً عند أكثر الأصوليين (¬2). فالسَّبْر والتقسيم - كما هو ظاهرٌ من التعريف - يشتمل على أمرين (¬3): أحدهما: حصر الأوصاف الموجودة في الأصل المحتمِلة للتعليل، وهو المُعبَّر عنه بـ " التقسيم ". وثانيهما: اختبار الأوصاف واحداً واحداً في صلاحيته للتعليل به، وإبطال ما لا يصلح منها للتعليل، فيتعين الوصف الباقي للعِلِّية، وهو المُعبَّر عنه بـ" السَّبْر". قال الجويني: " إن الناظر يبحث عن معانٍ مجتمعةٍ في الأصل، ويتتبعها واحداً واحداً، ويبيِّن خروج آحادها عن صلاح التعليل به إلا واحداً يراه ويرضاه" (¬4). ومثاله: أن يقول المجتهد: إن تحريم بيع البُرِّ بالبُرِّ متفاضلاً ثبت لعِلَّة، ¬

(¬1) ينظر: المستصفى (3/ 618)، المحصول (5/ 218)، الإحكام للآمدي (3/ 333)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 236)، البحر المحيط للزركشي (7/ 284)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 270)، تيسير التحرير (4/ 46)، شرح الكوكب المنير (4/ 142)، إرشاد الفحول (2/ 623). (¬2) ينظر: الضياء اللامع (2/ 351)، شرح الكوكب المنير (4/ 142)، نشر البنود (2/ 159)، مذكرة أصول الفقه للشنقيطي (400). (¬3) ينظر: شرح تنقيح الفصول (398)، نهاية الوصول (8/ 3361)، الإبهاج (3/ 77)، نهاية السول (4/ 129)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 270)، تيسير التحرير (4/ 46)، إرشاد الفحول (2/ 623)، نثر الورود (2/ 485). (¬4) البرهان: (2/ 534).

وهذه العِلَّة إما أن تكون " الكيل" أو " الطُّعْم" أو " القوت "، ثم يختبر تلك الأوصاف ويُبطل ما لا يصلح أن يكون عِلَّةً، والباقي من الأوصاف يتعين عِلَّةً للحُكْم، فيبطل - مثلاً - " القوت " و " الكيل " فلا يبقى إلا " الطُّعم " فيكون عِلَّةً للحُكْم، أو يبطل - مثلاً - " الطُّعم "، و" الكيل " فلا يبقى إلا " القوت " فيكون عِلَّةً للحُكْم (¬1). ورغم أن " التقسيم " متقدمٌ في الترتيب الخارجي على " السَّبْر" إلا أنه في اصطلاح الأصوليين كما هو ظاهرٌ في لقب المسلك قُدِّم " السَّبْر" على " التقسيم "؛ لأن " السَّبْر" هو المقصد الأهم في الدلالة على العِلِّية، و" التقسيم " يُعْتَبر وسيلةً إليه، والعادة تقديم الأهمِّ على غيره، والمقصد على الوسيلة (¬2). قال الطُّوفي: " ولو حملنا قولهم: " السَّبْر والتقسيم " على معنى سَبْر العِلَّة بتقسيم الأوصاف لعاد إلى ما قاله - أي: القرافي - إذ ذلك يفيد أن التقسيم سببٌ للسَّبْر " (¬3). أو يُقال: إن السَّبْر وإن تأخر عن التقسيم فهو متقدِّم عليه أيضاً؛ لأنه أولاً يَسْبُر المحلَّ هل فيه أوصافٌ أم لا ثم يقسِّم، ثم يَسْبُر ثانياً، فقُدِّم " السَّبْر" في اللفظ باعتبار السَّبْر الأول (¬4). ¬

(¬1) ينظر: المستصفى (3/ 618)، المحصول (5/ 217)، الإبهاج (4/ 134)، نهاية السول (4/ 134)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 236)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 270)، شرح الكوكب المنير (4/ 144)، إرشاد الفحول (623). (¬2) ينظر: نفائس الأصول (8/ 3524)، شرح تنقيح الفصول (398)، شرح الكوكب المنير (4/ 143)، نشر البنود (2/ 164 - 165)، نبراس العقول (369). (¬3) شرح مختصر الروضة (3/ 411). (¬4) ينظر: تشنيف المسامع (3/ 275 - 276)، الغيث الهامع (3/ 709)، حاشية زكريا الأنصاري على شرح جمع الجوامع (3/ 344)، شرح الكوكب المنير (4/ 143)، نشر البنود (2/ 164).

المبحث الثاني العلاقة بين تنقيح المناط والسبر والتقسيم

المبحث الثاني العلاقة بين تنقيح المناط والسَّبْر والتقسيم تقدَّم أن تنقيح المناط هو: أن يدل نصٌّ ظاهرٌ على التعليل بوصفٍ، فَيُحْذَف خصوصه عن الاعتبار، ويُناط الحُكْم بالمعنى الأعمِّ، أو يقترن بالحُكْم أوصافٌ مذكورةٌ في النصِّ لا مدخل لها في العِلِّية، فتُحْذَف عن الاعتبار، ويُنَاطُ الحُكْم بالباقي (¬1). كما تقدَّم أن السَّبْر والتقسيم هو: حصر الأوصاف الموجودة في الأصل المقيس عليه، وإبطال ما لا يصلح منها للعِلِّية، فيتعين الباقي عِلَّةً (¬2). فهل يوجد فرقٌ بين تنقيح المناط والسَّبْر والتقسيم، وما العلاقة بينهما؟ اختلف الأصوليون في ذلك على ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول: ذهب إلى أن تنقيح المناط يختصُّ بالأوصاف التي دلَّ عليها ظاهر النصِّ، أما السَّبْر والتقسيم فإنه يختصُّ بالأوصاف المستنبَطة الصالحة للعِلِّية، حيث لا يوجد نصٌّ يدل على مناط الحُكْم صراحةً أو إيماءً. قال زكريا الأنصاري (¬3): "السَّبْر يجب فيه حصر الأوصاف الصالحة للعِلِّية، ثم إلغاؤها ما عدا ما ادُّعيَّ عِلِّيته، وتنقيح المناط بالمعنى المذكور إنما يُلاحَظ فيه الأوصاف التي دلَّ عليها ظاهر النصِّ" (¬4). وقال ابن العطَّار: " والفرق بين المسلك بهذا المعنى ومسلك السَّبْر: أن ¬

(¬1) ينظر: (71). (¬2) ينظر: (103). (¬3) هو: زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري المصري الشافعي، كان قاضياً، ومفسِّراً، ومن حفاظ الحديث، له تصانيف كثيرة، منها: غاية الوصول (ط) في أصول الفقه، ولب الأصول (ط) في أصول الفقه اختصره من جمع الجوامع، وحاشية على شرح المحلي على جمع الجوامع (ط)، وأسنى المطالب في شرح روض الطالب (ط) في الفقه، وغيرها، توفي بالقاهرة سنة (926 هـ). ينظر في ترجمته: الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة (1/ 196)، الأعلام للزركلي (3/ 46 - 47). (¬4) حاشية زكريا الأنصاري على شرح المحلي على جمع الجوامع: (3/ 392).

السَّبْر يجب فيه حصر الأوصاف الصالحة للعِلِّية ثم إلغاؤها ما عدا ما ادُّعيَّ عِلِّيته، وتنقيح المناط بالمعنى المذكور إنما يُلاحَظ فيه الأوصاف التي دلَّ عليها ظاهر النصِّ، وإن كان الحصر فيه أيضاً موجودٌ لكنه غير ملاحَظٍ فهو حاصلٌ غير مقصود، وحينئذٍ فلا يقال مع عدم الحصر لا يتأتَّى معرفة الصالح للعِلِّية من غيره حتى يُحذْفَ غير الصالح عن الاعتبار" (¬1). الاتجاه الثاني: ذهب إلى أن تنقيح المناط لا يجب فيه تعيين العِلَّة، أما السَّبْر والتقسيم فلابد من تعيين الجامع، والاستدلال على العِلِّية. وهذا مبنيٌّ على تعريف تنقيح المناط بأنه: الإلحاق بإلغاء الفارق، وذلك بأن يقال: هذا الحُكْم لابدَّ له من عِلَّة، وهي إما المشترك بين الأصل والفرع أو المختصُّ بالأصل، والثاني باطل؛ لأن الفارق ملغي، فيتعيَّن الأول، فيلزم ثبوت الحُكْم في الفرع لثبوت عِلِّيته فيه (¬2). قال ابن السبكي: " فإن قلت: هذه الطريقة بعينها هي طريقة السَّبْر والتقسيم، قلت: كذا قال الإمام، ولكن يمكن أن يُفرَّق بينهما بأن السَّبْر والتقسيم لابدَّ فيه من تعيين الجامع والاستدلال على العِلِّية، وأما هذا فلا يجب فيه تعيين العِلَّة، ولكن ضابطه أنه لا يحتاج إلى التعرُّض للعِلَّة الجامعة، بل يُتَعَرَّض للفارق، ويُعْلَم أنه لا فارق إلا كذا، ولا مدخل له في التأثير " (¬3). وقال الشوكاني: "وقد زعم الفخر الرازي أن هذا المسلك هو مسلك السَّبْر والتقسيم فلا يحسُنُ عدُّه نوعاً آخر، ورُدَّ عليه بأن بينهما فرقاً ظاهراً، وذلك أن الحصر في دلالة السَّبْر والتقسيم لتعيين العِلَّة إما استقلالاً أو اعتباراً، وفي تنقيح المناط لتعيين الفارق وإبطاله، لا لتعيين العِلَّة " (¬4). الاتجاه الثالث: ذهب إلى أن تنقيح المناط هو استخراج العِلَّة بطريق السَّبْر والتقسيم. ¬

(¬1) حاشية ابن العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع: (2/ 337). (¬2) ينظر: (65 - 67). (¬3) الإبهاج: (3/ 81). (¬4) إرشاد الفحول: (2/ 641).

تحليل اتجاهات الأصوليين والترجيح بينها

وهذا مبنيٌّ - أيضاً - على تعريفهم تنقيح المناط بأنه: الإلحاق بإلغاء الفارق، وذلك بأن يقال: هذا الحُكْم لابد له من مؤثِّر، وذلك المؤثِّر إما القدر المشترك بين الأصل والفرع، أو القدر الذي امتاز به الأصل عن الفرع، والثاني باطل؛ لأن الفارق ملغي، فثبت أن المشترك هو العِلَّة، فيلزم من حصوله في الفرع ثبوت الحُكْم (¬1). قال الفخر الرازي: " فهذا طريقٌ جيد، إلا أنه استخراج العِلَّة بطريق السَّبْر؛ لأنَّا قلنا: حُكْم الأصل لابدَّ له من عِلَّة، وهي إما جهة الإشتراك أوجهة الامتياز، والثاني باطل، فتعيَّن الأول، وجهة الاشتراك حاصلةٌ في الفرع، فعِلَّة الحُكْم حاصلةٌ في الفرع، فيلزم تحقُّق الحُكْم في الفرع، فهذا هو طريقة السَّبْر والتقسيم من غير تفاوتٍ أصلاً " (¬2). أما الشيخ الأمين الشنقيطي فقد اعتبر النوع الثاني فقط من تنقيح المناط هو بعينه طريق السَّبْر والتقسيم (¬3). قال- رحمه الله-: "النوع الثاني من تنقيح المناط هو بعينه السَّبْر والتقسيم" (¬4). والنوع الثاني - كما تقدَّم (¬5) هو: " أن يقترن بالحُكْم أوصافٌ مذكورةٌ في النصِّ لا مدخل لها في العِلِّية، فتُحْذَف عن الاعتبار، ويُنَاطُ الحُكْم بالباقي ". تحليل اتجاهات الأصوليين والترجيح بينها: من خلال تأمل اتجاهات الأصوليين في بيان الفرق بين تنقيح المناط والسَّبْر والتقسيم والعلاقة بينهما تبيَّن لي الآتي: أولاً: إن أصحاب الإتجاه الأول يعتبرون السَّبْر والتقسيم مسلكاً مستقلاً في إثبات العِلِّية، ويفرِّقون بينه وبين تنقيح المناط بأن السَّبْر والتقسيم يختصُّ ¬

(¬1) ينظر: (65 - 67). (¬2) المحصول: (5/ 123 - 231). (¬3) ينظر: نثر الورود (2/ 524)، مذكرة أصول الفقه (390). (¬4) نثر الورود: (2/ 524). (¬5) ينظر: (64 - 65).

بالأوصاف المستنبَطة، حيث لا يوجد نصٌّ صريحٌ أو مومئٌ يدل على مناط الحُكْم، أما تنقيح المناط فيختصُّ بالأوصاف التي دلَّ عليها ظاهر النصِّ. واعتبار السَّبْر والتقسيم مسلكاً مستقلاً في إثبات العِلِّية يختصُّ بالأوصاف المستنبطة فيه نظر؛ لأن السَّبْر والتقسيم ليس دليلاً مستقلاً على العِلِّية يختصُّ بالأوصاف المستنبَطة، بل يصلح الاستدلال به في أكثر طرق إثبات العِلَّة بوجهٍ أو بآخر، ومن ذلك مسلك النصِّ ومسلك الإيماء والتنبيه اللَّذَان تعلَّق بهما الاجتهاد في تنقيح المناط. قال الأبياري: " السَّبْر يرجع إلى اختبارٍ في أوصاف المحلِّ وضبطها، والتقسيم يرجع إلى إبطال ما يظهر إبطاله فيها، فإذاً لا يكون من الأدلة بحال، وإنما تسامح الأصوليون بذلك؛ لأن المراد بالدليل هو الذي دلَّ على أن العِلَّة في جملة الأوصاف، والدليل الثاني دلَّ على التعيين، وإلا فالسَّبْر والتقسيم ليس هو دليلاً " (¬1). وقال البروي: " واعلم أن دلالة السَّبْر تدخل في كثيرٍ من الأدلة، مثل تخريج المناط على شيوعه في المناظرات لا يتم إلا بدلالة السَّبْر، فإن من علَّل بمناسبٍ مقرونٍ بالحُكْم لا يستقل ما ذكره عِلَّةً إلا بتقدير انتفاء مناسبٍ آخر، ولا يُعْتَمد في نفيه إلا السَّبْر .. " (¬2). ونقل الزركشي عن أبي العباس القرطبي (¬3) أنه قال: " أكثر النُظَّار عدَّوا هذا المسلك أي: السَّبْر والتقسيم - دليلاً على التعليل، وفيه نظر؛ وذلك أن ما ينفيه السَّبْر لابدَّ وأن يكون ظاهر المناسبة وهو قياس العِلَّة، أو صالحاً لها وهو الشبه، فالتحقيق أن يقال على التعليل هنا هو المناسبة غير أن السَّبْر عيَّنَ دليلَ الوصف، فالسَّبْر إذاً شرطٌ لا دليل، وكذلك في سائر المسالك النظرية، فليس مسلكاً بنفسه، بل هو شرط المسالك النظرية" (¬4). ¬

(¬1) البحر المحيط للزركشي: (7/ 288). (¬2) المقترح في المصطلح: (230). (¬3) هو: أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم الأنصاري القرطبي، فقيهٌ مالكي، من رجال الحديث، من مؤلفاته: المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم (ط)، ومختصر الصحيحين، وغيرهما، توفي بالإسكندرية سنة (656 هـ). ينظر ترجمته في: الوافي بالوفيات (7/ 295)، تذكرة الحفاظ (4/ 1438)، الأعلام للزركلي (1/ 186). (¬4) البحر المحيط: (7/ 287).

ولهذا المعنى ردَّ الحنفية التقسيم الحاصر وتنقيح المناط إلى النصِّ، أو الإجماع، أو المناسبة. قال صدر الشريعة: " وعلماؤنا - رحمهم الله - لم يتعرَّضوا لهذين - أي: التقسيم الحاصر وتنقيح المناط - فإنه على تقدير قبولهما يكون مرجعهما إلى النصِّ أو الإجماع أو المناسبة " (¬1). وإذا تبيَّن أن السَّبْر والتقسيم قد يدخل في أكثر الطرق الاجتهادية للنظر في العِلَّة، ولا يُعْتَبر دليلاً مستقلاً في إثبات العِلِّية، فإنه قد يكون طريقاً من طرق تنقيح المناط خادماً للاجتهاد في تهذيب العِلَّة وتعيينها بعد إثباتها بمسلك الإيماء والتنبيه، وعلى هذا يكون السَّبْر والتقسيم من طرق تنقيح المناط الذي تعلَّق الاجتهاد فيه بمسلكي النصِّ والإيماء والتنبيه؛ وذلك لأنه يَعُمُّ مسالك العِلَّة المنصوصة والمستنبَطة، ويصلح الاستدلال به لإثبات العِلَّة بوجهٍ أو بآخر إذا انضمَّ إلى أحد مسالكها المُعْتَبرة. ولهذا لمّا ذكر الطُّوفي قصة الأعرابي الذي واقع أهله في نهار رمضان (¬2)، واعتبره مثالاً على تنقيح المناط قال: " فالنبيُّ أَمَرَه بالكفارة في جواب قوله: " واقعت أهلي في رمضان " مع مجيئه على الصفات المذكورة، فربما خُيِّل للسامع أن مجموع الصفات المذكورة مع الوقاع في رمضان هي مناط وجوب الكفارة وعِلُّته، لكن من جملتها ما ليس بمناسبٍ لكونه عِلَّةً ولا جزء عِلَّة، فاحتيج إلى إلغائه وتنقيح العِلَّة وتخليصها بالسَّبْر والتقسيم." (¬3). بل إن دليل السَّبْر والتقسيم دليلٌ عامٌّ لا يقتصر الاستدلال به على إثبات العِلَل؛ لأن المُسْتَدِل يذكر الاحتمالات التي لا يخرج عنها موضع النزاع، ثم يبيَّن بطلانها كلها إلا واحداً. وقد أَكْثَرَ الشيخ الأمين الشنقيطي - رحمه الله- من ذكر أمثلة هذا الدليل كما ورد ¬

(¬1) التنقيح في أصول الفقه مع شرحه التوضيح (2/ 174). (¬2) سبق تخريجه: (48). (¬3) شرح مختصر الروضة: (3/ 238).

في القرآن الكريم وغيره، وذَكَرَ بعض آثاره العقائدية والتاريخية في كتابه: " أضواء البيان" (¬1) عند كلامه في سورة مريم على قوله تعالى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)} [مريم: 78]، وهو من الشواهد الظاهرة على اعتبار دليل السَّبْر والتقسيم دليلاً عاماً لا يقتصر الاستدلال به على إثبات العِلَل. ثانياً: إن أصحاب الاتجاه الثاني يعتبرون تنقيح المناط هو الإلحاق بإلغاء الفارق، ولذلك يفرِّقون بينه وبين السَّبْر والتقسيم بأن تنقيح المناط لا يجب فيه تعيين العِلَّة، ولا يُحْتَاج فيه إلى التعرُّض للعِلَّة الجامعة، بل يُتعرَّض فيه للفارق، ويُعْلَم أنه لا فارق إلا كذا، ولا مدخل له في التأثير، أما السَّبْر والتقسيم فلابدَّ فيه من تعيين الجامع والاستدلال على العِلِّية. وقد تَقَدَّمت مناقشة ذلك وبيان الفرق بين تنقيح المناط وإلغاء الفارق، وأن تنقيح المناط هو تهذيب العِلَّة وتمييزها، فلابدَّ فيه من تعيين العِلَّة، وإلا لم تصدق تسمية ذلك بـ" تنقيح المناط "، أما في إلغاء الفارق فيُكْتَفى بإبطال الوصف الفارق بين الأصل والفرع، وبيان أن لا مدخل له في التأثير (¬2). ثالثاً: إن أصحاب الاتجاه الثالث يعتبرون أن تنقيح المناط هو نفسه استخراج العِلَّة بطريق السَّبْر والتقسيم؛ لأنه يقال في طريقة إيراد تنقيح المناط - بناءً على تعريفهم تنقيح المناط بأنه: إلغاء الفارق -: حُكْم الأصل لابدَّ له من عِلَّة، وهي إما جهة الاشتراك أوجهة الامتياز، والثاني باطل، فيتعين الأول، وجهة الاشتراك حاصلةٌ في الفرع، فعِلَّةُ الحُكْم حاصلةٌ في الفرع، فيلزم تحقيق الحُكْم في الفرع. وهذه الطريقة يعتبرها أصحاب الاتجاه الثالث هي طريقة السَّبْر والتقسيم من غير تفاوت. وقولهم هذا غير مسلَّم؛ لأمورٍ ثلاثة: ¬

(¬1) ينظر: (4/ 365 - 384). (¬2) ينظر: (97 - 101).

الأول: أن تنقيح المناط هو تهذيب العِلَّة وتعيينها، لا استخراجها، كما تقدَّم بيانه (¬1). الثاني: أن هناك فرقاً بين تنقيح المناط وإلغاء الفارق، فتنقيح المناط لابدَّ فيه من تعيين العِلَّة، أما إلغاء الفارق فيُكْتَفَى فيه بإبطال الوصف الفارق بين الأصل والفرع وبيان أن لا مدخل له في التأثير، فبناء الفرق بين تنقيح المناط والسَّبْر والتقسيم على أن تنقيح المناط هو إلغاء الفارق دون تعيينٍ للعِلَّة لا يصح؛ لأن وظيفة المجتهد في تنقيح المناط هي تهذيب العِلَّة وتمييزها كما تقدَّم (¬2). الثالث: أن تنقيح المناط له صورتان (¬3): الصورة الأولى: أن يدل نصٌّ ظاهرٌ على التعليل بوصفٍ فَيُحْذَف خصوصه عن الاعتبار، ويُنَاطُ الحُكْم بالمعنى الأعِّم. فهذه الصورة ليس فيها سَبْرٌ ولا تقسيم، وإنما يُكتفى فيها بحذف خصوص الوصف عن الاعتبار، وإناطة الحُكْم بالمعنى الأعمِّ. الصورة الثانية: أن يقترن بالحُكْم أوصافٌ مذكورةٌ في النصِّ لا مدخل لها في العِلَّية فَتُحْذَف عن الاعتبار، ويُنَاطُ الحُكْم بالباقي. فهذه الصورة وإن احِتيج فيها إلى السَّبْر والتقسيم إلا أنه غير منظورٍ إليه بالقصد الأصلي؛ لأن النظر متوجِّهٌ إلى تهذيب العِلَّة، وتعيينها من بين الأوصاف التي دلَّ عليها ظاهر النصِّ. ولهذا قال ابن العطَّار: " -والفرق بين المسلك بهذا المعنى - أي: النوع الثاني من تنقيح المناط - ومسلك السَّبْر أن السَّبْر يجب فيه حصر الأوصاف الصالحة للعِلِّية، ثم إلغاؤها ما عدا ما ادُّعِيَّ عِلَّته، وتنقيح المناط بالمعنى المذكور إنما يُلاحَظ فيه الأوصاف التي دلَّ عليها ظاهر النصِّ، وإن كان ¬

(¬1) ينظر: (67). (¬2) ينظر: (100 - 101). (¬3) ينظر: (71).

الترجيح بين الاتجاهات السابقة

الحصر فيه أيضاً موجودٌ لكنه غير مُلاحَظٍ، فهو حاصلٌ غير مقصود" (¬1). الترجيح بين الاتجاهات السابقة: من خلال ما تقدَّم ذكره ومناقشته من اتجاهات الأصوليين في بيان الفرق بين تنقيح المناط والسَّبْر والتقسيم يترجَّح - والعلم عند الله - أن السَّبْر والتقسيم ليس دليلاً مستقلاً على العِلِّية يختصُّ بالأوصاف المستنبَطة، بل يدخل الاستدلال به في أكثر طرق إثبات العِلَّة بوجهٍ أو بآخر، ومن ذلك مسلك النصِّ ومسلك الإيماء والتنبيه اللَّذَان تعلَّق بهما الاجتهاد في تنقيح المناط. وعلى هذا يعتبر السَّبْر والتقسيم دليلاً خادماً للاجتهاد في العِلَّة الذي أحد أضربه الاجتهاد في تنقيح المناط، فالسَّبْر والتقسيم أعمُّ وأشمل من تنقيح المناط، حيث يشمل الاستدلال به مسالك العِلَّة المنصوصة والمستنبَطة، أما تنقيح المناط فهو يختصُّ بالاجتهاد في الأوصاف التي دلَّ عليها ظاهر النصِّ، وقد يُحتاج في بعض صوره إلى استعمال دليل السَّبْر والتقسيم كما في النوع الثاني من تنقيح المناط. فالمجتهد في هذا النوع يحصر الأوصاف التي دلَّ عليها ظاهر النصِّ، ثم يختبرها ويبطل ما لا يصلح منها للعِلِّية، فيتعين الباقي عِلَّةً للحُكْم، ويكون بذلك اسْتُعْمَل دليل السَّبْر والتقسيم في هذا النوع من تنقيح المناط، ولكن لتهذيب العِلَّة وتعيينها، وليس لاستخراجها كما هو الحال في العِلَل المستنبَطة، كما سيأتي بيانه في تخريج المناط (¬2). ¬

(¬1) حاشية ابن العطَّار على شرح المحلي على جمع الجوامع: (2/ 337). (¬2) ينظر: (128).

الفصل الخامس طرق تنقيح المناط

الفصل الخامس طرق تنقيح المناط

الفصل الخامس طرق تنقيح المناط تقدَّم أن تنقيح المناط له صورتان (¬1): الأولى: أن يدل نصٌّ ظاهرٌ على تعليل الحُكْم بوصفٍ، فَيُحْذَف خصوص ذلك الوصف عن الاعتبار، ويناط الحُكْم بالمعنى الأعمّ. والثانية: أن يدل نصٌّ ظاهرٌ على تعليل الحُكْم بمجموع أوصافٍ، فَيُحْذَف بعضها عن الاعتبار، ويناط الحُكْم بالباقي من الأوصاف. وفي كلتا الصورتين فإن وظيفة تنقيح المناط تتركَّز في تهذيب العِلَّة وتمييزها عن الأوصاف غير المؤثرة بعد إثباتها بمسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه، وذلك يقوم على ركنين (¬2): الأول: إسقاط ما لا مدخل له من الأوصاف عن درجة الاعتبار. والثاني: إظهار وتعيين ما له مدخلٌ من الأوصاف في الاعتبار. وحاصله أنه اجتهادٌ في الحذف والتعيين كما تقدَّم (¬3)، وهو اجتهادٌ لا يقوم على التحُكُّم والتشهي، بل لابدَّ فيه من دليلٍ يُسْتَنَد إليه وطريقٍ شرعيٍّ يثبت به؛ لأن الشرع هو الذي اختصَّ باعتبار تلك الأوصاف مؤثرةً في الأحكام وعدم اعتبارها كذلك، ولا يُعْلَمُ ذلك إلا بدليلٍ من جهته. قال الغزالي: " ومُدْرَكُه - أي: تنقيح المناط - شواهد الشرع، وإبقاء ما ¬

(¬1) ينظر: (100 - 101). (¬2) ينظر: أساس القياس (51). (¬3) ينظر: (71).

يُقَدَّر له أثر، وإلغاء ما لا يُعْقَل له أثر " (¬1). وقال البروي: " وصورته - أي: تنقيح المناط أن يَرِدَ ظاهرٌ في التعليل بأوصافٍ عِدَّة، فنحذف بعض تلك الأوصاف عن درجة الاعتبار بالدليل" (¬2). وقال ابن النجَّار الفتوحي في تعريف تنقيح المناط: " أن يُبقِى من الأوصاف ما يصلح، ويُلغي بالدليل ما لا يصلح " (¬3). والمناط كما يثبت تعلُّق الحُكْم به بتوقيفٍ من جهة الشرع، فكذلك تنقيح المناط وتمييزه عن غيره من الأوصاف غير المؤثِّرة لايثبت إلا بتوقيفٍ من الشرع. قال الغزالي: " ولا نجعل الشيء مناطاً أو وصفاً من أوصاف المناط بالحُكْم والرأي بل بالتوقيف، ولا نسقطه أيضاً عن درجة الاعتبار بالرأي والقياس، بل بشواهد التوقيف " (¬4). وقال - أيضاً-: " وبقي أن نبيِّن أن المناط كيف يتجرَّد ويتلخَّص متميزاً بحدِّه على كلِّ ما لا يُعْتَبر فيه، وجامعاً لجميع ما هو معتبَرٌ فيه؟ فنقول- أيضاً-: لا يكون إلا بالتوقيف والتعريف من جهة الشارع." (¬5). والتوقيف من جهة الشارع لا يُقْتَصَرُ في معرفته على مجرَّد النصِّ، بل يشمل دلالات الألفاظ بأنواعها، والأفعال وما في حكمها، وقرائن الأحوال، وسياق الكلام، وتصرُّفات الشارع في الأحكام. قال الغزالي: " تعريفات الشارع مختلفةٌ بالإضافة إلى ما به التعريف؛ فتارةً يُعْرَفُ بالقول، وتارةً بالفعل، ثم إذا عُرِفَ لا بالقول: تارةً يكون بإشارةٍ، وتارةً بسكوتٍ، وتارةً باستبشارٍ، وتارةً بإظهار آثار كراهيةٍ، وعلى الجملة: قرائن أحواله في تصريفاته وإشاراته وهيئة وجهه في الفرح والكراهية يجوز أن ¬

(¬1) شفاء الغليل: (430). (¬2) المقترح في المصطلح: (215 - 216). (¬3) شرح الكوكب المنير: (4/ 203). (¬4) أساس القياس: (50). (¬5) المرجع السابق: (52).

تكون معرِّفاتٍ جاريةً في إفادة التعريف مجرى القول، فيكون ذلك توقيفاً .. " (¬1). ثم عدَّد -رحمه الله- أنواعاً من التعريف بالقول فقال: "أما إذا عُرِف بالقول فتارةً يُعْرَف بلفظٍ صريح، وتارةً بظاهرٍ كاللفظ العام، وتارةً بلفظٍ خاصٍ كُنِّيَ به العام على سبيل التجوِّز في لسان العرب، وتارةً بإيماء القول وإشارته لا بصريح الملفوظ، وتارةً بتضمن القول واقتضائه. . . وتارةً بمفهوم القول وقصده إلى تخصيص بعض الأشياء بالذكر ليفهم نفي الحُكْم عما عداه، وتارةً بسياق الكلام الذي أُنْشِىَء الكلام له .. " (¬2). وكما أن مدارك التوقيف من جهة الشارع لا تنحصر في مجرَّد النصِّ فكذلك لا تنحصر مداركه في الأقوال والأفعال، بل يثبت التوقيف أيضاً بتتبع عادة الشارع في الأحكام إثباتاً ونفياً، وهو من أغمض وأدقِّ جهات التوقيف. قال الغزالي: "فهذه جهات تعريفه -أي: الشارع- وأغمضُها التعريفُ بالعادة، وإليها استناد القياس، ولأجل خفائه لم يدركه بعض الناس ولم يعرفه من جملة المدارك، فظنَّ أن مدارك التعريف محصورةً في الأقوال والأفعال .. " (¬3). وإذا كان تنقيح المناط وتمييزه عن غيره من الأوصاف غير المؤثِّرة لا يثبت إلا بتوقيفٍ من الشرع فحينئذٍ لابد من دليلٍ يستند إليه، وطريقٍ شرعيٍّ يثبت به هذا النوع من الاجتهاد. قال الآمدي: "وأما تنقيح المناط فهو: النظر والاجتهاد في تعيين ما دلَّ النصُّ على كونه عِلَّةً من غير تعيين بحذف ما لا مدخل له في الاعتبار مما اقترن به من الأوصاف، كلُّ واحدٍ بطريقه .. " (¬4). ولما ساق قصة الأعرابي الذي واقع أهله في نهار رمضان قيَّد الاجتهاد ¬

(¬1) المرجع السابق: (52). (¬2) المرجع السابق: (52 - 53). (¬3) المرجع السابق: (54). (¬4) الإحكام: (3/ 380).

أولا: استقراء عادة الشرع في إلغاء وصف عن درجة الاعتبار وعدم إناطة الحكم به

في تنقيح مناط الحكم بالأدلة فقال: " فإنه وإن كان مؤمناً إليه بالنصِّ غير أنه يُفْتَقَرُ في معرفته عيناً إلى حذف كلِّ ما اقترن به من الأوصاف عن درجة الاعتبار بالرأي والاجتهاد، وذلك بأن يبيِّن أن كونه أعرابياً، وكونه شخصاً معيناً، وإن كون ذلك الزمان، وذلك الشهر بخصوصه، وذلك اليوم بعينه، وكون الموطوءة زوجةً وامرأةً معينة لا مدخل له في التأثير بما يساعد من الأدلة في ذلك .. " (¬1). وهذه الأدلة التي يثبت بها تنقيح المناط يمكن أن يُطْلَق عليها مُسَمَّى "طرق تنقيح المناط" وذلك باعتبار أن الدليل هو: ما يُتَوصَّل به إلى المطلوب (¬2)، وتلك هي الطرق الموصلة إلى تهذيب العِلَّة وتمييزها عن غيرها من الأوصاف المؤثِّرة بعد إثباتها بمسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه. ومن أهم طرق تنقيح المناط ما يأتي: أولاً: استقراء عادة الشرع في إلغاء وصفٍ عن درجة الاعتبار وعدم إناطة الحكم به. ثانياً: الإجماع على أن الشارع ألغى ذلك الوصف عن درجة الاعتبار، أو ألغى خصوصه وأناط الحكم بما هو أعمّ منه. ثالثاً: كون الحُكْم ثابتاً في صورةٍ ما بالباقي من الأوصاف دون الوصف المحذوف. وبيان هذه الطرق على النحو الآتي: أولاً: استقراء عادة الشرع في إلغاء وصفٍ عن درجة الاعتبار وعدم إناطة الحكم به: وذلك لأنه ليس في إناطة الحُكْم به مصلحة، فهو خالٍ من المناسبة (¬3). ¬

(¬1) المرجع السابق. (¬2) ينظر: قواطع الأدلة (1/ 42)، البحر المحيط للزركشي (1/ 51). (¬3) ينظر: رسالة في أصول الفقه للعُكْبَري (85)، المستصفى (3/ 489)، شفاء الغليل (412، 415)، أساس القياس (52 - 53)، روضة الناظر (3/ 804)، الإحكام للآمدي (3/ 336)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 352)، نهاية الوصول (7/ 3179)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 238)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 272)، تيسير التحرير (4/ 47)، نشر البنود (2/ 168)، نثر الورود (2/ 489).

وهو ما يُطْلَقُ عليه عند الأصوليين بـ: "الوصف الطردي"، وينقسم إلى قسمين (¬1): الأول: ما هو طرديٌّ في جميع الأحكام، كالطول والقِصَر، والسواد والبياض، فلا يُعلَّل بها شيءٌ من أحكام الشرع. الثاني: ما هو طرديٌّ في بعض الأحكام، مع كونه معتبراً في بعضٍ آخر، كالذُّكورة والأنوثة، فإنهما وصفان طرديان بالنسبة إلى العتق، فلا يُعلَّل شيءٌ من أحكام العتق بذكورةٍ ولا أنوثةٍ، مع أنهما معتبران في بعض الأحكام كالميراث والشهادة ونحو ذلك. فإذا أثبت المجتهد كون الوصف طردياً، إما مطلقاً في جميع الأحكام الشرعيَّة أو بالنسبة إلى ذلك الحُكْم المطلوب، كان ذلك دليلاً على حذف ذلك الوصف عن درجة الاعتبار. قال الآمدي في القسم الأول: " أن يكون ما يحذفه من جنس ما أَلِفْنَا من الشارع عدم الالتفات إليه في إثبات الأحكام، كالطول والقِصَر والسواد والبياض ونحوه .. " (¬2). ويقصد بذلك: طرد المحذوف مطلقاً في جميع الأحكام الشرعيَّة فلا يُعَلَّل بها حُكْمٌ أصلاً. وقال في القسم الثاني: " أن يكون ما يحذفه من جنس ما ألِفْنَا من الشارع إلغاءه في جنس ذلك الحُكْم المُعَلَّل، فيجب إلغاؤه .. " (¬3). ¬

(¬1) ينظر: بيان المختصر للأصفهاني (3/ 106 - 107)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 238)، تشنيف المسامع (3/ 280)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 272)، الضياء اللامع لحلولو (2/ 354)، شرح الكوكب المنير (4/ 148)، نشر البنود (2/ 168 - 169)، نثر الورود (2/ 489). (¬2) الإحكام: (3/ 336). (¬3) المرجع السابق: (3/ 336 - 337).

ويقصد بذلك: طرد المحذوف بالنسبة إلى بعض الأحكام دون غيرها، كالذُّكورة والأنوثة في العتق، فإنهما لم يعتبرا فيه، فلا يُعْلَّل بهما شيءٌ من أحكام العتق، وإن اعتبرا في الشهادة والقضاء والإرث وولاية النكاح. وإثبات أن الوصف المحذوف مما عُلِمَ من عادة الشرع إلغاؤه وعدم إناطة الحُكْم به إنما يكون باستقراء أحكام الشرع وموارده ومصادره، إما مطلقاً، وإما في جنس ذلك الحُكْم. قال الغزالي: " وإنما يُعْرَفُ أنه لا مدخل له في التأثير باستقراء أحكام الشرع وموارده ومصادره .. " (¬1). وقال صفي الدين الهندي: " تُعْلَمُ العِلَّة لنفي ما عداها عن درجة الاعتبار باستقراء أحكام الشرع .. " (¬2). وقال حُلولو المالكي (¬3): "ويُعْرَفُ كون الوصف طردياً- أي: لامدخل له في التعليل- باستقراء موارد الشرع ومصادره إما مطلقاً، وإما في ذلك الباب المُتَكَلَّم فيه" (¬4). فإذا استقرأ المجتهد أحكام الشرع وموارده ومصادره وحصل له من ذلك العلم أو غلب على ظنه بأن الشارع اعتبر أوصافاً وألغى أخرى وجب حينئذٍ على المجتهد أن يتصرَّف بتصرَّف الشريعة في جنس تلك الأحكام، فيُسقِط ما أسقطه الشارع من الأوصاف عن درجة الاعتبار، ويُبقِي الحُكْم منوطاً بالباقي من الأوصاف المؤثِّرة. قال الغزالي: " النظر في تنقيح المناط: بإلغاء بعض القيود والاختصاصات أو اعتبارها، والتدوار فيها على أمورٍ عُقِل من الشرع تأثيرها في الأحكام " (¬5). ¬

(¬1) المستصفى: (3/ 598). (¬2) نهاية الوصول: (7/ 3179). (¬3) هو: أبو العباس أحمد بن عبدالرحمن بن موسى بن عبدالحق الزليطني القيرواني المالكي، كان عالماً بالفقه والأصول، ولي قضاء طرابلس الغرب، ثم استقر بتونس وولي مشيخة بعض المدارس، من مؤلفاته: الضياء اللامع في شرح جمع الجوامع (ط)، والتوضيح في شرح التنقيح للقرافي (ط)، وشرح مختصر خليل (خ)، وغيرها، توفي بتونس سنة (898 هـ) تقريباً. ينظر ترجمته في: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (2/ 260)، توشيح الديباج وحلية الابتهاج (52)، الأعلام للزركلي (1/ 147). (¬4) الضياء اللامع: (2/ 254). (¬5) شفاء الغليل: (412).

ومن الأمثلة على ذلك: تنقيح المناط بحذف الأوصاف الطردية المذكورة في قصة الأعرابي الذي واقع أهله في نهار رمضان (¬1) بناءً على استقراء أحكام الشرع وموارده ومصادره في إلغاء تلك الأوصاف، وعدم اعتبارها مؤثِّرةً في تلك الأحكام. فوصف " الأعرابية " وصفٌ ملغيٌّ فيُلْحَق به غير الأعرابي؛ لأنه باستقراء أحكام الشرع وجد أنها لاتختصُّ بقومٍ دون آخرين. و" كون الموطوءة زوجة " وصفٌ ملغيٌّ - أيضاً - فيُلْحَق به المملوكة والمزني بها؛ لأنه باستقراء أحكام الشرع لا فرق بين كون الجماع في محلٍّ هو حلالٌ بملك النكاح أو اليمين أو هو حرامٌ كالأجنبية، وذلك باعتبار أن كلاً منهما جنايةٌ على الصوم. و" كون الوطء في عين ذلك الشهر " وصفٌ ملغيٌّ - أيضاً- فيُلْحَق به من وطئ في رمضان آخر، لأن أحكام الشرع إذا أُطْلِقَتْ لا تختصُّ بزمانٍ دون آخر. فهذه الأوصاف المذكورة في النصِّ إنما حُذِفَت لكونها أوصافاً طردية، عُلِمُ من عادة الشرع باستقراء أحكامه إلغاؤها، وعدم إناطة الأحكام بها. قال الغزالي: " هذه إلحاقاتٌ معلومةٌ تُبْتَنَى على تنقيح مناط الحُكْم بحذف ما عُلِم بعادة الشرع في موارده ومصادره في أحكامه أنه لا مدخل له في التأثير " (¬2). وقال - أيضاً-: " فهذه وجوهٌ من القيود والخصوص اتفقت في الواقعة التي فيها الحُكْم، وبعضها محذوفٌ لا مدخل له في الاقتضاء، وبعضها معتَبر، وبعضها مختلَفٌ فيه، والتدوار في الإلغاء والإبقاء على تأثيراتٍ معقولةٍ من مورد الشرع." (¬3). ¬

(¬1) سبق تخريجه: (48). (¬2) المستصفى: (3/ 489). (¬3) شفاء الغليل: (415).

ومن الأمثلة على ذلك أيضاً -ولكن مما يختصُّ ببابٍ من الأحكام دون الأبواب الأخرى-: تنقيح المناط بحذف الوصف الطردي المذكور في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " من أعتق شِرْكاً له في عَبْدٍ وكان له مالٌ يبلغ ثمن العبد قوِّم عليه قيمة عدل " (¬1). فوصف الذُّكورة في قوله: " عبد " وصفٌ ملغيٌّ، حيث ثبت باستقراء موارد الشرع ومصادره في أحكام العتق خاصةً التسَوية بين الذكر والأنثى، وعدم اعتبار الذكورة والأنوثة من الأوصاف المؤثِّرة في ذلك، وإن كان لهما تأثيرٌ في بعض الأحكام الأخرى كولاية النكاح والقضاء والشهادة (¬2). قال الغزالي: "الشارع إذا ذكر في باب العتق أحكاماً كثيرة. . . وهو في جميع ذلك يُجْري الذُّكور مجرى الأنثى ولا يلتفت إلى الاختلاف فيه أصلاً، فعدم تعرُّضه لهذا الاختلاف مرَّةً بعد أخرى على سبيل العَوْدِ والتكرار يفهمنا أن مدخل الذكورة فيه كمدخل السواد والبياض والطول والقِصَر والتركي والهندي، فبه نتجاسر على قولنا: الأَمَة في معنى العبد. . ." (¬3). وقال الآمدي: " .. فإنه وإن أمكن تقرير مناسبةٍ بين صفة الذكورة وسراية العتق غير أنا لما عهدنا من الشارع التسوية بين الذَّكر والأنثى في أحكام العتق ألغينا صفة الذُّكورة في السراية بخلاف ما عداه من الأحكام" (¬4). وقال الطُّوفي: "لا تأثير للذُّكورة والأنوثة في هذا الحُكْم ونحوه في عُرْف الشرع وتصرُّفه، إذ هما وصفان طرديان كالسواد والبياض والطول والقِصَر والحُسْن والقبح، وإن كان للذُّكورية والأنوثية تأثيرٌ في الفرق في بعض الأحكام كولاية النكاح والقضاء والشهادة" (¬5). ¬

(¬1) سبق تخريجه: (66). (¬2) ينظر: تشنيف المسامع (3/ 280)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 272)، شرح الكوكب المنير (4/ 148)، نشر البنود (2/ 169)، نثر الورود (2/ 489). (¬3) أساس القياس: (54). (¬4) الإحكام: (3/ 336 - 337). (¬5) شرح مختصر الروضة: (3/ 352).

ثانيا: الإجماع على أن الشارع ألغى ذلك الوصف ولم يعتبره مؤثرا في الحكم، أو ألغى خصوصه وأناط الحكم بما هو أعم منه.

وبهذا يتبيَّن أن إثبات كون الوصف طردياً، إما مطلقاً في جميع الأحكام الشرعيَّة، أو بالنسبة إلى ذلك الحُكْم المطلوب، وذلك باستقراء عادة الشرع في موارده ومصادره يُعدُّ دليلاً على حذف ذلك الوصف عن درجة الاعتبار. وإذا حُذِفَت الأوصاف الطردية التي دلَّ عليها ظاهر النصِّ، وأنيط الحُكْم بالباقي من الأوصاف فقد تنقَّح المناط بدليله. ثانياً: الإجماع على أن الشارع ألغى ذلك الوصف ولم يعتبره مؤثِّراً في الحُكْم، أو ألغى خصوصه وأناط الحُكْم بما هو أعمَّ منه (¬1). ومثاله: تنقيح المناط بحذف وصف " الذكورة " الذي دلَّ عليه ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أفلس الرجل، فوجد الرجل متاعه بعينه، فهو أحقُّ به" (¬2)؛ وذلك لإجماع الأُمَّة على أن المرأة في معناه، ولا اعتبار لوصف " الذكورة " هنا؛ إذ لا مدخل له في العِلِّية؛ لأنه من الأوصاف الطردية (¬3). ومثاله - أيضاً-: "تنقيح المناط بحذف خصوص وصف" الغضب" الذي دلَّ عليه ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقضينَّ حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان" (¬4)؛ وذلك لإجماع الأُمَّة على أن وصف "الغضب" وحْدَه ليس هو المقصود بإناطة الحُكْم، وإنما المقصود ما يحصل بسببه من التغيُّر الذي يختلُّ به النظر فلا يحصل استيفاء الحُكْم معه على الوجه المطلوب، فَيُحْذَف خصوص وصف "الغضب"، ويُنَاطُ الحُكْم بالمعنى الأعمِّ، وهو "شغل القلب المانع من استيفاء ¬

(¬1) ينظر: المستصفى (3/ 488)، أساس القياس (58)، الإبهاج (3/ 77)، إرشاد الفحول (2/ 641)، سلم الوصول للمطيعي (4/ 128). (¬2) أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب في الاستقراض، باب إذا وجد ماله عند مفلسٍ في البيع، رقم (2402)، وأخرجه مسلم في " صحيحه "، كتاب المساقاة، باب من أدرك ما باعه عند المشتري وقد أفلس فله الرجوع فيه، رقم (1559). (¬3) ينظر: المستصفى (3/ 597)، أساس القياس (61 - 63)، نهاية الوصول (7/ 3171)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 352)، الإبهاج (3/ 81)، شرح الكوكب المنير (4/ 208)، إرشاد الفحول (2/ 641). (¬4) سبق تخريجه: (64).

ثالثا: كون الحكم ثابتا في صورة ما بالباقي من الأوصاف دون الوصف المحذوف.

النظر"، فيُلْحَق به الجوع والعطش المُفْرِطَين وغَلَبَة النعاس، وسائر ما يتعلق به القلب تعلُّقاً يشغله عن استيفاء النظر (¬1). وبهذا يتبيَّن أن الاستدلال بالإجماع على أن الشارع ألغى ذلك الوصف، ولم يعتبره مؤثراً في الحكم، أو ألغى خصوصه وأناط الحكم بما هو أعمّ منه يُعَدُّ دليلاً على حَذِف ذلك الوصف أو خصوصه عن درجة الاعتبار. وإذا حُذِف ذلك الوصف وأنيط الحُكْم بالباقي من الأوصاف، أو حُذِف خصوصه وأنيط الحُكْم بالمعنى الأعمِّ استناداً إلى دليل الإجماع فقد تنقَّح المناط بدليله. ثالثاً: كون الحُكْم ثابتاً في صورةٍ ما بالباقي من الأوصاف دون الوصف المحذوف (¬2). وذلك لأن المُسْتَدِل إذا بيَّن أن الحُكْم ثابتٌ في إحدى صوره بالباقي من الأوصاف التي دلَّ عليها ظاهر النصِّ دون الوصف المحذوف عُلِمَ حينئذٍ أن ذلك الوصف غير مُعتبرٍ في الحُكْم. قال الآمدي: " ومنها - أي: من طرق الحذف - أن يُبَيِّن المُسْتَدِل أن الوصف الذي استبقاه قد ثبت به الحُكْم في صورةٍ بدون الوصف المحذوف" (¬3). أما الزركشي فقد صرَّح بهذا الطريق واعتباره دليلاً على تنقيح المناط حيث قال: " أن يدل لفظٌ ظاهرٌ على التعليل بمجموع أوصاف، فَيُحْذَف بعضها عن درجة الاعتبار؛ إما لأنه طردي، أو لثبوت الحُكْم على بقية الأوصاف بدونه، ويُنَاطُ بالباقي " (¬4). ¬

(¬1) ينظر: إحكام الأحكام لابن دقيق العيد (1/ 467)، فتح الباري لابن حجر (13/ 137)، شرح الكوكب المنير (4/ 116)، نثر الورود (2/ 524). (¬2) ينظر: المقترح في المصطلح للبروي (216)، بيان المختصر للأصفهاني (3/ 104)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 238)، تيسير التحرير (4/ 46)، نشر البنود (2/ 169). (¬3) الإحكام: (3/ 335). (¬4) تشنيف المسامع: (4/ 319).

ومثاله: تنقيح المناط بحذف وصف " الأعرابية " الذي دلَّ عليه ظاهر النصِّ في قصة الأعرابي الذي واقع أهله في نهار رمضان (¬1)؛ وذلك لأن الحُكْم ثابتٌ بالباقي من الأوصاف دون ذلك الوصف، فعُلِم حينئذٍ أن وصف " الأعرابية " غير مُعتبَرٍ في الحُكْم، فَيُحْذَف وتُحْذَف كلُّ الأوصاف التي هي مثله، ويُنَاطُ الحُكْم بالباقي من الأوصاف. وبهذا يتبيَّن أن ثبوت الحُكْم في صورةٍ ما بالباقي من الأوصاف دون الوصف المحذوف يُعدُّ دليلاً على حذف ذلك الوصف عن درجة الاعتبار. وإذا حُذِف ذلك الوصف وما هو مثله، وأنيط الحُكْم بالباقي من الأوصاف استناداً إلى ثبوت الحُكْم بها دون الوصف المحذوف فقد تنقَّح المناط بدليله. ¬

(¬1) سبق تخريجه: (48).

الباب الثاني الاجتهاد في تخريج المناط

الباب الثاني الاجتهاد في تخريج المناط ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: تعريف تخريج المناط لغةً واصطلاحاً. الفصل الثاني: حُكْم العمل بتخريج المناط، والأدلة على اعتباره. الفصل الثالث: مسالك تخريج المناط.

الفصل الأول تعريف تخريج المناط لغة واصطلاحا

الفصل الأول تعريف تخريج المناط لغةً واصطلاحاً ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعريف تخريج المناط لغةً. المبحث الثاني: تعريف تخريج المناط اصطلاحاً. المبحث الثالث: بيان وجه المناسبة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي.

المبحث الأول تعريف تخريج المناط لغة

المبحث الأول تعريف تخريج المناط لغةً سأتناول في هذا المبحث تعريف تخريج المناط في اللغة، وذلك من خلال مطلبين: المطلب الأول: تعريف التخريج لغةً. لفظ "التخريج" في اللغة: يعود إلى الفعل الثلاثي "خَرَجَ"، وهو نقيض" دَخَلَ". والتخريج على وزن " تفعيل " بمعنى: الإخراج. وتُسْتَعْمَل هذه اللفظة في معنى: الإظهار والإبراز، سواءً للشيء نفسِه، أو أمرٍ معنويٍّ مُتَعَلِّقٍ به. يُقال: اخْتَرَجَهُ واسْتَخْرَجَهُ: إذا طلب إليه أو منه أن يَخْرُج. والاستخراج: الاستنباط (¬1). والإخراج أكثر ما يُقال في الأعيان، كما في قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} [الأنفال: 5]. والتخريج أكثر ما يُقال في العلوم والصناعات (¬2). ¬

(¬1) ينظر: الصحاح (1/ 309 - 310)، معجم مقاييس اللغة (2/ 175) -176)، لسان العرب (5/ 39 - 41)، تاج العروس (2/ 28 - 31) " مادة: خـ ر ج ". (¬2) ينظر: المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني (151 - 152).

المطلب الثاني: تعريف المناط لغة

المطلب الثاني: تعريف المناط لغةً: تقدَّم تعريف المناط في اللغة بأنه: اسم مكان الإناطة، وهو موضع التعليق. ومناط الشيء: المحلُّ الذي عُلِّق عليه (¬1). وبهذا يكون معنى " تخريج المناط " في اللغة: استخراج الموضع الذي عُلِّق عليه الشيء. ¬

(¬1) ينظر: (30 - 31).

المبحث الثاني تعريف تخريج المناط اصطلاحا

المبحث الثاني تعريف تخريج المناط اصطلاحاً تخريج المناط اصطلاحاً هو: استنباط عِلَّة الحُكْم الذي دلَّ النصُّ أو الإجماعُ عليه من غير تعرُّضٍ لبيان عِلَّته لا صراحةً ولا إيماءً (¬1). ومثاله: قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تبيعوا البُرَّ بالبُرِّ إلا مثلاً بمثل" (¬2)، فإن هذا النصَّ لم يتضمن ما يدلُّ على عِلَّة تحريم الرِّبا في البُرِّ لا صراحةً ولا إيماءً، فيُجْتَهَد في استنباط عِلَّة الحُكْم بالنظر والاجتهاد القائم على الدلائل الشرعيَّة، فيقال -مثلاً-: عِلَّة تحريم الرِّبا في البُرِّ الطعم، أو الاقتيات، أو الكيل، أو غير ذلك (¬3). وهذا المعنى تكاد تتفق عليه تعريفات الأصوليين، إلا أنهم اختلفوا بعد ذلك في نوع المسلك أو الطريق الذي تُسْتَنْبَط به العِلَّة في تخريج المناط: هل يُقْتَصَرُ في " تخريج المناط " على استخراج العِلَّة بمسلك المناسبة، أو يشمل كلَّ مسالك العِلَّة الاجتهادية سواءً المناسبة، أو السَّبْر والتقسيم، أو الدوران؟ وحاصل أنظار الأصوليين في الاصطلاح على ذلك تتمثل في اتجاهين: الاتجاه الأول: ذهب أصحابه إلى أن العِلَّة في تخريج المناط تُسْتَنْبَط بأي ¬

(¬1) ينظر: رسالة في أصول الفقه للعُكْبَري (85)، المستصفى (3/ 490)، روضة الناظر (3/ 805)، الإحكام للآمدي (3/ 380)، نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (7/ 3046)، الإبهاج (3/ 83)، البحر المحيط للزركشي (7/ 324). (¬2) سبق تخريجه: (49). (¬3) ينظر: المراجع السابقة.

مسلكٍ من مسالكها الاجتهادية المُعْتَبرة كالمناسبة (¬1)، أو السَّبْر التقسيم (¬2)، أو الدوران (¬3). وقد ذهب إلى هذا الاصطلاح: العُكْبَري، والغزالي، وابن قدامة، والآمدي، والأصفهاني، والقرافي، وصفي الدين الهندي، والإسنوي، وابن الهمام الحنفي، وتعريفاتهم على النحو الآتي: - عرَّفه العُكْبَري بقوله: " أن ينصَّ الشارعُ على حُكْمٍ في مَحَلٍّ، ولا يتعرَّض لمناطه أصلاً، فيُسْتَنْبَط بالرأي والنظر" (¬4). - وعرَّفه الغزالي بقوله: " أن يُحُكْم بتحريمٍ في محلٍّ - مثلاً - ولا يُذكر إلا الحُكْم والمحل، ولا يتعرَّض لمناط الحُكْم وعِلَّته، فيُسْتَنْبَط المناط بالرأي والنظر" (¬5). - وعرَّفه ابن قدامة بقوله: " أن يَنُصَّ الشارعُ على حُكْمٍ في محلٍّ ولا يتعرض لمناطه أصلاً، فيُسْتَنْبَط المناط بالرأي والنظر" (¬6). قال الأمين الشنقيطي: " وظاهر كلام المؤلِّف - أي: ابن قدامة - أن مراده بتخريج المناط هو استخراج العِلَّة بالاستنباط مطلقاً، فيدخل فيه السَّبْر والتقسيم، والدوران الوجودي والعدمي، مع المناسبة والإخالة " (¬7). - وعرَّفه الآمدي بأنه: " النظر والاجتهاد في إثبات عِلَّة الحُكْم الذي دلَّ النصُّ أو الإجماعُ عليه دون عِلَّته " (¬8). ¬

(¬1) ينظر في تعريف المناسبة وبيان حجيتها: (145 - 160). (¬2) ينظر في تعريف السَّبْر والتقسيم وبيان حجيته: (163 - 169). (¬3) ينظر في تعريف الدوران وبيان حجيته: (174 - 179). (¬4) رسالة في أصول الفقه: (85 - 86). (¬5) المستصفى: (3/ 490). (¬6) روضة الناظر: (3/ 805). (¬7) مذكرة أصول الفقه: (382). (¬8) الإحكام: (3/ 380).

- وعرَّفه الأصفهاني (¬1) بأنه: " استخراج عِلَّةٍ معينةٍ مع الدلالة على عِلِّتها بطرقها المذكورة " (¬2). ويعني بـ" طرقها المذكورة ": مسالك العِلَّة الاجتهادية كالسَّبْر والتقسيم، والمناسبة، والدوران. - وعرَّفه القرافي بأنه: " تعيين العِلَّة من أوصافٍ غير مذكورةٍ في نصِّ الحُكْم " (¬3). وظاهر التعريفات السابقة أن " تخريج المناط " - عند أصحاب هذا الاتجاه - يشمل استنباط العِلَّة بأي مسلكٍ من مسالكها الاجتهادية المُعْتَبرة، كالمناسبة، أو السَّبْر والتقسيم، أو الدوران. - وعرَّفه صفي الدين الهندي بأنه: " الاجتهاد والنظر في إثبات أصل عِلَّة الحُكْم الذي دلَّ النصُّ أو الإجماعُ عليه من غير تعرُّضٍ لبيان عِلَّته لا بالصراحة ولا بالإيماء " (¬4). ولمَّا مثَّل على تخريج المناط باستنباط عِلَّة تحريم الرِّبا في البُرِّ والشعير قال: " .. لا يتصور قياس مطعومٍ بمطعوم؛ لاندراج الكلِّ تحت النصّ، أو الكيل أو الوزن، أو القوت أو صلاحية الادخار، لكن المجتهدين نظروا واجتهدوا في استنباط عِلَّته بالطرق العقلية من المناسبة وغيرها فاستنبطوا عِلَّته، وقال كلُّ واحدٍ منهم بعليِّة ما أدى إليه اجتهادُه" (¬5). وهذا نصٌّ صريحٌ في أن تخريج المناط - عند صفي الدين الهندي - يشمل استنباط العِلَّة بأي مسلكٍ من مسالكها الاجتهادية المُعْتَبرة، كالمناسبة، أو السَّبْر والتقسيم، أو الدوران. - وعرَّفه الإسنوي بأنه: " استخراج عِلَّة معينةٍ للحُكْم ببعض الطرق المتقدِّمة كالمناسبة " (¬6). ¬

(¬1) هو أبو الثناء شمس الدين محمود بن عبدالرحمن بن أحمد الأصفهاني، كان عالماً بالتفسير والأصول والتعقليات من مؤلفاته: بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب في الأصول (ط)، وشرح مطالع الأنوار للأرموي في المنطق، وغيرها، توفي بالقاهرة سنة (749 هـ). ينظر ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (10/ 394)، طبقات الشافعية للإسنوي (1/ 172)، والأعلام للزركلي (7/ 176). (¬2) الكاشف عن المحصول: (6/ 435). (¬3) نفائس الأصول: (7/ 3089)، شرح تنقيح الفصول: (389). (¬4) نهاية الوصول: (7/ 3046). (¬5) المرجع السابق: (7/ 3047). (¬6) نهاية السول: (4/ 142).

ويعني بقوله: " ببعض الطرق المتقدمة ": مسالك العِلَّة الاجتهادية كالمناسبة - وقد ذكرها - والسَّبْر والتقسيم، والدوران. وهذا - أيضاً - نصٌّ صريحٌ في أن تخريج المناط لا يقتصر على استنباط العِلَّة بمسلك المناسبة فقط، بل يشمل كلَّ المسالك الاجتهادية المُعْتَبرة. ويتضح من خلال النظر في التعريفات السابقة لـ " تخريج المناط" أن تلك التعريفات وإن كانت مختلفةً في بعض ألفاظها إلا أنها متقاربةٌ في معانيها، فأصحاب هذا الاتجاه يعتبرون أن " تخريج المناط " هو: الاجتهاد في استنباط عِلَّة الحُكْم الذي دلَّ النصُّ أو الإجماعُ عليه دون عِلَّته، وذلك بأي مسلكٍ من مسالك العِلَّة الاجتهادية، كالمناسبة، أو السَّبْر والتقسيم، أو الدوران. الاتجاه الثاني: ذهب أصحابه إلى أن تخريج المناط إنما يُطْلَقُ على استنباط العِلَّة بمسلك المناسبة دون غيره من المسالك الاجتهادية الأخرى. وقد ذهب إلى هذا الاصطلاح: ابن الحاجب (¬1)، وابن السبكي (¬2)، والزركشي (¬3)، والمرداوي (¬4)، وابن النجار الفتوحي (¬5)، والشوكاني (¬6)، وعبدالله الشنقيطي (¬7)، ومحمد الأمين الشنقيطي (¬8). قال ابن الحاجب: " الرابع - أي: من مسالك العِلَّة -: المناسبة والإخالة، ويُسَمَّى تخريج المناط، وهو: تعيين العِلَّة بمجرد إبداء المناسبة من ذاته لا بنصٍّ ولا غيره " (¬9). ¬

(¬1) ينظر: مختصر ابن الحاجب (1/ 1084). (¬2) ينظر: جمع الجوامع (91). (¬3) ينظر: البحر المحيط (7/ 262). (¬4) ينظر: التحبير شرح التحرير (7/ 3368). (¬5) ينظر: شرح الكوكب المنير (4/ 152 - 153). (¬6) ينظر: إرشاد الفحول (2/ 625). (¬7) ينظر: نشر البنود (2/ 170). (¬8) ينظر: نثر الورود (469)، مذكرة أصول الفقه (382). (¬9) مختصر ابن الحاجب: (1/ 1084).

وقد اسْتُدْرِك على ابن الحاجب تسميته مسلك المناسبة بـ " تخريج المناط"؛ وذلك لأن المناسبة هي دليل العِلَّة، وشأن الدليل ثبوته في نفس الأمر من غير اعتبار نظر المُسْتَدِل فيه سابق الوجود عليه، أما تخريج المناط فهو فعل المُسْتَدِل (¬1). وأجيب عن ذلك: بأن المناسبة دليل العِلَّة، وتخريج المناط إقامة الدليل، وكلٌّ من الدليل وإقامته يصح أن يُنْسَب إليه الثبوت المطلوب؛ لأن الدليل يثبت المطلوب بواسطة النظر، وإقامة الدليل الذي هو النظر فيه يثبت المطلوب، فهما كالشيء الواحد، فيصح إطلاق المسلك على كلٍّ منهما (¬2). والظاهر من كلام ابن الحاجب أن المُسمَّى بتخريج المناط هو تخريج المناسبة لا المناسبة نفسها، لأنه عرَّف تخريج المناط بأنه "تعيين العِلَّة. . . الخ"، وتعيين العِلَّةً هو فعل المجتهد، أما المسلك في نفسه فهو الملائمة والموافقة بين الوصف المُعَيَّن والحُكْم (¬3). ولهذا صرَّح ابن السبكي ومن تَبِعَهُ بأن تخريج المناط هو استخراج العِلَّة بمسلك المناسبة. قال ابن السبكي: " الخامس - أي: من مسالك العِلَّة -: المناسبة والإخالة، ويُسمَّى استخراجها تخريج المناط، وهو: تعيين العِلَّة بإبداء مناسبةٍ مع الاقتران والسلامة عن القوادح " (¬4). وقد وصف المحلِّي طريقة ابن السبكي في إطلاق مُسَمَّى " تخريج المناط" على استخراج العِلَّة بمسلك المناسبة بأنها " أقعد " من طريقة ابن ¬

(¬1) ينظر: الآيات البينات على شرح المحلي على جمع الجوامع (4/ 118)، سلم الوصول للمطيعي (4/ 142)، نشر البنود (2/ 170)، نبراس العقول (276). (¬2) ينظر: الآيات البينات على شرح المحلي على جمع الجوامع (4/ 119)، نشر البنود (2/ 170)، نثر الورود (469). (¬3) ينظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239)، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (4/ 330)، حاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 273). (¬4) جمع الجوامع: (91).

تحليل اتجاهات الأصوليين والمقارنة بينها

الحاجب الذي أطلق المُسمَّى على المسلك نفسه (¬1). ووجْهُ ذلك: أن المناسبة والإخالة معنيان قائمان بالوصف المناسب - وهو الملائمة والموافقة - فلا يناسبهما التسمية بتخريج المناط، ولا التعريف بتعيين العِلَّة؛ إذ التخريج والتعيين فعلان للمُسْتَدِل (¬2). وبهذا يتضح أن أصحاب الاتجاه الثاني يعتبرون تخريج المناط بأنه: الاجتهاد في استنباط عِلَّة الحُكْم الذي دلَّ النصُّ أو الإجماعُ عليه دون عِلَّته، وذلك بمسلك المناسبة دون غيره من المسالك الاجتهادية الأخرى. تحليل اتجاهات الأصوليين والمقارنة بينها: من خلال تأمل اتجاهات الأصوليين في المسلك الذي تُسْتَنْبَط به العِلَّة في تخريج المناط تبيَّن لي الآتي: 1 - أن أصحاب الاتجاهين اتفقوا على أن تخريج المناط يختصُّ بالعِلَل المُسْتَنْبَطَة، فالعِلَّة غير مذكورةٍ في النصِّ لا صراحةً ولا إيماءً، وعلى المجتهد أن يقوم باستخراجها (¬3). 2 - أن الاختلاف بين الاتجاهين في المسلك الذي تُسْتَنْبَط به العِلَّة في تخريج المناط إنما يرجع إلى الاصطلاح، وليس له أثرٌ معنوي، فأصحاب الاتجاه الأول اصطلحوا على إطلاق مسمى " تخريج المناط " على استنباط العِلَّة بأي مسلكٍ من مسالكها الاجتهادية المُعْتَبرة، وأصحاب الاتجاه الثاني اصطلحوا على إطلاق مُسمَّى " تخريج المناط " على استنباط العِلَّة بمسلك المناسبة دون غيره من المسالك الاجتهادية الأخرى، وهذا الاختلاف الذي ¬

(¬1) ينظر: شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 173). (¬2) ينظر: حاشية زكريا الأنصاري على شرح المحلي على جمع الجوامع (3/ 353)، الآيات البينات على شرح المحلي على جمع الجوامع (4/ 121)، حاشية ابن العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 317)، سلم الوصول للمطيعي (4/ 142)، نبراس العقول (276). (¬3) ينظر: رسالة في أصول الفقه للعُكْبَري (85)، المستصفى (3/ 490)، روضة الناظر (3/ 805)، الإحكام للآمدي (3/ 380)، نهاية الوصول (7/ 3046)، الإبهاج (3/ 83)، البحر المحيط للزركشي (7/ 324)، التقرير والتحبير (3/ 245)، شرح الكوكب المنير (4/ 202).

يعود إلى الاصطلاح ليس له أثرٌ في إثبات العِلِّيَّةِ أو نفيها بمسلكٍ أو بآخر، وإذا كان الأمر كذلك فلا مشاحةَ في الاصطلاح. 3 - أن أصحاب الاتجاه الأول اعتبروا العلاقة بين الاصطلاح ومعناه، فتخريج المناط سُمِّي بذلك لأنه: استخراج ما نيط به الحُكْم من خفاء وهو العِلَّة (¬1)، وهذا المعنى يصدق على استنباط العِلَّة بأي مسلكٍ من مسالكها الاجتهادية المُعْتَبرة. أما أصحاب الاتجاه الثاني فقد أطلقوا مُسَمَّى " تخريج المناط " على استنباط العِلَّة بمسلك المناسبة فقط، وهذا يُعْتَبر اصطلاحاً أخصَّ من الأول، وهو أحد أفراد معانيه. 4 - لم أجد أحداً من الأصوليين - حسب اطلاعي - ينازع صراحةً في إطلاق مُسمَّى " تخريج المناط " على استنباط العِلَّة بالسَّبْر والتقسيم أو الدوران أو أحد المسالك الاجتهادية الأخرى. فالعِلَّة تثبت في تلك المسالك بالاستنباط كما تثبت كذلك في مسلك المناسبة ولا فرق، وغاية ما يثبت عن أصحاب الاتجاه الثاني أنهم يطلقون مُسمَّى " تخريج المناط " على استخراج العِلَّة بمسلك المناسبة، ويُصرِّحون بذلك عند تعريفهم لمسلك المناسبة والإخالة كما سبق ذكره (¬2). ولهذا فلا يَبْعُد أن يقال ذلك باعتبار أن المناسبة هي أهم مسالك العِلَّة الاجتهادية، أو يقال ذلك لأن باقي المسالك كالسَّبْر والتقسيم والدوران لا تستقل بالدلالة على العِلِّيِّة، بل لابد أن يَنْضَمَّ إليها المناسبة (¬3). وبناءً على ما تقدَّم فإن الاصطلاح الذي سأعتمده في بحثي هو إطلاق مُسمَّى " تخريج المناط " على: " الاجتهاد في استنباط عِلَّة الحُكْم الذي دلَّ ¬

(¬1) ينظر: شرح تنقيح الفصول (389)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239)، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (4/ 330)، الإبهاج (3/ 83)، البحر المحيط للزركشي (7/ 262)، شرح الكوكب المنير (4/ 152). (¬2) ينظر: (131 - 132). (¬3) ينظر: نبراس العقول (276).

النصُّ أو الاجماعُ عليه من غير تعرُّضٍ لبيان عِلِّته لا صراحةً ولا إيماءً، وذلك بأي مسلكٍ من مسالك العِلَّة الاجتهادية المُعْتَبرة، كالمناسبة أو السَّبْر والتقسيم، أو الدوران ".

المبحث الثالث وجه المناسبة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي

المبحث الثالث وجه المناسبة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي تقدَّم أن " تخريج المناط " في اللغة يعني: استخراج الموضع الذي عُلِّق عليه الشيء (¬1). وهو في المعنى الاصطلاحي غير خارجٍ عن وضع اللغة، إلا أنه يختصُّ باستخراج عِلَّة الحُكْم الذي دلَّ النصُّ أو الإجماعُ عليه من غير تعرُّضٍ لبيان عِلَّته لا صراحةً ولا إيماءً (¬2). والمناسبة في التسمية بين المعنيين ظاهرة؛ إذ إنه لمَّا كان اللفظ لم يتعرَّض لمناط الحُكْم - وهو العِلَّة - واجْتُهِد بالبحث والنظر في استخراجه، ناسب تسميته اصطلاحاً بـ " تخريج المناط "؛ لأن المجتهد استخرجَ العِلَّةَ - هنا - من خفاء (¬3). قال الزركشي: " وهو - أي: تخريج المناط - مُشْتَقٌ من الإخراج، فكأنه راجعٌ إلى أن اللفظ لم يتعرَّض للمناط بحال، فكأنه مستورٌ، أُخْرج بالبحث والنظر" (¬4). ¬

(¬1) ينظر: (127). (¬2) ينظر: (128). (¬3) ينظر: نفائس الأصول (7/ 3089)، شرح تنقيح الفصول (389)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 238)، الإبهاج (3/ 83)، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (4/ 330)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 273)، شرح الكوكب المنير (4/ 152). (¬4) البحر المحيط: (7/ 324 - 325).

الفصل الثاني حكم العمل بتخريج المناط والأدلة على اعتباره

الفصل الثاني حكم العمل بتخريج المناط والأدلة على اعتباره ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: حكم العمل بتخريج المناط. المبحث الثاني: الأدلة على اعتبار العمل بتخريج المناط.

المبحث الأول حكم العمل بتخريج المناط

المبحث الأول حكم العمل بتخريج المناط اتفق القائلون بأصل القياس على إثبات العمل بـ " تخريج المناط " - في الجملة - باعتباره نوعاً من أنواع الاجتهاد في العِلَّة، يُطْلَق على استنباط عِلَّة الحُكْم الذي دلَّ النصُّ أو الإجماعُ على حكمه، ولم يتعرَّض لبيان عِلَّته لا صراحةً ولا إيماءً، وذلك إما بمسلك المناسبة على جهة الخصوص، أو بأي مسلكٍ من مسالك العِلَّة المستنبَطة كما تقدَّم (¬1). وقد نُسِب إلى الحنفية أنهم ينكرون العمل بـ " تخريج المناط "، ونسبة ذلك إليهم غير دقيقة؛ لأن الحنفية إنما ينكرون " تخريج المناط " إذا كان بمعنى الإخالة، وهم ينفون العمل بالإخالة؛ لأنهم يعتبرون أن عِلِّية الوصف لحُكْم شرعي أمرٌ شرعي، ولابدَّ من اعتبار الشرع له بنصٍّ أو إجماع (¬2). أما إذا كان " تخريج المناط " بمعنى النظر في إثبات العِلَّة لحُكْمٍ دلَّ النصُّ أو الإجماع عليه دون عِلَّته فالحنفية يقرُّون العمل بمعناه، وإن لم يضعوا له اسماً اصطلاحياً (¬3). والخلاف في إثبات العمل بـ " تخريج المناط " إنما يجري مع نفاة القياس ومنكريه كما صرَّح بذلك الغزالي (¬4)، والآمدي (¬5)، ¬

(¬1) ينظر: (134). (¬2) ينظر: التقرير والتجير (3/ 193)، تيسير التحرير (4/ 43). (¬3) ينظر: التقرير والتحبير (3/ 193)، تيسير التحرير (4/ 43)، فواتح الرحموت (2/ 350). (¬4) ينظر: المستصفى (3/ 491). (¬5) ينظر: الإحكام (3/ 381).

والطُّوفي (¬1)، والزركشي (¬2)، وابن بدران (¬3). وذلك لأن هذا النوع من الاجتهاد في العِلَّة - أعني: تخريج المناط - تتعلَّق به الأقيسة التي يُلْحق فيها الفرع بأصلٍ لجامعٍ مُسْتَنْبَطٍ بأحد مسالك العِلَّة الاجتهادية، وهذا الأقيسة هي محلُّ الخلاف مع أكثر نفاة القياس ومنكريه (¬4). ولهذا قال الغزالي: " فهذا - أي: تخريج المناط - هو الاجتهاد الذي عَظُمَ فيه الخلاف " (¬5). وقال صفي الدين الهندي: " وهذا النوع من الاجتهاد هو القياس المختلف فيه بين الناس " (¬6). وقال الشاطبي: "وهو- أي: تخريج المناط - الاجتهاد القياسي" (¬7). ووجه بناء الخلاف في إثبات العمل بـ " تخريج المناط " على الخلاف في إثبات القياس أو نفيه هو: أن القياس الذي عَظُمَ الخلاف فيه بين العلماء إنما هو القياس الذي اسْتُنْبِطَت عِلَّتُه بأحد مسالك العِلَّة الاجتهادية كالسَّبْر والتقسيم أو المناسبة أو الدوران، وهذا النوع من القياس - كما هو ظاهر - تتعيَّن فيه العِلَّة بالاجتهاد، وهو ما أُطْلِق عليه مُسَمَّى: " الاجتهاد في تخريج المناط "، وذلك لأن عِلَّة الحُكْم الذي دلَّ النصُّ أو الإجماعُ عليه غير مذكورةٍ لا صراحةً ولا إيماءً، فيُجْتَهَد في استخراجها بأحد مسالك العِلَّة المستنبَطة (¬8). أما القياس الذي ثبتت عِلَّتُه بنصٍّ أو إجماعٍ فالعمل بمعناه مَحَلُّ وفاقٍ - ¬

(¬1) ينظر: شرح مختصر الروضة (3/ 245). (¬2) ينظر: تشنيف المسامع (3/ 284). (¬3) ينظر: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد (305). (¬4) كالظاهرية والشيعة وبعض معتزلة بغداد. ينظر: البرهان (2/ 490 - 491)، المستصفى (3/ 494)، أساس القياس (106 - 109)، المحصول (5/ 21 - 25)، الإحكام للآمدي (4/ 9)، نهاية السول (4/ 6 - 11)، البحر المحيط للزركشي (7/ 20 - 28)، شرح الكوكب المنير (4/ 201 - 202)، إرشاد الفحول (2/ 583). (¬5) المستصفى: (3/ 491). (¬6) نهاية الوصول: (7/ 3047). (¬7) الموافقات: (5/ 22). (¬8) ينظر: (128).

في الجملة- عند العلماء (¬1)، سواءً سُمِّيَ قياساً أم لا، فالأمر في ذلك يرجع إلى الاصطلاح. قال الغزالي: "ينقسم الجامع إلى معلومٍ بالنصِّ، وإلى معلومٍ بالاستنباط، فهذا لا يمنعه وضع اللغة، فإن خُصِّص بالاصطلاح فكذلك -أيضاً- لا حجر فيه. . . ولكن ينبغي أن يُعْلَمَ أن حاصل الخلاف يرجع إلى أمرٍ لفظي وإلا فَحَظُّ المعنى مُتَّفَقٌ عليه، فخرج منه: أن المُسمَّى قياساً -بالاتفاق- هو إلحاقُ فرعٍ بأصلٍ بجامعٍ مُسْتَنْبَطٍ بالفكر" (¬2). وقال ابن بدران الدمشقي: "والحقُّ أن الذين نفوا القياس لم يقولوا بإهدار كلِّ ما يُسمَّى قياساً، وإن كان منصوصاً على عِلَّته أو مقطوعاً فيه بنفي الفارق، وما كان من باب فحوى الخطاب أو لحنه على اصطلاح من يُسمِّي ذلك قياساً، بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلولاً عليه بدليل الأصل، مشمولاً به، مندرجاً تحته" (¬3). وعلى هذا: فمن أثبت القياس الذي تُسْتَنْبَطُ فيه العِلَّة بالاجتهاد أثبت العمل بـ "تخريج المناط"، ومن أنكر هذا النوع من القياس أنكر العمل بـ"تخريج المناط". ¬

(¬1) ينظر: الإحكام للآمدي (4/ 35)، الإبهاج (3/ 83)، البحر المحيط للزركشي (7/ 24 - 25)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 204)، التقرير والتحبير (3/ 242)، إرشاد الفحول (2/ 584). (¬2) أساس القياس: (109). (¬3) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد: (305).

المبحث الثاني الأدلة على اعتبار العمل بتخريج المناط

المبحث الثاني الأدلة على اعتبار العمل بتخريج المناط الأدلة على اعتبار العمل بتخريج المناط نوعان: النوع الأول: أدلةٌ إجماليةٌ تتعلَّق بإثبات مشروعية فعل المجتهد الذي هو طلب استخراج مناط الحُكْم الشرعي ليُحْكَم في محالِّه بحكمه. والنوع الثاني: أدلةٌ تفصيليةٌ تتعلَّق بإثبات حجية كلِّ مسلكٍ من مسالك تخريج المناط؛ وذلك لأن تخريج المناط ينقسم بالنظر إلى مسالكه المُعْتَبرة إلى ثلاثة أقسام: أولها: تخريج المناط بمسلك المناسبة. وثانيها: تخريج المناط بمسلك السَّبْر والتقسيم. وثالثها: تخريج المناط بمسلك الدوران. فأما الأدلة الإجمالية التي تُثْبِتُ مشروعيةَ فعل المجتهد الذي هو طلب استخراج المناط للحُكْم الشرعي ليُحْكَم في محالِّه بحكمه فهي على النحو الآتي: أولاً: إن أدلة اعتبار القياس ووجوب العمل به وَرَدَتْ مطلقةٌ لم تفرِّق بين الأحكام التي ثبتت العِلَّة فيها بنصٍّ أو إجماعٍ والأحكامِ التي لم تثبت عِلَّتُها بنصٍّ أو إجماع، فكان ذلك دليلاً على إمكان تعليل كلِّ حُكْمٍ معقول المعنى، فيدخل في ذلك تعليل الأحكام التي لم تثبت عِلَّتُها بنصٍّ أو إجماعٍ بمسلكٍ من مسالك العِلَّة المُعْتَبرة الأخرى، كالمناسبة أو السَّبْر

والتقسيم أو الدوران (¬1). ثانياً: باستقراء موارد الأحكام تبيَّن أن أغلب أحكام الشرع مبنيٌّ على التعليل؛ فالأصل في الأحكام التعليل لا التعبُّد (¬2)، و" كلُّ أصلٍ أمكن تعليل حكمه فإنه يجب تعليله " (¬3)، و" إنما تخفى علينا العِلَّة في النادر منها، فلا يؤثر ذلك لشذوذه، أو أن ذلك خفي علينا لقصور عِلْمِنَا" (¬4). وإذا كان الأصل في الأحكام التعليل لا التعبُّد جاز تعليل الحُكْم في الأصل بكلِّ دليلٍ معتبر، فيدخل في ذلك تعليل الأحكام التي لم تثبت عِلَّتها بنصٍّ أو إجماعٍ بمسلكٍ من مسالك العِلَّة المُعْتَبرة الأخرى، كالمناسبة أو السَّبْر والتقسيم أو الدوران (¬5). ثالثاً: إن المعتبر من حال الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يقيسون على أصولٍ من غير أن يقوم دليلٌ من نصٍّ أو إجماعٍ على كون تلك الأحكام معلولةً ولا على جواز القياس عليها، فدلَّ ذلك على أن الاعتبار في هذا الباب جواز تعليل كلِّ حُكْم معقولِ المعنى ولو لم يثبت تعليله بنصٍّ أو إجماع، بشرط أن يقوم دليلٌ معتبرٌ يغلِب معه ظنُّ المجتهد أن ذلك الوصف عِلَّةً لذلك الحُكْم، وقد أجمع العلماء على العمل بالظنِّ الراجح في عِلَلِ الأحكام (¬6). رابعاً: إن المعنى الذي أوجب العمل بالقياس فيما ثبتت عِلَّتُه بنصٍّ أو ¬

(¬1) ينظر: العدة (4/ 1364 - 1367)، المحصول (5/ 328 - 329)، الإبهاج (3/ 152)، نهاية السول (4/ 297)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 213 - 214)، شرح الكوكب المنير (4/ 100). (¬2) ينظر: العدة (4/ 1367)، المستصفى (3/ 566 - 567)، كشف الأسرار (3/ 294)، البحر المحيط للزركشي (5/ 129)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 411)، التلويح على التوضيح (2/ 64)، شرح الكوكب المنير (4/ 150 - 152)، فواتح الرحموت (2/ 345). (¬3) الإحكام للآمدي: (3/ 250). (¬4) التمهيد للكلوذاني: (3/ 440). (¬5) ينظر: المراجع السابقة. (¬6) ينظر: المحصول (5/ 56 - 61)، المستصفى (3/ 674 - 675)، الإحكام للآمدي (4/ 55 - 56)، شرح العضد على ابن الحاجب (2/ 238)، تيسير التحرير (4/ 49)، شرح الكوكب المنير (4/ 152)، فواتح الرحموت (2/ 366 - 368).

إجماعٍ هو معرفة عِلَّة الأصل، وهذا المعنى نفسه موجودٌ فيما ثبتت عِلَّتُه بمسلكٍ من المسالك الاجتهادية المُعْتَبرة، وقد قام الدليل على صحتها وسلامتها مما يفسدها، فوجب أن يثبت الحُكْم بها (¬1). وأما الأدلة التفصيلية التي تثبت حجية كلِّ مسلكٍ من مسالك تخريج المناط فسيأتي بحثها في مواضعها من الفصل الثالث (¬2). ¬

(¬1) ينظر: شرح اللمع للشيرازي (2/ 793). (¬2) ينظر: (154، 166، 176 وما بعدها).

الفصل الثالث مسالك تخريج المناط

الفصل الثالث مسالك تخريج المناط ويشتمل على ثلاثة مباحث المبحث الأول: تخريج المناط بمسلك المناسبة. المبحث الثاني: تخريج المناط بمسلك السَّبْر والتقسيم. المبحث الثالث: تخريج المناط بمسلك الدوران.

المبحث الأول تخريج المناط بمسلك المناسبة ويشتمل على أربعة مطالب المطلب الأول: تعريف المناسبة لغةً واصطلاحاً. المطلب الثاني: أقسام المناسب بحسب اعتبار شهادة الشرع له بالملائمة وعدمها. المطلب الثالث: حُجِّية مسلك المناسبة. المطلب الرابع: صورة تخريج المناط بمسك المناسبة.

المبحث الأول تخريج المناط بمسلك المناسبة

المبحث الأول تخريج المناط بمسلك المناسبة تقدَّم أن تخريج المناط هو: استنباط عِلَّة الحُكْم الذي دلَّ النصُّ أو الإجماعُ عليه من غير تعرُّضٍ لبيان عِلَّته لا صراحةً ولا إيماءً (¬1). وهذا النوع من الاجتهاد في العِلَّة له طرقه المُعْتَبرة التي أطلق عليها الأصوليون مُسمَّى: " مسالك العِلَّة الاجتهادية " أو " مسالك العِلَّة المستنبَطة "، وأهم تلك الطرق: تخريج المناط بمسلك المناسبة الذي يُعْتَبر أدق مسالك العِلَّة الاجتهادية وأصعبها. قال الزركشي: " وهي - أي: المناسبة - عمدة كتاب القياس وغمرته، ومحل غموضه ووضوحه " (¬2). وإذا كان تخريج المناط بالمعنى الذي تقدَّم، فتخريج المناط بمسلك المناسبة يعني: استنباط عِلَّة الحُكْم الذي دلَّ النصُّ أو الإجماعُ عليه من غير تعرُّضٍ لبيان عِلَّته لا صراحةً ولا إيماءً وذلك بمسلك المناسبة. وتوضيح ذلك يستلزم تعريف المناسبة لغةً واصطلاحاً، وبيان أقسام الوصف المناسب، والكلام عن حجية مسلك المناسبة والأدلة على اعتباره، وذلك من خلال المطالب الآتية: ¬

(¬1) ينظر: (128). (¬2) البحر المحيط: (5/ 206).

المطلب الأول: تعريف المناسبة لغة واصطلاحا.

المطلب الأول: تعريف المناسبة لغةً واصطلاحاً. المناسبة في اللغة (¬1): المُشَاكَلَةُ. يقال: بين الشيئين مُناسَبَةٌ وتناسبٌ، أي: مُشَاكلَةٌ وتَشَاكلَّ. وكذا قولهم: لا نِسبةَ بينهما، وبينهما نِسْبَةٌ قريبةٌ. وتأتي المناسبة بمعنى: الملاءمة. يقال: هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة، أي: تلائم جمعها في سلكٍ واحد. أما المناسبة في الاصطلاح فهي متوقفةٌ على معرفة المناسب؛ لأنها مشتقةٌ منه، وحينئذٍ لابدَّ من تعريف المناسب حتى يتبيَّن المراد بالمناسبة (¬2). والمناسب اصطلاحاً - كما عرَّفه الآمدي - هو: " وصفٌ ظاهرٌ منضبطٌ يلزم من ترتيب الحُكْم على وَفْقِهِ حصولُ ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع ذلك الحُكْم " (¬3). فقوله: (وصف) جنسٌ في التعريف يشمل سائر الأوصاف، سواءً كان ظاهراً أو خفياً، وسواءً كان منضبطاً أو مضطرباً، وسواءً ترتَّب على شرع الحُكْم عند حصوله جلبُ مصلحةٍ أو دفعُ مضرَّةٍ أو لم يكن كذلك. وقوله: (ظاهر) قيدٌ في التعريف احتُرِزَ به عن الوصف الخفي، مثل وصف العَمْدِية، فإنه لا يُعْتَبر مناسباً لوجوب القصاص؛ لأنه وصفٌ خفي، ¬

(¬1) ينظر: الصحاح (1/ 224)، لسان العرب (1/ 756)، تاج العروس (4/ 265) مادة: " ن س ب ". (¬2) ينظر: نهاية السول (4/ 76). (¬3) الإحكام: (3/ 339). وينظر في تعريف المناسب عند الأصوليين: المحصول (5/ 157 - 158)، نهاية الوصول (8/ 3287 - 3291)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 382 - 385)، شرح تنقيح الفصول (391)، نهاية السول (4/ 76 - 80)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239)، البحر المحيط للزركشي (5/ 206 - 207)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 274 - 275)، شرح الكوكب المنير (4/ 153 - 155)، فواتح الرحموت (2/ 352)، إرشاد الفحول (2/ 896 - 898).

فالقصد وعدمه أمرٌ باطنٌ لا يُدْرَكُ شيءٌ منه، فنيط القصاص بما يلازم العمدية من أفعالٍ مخصوصةٍ تقضي في العرف عليها بكونها عمداً كاستعمال الجارح في القتل (¬1). وقوله: (منضبط) أي: لا يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأمكنة والأحوال، وهو قيدٌ في التعريف احتُرِزَ به عن الوصف المضطرب كالمشقة، فلا تعتبر وصفاً مناسباً لقصر الصلاة في السفر؛ لأنها ذات مراتبٍ تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأمكنة والأحوال، فنيط الترخيص بوصفٍ منضبطٍ وهو السفر الذي يُعْتَبر مَظِنَّة المشقة (¬2). وقوله: (يلزم من ترتيب الحُكْم على وفقه ... إلى آخره) قيدٌ في التعريف احتُرِزَ به عن الوصف الطردي كالطول والقِصَر والسواد والبياض؛ لأنها ليست أوصافاً مناسبةً يحصل من ترتيب الحُكْم عليها ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع ذلك الحُكْم (¬3). واحتُرِزَ به - أيضاً - عن الوصف الشبهي (¬4)؛ لأنه لا يلزم من ترتيب ¬

(¬1) ينظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239)، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (4/ 331)، الردود والنقود للبابرتي (2/ 538)، حاشية التفتازاني على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239)، سلم الوصول للمطيعي (4/ 77). (¬2) ينظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239)، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (4/ 331)، الردود والنقود للبابرتي (2/ 538)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 276)، حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 319 - 320)، سلم الوصول للمطيعي (4/ 77). (¬3) ينظر: (118 - 119). (¬4) الوصف الشبهي هو: الوصف الذي لم تظهر مناسبته بعد البحث التام، ولكن عُهِدَ من الشارع الالتفات إليه في بعض الأحكام. ومثاله: إيجاب غسل النجاسة بالماء دون غيره عند الشافعي؛ لأن الطهارة لا تجوز بغير الماء كما في طهارة الحدث، فهنا لا مناسبة بين وصف الطهارة وبين وجوب استعمال الماء بذاته في ذلك، ولكن عُهِدَ من الشارع اعتبار الطهارة بالماء في الوضوء ومسِّ المصحف والطواف والصلاة، فهذا يوهم اشتمال الطهارة على المناسبة بينها وبين الحكم بوجوب غسل النجاسة بالماء دون غيره. ينظر: المستصفى (2/ 311)، الإحكام للآمدي (3/ 371 - 372)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 244)، البحر المحيط للزركشي (5/ 231)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 286 - 287)، تيسير التحرير (4/ 53).

الحُكْم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع ذلك الحُكْم، وإذا كان كذلك فهو غير مناسبٍ للحُكْم بحسب ما يظهر لنا، وإلا فالواقع لابدَّ في ترتيب الحكم على الوصف الشبهي من حصول ما يصلح أن يكون مقصوداً للشارع من شرع الحُكْم، وإن لم يظهر لنا كما ظهر الوصف المناسب (¬1). وقوله: (ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع الحُكْم) المراد بالمقصود من شرع الحُكْم: تحصيل المصلحة، أو دفع المضرَّة، أو مجموع الأمرين (¬2). وعرَّفه ابن الحاجب بتعريفٍ قريبٍ من تعريف الآمدي، حيث قال: ... " المناسب: وصفٌ ظاهرٌ منضبطٌ يحصل عقلاً من ترتيب الحُكْم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً من حصول مصلحةٍ أو دفع مفسدة " (¬3). والتعريفان - كما هو ظاهرٌ - متقاربان في المعنى، إلا أن الآمدي ذكر في تعريفه عبارة: " ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع الحُكْم "، أما ابن الحاجب فقال: " ما يصلح أن يكون مقصوداً من حصول مصلحةٍ أو دفع مفسدة "، ولم يُثْبِت عبارةَ الآمدي: " من شرع الحُكْم ". وقد فسَّر العضدُ قولَ ابن الحاجب: " ما يصلح أن يكون مقصوداً " بما يكون مقصوداً عند العقلاء من حصول مصلحةٍ أو دفع مفسدة (¬4). وذكر السعد التفتازاني (¬5) أن تفسير العضد لهذه العبارة بما يكون مقصوداً للعقلاء من حصول مصلحةٍ أو دفع مفسدةٍ مبنيٌّ على أن تعريف الآمدي مشتملٌ على الدَّوْر؛ لأن المقصود من شرع الحُكْم إنما يُعْرَف بكونه مناسباً، فلو عُرِف كونه مناسباً بذلك كان دَوْرَاً (¬6). وقد أجيب عن هذا الإيراد بأن: تصور مفهوم المقصود من شرع الحُكْم ¬

(¬1) ينظر: حاشية التفتازاني على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239)، سلم الوصول للمطيعي (4/ 77)، نبراس العقول (1/ 269). (¬2) ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 339 - 340). (¬3) مختصر ابن الحاجب: (2/ 1085). (¬4) ينظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239). (¬5) هو: سعد الدين مسعود بن عمر بن عبدالله التفتازاني، كان عالماً بالعربية والبيان والمنطق والأصول، من مؤلفاته: التلويح إلى كشف غوامض التنقيح (ط) في الأصول وحاشية على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (ط) في الأصول، وتهذيب المنطق (ط)، وغيرها، توفي بسرخس سنة (793 هـ). ينظر في ترجمته: الدرر لكامنة لابن حجر (4/ 350)، البدر الطالع للشوكاني (2/ 303)، الأعلام للزركلي (7/ 219). (¬6) ينظر: حاشية التفتازاني على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239).

لا يتوقف على تصور المناسب، والمتوقف إنما هو معرفة كون هذا الشيء المُعَيَّن مقصوداً من شرع حُكْمٍ مُعَيَّنٍ على المناسب له بخصوصه (¬1). الاعتراضات الواردة على التعريف والجواب عنها: 1 - اعترض الإسنوي على التعريف: بأن المناسب قد يكون ظاهراً منضبطاً وقد لا يكون، بل يكون خفياً أو مضطرباً، والتعريف لا ينطبق إلا على الأول، فيكون غير جامع (¬2). والجواب: أن هذا تعريفٌ للمناسب الذي يصلح أن يكون عِلَّةً بنفسه؛ لأن المناسب إذا كان ظاهراً منضبطاً كان العِلَّة بنفسه، وإن كان خفياً أو مضطرباً اعتُبِر للعِلِّية وصفٌ آخر ظاهرٌ منضبطٌ يلازم ذلك الوصف ملازمةً عقليةً أو عاديةً أو عرفية، ويُعبَّرُ عن هذا الوصف الملازم بـ " المَظِنَّة " (¬3). وهذا الجواب مبنيٌّ على تسليم أن المناسب ينقسم إلى القسمين المذكورين، والظاهر أن المنقسم إليهما هو مُطْلَق الوصف، أما المناسب فلا يكون إلا ظاهراً منضبطاً، فعلى ذلك يكون الوصف المناسب في القسم الثاني هو الوصف الملازم المُعَبَّرُ عنه بالمَظِنَّة كالسفر دون المشقة، وإن كانت مناسبته باعتبار ما يُظَنُّ فيه من المشقة فلا يَرِدُ هذا الإشكال من أصله؛ لأن الكلام - هنا - في المناسب الذي يصح أن يكون عِلَّةً، لا في المناسب مطلقاً (¬4). 2 - اعترض صفي الدين الهندي على التعريف بأنه: اعْتَبَرَ في ماهية المناسبةِ اقترانَ الحُكْم بالوصف، وهو خارجٌ عنها، بدليل أن يقال: المناسبة دليل العِلِّية، ولو كان الاقتران داخلاً في الماهية لما صح (¬5). ¬

(¬1) ينظر: نبراس العقول (270). (¬2) ينظر: نهاية السول (4/ 78). (¬3) ينظر: الآيات البينات على شرح المحلي على جمع الجوامع (4/ 90)، حاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 275 - 276)، حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 319)، سلم الوصول للمطيعي (4/ 78). (¬4) ينظر: تقريرات الشربيني على حاشية البناني (2/ 319)، نبراس العقول (1/ 271). (¬5) ينظر: نهاية الوصول (8/ 3290).

والجواب: أن الاقتران المُعْتَبَر دليلاً في الإيماء هو اقتران وصفٍ ملفوظٍ أو مقدَّرٍ مع الحُكْم، والترتيب المأخوذ في التعريف معناه أن الحُكْم شُرِعَ لأجله من غير لزوم أن يكون مذكوراً معه أو مقدَّراً في نظم الكلام، ولو عمَّمْنا في الوصف المقترن في الإيماء بأن جعلناه شاملاً للمُسْتَنْبَطِ لزم أن يكون الإيماء في كلِّ صور العِلَّة (¬1). 3 - اعترض صفي الدين الهندي - أيضاً - على التعريف بأنه: غير جامع؛ لأنه لا يشمل الحكمةَ الظاهرةَ المنضبطةَ؛ فإنه يجوز التعليل بها عند صاحب هذا الحدِّ - أي: الآمدي - وهي مناسب، والوصفية غير متحقِّقةٍ فيها (¬2). والجواب: أن الحكمة تُطْلَق بإطلاقين، تُطْلَق أوَّلاً على ما كانت واسطةً في ترتيب الحُكْم على الوصف كالمشقة، وتطلق ثانياً على المقصود للشارع من شرع الحُكْم كالتخفيف، والظاهر أن مرادهم بالحكمة التي يجوز التعليل بها هي الحكمة بالإطلاق الأول، وهي ما كانت ظاهرةً منضبطة، وحينئذٍ لا يُسَلَّم أنه لا يصدق عليها التعريف (¬3). ومن خلال ما سبق يتقرر أن المناسب هو: " وصفٌ ظاهرٌ منضبطٌ يلزم من ترتيب الحُكْم على وَفْقِهِ حصولُ ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع ذلك الحُكْم". ومثاله: الإسكار، فإنه وصفٌ ظاهرٌ لاخفاء فيه، منضبطٌ لا اضطراب فيه، يحصل من ترتيب الحُكْم على وَفْقِهِ جلبُ مصلحةٍ هي حفظ العقول، أو دفعُ مفسدةٍ هي زوال العقول (¬4). وإذا كان المناسب بهذا المعنى فالمناسبة - باعتبارها دليلاً على العِلِّية - ¬

(¬1) ينظر: نبراس العقول (1/ 272). (¬2) ينظر: نهاية الوصول (8/ 3291). (¬3) ينظر: نبراس العقول (1/ 272). (¬4) ينظر: المستصفى (3/ 620)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239)، الردود والنقود للبابرتي (2/ 537)، البحر المحيط للزركشي (5/ 209)، شرح الكوكب المنير (4/ 155).

المطلب الثاني: أقسام المناسب بحسب اعتبار شهادة الشرع له بالملائمة وعدمها.

هي: " كون الوصف ظاهراً منضبطاً يلزم من ترتيب الحُكْم على وَفْقِهِ حصولُ ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع ذلك الحُكْم". وهذه المناسبة إذا ثبتت فإنها تُعْتَبَرُ دليلاً على كون ذلك الوصف عِلَّةً لذلك الحُكْم كما سيأتي بحثه (¬1)، ويُسمَّى هذا الدليل: " مسلك المناسبة "، وقد يُعبَّر عنها بالإخالة؛ لأنه بها يُخَالُ - أي: يُظَنُّ - أن الوصف عِلَّةٌ للحُكْم، كما يُعبَّرُ عنها- أيضاً - بالمصلحة، وبالاستدلال، وبرعاية المقاصد (¬2). المطلب الثاني: أقسام المناسب بحسب اعتبار شهادة الشرع له بالملائمة وعدمها. يُقَسِّم الأصوليون المناسب إلى أقسامٍ مختلفةٍ بحسب اعتباراتٍ عِدَّة (¬3)، وأهم هذه التقسيمات ما كان بحسب اعتبار شهادة الشرع له بالملاءمة وعدمه؛ لأن هذا التقسيم يتبيَّن به ما يصلح للتعليل من الأوصاف باتفاق، وما هو مردودٌ باتفاق، وما هو مختلَفٌ فيه. ¬

(¬1) ينظر: (154 - 160). (¬2) ينظر: شفاء الغليل (143)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239)، البحر المحيط للزركشي (5/ 206)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 273)، شرح الكوكب المنير (4/ 152)، إرشاد الفحول (2/ 896). (¬3) قسَّم الأصوليون المناسب باعتبار ذات المناسبة إلى: حقيقي وإقناعي، والحقيقي إلى: دنيوي وأخروي، والحقيقي الدنيوي إلى: ضروري، وحاجي، وتحسيني. وقسَّموا المناسب باعتبار مراتب إفضائه إلى المقصود من شرع الحكم إلى: ما يكون حصول المقصود منه يقيناً، أو ظناً، أو يحتمل على السواء، أو يكون نفي الحصول أرجح، أو يكون فائتاً بالكلية. وقسَّموا المناسب باعتبار شهادة الشرع له بالملاءمة وعدمه إلى: ما عُلِم من الشارع اعتباره، وما عُلِم من الشارع إلغاؤه، وما لم يُعْلَم من الشارع إلغاؤه ولا اعتباره. وللأصوليين طرقٌ مختلفةٌ في ترتيب هذه الأقسام وتسمياتها تختلف باختلاف جهات النظر فيها. ينظر: المستصفى (3/ 620 - 623)، المحصول (5/ 159 - 167)، الإحكام للآمدي (3/ 340 - 356)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 389 - 394)، شرح تنقيح الفصول (303 - 306)، نهاية السول (4/ 80 - 103)، بيان المختصر للأصفهاني (3/ 114 - 130)، البحر المحيط للزركشي (5/ 208 - 220)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 276 - 285)، شرح الكوكب المنير (4/ 159 - 177)، فواتح الرحموت (2/ 311 - 313)، إرشاد الفحول (2/ 900 - 908).

وينقسم المناسب باعتبار شهادة الشرع له بالملائمة وعدمها إلى ثلاثة أقسام (¬1): القسم الأول: ما عُلِمَ اعتبار الشرع له. والمراد بالاعتبار: إيراد الحكم على وفق الوصف، لا التنصيص عليه، ولا الإيماء إليه، ولا ثبوته بالإجماع، وإلا لم تكن العلة مستفادة من طريق المناسبة (¬2). ويُسمَّى هذا الوصف بـ: " المناسب الملائم "، وله أربعة أحوال (¬3): الحالة الأولى: أن يعتبر نوع الوصف في نوع الحكم، كقياس القتل بالمثقَّل على القتل بالجارح في وجوب القصاص، بجامع كونه قتلاً عمداً عدواناً، فإنه قد عُرِف تأثير خصوص كونه قتلاً عمداً في خصوص الحكم، وهو وجوب القصاص في النفس في القتل بالمحدَّد. الحالة الثانية: أن يُعتَبر نوع الوصف في جنس الحكم، كقياس تقديم الإخوة لأبوين على الإخوة لأب في النكاح على تقديمهم في الإرث، فإن الإخوة من الأب والأم نوعٌ واحدٌ في الصورتين، ولم يُعرَف تأثيره في التقديم في ولاية النكاح، ولكن عُرِف تأثيره في جنسه، وهو التقدم عليهم، فيما ثبت لكل واحدٍ منهم عند عدم الأمر، كما في الإرث. الحالة الثالثة: أن يُعتَبر جنس الوصف في نوع الحكم، كقياس إسقاط القضاء عن الحائض، على إسقاط قضاء الركعتين الساقطتين عن المسافر، ¬

(¬1) ينظر: المحصول (5/ 163 - 166)، الإحكام للآمدي (3/ 353 - 356)، شرح تنقيح الفصول (305 - 306)، نهاية السول (4/ 91 - 96)، البحر المحيط للزركشي (5/ 213 - 216)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 282 - 285)، شرح الكوكب المنير (4/ 173 - 177). (¬2) ينظر: شفاء الغليل (189)، نهاية السول (4/ 93 - 103)، البحر المحيط للزركشي (5/ 214)، إرشاد الفحول (2/ 904)، نبراس العقول (1/ 313). (¬3) ينظر: المحصول (5/ 163 - 166)، الإحكام للآمدي (3/ 353 - 356)، شرح تنقيح الفصول (305 - 306)، نهاية السول (4/ 91 - 96)، البحر المحيط للزركشي (5/ 214 - 215)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 282 - 285)، شرح الكوكب المنير (4/ 173 - 177).

بتعليل المشقة، والمشقة جنس، وإسقاط قضاء الصلاة نوعٌ واحد، ويُستعمَل على صنفين، إسقاط قضاء الكل، وإسقاط قضاء البعض. الحالة الرابعة: اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم، وذلك كتعليل كون حدِّ الشرب ثمانين بأنه مَظِنَّة القذف؛ لكونه مَظِنَّة الافتراء، فوجب أن يُقام مقامه قياساً على الخلوة فإنها لما كانت مَظِنَّة الوطء أُقيمت مقامه. القسم الثاني: ما عُلِمَ إلغاء الشرع له. والمقصود بالإلغاء: إيراد الأحكام على عَكْسِه (¬1). ويُسمَّى هذا الوصف بـ: " المناسب المُلْغَى "، وفي تسميته بالمناسب تجوُّز؛ لأن المناسبة - هنا - متوهَمة، وقد شهد الشرع ببطلانها، فيُعَدُّ الوصفُ ساقطَ الاعتبار، ولا يصح تعليل الأحكام به (¬2). ومثاله: ما أفتى به يحيى الليثي (¬3) أحدَ حكامِ الأندلس عندما سُئِل عن الكفارة المترتِّبة على إفطاره في نهار رمضان بالجماع عَمْداً، فأفتاه بوجوب صوم شهرين متتابعين، فلما أُنِكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبةٍ مع اتساع مالِهِ قال: لو أمرته بذلك لسهل عليه واستحقر إعتاق رقبةٍ في جنب قضاء شهوته، فكانت المصلحة في إيجاب الصوم لينزجر به (¬4). فهذا الوصف الذي علَّلَ به الليثي فتواه وصفٌ ملغي؛ لأن الشارع لم يعتبره، حيث لم يفرِّق في الحُكْم بين مَلِكٍ وغيره، بل أوجب الكفارة مُرَتَّبَةً، فذكر العِتْقَ أَوَّلاً ثم الصيام ثانياً، فيكون تقديم الصوم على العِتْقِ على خلاف ما اعتبره الشارع، فيكون ساقطَ الاعتبار. ¬

(¬1) ينظر: نهاية السول (4/ 91)، نبراس العقول (1/ 298). (¬2) ينظر: المحصول (5/ 165)، الإحكام للآمدي (3/ 357)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 242)، نهاية السول (4/ 91)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 284)، شرح الكوكب المنير (4/ 179). (¬3) هو: يحيى بن يحيى بن كثير بن وِسْلاس الليثي البربري المصمودي الأندلسي المالكي، عالم الأندلس وفقيهها في عصره، وصاحب الدرجة العليا في الحديث، توفي سنة (367 هـ). ينظر في ترجمته: الديباج المذهب (2/ 357 - 358)، شجرة النور الزكية (63). (¬4) ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 357)، نهاية السول (4/ 92 - 93)، بيان المختصر للأصفهاني (3/ 130)، شرح المحلي على جمع الجوامع (1/ 284)، شرح الكوكب المنير (4/ 180).

القسم الثالث: ما لم يُعْلَم من الشرع إلغاؤه ولا اعتباره. والمراد بذلك: أن الوصف لم يشهد له دليلٌ معينٌ بالإلغاء أو الاعتبار، وهو- أي: الوصف - ملائمٌ لتصرفات الشارع في الجملة (¬1). ويُسمَّى هذا الوصف بـ: "المناسب المرسل" (¬2). وهو دليلٌ مستقلٌّ خارجٌ عن قياس العِلَّة؛ لأن القياس لابدَّ له من أصلٍ معينٍ يشهد له الشارع بالإلغاء أو الاعتبار، بخلاف المصلحة المرسلة فإنها لا ترجع إلى أصلٍ معيَّنٍ ولكنها ترجع إلى أصلٍ كليٍّ عُلِمت ملائمته لتصرفات الشرع في الجملة (¬3). ومن أمثلته: اتخاذ السجون، وضرب النقود، وتدوين الدواوين، وتسجيل العقود، وتشكيل الوزارات التي ترعى مصالح المسلمين (¬4). وبهذا التقسيم للمناسب يتبين أن ما عُلِمَ من الشارع اعتباره فهو مقبولٌ ويصح التعليل به، وما عُلِمَ من الشارع إلغاؤه فهو مردودٌ ولا يصح التعليل به، وما لم يشهد له دليلٌ معينٌ بالإلغاء أو الاعتبار فهو من قبيل "المصالح المرسلة "، وسيأتي البحث في حجيته (¬5). وهذا التقسيم للمناسب إنما هو بحسب اعتبار الشارع له وعدمه، وإلا فإن أقسام المناسب بحسب درجاته لا تكاد تنحصر. قال الغزالي: " ولا يمكن ضبط درجات المناسبة أصلاً، بل لكلِّ مسألةٍ ذوقٌ آخر ينبغي أن ينظر فيه المجتهد " (¬6). ¬

(¬1) ينظر: المستصفى (3/ 633)، المحصول (5/ 167)، الإحكام للآمدي (3/ 357)، شرح تنقيح الفصول (305 - 306)، البحر المحيط للزركشي (5/ 215 - 216)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 284)، إرشاد الفحول (2/ 906 - 907). (¬2) ينظر: المراجع السابقة. (¬3) ينظر: شرح الكوكب المنير (4/ 170) (¬4) ينظر في أمثلة المصلحة المرسلة: الاعتصام للشاطبي (612 - 625)، نشر البنود (2/ 190 - 191)، المصالح المرسلة للأمين الشنقيطي (36). (¬5) ينظر: (377 - 380). (¬6) المستصفى: (3/ 631 - 632).

المطلب الثالث: حجية مسلك المناسبة.

والأمر في ذلك يرجع إلى أنَّ من أجناس المناسب ما هو بعيد، ومنها ما هو أبعد، كما أنَّ منها القريب، ومنها ما هو أقرب، ومنها ما هو دون هذا وذاك، ولأجل ذلك تتفاوت درجات الظنِّ بحسب تفاوتها في القرب والبعد. قال الغزالي: " للجنسية درجاتٌ متفاوتةٌ في القرب والبعد لا تنحصر، فلأجل ذلك تتفاوت درجات الظنّ، والأعلى مقدَّمٌ على الأسفل، والأقرب مقدَّمٌ على الأبعد في الجنسية، ولكلِّ مسألةٍ ذوقٌ مُفْرَدٌ ينظر فيه المجتهد، ومن حاول حصر هذه الأجناس في عددٍ وضبطٍ فقد كلَّفَ نفسه شططاً لا تتسع له قوة البشر" (¬1). المطلب الثالث: حُجِّية مسلك المناسبة. إذا ورد حُكْمٌ شرعي، ولم تثبت عِلَّتُه بنصٍّ أو إيماءٍ أو إجماعٍ، وغلب على ظنِّ المجتهد وجودُ وصفٍ مناسبٍ يحصل من ترتيب الحُكْم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً من جلب مصلحةٍ أو دفع مضرَّة، ولم يوجد غيره من الأوصاف الصالحة للعِلِّية: فهل تعتبر المناسبة - في هذه الحالة - دليلاً على إثبات كون ذلك الوصف عِلَّةً لذلك الحُكْم؟ ذهب جمهور الأصوليين إلى أن المناسبة تدلُّ على عِلِّية الوصف المناسب، وأنه يجب العمل بها (¬2)، واستدلوا على ذلك بما يأتي: أولاً: إنَّ الله تعالى شَرَعَ الأحكامَ لمصالح العباد تفضلاً وإحساناً ¬

(¬1) المرجع السابق: (3/ 659). (¬2) ينظر: البرهان (2/ 802)، المستصفى (3/ 620)، المحصول (5/ 157)، الإحكام للآمدي (3/ 357)، شرح تنقيح الفصول (303)، نهاية السول (4/ 91)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب ... (2/ 242)، البحر المحيط للزركشي (5/ 207 - 208)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 272 - 273)، شرح الكوكب المنير (4/ 152)، إرشاد الفحول (2/ 898 - 899).

منه عزَّ وجلّ، وقد ثبت ذلك بأدلةٍ منها (¬1): 1 - الاستقراء، فمن استقرأ أحكامَ الشرع وجدها مقرونةً بتحصيل مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم. 2 - الإجماع، فأئمة الفقه مجمعون على أن أحكام الشرع لا تخلو عن حكمةٍ تعود على العباد بتحصيل المصالح ودفع المفاسد عنهم. 3 - المعقول، وهو أن العبث سَفَه، والسَّفَهُ صفةُ نقصٍ، والنقص على الله تعالى مُحَال، فثبت أنه لابدَّ من مصلحة، وتلك المصلحة يمتنع عودها إلى الله تعالى بالإجماع، فلابد من عودها إلى العبد، فثبت أنه تعالى شَرعَ الأحكامَ لمصالح العباد. وإذا ثبت أن الله شرع الأحكامَ لمصالح العباد فالمناسب يحصل من ترتيب الحُكْم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً من جلب مصلحةٍ أو دفع مفسدة، وفي إبطال العمل بالمناسب الذي شهد له الشرع بالاعتبار مناقضةٌ لمقصود الشارع. ثانياً: إن المناسبة تفيد حصول الظنِّ الغالب على أن ذلك الوصف المناسب عِلَّةً لذلك الحُكْم، والظنُّ يجب العمل به، فثبت أن المناسبة دليلٌ يفيد العِلِّية. قال إمام الحرمين: " وإذا ثبت حُكْمٌ في أصل، وكان يلوح في سبيل الظنِّ استنادُ ذلك إلى أمر، ولم يناقض ذلك الأمرَ شيءٌ، فهذا هو الضبط الذي لا يُفْرَض عليه مزيد، فإذا أشعرَ الحُكْمُ في ظنِّ الناظر بمقتضىً استناداً إليه فذلك المعنى هو المظنون عَلَمَاً وعِلَّةً لاقتضاء الحكم، فإذا ظهر هذا وتبيَّن أن الظنَّ كافٍ، وتوقُّعَ الخطأ غيرُ قادحٍ، ولا مانعٍ من تعليق الحُكْم، كان ذلك كافياً بالغاً " (¬2). ¬

(¬1) ينظر: المحصول (5/ 172 - 175)، الإحكام للآمدي (3/ 357 - 359)، نهاية السول (4/ 97 - 98)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 238)، البحر المحيط للزركشي (5/ 207 - 208)، إرشاد الفحول (2/ 898 - 899 ... ). (¬2) البرهان: (2/ 804).

وقال الإسنوي: " وحينئذٍ فحيث ثبت حُكْمٌ في صورةٍ، وهناك وصفٌ مناسبٌ له متضمِّنٌ لمصلحة العبد، ولم يوجد غيره من الأوصاف الصالحة للعِلِّية، غلب على الظنِّ أنه عِلَّةً له؛ لكون الأصلِ عدمُ غيره، وإذا ثبت أنه عِلَّةً ثبت أن المناسبة تفيد العِلِّية " (¬1). ثالثاً: إجماع الصحابة على العمل بمعنى المناسبة، فقد كانوا يُلْحِقون غيرَ المنصوص بالمنصوص إذا غلب على ظنِّهم أنه يضاهيه لمعنىً أو يشبهه. قال إمام الحرمين: " كلُّ حُكْمٍ أَشْعَرَ بعِلَّةٍ ومقتضى، ولم يدرأه أصلٌ في الشرع، فهو الذي يُقْضَى بكونه معتبر النظر، فإن الشارع ما أشار إلى جميع العِلَل، واستنبط نُظَّار الصحابة رضي الله عنهم، وكانوا يتلقون نظرهم مما ذكرتُه قطعاً " (¬2). وبهذه الأدلة يتقرر عند جمهور الأصوليين أن الحُكْم الشرعي إذا ثبت في أصلٍ، ولم تثبت عِلَّتُه بنصٍّ أو إيماءٍ أو إجماعٍ، وغلب على ظنِّ المجتهد وجودُ وصفٍ مناسبٍ يحصل من ترتيب الحُكْم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً من جلب مصلحةٍ أو دفع مفسدة، ولم يوجد غيرُه من الأوصاف الصالحة للعِلِّية، فإن المناسبة تعتبر في هذه الحالة دليلاً على إثبات كون ذلك الوصف عِلَّةً لذلك الحُكْم. وذهب الحنفية إلى أن المناسبة لا تكفي في إثبات كون الوصف عِلَّةً، بل لابد من إظهار التأثير بالنصِّ أو الإجماع (¬3). ومقصودهم بالتأثير: أن يثبت بنصٍّ أو إجماعٍ اعتبارُ عين الوصف أو جنسه في عين الحُكْم أو جنسه (¬4). واستدلوا على ذلك: بأن الإخالة يرجع حاصلُها إلى ما يقع في النفس، ¬

(¬1) نهاية السول: (4/ 98). (¬2) البرهان: (2/ 804 - 805). (¬3) ينظر: أصول السرخسي (2/ 177)، التقرير والتحبير (3/ 159)، شرح التلويح على التوضيح للتفتازاني (2/ 158)، فواتح الرحموت (2/ 352 - 353). (¬4) ينظر: التوضيح شرح التنقيح (2/ 153 - 154)، التقرير والتحبير (3/ 159)، فواتح الرحموت (2/ 352).

ويشهد له القلب، وتطمئن النفس إليه، وهذا أمرٌ باطنٌ لا يمكن إثباته على الخصم، فإنه إذا قال: غلب على ظني هذا، فللخصم أن يقول: لم يغلب على ظني، فَتَحَكُّمُ القلبِ إنما يجوز عند فقد الأدلة الظاهرة، وعند تصادم الأدلة وانقسام مسالكها؛ للضرورة الداعية إليه (¬1). وأجيب عن ذلك: بأن الإخالة لا يقصد بها مجرد الظنّ، بل نقصد بها معنىً معقولاً ظاهراً يمكن إثباته على الجاحد بتبيين معنى المناسبة على وجهٍ مضبوط، فإذا أَبْدَاهُ المعلِّلُ فلا يُلْتَفَتُ إلى جحده، ولا يَلْزَمُ المُسْتَدِل إلا ذلك (¬2). المقارنة بين مذهب الجمهور ومذهب الحنفية: ذهب جمهور الأصوليين إلى أن المناسبة تعتبر دليلاً على عِلِّيِّة الوصف المناسب، وذهب الحنفية إلى أن المناسبة لا تكفي في إثبات كون الوصف عِلَّةً، بل لابدَّ من إظهار التأثير بالنصِّ أو الإجماع. وعند التأمل في حاصل المذهبين يتضح لي أنه لا خلاف حقيقي بين المذهبين في اعتبار المناسبة دليلاً على إثبات عِلَّية الوصف المناسب، وتقرير ذلك على النحو الآتي: 1 - اعتبر الحنفية المناسبة حُجَّةً في إثبات كون الوصف عِلَّةً بشرط تأثير الوصف، والتأثير - عندهم - يثبت باعتبارِ الشرعِ نوعَ الوصفِ في نوعِ الحُكْم أو جنسهِ، أو اعتبار جنسهِ في جنسِ الحُكْم أو نوعهِ. والمناسبةُ بهذا المعنى حُجَّةٌ عند الحنفية (¬3) والجمهور، لأن الوصف الذي عُلِمَ من الشرعِ اعتبارُ نوعِه في نوعِ الحُكْم أو جنسهِ، أو عُلِمَ من الشرعِ اعتبارُ جنسِه في جنسِ الحُكْم أو نوعهِ، هو المناسب الذي يصلح أن يكون ¬

(¬1) ينظر: تقويم الأدلة (311)، كشف الأسرار (2/ 357 - 358). (¬2) ينظر: شفاء الغليل (143)، الإحكام للآمدي (3/ 339)، البحر المحيط للزركشي (5/ 206 - 207)، إرشاد الفحول (2/ 898). (¬3) ينظر: التقرير والتحبير (3/ 159)، تيسير التحرير (3/ 325 - 326)، فواتح الرحموت (2/ 320).

عِلَّةً للحُكْم كما تقدَّم ذكره في أنواع المناسب الذي عُلِمَ من الشرع اعتبارُه (¬1). 2 - اتفق الجمهور والحنفية على عدم قبول الوصف الذي ثبت اعتبار عينهِ في عينِ الحُكْم بمجرَّدِ ترتيبِ الحُكْم على وَفْقِهِ، ولكن لم يثبت بنصٍّ أو إجماعٍ اعتبارُ عينهِ في جنسِ الحُكْم، ولا جنسهِ في جنسِ الحُكْم أو عينهِ، وهو الوصف المُسَمَّى بـ: " المرسل الغريب " (¬2). ومثاله: تعليل حرمان القاتل من الميراث بمعارضته بنقيض قصده في استعجال الحقِّ قبل أوانه، فَيُقَاسُ عليه توريثُ المطلقةِ ثلاثاً في مرض الموت؛ لأن الزوجَ قصدَ الفرارَ من توريثها، فَيُعَارَضُ بنقيض قصده، فهذا الوصفُ غريبٌ لم يلتفت الشرع إلى جنسهِ في موضعٍ آخر (¬3). كما اتفقوا - أيضاً - على عدم قبول الوصف الذي شهد الشرع بإبطاله، وهو الوصف المسمَّى بـ: " معلوم الإلغاء " (¬4). ومثاله: إيجاب صيام شهرين متتابعين على المَلِكِ المُرَفَّهِ الذي واقعَ أهلَه في نهار رمضان، مع قدرته على الإعتاق كما تقدَّم (¬5). 3 - يُنْسَبُ لجمهور الحنفية أنهم لا يَعْتَدُّون بالوصف الذي لم يشهد له دليلٌ معينٌ بالإلغاء أو الاعتبار وهو ملائمٌ لتصرُّفات الشارع في الجملة، ويُسَمَّى: " المناسب المرسل" أو" المرسل الملائم"، وذلك بحُجَّة أنه لم يشهد له دليلٌ مُعَيَّنٌ على الاعتبار (¬6). وقد صرَّح بعض الحنفية بأن المحكي عنهم من نفي المرسل إنما هو في ¬

(¬1) ينظر: (151). (¬2) ينظر: شفاء الغليل (189)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 242 ... )، بيان المختصر (3/ 127)، البحر المحيط (5/ 217)، التقرير والتحبير (3/ 150)، تيسير التحرير (3/ 314). (¬3) ينظر: المراجع السابقة. (¬4) ينظر: المستصفى (3/ 632)، المحصول (5/ 165)، الإحكام للآمدي (3/ 357)، البحر المحيط للزركشي (5/ 215)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 242)، التقرير والتحبير (3/ 150)، شرح الكوكب المنير (4/ 178 - 181)، فواتح الرحموت (2/ 315). (¬5) ينظر: المراجع السابقة. (¬6) ينظر: التقرير والتحبير (3/ 151)، تيسير التحرير (314 - 315).

نفي ما عُلِمَ إلغاؤه والغريب المرسل، وأنه يجب على الحنفية قبول الملائم من المرسل (¬1). والتحقيق أن المناسب المرسل -الذي لم يشهد له دليلٌ مُعَيَّنٌ بالإلغاء أو الاعتبار وهو ملائمٌ لتصرُّفات الشارع في الجملة- معتبرٌ في جميع المذاهب الأربعة، وإن صرَّحوا بخلاف ذلك كما سيأتي (¬2)، وهو المُسمَّى بـ: "المصلحة المرسلة". قال القرافي: " وأما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها خاصَّةٌ بِنَا، وإذا افتقَدتَّ المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا وفرَّقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهداً بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرَّقوا، بل يكتفون بمُطْلَق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي حينئذٍ في جميع المذاهب" (¬3). 4 - يَعْتَبر الجمهورُ أن "الإخالة" من مُسَمَّيات "المناسبة"؛ لأن المجتهد يُخَال -أي: يُظَنّ- كون ذلك الوصف عِلَّةً لذلك الحُكْم؛ للملائمة بينهما (¬4). بينما تُعْتَبر "الإخالة" عند الحنفية ظناً مجرداً عن اعتبار الشرع له بملائمة الحُكْم للوصف (¬5). وبهذا يظهر أن مخالفة الحنفية للجمهور في اعتبار مسلك المناسبة إنما يرجع إلى تسميتها بـ: "الإخالة"، وهي تسميةٌ تُوهِمُ -ظاهراً- باعتماد المجتهد على الظنِّ المجرَّد في إبداء الملائمة بين الوصف والحُكْم، وهذا المعنى غير مقبولٍ مطلقاً عند الجمهور؛ حيث إنهم لا يقبلون دعوى المناسبة بمجرَّد الاعتماد على الظنّ، بل ينحصر المناسب المقبول عندهم في الوصف الذي اعتبر الشارعُ نوعَه في نوعِ الحُكْم أو جنسِه، أو اعتبر جنسَه في جنسِ الحُكْم أو نوعِه (¬6). ¬

(¬1) ينظر: التقرير والتحبير (3/ 151)، تيسير التحرير (3/ 315). (¬2) ينظر: (377 - 378). (¬3) شرح تنقيح الفصول: ( ... 306). (¬4) ينظر: (150). (¬5) ينظر: (156). (¬6) ينظر: (150 - 151).

ولهذا قال الغزالي: " منشأُ الإشكال بيانُ حدِّ المناسبة، والإخالةُ عبارةٌ عنها" (¬1). وإذا كانت " الإخالة " تُطْلَق على " المناسبة " المقبولة فلا اعتراضٍ حينئذٍ على المعنى الذي هو محلُّ وفاق، وتبقى التسمية اصطلاح، ولا مشاحةَ في الاصطلاح. فإذا اتضح أن الجمهور والحنفية لا يقبلون في المناسبة إلا الوصف " الملائم" الذي اعتبر الشارعُ نوعَه في نوعِ الحُكْم أو جنسِه، أو اعتبر جنسه في جنس الحُكْم أو نوعه، وأنهم اتفقوا على عدم قبول الوصف " الغريب " الذي لم يثبت بنصٍّ أو إجماعٍ اعتبارُ عينهِ في جنسِ الحُكْم، ولا جنسِه في جنسِ الحُكْم أو عينهِ، كما أنهم اتفقوا على عدم قبول الوصف " معلوم الإلغاء " الذي شهد الشرع بإبطاله، وأن ... " المناسب المرسل " أو" المرسل الملائم " الذي لم يشهد له دليلٌ معينٌ بالإلغاء أو الاعتبار وهو ملائمٌ لتصرفات الشارع في الجملة معمولٌ به في جميع المذاهب الأربعة، فإنه حينئذٍ لا خلاف حقيقي بين الجمهور والحنفية في اعتبار مسلك المناسبة دليلاً تثبت به العِلِّية. وعلى فرض تسليم الخلاف في " المناسب المرسل " فإن المصلحة المرسلة تعتبر دليلاً مستقلاً عن قياس العِلَّة، ولذلك سمَّوْها مصلحةً مرسلةً، ولم يسمُّوها قياساً؛ لأن القياس يرجع إلى أصلٍ معين، بخلاف هذه المصلحة، فإنها لا ترجع إلى أصلٍ معين، بل رأينا الشارع اعتبرها في مواضع من الشريعة فاعتبرناها حيث وجدت لِعلْمنا أن جنسها مقصودٌ له (¬2). وقد تُسَمَّي المصلحة المرسلة " بالقياس الكلي"، مع ما في ذلك من تكلُّفٌ ظاهر. قال الغزالي: " كلُّ مصلحةٍ ملائمةٍ فيتصور إيرادها في قالب قياس بجمعٍ متكلَّفٍ يعتمدُ التسويةَ في قضيةٍ عامةٍ لا تتعرَّض لعين الحكم" (¬3). ¬

(¬1) شفاء الغليل: (143). (¬2) شرح الكوكب المنير: (4/ 170). (¬3) شفاء الغليل: (217).

المطلب الرابع: صورة تخريج المناط بمسلك المناسبة.

وكلامنا في هذا الموضع عن المناسب الذي شهد له أصلٌ معينٌ بالاعتبار، حيث ثبت أن الشارع رتَّبَ الحُكْم على وَفْقِهِ، وهو الوصف الذي يصلح أن يكون عِلَّةً للحُكْم. المطلب الرابع: صورة تخريج المناط بمسلك المناسبة. تقدَّم أن تخريج المناط هو: استنباط عِلَّة الحُكْم الذي دلَّ النصُّ أو الإجماعُ عليه من غير تعرُّضٍ لبيان عِلَّته لا صراحةً ولا إيماءً (¬1). كما تقدَّم أن المناسبة هي: ملاءمة الوصف للحُكْم بحيث يحصل عقلاً من ترتيب الحُكْم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً من جلب منفعةٍ أو دفع مضرَّة (¬2). وإذا كان الأمر كذلك فإن تخريج المناط بمسلك المناسبة يعني: استنباط عِلَّة الحُكْم الذي دلَّ النصُّ أو الإجماعُ عليه من غير تعرُّضٍ لبيان عِلَّته لا صراحةً ولا إيماءً، وذلك بمجرَّد إبداء ملاءمة الوصف للحُكْم (¬3). وصورته: أن يَحْكَم الشارعُ في محلٍّ بحُكْمٍ، ولا يتعرض لبيان عِلَّة ذلك الحُكْم لا بصريح لفظٍ ولا بإيماء، فيستخرج المجتهد وصفاً ظاهراً منضبطاً يحصل من ترتيب الحُكْم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً من جلب مصلحةٍ أو دفع مضرَّة، ولا يجد غيرَه من الأوصاف الصالحة للعِلِّيِّة مثلَه ولا أولى منه، ويغلب على ظنِّه كون ذلك الوصف عِلَّةً لذلك الحُكْم فيعينه مناطاً له، ثم يستدل على ذلك بإظهار ملاءمة الوصف للحكم (¬4). ¬

(¬1) ينظر: (128). (¬2) ينظر: (149). (¬3) ينظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 293)، البحر المحيط للزركشي (5/ 257)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 273)، تيسير التحرير (4/ 43)، شرح الكوكب المنير (4/ 152 - 153). (¬4) ينظر: نهاية الوصول (7/ 3041 - 3042)، الإبهاج (3/ 83)، شرح المعالم لابن التلمساني (2/ 356)، سلم الوصول للمطيعي (4/ 142 - 143)، نشر البنود (2/ 171).

ومثاله: تحريم الخمر في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. فالآية نصٌّ صريحٌ على تحريم الخمر، ولم يتعرَّض النصُّ لبيان عِلَّة الحُكْم لا بصريح لفظٍ ولا بإيماء، فيستخرج المجتهد وصفاً ظاهراً منضبطاً وهو " الإسكار"، يحصل من ترتيب الحُكْم عليه مصلحة المحافظة على العقول، ولا يجد غيرَه من الأوصاف الصالحة للعِلِّية مثلَه ولا أولى منه، فكونه سائلاً أو بلون كذا أو بطعم كذا كلها أوصافٌ غير ملائمةٍ للتحريم، فيعيِّن المجتهدُ وصفَ " الإسكار " مناطاً لحُكْم التحريم، ويستدِلُّ على ذلك بإظهار ملاءمته للحُكْم، وهو كون وصف " الإسكار" يحصل من ترتيب الحُكْم عليه جلب مصلحةٍ وهي حفظ العقول من الاضطراب، ولا يوجد وصفٌ غيرُه مثلُه ولا أولى منه في محلِّ الحكم (¬1). وبهذا يتبيَّن أن مسلكَ المناسبة أحدُ الطرق المُعْتَبرة التي يَعْتَمِدُ عليها المجتهدُ في تخريج المناط، بل هي أهمُّها وأعظمُها شأناً. ¬

(¬1) ينظر: المستصفى (4/ 620)، شفاء الغليل (145 - 146)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239)، البحر المحيط للزركشي (5/ 219)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 273)، شرح الكوكب المنير (4/ 155).

المبحث الثاني تخريج المناط بمسلك السَّبْر والتقسيم ويشتمل على خمسة مطالب: المطلب الأول: تعريف السَّبْر والتقسيم لغةً واصطلاحاً. المطلب الثاني: أقسام السَّبْر والتقسيم. المطلب الثالث: حُجِّية مسلك السَّبْر والتقسيم. المطلب الرابع: شروط صحة السَّبْر والتقسيم. المطلب الخامس: صورة تخريج المناط بمسلك السَّبْر والتقسيم.

المبحث الثاني تخريج المناط بمسلك السبر والتقسيم

المبحث الثاني تخريج المناط بمسلك السَّبْر والتقسيم المطلب الأول: تعريف السَّبْر والتقسيم لغةً واصطلاحاً. تقدَّم أن السَّبْر في اللغة هو: التجربة، والاختبار، واستخراج كُنْه الأمر (¬1). والتقسيم في اللغة هو: التفريق، والتجزئة (¬2). كما تقدَّم أن السَّبْر والتقسيم لقبٌ مركبٌ من جزأين يُطْلَق في اصطلاح الأصوليين على مسلكٍ خاصٍّ من مسالك العِلَّة، وهو: حصر الأوصاف الموجودة في الأصل المقيس عليه، وإبطال ما لا يصلح منها للعِلِّية، فيتعين الباقي عِلَّةً (¬3). فحصر الأوصاف الموجودة في الأصل المحتمِلة للتعليل هو المعبَّر عنه بـ "التقسيم"، واختبار الأوصاف واحداً واحداً في صلاحيته للتعليل به، وإبطال ما لا يصلح منها للتعليل، فيتعين الوصف الباقي عِلَّةً هو المعبَّر عنه بـ: "السَّبْر". وقد سُمِّيَ هذا المسلك بالسَّبْر وحَدْه، وبالتقسيم وحَدْه، وبالسَّبْر ¬

(¬1) ينظر: ما سبق (103). (¬2) ينظر: ما سبق (103). (¬3) ينظر: ما سبق (103).

المطلب الثاني: أقسام السبر والتقسيم.

والتقسيم مركَّباً عند أكثر الأصوليين (¬1). ورغم أن " التقسيم " متقدمٌ في الوجود الخارجي على " السَّبْر" إلا أنه في لقب المسلك قُدِّم " السَّبْر" على " التقسيم "؛ لأن " السَّبْر" هو المقصد الأهمّ في الدلالة على العِلِّية، و " التقسيم " يُعْتَبر وسيلةً إليه، والعادة تقديم الأهمِّ على غيره، والمقصدِ على الوسيلة (¬2). المطلب الثاني: أقسام السَّبْر والتقسيم. يقسِّم الأصوليون السَّبْر والتقسيم إلى قسمين (¬3): القسم الأول: التقسيم الحاصر. وهو: ما يكون دائراً بين النفي والإثبات بحيث يحصر المجتهدُ جميعَ أوصاف الأصل المقيس عليه، ثم يختبرها ويبطل ما لا يصلح منها بدليله، فيتعيَّن الباقي عِلَّةً للحُكْم (¬4). ومثاله: أن يقول المجتهد في ولاية الإجبار في النكاح: إما أن تكون مُعَلَّلَةً أو غير مُعَلَّلَة، والثاني باطلٌ بالإجماع، فتعيَّن كونها مُعَلَّلَةً. وإذا كانت مُعَلَّلَةً فعِلَّتُها إما البكارة أو الصِغَر أو غيرها، وقد بطل بالإجماع كون غير الصِغَر أو البكارة عِلَّةً للولاية، فانحصرت العِلَّة في وصفي البكارة والصِغَر، ولكن وصف الصِغَر لا يصلح أن يكون عِلَّةً لولاية الإجبار في النكاح؛ لأن هذا الوصف لو جاز التعليل به لثبتت ولاية الإجبار ¬

(¬1) ينظر: ما سبق (103). (¬2) ينظر: ما سبق (104). (¬3) ينظر: المحصول (5/ 217 - 218)، الإبهاج (3/ 77)، نهاية السول (4/ 128 - 133)، نهاية الوصول (8/ 3381 - 3363)، البحر المحيط للزركشي (7/ 283 - 286)، إرشاد الفحول (2/ 623 - 624). (¬4) ينظر: المحصول (5/ 217)، الإبهاج (3/ 77)، نهاية الوصول (8/ 3361)، نهاية السول (4/ 130)، البحر المحيط لزركشي (7/ 283)، إرشاد الفحول (2/ 623).

القسم الثاني: التقسيم غير الحاصر.

على الثيب، وهذا باطلٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " الثيب أحقُّ بنفسها " (¬1)، وإذا بطل التعليل بالصِغَر تعيَّن التعليل بالبكارة لثبوت ولاية الإجبار، وهو المطلوب (¬2). القسم الثاني: التقسيم غير الحاصر. ويُسَمَّى " المنتشر " (¬3)، وعبَّر عنه البيضاوي بـ " السَّبْر غير الحاصر" (¬4). وهو: ما لا يكون دائراً بين النفي والإثبات، أو كان دائراً بينهما ولكن الدليل على نفي عِلِّيَّة ما عدا الوصف المعيَّن فيه ظنيٌّ (¬5). ومثاله: أن يقول المجتهد في تحريم بيع البُرِّ بالبُرِّ متفاضلاً: العِلَّة في التحريم إما أن تكون الكيل أو الطَّعم أو القوت، ثم يختبر تلك الأوصاف، ويبطِل ما لا يصلح أن يكون عِلَّةً، ويتعيَّن الباقي من الأوصاف عِلَّةً للحُكْم، فيبطِل - مثلاً - الكيل؛ لأنه لو كان عِلَّةً لما وقع الرِّبا في القليل مما لا يُكال كالحفنة بحفنتين، ويبطِل القوت؛ لأنه لو كان عِلَّةً لما وقع الرِّبا في الملح، وهو واقعٌ بنصِّ الحديث " الملح بالملح " (¬6)، فلم يَبْقَ إلا أن يكون الطُّعم هو العِلَّة (¬7). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في " صحيحه"، كتاب النكاح، باب استئذان الثيب بالنطق والبكر بالسكوت، رقم (4121). (¬2) ينظر: الإبهاج (3/ 77 - 78)، نهاية السول (4/ 13 - 132)، البحر المحيط للزركشي (7/ 284). (¬3) ينظر: المحصول (7/ 218)، الإبهاج (3/ 77)، نهاية الوصول (8/ 3361 - 3363)، نهاية السول (4/ 133)، البحر المحيط للزركشي (2/ 286)، إرشاد الفحول (2/ 624). (¬4) ينظر: منهاج الوصول (208). (¬5) ينظر: المراجع السابقة. (¬6) أخرجه مسلم في " صحيحه "، كتاب المساقات، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً، رقم (1587)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. (¬7) ينظر: المحصول (5/ 218)، روضة الناظر (3/ 856 - 857)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 405)، الإبهاج (3/ 77)، نهاية السول (4/ 134)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 236)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 270)، شرح الكوكب المنير (4/ 144).

المطلب الثالث: حجية السبر والتقسيم

وفي كلا القسمين: إما يكون الحصر والإبطال قطعياً، أو ظنياً، أو أحدهما يكون قطعياً والآخر ظنياً (¬1). المطلب الثالث: حجية السَّبْر والتقسيم: صور الحصر والإبطال بحسب قوة الدليل لا تخرج عن أربعة صور: الصورة الأولى: أن يكون الحصر والإبطال قطعياً، أي: يكون الدليل الدال على انحصار الصفات في محلِّ الحُكْم ونفي عِلِّيَّة ما عدا الوصف المُعَيَّن قطيعاً. الصورة الثانية: أن يكون الحصر والإبطال ظنياً، أي: يكون الدليل الدال على انحصار الصفات في محلِّ الحُكْم ونفي عِلَّيَّة ما عدا الوصف المعيَّن ظنياً. الصورة الثالثة: أن يكون الحصر قطعياً والإبطال ظنياً، أي: يكون الدليل الدال على انحصار الصفات في محلِّ الحُكْم قطعياً، والدليل الدال على نفي عِلِّيَّة ما عدا الوصف المعيَّن ظنياً. الصورة الرابعة: أن يكون الحصر ظنياً والإبطال قطعياً، أي: يكون الدليل الدال على انحصار الصفات في محلِّ الحُكْم ظنياً، والدليل الدال على نفي عِلِّيَّة ما عدا الوصف المعيَّن قطعياً (¬2). فإنْ كان الحصر والإبطال قطعياً كما في الصورة الأولى من صور الحصر والإبطال فقد اتفق الأصوليون على اعتبار هذا المسلك قطعياً في إفادة العِلِّيَّة، ¬

(¬1) ينظر: نهاية الوصول (8/ 3361 - 3363)، الإبهاج (3/ 77)، نهاية السول (4/ 132 - 133)، الغيث الهامع (3/ 710)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 271)، شرح الكوكب المنير (4/ 146)، إرشاد الفحول (2/ 623 - 624)، نشر البنود (2/ 166 - 167). (¬2) ينظر: نهاية الوصول (8/ 3361)، الإبهاج (3/ 77)، نهاية السول (4/ 132)، البحر المحيط للزركشي (8/ 3361)، تشنيف المسامع (3/ 277)، الغيث الهامع (3/ 710)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 271)، شرح الكوكب المنير (4/ 146).

المذهب الأول: أنه حجة للمستدل وهو الناظر، وللمعترض وهو المناظر.

ويُعْتَبر حُجَّةً في العقليات والشرعيات، وهو في الشرعيات قليل (¬1). وإن كان الحصر والإبطال أو أحدهما ظنياً فقد اختلف الأصوليون في حجيته واعتباره مسلكاً من مسالك العِلَّة على أربعة مذاهب: المذهب الأول: أنه حُجَّةٌ للمُسْتَدِل وهو الناظر، وللمعترِض وهو المناظِر. وقد ذهب إلى ذلك أكثر الأصوليين من المالكية، والشافعية، والحنابلة (¬2). ودليلهم: أن ذلك يثير غَلَبَة الظنّ، وما كان كذلك يجب العمل به، أما بالنسبة إلى الناظِر فظاهر، وأما المناظِر فوجه كونه حُجَّةً عليه أنه يفيد الظنَّ ما لم يدفعه، وما يفيد الظنَّ يجب العمل به، فإن كان المناظِر مجتهداً وجب عليه، وإن كان مقلِّداً توجَّه الإلزامُ على من قلَّده (¬3). واعتُرِض عليه: بأن إفادة غَلَبَة الظنَّ بعِلِّيَّة هذا الوصف غير مُسَلَّمٍ؛ لأن من الأحكام ما لا يُعلَّل بدليل أن عِلِّيَّة العِلَّة غير مُعَلَّلَةً، وإذا ثبت أن من الأحكام ما لا يُعَلَّل فلا مانع أن يكون هذا الحُكْم من جملة ما لا يُعَلَّل، ولو سُلِّم كونه مُعَلَّلاً فلا نُسَلِّم الحصر، فيجوز أن يُكْوَن هناك وصفٌ لم يُذْكَر وهو العِلَّة، وبهذين الاحتمالين اللذين لا ينفكان عنه لا يفيد غَلَبَة الظن (¬4). ¬

(¬1) ينظر: نهاية الوصول (8/ 3361 - 3363)، الإبهاج (3/ 77)، نهاية السول (4/ 132 - 133)، الغيث الهامع (3/ 710)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 271)، شرح الكوكب المنير (4/ 146)، إرشاد الفحول (2/ 623 - 624)، نشر البنود (2/ 167). (¬2) ينظر: المستصفى (3/ 618)، المحصول (5/ 218 - 220)، شرح تنقيح الفصول (398)، نهاية الوصول (8/ 3361)، الإبهاج (3/ 77)، نهاية السول (4/ 133 - 134)، البحر المحيط للزركشي (7/ 286)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 271)، شرح الكوكب المنير (4/ 150)، إرشاد الفحول (2/ 624). (¬3) ينظر: المحصول (2/ 219 - 220)، نهاية الوصول (8/ 3362)، الإبهاج (3/ 78)، البحر المحيط للزركشي (7/ 286)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 271)، شرح الكوكب المنير (4/ 146)، إرشاد الفحول (2/ 624). (¬4) ينظر: المحصول (2/ 219 - 220)، نهاية الوصول (8/ 3363 - 3365)، الإبهاج (3/ 78)، نهاية السول (4/ 135)

المذهب الثاني: أنه حجة للمستدل وهو الناظر، وليس حجة على المعترض وهو المناظر.

وأجيب عنه: بأن الأدلة العقلية والسمعية دلَّت على أن أحكام الله تعالى مُعَلَّلَةً بالحِكَم والمصالح، وما اسْتُدِلَّ به من أن عِلِّيَّة العِلَّة غير مُعَلَّلَةٍ فيه نظرٌ من وجهين: الأول: أن عِلِّيَّة العِلَّة ليست مما نحن فيه. والثاني: أنها من الأمور الاعتبارية التي لا تُعَلَّلَ، وعلى تسليم أن منها ما لا يُعَلَّل فالغالب فيها التعليل، وحينئذٍ يكون احتمال كون هذا الحُكْم غير مُعْلَّلٍ مرجوحاً لا ينافي غَلَبَة الظن. وأما احتمال أن هناك وصفاً آخر فلا يكون الحصر فيما ذُكِر صحيحاً فلا يمنع غَلَبَة الظن؛ لأن الحاصر إن كان ناظراً فحصره فيما ذكره إنما كان بحسب ما أدَّى إليه نظره واجتهاده فيجب عليه أن يعمل به ولا يكابر نفسه، وإن كان مناظراً وهو عدلٌ فيه أهلية النظر فيكفي أن يقول: بحثتُ فلم أجد غيرَ هذه الأوصاف، والأصلُ عدمُ ما سواها، فيندفع عنه منعُ الحصر، ويلزمُ المعترِضَ قبولُه، ويكون حُجَّةً عليه، فإن أبدى المعترِض وصفاً آخر لم يذكره المُسْتَدِل وجب على المُسْتَدِل إبطاله وإلا انقطع (¬1). المذهب الثاني: أنه حُجَّةٌ للمُسْتَدِل وهو الناظِر، وليس حُجَّةً على المعترِض وهو المناظِر. وقد ذهب إلى ذلك الآمدي (¬2). ودليله: أن ظنَّ الشخص لا يقوم حُجَّةً على خصمه، والمناظرة لا معنى لها إلا إظهار مأخذ الحُكْم، فلا يكون هذا النوع من التقسيم حُجَّةً إلا للمُسْتَدِل دون المعترِض (¬3). ¬

(¬1) ينظر: المراجع السابقة. (¬2) ينظر: الإحكام (3/ 333 - 335). (¬3) ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 333 - 335)، البحر المحيط للزركشي (7/ 286)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 271)، إرشاد الفحول (2/ 624).

المذهب الثالث: أنه حجة للمستدل وهو الناظر، وللمعترض وهو المناظر، بشرط الإجماع على تعليل حكم الأصل.

واعتُرِض عليه: بأنه إذا كان مفيداً لغَلَبَة الظن في ذاته من غير دافعٍ كان حُجَّةً للمُسْتَدِل والمعترِض مطلقاً. فإذا ثبت أن سَبْر المُسْتَدِل للأوصاف حاصِرٌ بموافقة الخصم أو عجزه عن الزيادة وجب حينئذٍ على الخصم المعترِض إما تسليم الحصر فيحصل مقصود المُسْتَدِل منه، أو إظهار ما عند المعترِض من الأوصاف الزائدة على ما ذكره المُسْتَدِل لينظر فيه فيفسده، ولا يُسْمَعُ قولُ المعترِض: عندي وصفٌ زائدٌ لكن لا أذكره؛ لأنه حينئذٍ إما صادقٌ فيكون كاتماً لعلمٍ دعت الحاجة إليه فيفسق بذلك، أو كاذبٌ فلا يُعَوَّل على قوله، ويلزمه الحصر (¬1). المذهب الثالث: أنه حُجَّةٌ للمستدِل وهو الناظِر، وللمعترِض وهو المناظِر، بشرط الإجماع على تعليل حُكْم الأصل. وقد ذهب إلى ذلك إمام الحرمين الجويني (¬2). ودليله: إنه لو لم يكن حُجَّةً في حال الإجماع على تعليل حُكْم الأصل لأدى بطلان الباقي إلى خطأ المُجْمِعِين (¬3). واعُتِرض عليه: بأنه لا يلزم من إجماعهم على تعليل الحكم الإجماعُ على أنه معلّلٌ بشيء مما أُبطِل (¬4). المذهب الرابع: أنه ليس بحُجَّةٍ مطلقاً. وقد ذهب إلى ذلك أكثر الحنفية (¬5). دليلهم: أنه متى جاز إبطال وصفٍ جاز إبطال الباقي من الأوصاف (¬6). ¬

(¬1) ينظر: المحصول (2/ 219 - 220)، نهاية الوصول (8/ 3365)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 407)، حاشية البناني على شرح جمع الجوامع (2/ 271). (¬2) ينظر: البرهان (2/ 536)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 271)، نشر البنود (2/ 161). (¬3) ينظر: المراجع السابقة. (¬4) ينظر: حاشية زكريا الأنصاري على شرح جمع الجوامع (3/ 347)، حاشية البناني على شرح جمع الجوامع (2/ 271)، نشر البنود (2/ 167). (¬5) ينظر: التقرير والتحبير (3/ 197)، تيسير التحرير (4/ 48)، فواتح الرحموت (2/ 352). (¬6) ينظر: المراجع السابقة.

المطلب الرابع: شروط صحة السبر والتقسيم.

واعُتِرض عليه: بأن الأصل في الأحكام التعليل، فإذا بطل التعليل بالأوصاف المحذوفة تعيَّن المُسْتَبقَى للعِلِّيَّة، ولا أثر لجواز بطلانه (¬1). الترجيح: بعد التأمل في أدلة كلِّ مذهبٍ، والاعتراضات الواردة عليها، وما أجيب عنها، يترجَّحُ - والعلم عند الله - أنه: إذا كان الدليل الدَّال على الحصر والإبطال قطعياً فهو مسلكٌ قطعيٌّ يفيد العِلِّيَّة قطعاً، وإن كان كلٌ منهما ظنياً أو أحدهما قطعياً والآخر ظنياً فهو مسلكٌ يفيد العِلِّيَّة ظناً، وهو حُجَّةٌ للمُسْتَدِل، أما المعترِض فهو حُجَّةٌ عليه ما لم يدفعه؛ لأنه يفيد الظنّ، وما يفيد الظنَّ يجب العمل به. قال الطُّوفي: " اعلم أن دلالة السَّبْر قاطعةٌ إن كان حصرُ الأقسام وإبطالُ ما عدا الواحد منها قاطعاً، وإن كانا ظنيين أو أحدهما كانت دلالته ظنية" (¬2). المطلب الرابع: شروط صحة السَّبْر والتقسيم. يُشْتَرط لصحة الاستدلال بمسلك السَّبْر والتقسيم على إفادة العِلِّية ثلاثة شروط، وهي على النحو الآتي: الشرط الأول: أن يكون الحُكْم في الأصل مُعَلَّلاً (¬3). ويكفي في ذلك موافقة الخصم على التعليل؛ لأن الحُكْم لو ثبت كونه تعبُّدياً - غير معقول المعنى - امتنع القياس (¬4). ¬

(¬1) ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 334 - 335)، نهاية الوصول (8/ 3366 - 3367). (¬2) شرح مختصر الروضة: (3/ 406). (¬3) ينظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 405). (¬4) ينظر: المرجع السابق.

الشرط الثاني: أن يكون السبر حاصرا لجميع الأوصاف التي تصلح أن تكون علة للحكم.

الشرط الثاني: أن يكون السَّبْر حاصراً لجميع الأوصاف التي تصلح أن تكون عِلَّةً للحُكْم (¬1). لأنه لو لم يكن السَّبْر حاصراً لجاز أن يبقى وصفٌ هو العِلَّة في نفس الأمر لم يذكره، فيقع الخطأ في القياس (¬2). وطريق ثبوت حصر السَّبْر من وجهين (¬3): أحدهما: موافقة الخصم على انحصار العِلَّة فيما ذكره المُسْتَدِل. والثاني: أن يعجز الخصم عن إظهار وصفٍ زائدٍ على ما ذكره المُسْتَدِل. فإذا تمَّ أحد الأمرين لزم المعترِض إما تسليم الحصر فيحصل مقصود المُسْتَدِل، أو إظهار ما عند المعترِض من الأوصاف الزائدة على ما ذكره المُسْتَدِل؛ لينظر فيه فيفسده. الشرط الثالث: إثبات أن الأوصاف التي أبطلها المُسْتَدِل لا تصلح للعِلِّيَّة. والطرق المُعْتَبرة في ذلك ثلاثة: الطريق الأول: الإلغاء (¬4). وهو: أن يبيِّن المجتهد أن الوصف المُسْتَبْقَى قد ثبت به الحُكْم في صورةٍ بدون الوصف المحذوف، فحينئذٍ لا يكون للمحذوف تأثيرٌ في الحكم (¬5). ومثاله: أن يقول المُسْتَدِل: يصح أمانُ العبد؛ لأنه أمانٌ وُجِد من عاقلٍ ¬

(¬1) ينظر: المستصفى (3/ 619)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 406). (¬2) ينظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 406). (¬3) ينظر: المستصفى (3/ 619)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 406 - 407). (¬4) ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 335 - 336)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 407)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 237)، البحر المحيط للزركشي (5/ 228)، شرح الكوكب المنير (4/ 146 - 147). (¬5) ينظر: المراجع السابقة.

الطريق الثاني: الطردية.

مُسْلِمٍ غيرِ مُتَّهم، فيصح قياساً على الحُرِّ، فيقول المعترِض: لا نُسَلِّم أن ما ذكرت هو أوصاف العِلَّة في الأصل فقط، بل هناك وصفٌ آخر، وهو الحرية، وهو مفقودٌ في العبد، وحينئذٍ لا يصح القياس، فيقول المُسْتَدِل: وصف الحرية ملغىً بالعبد المأذون له، فإن أمانه يصح باتفاقٍ مع عدم الحرية، فصار وصفاً لاغياً لا تأثير له في العِلَّة (¬1). الطريق الثاني: الطَّردية (¬2). وهو: أن يبين المجتهد أن الوصف المحذوف من جنس ما عُلِمَ من الشارع إلغاؤه وعدم الالتفات إليه في إثبات الأحكام (¬3). وسواءً كان ذلك في شيءٍ من الأحكام كالطول والقِصَر، والسواد والبياض، فإنها لم تُعْتَبَر في شيءٍ من الأحكام، فلا يُعلَّل بها حُكْمٌ أصلاً، أو كان ذلك في بعض الأحكام كالذكورة والأنوثة، فإنهما لم يعتبرا في العِتْق، فلا يُعلَّل بهما شيءٌ من أحكامه وإن اُعْتُبِرا في غيره، كالشهادة، والقضاء، وولاية النكاح، والإرث (¬4). الطريق الثالث: أن لا يظهر للوصف المحذوف مناسبةٌ للحُكْم (¬5). ويكفي أن يقول المجتهد: بحثتُ فلم أجد بين الوصف والحُكْم مناسبة، فإذا كان المجتهد أهلاً للبحث والنظر عَدْلاً فالظاهر صِدْقُه، ويُقْبَل قولُه؛ لعدالته وأهليته، ولا يلزم - حينئذٍ - إقامة الدليل على عدم ظهور المناسبة (¬6). ¬

(¬1) ينظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 407)، البحر المحيط للزركشي (5/ 228). (¬2) ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 336 - 337)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 408)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 238)، البحر المحيط للزركشي (5/ 228)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 272)، شرح الكوكب المنير (4/ 147). (¬3) ينظر: المراجع السابقة. (¬4) ينظر: المراجع السابقة. (¬5) ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 337 - 338)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 238)، البحر المحيط للزركشي (5/ 228)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 272)، شرح الكوكب المنير (4/ 148 - 149). (¬6) ينظر: المراجع السابقة.

المطلب الخامس: صورة تخريج المناط بمسلك السبر والتقسيم.

المطلب الخامس: صورة تخريج المناط بمسلك السَّبْر والتقسيم. تقدَّم أن تخريج المناط هو: استنباط عِلَّة الحُكْم الذي دلَّ النصُّ أو الإجماعُ عليه من غير تعرُّضٍ لبيان عِلَّته لا صراحةً ولا إيماءً (¬1). كما تقدَّم أن السَّبْر والتقسيم هو: حصر الأوصاف الموجودة في الأصل المقيس عليه، وإبطال ما لا يصلح منها للعِلِّية، فيتعين الباقي عِلَّةً (¬2). وإذا كان الأمر كذلك فإن تخريج المناط بمسلك السَّبْر والتقسيم يعني: استنباط عِلَّة الحُكْم الذي دلَّ النصُّ أو الإجماعُ عليه من غير تعرُّضٍ لبيان عِلَّته لا صراحةً ولا إيماءً، وذلك بحصر الأوصاف الموجودة في الأصل المحتمِلة للتعليل، وإبطال ما لا يصلح منها للعِلِّيَّة، فيتعيَّن الباقي عِلَّة. وصورته: أن يحُكْم الشارع في محلٍّ بحُكْم، ولا يتعرَّض لبيان عِلَّة ذلك الحُكْم لا بصريح لفظٍ ولا بإيماء، فيحصر المجتهدُ الأوصافَ الموجودة في الأصل المحتمِلة للتعليل، ثم يختبر تلك الأوصاف واحداً واحداً، ويبطل ما لا يصلح أن يكون عِلَّةً لذلك الحُكْم بدليله، فيتعيَّن الوصفُ الباقي مناطاً للحُكْم. ومثاله: تحريم بيع البُرِّ بالبُرِّ متفاضلاً في قوله صلى الله عليه وسلم: ... " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرُّ بالبُرِّ، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد " (¬3). فالحديث نصٌّ صريحٌ على تحريم بيع البُرِّ بالبُرِّ متفاضلاً، ولم يتعرَّض النصُّ لبيان عِلَّة الحُكْم لا بصريح لفظٍ ولا بإيماء، فيحصر المجتهدُ الأوصافَ الموجودة في الأصل المحتمِلة للتعليل، وهي: الكيل، والطعم، والاقتيات، ¬

(¬1) ينظر: (128). (¬2) ينظر: (163). (¬3) سبق تخريجه: (49).

ثم يختبر تلك الأوصاف واحداً واحداً، ويبطل ما لا يصلح أن يكون عِلَّةً، فيُبْطِل - مثلاً - الكيل؛ لأنه لو كان عِلَّةً لما وقع الرِّبا في القليل لما لا يُكال كالحفنة والحفنتين، ويبطِل الاقتيات؛ لأنه لو كان عِلَّةً لما وقع الرِّبا في الملح، وهو واقعٌ بنصِّ الحديث: " الملح بالملح" (¬1)، فلم يبق من الأوصاف إلا الطعم فيتعين مناطاً للحُكْم (¬2). وبهذا يتضح أن مسلك السَّبْر والتقسيم أحد الطرق المُعْتَبرة التي يعتمد عليها المجتهد في تخريج المناط. ¬

(¬1) سبق تخريجه: (165). (¬2) ينظر: المحصول (5/ 218)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 405)، الإبهاج (3/ 78)، نهاية السول (4/ 134)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 236)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 270)، شرح الكوكب المنير (4/ 144).

المبحث الثالث تخريج المناط بمسلك الدوران ويشتمل على ثلاثة مطالب: المطلب الأول: تعريف الدوران لغةً واصطلاحاً. المطلب الثاني: حُجِّية مسلك الدوران. المطلب الثالث: صورة تخريج المناط بمسلك الدوران.

المبحث الثالث تخريج المناط بمسلك الدوران

المبحث الثالث تخريج المناط بمسلك الدوران المطلب الأول: تعريف الدوران لغةً واصطلاحاً. الدوران في اللغة (¬1): مأخوذٌ من دار، يدور، دوراً، ودوراناً، بمعنى طاف حول الشيء، وعاد إلى الموضع الذي ابتدأ منه. ومنه قولهم: يدور حول البيت، إذا طاف به. ودوران الفَلَكِ: تواتر حركاته بعضها إثر بعض من غير ثبوتٍ ولا استقرار. والدوران في الاصطلاح هو (¬2): أن يثبت الحُكْم بثبوت وصفٍ وينتفي عند انتفائه. والوصف يُسمَّى: "المدَار"، والحُكْم يُسمَّى: "الدائر" (¬3). ويعبِّر الأقدمون عن الدوران بـ "الجريان" (¬4). ويُسمَّى بـ "الدوران الوجودي والعدمي" (¬5). ¬

(¬1) ينظر: الصحاح (2/ 659)، لسان العرب (2/ 1450) تاج العروس (11/ 331 - 332) " مادة: " دور ". (¬2) ينظر: شفاء الغليل (266)، المحصول (5/ 207)، شرح تنقيح الفصول (396)، نهاية السول (4/ 118)، البحر المحيط للزركشي (5/ 243)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 246)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 288)، شرح الكوكب المنير (4/ 192)، إرشاد الفحول (2/ 917). (¬3) ينظر: نهاية السول (4/ 118). (¬4) ينظر: البحر المحيط للرزكشي (5/ 243). (¬5) ينظر: نهاية الوصول (8/ 3351).

المطلب الثاني: حجية مسلك الدوران.

وسمَّاه الآمدي (¬1) وابن الحاجب (¬2) بـ: " الطَّرْد والعَكْس "، أي: مجموع الطَّرْد والعَكْس، فالطَّرْد: " يلزم من وجود الوصف وجود الحُكْم "، والعَكْس: يلزم من عدم الوصف عدم الحُكْم، والدوران هو مجموع ذلك (¬3). المطلب الثاني: حجية مسلك الدوران. اختلف الأصوليون في إفادة الدوران للعِلِّيَّة على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه يفيد العِلِّيَّة قطعاً. ويُحْكَى هذا القول عن بعض المعتزلة (¬4). استدلوا على ذلك: بأن من تكرَّر دوران غضبه عن اسمٍ إذا ذُكِرَ له، وعدُم غضبه إذا لم يُذْكَرُ له، عُلِمَ قطعاً أن سبب غضبه ذِكْرُ ذلك الاسم، حتى إنَّ مَنْ لا أهلية فيه للنظر كالصبيان - مثلاً - إذا قصدوا إغضابه اتَّبعوه في الطرق ودعوه بذلك الاسم (¬5). وأجيب عنه: بأن النزاع إنما هو في حصول العلم بمجرَّدِه، وذلك فيما ذكرتم من المثال ممنوع، بل غايته حصول الظنِّ عنده، والظنِّ عند الدوران إنما هو مع غيره من التكرار (¬6). قال ابن السُّبْكي: " لعل من ادَّعى القطعَ فيه ممن يشترطُ ظهورَ المناسبةِ ¬

(¬1) ينظر: الإحكام (3/ 374). (¬2) ينظر: مختصر ابن الحاجب (2/ 1106). (¬3) ينظر: الإبهاج (3/ 86)، بيان المختصر للأصفهاني (3/ 135). (¬4) ينظر: المحصول (5/ 207)، الإحكام للآمدي (3/ 374 - 375)، نهاية الوصول (8/ 3352)، نهاية السول (4/ 121)، البحر المحيط للزركشي (5/ 243)، شرح الكوكب المنير (4/ 193). وفي المعتمد (2/ 1037) ذكر " أن الحكم إذا وجد بوجود العِلَّة في الأصل وارتفع بارتفاعها غلب على الظن أنها مؤثرةٌ فيها "، وعليه فإن الدوران عند المعتزلة يفيد العِلِّية ظناً لا قطعاً، ولهذا يحكى القول بالقطع عن بعض المعتزلة. (¬5) ينظر: التقرير والتحبير (3/ 199)، تيسير التحرير (4/ 51)، فواتح الرحموت (2/ 355). (¬6) ينظر: المراجع السابقة.

القول الثاني: أن الدوران يفيد العلية ظنا بشرط عدم المزاحم وعدم المانع.

في قياس العِلَل مطلقاً، ولا يكتفي بالسَّبْر، ولا الدوران بمجرَّدِه، وعلى ذلك جمهور أصحابنا، فإذا انضمَّ الدورانُ إلى المناسبة رقي بهذه الزيادة إلى اليقين، وإلا فأيُّ وجهٍ لتخيُّلِ القطع في مجرَّد الدوران؟ " (¬1). وعلى فرض اشتراط ظهور المناسبة فإن مناسبة الوصف لا تمنع الاحتمال، ومع الاحتمال لا يثبت القطع (¬2). القول الثاني: أن الدوران يفيد العِلِّيَّة ظناً بشرط عدم المُزَاحِمِ وعدم المانع. وقد ذهب إلى ذلك جمهور الأصوليين (¬3). واستدلوا عليه بالآتي: أولاً: إن هذا الحُكْم لابدَّ له من عِلَّة، والعِلَّة إما هذا الوصف أو غيره، والأول هو المطلوب، والثاني لا يخلو إما إن يكون ذلك الغير كان موجوداً قبل حدوث هذا الحُكْم، أو ما كان موجوداً قبله، فإن كان موجوداً قبله وما كان الحُكْم موجوداً لزم تخلُّف الحُكْم عن العِلَّة، وهو خلاف الأصل، وإن لم يكن موجوداً فالأصل في الشيء بقاؤه على ما كان عليه، فيحصل ظنٌّ أنه بقي كما كان غير عِلَّة، وإذا حصل ظنٌّ أن غيره ليس بعِلَّةٍ حصل ظنُّ كون هذا الوصف عِلَّةً لا محالة (¬4). واعتُرِض عليه: بأنه كما دار الحُكْم مع حدوث ذلك الوصف وجوداً ¬

(¬1) رفع الحاجب عن مختصر بن الحاجب: (4/ 350). (¬2) ينظر: الآيات البينات على شرح المحلي على جمع الجوامع (4/ 112)، حاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 289). (¬3) ينظر: البرهان (2/ 835 - 836)، شفاء الغليل (268)، المحصول (5/ 207)، نهاية الوصول ... (8/ 3352)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 413)، شرح تنقيح الفصول (396)، نهاية السول ... (4/ 121)، البحر المحيط للزركشي (5/ 243)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 289)، شرح الكوكب المنير (4/ 193)، إرشاد الفحول (2/ 917). (¬4) ينظر: المحصول (5/ 208)، نهاية الوصول (8/ 3353)، الإبهاج (3/ 74)، نهاية السول (4/ 121 - 124).

وعدماً، فكذلك دار مع تعيين ذلك الوصف وحصوله في المحلّ، فامتنعت إضافة الحُكْم إلى الوصف، أو تكون العِلَّة مجموعَ الوصف مع تعيُّنِه وحصوله في المحلّ، وذلك يمنع التعدية (¬1). وأجيب عنه: بأن التعيين والحصول في المحلِّ أمران عدميان، إذ لو كانا وجوديين لزم أن يكون للتعيين تعيُّنٌ آخر، وللحصول في المحلِّ حصولٌ آخر فيتسلسل، ضرورةَ مشاركةِ التعيينِ حينئذٍ لسائر التعيينات في كونه تعيُّناً، وامتيازه عنها بخصوصية، وكذا الحصول في المحلِّ فإنه حينئذٍ يكون له حصولٌّ في المحل؛ إذ هو ليس بجوهرٍ قائمٍ بنفسه، وهو معلومٌ بالضرورة، فيكون له حصولٌ في المحلّ، فثبت أنهما أمران عدميان، وحينئذٍ لا يجوز أن يكونا جزئي عِلَّة ولا مزاحماً لها (¬2). ثانياً: أن من دُعِيَ باسمٍ فغضب، ولا يغضب إذا دُعِىَ بغيره، ثم تكرر الغضب مع تكرر مناداته بذلك الاسم، فإنه يحصل الظنُّ بأنه إنما غضب لأنه دُعِيَ بذلك الاسم، وهذا الظنُّ إنما حصل من الدوران، وإذا ثبت أن الدوران يفيد ظنَّ العِلِّيَّة في مثل هذه الصورة فإنه يجب أن يثبت الظنُّ في غيرها؛ لأن هذا من العدل الذي أمر الله به، وهو التسوية، ولن تحصل التسوية بين الدورانات إلا بعد إشراكهما في إفادة الظنّ (¬3). ثالثاً: إن العقلاء بأسرهم مع اختلاف عقائدهم وآرائهم يفزعون في أمر الأدوية والأغذية إلى التجربة، فهم عندما يرون أن التجارب أثبتت أن الأثر الفلاني مما يُعَدُّ صحةً ونشاطاً قد حصل عند استعمال الدواء أو الغذاء الفلاني وتكراره، ولم يحصل حالة انعدامها، فإنهم سيتمسكون به عندما يريدون الحصول على ذلك الأثر، ولولا غلبة ظنِّهم أن استعماله سببٌ لذلك الأثر لما ¬

(¬1) ينظر: المحصول (5/ 208)، نهاية الوصول (8/ 3353)، الإبهاج (3/ 74). (¬2) ينظر: المحصول (5/ 209 - 210)، نهاية الوصول (8/ 3353 - 3354)، الإبهاج (3/ 74). (¬3) ينظر: المحصول (5/ 210 - 211)، نهاية الوصول (8/ 3354)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 413)، شرح تنقيح الفصول (397)، شرح الكوكب المنير (4/ 194).

القول الثالث: أن الدوران لا يفيد العلية مطلقا.

فزعوا إليه عند إرادتهم له، ولم يفزعوا لغيره (¬1). القول الثالث: أن الدوران لا يفيد العِلِّية مطلقاً. وقد ذهب إلى ذلك: ابن السمعاني (¬2)، والآمدي (¬3)، وابن الحاجب (¬4)، وأكثر الحنفية (¬5). واستدلوا بما يأتي: أولاً: إنه لا معنى للدوران إلا الطَّرْد والعَكْس، والطَّرْد لا يفيد العِلِّيَّة، لأن الطَّرْد معناه سلامته من الانتقاض، وسلامةُ المعنى من مبطِلٍ واحدٍ من مبطلات العِلَّة لا توجب انتفاء كلِّ مبطِل، أما العَكْس فإنه غير معتبرٍ في العِلَلِ الشرعيَّة؛ لأن عدم العِلَّة مع وجود المعلول عِلَّتان على التعاقب، كالبول والمسِّ بالنسبة إلى الحَدَث. فإذا ثبت أن الطَّرْد والعَكْس غير مفيدين للعِلَّة على جهة الانفراد، فإنهما غير مفيدين لها - أيضاً - على جهة الاجتماع (¬6). واعتُرِضَ عليه: بأنه لا يلزم من عدم إفادتهما للعِلِّية منفردين عدم إفادتهما للعِلِّية مجتمعين؛ فإنه يجوز أن يكون للهيئة الاجتماعية تأثيرٌ لا يكون لكلِّ واحدٍ من الأجزاء، كأجزاء العِلَّة، فإن كلَّ جزءٍ لا يُعَدُّ عِلَّةً مستقلةً بمفردة، لكنه متى ما اجتمعت الأجزاء صار الجميع عِلَّةً، كالقتل العمد العدوان، فإنه عِلَّةٌ لوجوب القصاص، لكن أجزائها - وهي القتل العمد ¬

(¬1) ينظر: نهاية الوصول (8/ 3352)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 414)، شرح تنقيح الفصول ... (397). (¬2) ينظر: قواطع الأدلة (4/ 235 - 236). وابن السمعاني هو: أبو المظفر منصور بن محمد بن عبدالجبار بن أحمد السمعاني المروزي الشافعي، الفقيه، الأصولي، النظار، إمام عصره، كان شوكةً في أعين المخالفين وحجةً لأهل السنة، من مؤلفاته: قواطع الأدلة في أصول الفقه (ط)، والإصطلام في الخلاف والفقه، توفي سنة (489 هـ). ينظر في ترجمته: طبقات الشافعية الكبرى لابن ابن السبكي (5/ 335)، طبقات الشافعية للإسنوي (2/ 29)، الأعلام للزركلي (7/ 303). (¬3) ينظر: الإحكام (3/ 375). (¬4) ينظر: مختصر ابن الحاجب (2/ 1106). (¬5) ينظر: التقرير والتحبير (3/ 197)، تيسير التحرير (4/ 49)، فواتح الرحموت (2/ 354). (¬6) ينظر: قواطع الأدلة (4/ 235 - 236)، المستصفى (3 - 636 - 637)، الإحكام للآمدي (3/ 375)، بيان المختصر للأصفهاني (3/ 136 - 137)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (247)، التقرير والتحبير (3/ 199)، تيسير التحرير (4/ 50)، فواتح الرحموت (2/ 355).

والعدوان - لا يؤثر كلُّ واحدٍ منهما على انفرادٍ، وإنما التأثير بمجموعها (¬1). ثانياً: أن الدوران قد وُجِدَ فيما لا دلالة له على العِلِّيَّة، كدوران أحد المتلازمين المتعاكسين، ومن ذلك المتضايفان (¬2) كالأبوَّة والبنوَّة، فإنه كلما تحقق أحدهما تحقق الآخر، وكلما انتفى أحدهما انتفى الآخر، وليس أحدهما عِلَّةً للآخر، فإذا كان الدوران قد يُوجَدُ من غير أن يكون عِلَّةً دلَّ ذلك على عدم دلالته على العِلِّيَّة (¬3). واعتُرِضَ عليه: بأن الدوران الذي يفيد ظنَّ العِلِّيَّة هو الذي لم يَقُمْ دليلٌ على عدم عِلِّيَّة المدار فيه، أي: الخالي عن المُزَاحِم، أمَّا ما ذكرتم من الصور التي تخلَّفت عنه العِلِّيَّة فيها فليس من الدوران الذي يفيد ظنَّ العِلِّيَّة؛ لأنه ليس خالياً عن المُزَاحِم، ولذلك فلا يقدح ما ذكرتم في الدوران الذي هو حُجَّةٌ عندنا (¬4). ثالثاً: أنه لم يُؤْثَرْ عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم يتعلَّقون بالطَّرْد والعَكْس، وليس هو في معنى طلب المصالح في شيءٍ حتى يقال: استرسالهم في طريق الحُكْم بالمصالح من غير تخصيص شيءٍ منها يقتضي التعلُّق بالطَّرْد والعَكْس (¬5). ¬

(¬1) ينظر: المحصول (5/ 216)، نهاية الوصول (8/ 3355)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 415)، الإبهاج (3/ 76 - 77)، نهاية السول (4/ 128). (¬2) المتضايفان هما: المتقابلان الوجوديان اللذان لا يجتمعان في محلٍّ واحدٍ من جهةٍ واحدة، كالأبوة والبنوة فإنهما قد يجتمعان في محلٍّ واحدٍ ولكن من جهتين مختلفتين، فيكون أباً لشخص وابناً لشخص آخر. ينظر: التعريفات للجرجاني (208)، كشاف اصطلاحات الفنون (2/ 468)، المعجم الفلسفي (2/ 318 - 319). (¬3) ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 376 - 377)، بيان المختصر للأصفهاني (3/ 138)، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (4/ 353)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (247)، التقرير والتحبير (3/ 198)، تيسير التحرير (4/ 50)، فواتح الرحموت (2/ 354). (¬4) ينظر: المحصول (5/ 216)، نهاية الوصول (8/ 3357 - 3358)، الإبهاج (3/ 76)، نهاية السول (4/ 125)، البحر المحيط للزركشي (5/ 245). (¬5) ينظر: البرهان (2/ 838).

المطلب الثالث: صورة تخريج المناط بمسلك الدوران.

واعتُرضَ عليه: بأن الطَّرْد والعَكْس يغلب على الظنِّ انتصابُ الجاري فيهما عَلَمَاً في وضع الشرع، فمن أنكر ذلك في طريق الظنون فقد عاند، ومن ادَّعى أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يأبون التعلُّق بطريقٍ يغلب على الظنِّ مراد الشارع، وكان يخصُّون نظرهم بمغلِّبٍ فقد ادَّعى بِدْعَاً (¬1). الترجيح: بعد النظر في المذاهب المتقدمة، وأدلة أصحابها، وما يتوجّه إليها من الاعتراضات، يترجح - والعلم عند الله -: مذهب جمهور الأصوليين، وهو أن مسلك الدوران يفيد العِلَّية ظناً بشرط عدم المُزَاحِم وعدم المانع؛ وذلك لقوة أدلتهم، وسلامتها من المُعَارِض الراجح. المطلب الثالث: صورة تخريج المناط بمسلك الدوران. تقدَّم أن تخريج المناط هو: استنباط عِلَّة الحُكْم الذي دلَّ النصُّ أو الإجماعُ عليه، ولم يتعرَّض لبيان عِلَّته لا صراحةً ولا إيماءً (¬2). كما تقدَّم أن الدوران هو: أن يثبت الحُكْم بثبوت وصفٍ وينتفي عند انتفائه (¬3). وإذا كان الأمر كذلك فإن تخريج المناط بمسلك الدوران يعني: استنباط عِلَّة الحُكْم الذي دلّ النصُّ أو الإجماعُ عليه، ولم يتعرَّض لبيان عِلَّته لا صراحةً ولا إيماءً، وذلك بالاستدلال على أن الحُكْم يدور مع وصفٍ وجوداً وعدماً، فيوجد عند وجوده، وينعدم عند عدمه. وصورته: أن يحُكْم الشارع بحُكْمٍ في محلّ، ولا يتعرَّض لبيان عِلَّة ذلك الحُكْم لا بصريح لفظٍ ولا بإيماء، فيستنبط المجتهد وصفاً يدور الحُكْم معه ¬

(¬1) ينظر: المرجع السابق (2/ 838 - 840). (¬2) ينظر: (128). (¬3) ينظر: (174).

وجوداً وعدماً، ولم يقم دليلٌ على عدم عليِّة المدار فيه، ولم توجد عِلَّةٌ أخرى لهذا الحُكْم سوى ذلك الوصف، فإنه حينئذٍ يتعين عِلَّةً لذلك الحُكْم. ومثاله: العنب حين كونه عصيراً ليس بمُسْكِرٍ ولا مُحَرَّم، حيث اقترن عدم الحُكْم وهو التحريم بعدم الوصف وهو الإسكار، فإذا صار مُسْكِرَاً صار محرَّماً، حيث اقترن ثبوت الحُكْم وهو التحريم بثبوت الوصف وهو الإسكار، فإذا تخلَّل لم يكن مسكراً ولا مُحَرَّماً، حيث اقترن عدم الحُكْم وهو التحريم بعدم الوصف وهو الإسكار، فيعيِّن المجتهدُ - حينئذٍ- وصفَ الإسكار "عِلَّةً " لحُكْم التحريم في الخمر؛ لأنه وجد أن الحُكْم يدور مع ذلك الوصف وجوداً وعدماً (¬1). وبهذا يتضح أن مسلك الدوران أحد الطرق المُعْتَبرة التي يَعْتَمِدُ عليها المجتهدُ في تخريج المناط. ¬

(¬1) ينظر: المحصول (5/ 207)، نهاية الوصول (8/ 3351)، شرح تنقيح الفصول (396)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 413)، الإبهاج (3/ 73)، نهاية السول (4/ 118)، البحر المحيط للزركشي (5/ 243)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 288 - 289)، شرح الكوكب المنير (4/ 192)، إرشاد الفحول (2/ 917).

الباب الثالث الاجتهاد في تحقيق المناط

الباب الثالث الاجتهاد في تحقيق المناط ويشتمل على خمسة فصول: الفصل الأول: تعريف تحقيق المناط لغةً واصطلاحاً. الفصل الثاني: أقسام تحقيق المناط. الفصل الثالث: حُكْم العمل بتحقيق المناط والأدلة على اعتباره. الفصل الرابع: ضوابط تحقيق المناط. الفصل الخامس: مسالك تحقيق المناط.

الفصل الأول تعريف تحقيق المناط لغة واصطلاحا

الفصل الأول تعريف تحقيق المناط لغةً واصطلاحاً ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعريف تحقيق المناط لغةً. المبحث الثاني: تعريف تحقيق المناط اصطلاحاً. المبحث الثالث: وجه المناسبة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي.

المبحث الأول تعريف تحقيق المناط لغة

المبحث الأول تعريف تحقيق المناط لغةً سأتناول في هذا المبحث تعريف تحقيق المناط لغةً، وذلك من خلال مطلبين: المطلب الأول: تعريف التحقيق لغةً. قال ابن فارس: " الحاء والقاف أصلٌ واحدٌ، وهو يدل على إحكام الشيء وصحته " (¬1). وحقَّ الأمر يحقُّ حَقَّاً وحُقوُقاً: إذا ثَبَتَ ووَجَبَ (¬2). ومنه قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [القصص: 63] أي: وجب عليهم العذاب، وحقَّه، وأحقَّه: إذا أثبته وصار عنده حقاً لا شك فيه (¬3). والتحقيق: تفعيل من حَقَّ، إذا ثبت (¬4). وعلى هذا فالتحقيق لغةً: إثبات الشيء. ¬

(¬1) معجم مقاييس اللغة: (2/ 15) " مادة: ح ق ق ". (¬2) ينظر: الصحاح (1/ 140)، لسان العرب (10/ 49)، تاج العروس (25/ 169) " مادة: ح ق ق ". (¬3) ينظر: لسان العرب (10/ 49)، تاج العروس (25/ 169) " مادة: ح ق ق ". (¬4) ينظر: الكليات للكفوي (296).

المطلب الثاني: تعريف المناط لغة.

المطلب الثاني: تعريف المناط لغةً. المناط في اللغة: مصدرٌ ميميٌّ بمعنى اسم المكان، وهو موضع التعليق، ومناط الشيء: المحلُّ الذي عُلِّق عليه، وقد سبق بيان ذلك من خلال ما ورد في معاجم اللغة من معاني مادة (ن وط) (¬1). وبناءً على ما تقدَّم من تعريف لفظي "التحقيق" و "المناط" في اللغة يتضَّح أن "تحقيق المناط" -من حيث التركيب الإضافي- في اللغة يعني: إثبات الموضع الذي عُلِّق عليه الشيء. ¬

(¬1) ينظر: (30 - 31).

المبحث الثاني تعريف تحقيق المناط اصطلاحا

المبحث الثاني تعريف تحقيق المناط اصطلاحاً اختلف الأصوليون في تعريف تحقيق المناط بناءً على اختلافهم فيما يندرج تحته من الصور وما لا يندرج، وبعد استقراء تلك التعريفات ظهر لي أنها ترجع إلى تعريفاتٍ خمسة، وهي على النحو الآتي مبتدأً بالأخصّ: التعريف الأول: عرَّفه صفي الدين الهندي بأنه: " النظر في معرفة وجود العِلَّة في الصورة التي يراد إثبات الحُكْم فيها بعد أن كانت معلومةً إما بنصٍّ أو إجماع " (¬1). وعرَّفه ابن الهمام الحنفي بما هو في معناه مع اختلافٍ في العبارة، وهو: النظر في معرفة وجود العِلَّة في آحاد الصور بعد تعرُّفها بنصٍّ أو إجماع (¬2). أما ابن السبكي في " الإبهاج " (¬3)، والزركشي (¬4)، والشوكاني (¬5)، فقد عرَّفوه بقولهم: " أن يُتْفَق على عِلِّيِّة وصفٍ بنصٍّ أو إجماعٍ، ويُجْتَهَد في وجودها في صورة النزاع ". والمقصود بقولهم: " أن يُتْفَق على عِلِّيِّه وصف " أي: يتفق الخصمان ¬

(¬1) نهاية الوصول: (7/ 3044). (¬2) ينظر: التقرير والتحبير (3/ 192 - 193)، تيسير التحرير (4/ 42). (¬3) ينظر: (3/ 82). (¬4) ينظر: البحر المحيط للزركشي (5/ 256). (¬5) ينظر: إرشاد الفحول ( ... 2/ 920).

التعريف الثاني

-المُسْتَدِل والمناظِر- على عِلَّة حُكْم الأصل؛ لأنها المقدمة الأولى في تحقيق المناط، فلابدَّ من ثبوتها وفرضها مُسَلَّمَةً عند الخصمين، وإلا فلا يمكن تصُّور تحقيق المناط مع الاختلاف في تلك المقدمة (¬1)، وليس المقصود أنه يشترط في تحقيق المناط أن تثبت عِلَّة الحُكْم في الأصل بمسلك الإجماع؛ لأن العلماء اختلفوا في تحقيق مناطاتٍ لم تثبت بطريق الإجماع، بل ثبتت بطرق أخرى كالسَّبْر والتقسيم أو المناسبة كما تقدَّم بيانه في عِلَّة تحريم الرِّبا (¬2). وحاصل هذه التعريفات أنها تدور حول معنىً واحد، وهو: إثبات عِلَّة حُكْم الأصل في الفرع بعد معرفتها بنصٍّ أو إجماع. التعريف الثاني: عرَّفه الآمدي بأنه: " النظر في معرفة وجود العِلَّة في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها، وسواءٌ كانت معروفةً بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط" (¬3). وعرَّفه القرافي بقوله: " أن يُتْفَق على عِلَّةٍ، ويُطْلَب تحقيقها في صورة النزاع " (¬4). وعرَّفه ابن السُّبكي في " جمع الجوامع " (¬5) بأنه: " إثبات العِلَّة في آحاد صورها ". وعرَّفه الإسنوي بأنه: " تحقيق العِلَّة المُتْفَق عليها في الفرع " (¬6)، أي: إقامة الدليل على وجودها فيه (¬7). وظاهر تعريف القرافي وابن السبكي والإسنوي إطلاق القول في طريق معرفة عِلَّة حُكْم الأصل، سواءٌ ثبتت بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط. ¬

(¬1) ينظر: الموافقات (5/ 414 - 418). (¬2) ينظر: (165). (¬3) الإحكام: (3/ 379). (¬4) نفائس الأصول: (7/ 3088). (¬5) (95). (¬6) نهاية السول: (4/ 143). (¬7) ينظر: المرجع السابق.

التعريف الثالث

وعرَّفه التفتازاني (¬1)، والمرداوي (¬2)، وابن النجار الفتوحي (¬3) بنحو تعريف الآمدي مع اختلافٍ يسيرٍ في العبارة، وهو: النظر والاجتهاد في معرفة وجود العِلَّة في آحاد الصور بعد معرفتها بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط. وحاصل هذه التعريفات أنها تدور حول معنىً واحد وهو: إثبات عِلَّة حُكْم الأصل في الفرع بعد معرفتها بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط. التعريف الثالث: عرَّفه الطُّوفي (¬4) وابن بدران الدمشقي (¬5) بأنه: "إثبات عِلَّة حُكْم الأصل في الفرع، أو إثبات معنىً معلوم في محلٍّ خَفِيَ فيه ثبوت ذلك المعنى". وهذا التعريف مبنيٌّ على أن " تحقيق المناط " يُطْلَق على نوعين من الاجتهاد فيكون أعمّ من القياس، وهما (¬6): النوع الأول: أن يكون هناك قاعدةٌ شرعيَّةٌ مُتْفَقٌ عليها، أو منصوصٌ عليها وهي الأصل، فيتبين المجتهدُ وجودَها في الفرع، أي: يجتهد في تحقيق مقتضاها في الفرع. ومثاله: أن يقال في حمار الوحش إذا قتله المُحْرِمُ مِثْلُه، وفي الضبع - أيضاً - يقتلها المُحْرِمُ مِثْلُها؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] والبقرة مثل حمار الوحش، والكبش مثل الضبع، فيجب أن يكون هو الجزاء، فوجوب المِثْل مُتْفَقٌ عليه، ثابتٌ بالنصِّ المذكور، وكون البقرة مثل حمار الوحش، والكبش مثل الضبع، ثابتٌ بالنظر والاجتهاد، وهو ما يُسمَّى بـ"تحقيق المناط". ¬

(¬1) التلويح على التوضيح: (2/ 162 - 163). (¬2) التحبير شرح التحرير: (7/ 3452 - 3453). (¬3) شرح الكوكب المنير: (4/ 200 - 201). (¬4) شرح مختصر الروضة: (3/ 236). (¬5) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد: (303). (¬6) ينظر: روضة الناظر (3/ 801 - 802)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 232 - 236)، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن بدران (302 - 303).

التعريف الرابع

وقد اقتصر الغزالي في "المستصفى" (¬1) في بيان معنى تحقيق المناط على ضرب أمثلةٍ لهذا النوع، ثم قال: " فلنعبِّر عن هذا الجنس بـ" تحقيق مناط الحُكْم "؛ لأن المناط معلومٌ بنصٍّ أو إجماعٍ لا حاجة إلى استنباطه، لكن تعذَّرت معرفته باليقين، فاسُتُدِلَّ عليه بأماراتٍ ظنية، وهذا لا خلاف فيه بين الأُمَّة، وهو نوع اجتهاد .. " (¬2). ولهذا فقد صرَّح ابن قدامة (¬3) والطُّوفي (¬4) وابن بدران (¬5) أن هذا النوع لا يُعْتَبر من القياس؛ لأن تحقيق المناط اجتهادٌ أعمُّ من القياس. النوع الثاني: أن تُعْرَف عِلَّة الحُكْم في الأصل بنصٍّ أو إجماع، فيتبين المجتهدُ وجودَها في الفرع. ومثاله: أن يقال: الطواف عِلَّةٌ لطهارة الهِرة، بناءً على قوله صلى الله عليه وسلم: " إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عيكم والطوافات" (¬6)، والطواف موجودٌ في الفأرة ونحوها من صغار الحشرات، فإثبات وجود عِلَّة حُكْم الأصل -وهي: الطواف- في الفأرة ونحوها من صغار الحشرات، يطلق عليه مُسمَّى: "تحقيق المناط". وقد اكتفى ابن قدامة في بيان معنى تحقيق المناط بذكر هذين النوعين مع ضرب الأمثلة عليها، دون أن يضع تعريفاً لهذا الاصطلاح (¬7). التعريف الرابع: عرَّفه ابن تيمية بقوله: "أن يعلِّق الشارع الحُكْمَ بمعنىً كليٍّ فينظر في ¬

(¬1) ينظر: (3/ 485 - 487). (¬2) المستصفى: (3/ 487). (¬3) ينظر: روضة الناظر (3/ 802 - 803). (¬4) ينظر: شرح مختصر الروضة (3/ 236). (¬5) ينظر: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد (302 - 303). (¬6) سبق تخريجه: (46). (¬7) ينظر: روضة الناظر (3/ 801 - 803).

ثبوته في بعض الأنواع أو بعض الأعيان " (¬1). وهذا التعريف يشمل صورتين كما ظهر لي من خلال تتبع الأمثلة التي أوردها ابن تيمية وأطلق عليها مُسمَّى: " تحقيق المناط "، وهما على النحو الآتي: الصورة الأولى: إدخال قضية معينةٍ تحت حُكْمٍ كليٍّ عام، وقد أوضح ذلك بقوله: " والناس كلهم متفقون على الاجتهاد والتفقه الذي يُحْتاج فيه إلى إدخال القضايا المعينة تحت الأحكام الكلية العامة التي نطق بها الكتاب والسُّنَّة، وهذا هو الذي يُسمَّى تحقيق المناط " (¬2). ثم ضرب على ذلك أمثلةً منها: الاجتهاد في تعيين القبلة عند الاشتباه، والاجتهاد في عدل الشخص المُعَيَّن، والاجتهاد في مقدار النفقة بالمعروف للمرأة المُعَيّنة، والمِثْل لنوع الصيد أو للصيد المُعَيَّن (¬3). وقال - رحمه الله -: " ومما يوضح هذا أن الشرائع جاءت بالأحكام الكلية مثل إيجاب الزكوات وتحريم البنات والأخوات، ولا يمكن أمرُ أحدٍ بما أمره الله به ونهيه عما نهاه الله عنه إن لم يعلم دخوله في تلك الأنواع الكلية، وإلا فمجرد العلم بها لا يمكن معه فعل مأمورٍ ولا ترك محظورٍ إلا بعلمٍ معينٍ بأن هذا المأمور داخلٌ فيما أمر الله به، وهذا المحظور داخلٌ فيما نهى الله عنه، وهذا الذي يُسمَّى تحقيق المناط " (¬4). الصورة الثانية: إثبات مقتضى لفظٍ عامٍّ في بعض أفراده. وقد مثَّل - رحمه الله - لذلك بلفظ: " الخمر " و " الميسر " و " الرِّبا "، ونحو ذلك من الألفاظ العامة التي يحتاج المجتهد في العمل بمقتضاها إلى إثبات معانيها في الأفراد الداخلة تحتها. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى: (19/ 16). (¬2) المرجع السابق: (7/ 336). (¬3) ينظر: المرجع السابق: (7/ 336 - 337)، (13/ 61)، (13/ 111). (¬4) المرجع السابق: (7/ 336).

التعريف الخامس

فلفظ " الخمر " يتناول تحريم كلِّ مسكرٍ من الأشربة والأطعمة كالحشيشة المسكرة من أي مادةٍ كانت، لقوله صلى الله عليه وسلم: " كلُّ مسكرٍ خمر" (¬1)، وإثبات هذا المعنى في بعض أفراد المسكرات المشروبة أو المطعومة يُعدُّ من صور تحقيق المناط (¬2). ولفظ " الميسر " يتناول اللعب بالنرد والشطرنج، كما يتناول بيوع الغرر، فإن فيها معنى القمار الذي هو ميسر، إذ القمار معناه: أن يؤخذ مال الإنسان وهو على مخاطرة هل يحصل له عوضه أو لا يحصل؟ فإثبات هذا المعنى في بعض أفراده يُعدُّ من صور تحقيق المناط (¬3). ولفظ " الرِّبا " يتناول رِبا النسيئة ورِبا الفضل، والقرضَ الذي يَجُرُّ منفعةً وغير ذلك، فإثبات معنى " الرِّبا " في بعض أنواعه أو أعيانه يُعدُّ من صور تحقيق المناط (¬4). وحاصل ما ذكر - رحمه الله - من هذه الأمثلة يرجع إلى أن إثبات معنى لفظٍ عامٍّ في بعض أفراده يُطلق عليه مُسمَّى: " تحقيق المناط ". التعريف الخامس: عرَّفه الشاطبي بقوله: " أن يثبت الحُكْم بمُدْرَكِه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محلِّه " (¬5). ومعناه: أن يثبت الحُكْم بدليلٍ شرعيٍّ، ويُجْتَهد في تطبيقه على الجزئيات والحوادث الخارجية، سواءٌ أكان نفس الحُكْم ثابتاً بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط (¬6). ¬

(¬1) سبق تخريجه: (47). (¬2) ينظر: مجموع الفتاوى (19/ 16)، (19/ 282 - 283)، منهاج السنة (2/ 287). (¬3) ينظر: مجموع الفتاوى (19/ 283)، منهاج السنة (2/ 287)، درء تعارض العقل والنقل (7/ 337). (¬4) ينظر: مجموع الفتاوى (19/ 283 - 284)، درء تعارض العقل والنقل (7/ 337). (¬5) الموافقات: (5/ 12). (¬6) ينظر: تعليقات دراز على الموافقات (5/ 12).

وهذا التعريف مبنيٌّ على أن كلَّ استدلالٍ له مقدمتان (¬1): الأولى: تتعلق باستنباط الحُكْم من دليله الشرعي. والثانية: تتعلق بتعيين محلِّ الحُكْم، أي: تطبيقه في الوقائع والجزئيات التي يشملها ذلك الحُكْم. فالأولى ترجع إلى نفس الحُكْم الشرعي، والثانية ترجع إلى تعيين محلِّ الحُكْم الذي هو تحقيق المناط (¬2). فالنظر في المقدمة الأولى يشمل كلَّ دليلٍ شرعي، والنظر في المقدمة الثانية يشمل مُتَعَلَّقَ كلِّ حُكْمٍ، سواء كان عِلَّةً أو غير ذلك، كأن يكون مُتَعَلَّقُ الحُكْم معنىً كلياً ثبت بالنصِّ أو الإجماعِ أو الاستقراءِ كما يتضح ذلك من خلال الأمثلة التي أوردها الشاطبي، ومنها: - إذا شرع المكلَّف في تناول خمرٍ مثلاً، قيل له: أهذا خمرٌ أم لا؟ فلابدَّ من النظر في كونه خمراً أو غير خمر، فإذا وجد فيه أمارة الخمر أو حقيقتها بنظرٍ مُعْتَبَر، قال: نعم، هذا خمر، فيقال له: كلُّ خمرٍ حرامُ الاستعمال، فيجتنبه (¬3). - إذا أراد أن يتوضأ بماء، فلابدَّ من النظر إليه: هل هو مُطْلَق أم لا؟ وذلك برؤية اللون، وبذوق الطعم، وشمِّ الرائحة، فإذا تبين أنه على أصل خلقته وأنه مُطْلَقٌ فالوضوء به جائز (¬4). - إذا قال الشارع: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وثبت عندنا معنى العدالة شرعاً افتقرنا إلى تعيين مَنْ حصلت فيه هذه الصفة، وليس الناس في وصف العدالة على حدٍّ سواء، بل ذلك يختلف اختلافاً متبايناً (¬5). - إذا أوصى بماله للفقراء، فلا شك إن من الناس من لا شيء له، ¬

(¬1) ينظر: الموافقات (3/ 231 - 234). (¬2) ينظر: المرجع السابق (3/ 231). (¬3) ينظر: المرجع السابق (3/ 232). (¬4) ينظر: المرجع السابق (3/ 232). (¬5) ينظر: الموافقات (5/ 12 - 13).

فيتحقق فيه اسم الفقر، فهو من أهل الوصية، ومنهم من لا حاجة به ولا فقر وإن لم يملك نصاباً، وبينهما وسائط، كالرجل يكون له الشيء ولا سعة له، فينظر فيه: هل الغالب عليه حُكْم الفقر أو حُكْم الغنى؟ (¬1). - من القواعد القضائية: " البيِّنة على المُدَّعِي واليمين على من أنكر" (¬2)، فالقاضي لا يمكنه الحُكْم في واقعة، بل لا يمكنه توجيه الحجاج ولا طلب الخصوم بما عليهم، إلا بعد فهم المُدَّعِي من المدَّعَى عليه، وهو أصل القضاء، ولا يتعين ذلك إلا بنظرٍ واجتهادٍ، وردِّ الدَّعاوى إلى الأدلة، وهو تحقيق المناط بعينه (¬3). فهذه الأمثلة وأشباهها (¬4) التي أوردها الشاطبي تقريراً لمعنى تحقيق المناط عنده تُنَبِّه على انه اجتهادٌ لا يقتصر على إثبات عِلَّة حُكْم الأصل في الفرع، بل يشمل إثبات مُتَعَلَّقِ كلِّ حُكْمٍ في بعض جزئياته، ويستوي في ذلك أن يكون مُتَعَلَّقِ الحُكْم ثبت بالنصِّ أو الإجماعِ أو الاستقراءِ أو كان عِلَّةً أو معنىً كلياً. مناقشة التعريفات والمقارنة بينها: من خلال التأمل في التعريفات السابقة والموازنة بينها تبين لي الآتي: أولاً: إن تعريفات الأصوليين لـ " تحقيق المناط " تمثِّل - في الجملة - اتجاهين: الاتجاه الأول: يقصر أصحابُه تحقيقَ المناط على إثبات عِلَّة حُكْم الأصل في الفرع. ثم اختلفوا في نوع العِلَّة التي يُطْلَبُ إثباتها في الفرع، وذلك على مذهبين: ¬

(¬1) ينظر: المرجع السابق (5/ 13 - 14). (¬2) ينظر: القواعد للحصني (4/ 244)، الأشباه والنظائر للسيوطي (509). (¬3) ينظر: الموافقات (5/ 15 - 16). (¬4) كتقدير النفقات الواجبة، وأروش الجنايات، وقيم المتلفات، واعتبار المثل في جزاء الصيد وغيرها. ينظر: الموافقات (5/ 14 - 18).

المذهب الأول: يُقيِّد تحقيق المناط بما ثبتت عِلَّة حُكْم الأصل فيه بنصٍّ أو إجماع (¬1). المذهب الثاني: يُطْلِق تحقيق المناط على ما ثبتت عِلَّة حُكْم الأصل فيه بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط (¬2). الاتجاه الثاني: يَعْتَبر أصحابُه تحقيقَ المناط من الاجتهاد الذي هو أعمّ من إثبات عِلَّة حُكْم الأصل في الفرع، فيدخُل تحته ثلاث صور (¬3): الأولى: إثبات عِلَّة حُكْم الأصل في الفرع. والثانية: إثبات مقتضى قاعدةٍ شرعيةٍ في بعض جزئياتها. والثالثة: إثبات مقتضى لفظٍ عامٍّ أو مطلقٍ تعلَّق به حكمٌ شرعي في بعض افراده. ويظهر لي - والله أعلم - أن الخلاف يرجع إلى الاصطلاح، فأصحاب الاتجاه الأول قصروا تحقيق المناط - اصطلاحاً - على إثبات عِلَّة حُكْم الأصل في الفرع، بينما اصطلح أصحاب الاتجاه الثاني على ما هم أعمّ من ذلك، فلا مشاحة في الاصطلاح. ثانياً: إذا اعتبر أن " تحقيق المناط " اجتهادٌ هو أعمّ من إثبات عِلَّة حُكْم الأصل في الفرع فإنه يتوجه الاعتراض على التعريف الأول بأنه غير جامع؛ لأنه قَصَرَ تحقيقَ المناط على ما ثبتت فيه عِلَّة حُكْم الأصل بالنصِّ أو الإجماع، بينما تحقيق المناط يشمل ما ثبتت فيه عِلَّة حُكْم الأصل بأحد الطرق المستَنبطة للعِلَّة (¬4). كما يتوجه الاعتراض - أيضاً - على التعريف الثاني بأنه غير جامع، لأنه قَصَرَ تحقيقَ المناط على ما ثبتت فيه عِلَّة حُكْم الأصل بالنصِّ أو الإجماعِ أو ¬

(¬1) ينظر: (184). (¬2) ينظر: (185). (¬3) ينظر: (186 - 190). (¬4) ينظر: (184).

الاستنباطِ، بينما تحقيق المناط يشمل ما إذا كان مُتَعَلَّق الحُكْم غير عِلَّة، كأن يكون معنى كليَّاً ثبت بالنصِّ أو الإجماعِ أو الاستنباط (¬1). وقد يُعْتَذَر لأصحاب التعريف الأول والثاني بأنهم عرَّفوا " تحقيق المناط " ببعض أنواعه أو بالأخصِّ من أنواعه (¬2)، لأن الكلام كان يتعلَّق بأضرب الاجتهاد في العِلَّة، فاقْتُصِرَ على المعنى الذي له تَعَلُّقٌ بذلك. ثالثاً: قيَّد الطُّوفي تعريفه " تحقيق المناط " بالمحلِّ الذي خفي فيه ظهور المعنى (¬3)، وهذا القيد غير معتبرٍ في كلِّ الصور، بل إن من الصور ما يتحقق فيه المناط بوضوحٍ وجلاء، ومنها ما يستوجب بذل الواسع في دركه لخفائه، كما سيأتي بيانه في أنواع تحقيق المناط باعتبار وضوحه وخفائه (¬4). وبهذا يكون تعريف الطُّوفي غير جامع، إلا أن يكون القيد خَرَجَ مَخْرَجَ الغالب، وذلك باعتبار أن أكثر صور تحقيق المناط تظهر فيها الحاجة إلى بذل الوسع؛ لخفاء تحقيق المناط في تلك الصور. رابعاً: إيراد لفظ " إثبات " في التعريف أولى من إيراد لفظ " تحقيق " كما في تعريف القرافي (¬5) والإسنوي (¬6)؛ لأنه قد يُعْتَرض على ذلك بأن فيه دَوْرَاً، وإن كان المراد بذلك المعنى اللغوي. خامساً: اختلفت تعبيرات الأصوليين عن المحلِّ الذي يتوجه إليه النظر في تحقيق المناط. فالآمدي (¬7) والتفتازاني (¬8)، وابن الهمام الحنفي (¬9)، والمرداوي (¬10)، ¬

(¬1) ينظر: (185). (¬2) ينظر: تعليقات الشيخ عبدالرزاق عفيفي على الإحكام للآمدي (3/ 379). (¬3) ينظر: (186). (¬4) ينظر: (200 - 202). (¬5) ينظر: (185). (¬6) ينظر: (185). (¬7) ينظر: (185). (¬8) ينظر: (185). (¬9) ينظر: (184). (¬10) ينظر: (185).

التعريف المختار

وابن النجار (¬1)؛ عبُّروا عن ذلك بـ " آحاد الصور ". ومنهم من عبَّر عنه بـ "آحاد صورها " أي: العِلَّة، كابن السبكي في" جمع الجوامع " (¬2). وعبَّر صفي الدين الهندي عنه بـ" الصورة التي يُرَاد إثبات الحُكْم فيها" (¬3). وابن السُّبكي في " الابهاج " (¬4)، والزركشي (¬5)، والشوكاني (¬6)، عبُّروا عن ذلك بـ " صورة النزاع ". وعبَّر الطُّوفي (¬7)، والإسنوي (¬8) عن ذلك بـ " الفرع". وعبَّر ابن تيمية عنه بـ " ببعض الأنواع أو بعض الأعيان " (¬9). أما الشاطبي فقد عبَّر عن ذلك بـ " محلِّ الحُكْم " (¬10). وكلها ألفاظٌ تؤدي إلى مقصودٍ واحد، وهو المحلُّ الذي يبين المجتهدُ في ثبوتَ ذلك المعنى المطلوب المعبَّر عنه بـ " المناط ". التعريف المختار: من خلال المقارنة بين التعريفات السابقة واستقراء الأمثلة التي أوردها الأصوليون ظهر لي أن" تحقيق المناط " يطلق على ثلاث صور: الأولى: إثبات عِلَّة حُكْم الأصل في الفرع بعد معرفتها في نفسها بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط. ¬

(¬1) ينظر: (185). (¬2): (95). (¬3) ينظر: (184). (¬4) ينظر: (3/ 82). (¬5) ينظر: (184). (¬6) ينظر: (184). (¬7) ينظر: (186). (¬8) ينظر: (185). (¬9) ينظر: (187). (¬10) ينظر: (189).

وهذا هو الإطلاق المشهور. الثانية: إثبات مقتضى قاعدةٍ شرعيةٍ ثبتت بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباطٍ في بعض جزئياتها. الثالثة: إثبات معنى لفظٍ عامٍّ أو مطلقٍ تعلَّق به حكمٌ شرعيٌّ في بعض أفراده. كما يظهر لي أن من قصر مدلول " تحقيق المناط " على إثبات عِلَّة حكم الأصل في الفرع كما هو في باب القياس إنما اكتفى بذكر أهم أفراد الكلي لا كل أفراده؛ لأن سياق بحثهم في ذلك الموضع كان يتعلَّق بأنواع الاجتهاد في العِلَّة القياسية. ولهذا فإن أقرب تعريفٍ جامعٍ لتلك الصور الداخلة تحته وبعبارة موجزةٍ، هو أن يقال: " تحقيق المناط: إثبات مُتَعَلَّقِ حُكْمٍ شرعيٍّ في بعض أفراده ". فإن كان مُتَعَلَّق الحُكْم الشرعي عِلَّةً فإثباتها في بعض صورها داخلٌ في التعريف. وإن كان مُتَعَلَّق الحُكْم الشرعي قاعدةً كليةً ثبتت بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباطٍ فإثبات مقتضاها في بعض جزئياتها داخلٌ- أيضاً- في التعريف. وإن كان مُتَعَلَّق الحُكْم الشرعي معنى لفظ عامُّ أو مطلقٍ فإثبات ذلك المعنى في بعض أفراده داخلٌ - أيضاً - في التعريف. وحيث أطلق لفظ " تحقيق المناط" في هذا البحث فإني أقصد به هذا المعنى الذي يشمل تلك الصور.

المبحث الثالث وجه المناسبة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي

المبحث الثالث وجه المناسبة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي تقدَّم أن تحقيق المناط في اللغة يعني: إثبات الموضع الذي عُلَّق به الشيء (¬1). كما تقدَّم أن تحقيق المناط في الاصطلاح يعني: إثبات مُتَعَلَّقِ حُكْمٍ شرعيٍّ في بعض أفراده (¬2). ومن خلال النظر في كلا التعريفين تظهر بينهما علاقة عمومٍ وخصوص مطلق، فالتعريف اللغوي أعمُّ من التعريف الاصطلاحي، حيث يُطْلَق تحقيق المناط على إثبات ما تعلق به الشيء مطلقاً، بينما تحقيق المناط في الاصطلاح يختص بإثبات المعنى الذي تعلَّق به الحُكْم الشرعيُّ في بعض أفراده. ¬

(¬1) ينظر: (183). (¬2) ينظر: (194).

الفصل الثاني أقسام تحقيق المناط

الفصل الثاني أقسام تحقيق المناط ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: أقسام تحقيق المناط بالنظر إلى نوع المناط. المبحث الثاني: أقسام تحقيق المناط بالنظر إلى وضوحه وخفائه. المبحث الثالث: أقسام تحقيق المناط بالنظر إلى مراتبه.

المبحث الأول أقسام تحقيق المناط بالنظر النظر إلى نوع المناط

المبحث الأول أقسام تحقيق المناط بالنظر النظر إلى نوع المناط تقدَّم أن تحقيق المناط يشمل ما إذا كان المناط عِلَّةً ثبتت بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط، أو كان المناط قاعدةً شرعيَّةً، أو كان المناط معنى لفظٍ عامٍّ أو مطلقٍ تعلَّق به حكمٌ شرعي (¬1). وبناءً على هذا فإن تحقيق المناط ينقسم باعتبار النظر إلى نوع المناط المراد تحقيقه إلى أربعة أقسام: القسم الأول: تحقيق المناط باعتباره عِلَّةً، سواءً ثبتت بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط (¬2). وصورته: أن تثبت عِلَّة حُكْم الأصل بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباطٍ فيُجْتَهَد في التحقُّق من وجودها في فرعٍ ما. ومثاله: قوله صلى الله عليه وسلم في الهرة: " إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات " (¬3). فالحديث يومئ إلى أن العِلَّة في الحُكْم بطهارة الهرة هي "الطواف"، فيبحث المجتهد في مدى تحققها في غير الهرة كالفأرة وصغار الحشرات (¬4). ¬

(¬1) ينظر: (194 - 195). (¬2) ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 379)، نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (7/ 3044)، الإبهاج (3/ 82)، نهاية السول (4/ 143)، البحر المحيط للزركشي (5/ 256)، تيسير التحرير (4/ 42)، شرح الكوكب المنير (4/ 200 - 201). (¬3) تقدم تخريجه: (46). (¬4) ينظر: رسالة في أصول الفقة للعُكْبري (83)، روضة الناظر (3/ 802)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 235)، التحبير شرح التحرير (7/ 3453).

القسم الثاني: تحقيق المناط باعتباره قاعدة شرعية.

القسم الثاني: تحقيق المناط باعتباره قاعدةً شرعيَّة (¬1). وصورته: أن تثبت قاعدةٌ شرعيَّةٌ بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط، فيبحث المجتهد في مدى تحقق مقتضاها في بعض فروعها أو جزئياتها. ومثاله: قاعدة " الضرورات تبيح المحظورات "، فإن هذه القاعدة متفَقٌ عليها، غير إن التحقُّق من وجود مقتضاها في بعض الفروع أو الجزئيات يحتاج إلى اجتهاد (¬2). القسم الثالث: تحقيق المناط باعتباره لفظاً عاماً تعلَّق به حكمٌ شرعيٌّ (¬3). وصورته: أن يناط حُكْمٌ شرعيٌّ بلفظٍ عام، فيبحث المجتهد في تحقق معنى ذلك اللفظ العام في بعض أفراده. ومثاله: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فلفظ (الرِّبا) لفظٌ عامٌّ أنيط به حُكْمٌ شرعيٌّ وهو التحريم، فيبحث المجتهد في مدى تحقق معنى ذلك اللفظ العام في صورةٍ بعينها هل هي داخلةٌ تحته فتأخذ حكمه أوْ لا (¬4)؟ القسم الرابع: تحقيق المناط باعتباره معنىً مطلقاً تعلَّق به حكمٌ شرعيُّ (¬5). وصورته: أن يناط حكمٌ شرعيٌّ بمعنى مطلقٍ، فيبحث المجتهد في تحقُّق ذلك المعنى في بعض أفراده. ومثاله: أناط الشارع رفع الحدث بالماء الطهور الباقي على أصل خلقته في حال وجوده والقدرة على استعماله، فيبحث المجتهد في تحقق ذلك المعنى المطلق - وهو كون الماء باقياً على أصل خلقته - في بعض أفراده هل ذلك الماء بعينه باقٍ على أصل خلقته فتصح به الطهارة أو لا؟ (¬6). ¬

(¬1) ينظر: المستصفى (3/ 487)، روضة الناظر (3/ 802 - 803)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 236) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (302 - 303). (¬2) ينظر: المنثور في القواعد (2/ 317)، الاشباه والنظائر للسيوطي (84)، الأشباه والنظائر لابن نجيم (85)، إيضاح المسالك (365). (¬3) ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (19/ 382 - 384)، منهاج السنة (2/ 287). (¬4) ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (19/ 283). (¬5) ينظر: المرجع السابق (5/ 23 - 24). (¬6) ينظر: المرجع السابق (3/ 232).

المبحث الثاني أقسام تحقيق المناط بالنظر إلى وضوحه وخفائه

المبحث الثاني أقسام تحقيق المناط بالنظر إلى وضوحه وخفائه إن تحقيق المناط -بصوره المختلفة- ليس على رتبةٍ واحدةٍ من الوضوح والجلاء، فقد يظهر وجود المناط أو عدمه في بعض الفروع بجلاء، وقد لا يظهر في فروعٍ أخرى إلا بمزيدٍ اجتهاد؛ وذلك لخفائه وغموضه، وبين المرتبتين مراتبٌ لا تنحصر، بعضها ينجذب إلى الطرف الأول، وبعضها الآخر ينجذب إلى الطرف الثاني. وقد أشار إلى ذلك الغزالي بقوله: "إذا بان لنا بالنصِّ -مثلاً- أن الرِّبا منوطٌ بوصف الطُّعم بقوله: "لا تبيعوا الطعام بالطعام" (¬1)، أو بتصريحه -مثلاً- بأنه لأجل الطعام، فيتصدى لنا طرفان في النفي والإثبات واضحان، أحدهما: الثياب والعبيد والدُّور والأواني فإنها ليست مطعومةً قطعاً، وبينهما أوساطٌ متشابهةٌ ليس الحُكْم فيها بالنفي والإثبات جلياً: كدهن الكتَّان (¬2)، ودهن البنفسج (¬3)، والطين الأرمني (¬4)، ¬

(¬1) سبق تخريجه: (49). (¬2) الكتان: نباتٌ زراعيٌّ من الفصيلة الكتانية، يزرع في المناطق المعتدلة، زهرته زرقاء جميلة، يزيد ارتفاعه على نصف متر، وثمرته عليقة مدورة تعرف باسم بزر الكتان يعتصر منها الزيت الحار، وهو المعبَّر عنه بدهن الكتان، ويتخذ من أليافه النسيج المعروف. ينظر: تاج العروس (18/ 472)، والمعجم الوسيط (2/ 776)، " مادة: ك ت ن ". (¬3) البنفسج: نباتٌ زهريٌّ من الفصيلة البنفسجية، يزرع للزينة، ولزهوره عطر الرائحة، ويستعمل في التداوي. ينظر: تاج العروس (3/ 300)، والمعجم الوسيط (1/ 71). (¬4) الطين الأرمني: من أنواع الطين نسبةً إلى أرمينية وهي بناحية الروم، وحسب جغرافيا العالم المعاصر: هي بلد جبلي تقع في القوقاز من أوراسيا، وقد كانت إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقاً. ينظر: تاج العروس (35/ 360)، معجم البلدان (1/ 159 - 160)، ومناسبة ذكره هنا أنه يؤكل دواءً فأشبه المطعومات كما ذكر السرخسي في المبسوط (3/ 181)، والشافعي في الأم (3/ 117)، وابن قدامة في المغني (6/ 58).

القسم الأول: تحقيق المناط الجلي.

والزعفران (¬1)، وأنها معدودةٌ من المطعومات أم لا؟ فيُحَتاج إلى نوعٍ من النظر في تحقيق معنى الطُّعم فيها أو نفيه عنها " (¬2). وهذا المعنى لا يقتصر على تحقيق وجود العِلَّة في الفرع، بل يعمُّ سائر الصور التي يشملها الاجتهاد في تحقيق المناط بما في ذلك القواعد الكلية والألفاظ والمعاني المطلقة. وقد مثَّل الشاطبي لذلك بتحقيق معنى العدالة في المكلَّفين، فإذا " ثبت عندنا معنى العدالة شرعاً افتقرنا إلى تعيين مَنْ حصلت فيه هذه الصفة، وليس الناس في وصف العدالة على حدِّ سواء، بل ذلك يختلف اختلافاً متبايناً، فإذا تأملنا العدول وجدنا لاتصافهم بها طرفين وواسطة، طرفٌ أعلى في العدالة لا إشكال فيه ... كأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وطرفٌ آخر وهو أول درجةٍ في الخروج عن مقتضى الوصف، كالمجاوز لمرتبة الكفر إلى الحُكْم بمجرد الإسلام، فضلاً عن مرتكبي الكبائر المحدودين فيها، وبينهما مراتبٌ لا تنحصر، وهذا الوسط غامضٌ لابدَّ فيه من بلوغ حدِّ الوسع وهو الاجتهاد" (¬3). وبهذا الاعتبار ينقسم الاجتهاد في تحقيق المناط إلى قسمين: القسم الأول: تحقيق المناط الجلي. وصورته: أن يثبت المناط في بعض أفراده ثبوتاً واضحاً لا احتمال فيه. ومثاله: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر " (¬4). ¬

(¬1) الزعفران: نباتٌ بصليٌّ منه أنواعٌ برِّيةٌ ونوعٌ صبغيٌّ طبيٌّ يستعمل للتداوي. ينظر: تاج العروس (11/ 428)، المعجم الوسيط (1/ 394)، " مادة: ز ع ف ر ". (¬2) أساس القياس: (38). (¬3) الموافقات: (5/ 12 - 13). (¬4) أخرجه مسلم في " صحيحه "، كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر، رقم (3881).

القسم الثاني: تحقيق المناط الخفي.

فهذا الحديث يدل على تحريم بيع الغرر، ومناط هذا الحُكْم هو الغرر، وقد ثبت هذا المناط وتحقق وجوده بجلاءٍ في بيع الطير في الهواء، والسمك في الماء، والحمل في البطن (¬1). القسم الثاني: تحقيق المناط الخفي. وصورته: أن يتردد ثبوت المناط في بعض أفراده بين طرفي الإثبات والنفي. ومثاله: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة: 38]. فهذه الآية تدل على وجوب قطع يد السارق، ومناط هذا الحُكْم هو السرقة، وقد تردد ثبوت هذا المناط في بعض الصور كالنَّبَّاش (¬2): هل يتحقق فيه مناط الحُكْم وهو السرقة فيجب فيه الحدُّ أوْ لا؟ (¬3). وإذا تردد ثبوت المناط في بعض أفراده بين طرفي الإثبات والنفي احتيج حينئذٍ إلى بلوغ حدِّ الوسع في الاجتهاد؛ لإزالة ذلك الخفاء حسبما يأتي بيانه في مسالك تحقيق المناط (¬4). ¬

(¬1) ينظر: أساس القياس (40). (¬2) النباش: هو من يكشف القبور عن الموت ليسرق أكفانهم. ينظر: لسان العرب (6/ 350)، تاج العروس (17/ 397) " مادة: ن ب ش ". (¬3) ينظر: بدائع الصنائع (7/ 65)، مغني المحتاج (4/ 158)، المغني (10/ 240). (¬4) ينظر: (258 - 283).

المبحث الثالث أقسام تحقيق المناط بالنظر إلى مراتبه

المبحث الثالث أقسام تحقيق المناط بالنظر إلى مراتبه ينقسم تحقيق المناط باعتبار مراتبه إلى: تحقيق المناط في الأنواع، وتحقيق المناط في الأشخاص أو الأعيان (¬1). وللشاطبي - رحمه الله - قَصَبُ السَّبْق في توضيح هذا التقسيم، والتنبيه عليه، مع ذكر أمثلته (¬2). وبيان هذين القسمين على النحو الآتي: القسم الأول: تحقيق المناط في الأنواع. ولعلَّ تسميته بذلك تغني عن تعريفه، وهو ما حدا بالشاطبي إلى الاقتصار على توضيحه بالأمثلة التي أوردها (¬3). ومن خلال تأمل تلك الأمثلة يمكن بيان أن المراد به: إثبات مُتَعَلَّق الحُكْم - أي: مناطه - في الأنواع الداخلة تحته لا في أشخاصٍ معينة. فإذا اعتبرنا أن مُتَعَلَّق الحُكْم جنساً فالاجتهاد في إلحاق الأنواع الداخلة تحت حكمه دون النظر إلى أشخاصٍ معينةٍ يُعْتَبر من تحقيق المناط في الأنواع. ومثاله: إثبات مناط المِثْل في جزاء الصيد في بعض أنواعه. ¬

(¬1) ينظر: الموافقات (5/ 22 - 23). (¬2) ينظر: المرجع السابق (5/ 22 - 25). (¬3) ينظر: المرجع السابق (5/ 23).

القسم الثاني: تحقيق المناط في الأشخاص أو الأعيان.

فالمِثْلُ وَرَدَ في الشرع مطلقاً، والمطلوب من المجتهد تعيين أنواعه، فإذا قيل: الكبش مثلاً للضبع، والعنز مثلاً للغزال، والعَنَاق (¬1) مثلاً للأرنب، فهذا من تحقيق المناط في الأنواع، حيث اعتبر مناط المثلية جنساً، ثم أُثْبِتَ هذا المناط في بعض أنواعه الداخلة تحته دون النظر إلى أشخاصٍ معينة (¬2). فهذا القسم يتعلق النظر فيه بالاجتهاد في إرجاع كلِّ نوعٍ إلى جنسه ليشمله حكمه، حتى لا يبقى نوعٌ من الأنواع إلا ويتحقق مناطه بإدراجه تحت جنسٍ معين، ولا يتعلق النظر فيه بالاجتهاد في أشخاصٍ معينة. القسم الثاني: تحقيق المناط في الأشخاص أو الأعيان. ومن خلال تأمل الأمثلة التي أوردها الشاطبي (¬3) يمكن بيان أن المراد به: إثبات مُتَعَلَّق الحُكْم - أي: مناطه - في أشخاصٍ معينة. وهو نوعان: النوع الأول: تحقيقٌ عام، وهو: إثبات مُتَعَلَّق الحُكْم من حيث هو في مكلَّفٍ ما من غير التفاتٍ إلى شيءٍ غير القبول المشروع بالتهيئة الظاهرة (¬4). وقد أوضح الشاطبي هذا المعنى بقوله: " وذلك أن الأول - أي: تحقيق المناط العام - نظرٌ في تعيين المناط من حيث هو لمكلَّفٍ ما؛ فإذا نظر المجتهد في العدالة مثلاً، ووجد هذا الشخص متصفاً بها على حسب ما ظهر له، أوقع عليه ما يقتضيه النصُّ من التكاليف المنوطة بالعدول من الشهادات، والانتصاب للولايات العامة أو الخاصة " (¬5). وهذا المعنى مبنيٌّ على أن الأصل في الأحكام أن تُنَزَّل على أفعال ¬

(¬1) العَنَاق: الأنثى من أولاد المعز. ينظر: لسان العرب (10/ 274)، تاج العروس (26/ 216) مادة: " ع ن ق ". (¬2) ينظر: الموافقات (5/ 17). (¬3) ينظر: الموافقات (5/ 23). (¬4) ينظر: المرجع السابق (5/ 23). (¬5) المرجع السابق: (5/ 23).

المكلَّفين باعتبارها مطلقةً من كلِّ قيدٍ، فإذا تحقق المجتهد من وجود مناط الحُكْم في المكلَّفين والمُخَاطَبين على الجملة أوقع عليهم أحكامَ تلك النصوص من غير التفاتٍ إلى شيءٍ غير القبول المشروط بالتهيئة الظاهرة، فالمكلَّفون كلهم في أحكام النصوص على سواءٍ في هذا النظر (¬1). النوع الثاني: تحقيقٌ خاص، وهو: إثبات مُتَعَلَّق الحُكْم في مكلَّفٍ ما بالنظر إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية، أو بالنظر إلى ما يصلحه في نفسه بحسب وقتٍ دون وقت، وحالٍ دون حالٍ، وشخصٍ دون شخص (¬2). وكما يتضح من التعريف أن هذا النوع له صورتان: الصورة الأولى: إثبات مُتَعَلَّق الحُكْم في مكلفٍ ما بالنظر إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية، بحيث يُتَعَرَّف منه مداخل الشيطان، ومداخل الهوى، والحظوظ العاجلة، حتى يلقيها المجتهد على ذلك المكلَّف مقيَّدةً بقيود التحرُّز من تلك المداخل (¬3). وهذه الصورة تشمل مُطْلَق التكليفات الشرعيَّة، وهو ما عبَّر عنه الشاطبي بقوله: " هذا بالنسبة إلى التكليف المنحتم وغيره " (¬4). ويعني بذلك: أن هذه الصورة من تحقيق المناط الخاص تشمل ما طلب الشارع فعله أو تركه طلباً جازماً أو غير جازم، فكلُّ المطلوبات الشرعيَّة اللازمة وغيرها يدخله العُجْبُ به، والرياء، والسمعة، والاعتماد على العمل، وهكذا من تحميل النفس فيهما ما لا قدرة لها عليه، فيدخل بذلك في الضرر أو الحرج، فهذه القيود تخلِّص له العمل من تلك الشوائب (¬5). الصورة الثانية: إثبات مُتَعَلَّق الحُكْم في مكلَّفٍ ما بالنظر إلى ما يصلحه ¬

(¬1) المرجع السابق: (5/ 23). (¬2) ينظر: المرجع السابق (5/ 24 - 25). (¬3) ينظر: المرجع السابق (5/ 24 - 25). (¬4) المرجع السابق: (5/ 25). (¬5) ينظر: تعليقات دراز على الموافقات (5/ 25).

في نفسه بحسب وقتٍ دون وقت، وحالٍ دون حال، وشخصٍ دون شخص (¬1). وذلك لأن النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزانٍ واحد، كما أنها في العلوم والصنائع كذلك، فَرُبَّ عملٍ صالحٍ - غير لازم - يدخل بسببه على شخصٍ ضررٌ أو فترة، ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر، وَرُبَّ عملٍ يكون حظُّ النفس والشيطان فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه في عملٍ آخر، ويكون بريئاً من ذلك في بعض الأعمال دون بعض (¬2). ولما كانت النفوس تختلف مقاصدها، وتتفاوت مداركها، وتتباين قوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها، كان اللائق بالمقصود الشرعي في تلقي التكاليف أن يحمل على كلِّ نفسٍ من أحكام الشرع ما يليق بها ويصلحها (¬3). وهذه الصورة من تحقيق المناط الخاص تقتصر على التكاليف الشرعيَّة غير اللازمة، ولهذا صرَّح الشاطبي بأن هذا النوع من النظر يختصُّ بغير المنحتم من التكاليف (¬4)، وذلك باعتبار أن التكاليف اللازمة إذا وُجِدَ شرطها وانتقى مانعها فإنها لا تختلف باختلاف الأزمنة والأحوال والأشخاص، فالمكلَّفون فيها سواءٌ كما تقدَّم (¬5). ومن الأمثلة على ذلك: إذا تحقَّق المجتهد من عدالة مكلَّفٍ ما، فإن هذا لا يكفي في توليته المناصب الشرعيَّة كالقضاء والإمامة والجهاد؛ لأن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص في استعداداتهم العلمية والنفسية والجسدية، وإلا لم يحصل المقصود من تلك الولايات، فلابد أن يتعرف منه على ما يحقق مصالحها على أتمِّ وجه، كما أنه لابدَّ من أن يتعرف على مداخل الشيطان ¬

(¬1) ينظر: الموافقات (5/ 25). (¬2) ينظر: المرجع السابق (5/ 25). (¬3) ينظر: المرجع السابق (5/ 25). (¬4) ينظر: المرجع السابق (5/ 25). (¬5) ينظر: (204).

والهوى والحظوظ العاجلة، وإلا عادت عليه تلك الولاية بفساد آخرته (¬1). ولما كان هذا النوع من تحقيق المناط يتعلق بالنظر إلى كلِّ واقعةٍ بعينها، وكلِّ مكلَّفٍ بخصوصه في حالٍ دون حالٍ ووقتٍ دون وقتٍ، اعتُبِر من أدقِّ أنواع الاجتهاد في الشريعة، وهو ناشئٌ بعد تحصيل شرائطه عن نتيجة التقوى المذكورة في قوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] ومن رُزِق هذا النظر فقد أوتي الحكمة، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] كما أشار إلى ذلك الشاطبي رحمه الله (¬2). وهذا النوع من تحقيق المناط بُنِيَ الاجتهاد فيه على النظر في الأدلة الدالة على الأحكام مع اعتبار التوابع والإضافات الطارئة عليها، حيث إن اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالِّها ينقسم إلى قسمين (¬3): القسم الأول: الاقتضاء الأصلي قبل أن تطرأ العوارض، وهو الواقع على المحلِّ مجرَّداً عن التوابع والإضافات، كالحُكْم بإباحة الصيد، والبيع، وسُنَّية النكاح. والقسم الثاني: الاقتضاء التبعي، وهو الواقع على المحلِّ مع اعتبار التوابع والإضافات، كالحُكْم بإباحة النكاح لمن لا أَرَبَ له في النساء، ووجوبه على مَنْ خشي العَنَت. فالنظر في تحقيق مناط الأشخاص يتعلق بالنظر إلى مكلَّفٍ بعينه وما يصلحه في نفسه، بحسبٍ وقتٍ دون وقتٍ، وحالٍ دون حال، وهذا مبنيٌّ على النظر إلى الأدلة الدالة على الأحكام مع اعتبار التوابع والإضافات التي طرأت عليها. ¬

(¬1) ينظر: الموافقات (5/ 25). (¬2) ينظر: الموافقات (5/ 23 - 24). (¬3) ينظر: المرجع السابق (3/ 292).

الفصل الثالث حكم العمل بتحقيق المناط والأدلة على اعتباره

الفصل الثالث حُكْم العمل بتحقيق المناط والأدلة على اعتباره ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: حُكْم العمل بتحقيق المناط. المبحث الثاني: الأدلة على اعتبار العمل بتحقيق المناط.

المبحث الأول حكم العمل بتحقيق المناط

المبحث الأول حُكْم العمل بتحقيق المناط اتفق الأصوليون على إثبات العمل بمقتضى الاجتهاد في تحقيق المناط، إذا كان المناط معلوماً ثبت بنصٍّ أو إجماعٍ، ويجتهد في تحقيقه في الفرع. وقد حكى الإجماع على ذلك: العُكْبَري (¬1)، والغزالي (¬2)، وابن قدامة (¬3)، والطُّوفي (¬4)، والآمدي (¬5)، وابن السُّبْكي (¬6)، وابن تيمية (¬7)، والزركشي (¬8)، والمرداوي (¬9)، وابن النَّجار (¬10)، والشوكاني (¬11). ومثاله فيما إذا كان المناط معلوماً بالنصِّ: وجوب استقبال القبلة، فالمناط -وهو التوجُّه إلى القبلة- معلومٌ بالنصِّ، وهو قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، أمَّا إنَّ هذه جهة القبلة - مثلاً - في حالة الاشتباه فإنما يُدْرَك بالاجتهاد والأمارات الموجبة للظنِّ عند تعذُّر اليقين (¬12). ¬

(¬1) ينظر: رسالة في أصول الفقه (1/ 81). (¬2) ينظر: المستصفى (3/ 487)، شفاء الغليل (409). (¬3) ينظر: روضة الناظر (3/ 802 - 803). (¬4) ينظر: شرح مختصر الروضة (3/ 235). (¬5) ينظر: الإحكام (3/ 380). (¬6) ينظر: الإبهاج (3/ 83). (¬7) ينظر: مجموع الفتاوى (13/ 11)، (19/ 16)، (22/ 329)، منهاج السنة النبوية (2/ 474). (¬8) ينظر: البحر المحيط (5/ 256). (¬9) ينظر: التحبير شرح التحرير (7/ 3453). (¬10) ينظر: شرح الكوكب المنير (4/ 210). (¬11) ينظر: إرشاد الفحول (2/ 920). (¬12) ينظر: المستصفى (3/ 487)، الإحكام للآمدي (3/ 379)، الإبهاج (3/ 83)، البحر المحيط للزركشي (5/ 256)، التحبير شرح التحرير (7/ 3453)، شرح الكوكب المنير (4/ 201).

ومثاله فيما إذا كان المناط معلوماً بالإجماع: وجوب المِثْل في قِيَم المُتْلَفَات، فالمناط - وهو المِثْل في القيمة - معلومٌ بالإجماع، أما المثلية في القيمة في بعض الصور الجزئية فمظنونٌ بقول المُقَوِمِين المبنيِّ على الاجتهاد والمقايسة، فمن أتلف فرساً فعليه ضمانه، والضمان هو المِثْل في القيمة، أما كون مائة درهمٍ مِثْلاً له في القيمة فإنما يُعْرَف بالاجتهاد (¬1). وهذا النوع من الاجتهاد يُعْتَبر من ضرورات الشريعة؛ لأن الشارع لا يمكن أن ينصَّ على حُكْم كلِّ واقعةٍ أو شخص، فالتنصيص على عدالة كلِّ شاهد، وقدر كفاية كلِّ شخصٍ مُحَال، وإنما جاءت الشريعة بألفاظٍ كليَّةٍ وعباراتٍ مُطْلَقَةٍ تتناول أعداداً لا تنحصر (¬2). قال ابن تيمية: " فهذا الاجتهاد - أي: تحقيق المناط - مما اتفق عليه العلماء، وهو ضروريٌّ في كلِّ شريعة، فإن الشارع غاية ما يمكنه بيان الأحكام بالأسماء العامة الكليَّة، ثم يُحْتَاج إلى معرفة دخول ما هو أخصّ منها تحتها من الأنواع والأعيان " (¬3). والمناط إذا ثبت بنصٍّ أو إجماعٍ فالاجتهاد في تحقيقه في إحدى صوره الجزئية لا يُعْتَبر من القياس؛ لأنه نوع اجتهادٍ اتُفِقَ على العمل به بين الأُمَّة حتى عند مُنْكِرِي القياس؛ وذلك لأنَّ المناط ثبت بيقينٍ فلم يبقَ إلا الاجتهاد في إثبات محلِّه، وهذا من ضرورات الشريعة، وإلا بقيت الأحكام الشرعيَّة مقررةً في الأذهان، ولا وجود لها في الخارج (¬4). ¬

(¬1) ينظر: المستصفى (3/ 487)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 234)، نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (7/ 3044)، الإبهاج (3/ 83). (¬2) ينظر: رسالة في أصول الفقه للعُكْبَري (82)، المستصفى (3/ 487)، روضة الناظر (3/ 803)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 235)، الإبهاج (3/ 83)، الموافقات (5/ 14)، نشر البنود (2/ 208)، نثر الورود (2/ 524 - 525). (¬3) درء تعارض العقل والنقل: (7/ 337). (¬4) ينظر: رسالة في أصول الفقه للعُكْبَري (82)، المستصفى (3/ 487)، روضة الناظر (3/ 803)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 235 - 236)، الإبهاج (3/ 83)، البحر المحيط للزركشي (5/ 13)، التحبير شرح التحرير (7/ 3454)، شرح الكوكب المنير (4/ 202)، الموافقات (5/ 19)، إرشاد الفحول (2/ 920)، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (302).

قال الغزالي: " وهذا النوع لا خلاف بين الأُمَّة في قبوله، وهو ضرورة كلِّ شريعة؛ لاستحالة التنصيص على عدالة كلِّ شخصٍ وكفايته، وهو نوع اجتهادٍ وليس بقياس؛ لأنه لا خلاف فيه، أما القياس فقد جرى فيه الخلاف " (¬1). ونقل الزركشي عن العبدري أنه نازع الغزالي بأن الخلاف ثابتٌ فيه بين من يثبت القياس وينكره؛ لرجوعه إلى القياس (¬2). ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن نفاة القياس لابدَّ أن يعملوا بمقتضى الاجتهاد في تحقيق المناط إذا كان المناط معلوماً بنصٍّ أو إجماع؛ لأنه لا يمكن إثبات حُكْم النوع أو العين إلا بمثل هذا النوع من الاجتهاد، وهو لا يُسمَّى قياساً عند القائلين به إذا كان المناط معلوماً ثبت بنصٍّ أو إجماع، وإن سُمِّيَ قياساً كان نزاعاً لفظياً؛ لأن من لم يصطلح على تسميته بالقياس اعتبر أن حُكْم الفرع مدلولاً عليه بدليل الأصل مشمولاً به مندرجاً تحته، لذلك أقرَّ به جماعةٌ من مُنْكِرِي القياس (¬3). قال ابن بدران الدمشقي: " والحقُّ أنَّ الذين نفوا القياس لم يقولوا بإهدار كلِّ ما يُسمَّى قياساً، وإن كان منصوصاً على عِلَّته أو مقطوعاً فيه بنفي الفارق، وما كان من باب فحوى الخطاب أو لَحْنِه على اصطلاح من يُسمِّي ذلك قياساً، بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلولاً عليه بدليل الأصل مشمولاً به مندرجاً تحته " (¬4). أما إذا كان المناط عِلَّةً ثبتت بالاستنباط فقد اتفق القائلون بالقياس على ¬

(¬1) شفاء الغليل: (409). (¬2) ينظر: البحر المحيط (5/ 256). (¬3) ينظر: أساس القياس (42)، درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (7/ 337)، التحبير شرح التحرير (3454)، شرح الكوكب المنير (4/ 202)، نشر البنود (2/ 208)، نثر الورود (2/ 524 - 525)). (¬4) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد: (305).

إثبات العمل بمقتضى الاجتهاد في تحقيق المناط، حيث لا فرق في ذلك - عندهم- بين ثبوت المناط بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط (¬1)، إلا أن الحنفية لم يصطلحوا على تسميته بـ " تحقيق المناط " مع إثبات العمل بمقتضاه والاحتجاج به (¬2). وقد يُتَصَوَّر الخلاف مع نفاة القياس - كالظاهرية - في صحة العمل به إذا كان المناط عِلَّةً ثبتت بالاستنباط، وذلك بناءً على ما ذهبوا إليه من إبطال تعليل الأحكام (¬3). قال الآمدي: " ولا نعرف خلافاً في صحة الاحتجاج بتحقيق المناط إذا كانت العِلَّة فيه معلومةً بنصٍّ أو إجماع، وإنما الخلاف فيه إذا كان مُدْرَك معرفتها الاستنباط " (¬4). ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأنه لا اعتبار لخلاف الظاهرية في أصل العمل بالقياس، سواءً ثبتت عِلَّته بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط، وقد استقرَّ بحث الأصوليين على القول بتعليل الأحكام، والعمل بالقياس الصحيح، ولا عبرة بقول المخالف في ذلك؛ لكثرة الأدلة المتظافرة على إثبات التعليل في أحكام الشرع، وحجية دليل القياس (¬5). وإذا ثبت تعليل الأحكام - كما تقدَّم (¬6) - فإن كثيراً من العِلَل والمعاني التي أنيطت بها الأحكام الشرعيَّة وجوداً وعدماً غير منصوصٍ أو مُجْمَعٍ عليها، فتُدْرَك حينئذٍ بمسلكٍ من المسالك الاجتهادية المُعْتَبرة، والقول بعدم جواز ¬

(¬1) ينظر: المستصفى (3/ 491)، الإحكام للآمدي (2/ 379)، البحر المحيط للزركشي (5/ 257)، التلويح شرح التوضيح (2/ 162 - 163)، التحبير شرح التحرير (7/ 3453 - 3454)، شرح الكوكب المنير (4/ 200 - 201). (¬2) ينظر: التقرير والتحبير (3/ 193)، تيسير التحرير (4/ 43)، فواتح الرحموت (2/ 350). (¬3) ينظر: الإحكام لابن حزم (8/ 97 وما بعدها). (¬4) الإحكام: (3/ 380). (¬5) ينظر: المستصفى (3/ 494)، المحصول (5/ 26)، الإحكام للآمدي (4/ 9)، شرح تنقيح الفصول (385)، البحر المحيط للزركشي (5/ 16)، شرح الكوكب المنير (4/ 215)، تيسير التحرير (4/ 106). (¬6) ينظر: (154 - 155).

ذلك، والاكتفاء بالمعاني المنصوصة يفضي إلى إبطال الشرع جملةً. قال ابن القيم (¬1): "وهل إبطاله الحِكَمَ والمناسباتِ والأوصافَ التي شُرِعت الأحكام لأجلها إلا إبطالٌ للشرع جملةً، وهل يمكن فقيهاً على وجه الأرض أن يتكلَّم في الفقه مع اعتقاده بطلانِ الحِكْمَة والمناسبة والتعليل وقَصْدِ الشارع بالأحكام مصالحَ العباد؟ وجناية هذا القول على الشرائع من أعظم الجنايات، فإن العقلاء لا يمكنهم إنكار الأسباب والحِكَم والمصالح والعِلَل .. " (¬2). وعلى هذا فإذا ثبت المناط بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباطٍ استلزم حينئذٍ الاجتهاد في التحقُّق من وجوده في الفروع والجزئيات الحادثة، وهو ما يُطْلَق عليه مُسمَّى: " الاجتهاد في تحقيق المناط ". ولا يؤثر في أصل العمل بهذا النوع من الاجتهاد كونُ المناط ثبت بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط؛ لأنَّ المناط في هذه الصور ثبت بالدليل المعتبر من طريق الشرع، ولم يبق إلا الاجتهاد في التحقُّق من وجود ذلك المناط في بعض الصور والجزئيات التي تتجدَّد بتجدَّد الأزمنة والأمكنة والأحوال، فلا يؤثر في ذلك كون المناط مظنوناً أو معلوماً. قال الزركشي: " إذا ظننا أو علمنا العِلَّة، ثم نظرنا وجودها في الفرع، وظننا تحقَّق المناط، فهو تحقيق المناط " (¬3). وعلى هذا فلا يشترط أن تكون المقدِّمة الأولى قطعية، وهي كون المناط في حُكْم الأصل مقطوعاً به، بل يصح أن تكون المقدِّمة الأولى ظنية، لأنَّ الظنَّ يقوم مقام العِلْم - عند تعذُّرة- في وجوب العمل به (¬4). ومثاله: قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تبيعوا البُرَّ بالبُرِّ إلا مثلاً بمثل" (¬5)، فإن هذا النصَّ لم يدلّ على عِلَّة تحريم الرِّبا في البُرِّ لا صراحةً ولا إيماءً، كما لم يثبت ¬

(¬1) هو: شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُّرعي الدمشقي الحنبلي، تتلمذ على شيخ الإسلام ابن تيمية، وانتصر له فيما صدر عنه، وهذَّب كتبه ونشر علمه وكان شوكة في نحور المخالفين من أهل البدع والزندقة، من مؤلفاته الكثيرة: إعلام الموقعين (ط)، والصواعق المرسلة (ط)، وأحكام أهل الذمة (ط)، وغيرها، توفي بدمشق سنة (751 هـ). ينظر في ترجمته: الدرر الكامنة (3/ 400)، النجوم الزاهرة (10/ 249)، ذيل طبقات الحنابلة (2/ 447). (¬2) شفاء العليل: (205). (¬3) البحر المحيط: (5/ 257). (¬4) ينظر: البرهان (2/ 804)، أساس القياس (43)، قواعد الأحكام لابن عبدالسلام (2/ 21 - 22)، نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (7/ 4043). (¬5) تقدَّم تخريجه: (49).

إجماعٌ في تعليل ذلك الحُكْم، فيُجْتَهَد في استنباط عِلَّة الحُكْم بأحد مسالك العِلَّة الاجتهادية، فيقال مثلاً: المناط في تحريم الرِّبا في البُرِّ هو " الطعم "، وقد ثبت ذلك بالظنِّ المستنِد إلى دليلٍ مُعْتَبَرٍ شرعاً في إدراك عِلَّة الحُكْم وهو مسلك السَّبْر والتقسيم (¬1)، والطعمُ موجودٌ في الأُرُز، فلا يجوز بيعُه إلا مِثْلاً بمِثْل (¬2). فالمناط في هذا المثال ثبت بطريقٍ ظنيّ، ولم يؤثِّر ذلك في أصل العمل بالاجتهاد في تحقيق المناط وصحة الاحتجاج به؛ لأن الظنَّ يقوم مقام العِلْم في وجوب العمل به كما تقدَّم آنِفاً. ¬

(¬1) ينظر: (165). (¬2) ينظر: المستصفى (3/ 490)، أساس القياس (37 - 38)، الإحكام للآمدي (3/ 381)، نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (7/ 3047).

المبحث الثاني الأدلة على اعتبار العمل بتحقيق المناط

المبحث الثاني الأدلة على اعتبار العمل بتحقيق المناط في هذا المبحث سأتناول الأدلة على إثبات العمل بمقتضى الاجتهاد في تحقيق المناط، وهي على النحو الآتي: الدليل الأول: إن الشريعة لم تنصّ على حُكْم كلِّ واقعةٍ بعينها أو كلِّ شخصٍ بعينه؛ لأن الوقائع والحوادث لا حصر لها. قال الشهرستاني (¬1): " وبالجملة نعلم قطعاً ويقيناً أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرُّفات مما لا يقبل الحصر والعدّ، ونعلم قطعاً أنه لم يَرِد في كلِّ حادثةٍ نصٌّ، ولا يُتَصَوَّر ذلك أيضاً " (¬2). وإنما جاءت الشريعة في أكثر الأحكام بأدلةٍ كليَّةٍ وألفاظٍ عامَّةٍ أو مُطْلَقَةٍ يندرج تحتها أفرادٌ من الوقائع والجزئيات لا حصر لها، ونبَّهت على المعاني التي تتعلَّق بها تلك الأحكام وجوداً وعدماً. قال الشاطبي: " ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنصّ على حُكْم كلِّ جزئيةٍ على حِدَتِها، وإنما أتت بأمورٍ كليَّةٍ وعباراتٍ مطلقةٍ تتناول أعداداً لا تنحصر " (¬3). وإذا كان الأمر كذلك لم يَبْقَ حينئذٍ إلا الاجتهاد في إثبات مُتَعَلَّق تلك الأحكام في الوقائع المتجدِّدة والجزئيات الحادثة، سواءٌ كان ذلك المُتَعَلَّق عِلَّةً أو قاعدةً كليَّةً أو معنى لفظٍ عامٍّ أو مطلقٍ كما تقدَّم (¬4)، فلا تبقى صورةٌ من ¬

(¬1) هو: محمد بن عبدالكريم بن أحمد، أبو الفتح، الشهرستاني، من كبار علماء الكلام كان مبالغاً في نصرة مذاهب الفلاسفة والذب عنهم، من مؤلفاته: الملل والنحل (ط)، ونهاية الإقدام في علم الكلام، وغيرهما، توفي بشهرستان سنة (548 هـ). ينظر في ترجمته: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (4/ 78)، وفيات الأعيان (4/ 273)، الأعلام للزركلي (6/ 215). (¬2) الملل والنحل: (1/ 197). (¬3) الموافقات: (5/ 14). (¬4) ينظر: (194 - 195).

الصور الحادثة إلا وللمجتهد فيها نظرٌ حتى يحقِّق تحت أيِّ دليلٍ تدخل، ولو لم يكن ذلك مشروعاً لما تحقَّق معنى العموم في الشريعة مع تجدُّد الأزمنة والأمكنة والأحوال، وتعدُّد الوقائع والحوادث. قال ابن تيمية: " فالكتاب والسُّنَّة بيَّنا جميعَ الأحكام بالأسماء العامة، لكن يُحتاج إدخال الأعيان في ذلك إلى فهمٍ دقيقٍ ونظرٍ ثاقب لإدخال كلِّ معيَّنٍ تحت نوع، وإدخال ذلك النوع تحت نوعٍ آخر بيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ فكلٌّ من الحوادث شملها خطابُ الشارع، وتناولها الاعتبار الصحيح، وخطاب الشارع العام الشامل دلَّ عليها بطريق العموم الذي يرجع إلى تحقيق المناط " (¬1). الدليل الثاني: إن المقصود من تقرير الأحكام الشرعيَّة تنزيلها على الوقائع والأشخاص المعينة في كلِّ زمانٍ ومكان، ولا يمكن تصوُّر ذلك إلا بالاجتهاد في تحقيق مناطات الأحكام. قال الشاطبي: " المقصود من وضع الأدلة تنزيل أفعال المكلَّفين على ... حسبها" (¬2). ولو فُرِضَ عدم صحة العمل بالاجتهاد في تحقيق المناط لبقيت الأحكام الشرعيَّة مُطْلَقَةً لا تُتَصَوُّر إلا في الأذهان، ولا وجود لها في الخارج. قال الشاطبي: " ولو فُرِضَ ارتفاع هذا الاجتهاد لم تُنَزَّل الأحكام الشرعيَّة على أفعال المكلَّفين إلا في الذهن؛ لأنها مُطْلَقاتٌ وعمومات، وما يرجع إلى ذلك مُنَزَّلاتٌ على أفعالٍ مطلقاتٍ كذلك، والأفعال لا تقع في الوجود مُطْلَقَة، وإنما تقع مُعَيَّنَةً مُشَخّصَةً، فلا يكون الحُكْم واقعاً عليها إلا بعد معرفةٍ بأن هذا المُعَيَّن يشمله ذلك المُطْلَق أو ذلك العام " (¬3). ¬

(¬1) درء تعارض العقل والنقل: (7/ 342 - 343). (¬2) الموافقات: (3/ 217). (¬3) المرجع السابق: (5/ 17).

ولهذا اعتبر العلماء الاجتهاد في تحقيق المناط من ضرورات الشريعة (¬1). قال ابن تيمية: " فهذا الاجتهاد مما اتفق عليه العلماء، وهو ضروريٌّ في كلِّ شريعة، فإن الشارع غاية ما يمكنه بيان الأحكام بالأسماء العامة الكليَّة، ثم يُحْتَاج إلى معرفة دخول ما هو أخصّ منها تحتها من الأنواع والأعيان " (¬2). الدليل الثالث: لو فُرِض التكليف مع إمكان ارتفاع الاجتهاد في تحقيق المناط لكان ذلك تكليفاً بالمُحَال، وهو غير ممكنٍ شرعاً، كما أنه غير ممكنٍ عقلاً؛ لأنه لا يتأتَّى امتثال التكليف إلا بمعرفة المكلَّف به، وهي لا تكون إلا بهذا النوع من الاجتهاد، حيث إن معرفة المكلَّف به شرطٌ لإمكان الامتثال، وفَقْدُه رافعٌ لهذا الإمكان، فيكون التكليف مع عدم إمكان الامتثال تكليفاً بالمُحَال، والتكليف بالمُحَال غير واقعٍ شرعاً، كما أنه غير واقعٍ عقلاً (¬3). وبناءً على هذا فإن الاجتهاد في تحقيق المناط لا يقتصر على الحاكم والمفتي، بل يشمل كلَّ مكلَّفٍ في نفسه فيما كان واضحاً بالنسبة له، لأنه أَعْرَفُ بحال نفسه. قال الشاطبي: " فالحاصل أنه لابدَّ منه بالنسبة إلى كلِّ ناظِرٍ وحاكِمٍ ومفتٍ، بل بالنسبة إلى كلِّ مكلَّفٍ في نفسه " (¬4). ثم ضرب على ذلك مثالاً يوضحه فقال: " فإن العامِّي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهواً من غير جنس أفعال الصلاة أو من جنسها إن كانت يسيرةً فمغتفَرة، وإن كانت كثيرةً فلا، فوقعت له في صلاته زيادة، فلابدَّ له من النظر فيها حتى يردَّها إلى أحد القسمين، ولا يكون ذلك إلا باجتهادٍ ونظر، فإذا تعيَّن له قِسْمُها تحقَّق له مناط الحُكْم، فأجراه عليه، ¬

(¬1) ينظر: رسالة في أصول الفقه للعُكْبَري (82)، المستصفى (3/ 487)، شفاء الغليل (409)، روضة الناظر (3/ 803)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 235)، الإبهاج (3/ 83)، نشر البنود (2/ 208). (¬2) درء تعارض العقل والنقل: (7/ 337). (¬3) ينظر: الموافقات مع تعليقات دراز (5/ 17 - 18). (¬4) الموافقات: (5/ 16).

وكذلك سائر تكليفاته " (¬1). وذلك لأن تحقيق المناط من مستلزمات الامتثال لأحكام الشريعة؛ إذ لا يُتَصَوّر الامتثال بدون معرفة المكلَّف به، ومعرفةُ المكلَّف به منوطةٌ بإثبات مُتَعَلَّق الحُكْم في ذلك الشيء، وهو الاجتهاد في تحقيق المناط (¬2). قال الشاطبي في بيان منزلة هذا الدليل: " وهو أوضح دليلٍ في المسألة" (¬3). الدليل الرابع: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يراعي اختلاف الأحوال والأشخاص، وينزِّل الأحكام على كلِّ مكلَّفٍ بما يليق به، ويتحقَّق معه مقصود الشريعة في ذلك الحُكْم، وهذا يستلزم إثبات مُتَعَلَّق حُكْمٍ شرعيٍّ في محلٍّ ما، وهو تصرُّفٌ يدل على صحة اعتبار هذا النوع من الاجتهاد، ومن ذلك: أولاً: سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوقاتٍ مختلفةٍ عن أفضل الأعمال فأجاب بإجاباتٍ مختلفةٍ، كلُّ إجابةٍ لو حُمِلت على إطلاقها أو عمومها لاقتضى ذلك التضادَّ مع غيره في التفضيل، ولكن التفضيل لم يقع مطلقاً، إنما كان بحسب اختلاف الأحوال والأشخاص (¬4). فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل: أيُّ العمل أفضل؟ قال: إيمانٌ بالله ورسوله، قال: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: ثم ماذا؟ قال: حجٌّ مبرور" (¬5). وعن ابن مسعود (¬6) رضي الله عنه قال: " سأَلْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أيُّ؟ قال ثم ... بِرُّ الوالدين، قلت: ثم ¬

(¬1) الموافقات: (5/ 16 - 17). (¬2) ينظر: تعليقات دراز على الموافقات (5/ 18). (¬3) الموافقات: (5/ 17 - 18). (¬4) ينظر: الموافقات (5/ 27). (¬5) أخرجه البخاري في "صحيحه"، كتاب الإيمان، باب من قال إن الإيمان هو العمل، رقم (26)، وأخرجه مسلم في "صحيحه"، كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، رقم (83). (¬6) هو: أبو عبدالرحمن عبدالله بن مسعود بن غافل الهذلي، صحابيٌّ جليل، يلقب بابن أم عبد، من السابقين إلى الإسلام، هاجر الهجرتين، وشهد المشاهد كلها، وكان ملازماً للرسول صلى الله عليه وسلم في حِلّة وترحاله وغزواته، توفي بالمدينة سنة (32 هـ). ينظر في ترجمته: طبقات ابن سعد (3/ 150 - 161)، الإصابة (6/ 214)، الإعلام للزركلي (4/ 137).

أيُّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله " (¬1). وعن أبي أمامة (¬2) رضي الله عنه قال: " أتيتُ رسولَ الله صلى الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ: مُرْني بأمرٍ آخُذُهُ عنك، قال: عليك بالصوم فإنه لا مِثْلَ له " (¬3). وعن عبدالله بن عمرو (¬4) رضي الله عنهما: أن رجلاً سألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الإسلام خير؟ قال: تُطِعمُ الطعام، وتَقْرأ السلامَ على مَنْ عَرَفْت ومَنْ لم تَعْرفْ" (¬5). فهذه الأحاديث التي أجاب فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال بأجوبةٍ مختلفة، لو حُمِلَت كلُّ إجابةٍ على الإطلاق أو العموم لاقتضى ذلك التضادَّ في التفضيل، ولكنَّ التفضيل لم يقع مطلقاً، إنما كان بحسب وقتٍ دون وقت، وحالٍ دون حال، وشخصٍ دون شخص. قال الشاطبي: " جميعها يدلُّ على أن التفضيل ليس بمُطْلَق، ويشعِر إشعاراً ظاهراً بأن القصد إنما هو بالنسبة إلى الوقت أو إلى حال السائل" (¬6). ثانياً: دعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأنس رضي الله عنه بكثرة المال حيث قال عليه الصلاة والسلام: " اللهم أَكْثِر مالَه وولَده، وبارك له فيما أعطيته " (¬7). وقال لثعلبة بن حاطب (¬8) رضي الله عنه حين سأله الدعاء له بكثرة المال: " قليلٌ تؤدي شكره خيرٌ من كثيرٍ لا تطيقه " (¬9). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في " صحيحه"، كتاب الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، رقم (527)، وأخرجه مسلم في " صحيحه"، كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، رقم (85). (¬2) هو: صُديّ بن عجلان بن وهب الباهلي، أبو أمامة، صحابيٌّ جليل، كان مع علي رضي الله عنهما في صفين، وسكن الشام، وهو آخر من مات من الصحابة في الشام سنة (86 هـ). ينظر في ترجمته: الاستيعاب (4/ 1602)، أسد الغابة (5/ 16)، الأعلام للزركلي (3/ 203). (¬3) أخرجه النسائي في " سننه"، كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب في حديث أبي أمامة في فضل الصائم، رقم (2219)، وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، رقم (1893)، وأخرجه ... ابن حبان في "صحيحه"، رقم (3425)، وصححه الألباني في " صحيح وضعيف سنن النسائي" (5/ 364). (¬4) هو: عبدالله بن عمرو بن العاص، من قريش، صحابي جليل، كان يحسن السريانية، وكان عابداً من النساك، وشهد الحروب والغزوات، توفي سنة (65 هـ). ينظر في ترجمته: طبقات ابن سعد (2/ 373)، سير أعلام النبلاء (3/ 79)، الأعلام للزركلي (4/ 111) (¬5) أخرجه البخاري في " صحيحه"، كتاب الإيمان، باب إطعام الطعام من الإسلام، رقم (12)، وأخرجه مسلم في "صحيحه"، كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، رقم (39). (¬6) الموافقات: (5/ 31). (¬7) أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب الدعوات، باب الدعاء بكثرة المال والولد مع البركة، رقم (6379)، وأخرجه مسلم في " صحيحه"، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أنس رضي الله عنه، رقم (2480) من حديث أم سليم رضي الله عنهما. (¬8) هو: ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عوف بن مالك الأنصاري الأوسي، صحابي جليل، شهد غزوة بدر، وشهد أحداً، واستشهد فيها سنة (3 هـ). ينظر في ترجمته: طبقات ابن سعد (3/ 460)، الاستيعاب (1/ 209)، أسد الغابة (1/ 283). (¬9) أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير "، رقم (7873)، وأخرجه البيهقي في " الدلائل " (5/ 289).

ويظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم راعى اختلاف حال الشخصين، وما هو أصلح في حقِّ كلٍّ منهما في دنياه وآخرته. ثالثاً: نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا ذرٍّ الغفاري (¬1) رضي الله عنه عن الإمارة والولاية على مال اليتيم حيث قال له: " يا أبا ذرٍّ إنيِّ أراك ضعيفاً وإني أُحِبُّ لك ما أُحِبَّ لنفسي، لا تأمَّرَنَّ على اثنين ولا تولَّينَّ مالَ يتيم " (¬2). ومعلومٌ أن كلا العملين من أفضل الأعمال لمن قام فيه بحقِّ الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إن المقسطين عند الله على منابر من نورٍ عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين " (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: " أنا وكافل اليتيم في الجَنَّة هكذا " وقال بإصبعيه السبابة والوسطى (¬4). ويظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أبا ذرٍّ رضي الله عنه عن هذين العملين لما علم له خصوصاً في ذلك من الصلاح في شأنه بترك ذلك، وكلُّ ولايةٍ لها شروطها التي قد تتوافر في شخصٍ دون آخر (¬5). رابعاً: فرَّق النبيُّ صلى الله عيه وسلم في قبول الصدقات بين الصحابة رضي الله عنهم، حيث قَبِل صلى الله عليه وسلم من أبي بكر رضي الله عنه كلَّ مالِه (¬6)، ونَدَبَ كعباً (¬7) رضي الله عنه إلى استبقاء بعضه وقال: " أَمسِكْ عليك بعض مالِك فهو خيرٌ لك " (¬8)، وجاء آخر بمثل البيضة من ¬

(¬1) هو: أبو ذر جُندب بن جُنادة بن سفيان الغفاري، صحابي جليل، كان خامس مَنْ أسلم، وكان زاهداً كريماً لا يخزن من المال قليلاً ولا كثيراً، ولما مات لم يكن في داره ما يكفن به، توفي بالربذة سنة (32 هـ). ينظر في ترجمته: طبقات ابن سعد (4/ 219)، الاستيعاب (1/ 252)، الأعلام للزركلي (2/ 140). (¬2) أخرجه مسلم في " صحيحه"، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمامة بغير ضرورة، رقم (1826). (¬3) أخرجه مسلم في " صحيحه"، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم، رقم (1827). (¬4) أخرجه البخاري في " صحيحه"، كتاب الأدب، باب فضل من يعول يتيماً، رقم (6005) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما. (¬5) ينظر: الموافقات (5/ 33). (¬6) أخرجه الترمذي في " جامعة "، أبواب الزكاة، باب في مناقب أبي بكر رضي الله عنه، رقم (3675)، وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه أبو داود في " سننه"، كتاب الزكاة، باب الرخصة في جواز التصرف بجميع المال، رقم (1678). (¬7) هو: كعب بن مالك بن عمرو الأنصاري السلمي، صحابي جليل، من أكابر الشعراء في الإسلام، وشهد أكثر الوقائع مع النبي صلى الله عليه وسلم، توفي سنة (50 هـ). ينظر في ترجمته: الاستيعاب (3/ 1323)، أسد الغابة (4/ 187)، الأعلام للزركلي (5/ 228). (¬8) أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، رقم (4418)، وأخرجه مسلم في " صحيحه"، كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، رقم (2769).

الذهب فردَّها في وجهه، وقال: "يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هذه صدقة، ثم يقعد يَسْتَكِفُّ الناسَ، خيرُ الصدقة ما كان عن ظهر غِنَى" (¬1). ويظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم راعى في ذلك اختلاف أحوال الأشخاص، وما هو أصلح في حقِّ كلِّ واحدٍ منهم في دنياه وآخرته. فهذه الأحاديث وغيرها كلُّها تدلُّ على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يراعي اختلاف الأحوال والأشخاص، وينزِّل الأحكام على كلِّ مكلَّفٍ بما يليق به، وهذا لا يُتَصَوّر إلا بإثبات مُتَعَلَّق الحُكْم الشرعي في بعض أفراده، وهو تصُّرفٌ نبويٌّ يُعْتَبر من صور الاجتهاد في تحقيق المناط الخاص، كما أنه دليلٌ على اعتبار أصل هذا النوع من الاجتهاد جملة؛ لأنه مندرجٌ في عموم الاستدلال على إثبات العمل في تحقيق المناط (¬2). قال الشاطبي: " وما تقدَّم وأمثاله كافٍ مفيدٌ للقطع بصحة هذا الاجتهاد" (¬3). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في " سننه "، كتاب الزكاة، باب الرجل يخرج من ماله، رقم (1673)، وأخرجه ابن خزيمة في " صحيحه"، رقم (2441)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، رقم (3372)، والحاكم في "مستدركه" (1/ 413) وقال: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي. (¬2) ينظر: الموافقات (5/ 26). (¬3) المرجع السابق: (5/ 38).

الفصل الرابع ضوابط تحقيق المناط ويشتمل على خمسة مباحث: المبحث الأول: التصوُّر الصحيح التام للواقعة ومعرفة حقيقتها. المبحث الثاني: مراعاة اختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة. المبحث الثالث: اعتبار مآلات الأفعال والأقوال الصادرة عن المكلَّفين. المبحث الرابع: مراعاة اختلاف مقاصد المكلَّفين. المبحث الخامس: الموازنة بين المصالح والمفاسد المتعارضة.

الفصل الرابع ضوابط تحقيق المناط

الفصل الرابع ضوابط تحقيق المناط ويشتمل على خمسة مباحث: المبحث الأول: التصوُّر الصحيح التام للواقعة ومعرفة حقيقتها. المبحث الثاني: مراعاة اختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة. المبحث الثالث: اعتبار مآلات الأفعال والأقوال الصادرة عن المكلفين. المبحث الرابع: مراعاة اختلاف مقاصد المكلَّفين. المبحث الخامس: الموازنة بين المصالح والمفاسد المتعارضة.

المبحث الأول: التصور الصحيح التام للواقعة ومعرفة حقيقتها.

المبحث الأول: التصوُّر الصحيح التام للواقعة ومعرفة حقيقتها. التصوُّر هو: حصول صورةٍ لشيءٍ في العقل، وإدراك ماهيته من غير أن يُحْكْم عليها بنفيٍّ أو إثبات (¬1). والمراد بهذا الضابط: أن يحيط المجتهد بأطراف الواقعة، ومكوناتها، وأوصافها، وأسبابها، وآثارها، قبل إيقاع الأحكام الشرعيَّة عليها. وهذا الضابط يشتمل على جانبين: الأول: التصوُّر الصحيح لحقيقة الواقعة. والثاني: التصوُّر التام للجوانب الأخرى المتعلِّقة بالواقعة. وقد جاء في كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري (¬2) رضي الله عنهم ما يؤكد أهمية الفهم الدقيق للواقعة قبل الحُكْم عليها، حيث قال له: "ثم الفهم فيما أُدِلَى إليك مما ورد عليك مما ليس فيه قرآنٌ ولا سُنَّة" (¬3). قال ابن القيم -رحمه الله-: "ولا يتمكَّن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحُكْم بالحقِّ إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به عِلْمَاً. ¬

(¬1) ينظر: التعريفات للجرجاني (83)، تحرير القواعد المنطقية للرازي (7)، شرح الأخضري على السلم في المنطق (24). (¬2) هو: عبدالله بن قيس بن سليم بن حضار، أبو موسى الأشعري، صحابي جليل، من الشجعان الولاة الفاتحين، ولاة عمر بن الخطاب البصرة سنة (17 هـ)، وتوفي بالكوفة سنة (44 هـ). ينظر في ترجمته: طبقات ابن سعد (4/ 105)، الاستيعاب (4/ 1762)، الأعلام للزركلي (4/ 114). (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه، رقم (4381)، وأخرجه البيهقي في سننه، رقم (20324)، وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (2/ 163): " هذا كتابٌ جليل تلقاه العلماء بالقبول "، ثم أفاض في شرحه وبيان معانيه.

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حُكْم الله الذي حَكَمَ به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبِّق أحدهما على الآخر " (¬1). وذلك أن الحُكْم على الشيء فرعٌ عن تصوره، فالاجتهاد في إثبات مُتَعَلَّق حُكْمٍ شرعيٍّ في بعض جزيئاته، وإدراج ذلك الجزئي تحت حُكْم الكلي، مبنيٌّ على تصوُّر محلِّ ذلك الحُكْم الشرعي، ومعرفةِ حقيقته. قال ابن السعدي (¬2): " جميع المسائل التي تحدث في كلِّ وقت، وسواءٌ حدثت أجناسها أو أفرادها يجب أن تُتَصَوَّر قبل كلِّ شيء، فإذا عُرِفت حقيقتها، وشُخِّصَت صفاتها، وتصوَّرها الإنسان تصوُّراً تامّاً بذاتها ومقدماتها ونتائجها، طُبِّقَت على نصوص الشرع وأصوله الكلية " (¬3). وكلُّ من يحْكُم على شيءٍ فإنما يحْكُم عليه بناءً على الصورة الحاصلة في ذهنه، فلابدَّ من مطابقة صورة الشيء الحاصلة في الذهن مع صورته في الخارج (¬4). والتقصير في تصور الواقعة أو الخطأ في ذلك يؤدي - غالباً - إلى الخطأ في تنزيل الحُكْم الشرعي على تلك الواقعة. ولهذا فإن أكثر أخطاء المجتهدين ترجع إلى التقصير أو الخطأ في تصوُّر محلِّ الحُكْم الشرعي. قال الحجوي (¬5): " وأكثر أغلاط الفتاوى من التصورّ " (¬6). ولا شك أن التصوُّر الصحيح التام للواقعة يجنِّب المجتهد الخلط بين المسائل المفضي إلى الخطأ في إجراء الأحكام على تلك الواقعات، فعلى المجتهد أن يبين حقائق الواقعات لاسيما التي قد تتشابه صورةً وتختلف معنى وحكماً، أو التي يكتنفها الالتباس في معرفة حقيقتها. ¬

(¬1) إعلام الموقعين: (2/ 165). (¬2) هو: عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله السعدي التميمي النجدي، عالمٌ مفسِّر، من فقهاء الحنابلة، مولده ووفاته في عنيزة، وهو أول من أنشأ مكتبة فيها، له نحو 30 كتاباً، من مؤلفاته: تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن (ط)، والقواعد والأصول الجامعة النافعة (ط)، ورسالة في أصول الفقه (ط)، وغيرها، توفي سنة (1376 هـ). ينظر في ترجمته: علماء نجد خلال ثماينة قرون (3/ 218)، مشاهير علماء نجد (256)، الأعلام للزركلي (3/ 340). (¬3) مجموع الفوائد واقتناص الأوابد: (90). (¬4) ينظر: أبجد العلوم (209). (¬5) هو: محمد بن الحسن بن العربي بن محمد الحجوي الثعالبي الفاسي، من علماء المالكية السلفية بالمغرب، تولى سفارة المغرب بالجزائر، ثم ولي وزارة العدل فوزارة المعارف، من مؤلفاته: الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (ط)، والتعاضد المتين بين العقل والعلم والدين (ط)، وغيرهما، توفي بالرباط، ودفن بفاس سنة (1376 هـ). ينظر في ترجمته: الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (4/ 199) بقلم المؤلف نفسه، الأعلام للزركلي (6/ 96). (¬6) الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي: (4/ 314).

والتمييز بين مشتبه الواقعات، والتفريق بينها في الأحكام، إنما يستند إلى صحة التصوُّر وتمامه لكلِّ واقعة، ومعرفة الفروق المؤثرة بينها وبين غيرها. وقد نبَّه ابن القيم - رحمه الله- على صورٍ عديدةٍ من ذلك حيث قال: " فالمفتي تَرِدُ إليه المسائل في قوالب متنوعةٍ جداً، فإن لم يتفطن لحقيقة السؤال وإلا هلك وأهلك، فتارةً تُورد عليه المسألتان صورتهما واحدةٌ وحكمهما مختلف، فصورة الصحيح والجائز صورة الباطل والمُحَرَّم، ويختلفان بالحقيقة، فيذهل بالصورة عن الحقيقة، فيجمع بين ما فرَّق اللهُ ورسولُه بينه، وتارةً تُورد عليه المسألتان صورتهما مختلفةٌ وحقيقتهما واحدةٌ وحكمهما واحد، فيذهل باختلاف الصورة عن تساويهما في الحقيقة فيفرِّق بين ما جمع الله بينه، وتارةً تُورد عليه المسألة مجمَلةً تحتها عدة أنواعٍ فيذهب وهْمُه إلى واحدٍ منها، ويذهل عن المسؤول عنه منها، فيجيب بغير الصواب " (¬1). ومن لوازم التصوُّر الصحيح للوقائع أن ينظر المجتهد في حقائقها، وأن لا يغترَّ بمسمياتها الخادعة وقوالبها المزخرفة؛ إذ الأحكام الشرعيَّة إنما تتعلَّق بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني. قال ابن القيم: " وتارةً تُورد عليه المسألة الباطلة في دين الله في قالَبٍ مزخرَفٍ ولفظٍ حَسَنٍ فيجيب بغير الصواب، فيبادر إلى تسويغها وهي من أبطل الباطل " (¬2). ولاسيما في مثل هذا العصر الذي غُيَّرت فيه كثيرٌ من المُسْمَّيات وسُمِّيت بغير اسمها. فالرِّبا يُسمّى فائدةً أو تمويلاً أو تسهيلاتٍ بنكيةٍ ونحو ذلك، والخمر يُسمَّى مشروباً روحيَّاً، وألعاب القمار والميسر تُسمَّى مسابقات، والرشوة تسمى هديةً أو إكراميةً، وغير ذلك كثير. ¬

(¬1) إعلام الموقعين: (6/ 97). (¬2) المرجع السابق.

ومن لوازم التصور الصحيح للوقائع أن يستفصل المفتي من المستفتي في مسألته إذا كانت المسألة فيها تفصيلٌ وتختلف فيها الأحكام من صورةٍ إلى أخرى (¬1). وقد " استفصل النبي صلى الله عليه وسلم ماعزاً (¬2) لما أقرَّ بالزنا، هل وُجِدَ منه مقدماته أو حقيقته؟ فلما أجابه عن الحقيقة استفصله: هل به جنونٌ فيكون إقراره غير مُعْتَبَرٍ أم هو عاقل؟ فلما عَلِمَ عقله استفصله: بأن أمر باستنكاهه (¬3) ليُعْلَم هل هو سكرانٌ أو صاحٍ؟ فلما عَلِمَ أنه صاحٍ استفصله: هل أُحْصِنَ أم لا؟ فلما عَلِمَ أنه قد أُحِصنَ أقام عليه الحدّ" (¬4). و" كذلك إذا سئل عن رجلٍ حَلَف لا يفعل كذا وكذا ففعله، لم يجز للمفتي أن يفتي بحنثه حتى يستفصله: هل كان ثابت العقل وقت فعله أم لا؟ وإذا كان ثابت العقل فهل كان مختاراً في يمينه أم لا؟ وإذا كان مختاراً فهل استثنى عقيب يمينه أم لا؟ وإذا لم يستثن فهل فعل المحلوف عليه عالِماً ذاكراً مختاراً أم كان ناسياً جاهلاً أو مُكْرَهاً؟ وإذا كان عالِماً مختاراً فهل كان المحلوف عليه داخلاً في قصده ونيته أو قَصَدَ عدمَ دخوله فخصَّصه بنيته أو لم يقصد دخوله ولا نوى تخصيصه، فإن الحنث يختلف باختلاف ذلك كله " (¬5). وإذا كانت الواقعة لها تعلُّقٌ بعلمٍ من العلوم غير الشرعيَّة لزم المجتهد الرجوع إلى أهل الاختصاص والخبرة في ذلك العلم؛ لتصوير الواقعة، ومعرفة حقيقتها، وأوصافها، وأثارها. فالواقعة قد يكون لها تعلُّقٌ بعلم الطب أو الاقتصاد أو الفلك أو السياسة أو الإعلام أو غير ذلك من العلوم الأخرى، فحينئذٍ يرجع المجتهد إلى أهل ¬

(¬1) ينظر: آداب الفتوى والمفتي والمستفتي للنووي (45)، إعلام الموقعين (6/ 91). (¬2) هو: ماعز بن مالك الأسلمي، صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي اعترف على نفسه بالزنا تائباً منيباً، وكان محصناً فرجم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ينظر في ترجمته: طبقات ابن سعد (4/ 324)، الاستيعاب (3/ 1345). (¬3) الاستنكاه: طلب النكهة، وهي شم رائحة الفمّ. ينظر: معجم مقاييس اللغة (5/ 474)، تاج العروس (36/ 531) (¬4) إعلام الموقعين: (6/ 91). (¬5) المرجع السابق: (6/ 92).

الاختصاص والخبرة في ذلك العلم؛ لتوصيف الواقعة، وبيان حقيقتها، والملابسات المحيطة بها. قال ابن السعدي: " فالطريق إلى الحُكْم العِلْمُ التامُّ بالواقع ليتمكن من الحُكْم عليه، وعند الاشتباه في الجزئيات يُرْجَع فيه إلى أهل الخبرة فيه" (¬1). والرجوع إلى أهل الاختصاص والخبرة في تصوير الوقائع يحصل بالرجوع إليهم مباشرةً، وذلك بسؤالهم والإفادة منهم، أو الرجوع إلى دراساتهم الموثوقة حول تلك الواقعة، أو الرجوع إلى الموسوعات المتخصِّصة في العلم الذي له تعلُّقٌ بتلك الواقعة ومصطلحاتها، ولاسيما الموسوعات الصادرة عن الهيئات العلمية ومراكز الأبحاث المتخصِّصة. وقد اعتبر مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة عشر أن من شروط الإفتاء: " الرجوع إلى أهل الخبرة في التخصُّصات المختلفة لتصوُّر المسألة المسؤول عنها، كالمسائل الطبية والاقتصادية ونحوها " (¬2). وإذا تقرر أن التصور التام للواقعة من مستلزمات تحقيق المناط، فإنه إذا لم يحصل للمجتهد تصورٌ تامُّ لواقعةٍ ما لزمه شرعاً أن يتوقف عن إصدار الحُكْم فيها، ولاسيما في الوقائع التي تحيط به ملابساتٌ كثيرةٌ ولم يسبق للمجتهد استكمال النظر فيها؛ لأن الحُكْم على الشيء فرعٌ عن تصوُّره، وإيقاعُ الأحكام على فروعٍ لم يحصل فيها تصوَّرٌ تامٌّ للمجتهد يُعْتَبر من القول على الله بلا علم. ¬

(¬1) مجموع الفوائد واقتناص الأوابد: (110). (¬2) قرار رقم 153 (2/ 17) بشأن الإفتاء شروطه وآدابه.

المبحث الثاني مراعاة اختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة

المبحث الثاني مراعاة اختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة إن الاجتهاد في تحقيق مناطات الأحكام يستلزم مراعاة اختلاف الأحوال التي تحيط بكلِّ واقعة، والأعراف التي تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة؛ لأن الحُكْم يدور مع مناطه وجوداً وعدماً، وقد يطرأ على الوقائع من اختلاف الأحوال وتغيُّر الأعراف بحسب الأزمنة والأمكنة ما يؤثر في اختلاف الأحكام، وهو ما يجب على المجتهد مراعاته في تحقيق المناط. قال ابن عابدين (¬1): " كثيرٌ من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغيُّر عُرْفِ أهلِه، أو لحدوثِ ضرورة، أو لفسادِ أهلِ الزمان، بحيث لو بقي الحُكْم على ما كان عليه أوَّلاً للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف واليسر ودفع الظلم والفساد، لبقاء العالم على أتمِّ نظامٍ وأحسَن أحكام .. " (¬2). وهذا الضابط مبنيٌّ على أنَّ اقتضاء الأدلة للأحكام الشرعيَّة بالنسبة إلى محالِّها على وجهين (¬3): أحدهما: الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض، وهو الواقع على المحلِّ مجرَّداً عن التوابع والإضافات، كالحُكْم بإباحة الصيد، والبيع، والإجارة، وسَنِّ النكاح، وندب الصدقات غير الزكاة، وما أشبه ذلك. والثاني: الاقتضاء التبعي، وهو الواقع على المحلِّ مع اعتبار التوابع ¬

(¬1) هو: محمد أمين بن عمر بن عبدالعزيز صالح الدين عابدين الدمشقي، فقيه الديار الشامية، وإمام الحنفية في عصره، من مؤلفاته: رد المحتار على الدر المختار (ط) يعرف بحاشية ابن عابدين، والرحيق المختوم في الفرائض، ومجموعة رسائل نفيسة (ط)، توفي بدمشق سنة (1252 هـ). ينظر في ترجمته: حلية البشر للبيطار (3/ 1230)، روض البشر للشطي (220)، الأعلام للزركلي (6/ 42). (¬2) نشر العَرْف (2/ 125) ضمن رسائل ابن عابدين. (¬3) ينظر: الموافقات (3/ 292).

والإضافات، كالحُكْم بإباحة النكاح لمن لا أَرَبَ له في النساء، ووجوبه على من خشي العنت، وكراهية الصيد لمن غلب عليه اللهو. فإنْ أَخَذَ المُسْتَدِلُ الدليلَ على الحُكْم مجرَّداً عن قيد الوقوع صح الاستدلال، وإن أخذه بقيد الوقوع - وهو التنزيل على مناطٍ معين- لم يصح استدلاله إلا بالنظر إلى توابعه والإضافات المقترنة به (¬1). قال الشاطبي: " ومن اعتبر الأقضية والفتاوى الموجودة في القرآن والسُّنَّة وجدها على وفق هذا الأصل " (¬2). وعلى هذا فالاجتهاد في إثبات مُتَعَلَّق حُكْمٍ شرعيٍّ في بعض أفراده يستلزم أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى ذلك المحل، وما يحيط به من أحوالٍ وملابسات (¬3). قال الشاطبي: " وعند ذلك لا يصح للعالِم إذا سُئِل عن أمرٍ كيف يحصل في الواقع إلا أن يجيب بحسب الواقع، فإن أجاب على غير ذلك أخطأ في عدم اعتبار المناط المسؤول عن حكمه؛ لأنه سُئِل عن مناطٍ مُعَيَّنٍ فأجاب عن مناطٍ غير مُعَيَّن " (¬4). ومن الأمثلة على ذلك: أن يُسأل المستفتي عن حُكْم بيع الدرهم من سِكَّة كذا بدرهمٍ في وزنه من سِكَّةٍ أخرى، أو المسكوك بغير المسكوك وهو في وزنه؟ فيجيبه المسؤول بأن الدرهم بالدرهم سواءً بسواء، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، فإنه لا يحصل له جواب مسألته من ذلك الأصل؛ إذ له أن يقول: فهل ما سألتك عنه من قبيل الرِّبا أم لا؟ أما لو سأله: هل يجوز الدرهم بالدرهم وهو في وزنه وسِكَّتِه؟ فأجابه كذلك لحصل المقصود (¬5). ¬

(¬1) ينظر: المرجع السابق (3/ 292 - 293). (¬2) المرجع السابق: (3/ 302). (¬3) المرجع السابق: (3/ 300). (¬4) المرجع السابق: (3/ 301). (¬5) ينظر: المرجع السابق (3/ 301 - 302).

وإذا كان الاجتهاد في إثبات متعلَّق حُكْمٍ شرعيٍّ في بعض أفراده يستلزم أخذَ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى ذلك المحل، فهذا يعني لزوم مراعاة اختلاف الأحوال التي تحيط بكلِّ محلٍّ، فأحوال الضعف غير أحوال القوة، وأحوال الاضطرار وعموم البلوى غير أحوال السعة والاختيار. ومما ذكره إمام الحرمين تخريجاً على هذا الأصل: " إن الحرام إذا طبق الزمان وأهله ولم يجدو إلى طلب الحلال سبيلاً، فلهم أن يأخذوا منه قدر الحاجة في حقِّ الناس كافَّة تُنَزَّل منزلة الضرورة في حقِّ الواحد المضطر، فإن الواحد المضطر لو صابر ضرورته ولم يتعاط المَيْتَة لهلك، ولو صابر الناس حاجاتهم وتعدوها إلى الضرورة لهلك الناس قاطبة." (¬1). كما يستلزم أخذُ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كلِّ محلٍّ مراعاةَ اختلاف العوائد، فقد جرت سُنَّة الله تعالى على أن عوائد الناس تختلف باختلاف أزمنتهم وأمكنتهم. قال ابن خلدون (¬2): " إن أحوال العالَم والأمم وعوائدهم ونِحَلَهُم لا تدوم على وتيرةٍ واحدةٍ ومنهاجٍ مستقر، إنما هو اختلافٌ على الأيام والأزمنة، وانتقالٌ من حالٍ إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} (¬3) [غافر: 85]. وبناءً على هذا المعنى قرَّر الفقهاء قاعدة: " لا ينكر تغيُّر الاجتهاد بتغيُّر الزمان والمكان والحال " (¬4). وعقد ابن القيم - رحمه الله - فصلاً ماتعاً في كتابه " إعلام الموقعين " (¬5) بعنوان: ¬

(¬1) غياث الأمم في التياث الظلم: (479). (¬2) هو: عبدالرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون، ولي الدين، الإشبيلي، مولده ونشأته بتونس، ولي قضاء المالكية بالقاهرة، وكان عالماً بالتاريخ والعمران، من مؤلفاته: العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر (ط)، ووضع عليه مقدمة اشتهرت بمقدمة ابن خلدون (ط)، ورسالة في المنطق، توفي بالقاهرة سنة (808 هـ). ينظر في ترجمته: الضوء اللامع (4/ 145)، شذرات الذهب (9/ 114)، الأعلام للزركلي (3/ 330). (¬3) تاريخ ابن خلدون: (1/ 37 - 38). (¬4) ينظر: أنوار البروق في أنواء الفروق (1/ 45)، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (231)، الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/ 271)، نشر العَرْف (2/ 131) ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين، درر الحكام شرح مجلة الأحكام (1/ 47)، شرح القواعد الفقهية للزرقا (227). (¬5) ينظر: (4/ 337).

" فصلٌ في تغيُّر الفتوى واختلافها بحسب تغيُّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيَّات والعوائد ". وقال في بيان أهميته: " هذا فصلٌ عظيم النفع جداً، وقد وقع بسبب الجهل به غلطٌ على الشريعة أوجبَ من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يُعْلم أن الشريعة الباهرة التي هي أعلى رتب المصالح لا تأتي به" (¬1). ثم أقام الأدلة على صحة ذلك، وذكر عليه أمثلةً كثيرةً من أبواب فقهية متفرِّقة (¬2). ومن الأمثلة التي ذكرها على تغيُّر الفتوى بتغيُّر العرف والعادة: الاجتهاد في موجبات الأيمان والإقرار والنُّذور، وألفاظ الطلاق والعتاق والأوقاف والوصايا، وغيرها مما يتعلق اللفظ فيها بعُرْف المتكلِّمين به (¬3). وقال - رحمه الله -: " لا يجوز له أن يفتي في الإقرار والأيمان والوصايا وغيرها مما يتعلق اللفظ بما اعتاده هو من فَهِمَ تلك الألفاظ دون أن يعرف عُرْف أهلها والمتكلِّمين بها فيحملها على ما اعتادوه وعرفوه، وإلا كان مخالفاً لحقائقها الأصلية، فمتى لم يفعل ذلك ضلَّ وأضلّ " (¬4). ومما يتخرَّج - أيضاً - على هذا الأصل: تغيُّر بعض الأحكام المتعلِّقة بالنقود في المعاملات، والعيوب في البيوعات، وذلك بحسب تغيُّر العوائد في تلك الأحكام. قال القرافي: " الأحكام المترتِّبة على العوائد تدور معها كيفما دارت، فتبطل معها إذا بطلت، كالنقود في المعاملات، والعيوب في الأعراض في البياعات ونحو ذلك، فلو تغيَّرت العادة في النقد، والسِّكَّة إلى سِكَّةٍ أخرى لحُمِل الثمنَ في البيع عند الإطلاق على السِّكَّة التي تجدَّدت العادة بها دون ما قبلها، وكذلك إذا كان الشيء عَيْبَاً في الثياب في عادةٍ رددنا به المبيع، فإذا ¬

(¬1) المرجع السابق. (¬2) ينظر: المرجع السابق (4/ 337 - 552). (¬3) ينظر: المرجع السابق (4/ 426 - 470). (¬4) المرجع السابق: (6/ 151).

تغيَّرت العادة، وصار ذلك محبوباً موجباً لزيادة الثمن لم تُرَدَّ به، وبهذا القانون تُعتَبر جميع الأحكام المترتِّبة على العوائد، وهو تحقيقٌ مُجْمَعٌ عليه بين العلماء، لا خلاف فيه " (¬1). وهذه القاعدة ليست على إطلاقها، إنما تختصُّ بالأحكام الاجتهادية التي تُبْنَى على المصلحة المرسلة أو العوائد المُعْتَبرة؛ لأن وجوه المصالح والعوائد تتغيَّر بتغيُّر الأزمنة والأمكنة، أما الأحكام الثابتة بالنصِّ أو الإجماع كأصول الدين، وأركان الإسلام، وما عُلِمَ من الدِّين بالضرورة، والحدود، والمقدَّرات الشرعيَّة، ونحو ذلك، فإنها لا تتغيَّر بتغيُّر الأزمنة والأمكنة، وإلا أدَّى ذلك إلى إبطال الشرع بتحريم ما أحلَّ الله، أو تحليل ما حرَّم الله، تحت دعوى تغيُّر الأحكام بتغيُّر الأزمنة والأمكنة (¬2). وقد ذكر الشاطبي أن العادات على ضربين (¬3): أحدهما: العوائد الشرعيَّة التي أقرَّها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أَمَرَ بها إيجاباً أو ندباً، أو نهى عنها كراهةً أو تحريماً، أو أَذِنَ فيها فعلاً أو تركاً. والثاني: العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا اتباعه دليلٌ شرعي. فأمَّا الأول فثابتٌ أبداً كسائر الأمور الشرعيَّة، كالأمر بإزالة النجاسات، وستر العورات، فهذه العادات لا تبديل لها. وأما الضرب الثاني فمنها: ما يكون مُتَبَدِّلاً في العادة من حُسْن إلى قُبْحٍ والعكس، مثل كشف الرأس، فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع، فهو لذوي المروءات قبيحٌ في البلاد المشرقية، وغير قبيحٍ في البلاد المغربية، ¬

(¬1) أنوار البروق في أنواء الفروق: (1/ 176). (¬2) ينظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (1/ 330)، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (1/ 243)، نشر العُرْف (2/ 125) ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين، درر الحكام شرح مجلة الأحكام (1/ 43)، المدخل الفقهي العام للزرقا (2/ 941). (¬3) ينظر: الموافقات (2/ 488 - 491).

فالحُكْم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحاً في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح؛ لأن ما يختلف بحسب العادات يتنزَّل الحُكْم عليه بحسب ... ذلك (¬1). ومنها: ما يختلف في الأفعال في المعاملات ونحوها، كما إذا كانت العادة في النكاح قبض الصداق قبل الدخول، أو في البيع الفلاني أن يكون بالنقد لا بالنسيئة، أو بالعكس، أو إلى أجلِ كذا دون غيره، فالحُكْم أيضاً جارٍ على ذلك بحسب تلك العوائد (¬2). وتغيُّر الاجتهاد أو الفتوى ليس راجعاً إلى خطاب الشارع في ذاته؛ لأن الحُكْم الشرعي لا يتغيَّر متى كان المناط واحداً في كلِّ صورة، وإنَّما يرجع التغيُّر هنا إلى اختلاف مناط الحُكْم، إما لاختلاف صورة المحكوم عليه، أو بسبب العوارض الطارئة عليه، فيكون داخلاً تحت أصلٍ شرعيٍّ آخر. قال الشاطبي: " فاعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلافٍ في أصل الخطاب؛ لأن الشرع موضوعٌ على أنه دائمٌ أبديٌّ، لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية والتكليف كذلك لم يحتج في الشرع على مزيد، وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كلُّ عادةٍ إلى أصلٍ شرعيٍّ يُحُكْم به عليها " (¬3). ولما كانت الأحكام المترتِّبة على العوائد تدور معها كيفما دارت، وهي تختلف بحسب الأزمنة والأمكنة، اشْتُرط في المجتهد أن يكون عارفاً بعادات الناس وأحوالهم، وإلا عاد اجتهاده على مقاصد الشريعة بالإبطال. قال ابن القيم: " فهذا - أي: معرفة الناس - أصلٌ عظيمٌ يحتاج إليه المفتي والحاكم، فإن لم يكن فقيهاً فيه فقيهاً في الأمر والنهي، ثم يُطَبِّق أحدهما على الآخر، وإلا كان ما يُفْسِد أكثر مما يُصْلِح .. " (¬4). ¬

(¬1) ينظر: المرجع السابق (2/ 489). (¬2) ينظر: المرجع السابق (2/ 490). (¬3) الموافقات: (2/ 491). (¬4) إعلام الموقعين: (6/ 113).

وإذا وَرَدَت على المفتي مسألةٌ يبنى فيها الحُكْم على عرف بلد المستفتي وجب على المفتي أن يفتيه بحسب عرف ذلك السائل إن كان يعلمه، أو يستفصل عن ذلك العرف إن كان يجهله. قال ابن القيم: " مهما تجدَّد في العرف فاعتبره، ومهما سقط فألغه، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجلٌ من غير إقليمك يستفتيك فلا تُجْرِهِ على عرف بلدك، وسَلْهُ عن عرف بلده فأَجْرِهِ عليه، وأَفْتِهِ دون عرف بلدك والمذكور في كتبك " (¬1). بل اعتبر القرافي عدم مراعاة اختلاف العوائد في الاجتهاد خلاف الإجماع، ومن الجهالة في الدِّين حيث قال: " إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغيُّر تلك العوائد خلاف الإجماع، وجهالةٌ في الدين، بل كلُّ ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغيُّر الحُكْم فيه عند تغيُّر العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجدِّدة .. " (¬2). وبناء على ذلك فقد قرر مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة عشر أن من شروط الإفتاء: " المعرفة بأحوال الناس وأعرافهم وأوضاع العصر ومستجداته، ومراعاة تغيُّرها فيما بُنِيَ على العرف المعتبر الذي لا يصادم النصّ " (¬3). والمقصود مما تقدم بيانه أن الاجتهاد في تحقيق مناطات الأحكام الشرعيَّة يستلزم مراعاة اختلاف الأحوال التي تحيط بكلِّ واقعة، والعوائد التي تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة؛ لأن الحُكْم يدور مع مناطه وجوداً وعدماً، وقد يطرأ على الوقائع من اختلاف الأحوال وتغيُّر العوائد ما يقتضي اختلاف أحكامها. ¬

(¬1) إعلام الموقعين: (4/ 470). (¬2) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: (218). (¬3) قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم (153) في دروته (17).

المبحث الثالث اعتبار مآلات الأفعال والأقوال الصادرة عن المكلفين

المبحث الثالث اعتبار مآلات الأفعال والأقوال الصادرة عن المكلَّفين باستقراء مصادر الشريعة ومواردها ثبت أن الأحكام التكليفية إنما وُضِعَت لتحقيق مصالح العباد وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها (¬1). قال ابن تيمية: " إن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها " (¬2). وعلى هذا فإن الاجتهاد في إثبات مُتَعَلَّق حُكْمٍ شرعيٍّ في بعض أفراده يستلزم اعتبار مقصود الشرع من وضع الأحكام والتكليف بها (¬3). ومن أهم الأصول التي يلزم المجتهد مراعاتها للمحافظة على مقصود الشرع: اعتبار مآلات الأفعال والأقوال الصادرة عن المكلَّفين. بل من خصائص المجتهد الرَّباني الراسخ في العلم: " أنه ناظرٌ في المآلات قبل الجواب عن السؤالات " (¬4). قال الشاطبي: " النظر في مآلات الأفعال مُعْتَبرٌ مقصودٌ شرعاً، كانت الأفعال موافقةً أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعلٍ من الأفعال الصادرة عن المكلَّفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل" (¬5). ¬

(¬1) ينظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 9)، الموافقات (2/ 12 - 13)، إعلام الموقعين (4/ 337 - 338)، مفتاح دار السعادة لابن القيم (2/ 22 - 23). (¬2) مجموع الفتاوى: (30/ 193). (¬3) ينظر: الموافقات (5/ 24 - 25). (¬4) المرجع السابق: (5/ 233). (¬5) المرجع السابق: (5/ 177).

وإنَّ عدم اعتبار نتائج الأفعال وعواقبها وآثارها المترتبة عليها قد يفضي إلى نقيض مقصود الشرع من وضع الأحكام؛ لأن " الأعمال الشرعيَّة ليست مقصودةً لأنفسها، وإنما قُصِد بها أمورٌ أُخَر هي معانيها، وهي المصالح التي شُرِعت لأجلها، فالذي عُمِل من ذلك على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات " (¬1). والمراد بهذا الضابط: أن ينظر المجتهد إلى مآل الحُكْم عند تحقيق مناطه في بعض أفراده، فإن كان المآل غالباً يؤدي إلى مصلحةٍ راجحةٍ أَثْبَتَ الحُكْم، وإن كان يؤدي غالباً إلى مفسدةٍ راجحةٍ مَنَعَ الحُكْم. وذلك لأن الفعل قد يكون مشروعاً لمصلحةٍ فيه تُسْتَجْلَب أو لمفسدةٍ تُدْرأ، ولكن له مآلٌ على خلاف ذلك، فإذا أُطلق القول في الأول بالمشروعية فربَّما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدةٍ راجحة، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية فربَّما أدَّى استدفاع المفسدة إلى مفسدةٍ راجحةٍ، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية (¬2). والأدلة على صحة اعتبار مآلات الأفعال في الاجتهاد كثيرةٌ، منها: أوّلاً: إن التكاليف مشروعةٌ لمصالح العباد، ومصالح العباد إما دنيويةٌ أو أخروية، أما الأخروية فراجعةٌ إلى مآل المكلَّف في الآخرة ليكون من أهل النعيم لا من أهل الجحيم، وأما الدنيوية فإن الأعمال مقدِّماتٌ لنتائج المصالح، فإنها أسبابٌ لمسبَّباتٍ هي مقصودةٌ للشارع، والمُسَبَّبَات هي مآلات الأسباب، فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب، وهو معنى النظر في المآلات (¬3). ثانياً: إن مآلات الأعمال إما أن تكون مُعتَبرةٌ شرعاً أو غير مُعتَبرة، فإن ¬

(¬1) المرجع السابق: (3/ 120 - 121). (¬2) ينظر: الموافقات (5/ 177 - 178). (¬3) ينظر: الموافقات (5/ 178).

اُعتبِرت فهو المطلوب، وإن لم تُعْتَبر أمكن أن يكون للأعمال مآلاتٌ مضادَّةٌ لمقصود تلك الأعمال، وذلك غير صحيح؛ لأن التكاليف مشروعةٌ لمصالح العباد، ولا مصلحةَ تُعْتَبر مطلقاً مع إمكان وقوع مفسدةٍ راجحة (¬1). ثالثاً: باستقراء أدلة الشرع ثبت أن المآلات مُعتبَرةٌ في أصل المشروعية، ومن ذلك: 1 - قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. فسبُّ الأوثان سببٌ في تخذيل المشركين، وتوهين أمر الشِرْك، وإذلال أهله، ولكن لمَّا وجِد له مآلٌ آخر تُعْتَبر مراعاته أرجح - وهو سبُّهم اللهَ تعالى - نُهِىَ عن هذا العمل المؤدِّي إليه مع كونه سبباً في مصلحةٍ ومأذوناً فيه لولا هذا المآل (¬2). 2 - لمَّا أشير على النبي صلى الله عليه وسلم بقتل المنافقين قال عليه الصلاة والسلام: " أخاف أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه " (¬3). فموجِب القتل حاصل، وهو الكفر بعد النطق بالشهادتين، والسعي في إفساد حال المسلمين كافّة بما كان يصنعه المنافقون، بل كانوا أضرَّ على الإسلام من المشركين، فقتلهم فيه درءٌ لمفسدةٍ متحقِّقِة، ولكن وُجِدَ له مآلٌ آخر تُعْتَبر مراعاته أرجح، وهو التهمة التي تبعد الطمأنينة عمن أراد الدخول في الإسلام، وهي أشدُّ ضرراً على الإسلام من بقائهم (¬4). 3 - قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: " لولا أن قومك حديثٌ عهدُهم بالجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أُدْخِل الجدر في البيت، وأن أُلْصِق بابه ¬

(¬1) ينظر: المرجع السابق (5/ 179). (¬2) ينظر: تعليقات دراز على الموافقات (5/ 180). (¬3) أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب المناقب، باب ما ينهي من دعوى الجاهلية، رقم (3518)، من حديث جابر رضي الله عنه. (¬4) ينظر: تعليقات دراز على الموافقات (5/ 180 - 181).

بالأرض" (¬1)، وفي رواية: "لَنَقَضْتُ البيت ثم بنيتُه على أساس إبراهيم عليه السلام" (¬2). فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم ترك ذلك الفعل لما قد يؤول إليه الأمر من حصول مفسدةٍ راجحةٍ، وهي أن تنكر العرب عليه ذلك ظنَّاً منهم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقصد هدم البيت وتغيير معالمه (¬3). فهذه الأدلة وغيرها تثبت أن المآلات مُعْتَبرةٌ في الحُكْم على تصرفات المكلَّفين، وذلك بالنظر إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل من مصلحةٍ راجحةٍ أو مفسدةٍ راجحة. بل إن الشاطبي حكى عن أبي بكر ابن العربي (¬4) اتفاق العلماء على اعتبار هذا الأصل في الاجتهاد (¬5). والمآل المُعْتَبر عند تحقيق مناط الحُكْم في بعض أفراده هو ما كان يقينياً أو غلب على ظنِّ المجتهد حصوله بحسب العادات والتجارب والقرائن التي تفيد الظنون المُعْتَبرة كما سيأتي في مسالك تحقيق المناط (¬6). فإذا تبيَّن للمجتهد يقيناً أو غلب على ظنِّه أنَّ فعلاً بعينه من أفعال المكلَّف يؤدي إلى مفسدةٍ راجحةٍ لزم المجتهد أن يَعْتَبر ذلك عند تحقيق مناط الحُكْم في ذلك الفعل. وذلك لأن تصرُّفات المكلَّفين بالنظر إلى ما تؤول إليه من المفاسد لا تخلو من ثلاثة أقسام (¬7): القسم الأول: تصرُّفٌ يفضي يقيناً إلى مفسدةٍ راجحة، كحفر البئر خلف باب الدار في الظلام بحيث يقع الداخل فيه لا محالة، وشبه ذلك، فهذا تصرُّفٌ غير مشروعٍ اتفاقاً. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب الحج، باب فضل مكة وبنياتها، رقم (1584)، وأخرجه مسلم في (صحيحه) بألفاظٍ أخرى، كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، رقم (1333). (¬2) أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، رقم (1585). (¬3) ينظر: تعليقات دراز على الموافقات (5/ 181). (¬4) هو: أبو بكر محمد بن عبدالله بن محمد المعافري الإشبيلي، المعروف بابن العربي، فقيهٌ مالكي، من حفاظ الحديث، ولي قضاء إشبيلية، من مؤلفاته: أحكام القرآن (ط)، وعارضة الأحوذي في شرح سنن الترمذي (ط)، والمحصول في أصول الفقه (ط)، وغيرها، توفي قرب فاس، ودفن بها سنة (543 هـ). ينظر في ترجمته: وفيات الأعيان (4/ 296)، الديباج المذهب (281)، الأعلام للزركلي (6/ 230). (¬5) ينظر: الموافقات (5/ 182). (¬6) ينظر: (266 - 283). (¬7) ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/ 257 - 259)، إعلام الموقعين (4/ 554 - 555)، البحر المحيط للزركشي (6/ 85 - 86)، الموافقات (3/ 54 - 55)، إرشاد الفحول (2/ 1008 - 1009).

القسم الثاني: تصرُّفٌ يفضي غالباً إلى مفسدةٍ راجحة، كبيع السلاح لأهل الحرب في زمن الفتنة بين المسلمين، وبيع العنب لمن يتخذه خمراً، ونحو ذلك، فهذا تصرُّفٌ غير مشروع، لأن غلبة الظنِّ تنزِّل منزلة القطع في الأحكام الشرعيَّة. قال ابن فرحون (¬1): " ويُنزِّل منزلة التحقيق الظنُّ الغالب؛ لأن الإنسان لو وجد وثيقةً في تركة مورِّثه، أو وجد ذلك بخطِّة، أو بخطِّ من يثق به، أو أخبره عدلٌ بحقٍّ له، فالمنقول جواز الدعوى بمثل هذا، والحَلِف بمجرَّده، وهذا الأسباب لا تفيد إلا الظنَّ دون التحقيق، لكن غالب الأحكام والشهادات إنما تُبْنَى على الظنّ، وتنزَّل منزلة التحقيق" (¬2). وذكر العز بن عبدالسلام أن من طرق معرفة المصالح والمفاسد الدنيوية: " الظنون المُعتَبرات " (¬3). القسم الثالث: تصرُّفٌ يفضي نادراً إلى مفسدةٍ مرجوحة، كالقضاء بالشهادة في الدِّماء والأموال والفروج، مع إمكان الكذب والوهم والغلط، لكن ذلك نادرٌ فلم يُعْتَبر، واعتُبِرَت المصلحة الغالبة. قال الشاطبي: " لأن المصلحة إذا كانت غالبةً فلا اعتبار بالندور في انخرامها؛ إذ لا توجد في العادة مصلحة عريَّةٌ عن المفسدة جملة، إلا أن الشارع إنما اعتبر في مجاري الشرع غلبة المصلحة، ولم يَعْتَبر ندور المفسدة؛ إجراءً للشرعيات مجرى العاديات في الوجود " (¬4). وبهذا يتبين أن المآل المُعتَبر عند تحقيق مناط الحُكْم في بعض أفراده هو ما كان يقينياً أو غلب على ظنِّ المجتهد حصوله بحسب العادات والتجارب والقرائن التي تفيد الظنون المُعْتَبرة. فإذا تبيَّن للمجتهد يقيناً أو غلب على ظنِّه أن فعلاً بعينه من أفعال ¬

(¬1) هو: برهان الدين إبراهيم بن علي بن محمد، ابن فرحون، فقيهٌ مالكي، مغربي الأصل، رحل إلى مصر والقدس والشام، وتولى القضاء بالمدينة، ومن مؤلفاته: تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام (ط)، والديباج المذهب في تراجم أعيان المذهب (ط)، وغيرهما، توفي سنة (799 هـ). ينظر في ترجمته: الدرر الكامنة (1/ 48)، نيل الابتهاج بتطريز الديباج (34)، الأعلام للزركلي (1/ 52). (¬2) تبصرة الحكام: (1/ 148). (¬3) قواعد الأحكام: (1/ 13). (¬4) الموافقات: (3/ 74).

المكلَّف يؤدي إلى مفسدةٍ راجحةٍ، لزم المجتهد أن يَعْتَبر ذلك عند تحقيق مناط الحُكْم في ذلك الفعل، وهو اجتهادٌ " صعبُ المورد، عذبُ المذاق، محمودُ الغِبّ، جارٍ على مقاصد الشريعة " (¬1). ¬

(¬1) الموافقات: (5/ 178).

المبحث الرابع مراعاة اختلاف مقاصد المكلفين

المبحث الرابع مراعاة اختلاف مقاصد المكلَّفين إنَّ الاجتهاد في تحقيق مناطات الأحكام على أقوال المكلَّفين وأفعالهم يستلزم من المجتهد مراعاةً اختلاف مقاصد المكلَّفين من تلك التصرفات؛ لأنَّ إجراء الأحكام على أفعال المكلَّفين وأقوالهم يختلف باختلاف قصد كلِّ مكلَّفٍ من إيقاع ذلك الفعل أو التلفُظ بذلك القول، وقد تتفق الأعمال في الصورة الظاهرة إلا أنها تتميَّز أحكامها بحسب مقاصد أصحابها. قال ابن القيم: " وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن القصود في العقود معتبرة، وأنها تؤثر في صحة العقد وفساده، وفي حِلِّة وحرمته، بل أبلغ من ذلك، وهي أنها تؤثر في الفعل الذي ليس بعقدٍ تحليلاً وتحريماً، فيصير حلالاً تارةً وحراماً تارةً باختلاف النيَّة والقصد، كما يصير صحيحاً تارةً وفاسداً تارةً باختلافها .. " (¬1). ثم أورد أمثلةً كثيرةً على اختلاف الأحكام باختلاف النيَّات والمقاصد رغم أن صورة الفعل واحدة، ومنها (¬2): - الحيوان يَحِلُّ إذا ذُبِح لأجل الأكل، ويَحْرُم إذا ذُبِح لغير الله. - غير المُحْرِم يصيد الصيد للمُحْرِم فيحْرُم عليه، ويصيده للحلال فلا يَحْرُم على المُحْرِم. - عَصْرُ العنب بنيَّة أن يكون خمراً معصية، وعصره بنيَّة أن يكون خَلاًّ جائز. ¬

(¬1) إعلام الموقعين: (4/ 52). (¬2) ينظر: إعلام الموقعين (4/ 520 - 521).

- قوله لزوجته: "أنت عندي مثل أُمِّي" ينوي الطلاق فيكون ما نواه، وينوي به الظِهار فتحرم عليه، وينوي بها أنها في المنزلة والكرامة كأُمِّه فلا تحرم عليه. والأمثلة على تقرير هذا المعنى تفوق الحصر، وهي تشمل العبادات والمعاملات والعادات. قال ابن القيم: "وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمها أن المقاصد والاعتقادات مُعتَبرةٌ في التصرُّفات والعبارات كما هي مُعتَبرةٌ في التقرُّبات والعبادات، فالقصد والنيَّة والاعتقاد يجعل الشيء حلالاً أو حراماً، وصحيحاً أو فاسداً، وطاعةً أو معصية، كما أن القصد في العبادة يجعلها واجبةً أو مستحبةً أو محُرَّمَةً أو صحيحةً أو فاسدةً" (¬1). وقد بنى الفقهاء على هذا الأصل القاعدة الشهيرة: "الأمور بمقاصدها" (¬2). فمقاصد المكلَّفين تُمَيِّز بين ما هو عادةٌ وماهو عبادة، وفي العبادات تميِّز بين ما هو واجبٌ وغيرُ واجب، وفي العادات تميِّز بين الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحرَّم والصحيح والفاسد، والعمل الواحد يُقْصَد به أمرٌ فيكون عبادة، ويُقْصَد به شيءٌ آخر فلا يكون كذلك، بل يُقْصَد به شيءٌ فيكون إيماناً، ويُقْصَد به شيءٌ آخر فيكون كُفْراً، كالسجود لله أو للصنم (¬3). كما أن من أجلِّ تطبيقات هذا الأصل قاعدة: "إبطال الحيل" (¬4)؛ لأن قصد المكلَّف من الفعل يجب أن يكون موافقاً لقصد الشارع، وكلُّ مَنْ قصد غيرَ ما وُضِعت له الأحكام في الشرع فعمله باطل. ¬

(¬1) إعلام الموقعين: (4/ 499 - 500). (¬2) ينظر: المجموع المذهب للعلائي (1/ 35)، الأشباه والنظائر للسيوطي (1/ 49)، غمز عيون البصائر (1/ 177)، درر الحكام في شرح مجلة الأحكام (1/ 4). (¬3) ينظر: الموافقات (3/ 8 - 9). (¬4) ينظر: إبطال الحيل لابن بطة (112 - 125)، بيان الدليل على بطلان التحليل لابن تيمية (32 - 284)، إعلام الموقعين (5/ 66 - 112)، إغاثة اللهفان لابن القيم (1/ 356 - 392)، الموافقات (3/ 109 - 119).

قال الشاطبي: "قصد الشارع من المكلَّف أن يكون قصده في العمل موافقاً لقصد الله في التشريع، والدليل على ذلك ظاهرٌ من وضع الشريعة، إذ قد مرَّ أنها موضوعةٌ لمصالح العباد على الإطلاق والعموم، والمطلوب من المكلَّف أن يجري على ذلك في أفعاله، وأن لا يقصد خلاف ما قصد الشارع" (¬1). و"كلُّ من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شُرِعت له فقد ناقض الشريعة، وكلُّ من ناقضها فعملُه في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تُشْرَع له فعملُه باطل" (¬2)؛ وذلك لأنَّ "المشروعات إنما وُضِعَت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد، فإذا خولِفت لم يكن في تلك الأفعال التي خولِفت بها جلب مصلحةٍ ولا درء مفسدة" (¬3). والتحُّيل هو: تقديم عملٍ ظاهر الجواز لإبطال حُكْمٍ شرعيٍّ، وتحويله في الظاهر إلى حُكْمٍ آخر (¬4). فالمتحِّيل في فعله يرتكب محظورين (¬5): الأول: أنه يقلب أحكام الأفعال ظاهراً، فيجعل الفعل المحرَّم في ظاهر الأمر جائزاً. والثاني: أنه يهدم مقاصد الشرع من وضع تلك الأحكام، وذلك بجعل الأفعال التي قصد بها الشرع تحقيقَ المصلحة ودرءَ المفسدة وسائلَ إلى قلب تلك الأحكام. وقد استدلَّ ابن تيمية على إبطال الحيل من أربعة وعشرين وجهاً (¬6)، وأوصل ابن القيم أدلتها إلى تسعةٍ وتسعين دليلاً (¬7). ¬

(¬1) الموافقات: (5/ 23 - 24). (¬2) المرجع السابق: (3/ 27 - 28). (¬3) المرجع السابق: (3/ 28). (¬4) المرجع السابق: (5/ 187). (¬5) المرجع السابق: (3/ 106). (¬6) ينظر: بيان الدليل على بطلان التحليل (34 - 283). (¬7) ينظر: إعلام الموقعين (5/ 66 - 112)، إغاثة اللهفان (1/ 355 - 366).

وأقوى الحجج وآكدها: إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تحريم الحيل وإبطالها، وإجماعهم على ذلك حُجَّةٌ قاطعة (¬1). ومن الأمثلة على ذلك: - إبطال حيلة إسقاط الزكاة ببيع ما في اليد من النصاب قبل حلول الحول ثم استرداده بعد ذلك (¬2). - تحريم بيع العينة، وهو أن يشتري سلعةً بثمنٍ مؤجَّلٍ ثم يبيعها إليه بثمن حالٍّ أقلَّ منه، فالبيع - هنا - صوري؛ إذا المقصود هو النقود وليس السلعة (¬3). - إبطال نكاح المحلِّل؛ إذ مقصوده من إجراء عقد النكاح تحليل المرأة لزوجها الأول الذي طلَّقها طلاقاً بائناً، ولم يُقْصَد منه نكاح المرأة في الأصل لذاتها، وإنما اتخذ النكاح حيلةً ليطلقها بعد ذلك ثم ينكحها زوجها الأول (¬4). ولا يفتأ أهل المكر والحيل المحُرَّمَة يُخْرِجون الباطل في القوالب المشروعة، ويأتون بصور العقود دون حقائقها ومقاصدها، ولاسيما في العصور المتأخرة التي تفشَّى فيها الغشُّ والخداع وضعفت فيها الديانة؛ لذا لابدَّ أن يكون المجتهد حَذِرَاً فَطِنَاً في تصرُّفات الناس، عالماً بأساليب خداعهم ومكرهم (¬5). وحاصل القول أن الاجتهاد في تحقيق مناطات الأحكام على أفعال المكلَّفين وأقوالهم يستلزم النظر في مقاصدهم من تلك التصرفات؛ لأن الأحكام تختلف بحسب اختلاف نياتهم ومقاصدهم في الأقوال والأفعال الصادرة عنهم. ¬

(¬1) ينظر: بيان الدليل على بطلان التحليل (240)، إعلام الموقعين (5/ 90)، الموافقات (3/ 119). (¬2) ينظر: إعلام الموقعين (5/ 195)، الموافقات (3/ 121 - 122). (¬3) ينظر: بيان الدليل على بطلان التحليل لابن تيمية (69 - 71)، إعلام الموقعين (5/ 79 - 86)، إغاثة اللهفان لابن القيم (1/ 367 - 368). (¬4) ينظر: بيان الدليل على بطلان التحليل (17 وما بعدها)، إغاثة اللهفان لابن القيم (1/ 365 - 366)، إعلام الموقعين (4/ 408 - 412)، الموافقات (3/ 125 - 127). (¬5) ينظر: إعلام الموقعين (6/ 153 - 158).

المبحث الخامس الموازنة بين المصالح والمفاسد المتعارضة

المبحث الخامس الموازنة بين المصالح والمفاسد المتعارضة تقدَّم أن مقصود الشارع من وضع الأحكام هو جلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها (¬1)، وهذا المقصد لابدَّ من اعتباره أثناء الاجتهاد في تعيين المصالح في الأحوال والأشخاص؛ وإلا عادت الأحكام على مقاصد الشرع بالنقض والإبطال (¬2). وكلُّ ما يتضمن المحافظة على مقصود الشرع فهو مصلحةٌ لابدَّ من تحصليها، كما أنَّ كلَّ ما يتضمن تفويت مقاصد الشرع فهو مفسدةٌ لابدَّ من دفعها. قال الغزالي: " نعني بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكلُّ ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكلُّ ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة " (¬3). والمصالح والمفاسد تتفاوت - غالباً- في درجاتها، وهي ليست على رتبةٍ واحدة، فبعض المصالح أعظم من بعض، كما إنَّ بعض المفاسد أخطر من بعض، وعلى هذا التفاوت تترتَّب الفضائل والعقوبات (¬4). ¬

(¬1) ينظر: (236). (¬2) ينظر: الإبهاج (1/ 8 - 9)، إعلام الموقعين (4/ 337 - 338)، الموافقات (5/ 41 - 43)، مقاصد الشريعة لابن عاشور (183 - 188). (¬3) المستصفى: (2/ 482). (¬4) ينظر: قواعد الأحكام لابن عبدالسلام (1/ 41 - 42)، مقاصد الشريعة لابن عاشور (299).

وقد يحدث بينها من الاجتماع والتعارض ما يقتضي الاجتهاد في الترجيح بينها، ولاسيما في الأزمنة المتأخرة التي اختلط فيها كثيرٌ من المفاسد بالمصالح، فلا يسع المكلَّفَ في كثيرٍ من الأحيان تحقيقُ مصلحةٍ مشروعةٍ إلا مع التلبُّس بمفسدةٍ عارضة. قال ابن تيمية: " وتمام الورع أن يعلم الإنسانُ خيرَ الخيرين وشرَّ الشرَّين، ويعلم أنَّ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعيَّة والمفسدة الشرعيَّة فقد يَدَعُ واجباتٍ ويفعل محرَّماتٍ، ويرى ذلك من الورع، كَمَنْ يَدَعُ الجهادَ مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك من الورع .. " (¬1). والمراد بهذا الضابط: المقابلة بين المصالح والمفاسد المتعارضة في محلٍّ واحد، والترجيح بينها أثناء الاجتهاد في تعيين مصالح الأحكام في الأحوال والأشخاص المختلفة. وهو فقهٌ دقيقٌ يحتاج إلى مزيد اعتناءٍ من المجتهد في تحقيق مناطات الأحكام، وإلا أفسد المجتهدُ باجتهاده أكثر مما يصلح. قال ابن تيمية: " والمؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة، ومراتبها في الكتاب والسُّنَّة، كما يعرف الخيرات الواقعة، ومراتبها في الكتاب والسُّنَّة، فيفرِّق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة والتي يراد إيقاعها في الكتاب والسُّنَّة، ليقدِّم ما هو أكثرُ خيراً، وأقلُّ شرَّاً على ما هو غيره، ويدفع أعظم الشرَّين باحتمال أدناهما، ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما، فإن لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الدِّين لم يعرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عَبَدَ الله بغير عِلْمٍ كان ما يفسد أكثر مما يصلح " (¬2). والأدلة على اعتبار الشارع الترجيح بين المصالح والمفاسد المتعارضة كثيرةٌ، منها: ¬

(¬1) مجموع الفتاوى: (10/ 512 - 513). (¬2) المرجع السابق: (20/ 305).

1 - قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]. فالآية تبيِّن أن المضارَّ والمفاسد الناتجة عن اقتراف الخمر والميسر من ذهاب العقل والمال وإثارة العداوة والبغضاء والصَّدِّ عن ذكر الله وعن الصلاة وما يترتب على ذلك من الإثم أخطر من تحقيق بعض المنافع منهما، كتحقيق اللذة والربح العاجلين؛ لأن هذه المنافع لا توازي المضارَّ والمفاسد المترتبة على ذلك (¬1). قال ابن كثير (¬2): " ولكن هذه المصالح لا توازي مضرَّته ومفسدته الراجحة؛ لتعلُّقها بالعقل والدِّين، ولهذا قال تعالى: {وإثمهما أكبر من نفعهما} " (¬3). 2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام أعرابيٌّ فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " دعوه، وهريقوا على بوله سَجْلاً من ماء، أو ذنوباً من ماء؛ فإنما بعثتم ميسِّرين ولم تبعثوا معسِّرين " (¬4). فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة بالكفِّ عنه رغم حصول المفسدة منه، وهي تنجيس بعض المسجد بالبول؛ وذلك لأن تلك المفسدةَ مرجوحةٌ في مقابل مفسدةٍ أعظم منها فيما لو قُطِعَ عليه بوله، وهي إيقاع الضرر به في صحته، وانتشار البول على ثيابه وبدنه ومواضع كثيرةٍ من المسجد، مع ما في ذلك من تنفيره عن ما جاء به الإسلام من الأحكام والآداب المرعية. قال النووي: " وفيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفِّهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " دعوه "، قال العلماء: كان قوله صلى الله عليه وسلم: " دعوه " لمصلحتين، إحداهما: أنه لو قطع عليه بوله تضرر، وأصل التنجيس قد حصل، فكان احتمال زيادته أولى من إيقاع الضرر به، والثانية: أن التنجيس قد حصل في جزءٍ يسيرٍ من المسجد، فلو أقاموه ¬

(¬1) ينظر: قواعد الأحكام لابن عبدالسلام (1/ 136)، مقاصد الشريعة لابن عاشور (290). (¬2) هو: عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر البصري ثم الدمشقي، صاحب التفسير المشهور والمعروف بتفسير ابن كثير، اخذ عن الآمدي وابن تيمية، ونشأ في بيت علمٍ وأدب، كان إماماً محققاً في التفسير والحديث والتاريخ، من مؤلفاته: البداية والنهاية (ط)، وتفسير القرآن العظيم (ط)، وغيرهما، توفي بدمشق سنة (774 هـ). ينظر في ترجمته: الدرر الكامنة (1/ 399)، شذرات الذهب (6/ 131)، الأعلام للزركلي (1/ 320). (¬3) تفسير القرآن العظيم: (2/ 292). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد، رقم (220).

في أثناء بوله لتنجَّست ثيابه وبدنه ومواضع كثيرة من المسجد " (¬1). 3 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الجَدْرِ: أمِنَ البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فلِمَ لمْ يدخلوه في البيت؟ قال: إنَّ قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأنهُ بابه مرتفعاً، قال: فعل ذلك قومك ليُدْخِلوا من شاءوا ويمنعوا من شاؤوا، ولولا أن قومك حديثٌ عهدُهم في الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبُهم لنظرتُ أن أُدْخِلَ الجَدْرَ في البيت وأن أُلْزِق بابه الأرض" (¬2). قال النووي (¬3): " في هذا الحديث دليلٌ لقواعد من الأحكام منها: إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحةٌ ومفسدةٌ وتعذَّر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بُدِئَ بالأهمّ؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر أن نقض الكعبة وردَّها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم عليه السلام مصلحة، ولكن تعارضه مفسدةٌ أعظم منه، وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريباً؛ وذلك لِما كانوا يعتقدونه مَنْ فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيماً فتركها صلى الله عليه وسلم " (¬4). 4 - إن تقديم أرجح المصالح ودرء أعظم المفاسد من الأمور الجِبِليَّة التي طبع الله عليها نفوس الخلق، فلا يخفى على عقل عاقلٍ أنَّ تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمودٌ حسَن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمودٌ حسَن، وأن تقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة محمودٌ حسَن (¬5). فالأطباء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما، ويجلبون أعلى السلامتين والصحتين بفوات أدناهما (¬6). ولو خُيِّر الصبيُّ بين اللذيذ والألذِّ لاختار الألذ، ولو خُيِّر بين الحسَن والأحسَن لاختار الأحسَن، ولا يقدِّم الصالحَ على الأصلح إلا الجاهلُ بفضل ¬

(¬1) شرح صحيح مسلم للنووي: (2/ 194). (¬2) سبق تخريجه: (238). (¬3) هو: أبو زكريا يحيى بن شرف الحوراني النووي، محي الدين، فقيهٌ شافعي، كان عالماً بالحديث، من مؤلفاته: شرح صحيح مسلم (ط)، ومنهاج الطالبين (ط) في فقه الشافعية، والمجموع شرح المهذب للشيرازي (ط) لم يكمله، توفي في نوا من قرى حوران بالشام سنة (676 هـ). ينظر في ترجمته: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (5/ 165)، طبقات الشافعية للإسنوي (2/ 266)، الأعلام للزركلي (8/ 149). (¬4) شرح صحيح مسلم: (5/ 421). (¬5) ينظر: قواعد الأحكام لابن عبدالسلام (1/ 7 - 8). (¬6) ينظر: المرجع السابق.

القسم الأول: الموازنة بين المصالح المتعارضة.

الأصلح، أو شقيُّ متجاهلٌ لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من تفاوت (¬1). والموازنة بين المصالح والمفاسد المتعارضة - غالباً- ما تكتنفها كثيرٌ من الملابسات، وهذا يستلزم إجراء الموازنة وفق ضوابط شرعيَّةٍ تُراعى فيها جميع الوجوه، وأن لا يُتْرَك الأمر للأذواق والأهواء المختلفة. قال ابن تيمية: " اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلَّ أن تُعْوِز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام " (¬2). وهذه الضوابط تنقسم بحسب أنواع تعارض المصالح والمفاسد إلى ثلاثة أقسام: الأول: ضوابط الموازنة بين المصالح المتعارضة. الثاني: ضوابط الموازنة بين المفاسد المتعارضة. الثالث: ضوابط الموازنة بين المصالح والمفاسد المتعارضة. وتفصيل ذلك على النحو الآتي: القسم الأول: الموازنة بين المصالح المتعارضة. إذا تعارضت عدَّة مصالح في محلٍّ واحدٍ، وتعذَّر تحصيلها فإنه يصار للترجيح بينها بحسب ما يأتي: - إذا كانت المصالح المتعارضة مختلفةً في مراتبها، بأن كان بعضها ضرورياً، وبعضها حاجياً، وبعضها تحسينياً، فإنه تُقَدَّم المصالح الضرورية على الحاجية والتحسينية، وتُقَدَّم الحاجية على التحسينية؛ لأن المصالح الضرورية لابدَّ منها لقيام مصالح الدِّين والدنيا، وإذا فُقِدَت لم تَجْرِ مصالح الدنيا على استقامة، بل على فسادٍ وتهارجٍ وفوات حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم ¬

(¬1) ينظر: المرجع السابق (1/ 9). (¬2) مجموع الفتاوى: (28/ 129).

والخسران المبين، والمصالح الحاجية إنما يفتقر إليها للتوسعة على المكلَّفين ورفع الضيق والحرج عنهم، ولا يترتب على فقدها ما يترتب على فقد الضروريات، أما المصالح التحسينية فلأنه لا يترتب على فقدها تلفٌ أو هلاك، ولا ينشأ عن فواتها حرجٌ ولا مشقة، وإنما يترتب على فقدها أن تصبح أحوال الناس غير مُستحسَنَةٍ عند ذوي العقول السليمة والفطر القويمة (¬1). مثاله: تقديم إنقاذ الغرقى المعصومين على أداء الصلاة في أول وقتها؛ لأن إنقاذ الغرقى المعصومين تتحقق به مصلحةٌ ضروريةٌ وهي حفظ النفس، بينما أداء الصلاة في أول وقتها من المصالح التحسينية المندوب إلى فعلها (¬2). - وإذا كانت المصالح المتعارضة متساويةً في الرتبة، ولكنها مختلفةٌ في النوع، بأن كانت من الضروريات، لكن بعضها يتعلَّق بحفظ الدين، وبعضها يتعلَّق بحفظ النفس، وبعضها يتعلَّق بحفظ العقل، وبعضها يتعلَّق بحفظ النسل، وبعضها يتعلَّق بحفظ المال، فإنه تقدم المصالح المتعلِّقة بحفظ الدين، ثم المصالح المتعلِّقة بحفظ النفس، ثم المصالح المتعلِّقة بحفظ العقل، ثم المصالح المتعلِّقة بحفظ النسل، ثم المصالح المتعلِّقة بحفظ المال، وذلك بحسب أهمية ما يترتب عليها في أحكام الشرع (¬3). مثاله: تقديم إنقاذ الأنفس عند الأخطار على إنقاذ الأموال؛ لأن حفظ النفس أعظم رتبةً في الطلب من حفظ المال (¬4). -وإذا كانت المصالح المتعارضة متساويةً في الرتبة والنوع، وكان بعضها عامَّاً، وبعضها خاصّاً، بأن كانت من الضروريات، وتتعلَّق بحفظ نوعٍ واحدٍ من الكليَّات الخمس، كالدِّين أو النفس أو العقل أو النسل أو المال، وبعضها يُعْتَبر من المصالح العامة، وبعضها من المصالح الخاصة، فإنه تُقَدَّم المصلحة المتعلِّقة بالعموم على المصلحة المتعلِّقة بالخصوص؛ لأن اعتناء الشرع ¬

(¬1) ينظر: الموافقات (2/ 17 - 23)، مقاصد الشريعة لابن عاشور (300 - 308). (¬2) ينظر: قواعد الأحكام لابن عبدالسلام (1/ 96). (¬3) ينظر: الموافقات (2 - 511 - 512)، مقاصد الشريعة لابن عاشور (303 - 305). (¬4) ينظر: قواعد الأحكام لابن عبدالسلام (1/ 104 - 105)، مقاصد الشريعة لابن عاشور (297).

القسم الثاني: الموازنة بين المفاسد المتعارضة.

بالمصلحة العامة أكثر من اعتنائه بالمصالح الخاصة (¬1). مثاله: العالِم الذي يعتزل الناس خوفاً من الرياء والعجب وحبِّ الرياسة، وكذلك السلطان أو الولي العدل الذي يصلح لإقامة تلك الوظائف، والمجاهد إذا قعد عن الجهاد خوفاً من قصده طلب الدنيا به أو المحمدة، وكان ذلك الترك مؤدياً إلى الإخلال بهذه المصلحة العامة، فالقول هنا بتقديم مصلحة العموم على الخصوص أولى؛ لأنه لا سبيل لتعطيل مصالح الخلق ألبتة (¬2). والضابط الكُلِّيُّ الجامع في الموازنة بين المصالح المتعارضة في محلٍّ واحدٍ هو ترجيح أقوى المصلحتين وأعظمهما بحسب النظر إلى مقاصد الشرع لا من حيث أهواء النفوس. القسم الثاني: الموازنة بين المفاسد المتعارضة. إذا تعارضت عدَّة مفاسدٍ في محلٍّ واحدٍ، وتعذَّر درؤها جميعاً، فإنه يُصَار للترجيح بينها بحسب ما يأتي: - إذا كانت المفاسد المتعارضة مختلفةً في مراتبها، بأن كان بعضها يفوِّت ضرورياً، وبعضها يفوِّت حاجيَّاً، وبعضها يفوِّت تحسينياً، فإنه يُقْدَم درء المفاسد التي يفوِّت الضروريات على المفاسد التي تفوِّت الحاجيات والتحسينيات، ويُقْدَم درء المفاسد التي تفوِّت الحاجيات على المفاسد التي تفوِت التحسينيات؛ لأن أعظم المفاسد ما يفوِّت الضروريات الخمس أو يُخِلُّ بها، ثم ما يفوِّت الحاجيات، ثم ما يفوِّت التحسينيات، فإذا تعارض بعضها في محلٍّ واحدٍ ولم يُمْكِن درؤهما جميعاً فإنه يدفع أعظمهما بارتكاب أدناهما (¬3). قال ابن القيم: " فإن الشارع الحكيم يدفع أعظم الضررين بأيسرهما، ¬

(¬1) ينظر: الموافقات (3/ 92 - 96)، مقاصد الشريعة لابن عاشور (279 - 281). (¬2) ينظر: قواعد الأحكام لابن عبدالسلام (1/ 116)، الموافقات (3/ 94). (¬3) ينظر: الموافقات (2/ 511)، مقاصد الشريعة لابن عاشور (290 - 291).

فهذا هو الفقه والقياس والمصلحة وإن أباه مَنْ أباه " (¬1). مثاله: جواز كشف عورة المريض للتداوي؛ حيث تدفع أعظم المفسدتين وهي إهلاك النفس أو البدن بارتكاب أدناهما، وهي الإطلاع على عورة المريض لعلاجه؛ لأن المفسدة الأولى تفوِّت ضرورياً أو حاجياً، والثانية تفوِّت تحسينياً، فيُقَدِّم درء المفاسد التي تفوِّت الضروريات أو الحاجيات على ما يفوّت التحسينيات (¬2). - وإذا كانت المفاسد المتعارضة متساويةً في الرتبة، ولكنها مختلفةٌ في النوع، بأن كانت من المفاسد التي تفوِّت الضروريات أو تُخِلُّ بها، لكن بعضها يتعلُّق بالدِّين، وبعضها يتعلُّق بالنفس، وبعضها يتعلُّق بالعقل، وبعضها يتعلُّق بالنسل، وبعضها يتعلُّق بالمال، فإنه يُقْدَم درء المفاسد المتعلِّقة بالدِّين، ثم المتعلِّقة بالنفس، ثم المتعلِّقة بالعقل، ثم المتعلِّقة بالنسل، ثم المتعلِّقة بالمال، وذلك بحسب درجاتها في الأهمية، وما يترتب عليها من تحقُّق مقاصد الشرع (¬3). مثاله: إذا اضطر إلى أكل مال الغير إنقاذاً لنفسه من الهلاك فإنه يأكل منه؛ لأن حُرْمَة مال الغير أخفُّ من حُرْمَة النفس، وفوات النفس أعظم من إتلاف مال الغير ببدل (¬4). قال الغزالي: " إذا تعارض شرَّان أو ضرران قَصَدَ الشرعُ دفع أشدِّ الضررين وأعظم الشرَّين " (¬5). -وإذا كانت المفاسد المتعارضة متساويةً في الرتبة والنوع، ولكن بعضها عام، وبعضها خاص، كأن تكون من المفاسد التي تفوِّت ضرورياً أو تُخِلُّ به، ¬

(¬1) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: (222). (¬2) ينظر: قواعد الأحكام لابن عبدالسلام (1/ 155). (¬3) ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/ 52)، الموافقات (2/ 511)، مقاصد الشريعة لابن عاشور (303 - 305). (¬4) ينظر: قواعد الأحكام لابن عبدالسلام (1/ 131). (¬5) المستصفى: (2/ 496).

القسم الثالث: الموازنة بين المصالح والمفاسد المتعارضة.

وتتعلَّق بحفظ نوعٍ واحدٍ من الكليَّات الخمس كالدِّين أو النفس أو العقل أو النسل أو المال، إلا أن بعضها يتعلَّق بالعموم، وبعضها يتعلَّق بالخصوص، فإنه يُقْدَم درء المفاسد العامّة على المفاسد الخاصّة، ويُتَحَمَّل الضرر الخاص لدفع الضرر العام (¬1). مثاله: جواز التسعير إذا تواطأ التُّجار على رفع أسعار السلع الضرورية وبيعها بغنىً فاحش؛ وذلك لأنَّ المفسدة في رفع أسعار تلك السلع تتعلَّق بعموم الناس، ومفسدة التسعير بثمن المثل تتعلَّق بخصوص التُّجار، فَيُقَدَّم درء المفسدة العامَّة على المفسدة الخاصَّة (¬2). والضابط الكليُّ الجامع في الموازنة بين المفاسد المتعارضة هو: دفع أعظم المفسدتين بارتكاب أدناهما وأخفِّهما ضرراً، وذلك بحسب مقاصد النظر إلى الشرع لا من حيث أهواء النفوس. القسم الثالث: الموازنة بين المصالح والمفاسد المتعارضة. إذا تعارضت عدَّة مصالحٍ ومفاسد في محلٍّ واحدٍ، وتعذَّر تحصيل المصالح ودرء المفاسد معاً، فإنه يُصَار للترجيح بينها بحسب ما يأتي: - إذا كانت المصالح والمفاسد المتعارضة مختلفةً في مراتبها، بأن كانت المصالح تتعلَّق - مثلاً - بالضروريات، والمفاسد تتعلَّق بالحاجيات أو التحسينيات، فإنه يُقَدَّم طلب المصلحة على درء المفسدة؛ لأنها أعظم رتبةً من الأخرى (¬3). مثاله: جواز التلفُّظ بكلمة الكفر لمن أُكِره على ذلك وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان؛ لأن حفظ المُهَج والأرواج مصلحةٌ ضروريةٌ أكمل من مفسدة التلفُّظ ¬

(¬1) ينظر: الموافقات (3/ 57 - 58)، الأشباه والنظائر لابن نجيم (96)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام (1/ 40)، شرح القواعد الفقهية للزرقا (197). (¬2) ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (28/ 77)، الطرق الحكمية لابن القيم (208 - 209)، غمز عيون البصائر (1/ 282)، المدخل الفقهي للزرقا (2/ 995 - 996). (¬3) ينظر: الإبهاج (3/ 65)، مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/ 538)، القواعد للمقَّري (2/ 443)، الموافقات (2/ 46)، (3/ 96 - 97).

بكلمةٍ لا يعتقدها الجنان، ولو صبر عليها لكان أفضل؛ لما فيه من إعزاز الدِّين وإجلال رب العالمين (¬1). أو كانت المفاسد -مثلاً- تتعلَّق بالضروريات، والمصالح تتعلَّق بالحاجيات أو التحسينيات، فإنه يُقْدَّم درء المفسدة على جلب المصلحة؛ لأنها أعظم رتبةً من الأخرى، واعتناء الشرع بالمنهيات أشدُّ من اعتنائه بالمأمورات (¬2). مثاله: تحريم بيع السلاح في زمن الفتنة بين المسلمين، فإنه وإن كان في بيعه مصلحةٌ حاجيَّةٌ للبائع إلا أنه قد يحصل بسبب ذلك إراقة الدماء، فيُقَدَّم درء المفسدة التي تتعلَّق بحفظ ضروريٍّ وهو النفس على جلب مصلحةٍ حاجيَّةٍ وهي تحقيق الربح للبائع (¬3). - وإذا كانت المصلحة والمفسدة المتعارضتان متساويتين في مراتبهما، ولكنهما مختلفتان في النوع، بأن كانتا من الضروريات، لكن المصلحة تتعلَّق بحفظ الدين، والمفسدة تتعلَّق بحفظ النفس أو العقل أو النسل أو المال، فإنه يُقْدَّم جلب المصلحة المتعلِّقة بحفظ الدِّين على درء المفسدة المتعلِّقة بحفظ النفس أو العقل أو النسل أو المال (¬4). مثاله: تقديم الجهاد في سبيل الله الذي يتعلَّق بحفظ الدِّين على درء المفسدة التي تتعلِّق بحفظ النفس؛ لأن حفظ الدِّين وقيامه أكمل مصلحةٍ من مفسدة فوات النفس (¬5). قال الشاطبي: " وقد تكون المفسدة مما يُلغى مثلها في جانب عِظَمِ المصلحة، وهو ما ينبغي أن يُتَفَق على ترجيح المصلحة فيه " (¬6). ¬

(¬1) ينظر: قواعد الأحكام لابن عبدالسلام (1/ 137)، الموافقات (3/ 124). (¬2) ينظر: الأشباه والنظائر لابن السبكي (1/ 105)، الموافقات (5/ 300)، الأشباه والنظائر للسيوطي (87)، الأشباه والنظائر لابن نجم (90)، شرح الكوكب المنير (4/ 447). (¬3) ينظر: الموافقات (3/ 54)، إعلام الموقعين (5/ 63 - 64). (¬4) ينظر: قواعد الأحكام (1/ 136 - 149). (¬5) ينظر: الموافقات (2/ 64)، مقاصد الشريعة لابن عاشور (296). (¬6) الموافقات: (3/ 96).

أو قد تكون المفسدة تتعلَّق بحفظ النفس، والمصلحة تتعلَّق بحفظ العقل أو النسل أو المال، فإنه يُقْدَّم درء المفسدة على جلب المصلحة (¬1). مثاله: جواز شقِّ جوف المرأة عن الجنين المرجو حياته؛ لأن فوات حياته أعظم مفسدةً من مصلحة حفظ حُرْمَة أُمِّه، فيُقْدَّم درء المفسدة التي تتعلَّق بحفظ النفس على جلب المصلحة التي تتعلَّق بغير ذلك كالعقل أو النسل أو المال (¬2). - وإذا كانت المصلحة والمفسدة المتعارضتان متساويتين في الرتبة والنوع، وكانت المصلحة تتعلَّق بالعموم، والمفسدة تتعلَّق بالخصوص، بأن كانت من الضروريات، وتتعلَّق بحفظ نوعٍ واحدٍ من الكليَّات الخمس كالدِّين أو النفس أو العقل أو النسل أو المال، وكانت المصلحة عامَّة، والمفسدة خاصَّة، فإنه يُقْدَّم جلب المصلحة العامَّة على المفسدة الخاصَّة (¬3). مثاله: تضمين الصُنَّاع إذا هلكت العين المؤجرة بأيديهم دون تعدٍ منهم أو تفريط، لأنَّ في ذلك مصلحةً عامَّةً للناس تتعلَّق بحفظ أموالهم، رغم أنَّ فيه مفسدةً خاصَّةً وهي تضمين الصانع ما تلف عنده (¬4). أو كانت المفسدة عامَّة، والمصلحة خاصَّة، فإنه يُقَدَّم درء المفسدة العامَّة على جلب المصلحة الخاصَّة (¬5). مثاله: منع بيع الحاضر للباد، فإن في ذلك رفعاً للأسعار تعود مصلحته للبادي وهي مصلحةٌ خاصَّة، إلا أنه يُلْحِق الضرر بعامَّة الناس بسبب احتكار السلعة والتحكُّم في سعرها، فيُقْدَّم درء المفسدة العامَّة على جلب المصلحة الخاصَّة (¬6). ¬

(¬1) ينظر: قواعد الأحكام (1/ 141 - 142)، الأشباه والنظائر لابن نجيم (99)، الأشباه والنظائر للسيوطي (87). (¬2) ينظر: المرجع السابق. (¬3) ينظر: الموافقات (3/ 57 - 58). (¬4) ينظر: المرجع السابق. (¬5) ينظر: المرجع السابق. (¬6) ينظر: المرجع السابق.

والضابط الكُلِّيُّ الجامع في الموازنة بين المصالح والمفاسد المتعارضة في محلٍّ واحدٍ هو: ترجيح الأعظم منها، فإن كانت جهة المصلحة أعظم كان جلب المصلحة أولى من درء المفسدة، وإن كانت جهة المفسدة أعظم كان درء المفسدة أولى من جلب المصلحة، وذلك بحسب مقاصد الشارع التي هي عماد الدِّين والدنيا لا بحسب أهواء النفوس، وعلى ذلك جرت تصرفات الشارع الحكيم (¬1). قال ابن تيمية: "العمل إذا اشتمل على مصلحةٍ ومفسدةٍ فإن الشارع حكيم، فإن غلبت مصلحته على مفسدته شَرَعَهُ، وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه، بل نهى عنه" (¬2). وعلى هذا فإن الاجتهاد في إثبات مُتعلَّق حُكْمٍ شرعيٍّ في بعض أفراده يستلزم الموازنة بين المصالح والمفاسد؛ لأن مقصود الشريعة من وضع الأحكام هو جلب المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، وهذا المقصد لابدَّ من اعتباره أثناء الاجتهاد في تحقيق مناطات الأحكام في الأحوال والأشخاص. ¬

(¬1) ينظر: الموافقات (2/ 64). (¬2) مجموع الفتاوى: (11/ 623).

الفصل الخامس مسالك تحقيق المناط ويشتمل على تمهيد ومبحثين: المبحث الأول: المسالك النقلية. المبحث الثاني: المسالك الاجتهادية.

الفصل الخامس مسالك تحقيق المناط

الفصل الخامس (*) مسالك تحقيق المناط إنَّ الكشف عن مناط الحُكْم في الأصل يُعْتَبر مقدمةً ضروريةً للتحقُّق من ثبوته في بعض أفراده، وقد اعتنى الأصوليون بالمسالك النقلية والاجتهادية للكشف عن مناط الحُكْم بَيْد أن مسالك الكشف عن ثبوت ذلك المناط في بعض أفراده لم يَحْظَ بمثل ذلك الاعتناء، ولم أظفر في مصنفات الأصوليين بشيءٍ يتعلَّق بذلك سوى بعض الدقائق واللُّمع التي سطَّرها بعض المحقِّقين كالغزالي، وعزِّ الدين ... ابن عبدالسلام، والقرافي، والشاطبي، وابن تيمية، وابن القيم رحمهم الله جميعاً. ويُعْتَبر الغزالي أول من أشار إلى بعض المسالك الدَّالة على ثبوت المناط في الفرع بعد ثبوته في الأصل، وذلك في موضعين: الموضع الأول: في كتابة: " شفاء الغليل " (¬1) عند بحثه في برهان الاعتلال الذي هو الجمع بين الفرع والأصل برابطة العِلَّة، وأنَّ شكل هذا البرهان يرجع إلى مقدمتين ونتيجة، وبيانه أنك تقول: المغصوب مضمون، فهذه مقدمة، وتقول: العقار مغصوب، فهذه مقدمةٌ ثانية، فنتيجتهما: أنَّ العقار مضمون، وتقول: المطعوم ربوي، والسفرجل مطعوم، فالرِّبا يجري في السفرجل (¬2). ثم أوضح أنَّ النزاع قد يُفْرَض في المقدِّمة الأولى مع تسليم الثانية، ¬

(¬1) ينظر: (435 - 439). (¬2) ينظر: شفاء الغليل (435). (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: بالمطبوع (الرابع)، وهو غلط

كقول الخصم: أُسَلِّمُ أنَّ السفرجل مطعوم، ولكن لا نُسَلِّم أنَّ الطعم عِلَّة الرِّبا، وقد يُسَلِّم المقدمة الأولى وينازِع في الثانية، كقوله: سَلَّمتُ أنَّ الغصب عِلَّة الضَّمان، ولكن لا نُسَلِّم وجود الغصب في العقار (¬1). ثم ذكر أن النزاع إذا وقع في المقدِّمة الأولى لم تثبت إلا بالأدلة الشرعيَّة؛ لأن المُتَنَازَع فيه قضيةٌ شرعيَّة، وهو كون الطعم عِلَّةً مثلاً، فيثبت ذلك بالنصِّ أو الإيماء أو الإجماع أو المناسبة، ونحو ذلك من المسالك الشرعيَّة (¬2). أمَّا إذا وقع النزاع في المقدِّمة الثانية - وهو: وجود العِلَّة في الفرع بعد تسليم كون الوصف عِلَّةً - فهذا يُعْرَف تارة بالحِسّ إن كان الوصف حِسِّياً، وقد يُعْرَف بالعُرْف، وقد يُعْرَف باللغة، وقد يُعْرَف بطلب الحِدِّ وتصور حقيقة الشيء في نفسه، وقد يُعْرَف بالأدلة الشرعيَّة النقلية (¬3). وما ذكره - هنا - من الطرق التي يُسْتَدَل بها على وجود العِلَّة في الفرع هو ما أسميته: " مسالك تحقيق المناط ". الموضع الثاني: في كتابه: " أساس القياس " (¬4) حيث نصَّ على أنَّ تحقيق مناط الحُكْم في فرعٍ ما يُدْرَك بأصولٍ خمسة، وهي: اللغة، والعُرْف، والنظر العقلي، كالنظر في اختلاف الأجناس والأصناف، والحِسّ، والنظر في طبيعة الأشياء وجبلتها وخاصيتها الفطرية (¬5). وما ذكره الغزالي في الموضعين لا يُعْتَبر حصراً لهذه المسالك، وإنَّما اقتصاراً على أهمها، لأنَّه لا يُمْكِن حصرها ولا نهاية لها. وقد أشار الغزالي إلى ذلك بقوله: " فهذه خمسة أصنافٍ من النظريات، وهي: اللُّغوية، والعُرْفية، والعقلية، والحِسِّية، والطبيعية، وفيه أصنافٌ أخرى ¬

(¬1) ينظر: المرجع السابق (436). (¬2) ينظر: المرجع السابق. (¬3) ينظر: المرجع السابق. (¬4) ينظر: (40 - 43). (¬5) ينظر: المرجع السابق (41 - 42).

يطول تعدادها. . ." (¬1). والسبب في ذلك يعود إلى أن مسالك تحقيق المناط تُعْتَبَر من أدلة وقوع الأحكام، والأدلة الدَّالة على وقوع الأحكام غير منحصرة، وقد أوضح القرافي الفرق بين أدلة مشروعية الأحكام وأدلة وقوع الأحكام فقال: " أدلة مشروعية الأحكام محصورةٌ شرعاً تتوقف على الشارع، وأدلة وقوع الأحكام هي الأدلة الدَّالة على وقوع أسبابها وحصول شروطها وانتفاء موانعها، فأدلة مشروعيتها: الكتاب، والسُّنة، والقياس، والإجماع، . . . ونحو ذلك مما قُرِّر في أصول الفقه، وهي نحو العشرين، يتوقف كلُّ واحدٍ منها على مُدْرَكٍ شرعيٍّ يدلُّ على أن ذلك الدليل نَصَبَهُ صاحب الشرع لاستنباط الأحكام، وأما أدلة وقوعها فهي غير منحصرة، فالزوال - مثلاً - دليل مشروعيته سبباً لوجوب الظهر عند قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، ودليل وقوع الزوال وحصوله في العالَم الآلاتُ الدَّالة عليه وغيرُ الآلات كالأَسْطُرْلاب (¬2) .. وغير ذلك من الموضوعات والمُخْتَرَعَات التي لانهاية لها، وكذلك جميع الأسباب والشروط والموانع لا تتوقف على نَصْبٍ من جهة الشرع، بل المتوقف سببية السبب وشروطية الشرط ومانعية المانع، أمَّا وقوع هذه الأمور فلا يتوقف على نَصْبٍ من جهة صاحب الشرع، ولا تنحصر تلك الأدلة في عدد، ولا يمكن القضاء عليها بالتناهي" (¬3). وإذا تقرَّر أنَّ مسالك تحقيق المناط غير منحصرةٍ فيمكن القول بأن الضابط في ذلك: أنَّ كلَّ ما يدلُّ -غالباً- على ثبوت مناط الحُكْم في بعض أفراده يصح اعتباره مسلكاً من مسالك تحقيق المناط؛ لأن إيقاع الأحكام على الأعيان لا يلزم أن يُعْلَم بالأدلة الشرعيَّة النقلية، بل يُعْلَم بكلِّ ما يدل على وقوعها، ولا معارض له أرجح منه. قال ابن تيمية: " الشارع بيَّن الأحكام الكليَّة، وأمَّا الأحكام المُعَيَّنات التي ¬

(¬1) ينظر: المرجع السابق (42). (¬2) الأَسْطُرْلاب هو: جهاز استعمله القدماء في تعيين ارتفاع الأجرام السماوية ومعرفة الوقت والجهات الأصلية. ينظر: مفاتيح العلوم للخوارزمي (153)، المعجم الوسيط (17). (¬3) ينظر: أنوار البروق في أنواء الفروق للقرافي (2/ 129) في الفرق السادس عشر.

تُسَمَّى: "تحقيق المناط" مثل كون الشخص المُعَيَّن عَدْلاً أو فاسقاً أو مؤمناً أو منافقاً أو وليَّاً لله أو عدوَّاً له، وكون هذا المُعَيَّن عدوَّاً للمسلمين يستحقُّ القتل، وكون هذا العقار ليتيمٍ أو فقيرٍ يستحقُّ الإحسان إليه، وكون هذا المال يُخَاف عليه من ظلم ظالمٍ فإذا زهد فيه الظالم انتفع به أهله، فهذه الأمور لا يجب أن تُعْلَم بالأدلة الشرعيَّة العامة الكليَّة، بل تُعْلَم بأدلةٍ خاصةٍ تدلُّ عليها" (¬1). وعلى هذا فالمسالك الدَّالة على ثبوت مناط الحُكْم في بعض أفراده قد ترجع إلى النقل المحضّ وهو قليل، وقد ترجع إلى الرأي والنظر وهو كثير. ولذلك لمَّا ذكر الغزالي الأصول الخمسة التي يُدْرَكُ بها وجود المناط في الفرع قال: "وفيه أصولٌ أُخَر يطول تعدادها، وهو على التحقيق تسعة أعشار النظر الفقهي" (¬2). وفيما ذكر الغزالي إشارةٌ إلى أن أكثر المسالك التي يُدْرَكُ بها ثبوت المناط في بعض أفراده ترجع إلى الاجتهاد والنظر. وقال ابن تيمية: "فالرأي كثيراً ما يكون في تحقيق المناط الذي لا خلاف بين الناس في استعمال الرأي والقياس فيه، فإنَّ الله أَمَرَ بالعدل في الحكم، والعدل قد يُعْرَف بالرأي، وقد يُعْرَف بالنصِّ" (¬3). ولهذا فقد ارتأيت تقسيم المسالك التي يُدْرَك بها ثبوت المناط في بعض أفراده بعد ثبوته في الأصل إلى: مسالك نقلية، ومسالك اجتهادية. والمراد بالمسالك النقلية: أن يدلَّ دليلٌ نقليٌّ على ثبوت مناط الحُكْم في بعض أفراده. والمراد بالمسالك الاجتهادية: أن يدلَّ دليلٌ اجتهاديٌّ على ثبوت مناط الحُكْم في بعض أفراده. وسأتناول في هذا الفصل أهمَّ المسالك النقلية والاجتهادية مع ذكر أمثلةٍ توضيحيةٍ لها، وذلك من خلال مبحثين: ¬

(¬1) ينظر: مجموع الفتاوى (10/ 478 - 479). (¬2) ينظر: أساس القياس (42). (¬3) ينظر: الاستقامة (1/ 7 - 8).

المبحث الأول المسالك النقلية

المبحث الأول المسالك النقلية وهي: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، وقول الصحابي. قال الغزالي: " .. وقد يُعْرَف - أي: ثبوت المناط في الفرع - بالأدلة الشرعيَّة النقلية " (¬1)، ثم ضَرَبَ على ذلك أمثلةً توضيحية كما سيأتي بيانه (¬2). ولمَّا ذكر ابن تيمية أن الرأي كثيراً ما يكون في تحقيق المناط نبَّه إلى أنه كما يُعْرَف ثبوت المناط في مُعَيَّنٍ بالرأي فكذلك قد يُعْرَف بالنصّ (¬3)، أي: بالأدلة النقلية. وبيان هذه المسالك على النحو الآتي: المسلك الأول: الكتاب. وهو أن يدلَّ القرآنُ الكريم على ثبوت مناط الحُكْم في بعض أفراده. ومثاله: إباحة القرآن الكريم الزواجَ من غير المحرَّمات اللاتي ذُكِرْنَ في سورة النساء بقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ومن ذلك الزواج من مُطَلَّقَات الأدعياء، وقد حقَّق القرآن الكريم مناط هذا الحُكْم في إباحة زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش (¬4) رضي الله عنها لمَّا طلقَّها زيدٌ بن حارثة (¬5) الذي قد تبنَّاه الرسول صلى الله عليه قبل النبوة، وذلك في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37]. ¬

(¬1) شفاء الغليل: (436). (¬2) ينظر: المرجع السابق (437 - 438). (¬3) ينظر: الاستقامة: (1/ 7 - 8). (¬4) هي: زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية، أم المؤمنين رضي الله عنها، كانت زوجة زيد بن حارثة واسمها " بَرَّة "، فلما طلقها زيد رضي الله عنه تزوج بها النبي صلى الله عليه وسلم وسماها " زينب "، توفيت سنة (20 هـ). ينظر في ترجمتها: طبقات ابن سعد (8/ 101)، الاستيعاب (4/ 1849)، الأعلام للزركلي (3/ 66) (¬5) هو: زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، صحابي جليل، اشترته خديجة بن خويلد رضي الله عنها، ثم وهبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين تزوجها، فتبناه النبي عليه الصلاة والسلام قبل الإسلام، ثم أعتقه، استشهد رضي الله عنه في غزوة مؤتة سنة (8 هـ). ينظر في ترجمته: طبقات ابن سعد (3/ 40)، الاستيعاب (2/ 542)، الأعلام للزركلي (3/ 57).

المسلك الثاني: السنة.

قال ابن كثير: " أي: إنما أبحنا لك تزويجها، وفعلنا ذلك لئلا يبقى حرجٌ على المؤمنين في تزويج مُطَلَّقَات الأدعياء، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة قد تبنَّى زيدَ بن حارثة رضي الله عنه، فكان يقال: زيد بن محمد، فلما قطع الله تعالى هذه النسبة بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4] ثم زاد ذلك بياناً وتأكيداً بوقوع تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها لما طلقها زيد بن حارثة رضي الله عنه، ولهذا قال في آية التحريم: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23] ليحترَّز من الابن الدَّعِي، فإنَّ ذلك كان كثيراً فيهم " (¬1). فإذا دلَّ القرآن الكريم على ثبوت مناط الحُكْم في صورةٍ بعينها فهو حُجَّةٌ معتبرةٌ، ويُعَدُّ مسلكاً من مسالك تحقيق المناط. المسلك الثاني: السُّنَّة. وهو: أن يدلَّ قول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله أو تقريره على ثبوت مناط الحُكْم في بعض أفراده. ومثاله: تحريم التفاضل في بيع النقدين في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواءً بسواء، والفضة بالفضة إلا سواءً بسواء " (¬2). وقد حقَّق النبي صلى الله عليه وسلم مناط الحُكْم وهو التفاضل في حديث فضالة بن عبيد (¬3) رضي الله عنه حيث قال: اشتريت يوم خيبر قلادة باثنى عشر ديناراً فيها ذهبٌ وخرز فَفَصَّلتُها، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عيه وسلم فقال: لا تباع حتى تُفَصَّل " (¬4). فإذا دلَّ قول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله أو تقريره على ثبوت مناط الحُكْم في صورةٍ بعينها فهو حُجَّةٌ معتبرةٌ، ويُعدُّ مسلكاً من مسالك تحقيق المناط. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير: (6/ 426). (¬2) سبق تخريجه: (49). (¬3) هو: فضالة بن عبيد بن نافذ بن قيس بن صهيب الأنصاري الأوسي، أسلم قديماً وشهد أحد وما بعدها، وشهد فتح الشام ومصر، وتولىَّ قضاء دمشق، وتوفي بها سنة (53 هـ). ينظر في ترجمته: الاستيعاب (9/ 119 - 120)، الإصابة (8/ 97 - 98). (¬4) أخرجه مسلم في " صحيحه "، كتاب المساقاة، باب بيع القلادة فيها خَرَزٌ وذهب، رقم (1591) من حديث فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه.

المسلك الثالث: الإجماع.

المسلك الثالث: الإجماع. وهو: أن يتفق المجتهدون من أُمَّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم في عصرٍ من الأعصار بعد وفاته على ثبوت مناط الحُكْم في أحد أفراده. واعتباره مسلكاً من مسالك تحقيق المناط يستلزم الاتفاق على ثلاثة أشياء: الأول: الاتفاق على حُكْم الأصل. الثاني: الاتفاق على مناط الحُكْم في الأصل. الثالث: الاتفاق على ثبوت مناط الحُكْم في الفرع. ومثاله: اتفاق المجتهدين على تحريم وطء الحائض لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وهو اتفاقٌ منهم على حُكْم الأصل، ثم اتفقوا على أن مناط الحُكْم في ذلك هو: القذر والنجاسة، ثم اتفقوا على أن هذا المناط - وهو القذر والنجاسة - موجودٌ في النِّفاس، وهو اتفاقٌ منهم على ثبوت مناط الحُكْم في ذلك الفرع (¬1). وبهذا يكون إجماعهم على ثبوت مناط الحُكْم في بعض أفراده حُجَّةٌ معتبرةٌ، ويُعَدُّ مسلكاً من مسالك تحقيق المناط. المسلك الرابع: قول الصحابي. وهو: أن يدلَّ قول الصحابي على ثبوت مناط الحُكْم في بعض أفراده. ومثاله: قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة: 38]. فالآية نصٌّ صريحٌ في وجوب قطع يد السارق، ومناط الحُكْم هو: ¬

(¬1) ينظر: المغني لابن قدامة (1/ 419)، المجموع للنووي (2/ 537)، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (3/ 480).

السرقة، وقد ثبت تحقيق مناط الحُكْم - وهو السرقة - في النَّبَّاش (¬1)، وذلك استناداً إلى قول عائشة رضي الله عنها " يُقْطَعُ سارق أمواتنا كما يُقْطَعُ سارق أحيائنا " (¬2). وعلى هذا فإنَّه إذا دلَّ قول الصحابي على ثبوت مناط الحُكْم في بعض أفراده فهو حُجَّةٌ معتبرةٌ ما لم يعارضه ما هو أرجح منه؛ لأن الصحابي اختصَّ بشهود تنزيل الوحي، وشاهَدَ تأويلَه بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحواله وسيرته، فحصل له من العلم وأسبابه ما لم يحصل لغيره (¬3). قال ابن القيم: " أمَّا المدارك التي شاركناهم فيها من دلالات الألفاظ والأقيسة فلا ريب أنهم كانوا أبرَّ قلوباً، وأعمقَ علماً، وأقلّ تكلَّفاً، وأقربَ إلى أن يوفَّقوا فيها لما لم نُوَفَق له نحن؛ لِما خصَّهم الله تعالى به من توقَّد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحُسْن الإدراك وسرعته، وقلَّة المعارِض أو عدمه، وحُسْن القصد، وتقوى الرَّب تعالى، فالعربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزةٌ في فِطَرِهِم وعقولهم .. " (¬4). ¬

(¬1) ينظر: شفاء الغليل (437)، البحر المحيط للزركشي (5/ 256)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 293)، إرشاد الفحول (2/ 920). وقد ذهب إلى ذلك: المالكية، والشافعية، والحنابلة؛ لأن معنى السرقة متحققٌ في النباش الذي يأخذ كفن الميت، وهو أخذٌ للمال خفيةً، وذهب أبو حنيفة إلى أنه غير سارق؛ لأنه أخذٌ مالٍ عارضٍ للضياع، كالملتقط من غير حرز. ينظر في المسألة: بدائع الصنائع (7/ 68 - 69)، المغني لابن قدامة (12/ 455 - 456)، مغني المحتاج (4/ 221)، جواهر الإكليل (2/ 292). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " (10/ 34)، وأخرجه البيهقي في " معرفة السنن والآثار "، كتاب السرقة، باب النباش، رقم (5416)، ولفظه عنده: " سارق أمواتنا كسارق أحيائنا ". (¬3) ينظر: المرجع السابق (6/ 18 - 20). (¬4) إعلام الموقعين: (6/ 21).

المبحث الثاني: المسالك الاجتهادية

المبحث الثاني: المسالك الاجتهادية وهي: لغة العرب، والعُرْف، والحِسّ، وقول أهل الخبرة، والبيِّنات الشرعية، والحساب والعدد. وبيان هذه المسالك على النحو الآتي: المسلك الأول: لغة العرب. وهو أن تدلَّ لغة العرب على ثبوت مناط الحُكْم في بعض أفراده. وقد ذكر الغزالي أن ثبوت المناط في الفرع قد يُدْرَك باللغة فيما يُبْنَى على الاسم وكونه حقيقةً أو مجازاً، كألفاظ الأيمان، والنُّذور، والطلاق، ونحوها (¬1). ومثاله: أن يقال: إن العِتاق كما يحصل بألفاظ الحقيقة فإنه يحصل بألفاظ الكنايات المُحْتَمِلة، ومن ذلك: لفظ الطلاق فإنه مُحْتَمِلٌ لإرادة العِتاق في أصل اللغة، فيحصل به، فيُسَلِّم المقدمةَ الأولى، ويُنَازِع في الثانية، وهي كون لفظ "الطلاق" محتمِلاً لإرادة العِتاق، فيرجع حينئذٍ في تحقيق ذلك إلى مدارك الكنايات ومآخذ التجوُّزات والإستعارات في لغة العرب (¬2). وعلى هذا فإن الدلالة اللغوية تُعْتَبَر من الطرق التي يُتَحَقَّقُ بها من ثبوت المناط في بعض أفراده أو عدمه فيما لا يُدْرَكُ ثبوت المناط فيه إلا بالرجوع إلى لغة العرب. ¬

(¬1) ينظر: شفاء الغليل (436)، أساس القياس (41). (¬2) ينظر: شفاء الغليل (437).

المسلك الثاني: العرف.

المسلك الثاني: العرف. وهو: أن يدلَّ العُرْفُ على ثبوت مناط الحُكْم في بعض أفراده. والعُرْفُ في اصطلاح الأصوليين هو: ما استقرَّ في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول، واستمرَّ عليه جمهور الناس مما لا تَرُدُّه الشريعة (¬1). ويُعْتَبر العُرْفُ من أهمِّ المسالك التي يَعْتَمِدُ عليها المجتهدُ في تحقيق مناطات الأحكام الشرعيَّة المطلقة التي ليس لها حدٌّ في الشرع ولا في اللغة، كإحياء الموات، والحِرْز في السرقة، والقبض في البيع، والمعروف في المعاشرة، فإنه يُرْجَعُ فيها حينئذٍ إلى العُرْف؛ وهو معنى القاعدة الفقهية الشهيرة: " العادة مُحَكَّمة" (¬2). ومثاله: أن النفقة واجبةٌ على الزوج لزوجاته وأولاده بنصِّ الكتاب والسُّنَّة، ومن ذلك: قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولَهُنَّ عليكم رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف" (¬3)، وقوله صلى الله عليه وسلم لهند امرأة أبي سفيان: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " (¬4). فهذه النصوص الواردة في وجوب النفقة على الزوجة والأولاد لم تحدِّد مقدار الكفاية في تلك النفقة، وإنما رُدَّ فيها الأزواج إلى العُرْفِ لاختلاف الناس في ذلك تبعاً لاختلاف أحوالهم وأزمنتهم وأمكنتهم. قال ابن القيم: " واللهُ ورسولُه ذَكَرَا الإنفاقَ مطلقاً من غير تحديدٍ ولا ¬

(¬1) ينظر: شرح تنقيح الفصول (352)، شرح الكوكب المنير (4/ 448)، نشر العَرْف لابن عابدين (2/ 114)، العرف والعادة في رأي الفقهاء (8)، أثر العرف في التشريع الإسلامي (52). (¬2) ينظر: الأشباه والنظائر لابن السبكي (1/ 50 - 54)، المنثور في القواعد للزركشي (2/ 356 - 366) الأشباه والنظائر للسيوطي (89 - 101)، الأشباه والنظائر لابن نجيم (101 - 114). (¬3) أخرجه مسلم في " صحيحه "، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (1218) من حديث جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه. (¬4) أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب النفقات، باب إذا لم يُنْفِق الرجل، رقم (5364)، وأخرجه مسلم في " صحيحه "، كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل، رقم (1714)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

المسلك الثالث: الحس.

تقديرٍ ولا تقييد، فوجب ردُّه إلى العُرْفِ لو لم يردُّه إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فكيف وهو الذي ردَّ ذلك إلى العُرْف، وأرشد أُمَّتَه إليه؟ ومن المعلوم أن أهل العُرْفِ إنما يتعارفون بينهم في الإنفاق على أهليهم .. ولو كانت مقدَّرَةً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم هنداً أن تأخذ المُقدَّر لها شرعاً، ولَمَا أمرها أن تأخذ ما يكفيها من غير تقدير، وردَّ الاجتهاد في ذلك إليها .. " (¬1). وبهذا يكون العُرْفُ من المسالك التي يعتمد عليها المجتهد في تحقيق مناطات الأحكام الشرعيَّة المطلقة التي ليس لها حدٌّ في الشرع ولا في اللغة، وإذا تغيَّرت تلك الأعراف تغيَّرت أحكامها، وهذا جارٍ في جميع أبواب الفقه التي تترتب أحكامها على العوائد. قال القرافي: " أجمعوا على أن المعاملات إذا أُطْلِقَ فيها الثمن يُحمَل على غالب النقود، فإذا كانت العادة نقداً مُعَيَّنا حملنا الإطلاق عليه، فإذا انتقلت العادة إلى غيره عيَّنا ما انتقلت العادة إليه، وألغينا الأول؛ لانتقال العادة عنه، وكذلك الإطلاق في الوصايا، والأيمان، وجميع أبواب الفقه المحمولة على العوائد إذا تغيَّرت العادة تغيَّرت الأحكام في تلك الأبواب" (¬2). المسلك الثالث: الحِسّ. وهو: أن يدلَّ الحِسُّ على ثبوت مناط الحُكْم في بعض أفراده. والحِسُّ يشمل: النظر، والسمع، والشَّم، واللمسّ، والذوق، وتُسمَّى "الحواس الخمس". ويُعْتَبر الحِسُّ من المسالك التي يعتمد عليها المجتهد في تحقيق مناطات الأحكام فيما يُدْرك ثبوت المناط فيه بالوقوف على أوصاف حِسِّية (¬3). قال الغزالي: " .. ويُعْرَفُ -أي: وجود المناط في الفرع- تارةً بالحِسِّ إن كان الوصف حسِّياً" (¬4). ¬

(¬1) زاد المعاد: (1/ 439). (¬2) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: (219). (¬3) ينظر: شفاء الغليل (436 - 437)، أساس القياس (41 - 42). (¬4) شفاء الغليل: (436).

ومن الأمثلة التي توضح ذلك ما يلي: - مثال كون النظر مسلكاً في تحقيق مناط الحُكْم: أن مناط وجوب صوم رمضان هو دخول الشهر، ويتحقُّق مناط هذا الحُكْم برؤية الهلال أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً (¬1). - ومثال كون السمع مسلكاً في تحقيق مناط الحُكْم: أن مناط إرث المولود هو حياته، ويتحقق مناط هذا الحُكْم بصراخه (¬2). - ومثال كون الشمِّ مسلكاً في تحقيق مناط الحُكْم: أن مناط إقامة الحدِّ على شارب الخمر هو شرب المسكر، ويتحقق مناط هذا الحُكْم بشمِّ رائحة الفمّ عند الإمام مالك (¬3) - رحمه الله - أو الإقرار أو البينة، وعند الجمهور لا يجب الحدّ بوجود رائحة الخمر في فِيه، بل لابدَّ من الإقرار أو البينة (¬4). - ومثال كون اللمس مسلكاً في تحقيق مناط الحُكْم: أن مناط تحريم لبس الحرير على الرجال هو كون الملبوس مصنوعاً من الحرير، ويتحقق مناط هذا الحُكْم بلمس ذلك اللباس وتقليبه (¬5). - ومثال كون الذوق مسلكاً في تحقيق مناط الحُكْم: أن مناط صحة الوضوء بالماء كونه مطلقاً باقٍ على أصل خلقته لم يتغيَّر بنجاسة، وقد يتحقق مناط هذا الحُكْم بتذوق طعم الماء (¬6). وبهذا يتبيَّن أن الحسَّ من المسالك التي يُعْتَمَد عليها في تحقيق مناطات ¬

(¬1) ينظر: المجموع للنووي (6/ 375 - 377)، المغني لابن قدامة (4/ 325 - 326)، الذخيرة (2/ 488)، فتح القدير لابن الهمام الحنفي (2/ 318 - 319). (¬2) ينظر: المغني لابن قدامة (9/ 180 - 181)، مغني المحتاج للشربيني (3/ 39)، البحر الرائق شرح كنز الدقائق (8/ 574 - 575)، منح الجليل على مختصر الخليل (4/ 758). (¬3) هو: مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة، محدِّث فقيه، أخذ عنه خلقٌ كثير، منهم الزهري والثوري والأوزاعي والشافعي، من مؤلفاته: الموطأ (ط)، وتفسير غريب القرآن، وغيرهما، توفي بالمدينة سنة (179 هـ). ينظر في ترجمته: ترتيب المدارك (1/ 104)، الديباج المذهب (17)، الأعلام للزركلي (5/ 257). (¬4) ينظر: المجموع للنووي (22/ 264 - 265)، المغني ابن قدامة (12/ 501 - 502)، الذخيرة (12/ 200 - 201)، فتح القدير لابن الهمام الحنفي (5/ 285 - 289). (¬5) ينظر: فتح القدير لابن الهمام الحنفي (10/ 18 - 19)، جواهر الإكليل شرح مختصر خليل (1/ 43)، المجموع للنووي (3/ 418 - 185)، المغني لابن قدامة (2/ 304 - 305). (¬6) ينظر: المجموع للنووي (1/ 151 - 152)، بدائع الصنائع للكاساني (1/ 15)، المغني لابن قدامة (1/ 38)، الذخيرة (1/ 172 - 173).

المسلك الرابع: قول أهل الخبرة.

الأحكام فيما لا يدرك ثبوت مُتَعَلَّق الحُكْم فيه إلا بالنظر أو السمع أو الشَّمِّ أو اللمّس أو الذوق. المسلك الرابع: قول أهل الخبرة. والمراد: أن يدلَّ قول أهل الخبرة على ثبوت مناط الحُكْم في بعض أفراده. والخبرة تعني: " المعرفة ببواطن الأمور " (¬1). فالذي يعرف بواطن الأمور المتعلِّقة بعلمٍ من العلوم كالطبِّ أو الهندسة أو الفلك أو الاقتصاد أو السياسة ونحو ذلك فإنه يُطْلق عليه وصف: " الخبير" في ذلك الاختصاص. ويُعْتَبر الاعتماد على قول أهل الخبرة من أهمِّ المسالك في تحقيق مناطات الأحكام في الوقائع والجزئيات التي لا يُدْرِكُ ثبوت مُتَعَلَّقِ الحُكْم فيها إلا من كان بصيراً بها (¬2). قال السرخسي (¬3): " وإنما يُرْجَعُ إلى معرفة كلِّ شيءٍ إلى من له بَصَرٌ في ذلك الباب " (¬4). ومثاله: الرجوع إلى قول أهل الخبرة من التُّجَّار وأرباب الصنائع في معرفة العيب الذي يُرَدُّ به المبيع مما يخفى على أكثر الناس أو يدَّعي البائع أنه ليس بعيب، فمناط ردِّ المبيع أو إنقاص الثمن هو: العيب، وتحقيق مناط العيب الذي يخفى على عامة الناس في سلعةٍ ما لايتمُّ إلا بالرجوع إلى قول أهل الخبرة من التُّجَّار وأرباب الصنائع في ذلك (¬5)، ولهذا ومثلِه اُعتبِر قول أهل الخبرة من مسالك تحقيق المناط. ¬

(¬1) التعريفات للجرجاني (97)، التوقيف على مهمات التعاريف (306). (¬2) كتقويم المتلفات، وتقدير أروش الجنايات، وخرص الثمار في الزكاة، وكون المبيع معلوماً أو غير معلوم ونحو ذلك. ينظر: المستصفى (3/ 485 - 486)، مجموع الفتاوى لابن تيمية (29/ 492 - 493)، الموافقات ... (5/ 14 - 16). (¬3) هو: أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، شمس الدين، عالِمٌ أصولي، من فقهاء الحنفية وأئمتهم، من مؤلفاته: المبسوط (ط)، وأصول الفقه (ط) يُعرف بأصول السرخسي، توفي في فرغانة سنة (483 هـ). ينظر في ترجمته: الجواهر المضيئة (3/ 78)، الفوائد البهية (158)، الأعلام للزركلي (5/ 315). (¬4) المبسوط: (13/ 110). (¬5) ينظر: المغني لابن قدامة (6/ 235)، المجموع للنووي (11/ 547 - 548)، الذخيرة (5/ 82)، شرح فتح القدير لابن الهمام (6/ 354).

والأصل في اعتبار قول أهل الخبرة فيما يخفى على غيرهم حديثُ عائشة رضي الله عنها في شأن زيد بن حارثة وابنه أسامة (¬1) رضي الله عنهما، قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسرورٌ تبرق أسارير وجهه، فقال: أي عائشة، ألم تري أن مجززاً المدلجي دخل فرأى أسامة وزيداً وعليهم قطيفة، وقد غطيا رؤوسهما، وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض" (¬2). فالحديث يدلُّ على اعتبار رسول الله صلى الله عليه وسلم قولَ القائف، وبناء الأحكام عليه في المسائل التي تدخل فيها القيافة؛ لسروره صلى الله عليه وسلم بما قاله القائف، وإقراره على ذلك، وهو اعتبارٌ لقول أهل الخبرة فيما يختصُّون بمعرفته، ويتوقف بيان حكمه الشرعي على العلم به من جهتهم (¬3). وقد اعتنى الفقهاء بتقرير هذا الأصل، واعتمدوا عليه في مسائل لا تُعَدُّ كثرةً، وهي منتشرةٌ في كافَّة أبواب الفقه، بل اعتبروا الخبرة شرطاً في الحُكْم على تلك الوقائع والجزئيات. قال ابن قدامة: " الخبرة بما يُحُكْم به شرطٌ في سائر الأحكام " (¬4). وكلُّ ما انفرد أهل الخبرة فيه بالعلم به وجب على الفقهاء الرجوع إليهم فيه والاعتبار بقولهم، ثم ترتيب الحُكْم الشرعي على ما تقرَّر عندهم فيه؛ ولا يؤخذ العلم بحقيقة الشيء من غير أهل الخبرة فيه، وإن كان من أعلم الناس بالحلال والحرام. قال ابن تيمية: " .. وكون المبيع معلوماً أو غير معلومٍ لا يؤخذ عن الفقهاء بخصوصهم، بل يؤخذ عن أهل الخبرة بذلك الشيء، وإنَّما المأخوذ عنهم ما انفردوا به من معرفة الأحكام بأدلتها .... فإذا قال أهل الخبرة: إنهم ¬

(¬1) هو: أسامة بن زيد بن حارثة الكناني، صحابي جليل، نشأ على الإسلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حباً جماً، أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم على الجيش قبل أن يبلغ العشرين من عمره، توفى بالجرف في آخر خلافة معاوية رضي الله عنه سنة (54 هـ). ينظر في ترجمته: طبقات ابن سعد (4/ 61)، الإصابة (1/ 202)، الأعلام للزركلي (1/ 291) (¬2) أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب الفرائض، باب القائف، برقم (6771)، وأخرجه مسلم في "صحيحه"، كتاب الرضاع، باب العمل بإلحاق القائف الولد، رقم (1459). (¬3) ينظر: الذخيرة للقرافي (10/ 241 - 245)، المغني لابن قدامة (8/ 371 - 374)، مغني المحتاج للشربيني (4/ 646 - 647) فتح الباري لابن حجر (12 - 56 - 57)، شرح صحيح مسلم للنووي (10/ 41). (¬4) المغني: (5/ 405).

يعلمون ذلك كان المرجع إليهم في ذلك، دون من لم يشاركهم في ذلك، وإن كان أعلم بالدِّين منهم .. ، ثم يترتَّب الحُكْم الشرعي على ما تَعْلَمُه أهلُ الخبرة .. " (¬1). وقال ابن القيم: " وقول القائل: هذا غررٌ، ومجهولٌ، فهذا ليس حظُّ الفقيه ولا هو من شأنه، وإنما هذا من شأن أهل الخبرة بذلك، فإن عَدُّوه قِماراً أو غرراً فهم أعلم بذلك، وإنَّما حظُّ الفقيه: يَحِلُّ كذا؛ لأن الله أباحه، ويحرم كذا؛ لأن الله حرَّمه، وقال الله، وقال رسوله، وقال الصحابة، وأما أن يرى هذا خطراً وقِماراً، أو غرراً، فليس من شأنه، بل أربابه أخبر بهذا منه، والمرجع إليهم فيه، كما يُرْجَعُ إليهم في كون هذا الوصف عيباً أم لا، وكون هذا البيع مُرْبِحَاً أم لا، وكون هذه السلعة نافقةً في وقت كذا وبلد كذا، ونحو ذلك من الأوصاف الحِسِّية والأمور العرضية، فالفقهاء بالنسبة إليهم فيها مثلهم بالنسبة إلى ما في الأحكام الشرعيَّة " (¬2). واعتداد الفقهاء بقول أهل الخبرة في تحقيق مناط حُكْمٍ ما فيما انفرد أهل الخبرة بالعلم به يُعْتَبر من صور التقليد الذي يُرخَّص للمجتهد فيه استثناءاً؛ لعدم قدرة المجتهد على الإحاطة بكلِّ العلوم والمعارف، وقد جرى بذلك عمل الفقهاء والقضاة في كلِّ زمانٍ ومكانٍ بلا نكير (¬3). قال الشاطبي: " العلماء لم يزالوا يقلِّدون في هذه الأمور من ليس من الفقهاء، وإنما اعتبروا أهل المعرفة بما قلَّدوا فيه خاصة، وهو التقليد في تحقيق المناط " (¬4). ومن ذلك: تقليد الصانع في عيوب الصناعات، والطبيب في العلم بالأدواء والعيوب، وعرفاء الأسواق في معرفة قِيَم السلع ومداخل العيوب ¬

(¬1) مجموع الفتاوى: (29/ 492 - 493). (¬2) إعلام الموقعين: (4/ 4 - 5). (¬3) ينظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي (339 - 340)، الموافقات (5/ 46 - 47). (¬4) الموافقات: (5/ 130).

المسلك الخامس: البينات الشرعية.

فيها، والعادِّ في صحة القسمة، والماسح في تقدير الأرضين ونحوها (¬1). وبهذا يتبيّن أن الرجوع إلى قول أهل الخبرة يُعْتَبر من أهمِّ المسالك في تحقيق مناطات الأحكام في الوقائع والجزئيات التي لا يُدرِكُ ثبوت المناط فيها إلا من كان خبيراً بها. المسلك الخامس: البيِّنات الشرعيَّةً. وهو: أن تدلَّ البيِّنَةُ الشرعيَّة على تحقُّق مناط الحُكْم في بعض أفراده. والبيِّنة لغةً: الدليل والحُجَّة، من أَبَاَن الشيء، أي: أوضحه وأظهره، وجمعها: بيِّنات (¬2). أمَّا في الاصطلاح فالبيِّنة: " اسمٌ لكلِّ ما يبيِّن الحقَّ ويظهره " (¬3)، فكلُّ دليلٍ أو حُجَّةٍ أو وسيلةٍ يتبيَّن بها الحقُّ ويظهر وليس لها معارضٌ أرجح منها فهي بيِّنةٌ في الشرع يعتمد عليها القاضي في إثبات الحقوق والوقائع التي تترتَّب عليها آثارٌ شرعيَّة (¬4). ومن أهمِّ البيِّنات: الشهادة، والإقرار، واليمين، والكتابة، والقرائن. وذلك لأنَّ الشارع في جميع المواضع إنما يقصد ظهور الحق بما يمكن ظهوره به من البيِّنات التي هي أدلةٌ عليه وشواهدٌ له، ولا يقف ظهور الحقِّ على أمرٍ معيَّنٍ لا فائدة في تخصيصه به مع مساواة غيره في ظهور الحقِّ أو رجحانه عليه ترجيحاً لا يمكن جحده ودفعه (¬5). وبناءً على هذا فإن من خصَّ - من الفقهاء - البيِّنة بالشهود (¬6)، أو ¬

(¬1) ينظر: الموافقات (5/ 128 - 129). (¬2) ينظر: معجم مقاييس اللغة (1/ 327)، لسان العرب (13/ 79)، " مادة: ب ي ن ". (¬3) الطرق الحكمية لابن القيم: (25). (¬4) ينظر: إعلام الموقعين (2/ 168 - 171)، الطرق الحكمية لابن القيم (192 - 193)، معين الحكام للطرابلسي (68)، تبصرة الحكام لابن فرحون (1/ 240)، ظفر اللاظي لصديق حسن خان (96). (¬5) ينظر: إعلام الموقعين (2/ 171). (¬6) ينظر: بدائع الصنائع (6/ 225)، منح الجليل على مختصر خليل (4/ 174)، مغني المحتاج للشربيني (4/ 461)، شرح منتهى الإرادات (6/ 525 - 526).

الشهود وعلم القاضي (¬1)، فقد اقتصر على بعض أفراد البيِّنة. قال ابن القيم: "ومَنْ خصَّها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد لم يوفِّ مسمَّاها حقَّه، ولم تأت البيِّنة قطُّ في القرآن مراداً بها الشاهدان، وإنما أتت مراداً بها الحُجَّة والدليل والبرهان مفردةً ومجموعة، وكذلك قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "البيِّنة على المدَّعِي" (¬2) المراد به: أنَّ عليه بيانَ ما يصحِّح دعواه ليُحُكْم له، والشاهدان من البيِّنة، ولا ريب أنَّ غيرها من أنواع البيِّنة قد يكون أقوى منها، كدلالة الحال على صدق المدَّعِي، فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد، والبيِّنة والدلالة والحُجَّة والبرهان والآية والتبصرة والعلامة والأمارة متقاربةٌ في المعنى" (¬3). وتعتبر البيِّنات -بهذا المعنى- من أهم مسالك تحقيق مناطات الأحكام في الوقائع والجزئيات؛ لأنها مستند الأحكام القضائية، وهي من جنس أدلة وقوع الأحكام كما تقدَّم (¬4)، إلا أنها تختصُّ بالقضاة -غالباً- والحكَّام، وتُسَمَّى: "الحِجَاج" أو "طرق القضاء" (¬5). وكلُّ بيِّنةٍ من البيِّنات المُعْتَبرة شرعاً تُعَدُّ مسلكاً مستقلاً من مسالك تحقيق مناطات الأحكام في الوقائع القضائية، وفيما يأتي بيان ذلك مقتصراً على ماله صلةٌ مباشرةٌ بموضوع البحث دون الاستطراد في ذكر تفصيلاتٍ تتعلَّق بأحكام تلك البيِّنات ليس هذا موضع بحثها. أولاً: الشهادة. وهي في اللغة: مصدرٌ مشتقٌ من "شهد"، "يشهد"، "شهادة"، وتطلق في اللغة على عدة معانٍ، منها: الحضور، والخبر القاطع، والإطلاع على الشيء ¬

(¬1) ينظر: المحلى لابن حزم (9/ 370). (¬2) أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " (10/ 252)، وصححه الألباني في " إرواء الغليل " (8/ 266). (¬3) الطرق الحكمية: (11). (¬4) ينظر: (259 - 260). (¬5) ينظر: أنوار البروق في أنواع الفروق للقرافي (2/ 252).

ومعاينته، ومُطْلَق الإخبار بما قد رأى (¬1). أمَّا في اصطلاح الفقهاء فالشهادة: إخبارٌ بحقٍّ للغير على الغير في مجلس القضاء بلفظ أشهد (¬2). فإذا شَهِد عَدْلٌ، أو أثنان، أو أربعةٌ، أو رجلٌ وامرأتان، أو نسوةٌ -بحسب اختلاف المشهود عليه- على ثبوت حقٍّ للغير على الغير، أو ثبوت واقعةٍ تترتب عليها آثارٌ شرعيَّة، فقد تحقَّق مناط الحُكْم فيما شُهِد عليه ما لم يعارضه ما هو أرجح منه. ومن أصْرح الأدلة على ذلك: ما جاء عن الأشعث بن قيس (¬3) رضي الله عنه أنه قال: "كانت بيني وبين رجُلٍ خصومةٌ في بئرٍ، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه" (¬4). فالحديث صريح الدلالة على اعتبار الشهادة حُجَّةً يتحقَّقُ بها مناط الحُكْم في المشهود عليه، وبها يُقْطَعُ النزاع بين المدَّعِي والمدَّعَى عليه، فدلَّ ذلك على أن الشهادة تُعْتَبَرُ مسلكاً من مسالك تحقيق مناطات الأحكام في الوقائع القضائية. ومثال ذلك: أن يشهد اثنان ذوا عدلٍ على أن فلانَّا ابتاع من فلانٍ داراً بمبلغٍ قدره كذا إلى أجلٍ مُسمَّى، فيثبت حينئذٍ مناط وجوب أداء ذلك الدَّين في حقٍّ المديون عند حلول ذلك الأجل؛ لأنَّ الشهادة تُعْتَبَرُ مسلكاً من مسالك ثبوت مناطات الأحكام في الوقائع والجزئيات، فثبت بها مناط ذلك الحُكْم في تلك الواقعة. ¬

(¬1) ينظر: مقاييس اللغة (3/ 221)، لسان العرب (7/ 223)، تاج العروس (8/ 252)، "مادة: ش هـ د". (¬2) ينظر في تعريف الشهادة عند الفقهاء: فتح القدير لابن الهمام (7/ 364)، مواهب الجليل شرح مختصر خليل (6/ 151)، نهاية المحتاج للرملي (8/ 292)، شرح منتهى الإرادات (6/ 635). (¬3) هو: الأشعث بن قيس بن معدي كرب الكندي، أحد بني الحارث بن معاوية، ويكنى أبا محمد، صحابي جليل، سُمِّي الأشعث لشعوته رأسه، وغلب عليه هذا الاسم حتى عرف به، وكان شريفاً مطاعاً في قومه جواداً شجاعاً، توفي سنة (40 هـ). ينظر في ترجمته: طبقات ابن سعد (6/ 22)، الإصابة (1/ 239)، الإعلام للزركلي (1/ 332). (¬4) أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب الشهادات، باب اليمين على المُدَّعى عليه، رقم (2670)، وأخرجه مسلم في " صحيحه "، كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حقَّ مسلمٍ بيمينٍ فاجرةٍ بالنار، رقم (221).

ثانياً: الإقرار. وهو في اللغة: الإذعان للحق والاعتراف به، مِنْ أقرَّ بالشيء: إذا اعترف به (¬1). وفي اصطلاح الفقهاء: إخبارٌ عن ثبوت حقٍّ للغير على نفسه (¬2). فإذا أقرَّ المُدَّعَى عليه - إقراراً صحيحاً - بثبوت حقٍّ للغير على نفسه، أو ثبوت واقعةٍ تترتَّب عليها آثارٌ شرعيَّة، فقد تحقَّق مناط الحُكْم فيما أقرَّ به. ومن أوضح الأدلة على ذلك: ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه ... وزيد بن خالد الجهني (¬3) أنَّ رجلاً من الأعراب أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الآخر وهو أفقه منه: فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي، فقال: قل، قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، وإني أُخْبِرْتُ أنَّ على ابني الرجم، فافتديت منه بمائةٍ شاةٍ ووليدة، فسألتُ أهلَ العلم فأخبروني أنَّ على ابني جلد مائةٍ وتغريب عام، وأنَّ على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضينَّ بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم ردّ عليك، وعلى ابنك جلد مائةٍ وتغريب عام، واغدُ يا أُنيسِ إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " (¬4). فالحديث صريح الدلالة على اعتبار الإقرار حُجَّةً يتحقَّق بها مناط الحُكْم فيما أُقِرَّ به، وبهذه الحُجَّة ينحسم النزاع بين المدَّعِي والمدَّعَى عليه، فدلَّ ذلك على أن الإقرار يُعْتَبر مسلكاً من مسالك تحقيق مناطات الأحكام في الوقائع القضائية. ومثال ذلك: أن يُقِرَّ المُدَّعَى عليه إقراراً مستوفياً لشروطه بأنه قذف مسلمةً محصَّنةً بالزنا، فيثبت حينئذٍ مناط وجوب إقامة الحدِّ عليه بذلك، لأنَّ ¬

(¬1) ينظر: الصحاح (2/ 790)، لسان العرب (5/ 88)، تاج العروس (13/ 395 - 396) " مادة: ق رر ". (¬2) ينظر: فتح القدير (8/ 332)، الذخيرة (9/ 258)، مغني المحتاج (2/ 308)، شرح منتهى الإرادات (6/ 717). (¬3) هو: زيد بن خالد الجهني المدني، صحابي شهد الحديبية، وكان معه لواء جهينة يوم الفتح، له (81) حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي بالمدينة سنة (78 هـ). ينظر في ترجمته: طبقات ابن سعد (4/ 344)، الإصابة (2/ 499)، الإعلام للزركلي (3/ 58). (¬4) ينظر: أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب الحدود، باب الاعتراف بالزنا، رقم (6828)، وأخرجه مسلم في " صحيحه "، كتاب الحدود، باب من اعترف بالزنا على نفسه، رقم (1698).

الإقرار يُعْتَبر مسلكاً من مسالك ثبوت مناطات الأحكام في الوقائع والجزئيات، فثبت به مناط ذلك الحُكْم في تلك الواقعة. ثالثاً: اليمين. وهي في اللغة: الحَلِف والقَسَم، سُمِّي بذلك لأنَّهم كانوا إذا تحالفوا ضرب كلُّ امرئٍ منهم بيمينه على يمين صاحبه (¬1). وفي اصطلاح الفقهاء: إثبات أمرٍ أو نفيه بذكر اسم الله تعالى أو صفةٍ من صفاته (¬2). والأصل في اعتبار اليمين من طرق الإثبات في حق المُدَّعَى عليه إذا عجز المُدَّعِي عن إقامة البيِّنة قوله صلى الله عليه وسلم: " لو يُعْطَى الناس بدعواهم لادَّعى ناسٌ دماءَ رجالٍ وأموالَهم، ولكن اليمين على المدَّعَى عليه " (¬3)، وفي رواية: " ولكن البيَّنة على المدَّعِي واليمين على من أنكر " (¬4). فالحديث صريح الدلالة على اعتبار اليمين حُجَّةً يتحقَّق بها مناط الحُكْم في المحلوف عيه إذا عجز المدَّعِي عن إقامة البيِّنة؛ لأنَّ الأصل براءة ذمة المُدَّعَى عليه، فدلَّ ذلك على أن اليمين في مثل هذه الحالة تُعْتَبَرُ مسلكاً من مسالك تحقيق مناطات الأحكام في الوقائع القضائية. ومثال ذلك: أن يدَّعِي شخصٌ على آخر بأنه أقرضه مبلغاً قدره كذا، ولم يكن للمدَّعِي بيِّنةٌ على ذلك، فيوجّه القاضي اليمين على المُدَّعى عليه، فيحلف بالله أو اسمٍ من أسمائه أو صفةٍ من صفاته على أنه لم يقترض من المُدَّعِي مالاً، فيثبت حينئذٍ مناط براءة الذمَّة في حقِّ المُدَّعى عليه؛ لأنَّ اليمين في مثل ¬

(¬1) ينظر: الصحاح (6/ 2221)، لسان العرب (13/ 462)، تاج العروس (36/ 305)، مادة: " ي م ن ". (¬2) ينظر في تعريف اليمين عند الفقهاء: فتح القدير (5/ 54)، جواهر الإكليل شرح مختصر خليل (1/ 224 - 225)، مغني المحتاج (4/ 430)، شرح منتهى الإرادات (6/ 367). (¬3) أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب التفسير، باب {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم}، رقم (4552)، وأخرجه مسلم في " صحيحه "، كتاب الأقضية، باب اليمين على المُدَّعى عليه، رقم (1711) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬4) أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " (10/ 252)، وصححه الألباني في " إرواء الغليل " (8/ 266).

هذه الحالة تُعْتَبَرُ من مسالك ثبوت مناطات الأحكام في الوقائع والجزئيات، فيثبت بها مناط ذلك الحُكْم في تلك الواقعة. رابعاً: المستندات الخَطِّيَّة. وهي: الوثائق المكتوبة التي يعتمد عليها القاضي في إثبات حقٍّ أو نفيه (¬1). وتشمل: الوثائق الصادرة عن الجهات الرسمية كالصكوك وشهادات الميلاد والوفاة والنِّكاح والطلاق، والوثائق العُرْفِية التي وقَّع عليها الملتزم أو ختم عليها أو بصم بإصبعه ولم يثبت تزويرها، والأوراق التِّجارية والسندات المالية إذا ثبت الإقرار بها أو التوقيع عليها مع انتفاء شبهة التزوير (¬2). وتُعْتَبَرُ هذه المستندات من أهمِّ طرق الإثبات في عصرنا الحاضر؛ لاتساع الاعتماد عليها والعمل بها في شتى مجالات الحياة (¬3). فإذا قدَّم المُدَّعِي للقاضي مستنداً خطِّيَّاً صحيحاً يثبت حقَّاً له على الغير، أو واقعةً تترتَّب عليها آثارٌ شرعيَّة، فقد تحقَّق مناط الحُكْم فيما تضمنه ذلك المستند ما لم يثبت تزويره أو يعارضه ما هو أرجح منه كالشهادة والإقرار، والأصل في ذلك: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} [البقرة: 282]. قال ابن العربي: " يريد: يكون صكَّاً ليُسْتَذْكَرَ به عند أَجَلِه لما يتوقع من الغفلة في المُدَّة التي بين المعاملة وبين حلول الأجل، والنسيان موكلٌّ بالإنسان، والشيطان ربَّما حمل على الإنكار، والعوارض من موتٍ وغيره تطرأ فشُرِعَ الكتاب والإشهاد .. " (¬4). ¬

(¬1) ينظر: وسائل الإثبات للزحيلي (479)، توثيق الديون في الفقه الإسلامي للهليل (345). (¬2) ينظر: وسائل الإثبات للزحيلي (479 - 482)، توثيق الديون في الفقه الإسلامي للهليل (346 - 368). (¬3) ينظر: وسائل الإثبات للزحيلي (480 - 481) (¬4) أحكام القرآن: (1/ 328).

فالآية صريحةٌ في الأمر بكتابة الدَّيْن باعتبار أنها المستند الذي يُثبِت بها صاحبُ الحقِّ حقَّه، ويتحقَّق بها - حينئذٍ - مناط الحُكْم في المتنازع فيه ما لم يَثبُت تزويرها أو يعارضها ما هو أرجح منها. وعلى القاضي أن يتوثَّق من صحة المستندات الخطِّيَّة والتوقيعات التي عليها، وكلّما سلمت تلك المستندات من شبهة التزوير كانت أقوى في الإثبات. ومثال ذلك: أن يعتدي شخصٌ على أرضٍ لآخر ويضع يدَه عليها، فيتقدَّم صاحبُ الأرض بدعوى يثبت فيها ملكيته لتلك الأرض بصكٍّ صادرٍ عن المحكمة، فيحكم القاضي بثبوت ملكيته لتلك للأرض، واعتداء الشخص الآخر عليها؛ لأنَّ الصكَّ - وهو مستندٌ خطِّي - يُعْتَبر من مسالك ثبوت مناطات الأحكام في الوقائع والجزئيات، فيثبت به مناط ملكية - ذلك العقار لصاحبه. خامساً: القرائن. وهي في اللغة: جمع قرينة، وهي الأمر الدال على الشيء بمجرَّد المصاحبة (¬1). وفي اصطلاح الفقهاء: تُطْلَقُ القرينة على الأمارة، وهي: ما يلزم من العلم به الظنُّ بوجود المدلول، كالغيم بالنسبة إلى المطر، فإنه يلزم من العلم به الظنُّ بوجود المطر (¬2). والمراد بـ " القرائن " في طرق الإثبات القضائية: الأمارات التي يستدل بها القاضي على إثبات شيءٍ أو نفيه (¬3). كما إذا رأى قتيلاً يتشحَّط في دمه، وآخرَ قائماً على رأسه بالسكين، وقد ثبتت بينهما عداوة، فإنَّ هذه أمارةٌ يُسْتَدَلُّ بها على إثبات القتل ووجوب ¬

(¬1) ينظر: الصحاح (5/ 2181)، لسان العرب (13/ 336)، تاج العروس (35/ 543)، مادة: "ق ر ن ". (¬2) ينظر: التعريفات للجرجاني (37)، كشاف اصطلاحات الفنون (1/ 259). (¬3) ينظر: الإثبات بالقرائن في الفقه الإسلامي (62 - 63) وسائل الإثبات للزحيلي (488 - 489).

القصاص ما لم يثبت غير ذلك لمعارِضٍ أرجح كالشهادة ونحوها (¬1). وتُعْتَبَرُ القرائن من طرق إثبات الحقوق ما لم يعارضها ما هو أرجح منها، وذلك باستقراء مصادر الشرع وموارده. وقد ذهب إلى ذلك: ابن تيمية (¬2)، وابن القيم (¬3)، وابن فرحون (¬4)، ... وابن عابدين (¬5). قال ابن القيم: " فالشارع لم يُلْغِ القرائن والأمارات ودلالات الأحوال، بل من استقرأ الشرع في مصادره وموارده وَجَدَ شاهداً لها بالاعتبار مُرَتِّباً عليها الأحكام" (¬6). ومِمَّا ورد عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في اعتبار العمل بالقرائن ما جاء عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أن غلامين من الأنصار تداعيا قتلَ ... أبي جهل (¬7) يوم بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل مسحتما سيفيكما؟ فقالا: لا، فقال: أرياني سيفيكما، فلما نظر إليهما قال: " هذا قتله وقضى له بسلبه" (¬8). فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم قضى بينهما بالسَّلَبِ اعتماداً على أثر الدَّم على السيف، وأثر الدَّم قرينةٌ من القرائن، وهذا يدل على مشروعية القضاء بالقرائن. وذلك لأنَّ من أعظم مقاصد الشرع تحقيق العدل وقيام الناس بالقسط " فإنَّ الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل ¬

(¬1) ينظر: الطرق الحكمية لابن القيم (6)، تبصرة الحكام لابن فرحون (1/ 392)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام (2/ 431). (¬2) ينظر: مجموع الفتاوى (35/ 392). (¬3) ينظر: إعلام الموقعين (2/ 171)، الطرق الحكمية (11). (¬4) ينظر: تبصرة الحكام لابن فرحون (1/ 202). (¬5) ينظر: حاشية ابن عابدين (5/ 354). (¬6) الطرق الحكمية: (12). (¬7) هو: عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي الكناني، كان سيداً من سادات قريش، وكان من أشد الناس عداوةً للنبي صلى الله عليه وسلم، كناه الوليد بن المغيرة وقيل النبي صلى الله عليه وسلم بأبي جهل بعد أن كانت كنيته أبو الحكم، قتل في معركة بدر سنة (2 هـ). ينظر في ترجمته: السيرة النبوية لابن هشام (1/ 710)، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 120)، الأعلام للزركلي (5/ 87). (¬8) أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب فرض الخُمسُ، باب من لم يخمِّس الأسلاب ومن قتل قتيلاً فله سلبه من غير ان يخمس وحكم الإمام فيه، رقم (3141)، وأخرجه مسلم في " صحيحه "، كتاب الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل، رقم (1752)، والغلامان هما: معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء رضي الله عنهما.

الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريقٍ كان، فثمَّ شرعُ الله ودِينُه، والله سبحانه أعلمُ وأحكمُ وأعدلُ من أن يخُصَّ طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيءٍ، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالةً وأبيَنُ أمارة، فلا يجعلها منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بيَّن الله سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريقٍ استخرج بها العدل والقسط فهي من الدِّين ليست مخالِفةً له" (¬1). وإن الاقتصار في إثبات الحقوق على الشهادة والإقرار واليمين والكتابة، وإهدار الحُكْم بالقرائن القوية التي لم يعارضها ما هو أرجح منها، يؤدي إلى إضاعة كثيرٍ من الحقوق، وتعطيل كثيرٍ من الأحكام. قال ابن القيم: " فالحاكم إذا لم يكن فقيه النَّفْسِ في الأمارات ودلائل الحال ومعرفة شواهده، وفي القرائن الحالية والمقالية، كفقهه في جزئيات وكليَّات الأحكام أضاع حقوقاً كثيرةً على أصحابها، وحكَمَ بما يعلم الناسُ بطلانَه لا يشكَّون فيه، اعتماداً منه على نوعٍ ظاهرٍ لم يلتفت إلى باطنه وقرائن أحواله " (¬2). والقرائن تختلف في دلالتها قوةً وضعفاً بحسب قوة الاحتمالات الداخلة عليها وضعفها، فكلَّما سلمت القرينة من الاحتمالات القوية الواردة عليها كانت أقوى في دلالتها وترتيب الحُكْم عليها (¬3). والضابط في القرائن المُعْتَبرة: كلُّ قرينةٍ تفيد ظناً قويَّاً راجحاً لا معارِض له أقوى منه (¬4). وذلك جرياً على قاعدة: الظنُّ الرَّاجح يقوم مقام العلم عند تعذُّره كما تقدَّم (¬5). ¬

(¬1) الطرق الحكيمة لابن القيم: (13). (¬2) المرجع السابق: (4). (¬3) ينظر: الإثبات بالقرائن في الفقه الإسلامي (65 - 70)، وسائل الإثبات للزحيلي (493 - 495). (¬4) ينظر: الإثبات بالقرائن في الفقه الإسلامي (70)، وسائل الإثبات للزحيلي (490). (¬5) ينظر: (213).

المسلك السادس: الحساب والعدد.

ومن الأمثلة المعاصرة للقرائن المُعْتَبرة: بصمات الأصابع، والتحاليل المخبرية، والبصمة الوراثية، والتشريح الجنائي، ونحو ذلك (¬1). وبناءً على ما تقدم فإنَّه إذا دلَّت القرائن الصحيحة عند القاضي على ثبوت حقٍّ أو واقعةٍ تترتَّب عليها أثارٌ شرعيَّة، فقد تحقَّق مناط الحُكْم فيما دلَّت عليه تلك القرائن ما لم يعارضها ما هو أقوى منها كالشهادة والإقرار ونحوهما. المسلك السادس: الحساب والعدد. وهو: أن يدلَّ الحساب أو العدد على ثبوت مناط الحُكْم في بعض أفراده. ومثاله: أن مناط وجوب صلاة الظهر هو الزوال، لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 76]، وقوله صلى الله عليه وسلم: " ووقت الظهر إذا زالت الشمس " (¬2)، وهذا المناط يتحقَّق بطرقٍ عِدَّة، منها: الحساب الفلكي الذي يدرس حركة الشمس الظاهرية، ومن خلال معادلاتٍ رياضية وحساباتٍ فلكيةٍ دقيقةٍ يمكن معرفة مدار الشمس بدَّقةٍ عالية، وحساب موقعها في أي تاريخٍ ووقت، وكذلك أوقات شروقها وغروبها وزوالها، وبناءً على ذلك يتمُّ تحديد أوقات الصلوات في بلدان مختلفةٍ كما هو في التقاويم العالمية الإسلامية (¬3). فإذا ثبت بالحساب الفلكي أن وقت الزوال في بلدٍ ما هو الساعة الثانية عشرة ونصف - مثلاً - فإن مناط وجوب صلاة الظهر على أهل ذلك البلد يتحقق بحلول ذلك الوقت، وبهذا يكون الحساب مسلكاً من مسالك ثبوت مناطات الأحكام في بعض أفرادها. ¬

(¬1) ينظر: دور الأثر المادي في الإثبات الجنائي (44 - 53) خريطة الجينوم البشري والإثبات الجنائي ... (119 - 130). (¬2) أخرجه مسلم في " صحيحه "، كتاب المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس، رقم (612) من حديث عبدالله بن عمرو الأنصاري. (¬3) ينظر: علم الفلك والتقاويم للطائي (232 - 250)، تعيين مواقيت الصلاة في أي زمانٍ ومكانٍ على سطح الأرض، مجلة البحوث الإسلامية (3/ 319 وما بعدها).

قال القرافي: " الله تعالى نصب زوالَ الشمس سببَ وجوب الظهر، وكذلك بقيَّة الأوقات، لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 76] أي: لأجله، وكذلك قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)} [الروم: 17 - 18] قال المفسرون: هذا خبرٌ معناه الأمر بالصلوات الخمس في هذه الأوقات، حين تمسون: المغرب والعشاء، وحين تصبحون: الصبح، وعشيَّاً: العصر، وحين تُظْهِرُون: الظهر، والصلاة تُسمَّى سبحة، ومنه سبحة الضحى، أي صلاتها، فالآية أمرٌ بإيقاع هذه الصلوات في هذه الأوقات، وغير ذلك من الكتاب والسُّنَّة الدَّال على أن نفس الوقت سبب، فمن علم السبب بأي طريقٍ كان لزمه حكمُه، فلذلك اعْتُبِرَ الحسابُ المفيدُ للقطع في أوقات الصلاة .. " (¬1). وهذا مبنيٌّ على أنَّ الله أودع في هذا الكون سُنَنَاً وقوانينَ ثابتةً لا تتغيَّر ولا تتبدَّل بإذن الله تعالى، ومن ذلك حركة الشمس والقمر والأفلاك. قال القرافي: " الله تعالى أجرى عادته بأن حركات الأفلاك، وانتقالات الكواكب السبعة السيَّارة على نظامٍ واحدٍ طول الدهر بتقدير العزيز العليم، قال الله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)} [يس: 39] وقال تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)} [الرحمن: 5] أي: هما ذوا حساب، فلا ينخرم ذلك أبداً، وكذلك الفصول الأربعة لا ينخرم حسابها، والعوائد إذا استمرت أفادت القطع، كما أنَّا إذا رأينا شيخاً نجزم بأنه لم يولد كذلك بل طفلاً؛ لأجل عادة الله تعالى بذلك، وإلا فالعقل يُجِّوز ولادته كذلك، والقطع الحاصل فيه إنَّما هو لأجل العادة، وإذا حصل القطع بالحساب ينبغي أن يُعْتَمد عليه كأوقات الصلاة ... " (¬2). ¬

(¬1) أنوار البروق في أنواء الفروق: (2/ 179) في الفرق الثاني والمائة. (¬2) المرجع السابق: (2/ 178 - 179) في الفرق الثاني والمائة.

الباب الرابع علاقة الاجتهاد في المناط بالأدلة الشرعية

الباب الرابع علاقة الاجتهاد في المناط بالأدلة الشرعيَّة ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: علاقة الاجتهاد في المناط بالأدلة المتفق عليها. الفصل الثاني: علاقة الاجتهاد في المناط بالأدلة المختلف فيها.

الفصل الأول علاقة الاجتهاد في المناط بالأدلة المتفق عليها

الفصل الأول علاقة الاجتهاد في المناط بالأدلة المتفق عليها ويشتمل على أربعة مباحث المبحث الأول: علاقة الاجتهاد في المناط بالكتاب. المبحث الثاني: علاقة الاجتهاد في المناط بالسُّنَّة. المبحث الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بالإجماع. المبحث الرابع: علاقة الاجتهاد في المناط بالقياس.

المبحث الأول علاقة الاجتهاد في المناط بالكتاب

المبحث الأول علاقة الاجتهاد في المناط بالكتاب سأتناول في هذا المبحث بيان علاقة الاجتهاد في المناط بالكتاب، وذلك من خلال ثلاثة مطالب، وهي على النحو الآتي: المطلب الأول: تعريف الكتاب لغةً واصطلاحاً. الكتاب لغةً: مصدر من كَتَبَه كَتْباً وكَتْبَةً وكتابةً بمعنى الجمع والضمّ (¬1). قال ابن فارس: " الكاف والتاء والباء أصلٌ صحيحٌ واحدٌ يدلُّ على جمع الشيء إلى شيء " (¬2). وكَتَبَهُ: خَطَّهُ، ومعناه: جَمَعَ الحروف إلى بعضها، ومنه: تَكَتَّبَ بنو فلانٍ إذا اجتمعوا (¬3). والكتاب: اسم جنسٍ يُطْلَق على كتابةٍ ومكتوب، ثم غلب في عُرْف أهل الشرع إطلاقه على القرآن المُثْبَت في المصاحف (¬4). وأما تعريف الكتاب اصطلاحاً فهو: كلام الله تعالى المُنَزَّل على ¬

(¬1) ينظر: الصحاح (1/ 208)، لسان العرب (1/ 698 - 699)، تاج العروس (4/ 101 - 102) "مادة: ك ت ب ". (¬2) معجم مقاييس اللغة: (5/ 158) " مادة: ك ت ب ". (¬3) ينظر: المراجع السابقة. (¬4) شرح المحلي على جمع الجوامع (1/ 223)، شرح الكوكب المنير (2/ 7)، إجابة السائل شرح بغية الآمل (1/ 63)، إرشاد الفحول (1/ 169) حاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع (1/ 223).

المطلب الثاني: حجية الكتاب.

محمدٍ صلى الله عليه وسلم، المنقول إلينا بالتواتر، المُعْجِز بنفسه، المُتَعَبَّد بتلاوته، المبدوء بسورة الفاتحة، المُخْتَتَم بسورة الناس (¬1). المطلب الثاني: حُجِّيَّة الكتاب. دليل الكتاب حُجَّةٌ مُتَفَقٌ عليها عند المسلمين كافّة، والأدلة على ذلك قطعية، ولهذا توجَّه اعتناء الأصوليين إلى البحث في دلالته على الحُكْم لا في حُجِّيته أو ثبوته؛ لأنه لا أحد من المسلمين ينكر ذلك، ومن أنكره فقد كفر بما أنزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم (¬2). قال الشاطبي: " إن الكتاب قد تقرر أنه كليّة الشريعة، وعمدة المِلَّة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيءٍ يخالفه، وهذا كُلُّه لا يحتاج إلى تقريرٍ واستدلالٍ عليه؛ لأنه معلومٌ من دين الأُمَّة " (¬3). المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بالكتاب. تظهر علاقة الاجتهاد في المناط بالكتاب في جوانب عديدةٍ من أهمها مايأتي: أولا: الكتاب هو المصدر الأول الذي يجب أن يفزع إليه المجتهد في سائر أنواع الاجتهاد بمافي ذلك الاجتهاد في المناط بأنواعه الثلاثة. ¬

(¬1) ينظر: المستصفى (2/ 9)، الإحكام للآمدي (1/ 215 - 216)، نهاية السول (2/ 3 - 4) البحر المحيط للزركشي (1/ 441 - 442)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 18)، شرح المحلي على جمع الجوامع (1/ 223 - 224) تيسير التحرير (3/ 3)، شرح الكوكب المنير (2/ 7 - 8)، فواتح الرحموت (2/ 9)، إرشاد الفحول (1/ 169). (¬2) ينظر: المستصفى (2/ 1)، الإحكام للآمدي (1/ 211 - 212)، شرح مختصر الروضة للطوفي (2/ 8)، البحر المحيط للزركشي (1/ 41)، مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/ 339)، التحبير شرح التحرير (3/ 1229)، شرح الكوكب المنير (2/ 5). (¬3) الموافقات: (4/ 144).

وذلك لأنه أصل الأدلة , وكلُّها ترجع إليه , فهي إما تابعةٌ له، أو متفرِّعةٌ عنه (¬1). قال أبوبكر الجصاص (¬2): " فما بيِّنه الرسولُ فهو عن الله عز وجل , وهو من تبيان الكتاب له؛ لأمر الله إيانا بطاعته , واتباع أمره , وما حصل عليه الإجماع فمصدره أيضاً عن الكتاب؛ لأن الكتاب قد دلَّ على صحة حُجِّيته الإجماع, وأنهم لا يجتمعون على ضلال , وما أوجبه القياس واجتهاد الرأي وسائر ضروب الاستدلال من الاستحسان وقبول خبر الواحد جميع ذلك من تبيان الكتاب؛ لأنه قد دلَّ على ذلك أجمع , فما من حُكْمٍ من أحكام الدِّين إلا وفي الكتاب تبيانه من الوجوه التي ذكرنا" (¬3). وقال الغزالي " إذا حقَّقنا النظر بان أن أصل الأحكام واحد، وهو قول الله تعالى؛ إذ قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس بحُكْمٍ ولا ملزم، بل هو مُخْبِرٌ عن الله تعالى أنه حَكَم بكذا وكذا , فالحُكْم لله تعالى وحده, والإجماع يدل على السُّنة، والسُّنَّة على حُكْم الله تعالى " (¬4). وقال الآمدي في سياق كلامه عن أنواع الأدلة: " وكلُّ واحدٍ من هذه الأنواع، فهو دليلٌ لظهور الحُكْم الشرعي عندنا به , والأصل فيها إنما هو الكتاب ; لأنه راجعٌ إلى قول الله تعالى المشرِّع للأحكام، والسُّنَّة مُخْبِرةٌ عن قوله تعالى وحُكْمِه، ومستندُ الإجماع فراجعٌ إليهما , وأما القياس والاستدلال فحاصله يرجع إلى التمسك بمعقول النصِّ أو الإجماع، فالنصُّ والإجماع أصل، والقياس والاستدلال فرعٌ تابعٌ لهما " (¬5). ¬

(¬1) ينظر: قواطع الأدلة (1/ 32) , شرح مختصر الروضة للطوفي (2/ 807)، الموافقات (4/ 182)، البحر المحيط للزركشي (1/ 441)، التجيير شرح التحرير (3/ 1231). . (¬2) هو: أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص، من أهل الرأي، سكن بغداد ومات فيها، انتهت إليه رئاسة الحنفية في عصره، وخوطب ي أن يلي القضاء فامتنع، من مؤلفاته: أصول الفقه (ط)، وأحكام القرآن (ط)، توفي سنة (370 هـ). ينظر في ترجمته: الجواهر المضيئة (1/ 220)، الفوائد البهية (28)، الأعلام للزركلي (1/ 171). (¬3) أحكام القرآن: (3/ 246). (¬4) المستصفى: (2/ 2). (¬5) الإحكام: (1/ 212).

وقال الشاطبي: " فكتاب الله تعالى هو أصل الأصول، والغاية التي تنتهي إليها أنظار النظار ومدارك أهل الاجتهاد، وليس وراءه مرمى" (¬1). ولمَّا كان الكتاب هو أصل الأدلة بدأ به الأصوليون وقدَّموه على سائر الأدلة في الاعتبار والنظر (¬2). ثانيا: يُعْتَبر الكتاب هو المَعين الذي لا ينضب للمعاني والأوصاف التي أنيطت بها الأحكام في الشريعة؛ لأن أكثر ورود الأحكام في القرآن جاء على وجهٍ كليٍّ يندرج تحته من الجزئيات في كلِّ زمانٍ ومكانٍ ما لا ينحصر. قال الشاطبي: " تعريف القرآن الكريم بالأحكام الشرعيَّة أكثره كليٌّ لا جزئي، وحيث جاء جزئياً فمأخذه على الكليُّة إما بالاعتبار أو بمعنى الأصل, إلا ما خصَّه الدليل، مثل خصائص النبي صلى الله عليه وسلم" (¬3). فكلُّ ما يُسْتَجَد في حياة الناس ومعاملاتهم وأحوالهم فهو مندرِجٌ تحت معنىً كليٍّ نصَّ عليه القرآنُ الكريم, أو دلَّ عليه , علِمه من علِمه , وجهلِه من جهلِه. ولذلك جاء الكتاب {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] إما نصَّاً أو دلالة (¬4). قال الشافعي: " فليست تنزل بأحدٍ من أهل دين الله نازلةٌ إلا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها" (¬5). وأُورِد عليه: بأن من الأحكام ماثبت بالسُّنَّة أو غيرها (¬6). ¬

(¬1) الموافقات: (3/ 230). (¬2) ينظر: المستصفى (2/ 2) , الإحكام للآمدي (1/ 215) , روضة الناظر (1/ 266) , شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 8) , البحر المحيط للزركشي (1/ 441) , شرح المحلي على جمع الجوامع (1/ 222) , شرح الكوكب المنير (2/ 6) , إرشاد الفحول (1/ 169). (¬3) الموافقات: (4/ 180). (¬4) ينظر: أحكام القرآن للجصاص (3/ 246) , الموافقات (4/ 184 - 188). (¬5) الرسالة: (1/ 20). (¬6) ينظر: قواطع الأدلة (1/ 32)، البحر المحيط للزركشي (1/ 441).

وأجيب عنه: بأن ذلك مأخوذٌ من كتاب الله في الحقيقة؛ لأن كتاب الله تعالى أوجب علينا إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم , وفرضَ علينا الأخذ بقوله , وحذَّرنا من مخالفته (¬1). والاجتهاد في استخراج المعاني والأوصاف التي أنيطت بها الأحكام في الكتاب, وتنقيحها , والتحقُّق من ثبوتها في الأفراد والجزئيات غير المتناهية , من أكمل مراتب تحصيل العلم بمسائل الأحكام. قال الشاطبي: " لابدَّ في كلِّ مسألةٍ يُراد تحصيل علمها على أكمل الوجوه أن يُلْتَفَت إلى أصلها في القرآن، فإن وُجدت منصوصاً على عينها أو ذُكِر نوعها أو جنسها؛ فذاك، وإلا فمراتب النظر فيها متعدِّدة" (¬2). ثالثاً: إن مناط الحُكْم لابدَّ له من دليلٍ يشهد له بالاعتبار (¬3). وهو ماعبَّر عنه الأصوليون ب "مسالك العِلَّة", أي: الطرق الدالة على العِلَّة، وتنحصر في ثلاثة أنواع: النصّ, والإجماع, والاستنباط (¬4). والنصُّ يشمل الكتاب والسُّنَّة وهو نوعان: النصُّ الصريح في التعليل، وهو: " أن يُذْكَر دليلٌ من الكتاب أو السُّنَّة على التعليل بالوصف بلفظٍ موضوعٍ له في اللغة من غير احتياجٍ فيه إلى نظرٍ واستدلال " (¬5). قال الآمدي: " وهو قسمان: الأول: ما صرَّح فيه بكون الوصف عِلَّةً أو سبباً للحُكْم الفلاني، وذلك كما لو قال: العِلَّة كذا أو السبب كذا, القسم الثاني: ما ورد فيه حرفٌ من حروف التعليل كاللام، وكي، ومن، وإنَّ، والباء" (¬6). ¬

(¬1) ينظر: المرجعين السابقين. (¬2) الموافقات: (4/ 197). (¬3) ينظر البحر المحيط للزركشي: (5/ 184). (¬4) ينظر: المرجع السابق. (¬5) الإحكام للآمدي: (3/ 317). (¬6) الإحكام: (3/ 317).

ومثاله قوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] أي: كي لا تبقى الدُّولة بين الأغنياء، بل تنتقل إلى غيرهم , فعلَّل سبحانه قسمة الفيء بين الأصناف بتداوله بين الأغنياء دون الفقراء (¬1). والنصُّ الظاهر في التعليل، وهو: " كلُّ ما ينقدح حملُه على غير التعليل أو الاعتبار إلا على بُعْد" (¬2). ومعناه: أن يحتمل اللفظ غير العليَّة احتمالاً مرجوحاً. وعبَّر عنه الآمدي بمسلك "التنبيه والإيماء" (¬3). وله صورٌ عديدة، منها: ترتيب الحُكْم على الوصف بفاء التعقيب والتسبيب (¬4). ومثاله: كما في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. وهذا " يدل على أن ما رُتِّب عليه الحُكْم (بالفاء) يكون عِلَّةً للحُكْم؛ لكون (الفاء) في اللغة ظاهرةً في التعقيب، ولهذا فإنه لو قيل: " جاء زيدٌ فعمرو " فإن ذلك يدل على مجيء عمرو عقيب مجيء زيدٍ من غير مهلة، ويلزم من ذلك السببية؛ لأنه لا معنى لكون الوصف سبباً إلا ما ثبت الحُكْم عقيبه، وليس ذلك قطعاً بل ظاهراً؛ لأن (الفاء) في اللغة قد تَرِد بمعنى (الواو) في إرادة الجمع المطلق، وقد ترد بمعنى (ثم) في إرادة التأخير مع المُهْلة" (¬5). قال الزركشي: " فالفاء للجزاء، والجزاء مُسْتَحَقٌّ بالمذكور السابق، وهو السرقة مثلاً؛ لأن التقدير: إنْ سَرَقَ فاقطعوه" (¬6). و" القرآن وسُنَّة رسول الله مملوآن من تعليل الأحكام بالحِكَم والمصالح، ¬

(¬1) ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 318) , البحر المحيط للزركشي (5/ 188). (¬2) البحر المحيط للزركشي: (5/ 189). (¬3) الإحكام: (3/ 319 - 320). (¬4) ينظر: الإحكام (3/ 320). (¬5) الإحكام للآمدي: (3/ 320 - 321). (¬6) البحر المحيط للزركشي: (5/ 193).

وتعليل الخلق بهما، والتنبيه على وجوه الحِكَم التي لأجلها شَرَعَ تلك الإحكام، ولأجلها خَلَقَ تلك الأعيان، ولو كان هذا في القرآن والسُّنَّة في نحو مائة موضعٍ أو مائتين لسقناها، ولكنَّه يزيد على ألف موضعٍ بطرقٍ متنوعةٍ، فتارةً يذكر لام التعليل الصريحة، وتارةً يذكر المفعول لأجله الذي هو المقصود بالفعل، وتارةً يذكر" مِنْ أجل" الصريحة في التعليل، وتارةً يذكر أداة كي، وتارةً يذكر الفاء وإنَّ، وتارةً يذكر أداة لعلَّ المتضمنة للتعليل المجرَّدة عن معنى الرجاء المضاف إلى المخلوق، وتارةً ينبِّه على السبب يذكره صريحاً، وتارةً يذكر الأوصاف المشتقَّة المناسبة لتلك الأحكام، ثم يرتِّبها عليها ترتيب المسبَّبات على أسبابها." (¬1). ويُعْتَبر نصُّ الكتاب أهم المسالك الدالة على مناطات الأحكام , وهو مقدَّمٌ على غيره من المسالك الأخرى. " قال الشافعي - رضي الله عنه -: متى وجدنا في كلام الشارع ما يدل على نَصْبِه أدلةً أو أعلاماً ابتدرنا إليه، وهو أولى ما يُسْلَك " (¬2). وإذا تقرَّر ماسبق , وثبت مناط حُكْمٍ بنصِّ الكتاب كما في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] لم يبق حينئذٍ إلا الاجتهاد في إثبات وجود ذلك المناط - وهو وصف السرقة- على بعض أفراده الدَّاخلة تحته , كتحقيق أن النبَّاش سارق، فيجب عليه الحدُّ وهو القطع. رابعاً: النصُّ من أهم المسالك المُعْتَبرة في تنقيح مناطات الأحكام, وهو يشمل نصوص الكتاب والسُّنَّة , وما عُلِمَ من عادتهما في شرع الأحكام. والمناط لا يتجرَّد ويتلخَّص متميزاً بحدِّه على كلِّ ما لا يُعْتَبر فيه، وجامعاً لجميع ما هو معتبرٌ فيه إلا بالتوقيف والتعريف من جهة الشارع كما تقدم بيانه (¬3). ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة: (2/ 22). (¬2) البحر المحيط: (5/ 186). (¬3) ينظر: (116 - 117).

قال ابن تيمية: " وهنا نوعٌ ثانٍ يُسمَّى تنقيح المناط، وهو أن يكون الشارع قد نصَّ على الحُكْم في عينٍ معيَّنة، وقد عُلِمَ بالنصِّ والإجماع أنَّ الحُكْم لا يختصُّ بها، بل يتناولها وغيرَها، فيحتاج أن ينقَّح مناط الحكم، أي يمَّيز الوصف الذي تعلَّق به ذلك الحكم، بحيث لا يُزداد عليه ولا يُنْقَص منه" (¬1). ومن الأمثلة التي توضح ذلك: إلغاء الوصف الفارق وهو الذُّكورة بين العبد والأَمَة في قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وذلك بحذف خصوصية الوصف الذي دلَّ ظاهر النصِّ على عليَّته وهو" الأنوثة "، وتعيين وصف " الرِّق " مناطاً للحُكْم الذي هو تشطير الحدِّ، فوجب استواؤهما فيه؛ لما عُلِمَ من عادة الشرع التسوية بين الذَّكَرِ والأنثى في ذلك (¬2). خامساً: إن الكتاب من المسالك المُعْتَبرة في تحقيق مناطات الأحكام (¬3). ولكن ذلك قليل جداً؛ لأن أكثر أحكام الكتاب - كما تقدَّم - كلي (¬4). قال ابن تيمية: " الشرائع جاءت بالأحكام الكليَّة مثل إيجاب الزكوات وتحريم البنات والأخوات، ولا يمكن أَمْرُ أحدٍ بما أمره الله به ونهيه عما نهاه الله عنه إن لم يُعْلَم دخوله في تلك الأنواع الكليَّة، وإلا فمجرد العلم بها لا يمكن معه فعل مأمورٍ ولا ترك محظورٍ إلا بعلمٍ معينٍ بأن هذا المأمور داخلٌ فيما أمر الله به، وهذا المحظور داخلٌ فيما نهى الله عنه، وهذا الذي يُسمَّى تحقيق المناط " (¬5). ¬

(¬1) درء تعارض العقل والنقل: (7/ 338). (¬2) ينظر: شرح تنقيح الفصول (388)، رفع النقاب عن تنقيح الشهاب (5/ 288)، نثر الورود (2/ 522)، نشر البنود (2/ 205). (¬3) ينظر: (262 - 263). (¬4) ينظر: (288 - 289). (¬5) درء تعارض العقل والنقل: (10/ 172).

سادساً: قد يثبت الحُكْم بنصِّ الكتاب دون أن يتعرَّض لمناطه نصَّاً ولا إيماءاً, فيُجْتَهَد حينئذٍ في استخراجه بأحد المسالك الاجتهادية , كالمناسبة أو السَّبْر والتقسيم أو الدوران. ومثاله: تحريم الخمر في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] فالآية نصٌّ صريحٌ على تحريم الخمر، ولم يتعرَّض النصُّ لبيان عِلَّة الحُكْم لا بصريح لفظٍ ولا بإيماء، فيستخرج المجتهد وصفاً ظاهراً منضبطاً وهو " الإسكار "، يحصل من ترتيب الحُكْم عليه مصلحة المحافظة على العقول، ولا يجد غيرَه من الأوصاف الصالحة للعِلِّية مثلَه ولا أولى منه، فكونه سائلاً أو بلون كذا أو بطعم كذا كلها أوصافٌ غير ملاءمةٍ للتحريم، فيعيِّن المجتهدُ وصفَ " الإسكار " مناطاً لحُكْم التحريم، ويستدِلُّ على ذلك بإظهار ملاءمته للحُكْم، وهو كون وصف "الإسكار " يحصل من ترتيب الحُكْم عليه جلب مصلحةٍ وهي حفظ العقول من الاضطراب، ولا يوجد وصفٌ غيرُه مثلُه ولا أولى منه في محلِّ الحكم (¬1) سابعاً: من ضوابط تحقيق المناط الموازنة بين المصالح والمفاسد؛ لأن الغرض من الاجتهاد في تحقيق المناط موافقة قصد الشارع في الأحكام , وهذا يستلزم معرفة مراتب المصالح والمفاسد في الشرع , ويُعْتَبر الكتاب هو منبع العلم بالمصالح والمفاسد ومراتبها؛ لأن " معظم مقاصد القرآن الأمر باكتساب المصالح وأسبابها، والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها " (¬2). وإذا كان الأمر كذلك؛ " لزم ضرورةً لمن رام الاطلاع على كليَّات الشريعةـ وطمع في إدراك مقاصدها، واللحاق بأهلها، أن يتخذه - أي: القرآن الكريم - سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مرِّ الأيام والليالي؛ نظراً وعملاً" (¬3). ¬

(¬1) ينظر: المستصفى (4/ 620)، شفاء الغليل (145 - 146)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239)، البحر المحيط للزركشي (5/ 219)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 273)، شرح الكوكب المنير (4/ 155). (¬2) قواعد الأحكام لابن عبدالسلام: (1/ 11 - 12). (¬3) الموافقات: (4/ 144).

المبحث الثاني علاقة الاجتهاد في المناط بالسنة

المبحث الثاني علاقة الاجتهاد في المناط بالسُّنَّة سأتناول في هذا المبحث بيان علاقة الاجتهاد في المناط بالسُّنَّة , وذلك من خلال ثلاثة مطالب , وهي على النحو الآتي: المطلب الأول: تعريف السُنَّة لغةً واصطلاحاً. السُّنَّة في اللغة تعني: السيرة والطريقة سواءٌ كانت حسنَةً أو قبيحة (¬1). قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سَنَّ في الإسلام سُنَّةً سيئةً، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها مِنْ بعدِه، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» (¬2). والسُّنَّة في اصطلاح الأصوليين: ماصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قولٍ أو فعلٍ أو تقرير (¬3). ¬

(¬1) ينظر: الصحاح (5/ 2139) , معجم مقاييس اللغة (3/ 61) , لسان العرب (13/ 225) , تاج العروس (13/ 230 - 231) مادة " س ن ن". (¬2) أخرجه مسلم في "صحيحه" , كتاب الزكاة , باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة , رقم (1017) من حديث المنذر بن جرير عن أبيه. (¬3) ينظر: الإحكام للآمدي (1/ 227) , الإبهاج (2/ 288) , نهاية السول (3/ 3) , البحر المحيط للزركشي (4/ 164) , شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 22) , شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 94) , تيسير التحرير (3/ 19) , شرح الكوكب المنير (2/ 160 - 166) , إرشاد الفحول (1/ 186).

المطلب الثاني: حجية السنة.

المطلب الثاني: حُجِّيَّة السُّنَّة. أجمع المسلمون على أن سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية والتقريرية التي قُصِد بها التشريع والاقتداء حُجَّةٌ في الدِّين يجب قبولها , ودليلٌ من أدلة أحكام الشرع يجب العمل بها, وهو من ضروريات الدِّيانة. قال ابن أمير بادشاه: " حُجِّية السُّنَّة سواءٌ كانت مفيدةً للفرض أو الواجب أو غيرهما (ضرورةٌ دينية) , كلُّ من له عقلٌ وتمييزٌ حتى النساء والصبيان يعرف أن من ثبتت نبوته صادقٌ فيما يُخْبِر عن الله تعالى , ويجب اتباعه" (¬1). وقد قامت أدلةٌ كثيرةٌ على حجيتها , ومن ذلك: أولاً: وردت آياتٌ كثيرةٌ في القرآن الكريم تنصُّ صراحةً على وجوب اتباع أمره صلى الله عليه وسلم , ولزوم طاعته , وردِّ كلِّ أمرٍ إليه, وعدم التقدَّم عليه, وأن ما يصدر عنه إنما هو وحيٌ من الله. ومنها: قوله تعالى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} [آل عمران: 32] وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)} [آل عمران: 132] [آل عمران: 132]. وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الفرقان: 63] وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)} [الحجرات: 1] وقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4]. فهذه الآيات وغيرها تدل على لزوم طاعته صلى الله عليه وسلم, واتِّباع هديه, واقتفاء أثره , ولولم تكن سُنَّته عليه الصلاة والسلام حُجَّةً يجب قبولها لما أمر الله ¬

(¬1) تيسير التحرير: (3/ 22).

بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم , وقرنها بطاعته , وحذَّر من مخالفة أمره. قال الشافعي: " وضع الله رسوله من دينه وفرْضِه وكتابه، الموضعَ الذي أبان - جل ثناؤه - أنه جعله عَلَمًا لدينه، بما افترض من طاعته، وحرَّم من معصيته، وأبان من فضيلته، بما قَرَن من الإيمان برسولَه مع الإيمان به" (¬1). ثانياً: إن لزوم العمل بالقرآن يقتضي لزوم العمل بالسُّنَّة؛ لأنها بيانٌ للقرآن , فهي تخصِّص عمومه , وتقيِّد مُطْلَقَه , وتوضِّح مُشْكِلَه , وتفصِّل مُجْمَلَه ,ولايمكن الاستغناء بحالٍ عن السُّنَّةُ في فهم القرآن الكريم. قال الشاطبي: " السُّنَّةً راجعةٌ في معناها إلى الكتاب؛ فهي تفصيل مُجْمَلِه، وبيان مُشْكِلِه، وبَسْطِ مُخْتَصَرِه؛ وذلك لأنها بيانٌ له .. " (¬2). قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن يشمل أنواع البيان كافّة , سواءً كان بالأقوال , أو الأفعال , أو التقريرات (¬3). ومن ذلك: أن القرآن الكريم تضمَّن فرائض مُجْمَلَةً تحتاج إلى البيان في كيفياتها , ومقاديرها , ومواقيتها , ونحو ذلك , كالصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها , فجاءت السُّنَّة القولية والفعلية والتقريرية ببيان كيفياتها , ومقاديرها , ومواقيتها (¬4). وهذا المعنى يستلزم القول بحُجِّية السُّنَّة؛ لأنه لايمكن العمل بالفرائض المُجْمَلَة في القرآن إلا بالعلم بالسُّنَّة، والعملِ بمقتضاها في تلك الفرائض , فدلَّ ذلك على اعتبارها دليلاً على الأحكام الشرعيَّة لايجوز الحيد عنه. ولهذا فإنه: "لا ينبغي في الاستنباط من القرآن الاقتصار عليه دون النظر في شرحه وبيانه وهو السُّنَّة؛ لأنه إذا كان كليَّاً وفيه أمورٌ جُمْليَّةٌ كما في شأن ¬

(¬1) الرسالة: (73). (¬2) الموافقات: (4/ 314). (¬3) ينظر: إعلام الموقعين (4/ 98 - 104)، شرح الكوكب المنير (2/ 183 - 691) , إرشاد الفحول (2/ 742). (¬4) ينظر: الرسالة للشافعي (21 - 22) , إعلام الموقعين (4/ 98 - 104).

المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بالسنة.

الصلاة والزكاة والحجِّ والصوم ونحوها؛ فلا محيص عن النظر في بيانه" (¬1). ثالثاً: عمل الصحابة رضي الله عنهم في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد مماته , ومن بعدهم التابعون والمجتهدون في كلِّ عصرٍ ومصر , حيث كانوا لايقدِّمون على القرآن والسُّنَّة شيئاً , وإذا بلغتهم سُنَّةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتبعوها وعملوا بمقتضاها. فهذه الأدلة وغيرها تقتضي اعتبار السُّنَّة دليلاً كليَّاً على الأحكام الشرعيَّة , يلزم قبوله والعمل به. المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بالسُّنَّة. تظهر علاقة الاجتهاد في المناط بالسُّنَّة في جوانب عديدةٍ من أهمها ما يأتي: أولاً: إن مناط الحُكْم لابدَّ له من دليلٍ يشهد له بالاعتبار , ومن أقوى الأدلة المُعْتَبرة مسلك النصّ والإيماء الذي يشمل الكتاب والسُّنَّة (¬2). وأعني بالنصِّ: " ماتكون دلالته على العليِّة ظاهرةً سواءً كانت قاطعةً أو محتمَلة" (¬3). وعبَّر بعض الأصوليين كالآمدي وصفي الدين الهندي عن النصِّ القاطع بالصريح، وهو: وهو ما وضع لإفادة التعليل، بحيث لا يحتمل غير العِلَّة, وله ألفاظٌ منها: كي , ولأجل كذا , ومن أجل كذا , ولعِلَّة كذا (¬4). وعبَّروا عن النصِّ المُحْتَمَل بالظاهر, وهو ما يحتمل غير العليِّة احتمالاً مرجوحاً , مثل: "اللام", و"إنّ", و"الباء", حيث نصَّ أهل اللغة على أن أصل الاستعمال فيها أنها للتعليل إلا لقرينة (¬5). ¬

(¬1) الموافقات: (4/ 183). (¬2) ينظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 356) , شرح الكوكب المنير (4/ 117). (¬3) المحصول: (5/ 139). (¬4) ينظر: شرح الكوكب المنير (4/ 118 - 117). (¬5) ينظر: الإبهاج (3/ 43 - 44) , شرح الكوكب المنير (4/ 121 - 124).

قال الآمدي: " فهذه هي الصيغ الصريحة في التعليل وعند ورودها يجب اعتقاد التعليل، إلا أن يدلَّ الدليل على أنها لم يُقْصَد بها التعليل فتكون مجازاً فيما قُصِد بها " (¬1). أما الإيماء فهو: "اقتران الوصف بحُكْمٍ لو لم يكن الوصف - أو نظيره - للتعليل لكان ذلك الاقتران بعيداً من فصاحة كلام الشارع، وكان إتيانه بالألفاظ في غير مواضعها، مع كون كلام الشارع منَّزهاً عن الحشو الذي لا فائدة فيه" (¬2). ومن الأمثلة على النصِّ الصريح الكاشف عن مناطات الأحكام في السُّنة النبوية: - قوله صلى الله عليه وسلم في النهي عن أكل لحوم الأضاحي في أول الأمر: "إنما نهيتكم من أجل الدَّافَّة فكلوا وادَّخروا وتصدَّقوا " (¬3). أي: لأجل التوسعة على الطائفة التي قدمت المدينة أيام التشريق, وهم قومٌ وردوا عُرْباً، فأمرهم أن لا يدَّخروا لحوم الأضاحي توسعةً عليهم (¬4). والدَّافَّة بتشديد الفاء: قومٌ يسيرون جميعاً سيراً خفيفاً , ودفَّ يدِفُّ بكسر الدال, ودَّافَّة الأعراب: من يَرِدُ منهم المِصْر, والمراد هنا مَنْ وَرَدَ من ضعفاء الأعراب للمواساة (¬5). فقوله صلى الله عليه وسلم: " من أجل الدَّافَّة" نصٌ صريحٌ على مناط الحُكْم, وهو النهي عن أكل الأضاحي ثلاثة أيام. ومن الأمثلة على النصِّ الظاهر الكاشف عن مناطات الأحكام في السُّنة النبوية: ¬

(¬1) الإحكام: (3/ 319). (¬2) شرح الكوكب المنير: (4/ 125). (¬3) أخرجه مسلم في "صحيحه", كتاب الأضاحي , باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام، وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء, رقم (1971) من حديث عبدالله بن واقد رضي الله عنه. (¬4) ينظر: الإبهاج (3/ 43 - 44) , شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 359) , شرح الكوكب المنير (4/ 118) (¬5) ينظر: شرح صحيح مسلم للنووي (13/ 129) , فتح الباري لابن حجر (10/ 27).

- قوله صلى الله عليه وسلم في المُحْرِم الذي وقصته (¬1) ناقته: " اغسلوه بماء وسدر، وكفِّنوه في ثوبين، ولا تحنِّطوه، ولا تخمِّروا رأسه (¬2)، فإنه يُبْعَث يوم القيامة ملبياً" (¬3). وقد اختلفوا في التعليل " بإنّ " المشدَّدة المكسورة هل هو صريح, أو ظاهر, أو إيماء, كما في قوله - صلى الله عليه وسلم: " فإنه يُبْعَث يوم القيامة ملبيَّاً "؟ ذهب الآمدي (¬4)، وابن الحاجب (¬5) إلى أنه صريحٌ في التعليل، خصوصاً فيما لحقته الفاء؛ فإنها يزاد بها تأكيداً لدلالتها على أن ما بعدها سببٌ للحُكْم قبلها. وعند البيضاوي (¬6) , وابن السُّبكي (¬7): أن التعليل بـ "إنّ" من قسم الظاهر. قال ابن العطَّار: " قوله «فإنه يُبْعَث يوم القيامة ملبيا» عِلَّةً لقوله «لا تمسُّوه طيباً، ولا تخمِّروا رأسه» , فإن النهي يفيد التحريم الذي هو من الأحكام الشرعية" (¬8). وهذه العِلَّة إنما ثبتت لأجل الإحرام فتعمّ كلَّ مُحْرِم (¬9). قال ابن حجر (¬10): " وقد وضح أن الحكمة في ذلك استبقاء شعار الإحرام , كاستبقاء دم الشهيد" (¬11). ¬

(¬1) الوقص: كسر العنق. ينظر: فتح الباري لابن حجر (3/ 136). (¬2) أي: لا تغطوه. ينظر: فتح الباري (3/ 136). (¬3) أخرجه البخاري , كتاب الجنائز , باب الكفن في ثوبين , رقم (1265) , وأخرجه مسلم , كتاب الحج , باب مايفعل بالمحرم إذا مات , رقم (1206) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬4) ينظر: الإحكام (3/ 318 - 319). (¬5) ينظر: مختصر ابن الحاجب (2/ 1072). (¬6) ينظر: منهاج الوصول (58). (¬7) ينظر: جمع الجوامع (88). (¬8) حاشية ابن العطَّار على شرح المحلي على جمع الجوامع: (2/ 307). (¬9) ينظر: إحكام الأحكام لابن دقيق العيد (1/ 368) , فتح الباري لابن حجر (3/ 137). (¬10) هو: أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني، شهاب الدين ابن حجر، من أكابر فقهاء المحدثين، عالمٌ محقِّق، ولي قضاء مصر مرات ثم تركه، من مؤلفاته: فتح الباري شرح صحيح البخاري (ط)، والإصابة في معرفة الصحابة (ط)، ولسان الميزان (ط) في علم الجرح والتعديل، توفي بالقاهرة سنة (852 هـ). ينظر في ترجمته: الضوء اللامع (2/ 36)، البدر الطالع (1/ 87)، الأعلام للزركلي (1/ 178). (¬11) فتح الباري (3/ 137).

ومن الأمثلة على الإيماء والتنبيه الكاشف عن مناطات الأحكام في السُّنَّة النبوية: - قوله صلى الله عليه وسلم: " من اقتنى كلباً إلا كلب صيدٍ أو ماشيةٍ نقص من أجره كلَّ يومٍ قيراطان " (¬1). حيث رتَّب الحُكْم الذي هو نقصان الأجر على الوصف الذي هو اقتناء الكلب -لا لصيدٍ أو ماشية- بصيغة الجزاء , فتكون العِلَّة في نقصان الأجر هو الاقتناء لغير حاجة , وهو من أنواع الإيماء بالعِلَّة؛ لأن الجزاء يعقب شرطه ويلازمه، ولا معنى للسبب إلا ما يثبت عقب الحُكْم ويوجد بوجوده (¬2). ثانيا: النصُّ من أهم المسالك المُعْتَبرة في تنقيح مناطات الأحكام , وهويشمل نصوص الكتاب والسُّنَّة , وماعُلِم من عادتهما في شرع الأحكام. وقد تقدَّم أن تنقيح المناط له صورتان: (¬3) الأولى: أن يدل نصٌّ ظاهرٌ على تعليل الحُكْم بوصف , فيُحذَف خصوص ذلك الوصف عن الاعتبار , ويُناط الحُكْم بالمعنى الأعم. والثانية: أن يدل نصٌّ ظاهرٌ على تعليل الحُكْم بمجموع أوصاف، فيُحذَف بعضها عن الاعتبار، ويُناط الحُكْم بالباقي من الأوصاف. وحاصل هاتين الصورتين أنه اجتهادٌ في الحذف والتعيين كما تقدَّم (¬4)، وكلاهما لابدَّ أن يُسْتَنَدُ فيه إلى دليلٍ شرعي؛ لأن الشرع كما اختصَّ بتقرير الأحكام فقد اختصَّ - أيضاً- باعتبار الأوصاف المؤثرة في تلك الأحكام وعدم اعتبارها كذلك , فلزم الرجوع إلى شواهد الشرع (¬5). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في "صحيحه", كتاب المساقاة , باب الأمر بقتل الكلاب , رقم (1574) من حديث عبدالله ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) ينظر: روضة الناظر (3/ 842) , شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 366 - 367) , البحر المحيط للزركشي (5/ 201 - 202) , التحبير شرح التحرير (7/ 3329) , شرح الكوكب المنير (4/ 129). (¬3) ينظر: (71). (¬4) ينظر: (71). (¬5) ينظر: المستصفى (3/ 598) , شفاء الغليل (412) , أساس القياس (50) ,المقترح للبروي (215 - 216) , نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (7/ 3179) , شرح الكوكب المنير (4/ 203) ,

قال الغزالي: " ومُدْرَكُه - أي: تنقيح المناط - شواهد الشرع" (¬1). وعلى هذا فإن مناط الحُكْم لايتجرَّد ويتلخَّص متميزاً بحدِّه على كلِّ مالا يُعْتَبر فيه, وجامعاً لكلِّ ماهو معتبرٌ فيه "إلا بالتوقيف والتعريف من جهة الشرع" (¬2). وجهة الشرع منحصرةٌ في الكتاب والسُّنَّة نصَّاً ودلالة , وبهذا تكون السُّنَّة القولية والفعلية والتقريرية من أدلة تنقيح المناط. والاستدلال بالسُّنَّة على تنقيح مناطات الأحكام لايقتصر على دلالة النصِّ فحسب, بل يشمل دلالات الألفاظ بأنواعها , والأفعال, وقرائن الأحوال , وتصرفات النبي صلى الله عليه وسلم التي جرت مجرى العادة في الأحكام إثباتاً ونفياً. قال الغزالي: " تعريفات الشارع مختلفةٌ بالإضافة إلى ما به التعريف؛ فتارةً يُعْرَفُ بالقول وتارةً بالفعل، ثم إذا عُرِفَ لا بالقول: تارةً يكون بإشارةٍ، وتارةً بسكوتٍ، وتارةً باستبشارٍ، وتارةً بإظهار آثار كراهيةٍ، وعلى الجملة: قرائن أحواله في تصريفاته وإشاراته وهيئة وجهه في الفرح والكراهية يجوز أن تكون معرِّفاتٍ جاريةً في إفادة التعريف مجرى القول، فيكون ذلك توقيفاً .. " (¬3). ومن الأمثلة على ذلك: - أن السُّنَّة جاءت بأحكامٍ كثيرةٍ تتعلَّق بالعتق: من تطرق القرعة إليه , واستحقاقه بسبب القرابة , وكيفية نفوذه من المريض , وكيفية تعلُّق الولاية , وكيفية كونه سبباً في الولاية , ونحو ذلك , والسُّنَّة في تلك الأحكام كلها تُجْرِي الذكورَ مجرى الإناث , ولاتلتفت إلى الاختلاف بينهما أصلاً , فعدم تعرُّض السُّنَّة لهذا الاختلاف في تلك الأحكام دليلٌ على أن مدخل الذكورة ¬

(¬1) شفاء الغليل: (430). (¬2) أساس القياس: (52). (¬3) المرجع السابق: (52).

فيها كمدخل السواد والبياض والطول والقِصَر والتركي والهندي (¬1). وبناءً على ذلك يصح أن نقول: الأَمَة في معنى العبد في قوله صلى الله عليه وسلم: " من أعتق شِرْكاً له في عَبْدٍ فكان له مالٌ يبلغ ثمن العبد قوِّم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصَصَهُمْ وعَتَقَ عليه، وإلا فقد عَتَقَ منه ما عَتَقَ " (¬2). ثالثا: قد يثبت الحُكْم بنصِّ السُنَّة , ويدل ظاهر النصِّ على تعليل الحُكْم بوصفٍ ما, فيُجْتَهَد في حذف خصوص ذلك الوصف عن الاعتبار, ويُناط الحُكْم بالمعنى الأعمّ؛ لأن الوصف المذكور ليس عِلَّةً لذاته، بل لما يلازمه (¬3). وتُعَدُّ هذه الصورة إحدى صور الاجتهاد في تنقيح المناط كما تقدم (¬4). ومثاله: قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يقضين حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان" (¬5). فإنَّ ذكر الغضب مقروناً بالحُكْم يدل بظاهره على التعليل بالغضب، لكن ثبت بالنظر والاجتهاد أنه ليس عِلَّةً لذاته، بل لما يلازمه من التشويش المانع من استيفاء الفكر، فَيُحْذَف خصوص الغضب، ويُنَاطُ النهي بالمعنى الأعمّ (¬6). رابعاً: قد يثبت الحُكْم بنصِّ السُّنَّة, ويدل ظاهر النصِّ على تعليل الحُكْم بمجموع الأوصاف المذكورة , فيُجْتَهَد في حذف الأوصاف التي لاتصلح للعِلِّيَّة عن الاعتبار, وتعيين الباقي من الأوصاف مناطاً للحكم (¬7). ¬

(¬1) ينظر: المرجع السابق (54 - 56). (¬2) سبق تخريجه: (66). (¬3) ينظر: تشنيف المسامع (3/ 318 - 319)، الغيث الهامع (3/ 735)، الضياء اللامع لحلولو المالكي (2/ 381)، نشر البنود (2/ 199)، نثر الورود (2/ 522 - 523). (¬4) ينظر: (64). (¬5) سبق تخريجه: (64). (¬6) ينظر: المراجع السابقة. (¬7) ينظر: المستصفى (3/ 488)، روضة الناظر (3/ 803)، الإحكام للآمدي (3/ 380)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 237)، الموافقات (5/ 19 - 20)، التحبير شرح التحرير (7/ 3333)، تشنيف المسامع (3/ 318 - 319)، الغيث الهامع (3/ 735)، الضياء اللامع لحلولو المالكي (2/ 205)، نشر البنود (2/ 199)، نثر الورود (2/ 523).

وتُعَدُّ هذه الصورة - أيضاً- من صور الاجتهاد في تنقيح المناط كما تقدم (¬1). ومثاله: قصة الأعرابي الذي جامع أهله في رمضان، وجاء يضرب صدره وينتف شعره - كما في بعض الروايات - ويقول: هلكت، واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أعتق رقبة" (¬2). فكونه أعرابياً، وكونه يضرب صدره، وينتف شعره، وكون الموطوءة زوجته، وكونه واقع أهله في ذلك الشهر بعينه، كُلُّها أوصافٌ لا تصلح للعِلِّية فَتُحْذَف عن درجة الاعتبار، ويُنَاطُ الحُكْم بالوصف الباقي الصالح للتعليل، وهو ... " وقاع مكلَّفٍ في نهار رمضان "، فَيُلْحق بالأعرابي غير الأعرابي، ويُلْحَق به مَنْ جامع في رمضان آخر، ويُلْحَق به مَنْ وطِئَ أَمَتَه، ويُلْحَق به الزاني (¬3). خامسا: قد يثبت الحُكْم بنصِّ السُّنَّة دون أن تتعرض لمناطه لا صراحةً ولا إيماءً , فيُجْتَهَد حينئذٍ في استخراجه بأحد المسالك الاجتهادية كالمناسبة (¬4) أو السَّبْر ... والتقسيم (¬5) أو الدوران (¬6). ومن الأمثلة على ذلك: - قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تبيعوا البُرَّ بالبُرِّ إلا مثلاً بمثل " (¬7) فهذا النصُّ لم يتضمن ما يدلُّ على عِلَّة تحريم الرِّبا في البُرِّ لا صراحةً ولا إيماءً، فيُجْتَهَد في استنباط عِلَّة الحُكْم بالنظر والاجتهاد القائم على الدلائل الشرعيَّة، فيقال - مثلاً -: عِلَّة تحريم الرِّبا في البُرِّ الطعم، أو الاقتيات، أو الكيل، أو غير ذلك (¬8). ¬

(¬1) ينظر: (64 - 65). (¬2) سبق تخريجه: (48). (¬3) ينظر: المراجع السابقة. (¬4) ينظر (160). (¬5) ينظر (171 - 172). (¬6) ينظر (179 - 180). (¬7) سبق تخريجه: (49). (¬8) ينظر: رسالة في أصول الفقه للعُكْبَري (85)، المستصفى (3/ 490)، روضة الناظر (3/ 805)، الإحكام للآمدي (3/ 380)، نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (7/ 3046)، الإبهاج (3/ 83)، البحر المحيط للزركشي (7/ 324).

سادسا: تُعتبَر السُّنَّة من مسالك تحقيق مناطات الأحكام في الأعيان , فقد يدلَّ قول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله أو تقريره على ثبوت مناط الحُكْم في بعض أفراده (¬1). ومثاله: : سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوقاتٍ مختلفةٍ عن أفضل الأعمال فأجاب بإجاباتٍ مختلفةٍ، كلُّ إجابةٍ لو حُمِلت على إطلاقها أو عمومها لاقتضى ذلك التضادّ مع غيره في التفضيل، ولكن التفضيل لم يقع مطلقاً، إنما كان بحسب اختلاف الأحوال والأشخاص. قال الشاطبي: " جميعها يدل على أن التفضيل ليس بمطلق، ويُشْعِر إشعاراً ظاهراً بأن القصد إنما هو بالنسبة إلى الوقت أو إلى حال السائل" (¬2). ومن ذلك: ماجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل: أي العمل أفضل؟ قال: إيمانٌ بالله ورسوله، قال: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: ثم ماذا؟ قال: حجٌّ مبرور" (¬3). وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " سألت النبي صلى الله عليه وسلم أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أيُّ؟ قال ثم برُّ الوالدين، قلت: ثم أيُّ؟ قال الجهاد في سبيل الله" (¬4). وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: " أتيت رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ: مُرْني بأمرٍ آخُذُهُ عنك، قال: عليك بالصوم فإنه لا مثْل له " (¬5). وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الإسلام خير؟ قال: تُطِعمُ الطعام، وتَقْرأ السلام على مَنْ عَرَفْت ومَنْ لم تعْرفْ" (¬6). ¬

(¬1) ينظر: (263 - 264). (¬2) الموافقات: (5/ 31). (¬3) سبق تخريجه: (218). (¬4) سبق تخريجه: (218). (¬5) سبق تخريجه: (218). (¬6) سبق تخريجه: (219).

فهذه الأحاديث التي أجاب فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال بأجوبةٍ مختلفة، إنما كانت بحسب وقتٍ دون وقت، وحالٍ دون حال، وشخصٍ دون شخص, وهو من صور تحقيق المناط في الأعيان بنصوص السُّنَّة النبوية.

المبحث الثالث علاقة الاجتهاد في المناط بالإجماع

المبحث الثالث علاقة الاجتهاد في المناط بالإجماع سأتناول في هذا المبحث بيان علاقة الاجتهاد في المناط بالإجماع , وذلك من خلال ثلاثة مطالب , وهي على النحو الآتي: المطلب الأول: تعريف الإجماع لغةً واصطلاحاً. الإجماع في اللغة يُطْلَق على معنيين: (¬1) المعنى الأول: العزم على الأمر. ومنه قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} أي: اعزموا عليه (¬2). والمعنى الثاني: الاتفاق. ومنه قولهم: أجمع القوم على كذا , أي: اتفقوا عليه (¬3). أما الإجماع اصطلاحاً فهو: اتفاق مجتهدي أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم في عصرٍ من العصور بعد وفاته على حُكْمٍ شرعي (¬4). ¬

(¬1) ينظر: الصحاح 5/ 1199, , لسان العرب 8/ 57, تاج العروس (20/ 463 - 465) مادة " ج م ع ". (¬2) ينظر: تفسير الطبري (15/ 147) , المحرر الوجيز لابن عطية (3/ 131). (¬3) ينظر: تاج العروس (20/ 463) مادة " ج م ع ". (¬4) ينظر في تعريف الإجماع عند الأصوليين: المستصفى (2/ 294) , المحصول (4/ 20) ,الإحكام للآمدي (1/ 262 - 263) , شرح تنقيح الفصول للقرافي (322) , شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 29) , نهاية السول (3/ 337) , البحر المحيط للزركشي (4/ 436) ,شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 177) , شرح الكوكب المنير (2/ 211) , تيسير التحرير (3/ 224) , فواتح الرحموت (2/ 260) , إرشاد الفحول (1/ 348).

المطلب الثاني: حجية الإجماع.

ويظهر أن أنسب المعنيين لغةً لمصطلح الإجماع عند الأصوليين هو المعنى الثاني: الاتفاق؛ لأن " الإجماع بالمعنى الأول مُتَصَوَّرٌ من واحد , وبالمعنى الثاني لا يُتَصَوَّر إلا من الاثنين فما فوقهما " (¬1). قال ابن السمعاني: " والإجماع إذا أُطلِق في اللغة قد يفهم منه العزم على الشيء والإجماع على الشيء من اثنين فصاعداً, وأما في الشرع فإن الإجماع إذا أطلق لا يتناول إلا اجتماع الأُمَّة على الحقّ " (¬2). المطلب الثاني: حُجِّية الإجماع. إذا انعقد الإجماع مستوفياً شروطه فإنه يُعْتَبر حُجَّةً شرعيَّةً يجب العمل به , والمصير إليه , وتَحْرُم مخالفته (¬3). قال الآمدي: " اتفق أكثر المسلمين على أن الإجماع حُجَّةٌ شرعيَّةٌ يجب العمل به على كلِّ مسلم " (¬4). وقد استدل الأصوليون على حجية الإجماع بأدلةٍ كثيرةٍ من الكتاب والسُّنَّة , ومن أقواها وأوضحها ماورد في السُّنَّة من الأحاديث الدالة على استحالة اجتماع الأُمَّة على الخطأ , وإذا ثبتت عصمة الأُمَّة عن الخطأ فإن إجماعهم لايكون إلا حقَّاً يجب اتباعه (¬5). ¬

(¬1) كشف الأسرار لعبدالعزيز البخاري: (3/ 226). (¬2) قواطع الأدلة: (1/ 461). (¬3) ينظر: البرهان (1/ 675) , المستصفى (2/ 298) , المحصول (4/ 35) , الإحكام للآمدي (1/ 266) , شرح العضد على ابن الحاجب (2/ 29) , البحر المحيط للزركشي (4/ 440) , تيسير التحرير (3/ 227) , شرح الكوكب المنير (2/ 214). (¬4) الإحكام للآمدي: (1/ 266). (¬5) ينظر: المستصفى (2/ 301 - 304) , المحصول (4/ 79 - 83) , الإحكام للآمدي (1/ 290 - 292) , شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 32) , تيسير التحرير (3/ 228) , شرح الكوكب المنير (2/ 218 - 223).

المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بالإجماع.

ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " إن أمتي لاتجتمع على ضلالة" (¬1). قال الغزالي: " وهذا من حيث اللفظ أقوى وأدلُّ على المقصود " (¬2). وقد تظاهرت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظٍ مختلفةٍ على عِصْمَة الأُمَّة عن الخطأ , واشتهر ذلك على لسان الثقات من الصحابة رضي الله عنهم , ولم تزل ظاهرةً لم يدفعها أحدٌ من أهل النقل من سلف الأُمَّة وخَلَفِها , ولم تزل الأُمَّة تَحتَجُّ بها في أصول الدين وفروعه, وإذا ثبت أن الأُمَّة لاتجتمع على الخطأ لزم أن يكون اجتماعها على الحقّ , وحينئذٍ يجب المصير إلى إجماعهم, وتَحْرُم مخالفته (¬3). وقد ارتأيت الاكتفاء بدليل السُّنَّة في هذا المطلب لأنها" أقرب الطرق في إثبات كون الإجماع حُجَّة" (¬4). المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بالإجماع. تظهر علاقة الاجتهاد في المناط بالإجماع في جوانب عديدةٍ من أهمها مايأتي: أولاً: يُعْتَبر الإجماع من أقوى المسالك التي يثبت بها مناط الحُكْم في الأصل. وقد ذهب جمهور الأصوليين إلى أن الإجماع مسلكٌ من مسالك العِلَّة (¬5). ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه في " سننه " , كتاب الفتن , باب السواد الأعظم , رقم (3950) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال الألباني: " حَسَنٌ بمجموع طرقه " كما في " السلسلة الصحيحة " (3/ 319). (¬2) المستصفى: (2/ 302). (¬3) ينظر: المستصفى (2/ 301 - 304) , المحصول (4/ 79 - 83) , الإحكام للآمدي (1/ 290 - 292) , شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 32) , تيسير التحرير (3/ 228) , شرح الكوكب المنير (2/ 218 - 223). (¬4) الإحكام للآمدي: (1/ 290). (¬5) ينظر: البرهان (2/ 818 - 819) , المستصفى (3/ 614) ,العدة (5/ 1430) , الإحكام للآمدي (3/ 317) , بيان المختصر للأصفهاني (3/ 87 - 88) , نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (8/ 3263) , البحر المحيط للزركشي (5/ 184) , شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 262) , نهاية السول (4/ 75) ,تيسير التحرير (4/ 39) , شرح الكوكب المنير (4/ 115) , إرشاد الفحول (2/ 879).

بل إن أكثر الأصوليين قدَّم الإجماع في مبحث مسالك العِلَّة على مسلك النصّ؛ وذلك باعتبار أن الإجماع أقوى, حيث لايتطرق إليه احتمال النسخ والتأويل, بينما ظواهر الكتاب والسُّنَّة تحتمل النسخ والتأويل (¬1). قال الأمين الشنقيطي: "ومرادهم بالإجماع الذي يُقَدَّم على النصِّ خصوص الاجماع القطعي دون الاجماع الظني، وضابط الإجماع القطعي هو الإجماع القولي، لا السكوتي، بشرط أن يكون مُشاهَداً أو منقولاً بعدد التواتر في جميع طبقات السَّند" (¬2). وقدَّم بعضهم النصَّ على الإجماع , وذلك باعتبار أن النصَّ أشرف من غيره, وكونُه مستند الإجماع (¬3). قال الزركشي: " وهو مقدَّمٌ في الرتبة على الظواهر من النصوص؛ لأنه لا يتطرق إليه احتمال النسخ, ومنهم من قدَّم الكلام على النصِّ لشرفه" (¬4). واعتبر الشوكاني تقديم مسلك الإجماع على مسلك النصّ , أو مسلك النصِّ على مسلك الإجماع " مجرَّد اصطلاحٍ في التأليف، فلا مشاحَّة فيه" (¬5). والمراد بالإجماع -هنا-: اتفاق مجتهدي الأُمَّة في عصرٍ من الأعصار بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على كون الوصف الجامع الفلاني عِلَّةً لحُكْم الأصل الفلاني (¬6). ¬

(¬1) ينظر: العدة (5/ 1430) , الإحكام للآمدي (3/ 317) , بيان المختصر للأصفهاني (3/ 87 - 88) , نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (8/ 3263) , البحر المحيط للزركشي (5/ 184) , التحبير شرح التحرير (7/ 3311) , شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 262) , التقرير والتحبير (3/ 189) , تيسير التحرير (4/ 39) , شرح الكوكب المنير (4/ 115) , فواتح الرحموت (2/ 347)، إرشاد الفحول (2/ 879 - 880). (¬2) مذكرة أصول الفقه: (394). (¬3) ينظر: المستصفى (3/ 614) , التمهيد للكلوذاني (4/ 21) , الإبهاج (3/ 53) , نهاية السول ... (4/ 75) , شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 262) , إرشاد الفحول (2/ 879). (¬4) البحر المحيط: (5/ 184). (¬5) إرشاد الفحول: (2/ 879). (¬6) ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 317) , نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (8/ 3263).

وهو مرتبتان بالنظر إلى طريق نقله (¬1): الأولى: إجماعٌ قطعي , وهو أن يُنْقَل نقلاً متواتراً بصريح مجموع الأُمَّة في عصرٍ من الأعصار أن الوصف الفلاني عِلَّةٌ للحُكْم الفلاني. الثانية: إجماعٌ ظنِّي , وهو أن يُذْكَر مايدل على إجماعهم ظنَّاً , كما إذا نُقِل أن بعضهم قال بأن الوصف الفلاني عِلَّةً للحُكْم الفلاني , مع علم الباقين بذلك , وعدم إنكارهم عليه, وهو ما اصطُلِح عليه ب"الإجماع السكوتي" , أو كما إذا نُقِل الإجماع نقلَ آحاد. وسواءٌ كان الإجماع -على كون الوصف الفلاني عِلَّةً للحُكْم - قطعياً أو ظنِّياً فإنه يُعْتَبر حُجَّةً يجب العمل به. ومن الأمثلة على كون الإجماع من المسالك التي يثبت بها مناط الحُكْم في الأصل ما يأتي: - وانعقد الإجماع على أن الصِغَر عِلَّةً لثبوت الولاية على الصغير في التصرُّف بماله , فتُلحَق ولاية النكاح للصغير بولاية المال , والجامع بينهما الصِغَر (¬2). - وانعقد الإجماع على أن العِلَّة في ضمان الغاصب ما أتلَفَ من مال هي كونه مالاً تَلِفَ تحت اليد العاديَة , فيُلحَق به السارق وإن أقيم عليه الحدّ، بجامع كون التالف مالاً تَلِفَ تحت اليد العاديَة (¬3). - وانعقد الإجماع على أن العِلَّة في تقديم الأخ من الأبوين في الإرث على الأخ لأب هي امتزاج النَّسَب -أي: كونه من الأبوين- فيُلحَق به تقديم الأخ من الأبوين على الأخ من الأب في ولاية النكاح , بجامع امتزاج النسبين في كلٍّ منهما (¬4). ¬

(¬1) ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 317) , نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (8/ 3263) ,فواتح الرحموت (2/ 347). (¬2) ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 317) , البحر المحيط للزركشي (5/ 184) , التقرير والتحبير (3/ 146 - 147) , تيسير التحرير (4/ 39) , شرح الكوكب المنير (4/ 116) , فواتح الرحموت (2/ 347). (¬3) ينظر: المستصفى (3/ 614) , البحر المحيط للزركشي (5/ 184). (¬4) ينظر: المستصفى (3/ 614) , الإبهاج (3/ 53 - 54) , نهاية السول (4/ 75 - 76) , البحر المحيط للزركشي (5/ 184) , شرح الكوكب المنير (4/ 116) , فواتح الرحموت (2/ 347).

ومما يجدر التنبيه إليه أنه: لا يلزم من إجماعهم على عِليَّة وصفٍ أن لا يقع خلافٌ معها؛ لجواز أن يكون وجودها في الأصل أو في الفرع مُتَنازَعاً فيه , كالإجماع الثابت بالآحاد أو السكوتي, أو يكون في حصول شرطها أو مانعها نزاع, أما إذا وقع الاتفاق قطعاً على ذلك كلِّه فلا يسوغ معه الخلاف (¬1). ثانيا: قد ينعقد الإجماع على أن الحُكْم الفلاني منوطٌ بوصفٍ - أي: إنه مُعلَّل - , ثم يقع الاختلاف في تعيين الوصف الذي يصلح مناطاً لذلك الحُكْم (¬2). ومثاله: الإجماع على أن الرِّبا في الأصناف الأربعة البُرِّ والشعير والتمر والملح منوطٌ بوصف , لكن وقع الاختلاف في تعيين الوصف الذي يصلح مناطاً لذلك الحُكْم , فذهب الحنفية إلى أنه القدر والجنس (¬3) , وذهب المالكية إلى أنه الاقتيات والادخار (¬4) , وذهب الشافعية إلى أنه الطُّعم (¬5) , وذهب الحنابلة إلى أنه الكيل والوزن (¬6). ثالثا: قد ينعقد الإجماع على حُكْمٍ شيء ما , ولايوجد ما يُنَصُّ صراحةً أو إيماءً على مناط الحُكْم , فيُجْتَهَد حينئذٍ في استخراجه بأحد المسالك المُعْتَبَرة , كالمناسبة أو السَّبْر والتقسيم أو الدوران كما تقدم (¬7). رابعا: قد يثبت الحُكْم بالنصّ , ويدل ظاهر النصِّ على تعليل الحُكْم بوصفٍ ما, فينعقد الإجماع على حذف خصوص ذلك الوصف عن الاعتبار, ¬

(¬1) ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 317) , نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (8/ 3263) , شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 234) , شرح الكوكب المنير (4/ 116) , سلم الوصول للمطيعي (4/ 75 - 76). (¬2) البحر المحيط للزركشي (5/ 184) , إرشاد الفحول (2/ 880). (¬3) ينظر: بدائع الصنائع (5/ 183) , تبيين الحقائق (4/ 87). (¬4) ينظر: مواهب الجليل (4/ 346) ,شرح مختصر خليل للخرشي (5/ 57). (¬5) ينظر: المجموع للنووي (9/ 401) , مغني المحتاج (2/ 364). (¬6) ينظر: المغني (4/ 5) , منتهى الإرادات (2/ 65). (¬7) ينظر: (144 - 180).

ويُناط الحُكْم بالمعنى الأعم؛ لأن الوصف المذكور ليس عِلَّةً لذاته بل لما يلازمه. وتُعَدُّ هذه الصورة إحدى صور الاجتهاد في تنقيح المناط كما تقدم (¬1). ويُشْتَرط في صحة هذا النوع من التصرُّف الاجتهادي: أن لا يرجع الوصف المستنبط - العِلَّة- على حُكْم الأصل بالإبطال (¬2). وذلك حتى لا يفضي إلى ترك الراجح واعتبار المرجوح؛ إذ الظنُّ المستفاد من النصِّ أقوى من المستفاد من الاستنباط؛ لأنه فرعٌ لهذا الحكم، والفرع لا يرجع على إبطال أصله، وإلا لزم أن يرجع إلى نفسه بالإبطال (¬3). ومثاله: قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار" (¬4). قال النووي: " ذهب العلماء كافَّةً من الطوائف كلِّها إلى أن الحَجَر ليس متعيناً , بل تقوم الخِرَق والخشب وغير ذلك مقامَه , وأن المعني فيه كونه مزيلاً , وهذا يحصل بغير الحَجَر ... ويدل على عدم تعيين الحجر نهيه صلى الله عليه وسلم عن العظام والبَعَر والرجيع , ولو كان الحَجَر متعيناً لنهى عما سواه مطلقاً ... " (¬5). والضابط في ذلك: " كلُّ جامدٍ طاهرٍ مُزيلٍ للعين ليس له حُرْمَة ولا هو جزءٌ من حيوان " (¬6). قال المرداوي: " وهو استنباطٌ يعود بالتعميم، كما في " وليستنج بثلاثة أحجار " يُعَمَّم في الخِرَق ونحوها، وفي " لا يقضي القاضي وهو غضبان " يُعمَّم في كلِّ ما يشوش الفكر، ولا يعود بالإبطال" (¬7). ¬

(¬1) ينظر: (64). (¬2) ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 306) , البحر المحيط للزركشي (5/ 152) ,التحبير شرح التحرير (7/ 3265) , بيان المختصر للأصفهاني (3/ 69) , تيسير التحرير (4/ 31) , إرشاد الفحول (2/ 874). (¬3) ينظر: المراجع السابقة. (¬4) أخرجه مسلم في "صحيحه" , كتاب الطهارة , باب الاستطابة, رقم (262) من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه. (¬5) شرح صحيح مسلم: (3/ 157). (¬6) المرجع السابق. (¬7) التحبير شرح التحرير: (6/ 2856).

وقال الإسنوي: " يجوز أن يُستنَبط من النصِّ معنىً يزيد على ما دل عليه، وهذا هو القياس المعروف .. " (¬1). ثم خرَّج على هذا الأصل مسألة: " جواز الاستنجاء بكلِّ جامدٍ طاهرٍ قالِعٍ غيرِ مُحْتَرمٍ استنبطوه من قوله عليه السلام: " وليستنج بثلاثة احجار" (¬2). خامسا: قد يثبت الحُكْم بالنصّ , ويدل ظاهر النصِّ على تعليل الحُكْم بالأوصاف المذكورة فيه , وينعقد الإجماع على حذف الأوصاف التي عُلم قطعاً أنه لاتأثير لها في الحكم, ثم يقع الاختلاف في حذف الأوصاف المظنونة التي تحتمل التأثير وعدمه, وتعيين الباقي مناطاً للحكم. وتُعَدُّ هذه الصورة إحدى صور الاجتهاد في تنقيح المناط كما تقدم (¬3). ومثاله: قصة الأعرابي الذي جامع أهله في رمضان، وجاء يضرب صدره وينتف شعره - كما في بعض الروايات - ويقول: هلكت، واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أعتق رقبة" (¬4). فكونه أعرابياً، وكونه يضرب صدره، وينتف شعره، وكون الموطوءة زوجته، وكونه وَاَقَع أهله في ذلك الشهر بعينه، كُلُّها أوصافٌ عُلِم قطعاً أنها لا تصلح للعِلِّية، فانعقد الإجماع على حذفها عن درجة الاعتبار، ثم وقع الاختلاف في كونه أفسد صوماً محترماً، أو كونه وقاعُ مكلَّفٍ في نهار رمضان (¬5). قال الغزالي: " فإنَّا نُلْحِق به أعرابياً آخر بقوله - عليه السلام -: «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة» (¬6) أو بالإجماع على أن التكلَّيف يَعمُّ الأشخاص، ولكنَّا ¬

(¬1) التمهيد في تخريج الفروع على الأصول: (1/ 373). (¬2) المرجع السابق: (1/ 374). (¬3) ينظر: (64 - 65). (¬4) سبق تخريجه: (66). (¬5) ينظر: (65). (¬6) هذا الحديث ليس له أصلٌ بهذا اللفظ. ينظر: المقاصد الحسنة (192 - 193)، كشف الخفاء (1/ 436 - 437)، الفوائد المجموعة للشوكاني (185).

نُلْحِق التركي والعجمي به؛ لأنَّا نعلم أن مناط الحُكْم وقاع مكلفٍ لا وقاع أعرابي، ونُلْحِق به مَنْ أفطر في رمضان آخر؛ لأنَّا نعلم أن المناط هَتْكُ حُرْمَة رمضان لا حُرْمَة ذلك الرمضان، بل نُلْحِق به يوماً آخر من ذلك الرمضان, ولو وطئ أَمَتَه أوجبنا عليه الكفارة؛ لأنَّا نعلم أن كون الموطوءة منكوحةً لا مدخل له في هذا الحُكْم، بل يُلْحَق به الزنا؛ لأنه أشدُّ في هتك الحُرْمَة، إلا أن هذه الحالات معلومة ... وقد يكون حذف بعض الأوصاف مظنوناً فينقدح الخلاف فيه، كإيجاب الكفارة بالأكل، والشرب؛ إذ يمكن أن يقال: مناط الكفارة كونه مُفْسِداً للصوم المُحْتَرَم، والجماع آلة الإفساد، كما أن مناط القصاص في القتل بالسيف كونه مُزْهِقاً روحاً مُحْتَرَمَة، والسيف آلة، فيُلْحَق به السِّكِّين، والرُّمح، والمُثَقَّل، فكذلك الطعام، والشراب آلة، ويمكن أن يقال: الجماع مما لا تنزجر النفس عنه عند هيجان شهوته لمجرد وازع الدين، فيُحتَاج فيه إلى كفارةٍ وازعةٍ بخلاف الأكل, وهذا مُحْتَمَل." (¬1). سادسا: قد يثبت الحُكْم الشرعي , ويثبت مناطه بطريقٍ من الطرق المُعْتَبَرة , ثم ينعقد الإجماع على تحقُّق ذلك المناط في بعض جزئياته (¬2). وانعقاد الإجماع على إثبات متعلَّق حُكمٍ شرعي في بعض أفراده هذا يستلزم الاتفاق على ثلاثة أشياء: الأول: الاتفاق على حُكْم الأصل. الثاني: الاتفاق على مناط الحُكْم في الأصل. الثالث: الاتفاق على ثبوت مناط الحُكْم في ذلك الفرع. ومثاله: اتفاق المجتهدين على تحريم وطء الحائض؛ لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وهو اتفاقٌ منهم على حُكْم الأصل، ثم اتفقوا على أن ¬

(¬1) المستصفى: (3/ 488 - 490). (¬2) ينظر: (264).

مناط الحُكْم في ذلك هو: القذر والنجاسة، ثم اتفقوا على أن هذا المناط - وهو القذر والنجاسة - موجودٌ في النفاس، وهو إتفاقٌ منهم على ثبوت مناط الحُكْم في ذلك الفرع (¬1). ¬

(¬1) ينظر: المغني لابن قدامة (1/ 419)، المجموع للنووي (2/ 537)، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (3/ 480).

المبحث الرابع علاقة الاجتهاد في المناط بالقياس

المبحث الرابع علاقة الاجتهاد في المناط بالقياس سأتناول في هذا المبحث بيان علاقة الاجتهاد في المناط بالقياس , وذلك من خلال ثلاثة مطالب , وهي على النحو الآتي: المطلب الأول: تعريف القياس لغةً واصطلاحاً. القياس في اللغة: التقدير والتسوية. يقال: قاس الشيئ بغيره , إذا قدّره على مثاله, وساواه به (¬1). أما القياس في الاصطلاح فقد اختلف الأصوليون في تعريفه بناءً على اختلافهم في اعتبار أنه من فعل المجتهد , أو أنه دليلٌ بذاته , نظر المجتهد فيه أو لم ينظر؟ فمن ذهب إلى أن القياس عمل المجتهد عبَّر في تعريفه ب"الحمل" أو "الإثبات" أو " الإلحاق " ومافي معناه , ومن أشهر التعريفات بناءً على ذلك مايأتي: - عرَّفه الباقلاني بأنه: " حمل معلومٍ على معلومٍ في إثبات حُكْمٍ لهما أو نفيه عنهما بأمرٍ جامعٍ بينهما من إثبات حُكْمٍ أو صفةٍ أو نفيهما عنهما" (¬2). - وعرَّفه البيضاوي بأنه: " إثبات حُكْمِ معلومٍ في معلومٍ آخر لاشتراكهما ¬

(¬1) ينظر: معجم مقاييس اللغة (5/ 41) , لسان العرب (6/ 187) , تاج العروس (16/ 421) مادة "ق وس ". (¬2) ينظر: البرهان (2/ 745) , المستصفى (3/ 481) , المحصول (5/ 5) , البحر المحيط للزركشي (5/ 8).

في عِلَّة الحُكْم عند المُثْبِت" (¬1). - وعرَّفه ابن السُّبكي بأنه: " حملُ معلومٍ على معلومٍ لمساواته في عِلَّة حُكْمِه عند الحامِل" (¬2). ومن ذهب إلى أن القياس دليلٌ بذاته , نصبه الشارع للدلالة على الحُكْم , سواءٌ نظر فيه المجتهد أم لم ينظر , عبَّر في تعريفه ب" الاستواء" أو " المساواة" , ومن أشهر التعريفات بناءً على ذلك ما يأتي: - عرَّفه الآمدي بأنه: " الاستواء بين الفرع والأصل في العِلَّة المُستْنَبطة من حُكْم الأصل " (¬3). - وعرَّفه ابن الحاجب بأنه: " مساواة فرعٍ لأصلٍ في عِلَّة حُكْمِه " (¬4). والفرق بين الاتجاهين: أن أصحاب الاتجاه الأول اعتبروا الدليل هو إثبات المساواة بين الفرع والأصل في عِلَّة الحُكْم وإظهارها, بينما اعتبر أصحاب الاتجاه الثاني أن الدليل هو المساواة ذاتها بين الفرع والأصل في عِلَّة الحُكْم , وليس الدليل هو إظهار المساواة بينهما الذي يُعْتَبر عمل المجتهد لا دليل الحُكْم , ودليل الحُكْم يلزم أن يكون ثابتاً في نفسه , نظر فيه المجتهد أم لم ينظر كالنصّ؛ لأنه يسبق عمل المجتهد (¬5). والأظهر أن القياس تصرُّفٌ اجتهاديٌّ مبنيٌّ على دليلٍ مُعتبَرٍ بذاته , كالكتاب أو السُنَّة أو الإجماع , فهو طريق الحُكْم , وليس دليله. فالقياس مُظْهِرٌ للحُكْم وليس مُثْبِتاً له, والمُثْبِت له هو دليل الأصل؛ حيث إن القياس يُظْهِر المساواة بين الفرع والأصل في عِلَّة الحُكْم , ودليل ¬

(¬1) منهاج الوصول (55) , الإبهاج شرح المنهاج (3/ 3) , نهاية السول (4/ 2). (¬2) جمع الجوامع (80) , شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 238 - 239). (¬3) الإحكام: (3/ 237). (¬4) مختصر ابن الحاجب (2/ 1025 - 1026) , بيان المختصر للأصفهاني (3/ 6) , رفع الحاجب عن مختصر ابن السبكي (4/ 137) , شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 204). (¬5) ينظر: شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 239 - 240).

الأصل هو المُثْبِت للحُكْم , ولولا دليل الأصل لكان ذلك إثباتاً للشرع بالتحَكُّم (¬1). ثم إن المساواة بين الفرع والأصل في عِلَّة الحُكْم إذا لم تظهر لم يُعْتَبر ذلك قياساً؛ لأنها خفيَّةٌ لم تُعْلَم , فالمساواة هي الأصل الذي بَنَى عليه القائس تصرَّفه الاجتهادي , والمجتهد لايعطي حُكْمَاً بمجرَّد نظره , بل يتبيَّن المساواة بين الفرع والأصل في عِلَّة الحُكْم , وذلك بالطرق المُعْتَبرة شرعاً, فإذا ثبتت عنده المساواة أظهرها وأثبتها, وألْحَقَ الفرع بالأصل في حُكْمِه. قال التفتازاني: " واعلم أن القياس وإن كان من أدلة الأحكام مثل الكتاب والسُّنَّة لكن جميع تعريفاته واستعمالاته منبئٌّ عن كونه فعل المجتهد , فتعريفه بنفس المساواة محلُّ النظر" (¬2). والأظهر " أن أكثر الأصوليين إنما عرَّفوه بما هو فعل المجتهد, وإن كان الدليل في الحقيقة هو الاشتراك في العِلَّة؛ لأن جميع استعمالاته تنبئ عن كونه فعل المجتهد , ولعل السِرَّ في كونه استُعمِل كذلك أنه بهذا الاعتبار هو محلُّ القبول والردّ , وأما مجرَّد المساواة من غير نظر المجتهد فلا اعتداد بها, ولا يترتَّب عليها شيء" (¬3). ومما يدل على ذلك: - ماثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: بم تَحْكُم؟ قال: بكتاب الله, قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: بسُنَّة رسول الله, قال: فإن لم تجد في سُنَّة رسول الله؟ قال: أجتهدُ رأيي ولا آلو, فقال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يرضاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم" (¬4). - ما جاء في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري قوله: ¬

(¬1) ينظر: المحصول (5/ 6). (¬2) حاشية التفتازاني على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب: (2/ 205). (¬3) نبراس العقول: (1/ 31). (¬4) سبق تخريجه: (22).

" الفهمَ الفهمَ فيما أُدلي إليك مما ليس في قرآنٍ ولا سُنَّة, ثم قِس الأمور عند ذلك, واعرف الأمثال والأشباه , ثم اعمد فيها إلى أحبِّها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق" (¬1). والمقايسة عبارةٌ عن إلحاق ماليس فيه نصٌّ بما فيه نصٌّ لجامعٍ مشتركٍ بينهما, وهذا الإلحاق تصرُّفٌ اجتهاديٌّ مبنيٌّ على أدلةٍ شرعيَّةٍ مُعتبَرةٍ ثبت معها -عند المجتهد- الاستواء بين الفرع والأصل في عِلَّة الحُكْم , وهو اجتهادٌ في موجِب الكتاب والسُنَّة والإجماع (¬2). والقياس تصرُّفٌ اجتهاديٌّ يدخل في قوله رضي الله عنه: " أجتهدُ رأيي" , وقد نسبه إلى فعله , فدلَّ ذلك على أنه فعل المجتهد باعتباره مُظْهِراً للحُكْم لا دليلاً مستقلاً بذاته. - إن ثمرة القياس هي ثبوت مثل حُكْم الأصل في الفرع , وذلك لاشتراكهما في عِلَّة الحُكْم , وهذا يستلزم إثباتَ عِلَّة الحُكْم في الأصل أوَّلاً , ثم إثبات وجودها في الفرع ثانياً , ولايتم ذلك إلا بالاجتهاد الذي يتبيَّن به القائسُ ثبوتَ الاشتراك في العِلَّة بين الأصل والفرع. ولهذا نلحظ المهرة من الأصوليين كالبيضاوي , وابن السُّبكي , في تعريفهم للقياس " يعلِّلون الإثبات أو الحمل بما هو الدليل في الحقيقة , وهو المساواة في العِلَّة " (¬3). وبناءً على ذلك فإن من أدقِّ التعريفات للقياس أن يقال هو: " إثباتُ مثلِ حُكْمِ معلومٍ لمعلومٍ آخر لأجل اشتراكهما في عِلَّة الحُكْم عند المُثْبِت" (¬4). فقوله: "إثبات" يراد به المُشترَك بين العلم والظنِّ والاعتقاد؛ لأنَّا إذا ¬

(¬1) سبق تخريجه: (229). (¬2) ينظر: التبصرة للشيرازي (426). (¬3) نبراس العقول: (1/ 31 - 32). (¬4) ينظر: شرح تنقيح الفصول (383) , نهاية السول (2/ 4) , الإبهاج (3/ 3).

أثبتنا حُكْمَاً بالقياس، فقد يعلم المجتهد ثبوت ذلك الحُكْم في الفرع قطعاً، وقد يظنّه ظنَّاً، وقد يعتقده اعتقاداً، والعلم والظن والاعتقاد مشترِكةٌ في كونها إثباتاً (¬1). وقوله: "مثل حُكْمِ معلومٍ" لأن حُكْم الفرع ليس هو نفس حُكْم الأصل، إذ الحُكْم وصفٌ لمحلِّه، ووصف أحد المحلِّيْن ليس وصفاً للآخر، فتحريم الخمر ليس هو نفس تحريم النبيذ، بل هو مثله (¬2). وقوله: "حُكْمِ معلومٍ لمعلوم" ليتناول الموجود والمعدوم، ولم يقل: حُكْم شيءٍ لشيء؛ لئلا يختصَّ بالموجود على أصل أن المعدوم ليس بشيء، والقياس الشرعي جارٍ في الموجود والمعدوم والمُثْبَت والمنفي (¬3). وقوله: "لاشتراكهما في عِلَّة الحكم" ظاهر؛ لأن القياس لايوجد بدون عِلَّة , واحتُرِز بذلك عن إثبات مثل حُكْمِ معلومٍ في معلومٍ آخر لا للاشتراك في العِلَّة, بل لدلالة نصٍّ أو إجماعٍ فإنه لا يكون قياساً (¬4). وقوله: "عند المُثْبِت" ليشمل القياس الصحيح والفاسد؛ وذلك لأن العِلَّة قد تكون منصوصةً، وقد تكون مُستنبَطةً، كعِلَّة الرِّبا المُستخْرَجة من تحريم الرِّبا في الأعيان الستة بطريق تخريج المناط، وهل هي الكيل، أو الطعم، أو الوزن، أو الاقتيات؟ وقد ذهب إلى كلِّ واحدةٍ منها بعض المجتهدين، ومراد الشرع إنما هو واحدةٌ منها، فلو اقتصرنا على قولنا: "لاشتراكهما في عِلَّة الحكم " لكان بتقدير أن تكون العِلَّة المرادة من الحديث هي الكيل، يكون التعليل بغيرها قياساً فاسداً خارجاً عن الحدِّ المذكور؛ لأنه بغير العِلَّة المرادة للشارع، فإذا قلنا: لاشتراكهما في عِلَّة الحُكْم عند المُثْبِت- وهو القائس- كان إثبات كلِّ مجتهدٍ للحُكْم بالوصف الذي رآه عِلَّةً قياساً شرعياً داخلاً في الحدِّ المذكور (¬5). ¬

(¬1) ينظر: شرح تنقيح الفصول (383) , نهاية السول (4/ 2 - 3) , الإبهاج (3/ 3). (¬2) ينظر: شرح تنقيح الفصول (384) , نهاية السول (4/ 3) , الإبهاج (3/ 3). (¬3) ينظر: نهاية السول (4/ 3) , الإبهاج (3/ 3 - 4). (¬4) ينظر: شرح تنقيح الفصول (383 - 384) , نهاية السول (4/ 3) , الإبهاج (3/ 4). (¬5) ينظر: شرح تنقيح الفصول (383 - 384) , نهاية السول (4/ 3) , الإبهاج (3/ 4).

المطلب الثاني: حجية القياس.

ورغم كثرة تعريفات الأصوليين للقياس إلا أنها ترجع إلى معنىً واحد , وهو إلحاق الفرع بالأصل في حكمه لاشتراكهما في عِلَّة الحُكْم. قال ابن السمعاني: " وقد بسط بعضهم هذا الحدَّ فقال: القياس طلب أحكام الفروع المسكوت عنها من الأصول المنصوص عليها بالعلل المُستنْبَطة من معانيها؛ ليُلْحَق كلَّ فرعٍ بأصله حتى يشركه في حكمه لاستوائهما في المعنى , والجمع بينهما بالعِلَّة " (¬1). وقال الطوفي: " والعبارات في تعريف القياس كثيرة، وحاصلها يرجع إلى أنه اعتبار الفرع بالأصل في حكمه " (¬2). وسواءٌ قيل إنه دليل الحُكْم بذاته أو طريق الحُكْم , فالقياس دليلٌ شرعيٌّ مُعتَبرٌ إما في ذاته , أو بالنظر إلى مايؤؤل إليه (¬3). المطلب الثاني: حُجِّية القياس. ذهب الصحابة , والتابعون ,وأكثر الفقهاء والمتكلمين , إلى القول بحُجِّية القياس , ووقوعه في الشرعيات (¬4). قال إمام الحرمين الجويني: " ذهب علماء الشريعة وأهل الحل والعقد إلى أن التعبُّد بالقياس في مجال الظنون جائزٌ غير ممتنع". (¬5). وقال الغزالي: " والذي ذهب إليه الصحابة - رضي الله عنهم - بأجمعهم، وجماهير الفقهاء والمتكلمين بعدهم - رحمهم الله - وقوع التعبُّد به شرعاً " (¬6). وقال الآمدي: "وبه قال السلف من الصحابة , والتابعين , والشافعي , ¬

(¬1) قواطع الأدلة: (4/ 4). (¬2) شرح مختصر الروضة: (3/ 223). (¬3) ينظر: نبراس العقول (1/ 55). (¬4) ينظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 251) تيسير التحرير (4/ 108)، شرح الكوكب المنير (4/ 213)، فوتح الرحموت (2/ 364). (¬5) البرهان: (2/ 9). (¬6) المستصفى: (3/ 494).

وأبو حنيفة , ومالك, وأحمد بن حنبل , وأكثر الفقهاء والمتكلمين" (¬1). وأنكر الظاهرية حجيَّة القياس , والتعبُّد به في الشرعيات (¬2). والمقصود بالحجية - هنا-: وجوب العمل شرعاً بمقتضى القياس في حقِّ المجتهد والمقلِّد. وقال الفخر الرازي: " المراد من قولنا القياس حُجَّةً أنه إذا حصل ظنٌّ أن حُكْم هذه الصورة مثل حُكْم تلك الصورة فهو مكلَّفٌ بالعمل به في نفسه , ومكلَّفٌ بأن يُفْتِىَ به غيرَه " (¬3). وقد استدل الأصوليون على إثبات حجيَّة القياس بالكتاب , والسُّنَّة , والإجماع , والمعقول , وأكثرها لايسلم من اعتراضاتٍ واحتمالاتٍ بعضها له حظٌّ من النظر , وسأكتفي بأقواها دلالةً على المطلوب, وهو إجماع الصحابة على العمل بالقياس في الوقائع التي لا نصَّ فيها , وتكرُّر العمل به , واشتهار ذلك بينهم من غير نكير (¬4). وقد اقتصر إمام الحرمين الجويني على الاحتجاج به في إثبات وقوع التعبُّد بالقياس في الشرعيات (¬5). وقال الفخر الرازي: " وهو الذي عوَّل عليه جمهور الأصوليين" (¬6). ولما ساق الآمدي أدلة المثبتين للقياس وذكر دليل الإجماع قال: " وهو أقوى الحجج في هذه المسألة " (¬7). ¬

(¬1) الإحكام: (4/ 9). (¬2) ينظر في أدلتهم: الإحكام لابن حزم (7/ 53 - 8/ 76) , ملخص إبطال القياس لابن حزم (5 وما بعدها). (¬3) المحصول: (5/ 20). (¬4) ينظر: نهاية السول (4/ 17) , شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 251) , فواتح الرحموت (2/ 366). (¬5) ينظر: البرهان (2/ 763 - 773). (¬6) المحصول: (5/ 53). (¬7) الإحكام: (4/ 50).

وقال صفي الدين الهندي: " هو المعول عليه لجماهير المحققين من الأصوليين" (¬1). وقال الإسنوي: " وهذا الدليل - أي: الإجماع- هو الذي ارتضاه ابن الحاجب وادَّعى ثبوته بالتواتر، وضعَّف الاستدلال بما عداه" (¬2). والوقائع والأقضية التي استند الصحابة - رضي الله عنهم - فيها إلى الاجتهاد بالقياس كثيرةٌ يصعب حصرها. قال إمام الحرمين الجويني: " نحن نعلم قطعاً أن الوقائع التي جرت فيها فتاوى علماء الصحابة وأقضيتهم تزيد على المنصوصات زيادةً لا يحصرها عدٌّ ولا يحويها حدٌّ , فإنهم كانوا قايسين في قريب من مائة سَنَة، والوقائع تترى والنفوس إلى البحث طلعة , وما سكتوا عن واقعةٍ صائرين إلى أنه لا نصَّ فيها، والآيات والأخبار المشتملة على الأحكام نصَّاً وظاهراً , بالإضافة إلى الأقضية والفتاوى كغرفةٍ من بحرٍ لا يُنْزَف، وعلى قطعٍ نعلم أنهم ما كانوا يحكمون بكلِّ ما يعِنُّ لهم من غير ضبطٍ وربط، وملاحظة قواعد متَّبَعةٍ عندهم , وقد تواتر من شيمهم أنهم كانوا يطلبون حُكْم الواقعة من كتاب الله تعالى , فإن لم يصادفوه فتَّشوا في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن لم يجدوها اشتوروا ورجعوا إلى الرأي" (¬3). ومن ذلك: رجوع الصحابة إلى اجتهاد أبي بكر - رضي الله عنه - في أخذ الزكاة من بني حنيفة، وقتالهم على ذلك قياساً على الصلاة (¬4). ومن ذلك: قياس أبي بكر - رضي الله عنه - تعيين الإمام بالعهد على تعيينه بعقد البيعة، حتى إنه عهد إلى عمر - رضي الله عنه - بالخلافة ووافقه على ذلك الصحابة (¬5). ومن ذلك: ما روي عن عمر - رضى الله عنه - أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: ¬

(¬1) نهاية الوصول: (7/ 3108). (¬2) نهاية السول: (4/ 18). (¬3) البرهان: (2/ 13 - 14). (¬4) ينظر: المستصفى (3/ 508)، الإحكام للآمدي (4/ 51)، فواتح الرحموت (2/ 366). (¬5) ينظر: المستصفى (3/ 507)، الإحكام للآمدي (4/ 52).

" اعرف الأشباه والأمثال ثم قِس الأمور برأيك " (¬1). ومن ذلك قول علي - رضي الله عنه - في حدِّ شارب الخمر: " «إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فحدُّوه حدَّ المفترين» (¬2) وفيه قياس حدِّ الشارب على القاذف (¬3). قال الآمدي: " إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تُحصَى، وذلك يدل على أن الصحابة مثَّلوا الوقائع بنظائرها وشبَّهوها بأمثالها، وردُّوا بعضها إلى بعضٍ في أحكامها، وأنه ما من واحدٍ من أهل النظر والاجتهاد منهم إلا وقد قال بالرأي والقياس, ومن لم يوجد منه الحُكْم بذلك فلم يوجد منه في ذلك إنكار، فكان إجماعاً سكوتياً وهو حُجَّةٌ مغلَّبَةٌ على الظنَّ، وإنما قلنا إنهم قالوا بالرأي والقياس في جميع هذه الصور، وذلك لا بدَّ لهم فيها من مستندٍ وإلا كانت أحكامهم بمحض التشهي والتحُكُّم في دين الله من غير دليل، وهو ممتنع، وذلك المستند يمتنع أن يكون نصَّاً، وإلا لأظهر كلُّ واحدٍ ما اعتمد عليه من النصّ ; إقامةً لعذره وردَّاً لغيره عن الخطأ بمخالفته على ما اقتضته العادة الجارية بين النُّظَّار، ولأن العادة تحيل على الجمع الكثير كتمان نصٍّ دعت الحاجة إلى إظهاره في محلِّ الخلاف, وهذا بخلاف ما إذا أجمعوا على حُكْمٍ في واقعةٍ بناءً على نصّ، فإنه لا يمتنع اتفاقهم على عدم نقله بناءً على الاكتفاء في ذلك الحُكْم بإجماعهم، ولو أظهروا تلك النصوص واحتجُّوا بها لكانت العادة تحيل عدم نقلها، فحيث لم تُنْقَل دلَّ على عدمها، وإذا لم يكن نصَّاً تعيَّن أن يكون قياساً واستنباطاً" (¬4). والقياس يقتضي ردَّ الواقعات فيما لانصَّ فيه إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم مما فيه نصّ , وهو امتثالٌ لقوله تعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. ¬

(¬1) ينظر: قواطع الأدلة (4/ 43)، الإحكام للآمدي (4/ 53)، المستصفى (3/ 515)، المحصول (5/ 54) , العدة (5/ 1297 - 1298). (¬2) أخرجه الحاكم في " مستدركه " (4/ 375)، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬3) ينظر: فواتح الرحموت (2/ 366). (¬4) الإحكام: (4/ 55 - 56).

المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بالقياس.

و" ليس يخلو أمْرُ الله تعالى بالرد إلى كتابه وسُنَّة نبيه عند التنازع من أحد ثلاثة معانٍ: إما أن يكون أمراً بردِّ المُتنازَع فيه إلى ما نصَّ الله عليه في كتابه ورسوله في سُنَّته لا إلى غير ذلك , فأيُّ منازعةٍ وأي اختلافٍ يقع فيما قد تولَّى الله ورسوله الحُكْم فيه نصَّاً , فهذا لا معنى له، أو يكون أمراً بردِّه إلى ما ليس له بنظيرٍ ولا شبيه , ولا خلاف أن ذلك لا يجوز أو يكون أمراً بردِّه إلى جنسه ونظيره مما قد تولَّى الله ورسوله الحُكْم فيه نصَّاً فيُستَدل بحكمه على حكمه , ولا وجه للردِّ إلى غير هذا المعنى؛ لفساد القسمين الأولين, وأن لا رابع لما ذكرناه" (¬1). وما نُقِل عن بعض الصحابة مما يُستَدل به على إنكار العمل بالرأي والقياس فهو محمولٌ على القياس الباطل الذي يخالف الكتاب أو السُّنَّة أو الإجماع أو القواعد الشرعيَّة, أما ما كان مستوفياً لأركانه وشروطه فهو من القياس المُعتبَر شرعاً (¬2). المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بالقياس. يُعْتَبر دليل القياس أوثق الأدلة الشرعيَّة صلَةً بالاجتهاد في المناط , وتظهر هذه العلاقة الوثيقة بينهما في جوانب عديدة , من أهمها مايأتي: أولا: الاجتهاد في المناط بأنواعه الثلاثة يُعْتَبر أهم مُتَعَلَّقات النظر والاستدلال في القياس، ومرجع ذلك إلى أمرين: الأول: أن الاجتهاد في المناط هو المقدمة الضرورية لإجراء القياس. والثاني: أن النظر في كلِّ الأنواع الثلاثة للاجتهاد في المناط يتوجّه إلى أهم ركنٍ من أركان القياس وهو " العِلَّة ". ¬

(¬1) الفقيه والمتفقه: (1/ 469). (¬2) ينظر: الإحكام للآمدي (4/ 62 - 63).

وتوضيح ذلك على النحو الآتي: أما كون الاجتهاد في المناط هو المقدمة الضرورية للقياس فذلك لأن القياس يتوقف على مقدمتين: المقدمة الأولى: إثبات العِلَّة في حُكْم الأصل بمسلكٍ من مسالك العِلَّة المُعْتَبرة. والمقدمة الثانية: إثباتُ عِلَّة حُكْم الأصلِ في الفرع. فإن ثبتت العِلَّة في حُكْم الأصل بالنصِّ مع أوصافٍ أخرى لا تأثير لها في الحكم تعلَّق النظر فيها - حينئذٍ- بتنقيح المناط، وإن ثبتت العِلَّة في حُكْم الأصل بالاستنباط تعلَّق النظر فيها بتخريج المناط، وبهذا تتقرر المقدمة الأولى. ثم إذا ثبتت العِلَّة في حُكْم الأصل بالنصِّ أو الإجماع أو الاستنباط كما في المقدمة الأولى فالنظر فيها بعد ذلك يتعلَّق بالتحقُّق من وجودها في الفرع وهو تحقيق المناط، وبهذا تتقرر المقدمة الثانية بعد تقرر الأولى. قال الفخر الرازي: " واعلم أن الجمع بين الأصل والفرع تارةً يكون بإلغاء الفارق والغزالي يسميه تنقيح المناط , وتارةً باستخراج الجامع , وهاهنا لابدَّ من بيان أن الحُكْم في الأصل مُعلَّلٌ بكذا , ثم من بيان وجود ذلك المعنى في الفرع , والغزالي يُسمِّي الأول تخريج المناط , والثاني تحقيق المناط " (¬1). ومن خلال النظر في هاتين المقدمتين يتضح أن المقدمة الأولى لابدَّ أن تتضمن تنقيح المناط أو تخريج المناط، وأن المقدمة الثانية لابدَّ فيها من تحقيق المناط. فإذا ثبتت المقدمة الأولى ثم ثبتت المقدمة الثانية أجرى المجتهد القياس، فأثْبَتَ مثلَ حُكْم الأصل في الفرع؛ لاشتراكهما في عِلَّة الحُكْم. ¬

(¬1) المحصول: (5/ 20).

ومن هذا الوجه يُعْتَبر الاجتهاد في المناط المقدمة الضرورية لإجراء القياس. أما كون الاجتهاد في المناط يتعلَّق بالنظر في أهم ركنٍ من أركان القياس فذلك لأن الأنواع الثلاثة للاجتهاد في المناط تشترك كلها في أنها تَرِدُ على العِلَّة، إما لتنقيحها إذا كانت العِلَّة منصوصةً واقترن بها من الأوصاف ما يصلح للعلية وما لا يصلح، أو لتخريجها إذا كانت العِلَّة مُسْتنبَطة، أو لتحقيقها في الفرع سواءً ثبتت العِلَّة في حُكْم الأصل بالنصِّ أو الإجماع أو الاستنباط. وقد ذكر الأصوليون الأنواع الثلاثة للاجتهاد في المناط ضمن مباحث العِلَّة، وصرَّحوا بأن المقصود بـ" المناط" في اصطلاحهم - هنا - العِلَّة واعتبروه أحد إطلاقاتها كما تَقَدَّم (¬1). والعِلَّة أهم ما يُعْتَنَى به في باب القياس على الإطلاق؛ لأنها ركن القياس الأعظم، وهي الطريق الموصل إلى أحكام الوقائع المتجدِّدة التي لا حصر لها (¬2). ولا ريب أن القول بعدم اعتبار العلل الشرعيَّة قولٌ يفضي إلى تعطيل الشريعة في الأزمنة المتجدِّدة؛ لأنه لابدَّ من حدوث وقائع لا تكون منصوصاً على حكمها، وعند ذلك إما أن يُتْرَكَ الناسُ فيها مع أهوائهم، وهو خلاف المقصود من إنزال الشرائع والتعبُّد بها، أو يُنْظَرَ فيها بغير اعتبارٍ للمعاني والأوصاف التي أناط الشارع الأحكام بها، فيُجْمَعُ بين المُختلِفات ويُفرَّقُ بين المتماثلات، وهو مناقضةٌ لقصد الشارع، وإهدارٌ للمعاني التي علَّقت الشريعة الأحكام بها وجوداً وعدماً، ومجانبةٌ للعدل الذي أنزل الله به الكتب وأرسل من أجله الرسل. قال ابن تيمية: " القياس الصحيح حقيقته التسوية بين المتماثلين، وهذا هو العدل الذي أنزل الله به الكتب، وأرسل به الرسل، والرسول لا يأمر ¬

(¬1) ينظر: (31 - 33). (¬2) ينظر المعتمد: (2/ 692)، البحر المحيط للزركشي (7/ 142)، نبراس العقول (215).

بخلاف العدل، ولا يَحْكُم في شيئين متماثلين بحكمين مختلفين، ولا يُحرِّم الشيء ويُحِلُّ نظيره " (¬1). وقال ابن القيم: " وهل إبطالُهُ الحِكَم والمناسباتِ والأوصافَ التي شُرِعَت الأحكام لأجلها إلا إبطالٌ للشرع جملة، وهل يُمْكِنُ فقيهاً على وجه الأرض أن يتكلَّم في الفقه مع اعتقاده بطلان الحكمة والمناسبة والتعليل وقصد الشارع بالأحكام مصالح العباد؟ وجناية هذا القول على الشرائع من أعظم الجنايات " (¬2). وقال الشاطبي: " الوقائع في الوجود لا تنحصر، فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره، فلابدَّ من حدوث وقائع لا تكون منصوصاً على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، وعند ذلك فإما أن يُتْرَكَ الناسُ فيها مع أهوائهم أو يُنْظَرَ فيها بغير اجتهادٍ شرعي، وهو - أيضاً- اتباعٌ للهوى، وهو معنى تعطيل التكليف لزوماً .. " (¬3). ولهذا فإن للاجتهاد في المناط أهميةً بالغة، حيث تعلَّق النظر والاستدلال في أنواعه الثلاثة بالأوصاف والمعاني التي أناط الشارع الأحكام بها وجوداً وعدماً، وذلك من خلال تنقيح العلل المنصوصة التي اقترنت بها أوصافٌ بعضها يصلح للعِلِّية وبعضها لا يصلح، واستخراج العلل المُستنْبَطة، ثم إثبات وجودها في الفروع وآحاد الصور والجزئيات غير المتناهية , و" العِلَّة" أهم ركنٍ من أركان القياس. ثانياً: القياس تارةً يكون بذكر الجامع , وتارةً يكون بإلغاء الفارق، وإلغاء الفارق من صور تنقيح المناط كما تقدم (¬4). وبناءً على ذلك اعتبر جمهور الأصوليين الاجتهاد في تنقيح المناط من القياس (¬5). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى: (22/ 332). (¬2) شفاء الغليل: (362 - 363). (¬3) الموافقات: (5/ 38 - 39). (¬4) ينظر: نهاية الوصول (8/ 3381)، الابتهاج (6/ 2396)، البحر المحيط للزركشي (7/ 323)، إرشاد الفحول (2/ 641). (¬5) ينظر: (77 - 78).

قال صفي الدين الهندي: " والحقُّ أن تنقيح المناط قياسٌ خاصٌّ مندرجٌ تحت مُطْلَق القياس، وهو عامٌّ يتناوله وغيرَه " (¬1). واصطلح الحنفية على تسميته بـ" الاستدلال "، أو "دلالة النص", وفرَّقوا بينه وبين القياس: بأن القياس يجري فيه إلحاق الفرع بالأصل بذكر الجامع الذي لا يفيد إلا غَلَبَة الظن، أما الاستدلال فيكون بإلغاء الفارق لما ثبت عِلَّته بالنصِّ بحذف خصوص عِلَّةً النصِّ، وهذا يفيد القطع، فيكون أقوى من القياس، فلذا أجروه مجرى القطعيات في النسخ به ونسخه (¬2). وقال الإسنوي: " وهذا النوع عند الحنفية يُسَمُّونه بالاستدلال، وليس عندهم من باب القياس " (¬3). وقد عقَّب صفي الدين الهندي على ذلك بقوله: " والحقُّ أن تنقيح المناط قياسٌ خاصٌّ مندرجٌ تحت مُطْلَق القياس، وهو عامُّ يتناوله وغيره، وكلُّ واحدٍ من القياسين- أعني ما يكون الإلحاق بذكر الجامع وبإلغاء الفارق - يُحْتَمَلُ أن يكون ظنياً وهو الأكثر؛ إذ قلما يوجد الدليل القاطع على أن الجامع عِلَّة، أو أن ما به الامتياز لا مدخل له في العِلِّية، وقد يكون قطعياً بأن يوجد ذلك فيه، نعم حصول القطع فيما فيه الإلحاق بإلغاء الفارق أكثر من الذي فيه الإلحاق بذكر الجامع، لكن ليس ذلك فرقاً في المعنى بل في الوقوع، وحينئذٍ ظهر أنه لا فرق بينهما في المعنى" (¬4). وذهب الأبياري وابن تيمية إلى أن " تنقيح المناط " خارجٌ عن باب القياس المتنازع فيه، وهو راجعٌ إلى نوعٍ من تأويل الظواهر يتناول كلَّ حُكْمٍ تعلَّق بعينٍ معينةٍ مع العلم بأنه لا يختصُّ بها، فيحتاج أن يعرف المناط الذي تعلَّق به ذلك الحُكْم. ¬

(¬1) نهاية الوصول: (8/ 3381). (¬2) ينظر: نهاية الوصول (8/ 3381)، الابتهاج (6/ 2396)، البحر المحيط للزركشي (7/ 323). (¬3) نهاية السول: (4/ 141). (¬4) نهاية الوصول: (8/ 3381 - 3382).

قال الأبياري: " هو خارجٌ عن القياس، وكأنه يرجع إلى تأويل الظواهر" (¬1). وقال ابن تيمية: " وهذا بابٌ واسع، وهو متناولٌ لكلِّ حُكْمٍ تعلَّق بعينٍ معينةٍ مع العلم بأنه لا يختصُّ بها، فيحتاج أن يُعَرْف المناط الذي يتعلَّق به الحُكْم، وهذا النوع يُسَمِّيه بعض الناس قياساً، وبعضهم لا يُسَمِّيه قياساً، ولهذا كان أبو حنفية وأصحابه يستعملونه في المواضع التي لا يستعملون فيها القياس، والصواب أن هذا ليس من القياس الذي يمكن فيه النزاع " (¬2). ثالثاً: يعتبر الاجتهاد في تخريج المناط هو الاجتهاد القياسي الذي عظم فيه الخلاف بين العلماء. قال الغزالي: " فهذا - أي: تخريج المناط - هو الاجتهاد الذي عَظُمَ فيه الخلاف " (¬3). وقال صفي الدين الهندي: " وهذا النوع من الاجتهاد هو القياس المختلَف فيه بين الناس " (¬4). وقال الشاطبي: "وهو- أي: تخريج المناط - الاجتهاد القياسي" (¬5). وذلك لأن عِلَّة الحُكْم الذي دلَّ النصُّ أو الإجماع عليه مُستنْبَطةٌ بأحد المسالك الاجتهادية , كالمناسبة , أو السَّبْر والتقسيم، أو الدوران. والقياس الذي اُستنبِطت العِلَّة فيه بأحد المسالك الاجتهادية هو محلُّ الخلاف بين المثبتين له والنافين. أما القياس الذي ثبت عِلَّتُه بنصٍّ أو إجماعٍ فالعمل بمعناه مَحَلُّ وفاقٍ ¬

(¬1) البحر المحيط للزركشي: (7/ 323). (¬2) مجموع الفتاوى: (22/ 330). (¬3) المستصفى: (3/ 491). (¬4) نهاية الوصول: (7/ 3047). (¬5) الموافقات: (5/ 22).

- في الجملة- عند العلماء سواءً سُمِّيَ قياساً أم لا، فالأمر في ذلك يرجع إلى الاصطلاح (¬1). قال الغزالي: " ينقسم الجامع إلى معلومٍ بالنصِّ، وإلى معلومٍ بالاستنباط، فهذا لا يمنعه وضع اللغة، فإن خُصِّص بالاصطلاح فكذلك - أيضاً - لا حجر فيه ... ولكن ينبغي أن يُعْلَمَ أن حاصل الخلاف يرجع إلى أمرٍ لفظي، وإلا فَحَظُّ المعنى مُتَّفَقٌ عليه، فخرج منه: أن المُسمَّى قياساً - بالاتفاق - هو إلحاقُ فرعٍ بأصلٍ بجامعٍ مُسْتَنْبَطٍ بالفكر " (¬2). ومحلُّ الاجتهاد في هذا النوع من الأقيسة هو بذل الجهد في استخراج مناط الحُكْم. قال الحجوي: " إذا تأمت هذه الأقيسة التي تلونا عليك وجدت محلَّ الاجتهاد فيها تخريج مناط الحكم، وهو استنباط الوصف المناسب من النصِّ ليُجعَل مدارًا للحكم " (¬3). ولهذا اعتبر الأصوليون استخراج عِلَّة الحُكْم في الأصل بمسلك المناسبة هو ... " عمدة كتاب القياس" (¬4)؛ لأن أكثر الأقيسة يُلْحَق فيها الفرع بالأصل لجامعٍ مُستنْبَطٍ بمسلك المناسبة الذي يُعَدُّ أهم صور الاجتهاد في تخريج المناط. رابعاً: يُعتَبر الاجتهاد في تحقيق المناط أعمَّ من القياس. وذلك لأن القياس يختصُّ بالعِلل سواءٌ كانت منصوصةً أو مُجْمَعاً عليها أو مُستنْبَطة , بينما تحقيق المناط يشمل ما إذا كان المناط عِلَّةً ثبتت بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط، أو كان المناط قاعدةً كليَّةً ثبتت بنصٍّ أو إجماع أو ¬

(¬1) ينظر: الإحكام للآمدي (4/ 35)، الإبهاج (3/ 83)، البحر المحيط للزركشي (7/ 24 - 25)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 204)، إرشاد الفحول (2/ 584). (¬2) أساس القياس: (109). (¬3) الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي: (1/ 132). (¬4) البحر المحيط للزركشي: (5/ 206).

استنباط، أو كان مقتضى لفظٍ عامٍّ أو مطلقٍ تعلَّق به حُكْمٌ شرعي (¬1). قال الغزالي: " الحُكْم في الأشخاص التي ليست متناهيةً إنما يتمُّ بمقدمتين: كُليَّة، كقولنا: كلُّ مطعوم ربوي، وجزئيَّة، كقولنا: هذا النبات مطعومٌ أو الزعفران مطعوم، وكقولنا: كلُّ مُسْكِرٍ حرام، وهذا الشراب بعينه مُسْكِر، وكلُّ عدْلٍ مُصَدَّق، وزيدٌ عَدْل، وكلُّ زانٍ مرجوم، وماعز قد زنى فهو إذاً مرجوم، ، والمقدمة الجزئية هي التي لا تتناهى مجاريها فيضطر فيها إلى الاجتهاد لا محالة، وهو اجتهادٌ في تحقيق مناط الحكم، وليس ذلك بقياس, أما المقدمة الكليَّة فتشتمل على مناط الحُكْم وروابطه، وذلك يمكن التنصيص عليه بالروابط الكليَّة، كقوله: كلُّ مطعوم ربويٍّ بدلاً عن قوله: لا تبيعوا البُرَّ بالبُرِّ، وكقوله: كلُّ مُسْكِرٍ حرام بدلاً عن قوله: حرّمت الخمر، وإذا أتى بهذه الألفاظ العامّة وقع الاستغناء عن استنباط مناط الحكم، واستغني عن القياس، هذا مع أنه يمكن منازعة هذا القائل بأنه لم يجب استيعاب جميع الصور بالحكم، ولم يَسْتَحِلْ خلو بعضها عن الحكم، فإنه في المقدمة الجزئية أيضا يمكن أن يُرَدَّ فيه إلى اليقين، فيقال: من تيقنتم صدقه، وما تيقنتم كونه مطعوماً أو مُسْكِراً فاحكموا به، وما لم تتيقنوا به فاتركوه على حُكْم الأصل، إلا أن هذا لا يجري في جميع الجزئيات؛ لأنه لا سبيل إلى تيقُّن صدق الشهود، وعدالة القضاة، والولاة، ولا سبيل إلى تعطيل الأحكام، وكذلك لا سبيل إلى تقديرٍ متيقَّنٍ في كفاية الأقارب، وأروش المتلفات، فإن التكثير فيه إلى حصول اليقين ربما يضرُّ بجانب الموجَب عليه كما يضرُّ التقليل بجانب الموجَب له، فالاجتهاد في تحقيق مناط الحُكْم ضرورةٌ أما في تخريج المناط وتنقيح المناط فلا" (¬2). خامساً: إذا كان المناط عِلَّةً ثبتت بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط، وثبت المناط في حُكْم الأصل قطعاً , ثم ثبت وجوده كذلك في الفرع كان القياس قطعياً. ¬

(¬1) ينظر: (194 - 195). (¬2) المستصفى: (3/ 504 - 505).

أما إذا ثبت المناط فيهما, أو في أحدهما ظنَّاً, كان القياس حينئذٍ ظنِّياً. قال الفخر الرازي: "إذا اعتقدنا كون الحُكْم في محلِّ الوفاق مُعَلَّلاً بوصف , ثم اعتقدنا حصول ذلك الوصف بتمامه في محلِّ النزاع , حصل لا محالةَ اعتقاد أن الحُكْم في محلِّ النزاع مثل الحُكْم في محلِّ الوفاق , فإن كانت المقدمتان قطعيتين كانت النتيجة كذلك ,ولا نزاع بين العقلاء في صحته , أما إذا كانتا ظنيتين , أو كانت إحداهما فقط ظنيَّة , فالنتيجة تكون ظنَّيةً لا محالة " (¬1). وقال القرافي: " إذا كان تعليل الأصل قطعياً، ووجود العِلَّة في الفرع قطعياً كان القياس قطعياً متفقاً عليه" (¬2). ومن صور الأقيسة القطعية: - إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق من طريق الأولى. كإلحاق الضرب والشتم بالتأفيف في قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]. وقد ذهب إلى ذلك: إمام الحرمين (¬3) , والفخر الرازي (¬4). وذهب جمهور الحنفية (¬5) , والحنابلة إلى أنه من دلالة النصِّ (¬6)، واختاره الغزالي في " المستصفى " (¬7) , والآمدي (¬8). وقال الغزالي بعد أن اختار كونه من اللفظ دون القياس: "ومن سمَّاه قياساً اعترف بأنه مقطوعٌ به ولا مشاحةَ في الأسامي، فمن كان القياس عنده ¬

(¬1) المحصول (5/ 19 - 20). (¬2) شرح تنقيح الفصول (387). (¬3) ينظر: البرهان: (2/ 786). (¬4) ينظر: المحصول (5/ 121). (¬5) فواتح الرحموت: (1/ 446). (¬6) ينظر: العدة (4/ 1333) , شرح الكوكب المنير (3/ 483). (¬7) ينظر: (3/ 594 - 595). (¬8) ينظر: الإحكام (3/ 87).

عبارةً عن نوعٍ من الإلحاق يشمل هذه الصورة فإنما مخالفته في عبارة" (¬1). - القطع بنفي الفارق المؤثِّر بين الأصل والفرع. كقياس العبد على الأَمَة في تنصيف حدِّ الزنا، كما في قوله سبحانه: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]. وضابط هذا النوع أنه لا يُحتَاج إلى التعرُّض للعِلَّة الجامعة , بل يُتَعَرَّض للفارق، ويُعْلَم أنه لا فارقَ إلا كذا، ولا مدخلَ له في التأثير قطعاً (¬2). قال الغزالي: " فإن تطرَّق الاحتمال إلى قولنا " لا فارق إلا كذا" بأن احتمل أن يكون ثَمَّ فارقٌ آخر، أو تطرَّق الاحتمال إلى قولنا " لا مدخلَ له في التأثير " بأن احتمل أن يكون له مدخل، لم يكن هذا الإلحاق مقطوعاً به بل ربَّما كان مظنوناً" (¬3). - القياس الذي قُطِع فيه بأمرين: أحدهما أنَّ وصفاً معيَّنًا في الحُكْم هو عِلَّته قطعاً، وثانيهما: أنَّ ذلك الوصف موجودٌ في الفرع قطعاً (¬4). وأما القياس الظني فهو أن تكون إحدى المقدمتين أو كلتاهما مظنونة، كقياس السفرجل على البُرِّ في الرِّبا، فإن الحُكْم بأن العِلَّة هي الطعم ليس مقطوعاً به، لجواز أن تكون هي الكيل أو القوت (¬5). ¬

(¬1) المستصفى: (3/ 595). (¬2) ينظر: (90). (¬3) المستصفى: (3/ 598 - 599). (¬4) ينظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 320) , نبراس العقول (180). (¬5) ينظر: نهاية السول (4/ 27).

الفصل الثاني علاقة الاجتهاد في المناط بالأدلة المختلف فيها

الفصل الثاني علاقة الاجتهاد في المناط بالأدلة المختلف فيها ويشتمل على سبعة مباحث: المبحث الأول: علاقة الاجتهاد في المناط بالاستصحاب. المبحث الثاني: علاقة الاجتهاد في المناط بشرع مَنْ قبْلَنا. المبحث الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بقول الصحابي. المبحث الرابع: علاقة الاجتهاد في المناط بالاستحسان. المبحث الخامس: علاقة الاجتهاد في المناط بالمصلحة للمرسلة. المبحث السادس: علاقة الاجتهاد في المناط بسدِّ الذرائع. المبحث السابع: علاقة الاجتهاد في المناط بالعُرْف.

المبحث الأول علاقة الاجتهاد في المناط بالاستصحاب

المبحث الأول علاقة الاجتهاد في المناط بالاستصحاب سأتناول في هذا المبحث بيان علاقة الاجتهاد في المناط بالاستصحاب , وذلك من خلال ثلاثة مطالب , وهي على النحو الآتي: المطلب الأول: تعريف الاستصحاب لغةً واصطلاحاً. الاستصحاب لغةً: طلب الصحبة , أو المصاحبة. يقال: استصحب الكتاب وغيره , أي: حمله ,ولازمه, ولم يفارقه، وكلُّ شيئٍ لازَمَ شيئاً فقد استصحبه (¬1). قال ابن فارس: " الصَّاد والحاء والباء أصلٌ واحدٌ يدلُّ على مقارنة شيءٍ ومقاربته " (¬2). والاستصحاب اصطلاحاً هو: ثبوت أمرٍ في الزمن الثاني لثبوته في الأول؛ لانتفاء ما يصلح أن يتغيَّر به الحُكْم من الأول إلى الثاني بعد البحث التام (¬3). ¬

(¬1) ينظر: الصحاح (1/ 161 - 162) , لسان العرب (1/ 519 - 520) , تاج العروس (3/ 185 - 186) " مادة: ص ح ب". (¬2) معجم مقاييس اللغة: (3/ 335) " مادة: ص ح ب". (¬3) ينظر: جمع الجوامع لابن السبكي (108) , الإبهاج (3/ 173) , رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (4/ 504) , شرح المحلي على جمع الجوامع مع حاشية البناني (2/ 350) , حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 391).

وعرَّفه ابن القيم بأنه: " إستدامة إثبات ما كان ثابتاً أو نفي ما كان منفياً" (¬1). وله تعريفاتٌ أخرى متقارِبةٌ في ألفاظها ومعانيها (¬2). وينقسم الاستصحاب إلى خمسة أقسام , وهي: الأول: استصحاب البراءة الأصلية. وقد يُطْلَق عليه مُسمَّى: "استصحاب العدم الأصلي",أو " استصحاب براءة الذمة" (¬3) , وهو: ما دلَّ العقل على نفيه ولم يثبته الشرع بالدليل السمعي, مثل نفي وجوب صوم رجب , ونفي العقل له - هنا - مأخوذٌ من بقائه على عدمه الأصلي إلى أن يَرِدَ الدليل السمعي الناقل عنه , وليس المقصود أن يحكم فيه العقل بالنفي استقلالاً (¬4). الثاني: استصحاب الوصف المُثْبِت للحُكْم الشرعي حتى يثبت خلافه. وقد يُطْلَق عليه أيضاً: " استصحاب الحُكْم الماضي لوجود سببه" , أو ... " استصحاب حُكْمٍ دلَّ الشرع على ثبوته ودوامه" , فكلُّ حُكْم شرعيٍّ ترتَّب على سببه الذي ربطه الشارع به , فالأصل استمراره وعدم انتفائه, إلا إذا انتفى السبب الذي ترتَّب عليه ذلك الحكم (¬5). ¬

(¬1) إعلام الموقعين: (3/ 100). (¬2) ينظر: المستصفى (2/ 410 - 411) , شرح تنقيح الفصول للقرافي (351) , نهاية السول (4/ 358) , شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 284) , البحر المحيط للزركشي (6/ 17) , شرح الكوكب المنير (4/ 403) , تيسير التحرير (4/ 176) إرشاد الفحول (2/ 974). (¬3) ينظر: العدة (4/ 1262) , الإبهاج (3/ 168) , نهاية الوصول (8/ 3955) , البحر المحيط للزركشي (6/ 20) , شرح المحلي على جمع الجوامع مع حاشية البناني (2/ 348) , شرح الكوكب المنير (4/ 404). (¬4) ينظر: شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 348) , شرح الكوكب المنير (4/ 404 - 405) , حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 388). (¬5) ينظر: المستصفى (2/ 409) , الإبهاج (3/ 169) , نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (8/ 3955) , البحر المحيط للزركشي (6/ 20) , شرح المحلي على جمع الجوامع مع حاشية البناني (2/ 348 - 349) , شرح الكوكب المنير (4/ 405) , إرشاد الفحول (2/ 976).

ومثاله: استصحاب دوام النكاح بين زوجين بسبب عقدٍ صحيحٍ بينهما, فيُحْكَم حينئذٍ باستمراره حتى يثبت خلاف ذلك (¬1). الثالث: استصحاب العموم حتى يَرِدَ المُخصِّص , واستصحاب النصِّ حتى يَرِدَ الناسخ. فإذا ورد نصٌّ عامٌّ فإنه يشمل جميع الأفراد الداخلة تحته , وإذا وقع النزاع في بعض أفراده هل يدخل تحت العموم أو هو مخصوص؟ وبحث المجتهد فلم يجد المُخصِّص , فإن الأصل استصحاب حُكْم العام في المُتنازَع فيه حتى يثبت بالدليل تخصيصه (¬2). قال الزركشي: " فهذا أمرُه معمولٌ به بالإجماع" (¬3). ومثاله: وجوب قطع يد الزوج إذا سرق مال زوجته؛ استصحاباً للعموم الوارد في قوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فالعموم يقتضي وجوب القطع في كلِّ ما يُسمَّى آخذه سارقاً (¬4). وكذا كلُّ حُكْم ثبت بدليله الشرعي , فإنه يدلُّ على دوام ذلك الحُكْم واستمراره , مالم يَرِد دليلٌ آخر يُثْبِتُ نسخَه. قال السمرقندي: " استصحاب الحُكْم الثابت بظاهر العموم واجبٌ مع احتمال الخصوص , وكذا استصحاب الحُكْم الثابت بمُطْلَق النصِّ الخاصِّ واجبٌ مع احتمال المجاز والنسخ؛ وذلك لما قلنا من أن الحُكْم متى ثبت شرعاً فالظاهر بقاؤه " (¬5). وهذا القسم اعتبره جمهور الأصوليين من "الاستصحاب" (¬6). ¬

(¬1) ينظر: إعلام الموقعين (3/ 100 - 101) , البحر المحيط للزركشي (6/ 20). (¬2) ينظر: المستصفى (2/ 409) , الإبهاج (3/ 169) , نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (8/ 3955) , البحر المحيط للزركشي (6/ 21) , شرح المحلي على جمع الجوامع مع حاشية البناني (2/ 348) , شرح الكوكب المنير (4/ 404) , إرشاد الفحول (2/ 977). (¬3) البحر المحيط للزركشي: (6/ 21). (¬4) ينظر: تخريج الفروع على الأصول للزنجاني (349 - 350) (¬5) ميزان الأصول: (661). (¬6) ينظر: البحر المحيط (6/ 21) , إرشاد الفحول (2/ 977).

وذهب الجويني (¬1) , وابن السمعاني (¬2) , إلى عدم اعتباره من" الاستصحاب"؛ لأن الحُكْم ثبت فيه من جهة اللفظ في العموم , أو من جهة النصِّ في المُحْكَم , لا من جهة الاستصحاب (¬3). قال ابن السمعاني: "ولا يجوز أن يُسمَّى هذا استصحاب الحال؛ لأنَّ لفظ العموم دلَّ على استغراقه جميعَ ما يتناوله اللفظ في أصل الوضع في الأعيان وفى الأزمان, فأيُّ عينٍ وُجِدت ثَبَتَ الحُكْم فيها, وأيُّ زمانٍ وُجِد ثَبَتَ الحُكْم فيه, بكون اللفظ دالَّاً عليه, ويتناوله بعمومه, فيكون ثبوت الحُكْم في هذه الصورة من ناحية العموم ,لا من ناحية استصحاب الحال" (¬4). والذي يظهر أن المسألة لفظيَّةٌ اصطلاحيَّةٌ لا يترتَّب عليها حُكْمٌ كما أشار إلى ذلك الجويني بقوله: " فهذه مناقشةٌ لفظيَّةٌ؛ فإنه ثبت بالدليل القاطع قيام الدليل إلى يوم نسخه , فإن سَمَّى مسمٍّ هذا استصحاباً لم يُناقَش في لفظ , وليس مقصود الفصل منه بسبيل " (¬5). الرابع: استصحاب حُكْم الإجماع في محلِّ النزاع. وهو: أن يُتَّفَق على حُكْم شرعيٍّ في حاله، ثم تتغير صفة المُجْمَع عليه، فيختلفون فيه، فيستدلُّ من لم يتغيَّر عنده الحُكْم باستصحاب الحال (¬6). ومثاله: إذا استدلَّ من يقول إن المتيمم إذا رأى الماء في أثناء صلاته لا تبطل صلاته؛ لأن الإجماع منعقدٌ على صحتها قبل ذلك، فاستصحب إلى أن يدلَّ دليلٌ على أن رؤية الماء مُبْطِلة (¬7). ¬

(¬1) البرهان: (2/ 1135 - 1136). (¬2) قواطع الأدلة: (3/ 366 - 367). (¬3) ينظر: البحر المحيط (6/ 21) , إرشاد الفحول (2/ 977). (¬4) قواطع الأدلة: (3/ 366 - 367). (¬5) البرهان: (2/ 1136). (¬6) ينظر: العدة (4/ 1265) , الإبهاج (3/ 169) , البحر المحيط للزركشي (6/ 21) ,إرشاد الفحول (2/ 977 - 978). (¬7) ينظر: العدة (4/ 1265 - 1266) ,إعلام الموقعين (3/ 104) , البحر المحيط للزركشي (6/ 21 - 22) , إرشاد الفحول (2/ 978).

المطلب الثاني: حجية الاستصحاب.

المطلب الثاني: حُجِّية الاستصحاب. الاستصحاب بأنواعه الثلاثة الأولى حُجَّةٌ شرعيَّة , ويجوز الاحتجاج به في النفي والإثبات مطلقاً (¬1). وقد ذهب إلى ذلك: جمهور الأصوليين من المالكية, والشافعية, والحنابلة, والظاهرية (¬2). أمَّا النوع الرابع - وهو: استصحاب حُكْم الإجماع في محلِّ النزاع- فقد ذهب المحققون من الأصوليين إلى عدم صحة الاحتجاج به. قال ابن السُّبْكي: " فهذا ليس بحُجَّةٍ عند كافّة المحقِّقين" (¬3). وذلك لأنه يؤدي إلى التسوية بين موضع الاتفاق وموضع النزاع وهما مختلفان (¬4). ¬

(¬1) اختلف الأصوليون في حجية الاستصحاب على ثلاثة أقوال: القول الأول: الاستصحاب حجةٌ شرعية , ويجوز الاحتجاج به مطلقاً ,وقد ذهب إلى ذلك: جمهور الأصوليين من المالكية, والشافعية, والحنابلة, والظاهرية. القول الثاني: الاستصحاب ليس بحجةٍ شرعية, ولايجوز الاحتجاج به مطلقاً , وقد ذهب إلى ذلك: أبو الحسين البصري , وابن الهمام الحنفي, وابن السمعاني. القول الثالث: الاستصحاب حجةٌ شرعية , ويجوز الاحتجاج به في الدفع دون الإثبات, وقد ذهب إلى ذلك: جمهور المتأخرين من الحنفية, كالبزدوي , والسرخسي , وابن نجيم. ينظر: البرهان (2/ 1135 - 1141) , المستصفى (2/ 406 - 411) , الإحكام لابن حزم (5/ 2 - 5) , السرخسي (2/ 147) , العدة (4/ 1262 - 1268) , الإحكام للآمدي (4/ 155/169) , المحصول (6/ 109 - 121) , قواطع الأدلة (3/ 365 - 367) , شرح تنقيح الفصول للقرافي (351 - 352) , الإبهاج (3/ 168 - 172) , نهاية السول (4/ 366 - 373) , البحر المحيط للزركشي (6/ 17 - 26) , شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 284 - 285) , كشف الأسرار (3/ 377 - 383) , شرح الكوكب المنير (4/ 403 - 407) , إرشاد الفحول (2/ 974 - 979). (¬2) ينظر: المستصفى (2/ 409 - 410) , الإحكام لابن حزم (5/ 2) , المحصول (6/ 109) , شرح تنقيح الفصول للقرافي (351) , الإبهاج (3/ 171) , نهاية السول (4/ 366) , البحر المحيط للزركشي (6/ 17) , شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 284) , كشف الأسرار (3/ 377) , شرح الكوكب المنير (4/ 403) , إرشاد الفحول (2/ 974 - 975). (¬3) الإبهاج: (3/ 169). (¬4) ينظر: المستصفى (2/ 412) ,الإبهاج (3/ 169) , البحر المحيط للزركشي (6/ 22) , شرح الكوكب المنير (4/ 406) , إرشاد الفحول (2/ 978).

قال الزركشي: " لأن محلَّ الوفاق غير محلِّ الخلاف، فلا يتناوله بوجه، وإنما يوجب استصحاب الإجماع حيث لا يوجد صفةٌ تغيِّره، ولأن الدليل إن كان هو الإجماع فهو محالٌّ في محلِّ الخلاف، وإن كان غيره فلا مستند إلى الإجماع الذي يزعم أنه يستصحب" (¬1). ومن أهم الأدلة على حجيِّة الاستصحاب بأنواعه الثلاثة مايلي: أولاً: كلُّ ما تحقَّق ولم يُظَنَّ معارضٌ له فإنه يستلزم ظنَّ بقائه، والاستصحاب يفيد ظنَّ بقاء الحُكْم إلى الزمن الثاني، ، والعمل بالظنِّ واجبٌ في الشرعيات, فالاستصحاب يجب العمل به (¬2). قال الفخر الرازي: " ولا معنى لكونه حُجَّةً إلا ذلك" (¬3). ثانياً: إن العقلاء من الخاصَّة والعامَّة اتفقوا على أنهم إذا تحقَّقوا وجود الشيء أو عدمه، وله أحكامٌ خاصَّةٌ به، سوغوا ترتيب تلك الأحكام عليه في المستقبل من زمان ذلك الأمر، حتى إن الغائب يراسل أهله، ويراسلونه، بناءً على العلم بوجودهم، ووجوده في الماضي، ويُنْفِذ إليهم الأموال وغير ذلك، بناء على ما ذُكِر، ولولا أن الأصل بقاء ما كان على ما كان، لما ساغ لهم ذلك (¬4). ثالثاً: إن بقاء الباقي راجحٌ على عدمه, وإذا كان راجحاً وجب العمل به اتفاقاً وهو المدَّعى، ووجه رجحانه من وجهين, أحدهما: أن الباقي يستغني عن السبب والشرط الجديدين؛ لأن الاحتياج إليهما إنما هو لأجل الوجود، والوجود قد حصل لهذا الباقي، فلا يُحتَاج حينئذٍ إليهما, وإلا يلزم تحصيل الحاصل، بل يكفيه دوامها بخلاف الأمر الذي يحدث، فإنه لابدَّ له من سببٍ وشرطٍ جديدين فيكون عدم الباقي ¬

(¬1) البحر المحيط: (6/ 17). (¬2) ينظر: المحصول (6/ 109) , الإحكام للآمدي (4/ 155) , الإبهاج (3/ 171) , بيان المختصر للأصفهاني (3/ 264) , نهاية السول (4/ 367). (¬3) المحصول: (6/ 109). (¬4) ينظر: المحصول (6/ 121) , الإحكام للآمدي (4/ 156) , شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 150).

المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بالاستصحاب.

كذلك؛ لأنه من الأمور الحادثة، وما لا يفتقر أرجح من المفتقِر، فيكون البقاء أرجح من العدم وهو المدَّعى، والثاني: أن عدم الباقي يقل بالنسبة إلى عدم الحادث؛ لأن عدم الحادث يصدق على ما لا نهاية له، وأما عدم الباقي مشروطٌ فمتناه؛ لأن عدم الباقي بوجود الباقي, والباقي متناه، وإذا كان عدم الباقي أقلَّ من عدم الحادث كان وجوده أكثر من وجوده فيكون راجحاً (¬1). رابعاً: لو لم يكن الظنُّ حاصلاً ببقاء ما تحقَّق، ولم يُظَنَّ له معارض، لكان الشَّكُّ في الزوجية ابتداء كالشك في بقاء الزوجية في التحريم والجواز, والتالي باطل, أما الملازمة ; فلأنه حينئذٍ لا فرق فيهما, وأما بطلان التالي فلأنّ التفرقة بينهما في التحريم والجواز ثابتةٌ بالإجماع, فإنَّ مَدَّ اليد إليها حرامٌ في الأول، بخلاف الثاني فإنه جائز. وإنما حكموا بالتحريم في الأول ; لأن الحُرْمَة ثابتةٌ قبل الشَّك، والأصل بقاء الشيء على ما كان عليه، وبالجواز في الثاني ; لأن الجواز ثابتٌ قبل الشك، والأصل بقاء الشيء على ما كان عليه (¬2). المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بالاستصحاب. تظهر علاقة الاجتهاد في المناط بالاستصحاب في جوانب عديدة, من أهمها ما يأتي: أولاً: إن المجتهد لا يأخذ بدليل الاستصحاب إلا بعد البحث التامِّ في أدلة الكتاب والسُّنَّة والإجماع والقياس (¬3). قال ابن تيمية: " إذا كان المُدْرَكُ الاستصحابَ ونفيَ الدليل الشرعي فقد ¬

(¬1) ينظر: الإبهاج (3/ 172 - 173) , نهاية السول (4/ 370 - 372). (¬2) ينظر: الإبهاج (3/ 172) , بيان المختصر (3/ 264) , نهاية السول (4/ 369 - 370). (¬3) ينظر: الفقيه والمتفقه (1/ 526) , البحر المحيط للزركشي (6/ 17).

أجمع المسلمون، وعُلِم بالاضطرار من دين الإسلام، أنه لا يجوز لأحدٍ أن يعتقد ويفتي بموجِب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصَّة إذا كان من أهل ذلك، فإنَّ جميع ما أوجبه الله ورسوله، وحرَّمه الله ورسوله مُغيِّراً لهذا الاستصحاب، فلا يُوثَق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل ذلك" (¬1). وقال ابن القيم: " لايجوز الاستدلال بالاستصحاب لمن لا يعرف الأدلة الناقلة" (¬2). وقال الزركشي: " وهو- أي: الاستصحاب- حُجَّةٌ يفزع إليها المجتهد إذا لم يجد في الحادثة حُجَّةً خاصَّة" (¬3). ولهذا يُعْتَبر الاستصحاب " آخر مدار الفتوى" (¬4)، و" آخر متمسك ... الناظر" (¬5) , و"آخر قَدَمٍ يخطو بها المجتهد إلى تحصيل حُكْم الواقعة" (¬6). وذلك لأن " المفتي إذا سُئِل عن حادثةٍ يطلب حكمها في الكتاب، ثم في السُّنَّة، ثم في الإجماع، ثم في القياس، فإن لم يجده فيأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات، فإن كان التردُّد في زواله فالأصل بقاؤه، وإن كان في ثبوته فالأصل عدم ثبوته " (¬7). وهذه الأدلة التي يلزم الرجوع إليها لا تثبت بها الأحكام إلا متعلِّقةً بمناطاتها, إمَّا نصَّاً أو استنباطاً , فلامناصَ -حينئذٍ- من الاجتهاد في المناط تنقيحاً وتخريجاً وتحقيقاً. قال الخطيب البغدادي: " ليس يلزمه - أي: المجتهد- الانتقال عن ¬

(¬1) مجموع الفتاوى: (29/ 165 - 166). (¬2) إعلام الموقعين: (3/ 105). (¬3) البحر المحيط: (6/ 17). (¬4) المرجع السابق: (6/ 17). (¬5) البرهان: (2/ 1135). (¬6) إجابة السائل شرح بغية الآمل: (217). (¬7) البحر المحيط: (6/ 17).

استصحاب الحال إلا بدليلٍ شرعيٍّ ينقله عنه , فإن وجد دليلاً من أدلة الشرع انتقل عنه, سواءٌ كان ذلك الدليل نُطْقاً أو مفهوم نصٍّ أو ظاهراً؛ لأن هذه الحال إنما استصحبها لعدم دليلٍ شرعي , فأيُّ دليلٍ ظهر من جهة الشرع حَرُم عليه استصحاب الحال بعده " (¬1). وهذا يستلزم بذل الجهد في البحث والطلب عن معاني النصوص ومناطات الأحكام, حتى يتحقَّق للمجتهد العلمُ أو الظنُّ الغالب إما بانتفاء الدليل المغيِّر للحُكْم فيستند - حينئذٍ- إلى دليل الاستصحاب , أو بوجود الدليل الناقل عنه , فيَحْرُم حينئذٍ العمل بالاستصحاب , ويجب المصير إلى مقتضى الدليل الناقل عنه (¬2). قال ابن القيم: " وبالجملة فالاستصحاب لا يجوز الاستدلال به إلا إذا اعتقد انتفاء الناقل، فإن قطعَ المستدلُّ بانتفاء الناقل قطعَ بانتفاء الحكم، كما يقطع ببقاء شريعة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وأنها غير منسوخة، وإن ظنَّ انتفاء الناقل أو ظنَّ انتفاء دلالته ظنَّ انتفاء النقل" (¬3). وبهذا يكون الاستصحاب قطعياً إذا قُطِع بانتفاء الدليل الناقل , ويكون الاستصحاب ظنيَّاً إذا ظُنَّ انتفاء الدليل الناقل. والقطع بانتفاء الدليل المغيِّر للحُكْم , أو دعوى غلبة الظنِّ في ذلك , لا تُقبَل إلا من الباحث المجتهد المطَّلِع على مدارك الأدلة القادر على الاستقصاء. قال الغزالي: " يجوز للباحث المجتهد المطَّلِع على مدارك الأدلة القادر على الاستقصاء، كالذي يقدر على التردُّد في بيته لطلب متاعٍ إذا فتش وبالغ أمكنه أن يقطع بنفي المتاع أو يدِّعي غلبة الظنّ، أما الأعمى الذي لا يعرف البيت ولا يُبْصِر ما فيه فليس له أن يدَّعي نفي المتاع من البيت" (¬4). ¬

(¬1) الفقيه والمتفقه: (1/ 526). (¬2) ينظر: المستصفى (2/ 410 - 411) , الإبهاج (3/ 170). (¬3) إعلام الموقعين: (3/ 105). (¬4) المستصفى: (2/ 408 - 409).

ولما ذكر ابن القيم مذاهب المنكرين للقياس وتعليل الأحكام أوضح أشنع أخطائهم التي وقعوا فيها بسبب ذلك، ومنها: " تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقّه، وجزمهم بموجبه، لعدم علمهم بالناقل، وليس عدم العلم علماً بالعدم" (¬1). ولهذا فإن أكثر الأصوليين يذكرون الاستصحاب عقب مباحث القياس, وذلك ضمن الأدلة المختلف فيها (¬2). ثانياً: إذا رتَّب المجتهد حكماً شرعياً بالنظر إلى تحقُّق مناطه في بعض أفراده، فالأصل دوامه واستمراره وتكرُّره بتكرُّر سببه, ما لم يتخلف مناط ذلك الحُكْم أو يتغَّير سببه. فإذا تغَّيرت أوصاف الواقعة , أو أسبابها, أو احتفَّت بها أحوالٌ أخرى مؤثِّرة, لزم عدم الاستناد إلى الاستصحاب, والبحث عن حُكْمٍ يختصُّ بتلك الواقعة متعلِّقاً بمناط ذلك الحكم. وهو من استصحاب الحُكْم الذي دلَّ الشرع على ثبوته ودوامه (¬3). قال الغزالي: " ومن هذا القبيل: الحُكْم بتكرُّر اللزوم والوجوب إذا تكرَّرت أسبابها , كتكرُّر شهود شهر رمضان, وأوقات الصلوات ,ونفقات الأقارب عند تكرُّر الحاجات, إذا فُهِمَ انتصاب هذه المعاني أسباباً لهذه الأحكام من أدلة الشرع إما بمجرَّد العموم عند القائلين به ,أو بالعموم وجملةٍ من القرائن عند الجميع، وتلك القرائن تكريراتٌ وتأكيداتٌ وأماراتٌ عَرَفَ حملةُ الشريعة قصدَ الشارع إلى نصبها أسباباً إذا لم يمنع مانع، فلولا دلالة الدليل على كونها أسباباً لم يجز استصحابها" (¬4). ¬

(¬1) إعلام الموقعين: (3/ 99). (¬2) ينظر: البرهان (2/ 1135) , المعتمد (2/ 884) , الإحكام للآمدي (4/ 155) , المحصول (6/ 109) , منهاج الوصول (67) , شرح تنقيح الفصول للقرافي (351) ,مختصر ابن الحاجب (2/ 1173) , جمع الجوامع (108) , البحر المحيط للزركشي (6/ 7). (¬3) ينظر: المستصفى (2/ 410) , الإبهاج (3/ 169) , البحر المحيط للزركشي (6/ 20). (¬4) المستصفى: (2/ 410).

ولما ذكر الزركشي استصحاب الحُكْم الذي دلَّ الشرع على ثبوته ودوامه قال: " ومن صوره: تكرُّر الحُكْم بتكررُّ السبب " (¬1). ثالثا: استصحاب العموم حتى يَرِدَ المُخصِّص أمرٌ معمولٌ به بالإجماع, كما حكى ذلك الزركشي (¬2) , والشوكاني (¬3). ومن أنواع الاجتهاد في تحقيق المناط - كما تقدم - (¬4): تحقيق مناط الحُكْم الثابت بنصٍّ عامٍّ في بعض أفراده الداخلة تحته. وإثبات وجود مناط ذلك الحُكْم الثابت بنصٍّ عامٍّ في بعض أفراده يستند فيه المجتهد ابتداءاً إلى استصحاب عموم النصِّ الذي ثبت به مناط ذلك الحُكْم , ولايمنع المجتهد من استصحاب ذلك العموم إلا إذا ثبت تخصيصه بدليلٍ مُعتبَر. ومثال ذلك: أن الرِّبا ثبت تحريمه بالكتاب والسُّنَّة والإجماع , ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ولفظ"الرِّبا" من ألفاظ العموم؛ لأن الألف واللاَّم لاستغراق الجنس فتفيد العموم, فيستصحب عموم هذا النصِّ مالم يَرِد مُخصِّصٌ له. واستناداً إلى هذا النوع من الاستصحاب يُجتهَد -حينئذٍ- في إثبات متعلَّق ذلك العموم في بعض أفراده الداخلة تحته , فيقال: يتحقَّق مناط تحريم الرِّبا الثابت بنصٍّ عامٍّ في ربا النسيئة , وربا الفضل , والقرض الذي جرَّ نفعاً, ونحو ذلك , حيث لم يَرِد مايخصِّص هذا الأفراد الداخلة تحت العموم بحُكْمٍ آخر (¬5). ¬

(¬1) البحر المحيط: (6/ 20). (¬2) ينظر: البحر المحيط (6/ 21). (¬3) ينظر: إرشاد الفحول (2/ 977). (¬4) ينظر: (199). (¬5) ينظر: مجموع الفتاوى (19/ 283)، منهاج السنة (2/ 287)، درء تعارض العقل والنقل (7/ 337).

المبحث الثاني علاقة الاجتهاد في المناط بشرع من قبلنا

المبحث الثاني علاقة الاجتهاد في المناط بشرع مَنْ قَبْلَنا سأتناول في هذا المبحث بيان علاقة الاجتهاد في المناط وبشرع مَنْ قَبْلَنا , وذلك من خلال ثلاثة مطالب , وهي على النحو الآتي: المطلب الأول: تعريف شرع مَنْ قَبْلَنا لغةً، واصطلاحاً. الشرع لغةً: قال ابن فارس: " الشين والراء والعين أصلٌ واحد، وهو شيءٌ يُفْتَح في امتدادٍ يكونُ فيه, من ذلك الشريعة، وهي مورد الشاربة الماء, واشْتُّق من ذلك الشِرْعة في الدِّين والشريعة " (¬1). قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} 1 [المائدة: 48]. وقال جل في علاه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ} [الجاثية: 18]. والإبل الشروع: التي شرعت ورويت, ويقال: أشرعت طريقاً، إذا أنفذته وفتحته (¬2). والشَّرع: نهج الطريق الواضح (¬3). قال الكفوي: " والشريعة: هي مورد الإبل إلى الماء الجاري, ثم استعير ¬

(¬1) معجم مقاييس اللغة: (3/ 262) "مادة: ش ر ع". (¬2) ينظر: معجم مقاييس اللغة (3/ 262) "مادة: ش ر ع". (¬3) ينظر: المفردات للراغب الأصفهاني (258) مادة "ش ر ع".

المطلب الثاني: حجية شرع من قبلنا.

لكلِّ طريقةٍ موضوعةٍ بوضعٍ إلَهيٍّ ثابتٍ من نبيٍّ من الأنبياء" (¬1). والشرع اصطلاحاً: كلُّ ما شرعه الله من العقائد والأعمال (¬2). والمقصود بشرع مَنْ قَبْلَنا في اصطلاح الأصوليين: "ما ثبت من الأحكام في شرع مَنْ مضى من الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- السابقين على بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم" (¬3). المطلب الثاني: حُجِّيَّة شرع مَنْ قَبْلَنا. شرع مَنْ قَبْلَنا إذا ثبت بطريق الوحي في الكتاب أو السُّنَّة الصحيحة ولم يقع التصريح بالتكليف به, أو إنكاره, أو نسخه: فهو حُجَّةٌ مُعتَبرةٌ في الاستدلال به على إثبات الأحكام الشرعية, ويلزم العمل بمقتضاه (¬4). وقد ذهب إلى ذلك: الحنفية (¬5) , والمالكية (¬6) , وبعض ¬

(¬1) الكليات: (524). (¬2) ينظر: الإحكام لابن حزم (1/ 46) , مجموع الفتاوى لابن تيمية (19/ 306). (¬3) التحبير في شرح التحرير: (8/ 3767). وحسب اطلاعي لم أعثر عند الأصوليين على تعريف محدَّد لهذا الاصطلاح؛ وذلك لظهور معناه , وقد اكتفوا بإيراد لقب المسألة , وتحرير محل النزاع فيها, ونقل مذاهب الأصوليين في ذلك. (¬4) اختلف الأصوليون في حجية شرع مَنْ قَبْلَنا على قولين: القول الأول: أنه شرعٌ لنا , وهو حجةٌ يلزم العمل به. وقد ذهب إلى ذلك: الحنفية , والمالكية, وبعض الشافعية, والإمام أحمد في أصح الروايتين عنه، واختاره: ... ابن الحاجب. القول الثاني: أنه ليس بشرعٍ لنا , ولايصح الاحتجاج به، وقد ذهب إلى ذلك: الشافعية, والإمام أحمد في رواية عنه، واختاره: الغزالي , والآمدي. ينظر: البرهان (1/ 503 - 504) , العدة (3/ 753 - 757) , المستصفى (2/ 438 - 439) , قواطع الأدلة (2/ 209 - 211) , المحصول (3/ 265 - 266) ,الإحكام للآمدي (4/ 172) , البحر المحيط للزركشي (6/ 41 - 45) , شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 287) ,شرح المحلي على جمع الجوامع مع حاشية البناني (2/ 352) , شرح الكوكب المنير (4/ 412) , تيسير التحرير (3/ 131) , فواتح الرحموت (2/ 229) , إرشاد الفحول (2/ 982 - 985). (¬5) ينظر: أصول السرخسي (2/ 99) , كشف الأسرار (3/ 214) , تيسير التحرير (3/ 131) , فواتح ... الرحموت (2/ 229) (¬6) ينظر: شرح تنقيح الفصول (279).

الشافعية (¬1) ,والإمام أحمد في أصح الروايتين عنه (¬2). واختاره: ابن الحاجب (¬3) , وابن تيمية (¬4). واستدلوا على ذلك بأدلةٍ كثيرة, ومن أقواها دلالةً على المطلوب مايأتي: أولاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في قصة الربيع بنت النضر بالقصاص في السِّنّ، وقال: "كتاب الله القصاص" (¬5) ,وليس في القرآن: السِّنّ بالسِّنِّ إلا ما حكي فيه عن التوراة بقوله - عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] فدلَّ على أنه - عليه الصلاة والسلام - قضى بحُكْمٍ في شرع مَنْ قَبْلَه، ولولم يكن شرعاً له لما قضى به , ولما صحَّ هذا الاستدلال منه صلى الله عليه وسلم (¬6). ثانياً: أن النبي عليه الصلاة والسلام استدلَّ على وجوب قضاء الصلاة المنْسيَّة عند ذكرها بقوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه: 14] وإنما الخطاب فيها لموسى - عليه السلام - على ما دلَّ عليه سياق القرآن، وذلك لمَّا نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - منزلاً، فنام فيه وأصحابه، حتى فات وقت صلاة الصبح أمرهم، فخرجوا عن الوادي، ثم صلَّى بهم الصبح، واستدلَّ بالآية , ولولا التعبُّد بعد البعثة بشرع مَنْ قَبْلَه، لما قرأها الرسول ¬

(¬1) ينظر: البرهان (1/ 503 - 504) ,قواطع الأدلة (2/ 209 - 211) , البحر المحيط للزركشي (6/ 41 - 45) , شرح المحلي على جمع الجوامع مع حاشية البناني (2/ 352) , إرشاد الفحول (2/ 982 - 985). (¬2) ينظر: العدة (3/ 753) ,التمهيد للكلوذاني (2/ 416) , شرح الكوكب المنير (4/ 412). (¬3) ينظر: مختصر ابن الحاجب (2/ 1183). (¬4) ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 462 - 464). (¬5) أخرجه البخاري في " صحيحه" , كتاب الصلح , باب الصلح في الدية , رقم (2703) , وأخرجه مسلم في "صحيحه" , كتاب القسامة والمحاربين , باب إثبات القصاص في الأسنان ومافي معناها, رقم (1675). (¬6) ينظر: العدة (3/ 760) , روضة الناظر , الإحكام للآمدي (4/ 175) , شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 171) , بيان المختصر للأصفهاني (3/ 271) , شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 287) , التقرير والتحبير (2/ 309) , شرح الكوكب المنير (4/ 417) , إرشاد الفحول (2/ 983 - 984).

المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بشرع من قبلنا.

- عليه الصلاة السلام - في معرض الاستدلال به (¬1). ثالثاً: إن الحُكْم إذا ثبت في الشرع لم يجز تركه، حتى يَرِدَ دليلٌ بنسخه وإبطاله، وليس في نفس بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب نسخ جميع الأحكام التي قبله، فإن النسخ إنما يكون عند التنافي، وليس فيه منافاةٌ لتلك الأحكام، فوجب التمسُّك بتلك الأحكام, والعمل بها حتى يَرِدَ ما ينافيها ويزيلها (¬2). المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بشرع مَنْ قَبْلَنا. تظهر علاقة الاجتهاد في المناط وبشرع مَنْ قَبْلَنا في جوانب عديدة, من أهمها مايأتي: أولاً: إن من أهم صور الاجتهاد في المناط ما كان متعلِّقاً بنصوص الكتاب والسُّنَّة, ومعانيها, تنقيحاً وتخريجاً وتحقيقاً (¬3). ويندرج تحت ذلك: الاجتهاد في مناطات الأحكام الواردة في الكتاب والسُّنَّة الصحيحة التي تُثْبِت شرع مَنْ قَبْلَنا، وليس فيها تصريحٌ بالتكليف به أو إنكاره أو نسخه. لأن " موضع الخلاف في المسألة: أن الله تعالى إذا أخبر في القرآن -أو السُنَّة- أنه شَرَع لبعض الأمم المتقدِّمة شيئاً، وأطلق الإخبار، ولم يذكر أنه شرعٌ لنا، ولا أنه لم يشرعه لنا، ولا أنه نسخه، هل يجب علينا العمل به، أم لا؟ " (¬4) ,وقد ثبتت حجيَّة العمل بشرع مَنْ قَبْلَنا إذا كان كذلك (¬5). ¬

(¬1) ينظر: روضة الناظر , الإحكام للآمدي (4/ 176) , شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 171 - 172) , بيان المختصر للأصفهاني (3/ 271 - 272) , شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 287) ,التقرير والتحبير (2/ 309) , شرح الكوكب المنير (4/ 416 - 417) , إرشاد الفحول (2/ 984). (¬2) ينظر: العدة (3/ 760 - 761) , كشف الأسرار (3/ 214) ,شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 287). (¬3) ينظر: (290 - 292). (¬4) نفائس الأصول: (6/ 2490). (¬5) ينظر: (346 - 347).

وبناءً على هذا فما قيل في أهمية علاقة الاجتهاد في المناط بالكتاب والسُّنَّة يقال مثله هنا , ولا داعي لإعادة ذلك (¬1). وذلك لأن المعتمد في شرع مَنْ قَبْلَنا ما ورد بطريق الوحي من كتابٍ أو سُنَّةٍ صحيحة. ثانياً: قد يثبت حُكْمٌ في شرع مَنْ قَبْلَنا بنصِّ الكتاب أو السُّنَّة ,ويُجْتهَد في تحقيق مناطه في بعض أفراده. ومثاله: قوله تعالى على لسان الخضر في قصته مع موسى عليه السلام لمَّا أنكر عليه خرق السفينة {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)} [الكهف: 79]. قال ابن كثير: " هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى عليه السلام، وما كان أنكر ظاهره وقد أظهر الله الخضر عليه السلام على باطنه, فقال: إن السفينة إنما خرقتها لأعيبها؛ لأنهم كانوا يمرُّون بها على مَلِكٍ من الظَلَمَة {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} صالحة، أي: جيدة {غَصْبًا} فأردُّت أن أعيبها لأردّه عنها لعيبها، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيءٌ ينتفعون به غيرها" (¬2). وفيه: جواز إفساد بعض المال إذا كان فيه صلاحٌ لأكثره (¬3). وقد اجتهد العلماء في تحقيق مناط هذا الحُكْم في مسألة: مصالحة ولي اليتيم السلطانَ على أخذ بعض مال اليتيم؛ وذلك خشيةَ ذهابه بجميعه, فأجازوا بذل بعض مال اليتيم من أجل المحافظة على أكثره في حال طمع السلطان في أخذه كلِّه أو أكثره (¬4). قال القرطبي: " في خرق السفينة دليلٌ على أن للولي أن يُنْقِصَ مال اليتيم إذا رآه صلاحاً، مثل أن يخاف على ريعه ظالماً فيخرب بعضه " (¬5). ¬

(¬1) ينظر: (286 - 306). (¬2) تفسير القرآن العظيم (5/ 184). (¬3) ينظر: فتح الباري لابن حجر (8/ 422). (¬4) ينظر: المرجع السابق. (¬5) الجامع لأحكام القرآن: (11/ 19).

ففي هذا المثال ثبت حُكْمٌ في شرع مَنْ قَبْلَنا بنصِّ الكتاب, وليس فيه تصريحٌ بالتكليف به, أو إنكاره, أو نسخه, فثبت الاحتجاج به. ثم اجتهد في تحقيق مناطه في مسألة: مصالحة ولي اليتيم السلطان على أخذ بعض مال اليتيم خشية ذهاب مُعْظَمِه. وقد روعي في ذلك ضابطٌ من أهم ضوابط تحقيق المناط , وهو: الموازنة بين المصالح والمفاسد المتعارِضة, وارتكاب أخفِّ الضررين لدفع أشدِّهما (¬1). ¬

(¬1) ينظر: (245 - 256).

المبحث الثالث العلاقة بين الاجتهاد في المناط وقول الصحابي

المبحث الثالث العلاقة بين الاجتهاد في المناط وقول الصحابي سأتناول في هذا المبحث بيان علاقة الاجتهاد في المناط بقول الصحابي , وذلك من خلال ثلاثة مطالب , وهي على النحو الآتي: المطلب الأول: تعريف الصحابي لغةً، واصطلاحاً. الصحابي لغةً: مصدر صَحِبَ يَصحُبُ صُّحبَةً فهو صاحب، والصحبة: المعاشرة , وذلك يقع على القليل والكثير (¬1). والصحابي اصطلاحاً -عند الأصوليين-: من رأي النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يختصّ به اختصاص المصحوب، ولا روى عنه، ولا طالت مدة صحبته (¬2). وعرَّفه ابن السبكي بقوله: " الصحابي: من اجتمع مؤمناً بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإن لم يرو، ولم يُطل " (¬3). وقد عدل ابن السبكي في تعريفه عن لفظ: " من رأى النبي صلى الله عليه وسلم "؛ وذلك ليشمل التعريفُ الأعمى والبصير من الصحابة (¬4). ¬

(¬1) ينظر: الصحاح (1/ 161) , معجم مقاييس اللغة (3/ 335) , لسان العرب (1/ 519) , تاج العروس (3/ 185) "مادة: ص ح ب". (¬2) ينظر: العدة (3/ 987 - 988)، الإحكام للآمدي (2/ 112)، التمهيد للكلوذاني (3/ 172 - 173)، مختصر ابن الحاجب (1/ 599)، نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (7/ 2909). (¬3) جمع الجوامع (73). (¬4) ينظر: شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 166)

المطلب الثاني: حجية قول الصحابي.

واستدلُّوا على ذلك بثلاثة أمور: الأول: أن الصَّاحب اسمٌ مشتقٌّ من الصُّحبة، والصُّحبة تعمّ القليل والكثير، ومنه يقال: صَحِبتُه ساعة، وصَحِبتُه يوماً وشهراً، وأكثر من ذلك، كما يقال: فلانٌ كلَّمني وحدَّثني وزارني، وإن كان لم يكلِّمه ولم يحدِّثه ولم يَزُرْه سوى مرةً واحدة (¬1). الثاني: أنه لو حلف أنه لا يصحب فلاناً في السفر، أو ليصحبنّه، فإنه يبرّ ويحنث بصحبته ساعة (¬2). الثالث: أنه لو قال قائلٌ: صَحِبتُ فلاناً، فيصح أن يقال: صَحِبتُه ساعةً أو يوماً أو أكثر من ذلك، وهل أخذت عنه العلم ورويت عنه، أو لا؟ ولولا أن الصحبة شاملةٌ لجميع هذه الصور، ولم تكن مختصَّةً بحالةٍ منها، لما احتيج إلى الاستفهام (¬3). المطلب الثاني: حُجيَّة قول الصَّحابي. إذا قال الصَّحابي قولاً, أو فعل فعلاً , في مسألةٍ اجتهادية , ولم ينتشر ذلك القول أو الفعل, أو لا يُعْلَم انتشاره, ولم يُعْلَم له مخالفٌ من الصحابة , فهو حُجَّةٌ مُعتبَرةٌ في الأحكام الشرعية (¬4). ¬

(¬1) ينظر: العدة (3/ 988) ,الإحكام للآمدي (2/ 112 - 113) , التمهيد (3/ 173) , شرح مختصر الروضة للطوفي (2/ 186) , نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (7/ 2909) , بيان المختصر للأصفهاني (1/ 716). (¬2) ينظر: الإحكام للآمدي (2/ 113) , شرح مختصر الروضة للطوفي (2/ 186) , بيان المختصر للأصفهاني ... (1/ 716). (¬3) ينظر: العدة (3/ 988 - 989) , الإحكام للآمدي (2/ 113) , نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (7/ 2909). (¬4) اختلف الأصوليون في حجية قول الصحابي إذا لم يشتهر, ولم يؤثر عن غيره من الصحابة مخالفةٌ له في ذلك , على أقوال: أحدها: أنه حجة مطلقا. والثاني: أنه ليس بحجة مطلقا. والثالث: أن الحجة قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما دون غيرهما. والرابع: أن الحجة قول الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم فقط. والخامس أن قول الصحابي حجة فيما لا يدرك قياسا , أي: إذا خالف القياس. والسادس: إن كان من أهل العلم والإجتهاد فقوله حجة, وإلا فلا. ينظر: البرهان (2/ 1358 - 1363) ,قواطع الأدلة (3/ 289 - 291) ,المستصفى (2/ 450 - 451) ,الواضح ... لابن عقيل (5/ 210) , , المحصول (6/ 129) , نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (8/ 3981 - 3982) ,إجمال الإصابة في أقوال الصحابة (35 - 42) ,كشف الأسرار (3/ 217 - 219) , البحر المحيط للزركشي (6/ 54 - 64) , إرشاد الفحول (2/ 995 - 996).

وقد ذهب إلى ذلك: الأئمة الأربعة (¬1) , والقاضي أبويعلى (¬2) , والسرخسي (¬3) , والقرافي (¬4) , والشاطبي (¬5)، وابن القيم (¬6) , وابن النجار الفتوحي (¬7) , والأمين الشنقيطي (¬8). قال ابن القيم: " وأئمة الإسلام كلُّهم على قبول قول الصَّحابي" (¬9). والمقصود بقول الصَّحابي -هنا-: مذهبه في مسائل الاجتهاد, قولاً كان أو فعلاً , حاكماً كان أو مفتياً (¬10). ولايُنْسَب ذلك إلا إلى العالِم منهم؛ لأن الصحابة كلَّهم عدول ,وعدالة مَنْ ليس عالماً منهم تمنعه أن يقول في الشرع بلا مستند (¬11). ¬

(¬1) ينظر: الرسالة للشافعي (597 - 598) ,العدة (5/ 1181) ,الإحكام للآمدي (4/ 182) , شرح تنقيح الفصول (445) ,البحر المحيط للزركشي (6/ 54) , , تيسير التحرير (3/ 132 - 133) ,شرح الكوكب المنير (4/ 422) , المدخل إلى مذهب الإمام أحمد (119) , وقد حقق ابن القيم قولي الإمام الشافعي في القديم والجديد وأصح الروايتين عن الإمام أحمد في المسألة. ينظر: إعلام الموقعين (5/ 550 - 556). (¬2) ينظر: العدة (5/ 1178). (¬3) ينظر: أصول السرخسي (2/ 108). (¬4) ينظر: شرح تنقيح الفصول (445). (¬5) ينظر: الموافقات (4/ 446). (¬6) ينظر إعلام الموقعين (5/ 550) (¬7) ينظر: شرح الكوكب المنير (4/ 422). (¬8) ينظر: مذكرة أصول الفقه (256 - 257). (¬9) إعلام الموقعين: (5/ 554). (¬10) ينظر: إجابة السائل شرح بغية الآمل (221) , نشر البنود (2/ 263) , نثر الورود (575). (¬11) ينظر: منع الموانع عن جمع الجوامع (451).

وعلى هذا يكون إطلاق لفظ" الصَّحابي" في تلقيب المسألة أولى من تقييده ب"العالِم"؛ لأن إضافة القول إليه مُنْبِئةٌ عن ذلك , فإنَّ غيرَ العالِم لاقول له (¬1). واستدلُّوا على حُجِّية قول الصَّحابي بأدلةٍ منها (¬2): أولاً: قوله تعالى {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. فالله تعالى في هذه الآية مدح الصَّحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما استحقَّ التابعون لهم هذا المدح على اتِّباعهم بإحسان من حيث الرجوع إلى رأيهم؛ لأن في ذلك استحقاق المدح باتباع مادلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة، وذلك إنما يكون في قولٍ وُجِد منهم ولم يظهر من بعضهم فيه خلاف، فأما الذي فيه اختلافٌ بينهم فلا يكون موضع استحقاق المدح، فإنه إن كان يستحقُّ المدح باتباع البعض يستحقُّ الذمَّ بترك اتباع البعض , فوقع التعارض فكان النصُّ دليلاً على حُجِّية قول الصَّحابي إذا لم يظهر بينهم اختلافٌ ظاهر (¬3). وثناء الله في الآية على من اتَّبعهم يعمّ اتباعهم مجتمعين ومنفردين في كلِّ ممكن؛ فمن اتَّبع جماعتهم إذا اجتمعوا , واتَّبع آحادهم فيما وجد عنهم مما لم يخالفه فيه غيره منهم, فقد صدق عليه أنه اتبع السابقين، أما من خالف بعض السابقين فلا يصح أن يقال " اتَّبع السابقين "؛ لوجود مخالفته لبعضهم، لا سيما إذا خالف هذا مرَّة، وهذا مرَّة (¬4). ثانياً: ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح من وجوهٍ متعددةٍ أنه قال: ¬

(¬1) ينظر: منع الموانع عن جمع الجوامع (451). (¬2) وانفرد ابن القيم بذكر ستة وأربعين وجهاً للاستدلال على حجية قول الصحابي. ينظر: إعلام الموقعين (5/ 556 - 6/ 30). (¬3) ينظر: ميزان الأصول للسمرقندي (. . .) , كشف الأسرار (3/ 222) , إعلام الموقعين (5/ 556 - 557) , إجمال الإصابة في أقوال الصحابة (57) ,التقرير والتحبير (2/ 312) ,تيسير التحرير (3/ 135). (¬4) إعلام الموقعين: (5/ 562).

«خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (¬1) , فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن خير القرون قرنه مطلقاً، وذلك يقتضي تقديمهم في كلِّ بابٍ من أبواب الخير، وإلا لو كانوا خيراً من بعض الوجوه، فلا يكونون خير القرون مطلقاً، فلو جاز أن يخطئ الرجل منهم في حُكْمٍ وسائرهم لم يفتوا بالصواب، وإنما ظفر بالصواب من بعدهم، وأخطئوا هم , لزم أن يكون ذلك القرن خيراً منهم من ذلك الوجه؛ لأن القرن المشتمل على الصواب خيرٌ من القرن المشتمل على الخطأ في ذلك الفن، ثم هذا يتعدَّد في مسائل عديدة؛ لأن من يقول " قول الصَّحابي ليس بحُجَّة" يجوز عنده أن يكون من بعدهم أصاب في كلِّ مسألةٍ قال فيها الصَّحابي قولاً، ولم يخالفه صحابيٌّ آخر، وفات هذا الصواب الصَّحابة، ومعلومٌ أن هذا يأتي في مسائل كثيرة تفوق العدَّ والإحصاء، فكيف يكونون خيراً ممن بعدهم وقد امتاز القرن الذي بعدهم بالصواب فيما يفوق العدَّ والإحصاء مما أخطئوا فيه؟ (¬2). ثالثاً: إنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- انفردوا عن غيرهم بأنهم كانوا أبرَّ الأُمَّة قلوباً, وأعمقهم علماً, وأقلِّهم تكلَّفا، فقد خصّهم الله بتوقَّد الأذهان وفصاحة اللسان، فالعربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزةٌ في فِطَرِهم وعقولهم , وقد حضروا التنزيل، وسمعوا كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه مباشرة، وشاهدوا طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام الحوادث, وشاهدوا الأحوال التي نزلت فيها النصوص ,وهم أعلم بالتأويل , وأعرف بالمقاصد، وأقرب عهداً بنور النبوة، وأكثر تلقياً من تلك المشكاة النبوية , لذلك كان اجتهادهم أقرب إلى الصواب, وأبعد عن الخطأ , فلزم العمل باجتهادهم دون اجتهاد غيرهم (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في " صحيحه", كتاب فضائل الصحابة, باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم, رقم (3651) ,وأخرجه مسلم في "صحيحه", كتاب فضائل الصحابة, باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم, رقم (2533). (¬2) ينظر: إعلام الموقعين (5/ 574 - 575). (¬3) ينظر: العدة (5/ 1187) , الفقيه والمتفقه (1/ 437) , أصول السرخسي (2/ 108 - 109) , الإحكام ... للآمدي (4/ 188) , إعلام الموقعين (6/ 21 - 23) , إجمال الإصابة في أقوال الصحابة (64).

المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بقول الصحابي.

رابعاً: إنَّ التابعين أجمعوا على اتِّباع الصَّحابة فيما ورد عنهم, والأخذ بقولهم, والفتيا به , من غير نكيرٍ من أحدٍ منهم, ولولا أنهم رأوا ذلك حُجَّةً , وإلا لما أطبقوا على الاتِّباع هذا الإطباق (¬1). قال العلائي: "ومن أمعن النظر في كتب الآثار وجد التابعين لا يختلفون في الرجوع إلى أقوال الصَّحابي فيما ليس فيه كتابٌ ولا سُنَّةٌ ولا إجماع, ثم هذا مشهورٌ أيضاً في كلِّ عصرٍ لا يخلو عنه مستدِلٌ بها ,أو ذاكِرٌ لأقوالهم في كتبه" (¬2). ولا يقال: فيكون المخالِف في ذلك خارقاً للإجماع؛ لأن مخالفة الإجماع الاستدلالي والظنيِّ لا يقدح, وما ذكر آنفا يُعْتَبر من ذلك (¬3). وقال ابن القيم: " لم يزل أهل العلم في كلِّ عَصْرٍ ومِصْرٍ يحتجُّون بما هذا سبيله من فتاوى الصحابة وأقوالهم، ولا ينكره منكرٌ منهم، وتصانيف العلماء شاهدةٌ بذلك، ومناظراتهم ناطقةٌ به" (¬4). المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بقول الصحابي. تظهر علاقة الاجتهاد في المناط بقول الصحابي في جوانب عديدة, من أهمها مايأتي: أولاً: الصَّحابة رضي الله عنهم أعرف الناس بمعاني الكتاب والسُّنَّة, وأعلمهم بمناطات الأحكام , وأكثرهم تأهلاً للاجتهاد؛ وذلك لوجهين: الوجه الأول: أنهم باشروا الوقائع والنوازل , وشاهدوا تصرُّفات الرسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام الحوادث , وشاهدوا الأحوال التي نزلت فيها ¬

(¬1) ينظر: البرهان (2/ 1360) , إعلام الموقعين (6/ 27 - 29) , إجمال الإصابة في أقوال الصحابة (66). (¬2) إجمال الإصابة في أقوال الصحابة (67). (¬3) ينظر: إجمال الإصابة في أقوال الصحابة (67). (¬4) إعلام الموقعين: (6/ 29).

النصوص, والمحالَّ التي تتغيَّر باعتبارها الأحكام , ووقفوا من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومراده من كلامه على مالم يقف عليه غيرهم , فهم أعرف بالتأويل, وأعلم بالمقاصد (¬1). ولذلك " فهم أقعد في فهم القرائن الحالية , وأعرف بأسباب التنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب" (¬2). الوجه الثاني: أنهم عربٌ فصحاء، لم تتغيَّر ألسنتهم، ولم تنزَّل فصاحتهم عن رتبتها العليا , فهم من أعرف الناس باللسان العربي الذي جرى عليه خطاب الشريعة (¬3). وبهذين الوجهين" كانوا أقعد بمفهوم الأحوال , ودلالات الأقوال" (¬4). وبناءً على ذلك فإنه متى ثبت عن الصَّحابي قولٌ أو عملٌ يقع مواقع الاجتهاد في الشريعة, ولم يُعْلَم له مخالفٌ من الصَّحابة, لزم العمل به, والاعتماد عليه؛ لأن فهمهم في الشريعة أتمُّ وأحرى بالتقديم (¬5). وقد كانوا رضي الله عنهم: " أعلم الناس بباطن الرسول وظاهره, وأخبر الناس بمقاصده ومراداته" (¬6). ولهذا كان" السلف والخلف من التابعين ومن بعدهم يهابون مخالفة الصحابة، ويتكثَّرون بموافقتهم، وأكثر ما تجد هذا المعنى في علوم الخلاف الدائر بين الأئمة المعتبرين؛ فتجدهم إذا عيَّنوا مذاهبهم قوُّوها بذكر من ذهب إليها من الصحابة، وما ذاك إلا لما اعتقدوا في أنفسهم وفي مخالفيهم من ¬

(¬1) ينظر: العدة (5/ 1187) , الإحكام للآمدي (4/ 188) , الموافقات (4/ 128) , إجمال الإصابة في أقوال الصحابة (64). (¬2) الموافقات (4/ 128). (¬3) ينظر: الموافقات (4/ 128). (¬4) بداية المجتهد: (2/ 67). (¬5) ينظر: الموافقات (4/ 128 - 132). (¬6) مجموع الفتاوى: (7/ 503).

تعظيمهم، وقوة مآخذهم دون غيرهم، وكِبَرِ شأنهم في الشريعة، وأنهم مما يجب متابعتهم وتقليدهم فضلاً عن النظر معهم فيما نظروا فيه " (¬1). ومن صور ذلك: بيانهم لمعاني الكتاب والسُّنَّة. قال الشاطبي: " فإذا جاء في القرآن أو في السُنَّة من بيانهم ما هو موضوعٌ موضعَ التفسير، بحيث لو فرضنا عدمه لم يُمْكِن تنزيل النصِّ عليه على وجهه؛ انحتم الحُكْم بإعمال ذلك البيان" (¬2). وأقوال الصحابة وأعمالهم أحسَن مايستدلُّ به على معاني الكتاب والسُّنَّة. قال ابن تيمية: " انظر في عموم كلام الله ورسوله لفظاً ومعنى، حتى تعطيه حقه، وأحسَن ما تستدلَّ به على معناه: آثار الصحابة الذين كانوا أعلم بمقاصده، فإنَّ ضَبْطَ ذلك يوجب توافق أصول الشريعة وجريها على الأصول الثابتة" (¬3). ولهذا كان من عادة الإمام مالك بن أنس في "موطَّئه" الإتيان بالآثار عن الصحابة مبيِّناً بها السُّنن، وما يُعْمَل به منها وما لا يُعْمَل به، وما يُقَيَّد به مطلقاتها، أو يُخْصَّص بها عمومها (¬4). ومن الأمثلة التي أوردها الشاطبي على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يزال الناس بخيرٍ ما عجَّلوا الفِطْر" (¬5)؛ فهذا التعجيل يحتمل أن يُقْصَد به إيقاعه قبل الصلاة، ويحتمل أن لا؛ فكان عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما يصلِّيان المغرب قبل أن يفطرا، ثم يفطران بعد الصلاة؛ ¬

(¬1) الموافقات: (4/ 457). (¬2) الموافقات: (4/ 132). (¬3) القواعد النورانية: (223). (¬4) ينظر: الموافقات (4/ 131). (¬5) أخرجه البخاري في "صحيحه" , كتاب الصوم , باب تعجيل الفطر, رقم (1957) , وأخرجه مسلم في صحيحه, كتاب الصيام ,باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر, رقم (1098) , من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما.

بياناً أن هذا التعجيل لا يلزم أن يكون قبل الصلاة، بل إذا كان بعد الصلاة فهو تعجيلٌ أيضاً (¬1). والكلام في بيان الصَّحابي لمعاني الكتاب والسُّنَّة كالكلام في فتواه سواء، وصورة المسألة هنا كصورتها هناك، وهو أن لا يكون في المسألة نصٌّ يخالفه، ويقول في الآية أو الحديث قولاً لا يخالفه فيه أحدٌ من الصحابة، سواءٌ عُلِمَ لاشتهاره أو لم يُعلَم؛ لأنه من الممتنع أن يقول أحدهم في كتاب الله أو في سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم الخطأ المحض ويمسك الباقون عن الصواب فلا يتكلمون به، ، فالمحظور إنما هو خلو عصرهم عن ناطقٍ بالصواب واشتماله على ناطقٍ بغيره فقط , فهذا هو المحال (¬2). ومن ذلك: استعمالهم القياس في الوقائع والنوازل التي لانصَّ فيها, وإن كانوا لايسمُّون ذلك قياساً بحسب تسمية الأصوليين. قال ابن القيم: " الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يستعملون القياس في الأحكام، ويعرفونها بالأمثال والأشباه والنظائر, ولا يُلتفت إلى من يقدح في كلِّ سندٍ من هذه الأسانيد وأثرٍ من هذا الآثار، فهذه في تعدُّدها واختلاف وجوهها وطرقها جاريةٌ مجرى التواتر المعنوي الذي لا يُشك فيه" (¬3). ومن الأمثلة على ذلك: - أن الصحابة رضي الله عنهم جعلوا العبد على النصف من الحُرِّ في النكاح والطلاق والعدَّة؛ قياساً على ما نصَّ الله عليه (¬4) من قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]. - قياس الصحابة حدَّ الشرب على حدِّ القذف, حيث إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاور الناس في حدِّ الخمر، وقال: إن الناس قد شربوها ¬

(¬1) ينظر: الموافقات (4/ 129). (¬2) ينظر: إعلام الموقعين (6/ 36 - 37). (¬3) المرجع السابق: (2/ 377). (¬4) ينظر: إعلام الموقعين (2/ 367).

واجترءوا عليها، فقال له علي- رضي الله عنه-: إن السكران إذا سَكَرَ هذى، وإذا هذى افترى، فاجعله حدَّ الفرية، فجعله عمر حدَّ الفرية ثمانين (¬1). ولما" كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهدون في النوازل، ويقيسون بعض الأحكام على بعض، ويعتبرون النظير بنظيره" (¬2) , عُدَّ قياسهم فيما لانصَّ فيه على ما فيه نصٌّ دليلاً من أقوى الأدلة على اعتبار القياس أصلاً من أصول أحكام الشرع (¬3). قال ابن السمعاني: " واعلم أن الاحتجاج بإجماع الصحابة دليلٌ في نهاية الاعتماد, وهو مما يقطع العذر, ويزيح الشبهة, فليكن به التمسُّك" (¬4). وقد فتحوا بذلك التصرُّف الاجتهادي - رضي الله عنهم - باباً للعلماء من أعظم أبواب الاجتهاد في الشريعة. قال ابن القيم: " فالصحابة - رضي الله عنهم - مثِّلوا الوقائع بنظائرها، وشبَّهوها بأمثالها، وردُّوا بعضها إلى بعضٍ في أحكامها، وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد، ونهجوا لهم طريقه، وبيَّنوا لهم سبيله" (¬5). ولما كان الاجتهاد في الشرعيات يستند إلى الظنِّ الراجح , كان الاستناد في الظنِّيات إلى قول الصحابي الذي لم يشتهر، ولم يُعْلَم له مخالفٌ أقوى في الرجحان من غيره. قال ابن القيم: " من تأمل المسائل الفقهية، والحوادث الفرعية، وتدَّرب بمسالكها، وتصرَّف في مداركها، وسلك سبلها ذللاً، وارتوى من مواردها عِللاً ونَهْلا، علم قطعاً أن كثيراً منها قد تشتبه فيها وجوه الرأي بحيث لا يوثق فيها بظاهرٍ مراد، أو قياسٍ صحيحٍ ينشرح له الصدر ويثلج له الفؤاد، بل تتعارض فيها الظواهر والأقيسة على وجهٍ يقف المجتهد في أكثر المواضع حتى ¬

(¬1) ينظر: إعلام الموقعين: (2/ 373 - 375). (¬2) إعلام الموقعين: (2/ 354). (¬3) ينظر: إعلام الموقعين (2/ 367 - 377). (¬4) قواطع الأدلة: (4/ 53). (¬5) إعلام الموقعين: (2/ 383).

لا يبقى للظنِّ رجحانٌ بيَّن، لا سيما إذا اختلف الفقهاء؛ فإن عقولهم من أكمل العقول، وأوفرها فإذا تلدَّدوا وتوقفوا، ولم يتقدموا، ولم يتأخروا لم يكن ذلك في المسألة طريقةٌ واضحةٌ ولا حُجَّةٌ لائحة؛ فإذا وُجِد فيها قولٌ لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم والذين هم سادات الأمة، وقدوة الأئمة، وأعلم الناس بكتاب ربهم تعالى وسُنَّة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، وقد شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل ونسبة مَنْ بعدهم في العلم إليهم كنسبتهم إليهم في الفضل والدِّين كان الظنُّ والحالة هذه بأن الصواب في جهتهم والحق في جانبهم من أقوى الظنون، وهو أقوى من الظنِّ المستفاد من كثيرٍ من الأقيسة، هذا ما لا يمتري فيه عاقلٌ مُنْصِفٌ، وكان الرأي الذي يوافق رأيهم هو الرأي السداد الذي لا رأي سواه، وإذا كان المطلوب في الحادثة إنما هو ظنٌّ راجحٌ ولو استند إلى استصحابٍ أو قياس عِلَّةٍ أو دلالةٍ أو شَبَهٍ أو عمومٍ مخصوصٍ أو محفوظٍ مُطْلَق أو واردٍ على سبب؛ فلا شكَّ أن الظنَّ الذي يحصل لنا بقول الصحابي الذي لم يُخالَف أرجح من كثيرٍ من الظنون " (¬1). فإذا ثبت عن الصحابي قولٌ أو عملٌ في مسألةٍ شرعيَّة , ولم يشتهر , ولم يُعْلَم له مخالِفٌ من الصحابة كان حُجَّةً تُقدَّم على ما سواها من وجوه الاجتهاد الأخرى الصادرة عن غير الصحابة. وقد ذكر الشافعي أن هذه الصورة قليلة الوقوع في الأحكام الشرعيَّة , فقال: " وقلَّ ما يُوجَد من قول الواحد منهم لا يخالفه غيرُه " (¬2). وذلك لأن أكثر أقاويل الصحابة إما أن يثبت اشتهارها ولا تُسْتَنْكَر: فتكون من قبيل الإجماع السكوتي , أو تُسْتَنْكَر: فيقع الاختلاف فيها , وتكون موضع اجتهادٍ لايختصُّ به الصحابة دون غيرهم من المجتهدين. قال الشاطبي: " فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات، أو تخصيص بعض العمومات؛ فالعمل عليه صواب، وهذا إن لم يُنْقَل عن أحدٍ منهم ¬

(¬1) إعلام الموقعين: (6/ 17 - 18). (¬2) الرسالة: (596).

خلافٌ في المسألة، فإن خالف بعضهم؛ فالمسألة اجتهادية" (¬1). وقال: " أما إذا عُلِم أن الموضع موضع اجتهادٍ لا يفتقر إلى ذينك الأمرين؛ فهم ومَنْ سواهم فيه شَرَعَ سواء؛ كمسألة العَوْل، والوضوء من النوم، وكثيرٍ من مسائل الرِّبا التي قال فيها عمر بن الخطاب: "مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبيِّن لنا آية الرِّبا؛ فدعوا الرِّبا والريبة" (¬2)، أو كما قال؛ فمثل هذه المسائل موضع اجتهادٍ للجميع لا يختصُّ به الصحابة دون غيرهم من المجتهدين" (¬3). والصحابي في مذهبه قد يستند إلى القياس ,أو المصلحة المرسلة, أو العُرْف, أو سدِّ الذرائع ,ونحو ذلك من طرق الاجتهاد الأخرى , والذي يخصُّ هذا الموضع من البحث هو مذهب الصحابي الذي استند فيه إلى القياس. ثانياً: قول الصحابي يُعْتَبر من مسالك تحقيق المناط كما تقدَّم (¬4) ,فقد يدلَّ قول الصحابي على ثبوت مناط الحُكْم في بعض أفراده. ثالثاً: قول الصحابي إذا ثبت فإنه مقدَّمٌ على العمل بالأقيسة؛ لأن قول الصحابي أعلى في الرتبة من القياس , والأخذ بأقوى الدليلين متعيِّن (¬5). قال الشافعي: " العلم طبقاتٌ شتى , الأولى: الكتاب والسُّنَّة إذا ثبتت السُّنَّة , ثم الثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتابٌ ولا سُنَّة, والثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قولاً, ولا نعلم له مخالفاً منهم, والرابعة: اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، والخامسة: القياس على بعض الطبقات, ولا يُصَار إلى شيءٍ غير الكتاب والسُّنَّة وهما موجودان, وإنما يؤخذ العلم من أعلى" (¬6). ¬

(¬1) الموافقات: (4/ 128). (¬2) أخرجه أحمد في "مسنده" (1/ 36) , وابن ماجه في "سننه",كتاب التجارات , باب التغليظ في الرِّبا, رقم (2276). (¬3) الموافقات: (4/ 134). (¬4) ينظر: (265). (¬5) ينظر: أصول السرخسي (2/ 110 - 111) ,إعلام الموقعين (6/ 39 - 40). (¬6) الأم: (7/ 280).

وبهذا يتبيَّن أن الشافعي يقدِّم قول الصحابي الذي لايُعلَم له مخالف - سواءٌ اشتهر أو لم يشتهر - على العمل بالقياس. وذكر ابن القيم أن الأصول التي بنى عليها الإمام أحمد فتاويه خمسة وهي: (¬1) أحدها: النصوص، فإذا وجد النصُّ أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه , ولا مَنْ خالفه كائناً من كان. الثاني: ما أفتى به الصحابة، فإنه إذا وُجِد لبعضهم فتوى لا يُعرَف له مخالفٌ منهم فيها لم يَعْدُها إلى غيرها. الثالث: إذا اختلف الصحابة تخيَّر من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسُّنَّة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبيَّن له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيها, ولم يجزم بقول. الرابع: الأخذ بالمُرْسَل والحديث الضعيف، إذا لم يكن في الباب شيءٌ يدفعه، وهو الذي رجَّحه على القياس، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ,ولا المنكر, ولا ما في روايته متَّهَم, بحيث لا يسوغ الذهاب إليه والعمل به؛ بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح, وقسمٌ من أقسام الحَسَن، ولم يكن يقسِّم الحديث إلى صحيحٍ وحسَن وضعيف، بل إلى صحيحٍ وضعيف، والضعيف عنده مراتب، فإذا لم يجد في الباب أثراً يدفعه ولا قولَ صاحب، ولا إجماعَ على خلافه, كان العمل به عنده أولى من القياس. الخامس: القياس , فإذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نصٌّ ولا قول الصحابة, أو واحدٌ منهم , ولا أثرٌ مُرْسَل , أو ضعيف , عَدَلَ إلى القياس. وبهذا يتبيَّن أن الإمام أحمد كذلك يقدِّم قولَ الصحابي الذي لم يُعلَم له مخالف -سواء اشتهر أو لم يشتهر- على القياس. وإن عضده القياس ولو كان ضعيفاً فأولى أن يؤخذ به حتى عند القائلين بعدم حجِّية قول الصحابي (¬2). ¬

(¬1) ينظر: إعلام الموقعين (2/ 50 - 60). (¬2) ينظر: الفقيه والمتفقه (1/ 525).

قال الغزالي: "فإن لم يكن -أي: قول الصحابي- حُجَّةً فلا يبعد أن يقوى القياس به في ظنِّ مجتهد، إذ يقول إن كان ما قاله عن توقيفٍ فهو أولى, وإن كان قال ما قاله عن ظنٍّ وقياسٍ فهو أولى بفهم مقاصد الشرع مِنّا" (¬1). رابعاً: قول الصحابي إذا ثبت ولم يُعلَم له مخالفٌ فإنه يخصِّص العموم الوارد في الكتاب والسُّنَّة (¬2). والمراد: أن يَرِد نصٌّ عامٌّ في الكتاب أو السُّنَّة, فيخصّه الصحابي ببعض أفراده, سواءٌ كان هو الراوي في حال كونه خبراً, أو لم يكن هو راوي ذلك الخبر (¬3). فمثال الأول حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ بدَّل دينه فاقتلوه" (¬4) ,فإنَّ لفظ "مَنْ "عامٌّ يشمل المذكَّر والمؤنث ,وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في النساء إذا ارتددن عن الإسلام: "يُحبَسَنَّ ولا يُقتَلنَ", فخصَّ الحديث بالرِّجال (¬5). ومثال الثاني حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المسلم صدقةٌ في عبده ولا في فرسه" (¬6). وروي عن ابن عباس رضي الله عنه تخصيص الخيل بما يُغْزَى عليه في سبيل الله ,فأما غيرها ففيها الزكاة , وعن عثمان رضي الله عنه تخصيصه أيضاً بالسائمة, وعن عمر رضي الله عنه نحوه أيضاً (¬7). ¬

(¬1) المستصفى: (3/ 330). (¬2) ينظر في المسألة: المستصفى (3/ 330). (¬3) ينظر: إجمال الإصابة في أقوال الصحابة (84) , البحر المحيط للزركشي (3/ 398). (¬4) أخرجه البخاري في "صحيحه",كتاب استتابة المرتدين, باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم, رقم (6922). (¬5) ينظر: إجمال الإصابة في أقوال الصحابة (84) , البحر المحيط للزركشي (3/ 399 - 400). (¬6) أخرجه البخاري في "صحيحه",كتاب الزكاة , باب ليس على المسلم في عبده صدقةٌ, رقم (1464) , وأخرجه مسلم في "صحيحه", كتاب الزكاة, باب لازكاة على المسلم في عبده وفرسه, رقم (982). (¬7) ينظر: إجمال الإصابة في أقوال الصحابة (85) , البحر المحيط للزركشي (3/ 398).

وقد ذهب إلى ذلك: الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2). واستدلوا على ذلك بأدلةٍ , منها: الأول: أن قول الصحابي مقدمٌ على القياس، بدليل أنه يُترك له القياس؛ وإذا كان القياس يخصِّص العموم؛ فقول الصحابي أولى وأحرى (¬3). الثاني: أن قول الصحابي يستلزم دليلاً، وإلا لكان مخالفاً لظاهر العموم من غير دليل، فيكون فاسقاً، وهو باطلٌ بالاتفاق, وحينئذٍ يكون التخصيص بدليل , فيكون قول الصحابي مخصِّصاً للعموم (¬4). وتخصيص العموم بقول الصحابي يتخرَّج على القول بأن مذهبه حُجَّة , وإذا كان كذلك لم يَحْتَجْ إلى نصب استدلالٍ عليه لظهور المُدْرَك (¬5). خامساً: قول الصحابي إذا ثبت ولم يُعلَم له مخالفٌ فإنه يقيِّد المُطْلَق الوارد في الكتاب والسُّنَّة (¬6). والمراد: أن يرد نصٌّ مُطْلَق في الكتاب أو السُّنَّة ,فيقيِّده الصحابي ببعض أفراده, سواءٌ كان هو الراوي في حال كونه خبراً, أو لم يكن هو راوي ذلك الخبر. و"التقيِّيد والإطلاق أمران اعتباريان، فقد يكون المقيِّد مُطْلَقاً بالنسبة إلى قيدٍ آخر, كالرقبة مقيَّدةٌ بالمِلك مُطْلَقَةٌ بالنسبة إلى الأَيمان، وقد يكون المُطْلَق مقيَّداً ,كالرقبة مُطْلَقَةٌ وهي مقيَّدةٌ بالرِّق، والحاصل أن كلَّ حقيقةٍ اعتُبِرت من حيث هي هي فهي مُطْلَقَةٌ، وإن اعتُبِرت مضافةٌ إلى غيرها فهي مقيَّدة" (¬7). ¬

(¬1) ينظر: تيسير التحرير (1/ 326) ,فواتح الرحموت (1/ 372). (¬2) ينظر: العدة (2/ 579) , التمهيد للكلوذاني (2/ 119) , البحر المحيط للزركشي (3/ 400). (¬3) ينظر: العدة (2/ 579) , التمهيد للكلوذاني (2/ 120). (¬4) ينظر: شرح تنقيح الفصول (172) ,بيان المختصر للأصفهاني (2/ 333) , الإبهاج (2/ 193) ,فواتح الرحموت (1/ 372). (¬5) ينظر: إجمال الإصابة في أقوال الصحابة (87). (¬6) ينظر: إجمال الإصابة في أقوال الصحابة (87) ,شرح المحلي على جمع الجوامع مع حاشية البناني (2/ 48 - 49) , التقرير والتحبير (2/ 266) , تيسير التحرير (3/ 73) , شرح الكوكب المنير (3/ 395) , نشر البنود (1/ 266). (¬7) شرح تنقيح الفصول للقرافي: (266).

و"ضابط الإطلاق أنك تقتصر على مُسمَّى اللفظة المفردة، نحو رقبة ,أو إنسان, أو حيوان، ونحو ذلك من الألفاظ المفردة، فهذه كلها مُطْلَقَات، ومتى زدتَ على مدلول اللفظة مدلولاً آخر بلفظٍ أو بغير لفظٍ صار مقيَّداً ,كقولك: رقبةٌ مؤمنة، أو إنسانٌ صالح، أو حيوانٌ ناطق، وهذه المُطْلَقَات هي في أنفسها مقيَّداتٌ إذا أُخذت مسمياتها بالنسبة إلى ألفاظٍ أُخَر، فإن الرقبة هي إنسانٌ مملوكٌ وهذا مقيَّد، والإنسان حيوانٌ ناطقٌ وهذا مقيَّد، والحيوان جسمٌ حسّاسٌ وهذا مقيَّد، فصار التقيِّيد والإطلاق أمرين نسبيين بحسب ما يُنسب إليه من الألفاظ، فرُبَّ مُطْلَق مقيَّد، ورُبَّ مُقيَّدٍ مُطلَق" (¬1). والكلام في تقييد المُطْلَق بقول الصحابي كالكلام المتقدِّم آنفاً في تخصيص العموم بقول الصحابي وفاقاً, وخلافاً, واستدلالاً. قال العلائي: " وأما تقييد الصحابي الخبرَ المُطْلَق فهو كتخصيصه العامَّ من غير فرق, وذلك ظاهر" (¬2). وقال ابن النجَّار الفتوحي: " وهما - أي: المُطْلَق والمقيَّد- كعامٍّ وخاصٍّ فيما ذُكِر من تخصيص العموم من مُتَفَقٍ عليه ومُختلَفٍ فيه ومختارٍ من الخلاف , فيجوز تقييد الكتاب بالكتاب وبالسُّنَّة، وتقييد السُّنَّة بالسُّنَّة وبالكتاب، وتقييد الكتاب والسُنَّة بالقياس, ومفهوم الموافقة والمخالفة, وفعل النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره، ومذهب الصحابي ونحو ذلك، على الأصح في الجميع" (¬3). سادسأً: إذا تعارضت عِلَّتان وكان مع إحداهما قولٌ لصحابي ترجحت العِلَّة التي تتفق مع قول الصحابي على العِلَّة الأخرى. لأن قول الصحابي يصدر عن تعليله في مسائل الاجتهاد , وعِلَّته أقوى من عِلَّة غيره؛ لأنه شهد التنزيل, وعرف التأويل , فهو أعلم بتعليل الرسول صلى الله عليه وسلم, ومواقع كلامه (¬4). ¬

(¬1) شرح تنقيح الفصول للقرافي: (266). (¬2) إجمال الإصابة في أقوال الصحابة: (87). (¬3) شرح الكوكب المنير: (3/ 395). (¬4) ينظر: التمهيد للكلوذاني (4/ 228).

المبحث الرابع علاقة الاجتهاد في المناط بالاستحسان

المبحث الرابع علاقة الاجتهاد في المناط بالاستحسان سأتناول في هذا المبحث بيان علاقة الاجتهاد في المناط بالاستحسان , وذلك من خلال ثلاثة مطالب , وهي على النحو الآتي: المطلب الأول: تعريف الاستحسان لغةً, واصطلاحاً. الاستحسان لغةً هو: عدُّ الشيء حسناً، حِسيِّاً كان أو معنوياً، وهو استفعالٌ من الحُسْن , والحُسْن ضد القُبْح (¬1). والاستحسان اصطلاحاً هو: العدول بحُكْم المسألة عن نظائرها لدليلٍ شرعيٍّ خاصٍّ يقتضي العدول عن الحُكْم الأول فيه إلى الثاني (¬2). وهو"أجود تعريفٍ للاستحسان" (¬3) , و"أحسَنُ ما قيل في تفسيره" (¬4)؛ لأنه يبين حقيقة الاستحسان الشرعي , ويجمع الأنواع المندرجة تحته. وله تعريفاتٌ أخرى ذكرها الأصوليون , وهي إما أن تكون خارج محلِّ ¬

(¬1) ينظر: الصحاح (5/ 2099) , معجم مقاييس اللغة (2/ 57) , لسان العرب (13/ 114 - 117) , تاج العروس (34/ 418 - 423) مادة" ح س ن". (¬2) ينظر: المستصفى (2/ 476) , الإحكام (4/ 193) , شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 197) ,نهاية السول (4/ 400) , البحر المحيط للزركشي (6/ 91)، شرح الكوكب المنير (4/ 431). (¬3) شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 197). (¬4) البحر المحيط: (6/ 91).

النزاع، أو تكون غير جامعةٍ لأنواع الاستحسان المُعْتَبرة (¬1). والاستحسان بمعناه المتقدِّم له عدة أنواعٍ منها: النوع الأول: الاستحسان بالنصِّ. وهو أن يُترَك العمل بمقتضى القياس لدليلٍ من الكتاب أو السُّنة. ومثاله: جواز السَّلَم , فالقياس يأبى جوازه باعتبار أن المعقود عليه معدومٌ عند العقد, لكنه تُرِك بالنصِّ (¬2). وهو الرخصة الثابتة بقوله صلى الله عليه وسلم: " من أسلم في شيءٍ ففي كيلٍ معلومٍ, ووزنٍ معلومٍ, إلى أجلٍ معلوم " (¬3). النوع الثاني: الاستحسان بالإجماع. وهو أن يُترك العمل بمقتضى القياس لدليل الإجماع. ومثاله: الاستصناع , فالقياس يأبى جوازه؛ لأنه بيعٌ لمعدومٍ كالسَّلَم, بل هو أبعد جوازاً من السَّلم؛ لأن المُسْلَم فيه تحتمله الذِّمَّة لأنه دينٌ حقيقة ,والمُسْتَصْنَع عينٌ توجد في الثاني, والأعيان لا تحتملها الذِّمَّة , فكان جواز هذا العقد أبعد عن القياس , لكنه جاز؛ لأن الناس تعاملوا به في سائر الأمصار من غير نكيرٍ, فكان إجماعاً منهم على الجواز, فيُترَك القياس (¬4). النوع الثالث: الاستحسان بالضرورة. وهو أن يُترَك العمل بمقتضى القياس لدليل الضرورة. ¬

(¬1) ينظر: المستصفى (2/ 467 - 476) , كشف الأسرار (4/ 3) ,شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 288) , البحر المحيط للزركشي (6/ 90 - 93) , إرشاد الفحول (2/ 985 - 986). (¬2) ينظر: أصول السرخسي (2/ 203) ,شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 199) ,كشف الأسرار (4/ 5) , التقرير والتحبير (3/ 222) , فواتح الرحموت (2/ 373 - 374). (¬3) أخرجه البخاري في "صحيحه", كتاب السلم ,باب السلم في كيلٍ معلوم, رقم (2239) ,وأخرجه مسلم في "صحيحه",كتاب المساقاة , باب السلم, رقم (1604). (¬4) ينظر: أصول السرخسي (2/ 203) , شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 199) , كشف الأسرار (4/ 5) , التقرير والتحبير (3/ 222) , فواتح الرحموت (2/ 374).

المطلب الثاني: حجية الاستحسان.

ومثاله: الحُكْم بطهارة الآبار والحياض بعدما تنجَّست, فإن القياس يأبى جوازه؛ لأن ما يَرِد عليه النجاسة يتنجَّس بملاقاته , لكن حُكِم بطهارتها للضرورة المُحْوِجة إلى ذلك لعامَّة الناس, والحرج مدفوعٌ بالنصّ (¬1). النوع الرابع: استحسان القياس الخفي. وهو أن يُترَك العمل بمقتضى القياس الجلي لقياسٍ خفيٍّ قوي الأثر. ومثاله: القياس المُستَحسَن في سؤر سباع الطير, فالقياس فيه النجاسة؛ اعتباراً بسؤر سباع الوحش, بعِلَّة حُرْمَة التناول, وفي الاستحسان لا يكون نجساً؛ لأن السباع غير مُحَرَّمٍ الانتفاع بها ,فعرفنا أن عينها ليست بنجسة، وإنما كانت نجاسة سؤر سباع الوحش باعتبار حُرْمَة الأكل؛ لأنها تشرب بلسانها وهو رطبٌ من لعابها ,ولعابها يتجلب من لحمها, وهذا لا يوجد في سباع الطير؛ لأنها تأخذ الماء بمنقارها , ثم تبتلعه , ومنقارها عظمٌ جافٌّ , والعظم لا يكون نجساً من الميت, فكيف يكون نجساً من الحي، وتأيد هذا بالعِلَّة المنصوص عليها في الهِرَّة, فإن معنى البلوى يتحقَّق في سؤر سباع الطير؛ لأنها تَنْقَضُّ من الهواء, ولا يمكن صون الأواني عنها ,خصوصاً في الصحارى (¬2). المطلب الثاني: حُجِّية الاستحسان. الاستحسان بمعناه المتقدِّم المستندِ إلى دليلٍ معتبرٍ شرعاً مقبولٌ عند الأصوليين كافّة من حيث الجملة , وإن اختلفوا في تسميته بالاستحسان , واعتباره دليلاً مستقلاً بذاته. ¬

(¬1) ينظر: أصول السرخسي (2/ 203) ,شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 199) , كشف الأسرار (4/ 6) , التقرير والتحبير (3/ 222) , فواتح الرحموت (2/ 374). (¬2) ينظر: أصول السرخسي (2/ 204) ,شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 200 - 201) ,المحصول لابن العربي (131) , كشف الأسرار (4/ 6) , التقرير والتحبير (3/ 223) , فواتح الرحموت (2/ 375).

وقد ذهب إلى القول به, واعتباره دليلاً مستقلاً بذاته: الحنفية، والمالكية , والحنابلة (¬1). واستنكره الشافعية ,وشنَّعوا على القائلين به , باعتبار أنه عملٌ بلا دليل (¬2). وإذا تحرَّر معنى الاستحسان المُعتبَر عند القائلين به لم يَعُد استنكار الشافعية وتشنيعهم في محلِّه؛ لأن الكلَّ متفقٌ على العدول عن القياس بالنصِّ والإجماع والضرورة , كما إنهم متفقون على عدم شرعيَّة الاستحسان بمجرَّد الرأي والهوى. وعليه فلا خلاف بين الأصوليين في حُجيِّة الاستحسان بالنصِّ، أو الإجماع، أو الضرورة؛ لأنه بالاتفاق يُترَك القياس بهذه الأمور الثلاثة , وإن اختلفوا في تسمية ذلك بالاستحسان. قال الغزالي تعقيباً على ماذكره من أمثلة الحنفية في العدول بالمسألة عن حُكْم نظائرها بدليل الكتاب والسُّنَّة: " وهذا مما لا يُنْكَر، وإنما يرجع الاستنكار إلى اللفظ , وتخصيص هذا النوع من الدليل بتسميته استحساناً من بين سائر الأدلة" (¬3). وذكر الآمدي أن تفسير الاستحسان بالرجوع عن حُكْم دليلٍ خاصٍّ إلى مقابله بدليلٍ طارئٍ عليه أقوى منه , من نصٍّ أو إجماعٍ أو غيره , لا نزاع في صحة الاحتجاج به، وإن نوزع في تلقيبه بالاستحسان , فحاصل النزاع راجعٌ فيه إلى الإطلاقات اللفظية، ولا حاصل له (¬4). ¬

(¬1) ينظر: أصول السرخسي (2/ 201 - 202) , العدة (5/ 1604) ,روضة الناظر , شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 197) ,شرح تنقيح الفصول (355) , المحصول لابن العربي (131) , كشف الأسرار (4/ 2 - 3) , شرح الكوكب المنير (4/ 427). (¬2) ينظر: الرسالة (504) المستصفى (2/ 467) , المحصول (6/ 126) , الإحكام (4/ 190 - 191) , نهاية السول (4/ 399) , البحر المحيط للزركشي (6/ 87) , إرشاد الفحول (2/ 986). (¬3) ينظر: المستصفى (2/ 477). (¬4) ينظر: الإحكام (4/ 193 - 194).

وإن كان الاستحسان تركاً لقياسٍ جليٍّ في مقابل قياسٍ خفيٍّ أدقَ منه، فهو محلُّ اتفاقٍ أيضاً؛ لأنه تَرْكُ قياسٍ مرجوحٍ إلى قياسٍ راجح، فليس فيه خروجٌ على القياس , وإن اختلفوا في تسمية ذلك بالاستحسان. والاختلاف في إطلاق مُسمَّى الاستحسان على تلك المعاني راجعٌ إلى الاصطلاح , ولامشاحة في الاصطلاح. ولهذا قال ابن الحاجب: " ولا يتحقَّق استحسانٌ مختلَفٌ فيه" (¬1). وقال ابن السُّبكي: " وقد ذُكِر للاستحسان تفاسيرُ أُخر مزيفةٌ لا نرى التطويل بذكرها, وحاصلها يرجع إلى أنه لا يتحقَّق استحسانٌ مختلَفٌ فيه" (¬2). وقال الأصفهاني بعد مناقشته الاختلافَ في تعريف الاستحسان: " فقد ثبت أن الاستحسان في الصور التي ذكرناها مما لا نزاع فيه" (¬3). وقال المحلِّي: " فلم يتحقَّق معنىً للاستحسان مما ذُكِر يصلح محلّاً للنزاع" (¬4). وخلاصة القول في الكلام عن حُجِّية الاستحسان أنه" لما اختلفت العبارات في تفسير الاستحسان, مع أنه قد يُطلَق لغةً على ما يهواه الإنسان ويميل إليه ,وإن كان مستقبَحاً عند الغير ,وكثُر استعماله في مقابلة القياس على الإطلاق ,كان إنكار العمل به عند الجهل بمعناه مستحسَناً حتى يتبين المراد منه؛ إذ لا وجه لقبول العمل بما لا يُعرَف معناه, وبعدما استقرت الآراء على أنه اسمٌ لدليلٍ متفقٍ عليه - نصَّاً كان أو إجماعاً أو قياساً خفيِّاً- إذا وقع في مقابلة قياسٍ تسبق إليه الأفهام , حتى لا يطلق على نفس الدليل من غير مقابلة , فهو حُجَّةٌ عند الجميع من غير تصوُّر خلاف, ثم إنه غلب في اصطلاح الأصول على القياس الخفي خاصّة , كما غلب اسم القياس على القياس الجلي؛ تمييزاً بين القياسين " (¬5). ¬

(¬1) مختصر ابن الحاجب: (2/ 1192). (¬2) الإبهاج: (3/ 190). (¬3) بيان المختصر: (3/ 283 - 284). (¬4) شرح المحلي على جمع الجوامع مع حاشية البناني: (2/ 353). (¬5) شرح التلويح على التوضيح: (2/ 163).

المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بالاستحسان.

المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بالاستحسان. تظهر علاقة الاجتهاد في المناط بالاستحسان في جوانب عديدة, من أهمها ما يأتي: أولاً: قد يكون المناط متحقِّقاً ظاهراً في فرعٍ , والقياس يوجب الحُكْمَ به , إلا أنه قد ثبت بدليلٍ آخر ما يقتضي العدول عن موجِب ذلك القياس إلى موجِب ذلك الدليل. وهذا الدليل قد يكون نصَّاً من الكتاب أو السُّنَّة, وقد يكون إجماعاً , وقد يكون الضرورة , وقد يكون المصلحة, وقد يكون العُرْف , كما تقدَّم (¬1). فإذا ثبت ذلك الدليل عند المجتهد قَطَعَ المسألةَ - حينئذٍ - عن نظائرها , وأجرى عليها حكماً خاصَّاً بها؛ لأن مناط الحُكْم فيها غير متحقِّقٍ في نظائرها. ومن الأمثلة على ذلك: جواز قبول الشهادة بالسماع ممن يُوثَق بخبره في النَّسَب والموت والنكاح والدَّخول , وذلك للضرورة , بينما القياس يقتضي عدم جواز قبول شهادة الشاهد مالم يعاين المشهود به , ولكن لو لم تقبل الشهادة فيها بالسماع لأدَّى ذلك إلى الضيق والحرج الشديد في أحكامٍ تمسُّ أكثرَ الناس (¬2). ثانياً: من ضوابط تحقيق المناط الموازنة بين المصالح والمفاسد كما تقدم (¬3) , والاستحسان في أصله الأخذ بمصلحةٍ جزئيةٍ في مقابلة دليلٍ كلي. قال الشاطبي: "ومقتضاه -أي: الاستحسان- الرجوع إلى تقديم الاستدلال المُرْسَل على القياس، فإن من استحسَن لم يرجع إلى مجرَّد ذوقه وتشهيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك ¬

(¬1) ينظر: (365 - 367). (¬2) ينظر: الهداية للمرغيناني (3/ 120). (¬3) ينظر: (245 - 256).

الأشياء المفروضة، كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمراً، إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحةٍ من جهةٍ أخرى، أو جلب مفسدةِ كذلك .. " (¬1). لذا كان من اللازم على المجتهد في تحقيق مناطات الأحكام أن يراعي تحصيل أعلى المصالح ودرء أعظم المفاسد في كلِّ مسألةٍ على جهة الخصوص , وقد يستلزم ذلك الأخذ بمصلحةٍ جزئيةٍ في مقابل القياس. قال ابن رشد (¬2): " ومعنى الاستحسان في أكثر الأحوال هو الالتفات إلى المصلحة، والعدل" (¬3). ومن الأمثلة على ذلك: جواز الاطلاع على العورات في التداوي , مع وجوب التحرُّز قدر الإمكان , وذلك لمصلحة الحفاظ على النفس, ودرء مفسدةٍ أعظم , وهي تلف العضو أو فوات الروح , وهو أخذٌ بمصلحةٍ جزئيةٍ في مقابل أصلٍ كليٍّ يمنع من الاطلاع على العورات (¬4). قال السرخسي: " المرأة عورةٌ مستورة, ثم أبيح النظر إلى بعض المواضع منها للحاجة والضرورة ,فكان ذلك استحساناً؛ لكونه أرفق بالناس" (¬5). وقال ابن عبد السلام: " ستر العورات والسوآت واجب، وهو من أفضل المروآت، وأجمل العادات، ولا سيما في النساء الأجنبيات، لكنه يجوز للضرورات والحاجات" (¬6). وهذا الاستثناء من الأصل جارٍ على طريقة الشرع في الترخيصات التي يتحقق فيها تحصيل أعلى المصالح ودرء أشدِّ المفاسد. قال ابن عبدالسلام: " اعلم أن الله شرع لعباده السعي في تحصيل ¬

(¬1) الموافقات: (5/ 193). (¬2) هو: أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، الشهير بابن رشد الحفيد، تولى القضاء في قرطبة، وهو من أعيان المالكية، من مؤلفاته: فِصَل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال (ط)، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد (ط)، توفي سنة (595 هـ). ينظر في ترجمته: الديباج المذهب (284)، شجرة النور الزكية (146)، الأعلام للزركلي (5/ 318). (¬3) بداية المجتهد: (3/ 201) (¬4) ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم (4/ 31) , الموافقات (5/ 195) ,تكملة المجموع للنووي (15/ 17) , تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (4/ 17). (¬5) المبسوط: (10/ 145). (¬6) قواعد الأحكام: (2/ 286).

مصالح عاجلةٍ وآجلةٍ تجمع كلُّ قاعدةٍ منها عِلَّةً واحدة، ثم استثنى منها ما في ملابسته مشقةٌ شديدةٌ أو مفسدةٌ تُربي على تلك المصالح، وكذلك شرع لهم السعي في درء مفاسد في الدارين أو في أحدهما تجمع كلُّ قاعدةٍ منها عِلَّةً واحدة، ثم استثنى منها ما في اجتنابه مشقةٌ شديدةٌ أو مصلحةٌ تُربي على تلك المفاسد، وكلُّ ذلك رحمةٌ بعباده ونظر لهم ورفق، ويُعبَّر عن ذلك كلِّه بما خالف القياس، وذلك جارٍ في العبادات والمعاوضات وسائر التصرُّفات" (¬1). ويتأكد العمل بهذا التصرُّف الاجتهادي فيما إذا لم يوجد نصٌّ ظاهرٌ في المسألة , أو اعتمد النظر فيها على العلل المُستنْبَطة, فاطِّراد القياس في تلك الواقعات يُلْحِق الضرر والعنت بالمكلفين , ويوقع المشقة البالغة عليهم, والاستحسان المُعْتبَر شرعاً يستلزم العدول عن ذلك القياس؛ رفعاً للحرج , ودفعاً للمشقة. قال السرخسي في توجيه ترك القياس في مسألة تطهير الآبار التي تقع فيها النجاسة: " تركناه للضرورة المُحْوِجة إلى ذلك لعامَّة الناس, فإن الحرج مدفوعٌ بالنصّ ,وفي موضع الضرورة يتحقَّق معنى الحرج لو أُخِذ فيه بالقياس ,فكان متروكاً بالنصّ" (¬2). ثالثاً: من أظهر صور الاجتهاد في المناط الاجتهادُ في العلل القياسية , وذلك لإلحاق الفروع بالأصول في الأحكام, ومن أدقِّ أنواع الاستحسان ترك القياس الجلي , والأخذ بالقياس الخفي , وذلك لقوة العِلَّة وثبوتها فيه. وترجع حقيقته إلى الترجيح بين الأقيسة عند تَعَدُّدِ وجوه القياس وتعارضها في الواقعة الواحدة. وبهذا فإن الاستحسان في بعض أنواعه قياسٌ خفيٌّ وقع في مقابلة القياس الظاهر , وقد أُخِذ بالقياس الخفي لقوة أثره وصلاحيته (¬3). ¬

(¬1) قواعد الأحكام: (2/ 283). (¬2) أصول السرخسي: (2/ 203). (¬3) ينظر: أصول السرخسي (2/ 204) , كشف الأسرار (4/ 6) , التقرير والتحبير (3/ 223) , فواتح الرحموت (2/ 375).

ومثاله: حُكْم سؤر سباع الطير يتجاذبه قياسان , أحدهما جلي , والآخر خفي, فمقتضى القياس الجلي الحُكْم بنجاسته قياساً على سؤر البهائم , وسؤر البهائم نجسٌ لمخالطة لعابها الماء , ولعابها متولِّدٌ من اللحم فيأخذ حكمه في النجاسة , فيكون سؤرها نجساً, فيقاس عليه سؤر سباع الطير بجامع أن كلاً منهما لعابه نجس ,لأن كلاً منهما متولِّدٌ عن اللحم النجس. ومقتضى القياس الخفي الحُكْم بطهارته , لأنها تشرب بمنقارها على سبيل الأخذ ثم الابتلاع , والمنقار طاهر؛ لأنه جافٌّ ليس فيه رطوبةٌ فلايتنجس الماء بمخالطة اللُّعاب , فيكون سؤرها طاهراً قياساً على الآدمي , لعدم وجود العِلَّة الموجِبة للنجاسة ,وهي الرطوبة النَّجِسة في المنقار (¬1). وبهذا يترجح القياس الخفي على القياس الجلي , لقوة العِلَّة وثبوتها فيه. وتسميةُ أحد القياسين استحسانًا تمييزٌ له عن الآخر؛ لرجحانه عليه. قال السرخسي: " فسمّوا ذلك استحساناً للتمييز بين هذا النوع من الدليل وبين الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام قبل التأمل, على معنى أنه يمُال بالحُكْم عن ذلك الظاهر لكونه مُستحسَناً لقوة دليله ,وهو نظير عبارات أهل الصناعات في التمييز بين الطرق لمعرفة المراد, فإن أهل النحو يقولون: هذا نُصِبَ على التفسير، وهذا نُصِبَ على المصدر، وهذا نُصِبَ على الظرف، وهذا نُصِبَ على التعجُّب, وما وضعوا هذه العبارات إلا للتمييز بين الأدوات الناصبة, وأهل العَروض يقولون: هذا من البحر الطويل وهذا من البحر المتقارِب وهذا من البحر المديد, فكذلك استعمال علمائنا عبارة القياس والاستحسان للتمييز بين الدليلين المتعارضين , وتخصيص أحدهما بالاستحسان لكون العمل به مُستحسَناً، ولكونه مائلاً، عن سَنَنَ القياس الظاهر " (¬2). وحاصل الفرق بين القياس الظاهر والاستحسان: " أن الاستحسان أخصّ من القياس من وجه، وأعمّ منه من وجه, أما أنه أخصّ منه، فمن جهة رجحان مصلحته، وكونها أشد مناسبةً في النظر من مصلحة القياس, وأما أنه أعمّ ; فمن جهة ¬

(¬1) ينظر: المراجع السابقة. (¬2) أصول السرخسي: (2/ 200 - 201)

أن القياس تابعٌ للعِلَّة على الخصوص، والاستحسان تابعٌ للدليل على العموم" (¬1). رابعاً: من ضوابط تحقيق المناط اعتبار مآلات الأفعال في الأحكام كما تقدَّم (¬2) , والاستحسان يرجع إلى النظر في مآلات الأفعال. وقد صرَّح الشاطبي بأن قاعدة الاستحسان مبنيةٌ على أصل النظر في مآلات الأفعال , فقال: " ومما ينبني على هذا- أي: النظر في مآلات الأفعال- قاعدة الاستحسان" (¬3). فإذا كان موجِب الدليل في واقعةٍ ما يفضي إلى مآلٍ يتعارض مع مقصود الشارع من تحصيل أعظم المصالح ودرء أشدِّ المفاسد , فإن المجتهد يعدل -حينئذٍ- عن الأخذ بمقتضى ذلك الدليل , ويعمل بالدليل الأقوى ,وهو المصلحة المُعْتَبرة شرعاً. وذلك "لأنَّا لو بقينا مع أصل الدليل العام لأدَّى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة، فكان من الواجب رعي ذلك المآل إلى أقصاه" (¬4). وهذه المصلحة في الأصل تعود إلى اعتبار لوازم الأدلة وتحقيق مناطاتها كما قصد الشارع من وضعها. قال الشاطبي: " الاستحسان غير خارجٍ عن مقتضى الأدلة، إلا أنه نظرٌ إلى لوازم الأدلة ومآلاتها" (¬5). ومن الأمثلة التي توضح ذلك: تضمين الأجير المشترك , حتى لايلحق الضرر بأموال الناس , فالأصل أنه مؤتَمَن , والأمين لايضمن إلا بالتعدِّي , ولكن لما فسدت الذمم , وغلب على الأُجَرَاء الخيانة والتعدِّي , كان المُعتبَر استحساناً تضمينه, حتى لايدَّعي تلف الأشياء بحُجَّة أنه لايضمن , وهو اجتهادٌ متفِقٌ مع مقاصد الشرع في حفظ الأموال (¬6). ¬

(¬1) شرح مختصر الروضة للطوفي: (3/ 202) (¬2) ينظر: (236 - 240). (¬3) الموافقات: (5/ 193). (¬4) الموافقات: (5/ 195). (¬5) الموافقات (5/ 198 - 199). (¬6) ينظر: المجموع للنووي (15/ 96) ,المغني لابن قدامة (5/ 388 - 289) ,بدائع الصنائع (4/ 211) ,بداية المجتهد (4/ 17) , الموافقات (5/ 196).

المبحث الخامس علاقة الاجتهاد في المناط بالمصلحة المرسلة

المبحث الخامس علاقة الاجتهاد في المناط بالمصلحة المرسلة سأتناول في هذا المبحث بيان علاقة الاجتهاد في المناط بالمصلحة المرسلة, وذلك من خلال ثلاثة مطالب , وهي على النحو الآتي: المطلب الأول: تعريف المصلحة المرسلة لغةً, واصطلاحاً. المصلحة لغةً: مأخوذةٌ من الصلاح ,وهو ضدُّ الفساد (¬1). قال ابن فارس: "الصَّاد واللاَّم والحاء: أصلٌ واحدٌ يدلُّ على خلاف الفساد، يقال: صلَح الشيء يصلح صلوحاً .. " (¬2). والمصلحة: واحدة المصالح، والاستصلاح: نقيض الاستفساد، وأصلح الشيء بعد فساده: أقامه (¬3). والمصلحة اصطلاحاً: المحافظة على مقصود الشرع (¬4). ومقاصد الشرع خمسة, وهي: حفظ الدين, والنفس, والعقل, والنسل, والمال (¬5). ¬

(¬1) ينظر: الصحاح (1/ 383) , لسان العرب (2/ 517) ,تاج العروس (6/ 547 - 549). (¬2) ينظر: معجم مقاييس اللغة (3/ 303). (¬3) ينظر: الصحاح (1/ 383) , لسان العرب (2/ 517) , تاج العروس (6/ 547 - 549). (¬4) ينظر: المستصفى (2/ 482) ,البحر المحيط للزركشي (6/ 76) , إرشاد الفحول (2/ 990). (¬5) ينظر: المستصفى (2/ 482) ,المحصول (5/ 160) ,الإحكام للآمدي (3/ 343) ,شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 209) ,نهاية السول (4/ 82 - 83) , الإبهاج (3/ 55)، الموافقات (2/ 20) ,البحر المحيط للزركشي (5/ 209) ,تيسير التحرير (3/ 306) , شرح الكوكب المنير (4/ 159 - 160)

قال الغزالي: " فكلُّ ما يتضمَّن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكلُّ ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسدة, ودفعها مصلحة" (¬1). وتنقسم المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها إلى ثلاثة أقسام (¬2): 1 - مصلحة ضرورية ,وهي: التي لابدَّ منها في قيام مصالح الدِّين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تَجْرِ مصالح الدنيا على استقامةٍ بل على فسادٍ وتهارجٍ وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم وحصول الخسران, وهي مايتوقف عليه حفظ الدين أو النفس أو العقل أو النَّسْل أو المال. 2 - مصلحة حاجية , وهي: ما يُفتقَر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدِّي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب ,كرخص السفر والمرض، وإباحة الصيد, والتمتع بالطيبات مما هو حلالٌ في المأكل والمشرب والملبس والمسكن، وكالبيع, وضرب الدِّية على العاقلة, ونحو ذلك. 3 - مصلحة تحسينية, وهي: الأخذ بما يليق من محاسن العادات والتجنب للأحوال المدنِّسات التي تأنفها العقول الراجحات , ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق, كالطهارة, وستر العورة ,وأخذ الزينة, والتقرب بنوافل العبادات, وكآداب الأكل والشرب واللباس، وعدم الإسراف او التقتير في المآكل والمشارب والملابس، وكمنع قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد. والمصلحة المُرْسَلة هي: كل منفعةٍ ملائمةٍ لمقصود الشارع لم يشهد لها نصٌّ خاصٌّ بالاعتبار أو الإلغاء (¬3). ¬

(¬1) المستصفى: (2/ 482). (¬2) ينظر: المستصفى (2/ 482 - 485) , المحصول (5/ 160 - 161) , الإحكام للآمدي (3/ 343 - 345) , نهاية السول (4/ 83 - 85) , الموافقات (2/ 17 - 23) , البحر المحيط للزركشي (5/ 208 - 212) , تيسير التحرير (3/ 306 - 307) ,شرح الكوكب المنير (4/ 159 - 168). (¬3) ينظر: المستصفى (3/ 633) , المحصول (5/ 166) , الإحكام للآمدي (3/ 357) ,شرح تنقيح الفصول ... للقرافي (350 - 351) ,الاعتصام (612) , الموافقات (1/ 32) ,التقرير والتحبير (3/ 151).

والإرسال لغة هو: مجرَّد الإطلاق, يقال: أرسل الناقة إذا أطلقها (¬1). وقد سُمِّيت بالمصلحة المُرْسَلة لأنها مُطْلَقَةٌ لم يَرِدْ فيها دليلٌ خاصٌّ بالاعتبار أو الإلغاء، فهي مطلقةٌ من جهة الدليل الخاص لكنها مندرجةٌ تحت الدليل الكلي العام. ومن هذا التعريف يمكن أن نستخلص ثلاثة قيودٍ تميِّز المصلحة المُرْسَلة عن غيرها من المصالح وهي: الأول: أن لا يشهد لها نصٌّ خاصٌّ بالاعتبار, فيخرج بهذا القيد المصالح التي شهدت لها النصوص الخاصة بالاعتبار. الثاني: أن لا يشهد لها نصٌّ خاصٌّ بالإلغاء، وهذا القيد يدل على عدم معارضتها للنصوص الشرعيَّة الخاصة. الثالث: أن تكون ملائمةً لمقصود الشارع. والمراد بملاءمة مقصود الشارع: أن لا تنافي أصلاً من أصوله، ولا تعارِض نصَّاً أو دليلاً من أدلته، بل تكون مُتَفَقَةً مع المصالح التي قصد الشارع تحصيلها. قال الغزالي: " فكلُّ مصلحةٍ لا ترجع إلى حفظ مقصودٍ فُهِمَ من الكتاب والسُّنَّة والإجماع وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرُّفات الشرع فهي باطلةٌ مطَّرَحَة" (¬2). وما يلائم تصرُّفات الشارع" لا يخرج عن كونه شرعياً, وإن لم يرِد به نصٌّ معين ,إذ لا يلزم من عدم التنصيص عليه عدم شرعيته, ولو كان كلُّ حُكْمٍ يحتاج إلى نصٍّ معيَّنٍ للزم أن تضيق الشريعة, واللازم باطل؛ لأنها واسعة, فكذلك الملزوم" (¬3). والمصلحة المُرْسَلة بهذه القيود تُعتبَر طريقاً للحُكْم يستند إلى الدليل ¬

(¬1) ينظر: لسان العرب (11/ 285)، القاموس المحيط (1/ 1006). (¬2) المستصفى: (2/ 502 - 503). (¬3) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني: (331).

المطلب الثاني: حجية المصلحة المرسلة.

الكلي , وليست في ذاتها دليلاً مستقلاً في إثبات الأحكام, ولذلك يصح إدراجها ضمن الأدلة التبعية. المطلب الثاني: حُجِّية المصلحة المُرْسَلة. المصلحة المُرْسَلة دليلٌ مُعتَبرٌ وحُجَّةٌ تثبت بها الأحكام الشرعيَّة متى استوفت شروط العمل بها. وقد ذهب إلى ذلك: الإمام مالك (¬1). وعند التحقيق نجد أن الفقهاء جميعاً في مختلف المذاهب يعملون بها. قال الغزالي: " وإذا فسَّرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف في اتِّباعها، بل يجب القطع بكونها حُجَّة" (¬2). وقال القرافي: " وأما المصلحة المُرْسَلة فالمنقول أنها خاصَّةٌ بنا، وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا وفرَّقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهداً بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرَّقوا، بل يكتفون بمُطْلَق المُناسبَة، وهذا هو المصلحة المُرْسَلة، فهي حينئذٍ في جميع المذاهب" (¬3). وقال ابن دقيق العيد: " نعم، الذي لا شك فيه أن لمالِك ترجيحاً على غيره من الفقهاء في هذا النوع، ويليه أحمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيحٌ في الاستعمال على غيرهما " (¬4). والمصلحة بهذا الاعتبار لم يختلف أحدٌ باتخاذها أصلاً من أصول الشرع, ولكن اختلاف العلماء كان بالأسماء لا بالمُسمَّيات, بمعنى أنه اختلافٌ لفظي؛ لأن من أنكر الأخذ بالمصلحة المُرْسَلة لم يقصد هذا المعنى (¬5). ¬

(¬1) ينظر: شرح تنقيح الفصول (350 - 351) , الموافقات (3/ 285) ,الاعتصام (608) , نشر البنود (2/ 189). (¬2) المستصفى: (2/ 503). (¬3) شرح تنقيح الفصول: (306). (¬4) البحر المحيط: (6/ 77). (¬5) ينظر: عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني: (331).

واستدلوا على ذلك بأدلة منها: أولاً: عمل الصحابة رضي الله عنهم بالمصلحة المرسلة حتى حُكِيَ في ذلك إجماعهم , حيث إن الصحابة رضوان الله عليهم عملوا أموراً لمُطْلَق المصلحة لا لتقدم شاهدٍ بالاعتبار، نحو: كتابة المصحف ولم يتقدم فيه أمرٌ ولا نظير، وولاية العهد من أبي بكر لعمر رضي الله عنهما ولم يتقدم فيها أمرٌ ولا نظير، وكذلك ترك الخلافة شورى, وتدوين الدواوين , وعمل السّكة للمسلمين ,واتخاذ السجن , وهدّ الأوقاف التي بإزاء مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- والتوسعة بها في المسجد عند ضيقه، وذلك كثيرٌ جداً, وإنما عملوا ذلك لمُطْلَق المصلحة لا لتقدم شاهدٍ معينٍ بالاعتبار (¬1). ثانياً: أنه ثبت بالاستقراء أن هذه الشريعة مبنيَّةٌ على المصالح للخلق في الدنيا والآخرة، وبناء الأحكام على المصالح المُرْسَلة فيه تحقيقٌ لمصالح الخلق فتكون حُجَّةً. قال العز بن عبدالسلام: " التكاليف كلها راجعةٌ إلى مصالح العباد في دنياهم وأخراهم" (¬2). وقال الفخر الرازي: " لما تأملنا الشرائع وجدنا الأحكام والمصالح متقارنين لا ينفك أحدهما عن الآخر، وذلك معلومٌ بعد استقرار أوضاع الشرائع " (¬3). والقائلون باعتبار المصلحة المرسلة دليلاً تثبت به الأحكام الشرعيَّة لم يقولوا بذلك على إطلاقه , بل قيدوا ذلك بشروطٍ تضع هذا الدليل في موضعه الصحيح , وتحفظ أحكام الشرع من اتباع الأهواء. وشروط العمل بالمصلحة المرسلة هي: ¬

(¬1) ينظر: شرح تنقيح الفصول (351) , شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 213) ,الاعتصام (612 - 616) , ... الموافقات (3/ 41) ,نشر البنود (2/ 189 - 192). (¬2) قواعد الأحكام: (2/ 126). (¬3) المحصول: (5/ 179).

1 - أن تكون المصلحة ملائمةً لتصرفات الشارع، وذلك بأن يكون لها جنسٌ اعتبره الشارع في الجملة بغير دليلٍ خاص، فكل مصلحةٍ لا تلائم تصرفات الشارع فهي باطلةٌ مطرحة (¬1). 2 - أن لا تصادم المصلحة نصَّاً خاصَّاً من كتابٍ أو سُنَّة، أو تصادِم الإجماع. قال الغزالي: "وكلُّ ذلك حُجَّةٌ بشرط أن لايكون غريباً بعيداً, وبشرط أن لا يصدم نصَّاً ,ولا يتعرَّض له بالتغيير" (¬2). 3 - أن تكون معقولة المعنى في ذاتها. قال الطوفي: "وإنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات دون العبادات وشبهها؛ فإن العبادات حقّ الشارع وخاصُّ به، ولا يمكن معرفة حقِّه كمَّا وكيفاً وزماناً ومكاناً إلا من جهته، فيأتي به العبد على ما رُسِمَ له، ولهذا لما تقيد الفلاسفة بعقولهم ورفضوا الشرائع اسخطوا الله عليهم وضلوا وأضلوا، وهذا بخلاف حقوق المكلَّفين، فإن أحكامها سياسيةٌ شرعيةٌ وُضِعَت لمصالحهم، وكانت هي العبرة، وعلى تحقيقها المعمول" (¬3). وقال الشاطبي: " وأيضاً؛ فالمصالح المرسلة -عند القائل بها- لا تدخل في التعبدات ألبتة، وإنما هي راجعةٌ إلى حفظ أصل المِلَّة، وحياطة أهلها في تصرفاتهم العادية" (¬4). 4 - أن لا تعارض مصلحةً أرجحَ منها، أو يترتَّب على العمل بها مفسدةٌ أرجحُ منها، أو مساويةٌ لها (¬5). وبتحقُّق هذه الشروط ينضبط القول بالمصلحة المرسلة، ويتحقَّق مقصود الشرع باعتبارها, دون إفراطٍ يفضي إلى تغيير الأحكام، أو تفريطٍ يفضي إلى التضييق والحرج في أحكام الشرع. ¬

(¬1) ينظر: المستصفى (2/ 502 - 503). (¬2) شفاء الغليل: (210 - 211). (¬3) رسالة الطوفي في المصلحة: (143). (¬4) الموافقات: (3/ 285). (¬5) ينظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 214 - 217) ,نشر البنود (2/ 191 - 192).

المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بالمصلحة المرسلة.

المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بالمصلحة المرسلة. يُعْتَبر دليل المصلحة المرسلة من أوثق الأدلة الشرعيَّة صلةً بالاجتهاد في المناط , وتظهر العلاقة الوثيقة بينهما في جوانب عديدة , من أهمها ما يأتي: أولاً: تقدَّم أن المناط اصطلاحاً يعني: العِلَّة، وهي: ما أناطَ الشارعُ الحُكْم به وأضافه إليه (¬1). والمجتهد قد يجد عند بحثه عن العِلَّة في حُكْم الأصل وصفاً ظاهراً منضبطاً يمكن تعديته إلى الفرع، فلايعدل حينئذٍ عن إجراء القياس. وقد لايجد إلا معنىً مناسباً يلائم تصرُّفات الشارع في تحقيق المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، فيفزع حينئذٍ للاستنجاد به، وبناء الأحكام عليه في النوازل والمستجدات. وذلك لأن المجتهد عندما يبحث في حُكْم النازلة فإنه إما أن يجد لها نظيراً في الكتاب أو السُّنَّة فيقيس ما لم يَرِدَ حكمه على ما ورد حكمه بجامعٍ مشترك. وإما أنه لا يجد لتلك النازلة نظيراً بعينه في الكتاب أو السُّنَّة يقيس عليه، فيلجأ إلى النظر في المعاني الكليَّة التي جرت عليها تصرُّفات الشارع، فيحكم بها على تلك النازلة. وهذا الاجتهاد يشمل المعاني الجزئية والكليَّة التي أناط الشارع الأحكام عليها وجوداً وعدماً. قال الشافعي: " "كلُّ حُكْمٍ لله أو لرسوله وجدت عليه دلالةٌ فيه أو في غيره من أحكام الله أو رسوله بأنه حُكِمَ به لمعنىً من المعاني، فنزلت نازلةٌ ليس فيها نصُّ حُكْمٍ - حُكِمَ فيها حُكْمُ النازلة المحكوم فيها، إذا كانت في معناها" (¬2). ¬

(¬1) ينظر: (31 - 33). (¬2) الرسالة: (512).

والفرق بين الصورتين أن المعاني في القياس ترجع إلى أصلٍ معين، بينما المعاني في المصالح المُرْسَلة لاترجع إلى أصلٍ معين، وإنما ترجع إلى أصولٍ كليَّة. قال الغزالي: " كلُّ مصلحةٍ رجعت إلى حفظ مقصودٍ شرعيٍّ عُلِمَ كونه مقصوداً بالكتاب والسُنَّة والإجماع فليس خارجاً من هذه الأصول، لكنه لا يُسمَّى قياساً بل مصلحة مُرْسَلة، إذ القياس أصلٌ معيَّن، وكون هذه المعاني مقصودةً عُرِفَت لا بدليلٍ واحد، بل بأدلةٍ كثيرةٍ لا حصر لها من الكتاب والسُّنَّة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات، تُسمَّى لذلك مصلحةً مُرْسَلة" (¬1). وقد تقدَّم أن العِلَّة هي: الوصف الظاهر المنضبط المُعَرِّف للحكم بوضع الشارع (¬2)، فمثلًا: أوجب الشارع قطع يد السارق، وإذا بحثنا عن عِلَّة هذا الحُكْم نجد أنها: السرقة، والسرقة من الأوصاف الظاهرة التي لا تخفى على أحد، كما أنها منضبطةٌ لا تختلف من شخصٍ لآخر أو من مكانٍ لآخر. أما الحكمة فهي: المصلحة التي قصد الشارع من تشريع الحُكْم تحقيقها أو تكميلها, أو المفسدة التي قصد الشارع بتشريع الحُكْم دفعها أو تقليلها، فإذا كانت العِلَّة في قطع يد السارق هي: السرقة، فإن الحكمة من تشريع هذا الحدِّ: حفظ أموال الناس وحمايتها وصيانتها. وبهذا يتبين أن حِكْمَة الحُكْم: هي الباعث على تشريعه, أما عِلَّة الحُكْم فهي الأمر الظاهر المنضبط الذي بنى الشارع الحُكْم عليه، وربطه به وجودًا وعدمًا; لأن من شأن إناطة الحُكْم به تحقُّق حِكْمَة تشريع الحُكْم منه. ومن أنواع التعليل المُعتبَرة: "التعليل بالحِكْمَة الظاهرة المنضبطة" (¬3). ¬

(¬1) المستصفى: (2/ 502 - 503). (¬2) ينظر: (36). (¬3) اختلف الأصوليون في جواز تعليل الحكم بالحِكْمَة المقصودة من تشريع الحكم، على أقوال: القول الأول: لا يجوز التعليل بالحكمة مطلقاً، سواءٌ كانت منضبطةً أو غير منضبطة، ظاهرةً أو خفية، وهو قول اكثر الأصوليين. القول الثاني: الجواز مطلقاً , وهو اختيار الرازي والبيضاوي. القول الثالث: التفصيل، فيجوز التعليل بالحكمة الظاهرة المنضبطة، ولا يجوز التعليل بها إن كانت مضطربةً أو خفية , وهو اختيار الآمدي, وصفي الدين الهندي. ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 254 - 255) ,شرح تنقيح الفصول (306) ,نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (8/ 3494 - 3495) ,الإبهاج (3/ 140) , نهاية السول (4/ 260 - 262) ,شرح المحلي على جمع الجوامع مع حاشية البناني (2/ 238) ,البحر المحيط (5/ 133) ,تيسير التحرير (4/ 88) ,شرح الكوكب المنير (4/ 47 - 48) ,إرشاد الفحول (2/ 872).

وذلك لأن الحُكْم إذا اقترن بوصفٍ ظاهرٍ منضبطٍ مشتمِلٍ على حِكْمَةٍ غير منضبطةٍ بنفسها فإنه يصح التعليل به، وإن لم يكن هو المقصود من شرع الحكم، بل ما اشتمل عليه من الحِكْمَة الخفية، فإذا كانت الحِكْمَة وهي المقصود من شرع الحُكْم مساويةً للوصف في الظهور والانضباط كانت أولى بالتعليل بها (¬1). ومن صور التعليل بالحِكْمَة التعليل بالأوصاف الملائمة لتصرُّفات الشارع التي لم يشهد لها دليلٌ خاصٌّ بالاعتبار أو الإلغاء, وهو ما يُطْلَق عليه مُسمَّى: ... " المصلحة المُرْسَلة" كما تقدَّم " (¬2). وقد بنى الصحابة رضوان الله عليهم كثيراً من تصرُّفاتهم الاجتهادية على التعليل بالمصلحة المرسلة، مثل: ضرب النقود، ووضع الخراج على الأراضي الزراعية، وإنشاء الدواوين، واتخاذ السجون، وغير هذا من المصالح التي وضعوا الأحكام بناءًعليها (¬3). ثانياً: قد يتفق المجتهدون على أصل المصلحة المقصودة شرعاً، ولكنَّهم يختلفون في تحقيق مناطها في بعض الصور والجزئيات، فقد يرى بعضهم أن المصلحة متحقِّقةٌ في صورةٍ معيَّنةٍ، ويرى آخرون أنها غير متحقِّقةٍ، أو يعارضها ماهو أرجحُ منها. فالمقدِّمة الأولى وهي اعتبار المصلحة الكليَّة المقصودة شرعاً وقعت ¬

(¬1) ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 255). (¬2) ينظر: (152 - 153). (¬3) ينظر: شرح تنقيح الفصول (351) , شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 213) ,الاعتصام (612 - 616) , الموافقات (3/ 41) ,نشر البنود (2/ 189 - 192).

مُسَلَّمَة، ولكن وقع الاختلاف في الحُكْم بثبوتها في صورةٍ معيَّنةٍ، مابين مُثْبِتٍ لوجود تلك المصلحة في تلك الصورة بعينها، وبين نافٍ لوجودها فيها، وهي المقدِّمة الثانية. وبهذا يكون محلُّ النظر والتأمل والاجتهاد هو المقدمة الثانية. قال الشاطبي: "والذي يقال فيه أن خاصية المقدِّمة النقلية أن تكون مُسَلَّمَةً إذا تحقَّق أنها نقلية؛ فلا تفتقر إلى نظرٍ وتأملٍ إلا من جهة تصحيحها نقلاً، ونظير هذا في العقليات المقدَّمات المُسَلَّمَة، وهي الضروريات وما تنزَّل منزلتها مما يقع مُسَلَّمَاً عند الخصم؛ فهذه خاصيَّة إحدى المقدِّمتين، وهي أن تكون مُسَلَّمَة" (¬1). وقد تقدَّم أن الشريعة لم تنصُّ على حُكْم كلِّ جزئيةٍ على حِدَتِها، وإنما أتت بأمورٍ كليَّةٍ وعبارات مُطْلَقَةٍ تتناول أعداداً لا تنحصر (¬2). وقد شملت هذه الكليَّات مصالح الخلق في العاجل والآجل , ولم يتبق إلا الاجتهاد في تحقيق مناطاتها في الفروع والجزئيات الحادثة. وإذا حصل خلافٌ ممن هو أهلٌ للاجتهاد في تحقيق مناطات تلك المصالح الكليَّة في بعض الصور والجزئيات فلاحرج حينئذٍ" لأن الأمر في ذلك راجعٌ إلى أمرٍ ظنِّيِّ مُجْتَهَدٍ فيه" (¬3). والعبرة في تحقيق مناطات المصالح الكليَّة تحقُّق الظنِّ الراجح الذي لا يعارضه ما هو أقوى منه. قال ابن عبد السلام: " لمَّا كان الغالب صدق الظنون بُنيَت عليها مصالح الدنيا والآخرة ; لأن كذبها نادر، ولا يجوز تعطيل مصالح صدَّقها الغالب خوفاً من وقوع مفاسد كذَّبها النادر، ولا شك أن مصالح الدنيا والآخرة مبنيَّةٌ على الظنون " (¬4). ¬

(¬1) ينظر: الموافقات: (3/ 233 - 234). (¬2) ينظر: (215). (¬3) الموافقات: (5/ 409). (¬4) قواعد الأحكام: (2/ 27).

وأكثر المصالح والمفاسد إنما تُعْرَف بالتقريب لا بالتحديد. قال ابن عبدالسلام: " أكثر المصالح والمفاسد لا وقوف على مقاديرها وتحديدها، وإنما تُعرف تقريباً؛ لعزة الوقوف على تحديدها" (¬1). ولا يشترط فيها القطع " إذ لو شُرِط فيها العلم لفات معظم المصالح الدنيوية والأخروية" (¬2). ولذلك يقع الخلاف كثيراً بين المجتهدين في تحقيق مناطات المصالح والمفاسد , ولاسيما التي لم يرد بشأنها دليلٌ خاصٌّ بالاعتبار أو بالإلغاء, وهي المصالح المُرْسَلة. ثالثاً: الأحكام الشرعيَّة مطَّرَدةٌ لا تختلف ولا تتغيَّر , وإنما الذي يتغيَّر هو محل ذلك الحُكْم الذي يتحقَّق فيه المناط أو يتخلَّف عنه، إما لفقدان شرطٍ أو لوجود مانع. و" حُكْم الله ورسوله لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان وتطوّر الأحوال وتجدّد الحوادث، فإنه ما من قضيةٍ كائنةً ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم نصَّاً أو ظاهراً أو استنباطاً، أو غير ذلك، عَلِم ذلك من عَلِمَه وجَهِله من جَهِله , وليس معنى ما ذكره العلماء من تَغَيُّر الفتوى بتغيُّر الأحوال ما ظنَّه مَن قَلّ نصيبهم - أو عُدِم - مِن معرفة مدارك الأحكام وعللها، حيث ظنَّوا أن معنى ذلك بحسب ما يلائم إرادتهم الشهوانية البهيمية وأغراضهم الدنيوية وتصوراتهم الخاطئة الوَبِيّة، ولهذا تجدهم يُحَامُون عليها، ويجعلون النصوص تابعةً لها منقادةً إليها مهما أمكنهم، فيُحَرّفون لذلك الكَلِم عن مواضعه، وحينئذٍ مَعنى تَغَيُّر الفتوى بتغيُّر الأحوال والأزمان مُراد العلماء منه ما كان مُسْتَصْحَبةً فيه الأصول الشرعيَّة والعِلل المرعية، والمصالح التي جِنسها مُراد لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم" (¬3). ¬

(¬1) القواعد الصغرى: (100). (¬2) قواعد الأحكام: (1/ 206). (¬3) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم: (12/ 288).

فأحكام الشرع ثابتةٌ لا تتغيَّر , وستظلُّ كذلك إلى قيام الساعة, ولا يجوز اعتقاد غير ذلك. ولذلك" لا تجد فيها بعد كمالِها نسخاً، ولا تخصيصاً لعمومها، ولا تقييداً لإطلاقها، ولا رفعاً لحُكْمٍ من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمانٍ دون زمان، ولا حالٍ دون حال، بل ما أُثْبِت سبباً فهو سببٌ أبداً لا يرتفع، وما كان شرطاً فهو أبداً شرط، وما كان واجباً فهو واجبٌ أبداً، أو مندوباً فمندوب، وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبُّدل، ولو فُرِض بقاء التكليف إلى غير نهايةٍ لكانت أحكامها كذلك " (¬1). والذي يتغيَّر هو محلُّ الحُكْم , فإنه قد يطرأ عليه من الأحوال والحيثيات ما يجعله مختلِفاً عن محلٍّ آخر، فيقتضي تحقيق مناطٍ مختلِفٍ عن غيره. فقد يطرأ على محلٍّ من الأحوال والحيثيات ما يتحقَّق معه مناط المصلحة المقصودة شرعاً , وقد يطرأ عليه من الأحوال والحيثيات ما يتخلَّف عنه مناط المصلحة المقصودة شرعاً. وعلى هذا فإن المصالح المُرْسَلة قد تختلف بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال, فما يكون مصلحةً في حالٍ لا يلزم أن يكون كذلك في حالٍ آخر , وعلى المجتهد أن يراعي ذلك في تحقيق مناط المصلحة على آحاد الوقائع والجزئيات المتجدِّدة , ولاسيما التي لم يَرِدْ بشأنها دليلٌّ خاصٌّ بالاعتبار أو الإلغاء. ومن الأمثلة على ذلك: أن الله أمر المسلمين بإعداد القوة التي ترهب عدوهم، وتقوى بها شوكة المسلمين. قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]. وصور القوة التي تتحقَّق بها مصلحة إرهاب العدو تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال. ¬

(¬1) الموافقات: (1/ 109 - 110).

فقد كانت أكمل صور القوة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم تكمن في الرمي بالسهام كما قال عليه الصلاة والسلام: " ألاَ إنَّ القوَّةَ الرَّميُ، ألاَ إنَّ القوَّةَ الرَّميُ" (¬1). أما في هذا الزمن فإن أكمل صور القوة التي تتحقق بها مصلحة إرهاب العدو تتمثل في: امتلاك الصواريخ، والطائرات الحربية، والمدفعيات، والدبَّابات، والقنابل، ونحو ذلك (¬2). وذلك لأن مناط الحُكْم هو إرهاب العدو , والصور التي يتحقَّق فيه هذا المناط تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال (¬3). قال ابن السعدي: "ولهذا قال تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 6] وهذه العِلَّة موجودةٌ فيها في ذلك الزمان، وهي إرهاب الأعداء، والحُكْم يدور مع عِلَّته ,فإذا كان شيءٌ موجودٌ أكثرَ إرهاباً منها، كالسيارات البرِّية والهوائية، المُعَدَّة للقتال التي تكون النكاية فيها أشدّ، كانت مأموراً بالاستعداد بها، والسعي لتحصيلها، حتى إنها إذا لم توجد إلا بتعلُّم الصناعة، وجب ذلك، لأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب" (¬4). وبناءً على ذلك" فالواجب على المسلمين في هذا العصر بنصِّ القرآن صُنْعُ المدافع بأنواعها، والبنادق، والدبابات، والطيارات، والمناطيد، وإنشاء السفن الحربية بأنواعها، ومنها الغَّواصات التي تغوص في البحر، ويجب عليهم تعلُّم الفنون والصناعات التي يتوقَّف عليها صنع هذه الأشياء، وغيرها من قوى الحرب" (¬5). ¬

(¬1) رواه مسلم في "صحيحه", كتاب الإمارة, باب فضل الرمي والحث عليه، وذم من علمه ثم نسيه, رقم (1917) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. (¬2) ينظر: التحرير والتنوير (10/ 55). (¬3) ينظر: تفسير المنار (10/ 53). (¬4) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 324). (¬5) تفسير المنار: (10/ 53 - 54).

المبحث السادس علاقة الاجتهاد في المناط بسد الذرائع

المبحث السادس علاقة الاجتهاد في المناط بسدِّ الذرائع سأتناول في هذا المبحث بيان علاقة الاجتهاد في المناط بسدِّ الذرائع, وذلك من خلال ثلاثة مطالب , وهي على النحو الآتي: المطلب الأول: تعريف سدِّ الذرائع لغةً واصطلاحاً. السدُّ لغةً: المنع والإغلاق (¬1). والذرائع لغةً: جمع ذريعة، والذريعة هي: الوسيلة , والسبب الموصل إلى الشيء (¬2). والذريعة اصطلاحاً-أي: التي تُسدُّ- هي: "الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلةٌ إلى فعل المحرَّم" (¬3). وبهذا يكون سدُّ الذرائع في اصطلاح الأصوليين يعني: منع الوسائل المباحة في ظاهرها المفضية غالباً إلى مفاسد راجحة (¬4). قال ابن عاشور: "هذا المركَّب لقبٌ في اصطلاح الفقهاء لإبطال ¬

(¬1) ينظر: لسان العرب (3/ 207) , المصباح المنير (2/ 270) "مادة: س د د". (¬2) ينظر: الصحاح (3/ 1211) , لسان العرب (8/ 96) ,تاج العروس (21/ 12) "مادة: س د د". (¬3) بيان الدليل على بطلان التحليل لابن تيمية: (254). (¬4) ينظر: أنوار البروق في أنواء الفروق للقرافي (2/ 32) , إعلام الموقعين لابن القيم (4/ 554) , الموافقات للشاطبي (5/ 183).

الأعمال التي تؤول إلى فسادٍ مُعتبَر , وهي في ذاتها لامفسدةَ فيها" (¬1). ومن هذا التعريف يمكن أن نستخلص ثلاثة قيودٍ ينضبط بها معنى سدِّ الذرائع عند الأصوليين , وهي: الأول: أن الوسيلة المتوسَّل بها في أصلها مباحة؛ لأن الوسائل المحُرْمَة في ذاتها إنما حُرِّمت لكونها في نفسها فساداً فلايخالف في ذلك أحد , وليست هذه الصورة مما نحن فيه (¬2). والثاني: أن الأمر المتوسَّل إليه لابدَّ أن يكون محظوراً في الشرع؛ لأنه لو لم يكن كذلك لما حصل منع الوسيلة المفضية إليه. والثالث: أن الوسيلة لابدَّ أن تفضي غالباً إلى مفسدةٍ راجحة؛ لأن العبرة بغالب الظنّ , وغالب الظنِّ يجري مجرى العلم في الأحكام (¬3). فإذا كانت الوسيلة تفضي نادراً إلى مفسدةٍ فإنها لاتُمْنَع؛ لأن النادر لاحُكْم له (¬4). قال الشاطبي: " ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادراً فهو على أصله من الإذن؛ لأن المصلحة إذا كانت غالبةً فلا اعتبار بالندور في انخرامها، إذ لا توجد في العادة مصلحةٌ عريَّةٌ عن المفسدة جملة, إلا أن الشارع إنما اعتبر في مجاري الشرع غلبة المصلحة، ولم يُعْتَبر ندور المفسدة إجراءً للشرعيات مجرى العاديات في الوجود" (¬5). وكذلك إذا كانت الوسيلة تفضي إلى مفسدةٍ مرجوحةٍ فإنها تُمنَع؛ لأن المصالح الراجحة مقدَّمةٌ على المفاسد المرجوحة (¬6). ¬

(¬1) مقاصد الشريعة لابن عاشور: (365) (¬2) ينظر: بيان الدليل على بطلان التحليل لابن تيمية (254). (¬3) ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/ 257) , إعلام الموقعين لابن القيم (4/ 554) , قواعد الأحكام (1/ 138). (¬4) ينظر: قواعد الأحكام لابن عبد السلام (1/ 138) , إعلام الموقعين (5/ 76). (¬5) الموافقات: (3/ 74). (¬6) ينظر: الفروق للقرافي (2/ 33) , بيان الدليل على بطلان التحليل لابن تيمية (254) ,إعلام الموقعين لابن القيم (4/ 554 - 555) ,إغاثة اللهفان (1/ 370).

المطلب الثاني: حجية سد الذرائع.

ويستوي الحُكْم في ذلك سواءً قصد المكلَّفُ التوسَّلَ بالمباح إلى المنهي عنه أم لم يقصد، مع إن القصد إلى ذلك أشنع. قال ابن القيم: " والشارع حرَّم الذرائع، وإن لم يُقصَد بها المحرَّم؛ لإفضائها إليه, فكيف إذا قصد بها المحرَّم نفسَه؟ " (¬1). المطلب الثاني: حُجِّية سد الذرائع. قاعدة سدِّ الذرائع حُجَّةٌ مُعْتَبَرةٌ في الأحكام الشرعيَّة , وأصلٌ جرى التصرُّف به في الكتاب والسُنَّة وعَمِل به الصحابة. وقد ذهب إلى ذلك: المالكية (¬2)، والحنابلة (¬3). وأصل سدِّ الذرائع معتبرٌ من حيث العمل به عند المذاهب الأربعة كافة, وإن حُكيَ الخلاف فيه (¬4). قال الشاطبي: "إنَّ سدَّ الذَّرائع أصلٌ شرعيٌّ قطعيٌّ متفقٌ عليه في الجملة، وإن اختلف العلماء في تفاصيله, وقد عمل به السَّلف بناءً على ما تكرَّر من التَّواتر المعنويّ في نوازل متعدِّدة دلّت على عموماتٍ معنويّة، وإنْ كانت النَّوازل خاصّةً ولكنها كثيرة" (¬5). ونفى القرافي أن يكون أصلاً خاصاً بمذهب مالك فقال: " فليس سدُّ الذرائع خاصّاً بمالك - رحمه الله - بل قال بها هو أكثر من غيره, وأصل سدِّها مجمعٌ عليه" (¬6). ¬

(¬1) إغاثة اللهفان: (1/ 361). (¬2) ينظر: الإشارة في معرفة الأصول للباجي (314) , شرح تنقيح الفصول للقرافي (353) , الموافقات (5/ 188) , نشر البنود (2/ 265). (¬3) ينظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 214) ,إعلام الموقعين (4/ 353) , شرح الكوكب المنير (4/ 434) (¬4) ينظر: الموافقات (4/ 68) و (5/ 185) , شرح تنقيح الفصول للقرافي (353) ,شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 214) ,البحر المحيط للزركشي (6/ 82 - 83). (¬5) الموافقات: (2/ 45). (¬6) الفروق: (2/ 33).

ونقل الزركشي عن القرطبي قوله: " وسدُّ الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه , وخالفه أكثر الناس تأصيلاً، وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلاً" (¬1). ومن أهم الأدلة على اعتبار قاعدة سدِّ الذرائع في الأحكام مايأتي: أولاً: جاء الشرع بتحريم وسائل لاشكَّ في إباحتها لو تجرَّدت عما أفضت إليه, وقد تتجرَّد فترجع إلى أصل الإباحة, وانما حرَّمها الشارع، لعِلَّة إفضائها إلى مُحَرَّم , ومن ذلك: - قوله تعالى {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. فالله - عز وجل - حرّم سبَّ آلهة الكفار مع أنه عبادة، وعلَّل هذا المنع بكونه ذريعةً إلى سبِّهم له -جلَّ وعلا- فمصلحة تركهم سبّ الله - سبحانه - راجحةٌ على مصلحة سبِّنا لآلهتهم (¬2). - تركُه صلى الله عليه وسلم قتلَ المنافقين، مع أنَّ في قتلهم مصلحةً كبيرة، وذلك لئلا يكون ذريعةً إلى قول الناس: "إنَّ محمداً يقتل أصحابه" (¬3) وهذا القول يوجب النفور عن الإسلام , ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل (¬4). - قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "لولا قومك حديثو عهدٍ بكفرٍ لنقضتُ الكعبةَ فجعلت لها بابين، بابٌ يدخل منه الناس، وبابٌ يخرجون" (¬5). فكان تركُه صلى الله عليه وسلم لذلك سدَّاً للذريعة؛ حتى لايوجب استنكار الناس، وربما أدّى ذلك إلى ارتداد بعض مَن دخل في الإسلام حديثاً. ¬

(¬1) البحر المحيط: (6/ 82). (¬2) ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 265) , الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (7/ 61) , بيان الدليل على بطلان التحليل لابن تيمية (256) ,إعلام الموقعين (5/ 5). (¬3) سبق تخريجه: ( ... 238). (¬4) ينظر: شرح صحيح مسلم للنووي (7/ 159) ,بيان الدليل على بطلان التحليل لابن تيمية (257)، إعلام الموقعين (5/ 7). (¬5) سبق تخريجه: (238).

قال النووي: "إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحةٌ ومفسدةٌ, وتعذَّر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بُدِئ بالأهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن نقض الكعبة وردَّها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم مصلحة, ولكن تُعارِضُه مفسدةٌ أعظم منه, وهي خوف فتنةِ بعضِ مَنْ أسْلَمَ قريباً؛ وذلك لِما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيماً , فتركها صلى الله عليه وسلم" (¬1). وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: "باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يَقْصُرَ فَهْمُ بعض الناس عنه، فيقعوا في أشدّ منه" (¬2). ثانياً: أنَّ الله - عز وجل- توعَّد بالعقاب من يحتال إلى الممنوع بفعلٍ جائز, فدلَّ ذلك على تحريم الفعل الجائز إذا كان يُتوسَّل به إلى ممنوع، وهذا هو عين سدِّ الذرائع (¬3). ومن ذلك: أن الله - جل وعلا- ذمَّ أصحاب السبت؛ لأنهم احتالوا على ما حرَّمه عليهم من صيد الحيتان يوم السبت، وابتلاهم الله - عز وجل - بأن جعل الحيتان تأتيهم يوم السبت شُرَّعاً، ولا تكون على هذه الحالة باقي الأيام، فاحتالوا على ذلك؛ بأن حفروا لها حفراً في البحر تحجزها ليسهل عليهم صيدها في باقي الأيام (¬4). قال تَعَالَى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)} [الأعراف: 163]. ¬

(¬1) شرح صحيح مسلم: (9/ 89). (¬2) صحيح البخاري: كتاب العلم , باب رقم (48) , حديث رقم (126). (¬3) ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 331) , الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (7/ 307)، إعلام الموقعين ... (5/ 62 - 63). (¬4) ينظر: جامع البيان للطبري (10/ 509 - 510) , تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 493).

المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بسد الذرائع.

المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بسدِّ الذرائع. يُعْتَبر دليل سدِّ الذرائع من أوثق الأدلة الشرعيَّة صِلةً بالاجتهاد في المناط , وتظهر العلاقة الوثيقة بينهما في جوانب عديدة , من أهمها مايأتي: أولاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط اعتبار مآلات الأفعال والأقوال الصادرة عن المكلفين (¬1). وقاعدة سدَّ الذرائع راجعةٌ في الأصل إلى اعتبار المآل. فالأصل في سدّ الذَّرائع هو النَّظر إلى مآلات الأفعال، فيأخذُ الفعلُ حكماً يتفق مع ما يؤول إليه، سواءٌ أكان يقصد ذلك الذي آل إليه الفعل أو لا يقصده، فإذا كان الفعل يؤدي إلى مقصدٍ مطلوبٍ شرعاً فهو مُعْتَبَر، وإنْ كان يؤدي إلى خلافه فهو غير مُعْتَبَر. وقد بنى الشاطبي قاعدة سدّ الذَّرائع على قصد الشَّارع إلى النَّظر في مآلات الأفعال سواءٌ أكانت موافقةً أو مخالِفة؛ لأنَّ المجتهد لا يحكم على فعلٍ من الأفعال الصَّادرة عن المكلّفين بالإقدام أو الإحجام إلاَّ بعد النَّظر إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل (¬2). والفعل قد شُرِع إما لاستجلاب مصلحةٍ أو لدرء مفسدة , ثم قد يكون له مآلٌ على خلاف ماقُصِد منه, فإذا أُطلق القول فيه بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدةٍ تساوي تلك المصلحة أو تزيد عليها (¬3). والوسائل المشروعة في أصلها قد يترتَّب عليها في بعض الأحوال حصولُ مفسدةٍ إما قطعيةٌ أو راجحة , فإذا كانت كذلك مَنَعَ المجتهدُ المكلَّفَ حينئذٍ من مباشرتها قولاً كانت أو فعلاً , وسواءً قصد المكلَّفُ تلك المفسدة أو ¬

(¬1) ينظر: (236 - 240). (¬2) ينظر: الموافقات: (5/ 182). (¬3) ينظر: الموافقات (5/ 177 - 178).

لم يقصدها , وذلك عملاً بقاعدة سدِّ الذرائع في الأحكام , وهي في الأصل نظرٌ في مآلات تلك الوسائل. ومن الأمثلة على ذلك: مَنْعُ عمر رضي الله عنه بعضَ الصحابة من الزواج بالكتابيات مع إباحة الشرع لذلك بصريح الكتاب ,وهو قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]. وذلك " حذراً من أن يقتدي بهم الناس في ذلك، فيزهدوا في المسلمات " (¬1). فكان هذا التصرُّف الاجتهادي من عمر رضي الله عنه عملاً بقاعدة سدِّ الذرائع , حيث نظر إلى ماسيؤول إليه الفعل من مفسدةٍ راجحةٍ لو بقي الأمر على ظاهر الإباحة , فكان القول بمنعه في تلك الحالة أولى , وهو من الاجتهاد في تحقيق المناط الذي من ضوابطه اعتبار مآلات الأفعال. ثانياً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط مراعاة مقاصد المكلَّفين في التصرُّفات (¬2). ومن الذرائع التي يجب سدُّها ما قصد المكلَّف فيه بالمباح التحايُّلَ على مقصود الشارع , فينتج عن ذلك مفسدةٌ راجحة. وقد سبقت الإشارة إلى أن سدَّ الذرائع يشمل ما قصد المكلَّف فيه المفسدة وما لم يقصد , وأن الحيل ما قصد المكلَّف فيه المفسدة بفعل المباح, وهي مخالَفةٌ للشرع أشنع من الأولى وأقبح عياذاً بالله. قال ابن تيمية: "الذرائع حرَّمها الشارع وإن لم يقصد بها المُحَرَّم خشية إفضائها إلى المُحْرَّم، فإذا قصد بالشيء نفسَ المُحْرَّم كان أولى بالتحريم من الذرائع" (¬3). ¬

(¬1) جامع البيان للطبري: (3/ 715). (¬2) ينظر: (241 - 244). (¬3) الفتاوى الكبرى: (6/ 173).

وحقيقة الحيل: " تقديم عملٍ ظاهرِ الجواز لإبطال حُكْمٍ شرعيٍّ وتحويله في الظاهر إلى حُكْمٍ آخر، فمآل العمل فيها خَرْمُ قواعد الشريعة" (¬1). وهي كلُّ ما تضمَّن إسقاط واجبٍ, أو استحلال محرَّمٍ, أو أدى إلى إظهار الحقِّ في صورة باطلٍ, أو إظهار الباطل في صورة حقٍّ. قال ابن تيمية: "صارت - أي: الحيل- في عُرف الفقهاء إذا أُطلقت قُصِد بها الحيل التي يُستحلُّ بها المحارِم كحيل اليهود، وكلُّ حيلةٍ تضمَّنت إسقاط حقِّ الله، أو الآدمي، فهي تندرج فيما يُستحلُّ بها المحارِم، فإنَّ تَرْكَ الواجب من المحارِم" (¬2). وقد استدل العلماء على تحريم الحيل بالكتاب والسُّنَّة وإجماع الصحابة (¬3). ولاريب "أن تجويز الحيل يناقض سدَّ الذرائع مناقضةً ظاهرة، فإنَّ الشارع سدَّ الطريق إلى ذلك المحرَّم بكلِّ طريق، والمحتال يريد أن يتوسَّل إليه، ولهذا لما اعتبر الشارع في البيع والصَّرف والنكاح وغيرها شروطاً سدَّ ببعضها التذَّرع إلى الزِنا والرِّبا, وكمَّل بها مقصودَ العقود, لم يُمكِن المحتال الخروجَ عنها في الظاهر، فإذا أراد الاحتيال ببعض هذه العقود على ما منع الشارع منه أتى بها مع حيلةٍ أخرى توصِله بزعمه إلى نفس ذلك الشيء الذي سدَّ الشارع ذريعته, فلا يبقى لتلك الشروط التي تأتي بها فائدةٌ ولا حقيقة" (¬4). والمكلَّف إذا احتال على الشرع لتحليل ماحرَّم الله ,أو لإسقاط ما أوجب الله , كان مناقضاً لمصالح الشرع ,ساعياً في دين الله بالفساد. قال ابن القيم: "الله تعالى إنما أوجب الواجبات وحرَّم المحرمات لما تتضَّمن من مصالح عباده في معاشهم ومعادهم؛ فالشريعة لقلوبهم بمنزلة الغذاء ¬

(¬1) الموافقات: (5/ 187). (¬2) الفتاوى الكبرى: (6/ 106). (¬3) ينظر في الأدلة على ذلك: بيان الدليل على بطلان التحليل لابن تيمية (285 - 387) , إعلام ... الموقعين (5/ 70 - 93). (¬4) الفتاوى الكبرى: (6/ 181).

الذي لابدَّ لهم منه والدواء الذي لا يندفع الداء إلا به، فإذا احتال العبد على تحليل ما حرَّم الله، وإسقاط ما فرض الله، وتعطيل ما شرع الله، كان ساعياً في دين الله بالفساد من وجوه: أحدها: إبطاله ما في الأمر المُحتال عليه من حكمة الشارع ,ونقض حكمته فيه, ومناقضته له. والثاني: أن الأمر المُحتال به ليس له عنده حقيقة، ولا هو مقصوده، بل هو ظاهر المشروع؛ فالمشروع ليس مقصوداً له، والمقصود له هو المُحْرَّم نفسه، وهذا ظاهرٌ فيما يقصد الشارع؛ فإن المُرابي مثلاً مقصوده الرِّبا المُحْرَّم، وصورة البيع الجائز غير مقصودةٍ له، وكذلك المتحيل على إسقاط الفرائض بتمليك مالِه لمن لا يهبه درهماً واحداً حقيقةُ مقصودِه إسقاطُ الفرض، وظاهر الهبة المشروعة غير مقصودةٍ له. الثالث: نسبته ذلك إلى الشارع الحكيم, وإلى شريعته التي هي غذاء القلوب ودواؤها وشفاؤها، ولو أن رجلاً تحيَّل حتى قَلَبَ الغذاء والدواء إلى ضدِّه، فجعل الغذاءَ دواءً والدواءَ غذاءً، إما بتغيير اسمه أو صورته مع بقاء حقيقته لأهلك الناس، فمن عمد إلى الأدوية المُسهِلة فغيَّر صورتها أو أسماءها وجعلها غذاء للناس، أو عمد إلى السموم القاتلة فغيَّر أسماءها وصورتها وجعلها أدوية، أو إلى الأغذية الصالحة فغيَّر أسماءها وصورها؛ كان ساعياً بالفساد في الطبيعة، كما أن هذا ساعٍ بالفساد في الشريعة؛ فإن الشريعة للقلوب بمنزلة الغذاء والدواء للأبدان، وإنما ذلك بحقائقها لا بأسمائها وصورها" (¬1). ولهذا اعتبر الشاطبي الضابط في الحيل المْحُرَّمَة ماعاد على مقاصد الشرع بالنقض والهدم فقال "فالحيل التي تقدَّم إبطالها وذمُّها والنهي عنها: ما هدم أصلاً شرعياً وناقض مصلحةً شرعية" (¬2). ¬

(¬1) إعلام الموقعين: (5/ 101 - 102). (¬2) الموافقات: (3/ 124).

ومن الأمثلة على ذلك: من كان في يده نصاب زكاةٍ فباعَه أو وهبَه قبل تمام الحول، ثم استردَّه، فهذه حيلةٌ مُحَرَّمَةٌ باطلة، ولا يُسْقِط ذلك عنه فرضَ الله الذي فرضه وأوعد بالعقوبة الشديدة من ضيَّعه وأهمله، فلو جاز إبطاله بالحيلة التي هي مَكْرٌ وخِداعٌ لم يكن في إيجابه والوعيد على تركه فائدة (¬1). فالمجتهد في هذه الصورة اعتبر مقصود المكلَّف من تصرُّفه وتحايله على ما أوجب الله في ماله من الزكاة لإسقاطه , فأبطل تصرُّفه ولم يُبْرِأ ذمَّتَه من الواجب الذي في مالِه؛ لأنه كان يتذرَّع بذلك الفعل لإسقاط الزكاة الواجبة عليه في ذلك المال, وهو من صور الاجتهاد في تحقيق المناط الذي من ضوابطه مراعاة مقاصد المكلَّفين في التصرُّفات سدَّاً للذرائع المفضية إلى تعطيل مقاصد الشرع في الأحكام. قال الشاطبي: " لما ثبت أن الأحكام شُرِعت لمصالح العباد كانت الأعمال مُعْتَبَرةً بذلك؛ لأنه مقصود الشارع فيها كما تبيَّن، فإذا كان الأمر في ظاهره وباطنه على أصل المشروعية فلا إشكال، وإن كان الظاهر موافِقاً والمصلحة مخالِفة؛ فالفعل غير صحيحٍ وغير مشروع؛ لأن الأعمال الشرعيَّة ليست مقصودةً لأنفسها، وإنما قُصِد بها أمورٌ أُخَر هي معانيها، وهي المصالح التي شُرِعت لأجلها, فالذي عمل من ذلك على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات" (¬2). ثالثاً: قد يتفق المجتهدون على العمل بقاعدة سدِّ الذرائع, ولكن يختلفون في تحقيق مناط هذه القاعدة في بعض الصور والجزئيات الحادثة التي قد لا يظهر فيها رجحان المصالح أو المفاسد بشكلٍ جلي , وهو من أكثر صور الاختلاف بين المجتهدين في النوازل والمستجدات. وتوضيح ذلك أن الذرائع منها ما يتبيَّن للمجتهد إفضاؤها للمفسدة غالباً , ¬

(¬1) ينظر: إعلام الموقعين (5/ 195). (¬2) الموافقات: (3/ 121).

ومنها ما يتبيَّن إفضاؤها للمفسدة نادراً , ومنها ما يتبيَّن إفضاؤها للمفسدة كثيراً. ومن الذرائع ما يُفْضِي إلى مفسدةٍ راجحة , ومنها ما يُفْضِي إلى مفسدةٍ مرجوحة. وإنما المُعْتَبَر في ذلك كلَّه: الذرائع التي تُفْضِي غالباً أو كثيراً إلى مفسدةٍ راجحة , أو تفوِّت مصلحةً راجحة. قال ابن تيمية: " الذرائع إذا كانت تُفْضِي إلى المُحْرَّم غالباً فإنه يحرِّمها مطلقاً, وكذلك إن كانت قد تفضي وقد لا تفضي لكن الطبع متقاضٍ لإفِضائها , وأما إن كانت إنما تُفْضِي أحياناً فإن لم يكن فيها مصلحةٌ راجحةٌ على هذا الإفضاء القليل، وإلا حرَّمها أيضاً " (¬1). وقال ابن القيم: " "باب سدِّ الذرائع متى فاتت به مصلحةٌ راجحةٌ, أو تضمَّن مفسدةً راجحةً لم يُلتفت إليه" (¬2). ومن هنا ينشأ الخلاف بين المجتهدين في تحقيق مناط هذا الكلي على صورةٍ من الصور , فيرى بعضهم أن الذريعة في تلك الصورة تُفْضِي للمفسدة غالباً , وبعضهم يرى أنها تُفْضِي لمفسدةٍ ولكنها مرجوحةٌ في مقابل مصلحةٍ راجحة , وبعضهم يرى أنها لا تُفْضِي للمفسدة غالباً , وكلُّ ذلك من الاختلاف في تحقيق مناط سدِّ الذرائع في الصور والجزئيات الحادثة. والوسائل إما أن تؤدي إلى مصالح محضة ,أو إلى مفاسد محضة, أو إلى مصالح ومفاسد مختلطة ,فالشارع حينئذٍ يقصد تحصيل المصالح المحضة ,ودرء المفاسد المحضة ,وتحصيل المصالح الراجحة, ودرء المفاسد الراجحة, والعبرة بالغالب. قال الشاطبي: " فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تُفْهَم على مقتضى ما غلب، فإذا كان الغالب جهة المصلحة، فهي المصلحة المفهومة عُرْفاً، وإذا غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عُرْفاً، ولذلك كان ¬

(¬1) بيان الدليل على بطلان التحليل لابن تيمية: (254). (¬2) إعلام الموقعين: (5/ 76).

الفعل ذو الوجهين منسوباً إلى الجهة الراجحة، فإن رجحت المصلحة فمطلوب، ويقال فيه: إنه مصلحة، وإذا غلبت جهة المفسدة فمهروبٌ عنه، ويقال: إنه مفسدة" (¬1). وينبني على ذلك أن المجتهد إذا غلب على ظنِّه أن تلك الذريعة تُفْضِي إلى حصول مفسدةٍ راجحةٍ اعتبر سدَّها , ومن غلب على ظنِّه أن سدَّها يُفْضِي إلى فوات مصلحةٍ راجحةٍ في مقابل مفسدةٍ مرجوحةٍ اعتبر فتحها. لأن "سدَّ الذرائع" وإن صار لقباً يطلق عند الأصوليين على ذرائع الفساد , إلا أنه كما تمنع الوسائل المفضية إلى مفاسد راجحةٍ فكذلك يشرع فتح الذرائع الموصلة إلى مصالح راجحة (¬2). ¬

(¬1) الموافقات: (2/ 45). (¬2) ينظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي (449)، مقاصد الشريعة لابن عاشور (369).

المبحث السابع علاقة الاجتهاد في المناط بالعرف

المبحث السابع علاقة الاجتهاد في المناط بالعُرف سأتناول في هذا المبحث بيان علاقة الاجتهاد في المناط بالعُرف , وذلك من خلال ثلاثة مطالب , وهي على النحو الآتي: المطلب الأول: تعريف العُرف لغةً واصطلاحاً. العُرف لغةً: ضد النُّكر , وجمعه أعراف (¬1). وهو: كلُّ ما تعرفه النفس من خيرٍ, وتأنس به وتطمئن إليه (¬2). والعُرف اصطلاحاً: عادة جمهور قومٍ من قولٍ أو فعل (¬3). وهو من أوضح التعريفات وأدقِّها وأشملها , فهو واضحٌ في العبارة, دقيقٌ في الدلالة على المراد , شاملٌ لحقيقة العُرْف وأقسامه , كما سيتبيَّن في شرح التعريف. وله تعريفاتٌ أخرى لاتسلم من المؤاخذات القوية (¬4). ¬

(¬1) ينظر: الصحاح (4/ 1401)، معجم مقاييس اللغة (4/ 281)، لسان العرب (9/ 239)، تاج العروس (24/ 139) مادة" ع ر ف". (¬2) ينظر: معجم مقاييس اللغة (4/ 281)، لسان العرب (9/ 239). (¬3) ينظر: المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (2/ 872). (¬4) ينظر: التعريفات للجرجاني (149) , نشر العَرْف (2/ 114) ضمن رسائل ابن عابدين, الأشباه والنظائر لابن نجيم (101) ,شرح الكوكب المنير (4/ 448) ,العُرْف والعادة في رأي الفقهاء لأبي سنة (8 - ) ,أثر العُرْف للسيد صالح عوض (50 - ).

وفيما يأتي شرحٌ للتعريف , وبيانٌ لأهم محترزاته: قوله: (عادة) يشير إلى أن العادة جنسٌ أعمّ تحته أنواعٌ منها العُرف (¬1). والعادة هي: الأمر المتكرِّر من غير علاقةٍ عقلية , أي بدون تلازمٍ عقليًّ يستدعي حدوث التكرار, فلايُسمَّى التلازم العقلي عادةً مهما تكرَّر (¬2). وقوله: (جمهور) يفيد أن العُرف لايُعْتَبر إلا إذا كان شائعاً عند أكثر القوم (¬3). وقوله: (قوم) ليشمل ما إذا كان العُرف عامَّاً بين الناس , أو كان خاصاً بين طائفةٍ منهم ,كأهل حِرْفَةٍ معيَّنة ,أو أهل بلدٍ معيَّن (¬4). وقوله: (من قولٍ أو فعل) ليشمل الحدُّ العُرفَ اللفظي , والعُرفَ العملي (¬5). والعُرف اللفظي هو: أن يشيع بين الناس استعمال بعض الألفاظ أو التراكيب في معنىً معيّن، بحيث يصبح ذلك المعنى هو المفهوم المتبادر منها إلى أذهانهم عند الإطلاق، بلا قرينةٍ ولا علاقةٍ عقليّة، وذلك كاستعمال لفظ «الدراهم» بمعنى النقود الرائجة في البلد مهما كان نوعها وقيمتها، مع أنّ الدرهم في الأصل نقدٌ فضِّيٌ مسكوكٌ بوزنٍ معيَّنٍ وقيمةٍ محدَّدة (¬6). والعُرف العملي هو: اعتياد الناس على شيءٍ من الأفعال العادية أو ¬

(¬1) ينظر: المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (2/ 873) ,العُرْف والعادة لأبي سنة (13). (¬2) ينظر: التقرير والتحبير (1/ 282) تيسير التحرير (1/ 317) , نشر العُرْف (2/ 116) ضمن رسائل ابن عابدين. (¬3) ينظر: الأشباه والنظائر للسيوطي (92) , نشر العُرْف (2/ 134) ضمن رسائل ابن عابدين, المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (2/ 873) , العُرْف والعادة لأبي سنة (56 - 57). (¬4) ينظر: الموافقات (2/ 509) , نشر العَرْف (2/ 116) ضمن رسائل ابن عابدين, المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (2/ 873). (¬5) ينظر: نشر العَرْف (2/ 114) ضمن رسائل ابن عابدين, المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (2/ 873). (¬6) ينظر: نشر العَرْف (2/ 114) ضمن رسائل ابن عابدين, المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (2/ 875 - 876).

المطلب الثاني: حجية العرف.

المعاملات المدنيّة، كتعارفهم في الأنكحة تعجيلَ جانبٍ معيَّنٍ من مهور النساء كالنصف أو الثلثين، وتأجيل الباقي إلى ما بعد الوفاة أو الطلاق (¬1). والأَوْلى أن يزاد في التعريف مايعيِّن العُرفَ المُعْتَبر شرعاً, وهو العُرف الذي لم يثبت في الشرع مايبطله, أو يتعارض معه, كأن يجري عُرف أغلب الناس في بلدٍ أو طائفةٍ منهم على التعامل بالرِّبا, فهذا عُرفٌ باطلٌ غير مُعْتَبر؛ لأنه يصادم نصوص الشرع الذي ثبت فيها تحريم التعامل بالرِّبا (¬2)، وعلى هذا يمكن أن يقال: العُرف اصطلاحاً هو: عادة جمهور قومٍ من قولٍ أو فعلٍ لم يَرِدْ في الشرع ما يصادمه. المطلب الثاني: حُجِّيَّة العُرف. العُرف حُجَّةٌ مُعْتَبرةٌ في الأحكام الشرعيَّة التي وردت مطلقةً في الشرع، ولم يَرِدْ فيها تحديدٌ أو تقدير, أو أحال الشارع الاجتهاد فيها إلى تحكيم العُرْف. وقد ذهب إلى أصل العمل بذلك عامّة المذاهب الأربعة , وإن اختلفوا في بعض آحاد الصور والحوادث. قال القرافي: "أما العُرْف فمشتركٌ بين المذاهب, ومن استقرأها وجدهم يصرّحون بذلك فيها" (¬3). ولمَّا أورد الطوفي نصَّ القرافي السابق تعقبه تأييداً فقال: " هذا كما يقول ¬

(¬1) ينظر: نشر العَرْف (2/ 114 - 115) ضمن رسائل ابن عابدين, المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (2/ 876 - 877). (¬2) ينظر: الموافقات (2/ 488 - 489) ,فتح الباري لابن حجر (9/ 510) , نشر العَرْف (2/ 116) ضمن رسائل ابن عابدين, شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر (1/ 47) ,المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (2/ 902 - 908). (¬3) شرح تنقيح الفصول: (448).

أصحابنا وغيرهم يُرْجع في القبض , والإحراز, وكلُّ ما لم يَرِد من الشرع تحديدٌ فيه إلى ما يتعارفه الناس بينهم" (¬1). ولقد تظافرت أدلة الكتاب والسُّنَّة على اعتبار العُرف حُجَّةً في الأحكام الشرعيَّة حتى بلغت مبلغ القطع في الدلالة على ذلك , وبناءً على استقراء تلك النصوص المتكاثرة تقررت عند المجتهدين تلكم القاعدة الفقهية الشهيرة "العادة مُحَكَّمة" وما يندرج تحتها من قواعد فرعية (¬2). ومحلُّ العمل بالعُرْف: كلُّ ما ورد في الشرع مطلقاً، وليس له حدٌّ في الشرع، ولا في اللغة, فإنه حينئذٍ يُرْجَع فيه إلى العُرْف (¬3). ومن أهم الأدلة وأقواها وأوضحها في الدلالة على حجية العرف مايأتي: 1 - قول الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وتحديد الرزق والكسوة ونوعهما تابعٌ للعُرف؛ لأن الله قد أحال إليه. قال ابن جرير: " (بالمعروف) بما يجب لمِثْلِها على مِثْلِه، إذ كان الله تعالى ذكْرُه قد علم تفاوت أحوال خلقه بالغنى والفقر, وأنَّ منهم الموسِع والمُقْتِر وبيَّن ذلك، فأمر كلاً أن ينفق على من لزمته نفقته من زوجته وولده على قدر ميسرته" (¬4). وإذا كان المعروف هو ما يجب لمِثْلِها على مِثْلِه، فإن المثلية هنا لا تُقَدَّر إلا من طريق العُرْف الغالب في كلِّ مجتمعٍ بحسبه. قال الجصاص: " قوله تعالى: (بالمعروف) يدل على أن الواجب من النفقة والكسوة هو على قدر حال الرجل في إعساره ويساره; إذ ليس من ¬

(¬1) شرح مختصر الروضة للطوفي: (3/ 212). (¬2) ينظر: الأشباه والنظائر لابن السبكي (1/ 50) , المنثور في القواعد (2/ 360) الأشباه والنظائر للسيوطي (89)، الأشباه والنظائر لابن نجيم (101) (¬3) ينظر: نهاية السول (2/ 199)، الأشباه والنظائر لابن السبكي (1/ 51)، مجموع الفتاوى لابن تيمية (24/ 40) الأشباه والنظائرللسيوطي (98)، شرح الكوكب المنير (4/ 452). (¬4) جامع البيان: (4/ 211).

المعروف إلزام المُعْسِر أكثر مما يقدر عليه ويمكنه، ولا إلزام الموسِر الشيءَ الطفيف, ويدل أيضاً على أنها على مقدار الكفاية مع اعتبار حال الزوج، وقد بيَّن ذلك بقوله عقيب ذلك: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233]، فإذا اشتطت المرأة وطلبت من النفقة أكثر من المعتاد المتعارف لمثلها لم تُعط، وكذلك إذا قصّر الزوج عن مقدار نفقة مثلها في العُرف والعادة لم يَحِلّ ذلك, وأُجبِر على نفقة مثلها" (¬1). 2 - قوله تعالى {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]. فالله تعالى لم يقدِّر الوسط الواجب في كفارة الأيمان، بل إنه أطلقه، وأرجعه في ذلك إلى عُرف الناس, والناس متفاوتون في طعامهم بحسب تفاوت بلدانهم، فكلُّ بلدٍ لها طعامٌ خاص، بل إن البلد الواحد طعامهم متفاوتٌ حسب غناهم وفقرهم، فما اعتُبِر في عرف الناس أنه وسطٌ فهو الواجب، فدلَّ ذلك على أن العُرف مُعْتَبَر في الأحكام الشرعيَّة المطلقة التي لم يَرِدْ فيها تحديدٌ أو تقدير. قال ابن تيمية: " فأمر الله تعالى بإطعام المساكين من أوسط ما يطعم الناس أهليهم, وقد تنازع العلماء في ذلك: هل ذلك مقدَّرٌ بالشرع أو يُرجَع فيه إلى العُرف .. والراجح في هذا كلِّه أن يُرجَع فيه إلى العُرف فيطعِم كلُّ قومٍ مما يطعمون أهليهم" (¬2). 3 - حديث هند بنت عتبة، فيما روته عائشة رضي الله عنها: "أن هنداً بنت عتبة قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجلٌ شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" (¬3). قال ابن قدامة: " فيه دلالةٌ على وجوب النفقة لها على زوجها، وأن ذلك مقدَّرٌ بكفايتها، وأن نفقة ولده عليه دونها مقدَّرٌ بكفايتهم، وأن ذلك ¬

(¬1) أحكام القرآن: (1/ 489). (¬2) مجموع الفتاوى: (26/ 114). (¬3) سبق تخريجه: (267).

بالمعروف، وأن لها أن تأخذ ذلك بنفسها من غير عِلْمِه إذا لم يعطها إياه" (¬1). فالرسول الله صلى الله عليه وسلم ردَّها إلى المعروف، وهو ما عُرِف أنه يكفيها من الطعام وغيره , وذلك بحسب العادة المعهودة التي تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والازمنة والأمكنة. قال ابن تيمية: "والصواب المقطوع به عند جمهور العلماء أن نفقة الزوجة مرجعها إلى العُرف وليست مقدَّرةً بالشرع؛ بل تختلف باختلاف أحوال البلاد والأزمنة وحال الزوجين وعادتهما" (¬2). وقال ابن العربي في تقدير الإنفاق: "قد بيَّنا أنه ليس له تقديرٌ شرعي، وإنما أحاله الله سبحانه على العادة، وهي دليلٌ أصوليٌّ بنى الله عليه الأحكام، وربط به الحلال والحرام، وقد أحاله الله على العادة فيه في الكفَّارة، فقال: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] وقال جلَّ شأنه: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]. وقال ابن القيم: " والله ورسوله ذكرا الإنفاق مطلقاً من غير تحديدٍ ولا تقديرٍ ولا تقييد، فوجب ردُّه إلى العُرْف لو لم يردُّه إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف وهو الذي ردَّ ذلك إلى العُرْف، وأرشد أُمَّتَه إليه؟ " (¬3). وهذا الحديث فيه تصريحٌ ودلالةٌ على اعتبار العُرف فيما جاء من الأحكام الشرعيَّة مطلقاً ولم يحُدَدَّ مقداره أو نوعه. وقد ذكر النووي من فوائد هذا الحديث: "اعتماد العُرف في الأمور التي ليس فيها تحديدٌ شرعي" (¬4). وقال ابن حجر: " وفيه اعتماد العُرف في الأمور التي لا تحديد فيها من قِبَل الشرع" (¬5). ¬

(¬1) المغني: (11/ 348). (¬2) مجموع الفتاوى: (34/ 83). (¬3) زاد المعاد: (5/ 439). (¬4) شرح صحيح مسلم: (12/ 8). (¬5) فتح الباري: (9/ 510).

المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بالعرف.

المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بالعرف. يُعْتَبر دليل العُرف من أوثق الأدلة الشرعيَّة صِلَةً بالاجتهاد في المناط، وتظهر العلاقة الوثيقة بينهما في جوانب عديدة , من أهمها ما يأتي: أولاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق مناطات الأحكام مراعاة اختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة كما تقدَّم (¬1). ومن أهم الصور في ذلك: مراعاة المجتهد لاختلاف عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم بحسب اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم. ولذلك اُشترِط في المجتهد أن يكون عارفاً بعادات الناس في عصره وبلده؛ لأن الأحكام المترتِّبة على العُرف تختلف باختلاف الأعصار والأمصار. قال ابن عابدين: "اعلم أن المسائل الفقهية إما أن تكون ثابتةً بصريح النصِّ وهي الفصل الأول، وإما أن تكون ثابتةً بضرب اجتهادٍ ورأي، وكثيرٌ منها ما يبيِّنه المجتهد على ما كان في عرف زمانه, بحيث لو كان في زمان العُرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولاً، ولذا قالوا في شروط الاجتهاد إنه لابدَّ فيه من معرفة عادات الناس، فكثيرٌ من الأحكام تختلف باختلاف الزمان" (¬2). بل لابدَّ أن يميِّز المجتهد بين الأعراف العامة التي تنطبق أحكامها على عامّة الناس , والأعراف الخاصّة التي تنطبق أحكامها على طائفةٍ من الناس, كأصحاب المِهَن والحِرَف المعيَّنة. وكذلك على المجتهد أن يميِّز بين الأعراف المُعْتَبرة شرعاً , والأعراف الباطلة التي تُصادِم النصوص الشرعية, فلايَعْتبِر الباطل , ويُبطِل المُعْتَبَر. ¬

(¬1) ينظر): 229 - 235). (¬2) نشر العَرْف (2/ 125) ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين

قال ابن عابدين: "المفتي الذي يفتي بالعُرف لا بدَّ له من معرفة الزمان وأحوال أهله , ومعرفة أن هذا العُرف خاصٌّ أو عام, وأنه مخالفٌ للنصِّ أو لا " (¬1). فلا يجوز للمفتي أن يفتي فيما يتعلَّق بالألفاظ كالطلاق والعِتاق والأيمان والأقارير بما اعتاده هو من فهم تلك الألفاظ دون أن يعرف عُرْفَ أهلها والمتكلمين بها ,بل يحملها على ما اعتادوه وعرفوه وإن كان الذي اعتادوه مخالفاً لحقائقها الأصلية اللغوية؛ لأن العُرْف يُقدَّم على الحقيقة المهجورة (¬2). قال النووي في معرض كلامه عن أحكام الفتوى: " لا يجوز أن يفتي في الأيمان والإقرار ونحوهما مما يتعلَّق بالألفاظ إلا أن يكون من أهل بلد اللافظ أو متنزِّلاً منزلتهم في الخبرة بمرادهم من ألفاظهم وعُرفِهم فيها" (¬3). ولو أن الرجل حفظ جميع كتب المذهب , فإن ذلك لا يؤهله للفتوى , إذ لابدَّ أن يتتلمذ للفتوى, ويتمرَّس عليها حتى يهتدي إلى الصواب فيها؛ لأن كثيراً من المسائل يُجاب عنه على عادات أهل الزمان فيما لايخالف الشريعة (¬4). قال ابن عابدين: "ولابدَّ له من التخرُّج على أستاذٍ ماهر , ولا يكفيه مجرَّد حفظ المسائل والدلائل ,فإن المجتهد لابدَّ له من معرفة عادات الناس" (¬5). و"من أفتى الناس بمجرَّد المنقول في الكتب على اختلاف عُرفِهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضلَّ وأضل، وكانت جنايته على الدِّين أعظم من جناية من طبَّب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتابٍ من كتب الطبِّ على ¬

(¬1) نشر العَرْف (2/ 129) ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين. (¬2) ينظر: إعلام الموقعين (6/ 151) ,كشاف القناع (6/ 304). (¬3) المجموع: (1/ 46). (¬4) نشر العَرْف: (2/ 129) ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين. (¬5) نشر العَرْف: (2/ 129) ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين.

أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضرُّ ما على أديان الناس وأبدانهم" (¬1). وذلك لأنه إذا ورد في الشرع حُكْمٌ مُطْلَقٌ من غير تقييدٍ ولا تقديرٍ فإنه يعني أن الشارع أحال المجتهدَ فيه إلى العُرف الذي يختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة, وهو من صور العدل والرحمة في هذه الشريعة؛ لأن حمل الناس في كلِّ زمانٍ ومكانٍ على حُكْم له صورةٌ واحدةٌ مع اختلاف أحوالهم فيه من العَنَت والمشقة بالمكلَّفين ما يُخرِج تلك الأحكام عن سَمْتِ الرسالة التي بُعِث بها النبي صلى الله عليه وسلم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]. وعلى هذا فإنه لابدَّ للمجتهد في تحقيق مناطات الأحكام المترتبة على العُرف أن يكون عالماً بعادات أهل عصره, والأعرافِ الغالبةِ في أقوالهم وأفعالهم وبيوعاتهم ومناكحاتهم وكافّة تعاقداتهم. ثانياً: يُعْتَبر العُرف من أهم مسالك تحقيق المناط في الأحكام الشرعيَّة المطلقة التي لم يَرِد فيها تحديدٌ أو تقدير. وهو: أن يدلَّ العُرف - سواءٌ كان عامّاً أو خاصّاً - على ثبوت مُتعَلَّق الحُكْم الشرعي في بعض جزئياته كما تقدَّم (¬2). ومن صور تحقيق المناط بالعُرف: حمل الأحكام الشرعيَّة المطلقة التي أناط الشارع الحُكْم فيها بالعُرف صراحةً على عادات الناس الغالبة أثناء تنزيل تلك الأحكام على الوقائع المتعلِّقة بهم. فكلُّ مارَدَّ الشرعُ الاجتهادَ في تقديره إلى العُرف بنصِّ الكتاب أو السُّنَّة فإنه يجب تحقيق المناط فيه بما غلب على الناس من أعرافهم وعاداتهم في ذلك الشيء, وهو ما يختلف بحسب الأزمنة والأمكنة والأحوال الجارية في الخلق. ومن الأمثلة على ذلك: قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233]. ¬

(¬1) إعلام الموقعين: (4/ 470). (¬2) ينظر: (266).

أي: وعلى والد الطفل نفقةُ الوالدات وكسوتهن بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسرافٍ ولا إقتار، وبحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره (¬1). فالآية في هذا الموضع نصَّت صراحةً على ردِّ تقدير النفقة والكسوة إلى العُرف الغالب بين الناس مع مراعاة حال الأب في الغنى والفقر. قال ابن عبدالسلام: "وقد نصَّ الله على أن الكسوة بالمعروف في قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وكذلك السكنى وماعُون الدار يرجع فيهما إلى العُرف من غير تقدير، والغالب في كلِّ ما رُدَّ في الشرع إلى المعروف أنه غير مقدَّر، وأنه يُرجَع فيه إلى ما عُرِفَ في الشرع، أو إلى ما يتعارفه الناس" (¬2). وقال ابن قدامة: "الصحيح ما ذكرناه، من ردِّ النفقة المطلقة في الشرع إلى العُرف فيما بين الناس في نفقاتهم، في حقِّ الموسِر والمعسِر والمتوسِّط، كما رددناهم في الكسوة إلى ذلك" (¬3). وهكذا"كلُّ ما تكرَّر من لفظ "المعروف" في القرآن نحو قوله سبحانه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] فالمراد به ما يتعارفه الناس في ذلك الوقت من مثل ذلك الأمر" (¬4). ومن صور تحقيق المناط بالعُرْف -أيضاً-: حَمْلُ أحكام الشرع المطلقة التي لم يَرِد فيها تحديدٌ على العُرف الجاري بين الناس عامّةً ,أو بين طائفةٍ منهم , وذلك بحسب الأزمنة والأمكنة والأحوال المختلفة. قال ابن تيمية: "الأسماء التي علَّق الله بها الأحكام في الكتاب والسُّنَّة: منها ما يُعرَف حدُّه ومسمَّاه بالشرع، فقد بيَّنه الله ورسوله: كاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج, والإيمان والإسلام، والكفر والنفاق, ومنه ما يُعرَف ¬

(¬1) ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (3/ 163) تفسير ابن كثير (1/ 634). (¬2) قواعد الأحكام: (1/ 101) (¬3) المغني: (11/ 351). (¬4) شرح الكوكب المنير: (4/ 449).

حدُّه باللغة: كالشمس والقمر، والسماء والأرض, والبَرّ والبحر، ومنه ما يُرجَع حدُّه إلى عادة الناس وعُرفهم فيتنوع بحسب عادتهم: كاسم البيع والنكاح والقبض والدرهم والدينار، ونحو ذلك من الأسماء التي لم يحدُّها الشارع بحدّ؛ ولا لها حدٌّ واحدٌ يشترِك فيه جميع أهل اللغة , بل يختلف قدرُه وصفتُه باختلاف عادات الناس " (¬1). ومن ذلك: البلوغ ; فإنه يُعْتَبر فيه عوائد الناس من الاحتلام أو الحيض، أو بلوغ سِنِّ من يحتلم أو من تحيض، وكذلك الحيض يُعْتَبر فيه إما عوائد النساء بإطلاق , أو عوائد المرأة ,أو قراباتها، أو نحو ذلك فيُحْكَم لهم شرعاً بمقتضى العادة في ذلك (¬2). وضابطه: كلُّ اسمٍ أو فعلٍ رتَّب الشارع عليه الحُكْم مطلقاً ولم يرد في الشرع ولا في اللغة تحديدٌ له ولاتقدير , فإنه يُرْجَع فيه إلى العُرْف. قال ابن تيمية: "كلُّ اسمٍ ليس له حدٌّ في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العُرف " (¬3). وقال ابن النَّجار: "وضابطه: كلُّ فعلٍ رُتِّبَ عليه الحكم، ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة" (¬4). ومن ذلك: ماجاء عن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ أحيا أرضاً ميتةً فهي له" (¬5). فالإحياء ما تعارفه الناس إحياء؛ لأن الشرع وَرَدَ بتعليق المِلك على الإحياء، ولم يبيِّنه، ولا ذكر كيفيته، فيجب الرجوع فيه إلى ما كان إحياءً في ¬

(¬1) مجموع الفتاوى: (19/ 235 - 236). (¬2) ينظر: الموافقات: (2/ 491). (¬3) مجموع الفتاوى: (24/ 41). (¬4) شرح الكوكب المنير: (4/ 452). (¬5) أخرجه البخاري معلقاً في "صحيحه" , كتاب المزارعة , باب من أحيا أرضاً مواتاً, وأسنده ابن حجر في "تغليق التعليق" (3/ 308 - 310)، وأخرجه الترمذي في "صحيحه" , كتاب الأحكام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , باب ماذُكِر في إحياء أرض الموات, رقم (1378)، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيح.

العُرف , ولأن الشارع لو علَّق الحُكْم على مُسَمَّى باسمٍ لتعلَّق بمسمَّاه عند أهل اللسان، فكذلك يتعلَّق الحُكْم بالمسمَّى إحياءً عند أهل العُرف، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلِّق حكماً على ما ليس إلى معرفته طريق، فلما لم يبيِّنه تعيَّن العُرف طريقاً لمعرفته، إذ ليس له طريقٌ سواه (¬1). ويحصل إحياء الأرض عادةً إما بحائطٍ منيع، أو بإجراء الماء، أو حفر بئرٍ فيها، أو غرس شجر، ويُرجع في ذلك إلى العُرف، فما عدَّه الناس إحياءً فإنه تُمْلَك به الأرض الموات (¬2). ومن صور تحقيق المناط بالعُرف -أيضاً-: حَمْلُ تصرُّفات المكلَّفين التعاقدية على ماجرت به العادة في تلك التصرُّفات مالم تكن مصادِمةً للشرع. فالعُرف العام أو الغالب في الناس عامّةً، أو عند طائفةٍ منهم, يجري مجرى النطق إذا لم يُصَرَّح بخلافه. قال ابن عبدالسلام: " كلُّ ما يثبت في العُرف إذا صرَّح المتعاقدان بخلافه بما يوافق مقصود العقد صح , فلو شرط المستأجر على الأجير أن يستوعب النهار بالعمل من غير أكلٍ وشربٍ ويقطع المنفعة لزمه ذلك" (¬3). وقال ابن القيم: "وقد جرى العُرف مجرى النطق في أكثر من مائةٍ موضع" (¬4). ومن ذلك: أنه لوباع شيئاً بدراهم وأطلق , فإنه يُحمَل على النقد الغالب في ذلك البلد؛ لأنه هو المُتعارَف عليه , فينصرف المُطْلَق إليه , إلا إذا صرَّح المتعاقدان بخلافه (¬5). ¬

(¬1) ينظر: المغني لابن قدامة (5/ 437). (¬2) ينظر: المغني لابن قدامة (5/ 437 - 438)، الذخيرة للقرافي (6/ 148)، مغني المحتاج (3/ 501)، حاشية ... ابن عابدين (6/ 433). (¬3) قواعد الأحكام: (2/ 186). (¬4) إعلام الموقعين: (4/ 316). (¬5) ينظر: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي (219) ,الأشباه والنظائر للسيوطي (92) , الأشباه والنظائر لابن نجيم (103) , نشر العَرْف (2/ 134) ضمن رسائل ابن عابدين.

ومن ذلك-أيضاً-: إذا كانت العادة في النكاح قبض الصَّداق قبل الدخول، أو في البيع الفلاني أن يكون بالنقد لا بالنسيئة، أو بالعكس، أو إلى أجل كذا دون غيره، فالحُكْم أيضا جارٍ على ذلك, مالم يصرِّح المتعاقدان بخلافه (¬1). ومن صور تحقيق المناط بالعُرف- أيضاً-: حَمْلُ ألفاظ المكلَّفين وعباراتهم على المعاني المتعارَف عليها بينهم. ومن ذلك: أن عبارات الواقفين لاتُبنى على الدقائق اللغوية والأصولية ,إنما تُبنى على مايتبادر ويُفْهَم منها بحسب عادات الواقفين ومقاصدهم (¬2). وكذا ألفاظ الطلاق , والأيمان , والوصايا , والوكالة , والإقرار, ونحو ذلك مما يُعْتَبر فيه العادة الغالبة عند المتلفظين بها كنايةً وتصريحاً (¬3). وبهذا يتبيَّن مما تقدَّم من صور تحقيق المناط بالعُرف أنه من أهم مسالك تحقيق مناطات الأحكام المطلقة التي لم يرد بشأنها في الشرع تحديدٌ أو تقدير. ثالثاً: قد ينيط الشارعُ الحُكْم بالعُرف , والعُرف تختلف صوره بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال, فإذا تغيَّر العُرف لزم تغيُّر الحكم، فالأحكام تدور مع مناطاتها وجوداً وعدماً. قال القرافي: " الأحكام المترتِّبة على العوائد تدور معها كيفما دارت، فتبطل معها إذا بطلت، كالنقود في المعاملات، والعيوب في الأعراض في البياعات ونحو ذلك، فلو تغيَّرت العادة في النقد، والسّكَّة إلى سكَّةٍ أخرى لحُمِل الثمن في البيع عند الإطلاق على السّكَّة التي تجدَّدت العادة بها دون ما قبلها، وكذلك إذا كان الشيء عيباً في الثياب في عادةٍ رددنا به المبيع، فإذا ¬

(¬1) ينظر: الموافقات (2/ 491) (¬2) ينظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم (80) ,نشر العَرْف (2/ 146) ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين. (¬3) ينظر: المجموع للنووي (1/ 46) ,إعلام الموقعين (6/ 151) , الموافقات (2/ 490) , كشاف القناع (6/ 304)، المعيار المعرب للونشريسي (6/ 63).

تغيَّرت العادة وصار ذلك محبوباً موجِباً لزيادة الثمن لم تُرَدَّ به، وبهذا القانون تُعتَبَر جميع الأحكام المترتبة على العوائد، وهو تحقيقٌ مجمعٌ عليه بين العلماء، لا خلاف فيه " (¬1). و"جميع أبواب الفقه المحمولة على العوائد إذا تغيَّرت العادة تغيَّرت الأحكام في تلك الأبواب" (¬2). ومن الأحكام التي وردت في الشرع مطلقةً من غير تحديدٍ ولا تقدير، وأحال الشرعُ الاجتهادَ فيها إلى العُرف: اشتراط العدالة في الشهود , كمافي قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. فما يقدح في العدالة يختلف في بعض صوره باختلاف عادات الناس , فما يكون في بلدٍ أو زمنٍ قادحاً قد لايُعْتَبر كذلك في بلدٍ أو زمنٍ آخر. قال الشاطبي: " مثل كشف الرأس، فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع، فهو لذوي المروءات قبيحٌ في البلاد المشرقية، وغير قبيحٍ في البلاد المغربية، فالحُكْم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحاً في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح" (¬3). وأيضاً" فإنَّا نفتي في زمانٍ معيَّنٍ بأن المشتري تلزمه سكَّةٌ معيَّنةٌ من النقود عند الإطلاق؛ لأن تلك السَّكَّة هي التي جرت العادة بالمعاملة بها في ذلك الزمان، فإذا وجدنا بلداً آخر وزماناً آخر يقع التعامل فيه بغير تلك السَّكَّة تغيَّرت الفتيا إلى السَّكَّة الثانية، وحَرُمَت الفتيا بالأولى لأجل تغيُّر العادة، وكذلك القول في نفقات الزوجات والذرية والأقارب وكسوتهم تختلف بحسب العوائد، وتنتقل الفتوى فيها وتَحرُم الفتوى بغير العادة الحاضرة، وكذلك تقدير العواري بالعوائد ,وقبض الصدقات عند الدخول أو قبله أو بعده .. " (¬4). وقد ذكر ابن عابدين أمثلةً كثيرةً من المسائل التي اختلف حكمها ¬

(¬1) أنوار البروق في أنواء الفروق: (1/ 276). (¬2) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (232). (¬3) الموافقات: (2/ 489). (¬4) أنوار البروق في أنواء الفروق: (1/ 45).

لاختلاف عادات الناس وأحوالهم (¬1). ولهذا فإن أصحاب المذاهب المتأخرين خالفوا أئمة مذاهبهم في أحكامٍ كثيرة , وكانت ترجع مخالفتهم في ذلك إلى تغيُّر الأعراف والعادات في أزمنتهم, ولو كانوا في أزمنة أئمتهم لقالوا بمثل ماقالوا به (¬2). ويُعْتَبر أكثر خلاف المجتهدين في هذا النوع من الأحكام المترتِّبة على العُرف اختلاف عصرٍ وأوانٍ , لا اختلاف حُجَّةٍ وبرهان (¬3). وقد تقرَّر عند الفقهاء أنه ليس في اعتبار العادة المتغيِّرة الحادثة مخالَفَةٌ للنصّ , بل هو اتباعٌ للنصّ؛ لأن الشرع أناط الحُكْم المُطْلَق بالعُرف المتغيِّر (¬4). وإنَّ عدم اعتبار تغيُّر تلك الأحكام بتغيُّر عادات الناس حسب الأزمنة والأمكنة والأحوال المختلفة يُعْتَبر خلاف الإجماع , وهو من صور الجهل بالشريعة وتصرُّفاتها في الأحكام. قال القرافي: " إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغيُّر تلك العوائد خلاف الإجماع، وجهالةٌ في الدِّين، بل كلُّ ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغيَّر الحُكْم فيه عند تغيُّر العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجدِّدة" (¬5). ومما يجدر التنبيه إليه أن اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد لايُعْتَبر اختلافاً في أصل خطاب الشرع , بل هو رجوع كلِّ عادةٍ إلى الأصل الشرعي الذي يُحُكْم به عليها؛ لأن الأحكام ثابتةٌ تتبع أسبابها حيث كانت. قال الشاطبي: " واعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلافٍ في أصل الخطاب ; لأن الشرع موضوعٌ على أنه دائمٌ أبدي، لو فُرِض بقاء الدنيا من غير نهايةٍ والتكليف ¬

(¬1) ينظر: نشر العَرْف (2/ 125 - 128) ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين. (¬2) ينظر: المرجع السابق (2/ 128). (¬3) ينظر: المرجع السابق (2/ 126). (¬4) ينظر: المرجع السابق (2/ 118). (¬5) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: (219).

كذلك، لم يُحتَج في الشرع إلى مزيد، وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كلُّ عادةٍ إلى أصلٍ شرعيٍّ يُحْكَم به عليها ; كما في البلوغ مثلا، فإن الخطاب التكليفي مرتفعٌ عن الصبي ما كان قبل البلوغ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف , فسقوط التكليف قبل البلوغ ثم ثبوته بعده ليس باختلافٍ في الخطاب، وإنما وقع الاختلاف في العوائد، أو في الشواهد، وكذلك الحُكْم بعد الدخول بأن القول قول الزوج في دفع الصداق بناءً على العادة، وأن القول قول الزوجة بعد الدخول أيضاً، بناءً على نسخ تلك العادة ليس باختلافٍ في حُكْم، بل الحُكْم أنَّ الذي ترجح جانبه بمعهودٍ أو أصل فالقول قوله بإطلاق؛ لأنه مُدَّعى عليه، وهكذا سائر الأمثلة ; فالأحكام ثابتةٌ تتبع أسبابها حيث كانت بإطلاق" (¬1). ¬

(¬1) الموافقات: (2/ 491 - 492).

الباب الخامس تطبيقات الاجتهاد في المناط في فقه النوازل المعاصرة

الباب الخامس تطبيقات الاجتهاد في المناط في فقه النوازل المعاصرة ويشتمل على تمهيد وخمسة عشر مبحثا: المبحث الأول: استخدام مياة الصرف الصحي المُعالَجة في الطهارة. المبحث الثاني: تحديد أوقات الصلاة في البلدان الواقعة على خطوط العرض العالية. المبحث الثالث: زكاة أسهم الشركات. المبحث الرابع: استخدام الحقن العلاجية أثناء الصيام. المبحث الخامس: الإحرام بالحج أو العمرة للقادمين جواً بالطائرة. المبحث السادس: المتاجرة بالهامش في الأسواق المالية. المبحث السابع: خطاب الضمان البنكي. المبحث الثامن: التورُّق المصرفي المنظَّم. المبحث التاسع: تحديد النَّسْل. المبحث العاشر: إنشاء بنوك الحليب البشري والرضاع منها. المبحث الحادي عشر: إجراء عمليات التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب. المبحث الثاني عشر: إسقاط الجنين المشوَّه خِلْقياً. المبحث الثالث عشر: رفع أجهزة الإنعاش عن المتوفَّى دماغياً. المبحث الرابع عشر: زراعة ونقل الأعضاء التناسلية. المبحث الخامس عشر: زراعة عضوٍ استُؤصِل في حدٍّ أو قصاص.

تمهيد

تمهيد: تقدم الكلام في الأبواب الأربعة من هذا البحث عن الاجتهاد في المناط بأنواعه الثلاثة , وعلاقته بالأدلة الشرعيَّة , وذلك من الناحية التأصيلية. وفي هذا الباب الخامس سأتناول الجانب التطبيقي للموضوع , وذلك بذكر بعض النوازل والمستجدات الفقهية , وربط الاجتهاد فيها بالجانب التأصيلي؛ لأن المقصود من التأصيل بناء التطبيقات عليه. ويهدف هذا الباب إلى ربط الفروع الفقهية بعلم أصول الفقه وقواعده؛ لأن هذا العلم لم يختصّ بإضافته للفقه إلا لكونه مفيداً له ومحققاً للاجتهاد فيه , وهو أمرٌ بالغ الأهمية. فربط التأصيل بالتطبيق الفقهي يكشف عن مدى أهمية الأصل وضرورة الاعتناء به، و" كلُّ مسألةٍ مرسومةٍ في أصول الفقه، لا ينبني عليها فروعٌ فقهية، أو آدابٌ شرعية، أو لا تكون عوناً في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عاريَّة" (¬1). وتزداد أهمية ذلك فيما إذا كانت تلك التطبيقات الفقهية من النوازل والمستجدات التي تمسُّ حاجَة الناس في هذا العصر , ويكثر السؤال عن أحكامها في الشرع المطهر, فحينئذٍ تتأكد ضرورة الربط بين الجانب التأصيلي والجانب التطبيقي. ¬

(¬1) الموافقات: (1/ 37).

وقد قسمت هذا الباب إلى خمسة عشر مبحثاً , وجعلت كلَّ مسألةٍ في مبحثٍ مستقل , ورتبتها بحسب موقعها في الأبواب الفقهية أو تعلقها بها. ولمَّا كانت الدراسة تهدف إلى إبراز العلاقة بين الجانب النظري والتطبيقي في موضوع البحث , وأهمية الربط بينهما , ولم تكن تهدف إلى الاستيعاب , فقد اكتفيت بالتطبيق على بعض النوازل والمستجدات المنتشرة في أبوابٍ فقهيةٍ متفرِّقة, وهي تشمل: العبادات , والمعاملات , والنكاح وتوابعه , والحدود والجنايات. كما إني اقتصرت في تلك النوازل والمستجدات الفقهية على مالَه علاقةٌ بموضوع البحث, واستندت في أحكام تلك التطبيقات على قرارات الفتوى في بعض مؤسسات الاجتهاد الجماعي الموثوقة, كالمجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وهيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة بالمملكة العربية السعودية، ولم أتوسع في ذكر الخلاف وأدلة المخالفين ومناقشتها؛ لأن محلها دراسات الفقه المقارن. وحتى يكون البحث في هذه المسائل مُتَّسِقاً , ومحقِّقاً للمقصود منه , فقد اتبعت المنهج اللآتي في عرضها: أبدأ أولاً بذكر عنوان المسألة , ثم أُعرِّف بها وأوضح صورتها , ثم أبيِّن الحُكْم الشرعي فيها من خلال القرارات الصادرة عن مؤسسات الاجتهاد الجماعي الموثوقة، والتي أشرت إليها آنفاً , ثم أوضِّح أوجه التطبيق على الجانب التأصيلي المتعلِّق بالاجتهاد في المناط في تلك المسألة. وقد بلغ عدد تلك المسائل التطبيقية (15) مسألة , مرتبةً حسب المباحث الآتية:

المبحث الأول استخدام مياة الصرف الصحي المعالجة في الطهارة

المبحث الأول استخدام مياة الصرف الصحي المُعالَجة في الطهارة مياه الصرف الصحي هي: المياه الناجمة عن مختلف الاستخدامات المنزلية، وكلُّ ما يمكن أن يَصُبّ في شبكة مجاري المدينة (¬1). وتتألف هذه المياه من عنصرين: (¬2) الأول: الماء الطاهر الذي يشكِّل حوالي (99%) من هذه المياة. والثاني: الملوثات الضارَّة والنجاسات، وهي تشكلَّ (1%). وتنقية هذه المياه ومعالجتها تتم من خلال عدة مراحل، وذلك بحسب الغرض منها، ومن ثَمّ يتحدد نوع الاستخدام لهذه المياه بعد المعالجة, وهذه المراحل على النحو الآتي: (¬3) المرحلة الأولى: المعالجة الابتدائية. وتهدف هذه المرحلة إلى إزالة المواد الصلبة, كالرمال, والمعادن , والزجاج؛ حمايةً للأجهزة والمضخات المختلفة التي ستستخدم في المراحل اللاحقة، وحتى لاتتسبب في إعاقة عمليات المعالجة, وذلك من خلال صفايات ومناخل وأجهزة تفتيت. ¬

(¬1) ينظر: منظومات الصرف الصحي ومعالجة مياه المجاري (2). (¬2) ينظر: منظومات الصرف الصحي ومعالجة مياه المجاري (18 - 34) , وأسس معالجة مياه الصرف الصحي (69 - 77). (¬3) ينظر: منظومات الصرف الصحي (95 - 160)، وأسس معالجة مياه الصرف الصحي (79 - 251).

المرحلة الثانية: المعالجة الأولية (الفيزيائية).

المرحلة الثانية: المعالجة الأولية (الفيزيائية). وتهدف هذه المرحلة إلى تخفيض قيم الملوثات الموجودة في مياة المجاري، ولاسيما المواد العضوية كالزيوت والشحوم والبروتينات، والمواد الصلبة غير العضوية القابلة للفصل كالقلويات والمعادن الثقيلة والكبريت، حيث يتم ترسيب هذه المواد من خلال أحواض الترسيب الأولي. المرحلة الثالثة: المعالجة الثانوية (البيولوجية أو الأحيائية). وتهدف هذه المرحلة إلى تحليل المركبات العضوية إلى مواد غازية تتطاير، وتحويلها إلى مركباتٍ مستقرة، وكتلةٍ حيوية، تتألف في معظمها من البكتيريا، وبعض الكائنات الدقيقة التي يكون وزنها أكبر قليلاً من الوزن النوعي للماء، مما يسهل ترسيبها في أحواض الترسيب الثانوي، وفصلها عن المياة ومعالجتها على انفراد، مما يؤدي إلى الحصول على مياه خاليةٍ عملياً من التلوث العضوي. المرحلة الرابعة: (الترشيح، والتعقيم). وهذه المرحلة تعتمد على وحدتين متتاليتين للمعالجة، هما: 1 - الترشيح: وتهدف هذه العلمية إلى فصل وإزالة المواد العالقة العضوية وغير العضوية، وجميع الشوائب التي لم يتم فصلها في حوض الترسيب الثانوي، وهذا من خلال المرشحات الرملية، التي يتم غسلها باستمرار عن طريق حركة المياة العكسية. 2 - التعقيم: وتهدف هذه العملية إلى القضاء على البكتيريا والأحياء الأخرى الدقيقة التي تسبب عدة أمراض معدية وخطيرة، ويستخدم غاز الكلور المحقون في مياه الصرف الصحي لإحداث عملية التعقيم، كما يستخدم -أيضاً- التعقيم بالأوزون والأشعة فوق البنفسجية، وذلك لتهديم البنية الجرثومية. فإذا تمت معالجة مياه الصرف الصحي من خلال المراحل المذكورة:

هل يجوز حينئذٍ استخدامها في الطهارة الشرعيَّة, كالوضوء لرفع الحدث الأصغر, أوكالغسل لرفع الحدث الأكبر؟ مياه الصرف الصحي قبل معالجتها تعتبر نجسة؛ لأن المياة الطاهرة فيها اختلطت بنجاساتٍ غيَّرت طعمها ولونها ورائحتها , والماء إذا تغيَّرت أوصافه بنجاسةٍ صار نجساً , فلايجوز حينئذٍ استخدامها في الطهارة , فهي لاترفع حدثاً , ولاتزيل نجساً. أما مياه الصرف الصحي بعد معالجتها وتنقيتها التنقية الكاملة بالطرق المذكورة أو مايماثلها , والتي لايبقى معها أثرٌ للنجاسة في الطعم واللون والرائحة , فإنها تُعتبَر طاهرة, ويجوز حينئذٍ استخدامها في رفع الأحداث وإزالة النجاسات , وتحصل بها الطهارة الشرعيَّة. وقد أصدر المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي قراراً في دورته الحادية عشرة بجواز استخدام مياه الصرف الصحي بعد معالجتها في الطهارة , ومما جاء في نصِّ القرار: " ماء المجاري إذا نُقِّي بالطرق المذكورة أو ما يماثلها، ولم يبق للنجاسة أثرٌ في طعمه ولا في لونه ولا في ريحه صار طهوراً يجوز رفع الحدث وإزالة النجاسة به" (¬1). كما أصدرت هيئة كبار العلماء بالسعودية - أيضاً - قراراً في دورتها الثالثة عشرة بجواز استخدام مياه الصرف الصحي بعد معالجتها في الطهارة , ومما جاء في نصِّ القرار: " وحيث إن المياه المتنجسة يمكن التخلُّص من نجاستها بعدة وسائل، وحيث إن تنقيتها وتخليصها مما طرأ عليها من النجاسات بواسطة الطرق الفنية الحديثة لأعمال التنقية يُعْتَبر من أحسن وسائل الترشيح والتطهير، حيث يبذل كثيرٌ من الأسباب المادية لتخليص هذه المياه من النجاسات .... لذلك فإن المجلس يرى طهارتها بعد تنقيتها التنقية الكاملة بحيث تعود إلى خلقتها الأولى لا فيها تغيُّر بنجاسةٍ في طعمٍ ولا لونٍ ولا ¬

(¬1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي (258) ,مجلة البحوث الإسلامية (العدد 49، ص 365 - 366).

ريحٍ، ويجوز استعمالها في إزالة الأحداث والأخباث، وتحصل الطهارة بها ومنها" (¬1). ويمكن إبراز أوجه تطبيق الاجتهاد في المناط على هذه المسألة فيما يأتي: أولاً: المناط الذي علَّق الشارع به حُكْم طهورية الماء هو أن يبقى الماء على أصل خلقته لم يتغيَّر طعمه أو لونه أو رائحته بنجاسة , فإذا تغيَّر لونه أو طعمه أو رائحته بنجاسةٍ صار نجساً, وقد ثبت هذا المناط بمسلك الإجماع. قال ابن المنذر (¬2): "أجمع أهل العلم على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة، فغيَّرت للماء طعماً أو لوناً أو رائحةً أنه نجسٌ ما دام كذلك" (¬3). وقال ابن حزم: " واتفقوا على أن الماء الذي حلَّت فيه نجاسةٌ فأحالت لونه أو طعمه فإنَّ شُربَه لغير ضرورةٍ والطهارة به على كلِّ حالٍ لايجوز" (¬4). وعلى هذا فالحُكْم على الماء بالطهارة أو النجاسة يدور مع الوصف الذي علَّق به الشارع ذلك الحُكْم وجوداً وعدماً، فإن بقي الماء على أصل خلقته لم يتغيَّر طعمه أو لونه أو رائحته بنجاسةٍ وقعت فيه فهو طاهر , وإن تغيَّرت أحد أوصافه بنجاسةٍ فهو نجس. ثانياً: لمَّا ثبت مناط الحُكْم في طهورية الماء ونجاسته بمسلك الإجماع اجتهد فقهاء العصر في تحقيق ذلك المناط في مياه الصرف الصحي. وانبنى على ذلك: القولُ بأن مياه الصرف الصحي قبل المعالجة تُعتَبَر ¬

(¬1) أبحاث هيئة كبار العلماء: (6/ 216 - 217). (¬2) هو: أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، فقيهٌ مجتهدٌ من الحفاظ، كان شيخ الحرم بمكة، من مؤلفاته: الإجماع (ط)، والإقناع (ط)، والأوسط في السنن والإجماع والاختلاف (ط)، وغيرها، توفي سنة (319 هـ). ينظر في ترجمته: سير أعلام النبلاء (4/ 490)، طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (2/ 126)، الأعلام للزركلي (5/ 294). (¬3) الإجماع: (35). (¬4) مراتب الإجماع: (1/ 19).

نجسةً؛ لأن الماء لم يبق على أصله, حيث اختلطت به النجاسات - وإن كانت نسبتها قليلة - فتغيَّر طعمه ولونه ورائحته بتلك النجاسات. و"كلُّ نجاسةٍ ينجس بها الماء يصير حكمه حكمها؛ لأن نجاسة الماء ناشئةٌ عن نجاسة الواقع، وفرعٌ عليها، والفرع يثبت له حُكْم أصله" (¬1). كما انبنى على ذلك أن مياه الصرف الصحي إذا تمت معالجتها وتنقيتها , وعاد الماء إلى أوصافه الطبيعية , ولا أثر للنجاسة في طعمه أو لونه أو رائحته , فإنه حينئذٍ يُعْتَبر طاهراً؛ لأن الماء إذا انفكت عنه آثار النجاسة فلم يبق لها أثرٌ في طعمه ولونه ورائحته عاد إلى أصله وهو الطهورية. والشرع قد رتَّب حُكْم النجاسة بناءً على الأوصاف والمعاني التي قامت بتلك الأعيان، فإذا انتفت هذه الأوصاف والمعاني عن تلك الأعيان فقد انتفى عنها حُكْم النجاسة، ولا عبرة بالأصل الذي استحالت منه (¬2). والإجماع منعقِدٌ على أن الخمر إذا تخلَّلَت بنفسها وانقلبت إلى خَلّ ,فإنها تَحِلُّ وتطهر بهذه الاستحالة (¬3). قال ابن القيم رحمه الله: "وعلى هذا الأصل فطهارة الخمر بالاستحالة (¬4) على وفق القياس، فإنها نجسةٌ لوصف الخبث، فإذا زال الموجِب زال الموجَب، وهذا أصل الشريعة في مصادرها ومواردها ... وعلى هذا فالقياس الصحيح تعدية ذلك إلى سائر النجاسات إذا استحالت (¬5) .... والثمار إذا ¬

(¬1) المغني: (1/ 46). (¬2) ينظر: بدائع الصنائع (1/ 85) , مجموع الفتاوى (21/ 70 - 71). (¬3) ينظر: مجموع الفتاوى (29/ 331). (¬4) الاستحالة تعني: انقلاب العين إلى عينٍ أخرى تغايرها في صفاتها وتتحول حينئذٍ المواد النجسة أو المتنجسة إلى مواد طاهرة. ينظر: حاشية ابن عابدين (1/ 316) , ثبت أعمال ندوة رؤية إسلامية لبعض المشاكل الصحية (1080) ضمن توصيات الندوة الفقهية الطبية الثامنة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت. (¬5) اختلف الفقهاء في طهارة النجاسات بالاستحالة على قولين: القول الأول: يطهر الشيء باستحالته عن النجاسة , وقد ذهب إلى ذلك: الحنفية, والمالكية ,ورواية عن الحنابلة, واختاره ابن تيمية. القول الثاني: النجاسات لاتطهر بالاستحالة , وقد ذهب إلى ذلك: أبويوسف من الحنفية, والشافعية, والحنابلة. ينظر: بدائع الصنائع (1/ 85) , المغني لابن قدامة (1/ 97) مغني المحتاج (1/ 236) , مجموع الفتاوى (21/ 70 - 71) , مواهب الجليل (1/ 97).

سُقيت بالماء النجس ثم سُقيت بالطاهر حلَّت لاستحالة وصف الخبث وتبدله بالطيب، وعكس هذا أن الطيب إذا استحال خبيثاً صار نجساً ,كالماء والطعام إذا استحال بولاً وعذرة، فكيف أثَّرت الاستحالة في انقلاب الطيب خبيثاً ولم تؤثر في انقلاب الخبيث طيباً؟ والله- تعالى- يخرج الطيب من الخبيث، والخبيث من الطيب، ولا عبرة بالأصل، بل بوصف الشيء في نفسه، ومن الممتنع بقاء حُكْم الخبث وقد زال اسمه ووصفه، والحُكْم تابعٌ للاسم والوصف، دائرٌ معه وجوداً وعدماً" (¬1). وقال ابن حزم: " إذا استحالت صفات عين النجس أو الحرام، فبطل عنه الاسم الذي به ورد ذلك الحُكْم فيه، وانتقل إلى اسمٍ آخر واردٍ على حلالٍ طاهر، فليس هو ذلك النجس ولا الحرام، بل قد صار شيئاً آخر ذا حُكْمٍ آخر ... والأحكام للأسماء , والأسماء تابعةٌ للصفات" (¬2). وتخريجاً على ذلك فقد أناط مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي جواز استخدام مياه الصرف الصحي بعد معالجتها وتنقيتها بالوصف الذي أناط الشارع به طهورية الماء حيث ورد في نصِّ القرار أن: ماء المجاري إذا نُقِّي بالطرق المذكورة أو ما يماثلها، ولم يبق للنجاسة أثرٌ في طعمه ولا في لونه ولا في ريحه صار طهوراً يجوز رفع الحدث وإزالة النجاسة به" (¬3). وكذا أعضاء هيئة كبار العلماء أناطوا جواز استخدام مياه الصرف الصحي بعد معالجتها وتنقيتها بالوصف الذي أناط الشارع به الحُكْم على الماء بالطهورية حيث ورد في نصِّ القرار أن: " المجلس يرى طهارتها بعد تنقيتها ¬

(¬1) إعلام الموقعين: (3/ 183). (¬2) المحلى: (1/ 143 - 144). (¬3) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي: (258).

التنقية الكاملة بحيث تعود إلى خلقتها الأولى لا يُرى فيها تغيرٌ بنجاسةٍ في طعمٍ ولا لونٍ ولا ريحٍ، ويجوز استعمالها في إزالة الأحداث والأخباث، وتحصل الطهارة بها ومنها" (¬1). ثالثا: الاجتهاد في تحقيق مناط النجاسة في مياه الصرف الصحي قبل المعالجة يثبت عادةً بمسلك الحسّ , حيث من رأى تلك المياه أدرك تغيُّر لونها , وكذا من اشتمَّ رائحتها شمَّ فيها رائحة النجاسة , وإذا تمَّ تحليل هذه المياه في المختبرات المختصة وُجِد أنها تحوي نسبةً كبيرةً من البكتيريا والكائنات الحية الدقيقة الضارَّة. وكذا الاجتهاد في تحقيق مناط الطهارة في مياه الصرف الصحي بعد معالجتها وتنقيتها فإنه يثبت بمسلك الحسّ أيضاً, حيث يُدرِك من رأى تلك المياه أو اشتمَّ رائحتها أنه لا أثر للنجاسة على لونها أو طعمها أو رائحتها , وأنها مياه طاهرةٌ نقيَّة. وقد جاء في نصّ قرار هيئة كبار العلماء أن: " المجلس يرى طهارتها بعد تنقيتها التنقية الكاملة بحيث تعود إلى خلقتها الأولى لا يُرى فيها تغيرٌ بنجاسةٍ في طعمٍ ولا لونٍ ولا ريح .. " (¬2). ومسلك الحسِّ من مسالك الاجتهاد في تحقيق المناط كما تقدم (¬3). كما يمكن إثبات ذلك -أيضاً- بمسلك قول أهل الخبرة من المختصِّين في تنقية المياة ومعالجتها , فإذا أثبتوا أن مياه الصرف الصحي بعد معالجتها بالطرق المذكورة أو مايماثلها تصير مياه نقيَّةً خاليةً من النجاسات والملوِثات اُعتُبِر حينئذٍ قولهم, وبُنيَ عليه القول بطهورية تلك المياة, وجواز استخدامها في رفع الأحداث وإزالة النجاسات. ومسلك قول أهل الخبرة من مسالك الاجتهاد في تحقيق المناط كما تقدم (¬4). ¬

(¬1) أبحاث هيئة كبار العلماء: (6/ 216 - 217). (¬2) أبحاث هيئة كبار العلماء: (6/ 216 - 217). (¬3) ينظر: (268 - 269). (¬4) ينظر: (269 - 272).

وقد بنى مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي قراره في جواز استخدام مياه الصرف الصحي بعد معالجتها وتنقيتها على قول أهل الخبرة , حيث ورد في القرار مانصُّه: "بعد مراجعة المختصِّين بالتنقية بالطرق الكيماوية، وما قرروه من أن التنقية تتم بإزالة النجاسة منه على مراحل أربعة، هي: الترسيب، والتهوية، وقتل الجراثيم، وتعقيمه بالكلور، بحيث لا يبقى للنجاسة أثرٌ في طعمه ولونه وريحه، وهم مسلمون عدول, وموثوقٌ بصدقهم وأمانتهم. . ." (¬1). وكذا أعضاء هيئة كبار العلماء بنوا قرارهم في جواز استخدام مياه الصرف الصحي بعد معالجتها وتنقيتها على قول أهل الخبرة , حيث ورد في القرار مانصُّه: " وحيث إن المياه المتنجسة يمكن التخلُّص من نجاستها بعدة وسائل، وحيث إن تنقيتها وتخليصها مما طرأ عليها من النجاسات بواسطة الطرق الفنية الحديثة لأعمال التنقية يُعْتَبر من أحسن وسائل الترشيح والتطهير، حيث يُبذَل كثيرٌ من الأسباب المادية لتخليص هذه المياة من النجاسات، كما يشهد بذلك ويقرِّرُه الخبراء المختصُّون بذلك , مما لا يتطرق الشكُّ إليهم في عملهم وخبرتهم وتجاربهم" (¬2). ¬

(¬1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي (258) , مجلة البحوث الإسلامية: (العدد 49، ص 365 - 366). (¬2) أبحاث هيئة كبار العلماء: (6/ 216 - 217).

المبحث الثاني تحديد أوقات الصلاة في البلدان الواقعة على خطوط العرض العالية.

المبحث الثاني تحديد أوقات الصلاة في البلدان الواقعة على خطوط العرض العالية (¬1). الصلاة هي عمود الدين , ودخول الوقت من آكد شروطها , وقد حدَّد الله مواقيت الصلوات المفروضة , ونَصَبَ علاماتٍ ظاهرةً على تلك المواقيت ,وجعلها سبباً في وجوبها ,وشرطاً لصحة أدائها (¬2) , ووردت أحاديث صحاحٌ في بيان أوائل وأواخر هذه الأوقات , ومن ذلك: ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمَّني جبريلُ عليه السلام عند البيت مرتين , فصلَّى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشِراك (¬3) ,ثم صلَّى العصر حين كان كلُّ شيءٍ مِثلَ ظِلِّه , ثم صلَّى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم , ثم صلَّى العشاء حين غاب الشفق , ثم صلَّى الفجر حين بَرَقَ الفجر وحَرُم الطعام على الصائم ,وصلَّى المرَّة الثانية الظهر حين كان ظِلُّ كلِّ شيءٍ مِثلَه لوقت العصر بالأمس , ثم صلَّى العصر حين كان ظِّلُّ ¬

(¬1) رسم العلماء خطوطًا وهمية طولية وعرضية على مجسم الكرة الأرضية في اتجاه شرقي غربي بمحاذاة خط الاستواء وتسمى خطوط العرض , وفي اتجاه شمالي جنوبي تبدأ من نقطة القطب الشمالي وتنتهي بنقطة القطب الجنوبي متعامدة على دوائر العرض وتسمى خطوط الطول, وهذه الخطوط تفيد في تحديد المواقع ومعرفة التوقيت في أي نقطة على سطح الأرض , وخطوط العرض العالية هي التي تتجاوز خط العرض 48 شمالاً أو جنوباً. ينظر: المرشد لاتجاهات القبلة، والمواقيت للصلاة (14). (¬2) ينظر: بدائع الصنائع (1/ 121) , المغني لابن قدامة (2/ 8) , مغني المحتاج (1/ 298) ,مواهب الجليل (1/ 381). (¬3) الشِراك هو: أحد سيور النعل التي تكون على وجهها. ينظر: المجموع للنووي (3/ 20).

كلِّ شيءٍ مثليه , ثم صلَّى المغرب لوقته الأول , ثم صلَّى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل, ثم صلَّى الصبح حين أسفرت الأرض , ثم التفَتَ إليَّ جبريلُ فقال: يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك , والوقت فيما بين هذين الوقتين" (¬1). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظِلُّ الرجل كطوله، ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفَرَّ الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يَغِبْ الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس فأمسِك عن الصلاة، فإنها تطلع بين قرني شيطان» (¬2). وقد حدَّد المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته التاسعة العلامات الفلكية للأوقات الشرعيَّة للصلوات الخمس المفروضة, وذلك بناءً على ماثبت شرعاً في تحديد مواقيت الصلاة , وهي على النحو الآتي (¬3): - الفجر: ويوافق بزوغ أول خيطٍ من النور الأبيض وانتشاره عرضًا في الأفق (الفجر الصادق) , ويوافق الزاوية (18) درجة تحت الأفق الشرقي. 2 - الشروق: ويوافق ابتداء ظهور الحافة العليا لقرص الشمس من تحت الأفق الشرقي, ويُقَدَّر بزاويةٍ تبلغ (50) دقيقة زاوية تحت الأفق. 3 - الظهر: ويوافق عبور مركز قرص الشمس لدائرة الزوال، ويمثل أعلى ارتفاع يومي للشمس يقابله أقصر ظل للأجسام الرأسية. 4 - العصر: ويوافق موقع الشمس الذي يصبح معه ظلُّ الشيء مساويًا ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في "جامعه", أبواب الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, باب ما جاء في مواقيت ... الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم, برقم (149) , وقال: حديثٌ حسنٌ صحيح، وصححه الألباني في ... ... " إرواء الغليل " (1/ 268). (¬2) أخرجه مسلم في " صحيحه" , كتاب المساجد, باب أوقات الصلوات الخمس , برقم (602). (¬3) ينظر: قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي (200 - 201) , القرار السادس في الدورة التاسعة.

لطوله مضافًا إليه في الزوال، وزاوية هذا الموقع متغيرة بتغير الزمان والمكان. 5 - المغرب: ويوافق اختفاء كامل قرص الشمس تحت الأفق الغربي، وتُقدَّر زاويته بـ (50) دقيقة زاوية تحت الأفق. 6 - العشاء: ويوافق غياب الشفق الأحمر حيث تقع الشمس على زاوية قدرها (17) تحت الأفق الغربي. وهذه العلامات الفلكية لأوقات الصلوات تظهر غالباً في البلدان التي يتمايز فيها الليل والنهار كما في أغلب بلدان العالم، ولذلك أنيط بها دخول وقت الصلاة. أما المناطق القطبية الشمالية والجنوبية فقد يستمر فيها النهار ستة أشهر، ويستمر فيها الليل ستة أشهرٍ أخرى، فلا تطلع فيها الشمس إطلاقاً، أو لا تغيب، أو يكون الليل أو النهار قصيراً جداً, أو يتداخل ويتَّحِد فيها وقتا العشاء والفجر في بعض أشهر السَّنَة، وهي البلاد التي تتجاوز خط العرض 48 شمالاً أو جنوباً , وتسمى: " المناطق ذات الدرجات العالية حسب خطوط العرض", ويكون طول النَّهار وقصره أكثر كلَّما ابتعدنا شمالاً أو جنوباً عن خط الاستواء. (¬1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " فكلما كان البلد أدخل في الشمال؛ كان ليله في الشتاء أطول، وفي الصيف أقصر، وما كان قريباً من خط الاستواء يكون ليله في الشتاء أقصر من ليل ذاك، وليله في الصيف أطول من ليل ذاك؛ فيكون ليلهم ونهارهم أقرب إلى التساوي" (¬2). وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن تحديد مواقيت الصلوات الخمس المفروضة في تلك المناطق التي قد تغيب فيها بعض العلامات الفلكية لشهرٍ أو أكثر , وقد تعدم في بعضها كلياً؟ لقد بحث مجلس المجمع الفقهي الإسلامي هذا الموضوع في دورته ¬

(¬1) ينظر: المرشد لاتجاهات القبلة والمواقيت للصلاة (68). (¬2) مجموع الفتاوى: (5/ 475).

التاسعة وأصدر قراراً بهذا الشأن، وهو على النحو الآتي (¬1): تقسيم المناطق ذات الدرجات العالية حسب خطوط العرض إلى ثلاثة أقسام: المنطقة الأولى: وهي التي تقع مابين خطي العرض (45) درجةً و (48) درجةً شمالاً وجنوبًا، وتتميز فيها العلامات الفلكية الظاهرة للأوقات في أربعٍ وعشرين ساعة، طالت الأوقات أوقصُرت. والحُكْم فيها: أن يلتزم أهلها في الصلاة بأوقاتها الشرعية، عملاً بالنصوص الشرعيَّة الواردة في تحديد أوقات الصلاة , حيث تشملهم طالت الأوقات أو قصرت. المنطقة الثانية: وتقع مابين خطي عرض (48) درجةً و (66) درجةً شمالاً وجنوبًا، وتعدم فيها بعض العلامات الفلكية الظاهرة للأوقات في عددٍ من أيام السنة، كأنَّ لا يغيب الشفق الذي به يبتدئ العشاء، وتمتد نهاية وقت المغرب حتى يتداخل مع الفجر. والحُكْم فيها أن يعين وقت صلاة العشاء والفجر بالقياس النسبي على نظيريهما، في ليل أقرب مكانٍ تتميز فيه علامات وقتي العشاء والفجر، ويقترح مجلس المجمع خط (45) درجة، باعتباره أقرب الأماكن التي تتيسر فيها العبادة أو التمييز، فإذا كان العشاء يبدأ مثلاً بعد ثلث الليل في خط عرض (45) درجة يبدأ كذلك بالنسبة إلى ليل خط عرض المكان المراد تعيين الوقت فيه، ومثل هذا يقال في الفجر. المنطقة الثالثة: وتقع فوق خط عرض (66) درجةً شمالاً وجنوبًا إلى القطبين، وتنعدم فيها العلامات الفلكية الظاهرة للأوقات في فترةٍ طويلةٍ من السُّنَة نهارًا أو ليلاً. والحُكْم فيها: أن تُقَدَّر جميع الأوقات بالقياس الزمني على نظائرها في ¬

(¬1) ينظر: قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي (201 - 202) , القرار السادس في الدورة التاسعة.

خط عرض (45) درجة، وذلك بأن تقسم الأربع والعشرون ساعةً في المنطقة من (66) درجةً إلى القطبين، كما تقسم الأوقات الموجودة في خط عرض (45) درجةً يساوي (8) ساعات، فإذا كانت الشمس تغرب في الساعة الثامنة، وكان العشاء في الساعة الحادية عشرة جُعِل نظير ذلك في البلد المراد تعيين الوقت فيه، وإذا كان وقت الفجر في خط عرض (45) درجة في الساعة الثانية صباحًا كان الفجر كذلك في البلد المراد تعيين الوقت فيه، وبُدِئ الصوم منه حتى وقت المغرب المُقدَّر. ثم بحث مجلس المجمع الفقهي الإسلامي هذا الموضوع مرةً أخرى في دورته التاسعة عشر , وأصدر فيها قراراً يؤكد القرار السابق مع زيادةٍ توضيحيةٍ تتضمن الإشارة إلى رخصة الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء لمن كان يشُقُّ عليه انتظار دخول وقت العشاء في المناطق التي تظهر فيها العلامات الفلكية لكن يتأخر غياب الشفق فيها كثيراً. وقد جاء في القرار مانصُّه: " إذا كانت تظهر علامات أوقات الصلاة، لكن يتأخر غياب الشفق الذي يدخل به وقت صلاة العشاء كثيراً، فيرى المجمع وجوب أداء صلاة العشاء في وقتها المحدَّد شرعاً، لكن من كان يشُقُّ عليه الانتظار وأداؤها في وقتها - كالطلاب والموظفين والعُمَّال أيام أعمالهم - فله الجمع. . . على ألا يكون الجمع أصلاً لجميع الناس في تلك البلاد، طيلة هذه الفترة " (¬1). كما أصدرت هيئة كبار العلماء بالسعودية في دورتها الثانية عشرة قراراً في هذا الموضوع يتوافق في مضمونه مع قرارات المجمع الفقهي الإسلامي المتعلقة بذلك, حيث ورد في القرار الصادر عن هيئة كبار العلماء أن " من كان يقيم في بلادٍ يتمايز فيها الليل من النهار بطلوع فجرٍ وغروب شمس، إلا أن نهارها يطول جداً في الصيف ويقصُر في الشتاء، وجب عليه أن يصلي ¬

(¬1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي, الدورة التاسعة عشر, القرار الثاني: (ص 12).

الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة شرعًا .. " (¬1). و" من كان يقيم في بلادٍ لا تغيب عنها الشمس صيفًاً، ولا تطلع فيها الشمس شتاءً، أو في بلادٍ يستمر نهارها إلى ستة أشهر، ويستمر ليلها ستة أشهر مثلاً، وجب عليهم أن يصلوا الصلوات الخمس في كلِّ أربعٍ وعشرين ساعة، وأن يقدروا لها أوقاتها ويحددوها، معتمدين في ذلك على أقرب بلادٍ إليهم تتمايز فيها أوقات الصلوات المفروضة بعضها من بعض" (¬2). ويمكن إبراز أوجه تطبيق الاجتهاد في المناط على هذه المسألة فيما يأتي: أولاً: النصُّ من أهم المسالك الدالة على مناط الحُكْم كما تقدم (¬3) ,ومناط الحُكْم في هذه المسألة ثبت بنصّ السُّنَّة, حيث إن مناط وجوب الصلاة وهو دخول الوقت المُحَدَّد قد دلَّت عليه صراحةً أحاديث كثيرة , وقد تقدم ذكر بعضها (¬4). ثانياً: قول أهل الخبرة من أهم مسالك تحقيق المناط كما تقدم (¬5) , وأهل الخبرة في هذه المسألة هم علماء الفلك. وقد أصدر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي قراره المتعلِّق بتحديد العلامات الفلكية لأوقات الصلوات, وتحويل هذه العلامات إلي حساباتٍ فلكيةٍ متصلةٍ بموقع الشمس في السماء فوق الأفق أو تحته ,وتحديد أوقات الصلوات في البلدان الواقعة على خطوط العرض العالية, بناءً على قول أهل الخبرة في هذا الشأن , حيث ورد في القرار مانصُّه: " ... وبناءً على ما أفادت به لجنة الخبراء الفلكيين، قرر المجلس في هذا الموضوع ما يلي: ¬

(¬1) مجلة البحوث الإسلامية: (25/ 31). (¬2) مجلة البحوث الإسلامية: (25/ 32 - 33). (¬3) ينظر: (262 - 264). (¬4) ينظر: (424 - 425). (¬5) ينظر: (269 - 272).

دفعًا للاضطرابات والاختلافات الناتجة عن تعدد طرق الحساب، يُحدَّد لكلِّ وقتٍ من أوقات الصلاة العلامات الفلكية التي تتفق مع ما أشارت الشريعة إليه، ومع ما أوضحه علماء الميقات الشرعيون في تحويل هذه العلامات إلي حساباتٍ فلكيةٍ متصلةٍ بموقع الشمس في السماء فوق الأفق أو تحته كما يلي: 1 - الفجر: ويوافق بزوغ أول خيطٍ من النور الأبيض وانتشاره عرضًا في الأفق (الفجر الصادق) , ويوافق الزاوية (18) درجةً تحت الأفق الشرقي. 2 - الشروق: ويوافق ابتداء ظهور الحافة العليا لقرص الشمس من تحت الأفق الشرقي، ويُقدَّر بزاويةٍ تبلغ (50) دقيقةً زاوية تحت الأفق. 3 - الظهر: ويوافق عبور مركز قرص الشمس لدائرة الزوال ويمثل أعلى ارتفاعٍ يومي للشمس يقابله أقصر ظل للأجسام الرأسية. 4 - العصر: ويوافق موقع الشمس الذي يصبح معه ظلُّ الشيء مساويًا لطوله مضافًا إليه في الزوال، وزاوية هذا الموقع متغيرةٌ بتغير الزمان والمكان. 5 - المغرب: ويوافق اختفاء كامل قرص الشمس تحت الأفق الغربي، وتقدر زاويته بـ (50) دقيقةً زاوية تحت الأفق. 6 - العشاء: ويوافق غياب الشفق الأحمر حيث تقع الشمس على زاوية قدرها (17) تحت الأفق الغربي" (¬1). ثالثاً: الحُكْم يدور مع مناطه وجوداً وعدماً , فوجوب صلاةٍ بعينها يدور مع دخول وقتها المُحَدَّد وجوداً وعدماً. وقد اعتبر المجمع الفقهي الإسلامي ذلك في الحُكْم المتعلِّق بالمناطق التي تقع مابين خطي العرض (45) درجة و (48) درجة شمالاً وجنوبًا، والتي تتميز فيها العلامات الظاهرية للأوقات في أربعٍ وعشرين ساعة، طالت الأوقات أوقصرت , فالحُكْم فيها أن يلتزم أهلها في الصلاة بأوقاتها الشرعيَّة حسب علاماتها الفلكية الظاهرة؛ عملاً بالنصوص الشرعيَّة التي تشمل المناطق ¬

(¬1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي: (200 - 201).

التي تقصر فيها تلك الأوقات أو تطول, والحُكْم يدور مع مناطه وجوداً وعدماً (¬1). كما ورد في نصِّ القرار الصادر عن هيئة كبار العلماء في دورته الثانية عشرة بخصوص هذه المسألة أن "من كان يقيم في بلادٍ يتمايز فيها الليل من النهار بطلوع فجرٍ وغروب شمسٍ، إلا أن نهارها يطول جداً في الصيف ويقصر في الشتاء، وجب عليه أن يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة شرعًا" (¬2). وذلك لعموم الأحاديث التي وردت في تحديد أوقات الصلوات الخمس قولاً وفعلاً، ولم تُفَرِّق بين طول النهار وقِصَرِه، وطول الليل وقِصَرِه، ما دامت أوقات الصلوات متمايزةً بالعلامات التي بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬3). أما المناطق التي تقع مابين خطي عرض (48) درجةً و (66) درجةً شمالاً وجنوبًا، وتعدم فيها بعض العلامات الفلكية للأوقات في عددٍ من أيام السَّنَة، كأن لا يغيب الشفق الذي به يبتدئ وقت العشاء ,ويمتد آخر وقت المغرب حتى يتداخل مع الفجر, وكذا المناطق التي تقع فوق خط عرض (66) درجةً شمالاً وجنوبًا إلى القطبين، وتنعدم فيها العلامات الظاهرية للأوقات في فترةٍ طويلة من السَّنَة نهارًا أو ليلاً , فإنه يُصار حينئذٍ إلى تحديد أوقات الصلوات فيها بناءً على العلامات الفلكية الظاهرة في أقرب البلدان إلى تلك المناطق؛ لأن تلك العلامات هي المعرِّفة لمناط الحُكْم وهو دخول الوقت , إما حقيقةً في حال وجودها كما في أغلب بلدان العالم, أو تقديراً في حال عدمها أو عدم بعضها كما في البلدان القطبية الشمالية والجنوبية, فيكون من باب إعطاء المعدوم حُكْم الموجود (¬4). ¬

(¬1) ينظر: قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي (201 - 202) , وقد تم التأكيد على ذلك أيضاً في الدورة التاسعة عشرة لمجلس المجمع الفقهي الإسلامي في القرار الثاني. (¬2) مجلة البحوث الإسلامية (25/ 31). (¬3) ينظر: مجلة البحوث الإسلامية (25/ 31 - 32). (¬4) ينظر: قواعد الأحكام لابن عبدالسلام (2/ 205).

قال ابن الهمام: "ولا يرتاب متأملٌ في ثبوت الفرق بين عدم محل الفرض وبين عدم سببه الجعلي الذي جُعِل علامةً على الوجوب الخفي الثابت في نفس الأمر، وجواز تعدُّد المُعَرِّفات للشيء، فانتفاء الوقت انتفاءٌ للمُعَرِّف، وانتفاء الدليل على الشيء لا يستلزم انتفاءه لجواز دليلٍ آخر , وقد وُجِد ,وهو ما تواطأت عليه أخبار الإسراء من فرض الله الصلاة خمسًا بعدما أمروا أولاً بخمسين، ثم استقر الأمر على الخمس شرعًا عامًّا لأهل الآفاق، لا تفصيل فيه بين أهل قُطْرٍ وقُطْر" (¬1). ولما كانت الصلاة واجبةً على المكلَّف في كلِّ مكان , ولاتسقط عنه بحالٍ من الأحوال إلا إذا رُفِع عنه التكليف بها , فقد شمل وجوبها كلَّ مكلَّفٍ سواءً كان في البلدان التي تظهر فيها العلامات الفلكية الدالة على دخول الوقت , أوفي البلدان التي تعدم فيها بعض تلك العلامات أو كلها في بعض الأيام أو طيلة عدة أشهر. وإذا تقرر وجوب الصلاة على المكلَّف بها في كلِّ مكانٍ فإنه يلزم تقدير وجود العلامات الفلكية للأوقات الشرعيَّة في البلدان التي تعدم فيها تلك العلامات أو بعضها. ويؤيد القول بالتقدير أنه لما سَأَل الصحابةُ رضي الله عنهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن مدة لبث الدجال في الأرض , قال عليه الصلاة والسلام": أربعون يومًا، يومٌ كسنة، ويومٌ كشهر، ويومٌ كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، فقيل: يا رسول الله، اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره" (¬2). ومعنى "اقدروا له قدره" أي: " أنه إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون بينه وبين الظهر كلَّ يومٍ فصلوا الظهر ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر، فصلوا العصر، فإذا مضى بعدها قدر ما يكون بينها وبين المغرب فصلوا المغرب، وكذا العشاء والصبح، وهكذا إلى أن ينقضي ذلك ¬

(¬1) فتح القدير: (1/ 226). (¬2) أخرجه مسلم في"صحيحه" , كتاب الفتن , باب ذكر الدجال وصفته وما معه, رقم (2937).

اليوم، وقد وقع فيه صلوات سنةٍ كلها فرائض مؤداة في وقتها، وأما اليوم الثاني الذي كشهر والثالث الذي كجمعة فقياس اليوم الأول أن يُقدَّر لهما كاليوم الأول على ما ذكرناه" (¬1). وتقدير وجود علامات الوقت بناءً على ظهور العلامات الفلكية في أقرب البلدان إلى تلك المناطق أولى من غيره؛ لأنه لما تعذَّر اعتبارها بنفسها اعتُبرت بأقرب الأماكن شبهاً بها مما يتمايز فيها الليل والنهار , وتظهر فيها العلامات الفلكية لأوقات الصلوات (¬2). قال النووي: "أما الساكنون بناحيةٍ تقصر لياليهم، ولا يغيب عنهم الشفق، فيصلون العشاء إذا مضى من الزمان قدر ما يغيب فيه الشفق في أقرب البلاد إليهم" (¬3). رابعاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق مناطات الأحكام مراعاة أحوال المكلَّفين , وقد راعى مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي الأحوال التي تصحبها مشقةٌ تلحق بالمكلَّفين في البلدان التي تظهر فيها العلامات الفلكية ولكنها تتأخر , فنبَّه المجلس في قرارٍ توضيحي أصدره في الدورة التاسعة عشر وجاء فيه مانصُّه: " إذا كانت تظهر علامات أوقات الصلاة، لكن يتأخر غياب الشفق الذي يدخل به وقت صلاة العشاء كثيراً، فيرى المجمع وجوب أداء صلاة العشاء في وقتها المحدَّد شرعاً، لكن من كان يشُقُّ عليه الانتظار وأداؤها في وقتها - كالطلاب والموظفين والعُمَّال أيام أعمالهم - فله الجمع عملاً بالنصوص الواردة في رفع الحرج عن هذه الأمة؛ ومن ذلك ما جاء في صحيح مسلم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جمع رسول الله - بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوفٍ ولا مطر، فسئل ابن عباس عن ذلك فقال: أراد ألا يحرج أمته: على ألا يكون ¬

(¬1) شرح صحيح مسلم للنووي: (18/ 66). (¬2) ينظر: مواهب الجليل (1/ 388) ,مجموع فتاوى الشيخ العثيمين (12/ 198). (¬3) روضة الطالبين: (1/ 182).

الجمع أصلاً لجميع الناس في تلك البلاد، طيلة هذه الفترة، لأن ذلك من شأنه تحويل رخصة الجمع إلى عزيمة، ويرى المجمع أنه يجوز الأخذ بالتقدير النسبي في هذه الحال من باب أولى" (¬1). خامساً: ردَّ المجلسُ الاجتهادَ في تحقيق مناط المشقة في البلدان التي تظهر فيها العلامات الفلكية ولكنها تتأخر إلى مسلك العرف , حيث جاء في القرار مانصُّه: " وأما الضابط لهذه المشقة فمردُّه إلى العرف، وهو مما يختلف باختلاف الأشخاص والأماكن والأحوال" (¬2). والعرف من أهم مسالك الاجتهاد في تحقيق المناط كما تقدم (¬3). ¬

(¬1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي, الدورة التاسعة عشر , القرار الثاني: (ص 12). (¬2) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي ,الدورة التاسعة عشر, القرار الثاني: (ص 12). (¬3) ينظر: (266 - 269).

المبحث الثالث زكاة أسهم الشركات

المبحث الثالث زكاة أسهم الشركات السَّهم في اللغة هو: الحظُّ والنصيب (¬1). وفي الاصطلاح: حصةٌ شائعةٌ في رأس مال شركةٍ مساهِمة (¬2). ويُطلَق السَّهم أيضاً على: الصك الذي يمثل نصيباً عينياً أو نقدياً لمالكه في رأس مال الشركة المساهِمة، ويكون قابلاً للتداول، أي: قابلاً للبيع والشراء (¬3). والشركة المساهِمة هي: الشركة التي يُقسَم رأسُ المال فيها إلى أجزاءٍ متساوية القيمة، وكلُّ جزءٍ منها يُسمَّى سهمًا، وتكون قابلةً للتداول، ولا يُسأل الشركاء عن خسائر الشركة إلا بمقدار الأسهم التي يملكونها (¬4). ومن أهم خصائص الأسهم: تساوي قيمة السَّهم في الشركة المساهِمة , وتساوى مسؤولية الشركاء , وقابلية السَّهم للتداول وعدم قابلية السَّهم للتجزئة , (¬5). وإذا كانت أسهم الشركات بهذه الخصائص: فهل تجب فيها الزكاة؟ ¬

(¬1) ينظر: الصحاح (5/ 1956) ,معجم مقاييس اللغة (3/ 111) ,لسان العرب (12/ 308) ,تاج العروس (32/ 440) (¬2) ينظر: الأسهم والسندات (47) , موسوعة المصطلحات الاقتصادية والإحصائية (775). (¬3) ينظر: الأسهم والسندات (47) , موسوعة المصطلحات الاقتصادية والإحصائية (775). (¬4) ينظر: القانون التجاري السعودي للجبر (289) , شركة المساهمة في النظام السعودي للمرزوقي (259). (¬5) ينظر: الأسهم والسندات (61)، أحكام التعامل في الأسواق المالية (1/ 166).

وإذا وجبت الزكاة فيها: فهل تجب على الشركة أو على المساهِمين؟ وكيف يتمُّ حينئذٍ إخراج الزكاة في أسهم تلك الشركات؟ لقد بحث مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذا الموضوع في دورته الرابعة , وأصدر قراراً بهذا الشأن ما نصُّه: " أولاً: تجب زكاة الأسهم على أصحابها، وتخرجها إدارة الشركة نيابةً عنهم إذا نُصَّ في نظامها الأساسي على ذلك، أو صدر به قرارٌ من الجمعية العمومية، أو كان قانون الدولة يلزم الشركات بإخراج الزكاة، أو حصل تفويضٌ من صاحب الأسهم لإخراج إدارة الشركة زكاة أسهمه. ثانياً: تُخْرِج إدارةُ الشركة زكاةَ الأسهم كما يُخْرِج الشخصُ الطبيعي زكاةَ أمواله، بمعنى أن تُعْتبَر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخصٍ واحد، وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة، ومن حيث النصاب، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي، وذلك أخذاً بمبدأ الخلطة عند من عمَّمَه من الفقهاء في جميع الأموال. ويطرح نصيب الأسهم التي لا تجب فيها الزكاة، ومنها أسهم الخزانة العامة، وأسهم الوقف الخيري، وأسهم الجهات الخيرية، وكذلك أسهم غير المسلمين. ثالثاً: إذا لم تزكِّ الشركة أموالها لأي سببٍ من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم، فإذا استطاع المساهِم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة لو زكَّت الشركة أموالها على النحو المشار إليه، زكَّى أسهمه على هذا الاعتبار؛ لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم. وإن لم يستطع المساهِم معرفة ذلك: فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي، وليس بقصد التجارة؛ فإنه يزكيها زكاة المستغلات، وتمشياً مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع، وهي ربع العشر بعد

دوران الحول من يوم قبض الريع مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع. وإن كان المساهِم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة، زكَّاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في مِلْكِه، زكَّى قيمتها السوقية، وإذا لم يكن لها سوقٌ، زكَّى قيمتها بتقويم أهل الخبرة، فيخرج ربع العشر 2.5% من تلك القيمة، ومن الربح إذا كان للأسهم ربح. رابعاً: إذا باع المساهِم أسهمه في أثناء الحول ضمَّ ثمنها إلى ماله وزكَّاه معه عندما يجيء حول زكاته، أما المشتري فيزكي الأسهم التي اشتراها على النحو السابق" (¬1). ويمكن إبراز أوجه تطبيق الاجتهاد في المناط على هذه المسألة فيما يأتي: أولاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط اعتبار مقاصد المكلَّفين , فاختلاف مقصود المكلَّف له أثرٌ في اختلاف الحُكْم , كما تقدم (¬2). وقد راعى مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذا الضابط في تحقيق مناط مايجب من الزكاة في الأسهم في حال قصد ريعها السنوي, وفي حال قصد المتاجرة بها في أسواق المال؛ لاختلاف الحُكْم في الحالتين بناءً على اختلاف قصد المكلَّف. حيث جاء في القرار ما نصُّه: "فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي، وليس بقصد التجارة؛ فإنه يزكيها زكاة المستغلات. . . وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة، زكَّاها زكاة عروض التجارة. ثانياً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط مراعاة اختلاف أحوال ¬

(¬1) قرارات مجمع الفقه الإسلامي في دورته الرابعة بجدة في المملكة العربية السعودية من (18 - 23) جمادي الآخرة 1408 هـ، قرار رقم (28) بشأن زكاة الأسهم في الشركات (¬2) ينظر: (241 - 244).

المكلَّفين , فاختلاف أحوالهم التي تصاحب محل الحُكْم له أثرٌ كبيرٌ في اختلاف الأحكام التي تجري عليهم كماتقدم بيانه (¬1). وقد راعى مجلس مجمع الفقه الإسلامي هذا الضابط في تحقيق مناط مايجب من الزكاة في الأسهم إذا لم تخرج الشركة زكاة أموالها , وذلك في حال استطاعة المساهِم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخصّ أسهمه من الزكاة , أوفي حال عدم استطاعته معرفة ذلك؛ لاختلاف الحُكْم في الحالتين بناءً على الاستطاعة وعدمها. حيث جاء في القرار ما نصُّه: "إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سببٍ من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم. وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك: فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي، وليس بقصد التجارة؛ فإنه يزكيها زكاة المستغلات .. ". ثالثاً: النصُّ من أهم المسالك الدالة على مناط الحُكْم كما تقدم (¬2) , وقد ثبت بالنصِّ أن مناط الحُكْم في وجوب زكاة الأموال غير النقدية هو ماكان يُعَدُّ للبيع والشراء بقصد الربح (¬3). قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]. قال الجصَّاص: "عموم هذه الآية يوجب الصدقة في سائر الأموال; لأن قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} ينتظمها، وإن كان غير مكتَفٍ بنفسه في المقدار ¬

(¬1) ينظر: (229 - 235). (¬2) ينظر: (262 - 264). (¬3) وهو مايُسمى ب"عروض التجارة" , مثل: البضائع, والآلات ,والسيارات، والعقارات وغيرها التي تشترى بنية الاتجار بها. ينظر: المغني لابن قدامة (4/ 249) , بدائع الصنائع (2/ 20 - 21) , مغني المحتاج (2/ 104) , التاج والإكليل لمختصر خليل (3/ 153 - 154).

الواجب فيها، فهو عمومٌ في أصناف الأموال , مُجمَلٌ في المقدار الواجب فيها، فهو مفتقرٌ إلى البيان , ولما ورد البيان من النبي صلى الله عليه وسلم بذكر مقادير الواجبات فيها صحَّ الاحتجاج بعمومها في كلِّ مالٍ اختلفنا في إيجاب الحق فيه، نحو أموال التجارة" (¬1). وقال ابن العربي: " قال علماؤنا: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} [البقرة: 267] يعني: التجارة: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] يعني: النبات, وتحقيق هذا أن الاكتساب على قسمين: منها ما يكون من بطن الأرض وهو النباتات كلها، ومنها ما يكون من المحاولة على الأرض كالتجارة والنتاج, والمغاورة في بلاد العدو، والاصطياد, فأمرَ اللهُ تعالى الأغنياءَ من عباده بأن يؤتوا الفقراء مما آتاهم على الوجه الذي فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم" (¬2). وقال الفخر الرازي: "ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كلِّ مالٍ يكتسبه الإنسان، فيدخل فيه زكاة التجارة، وزكاة الذهب والفضة، وزكاة النَّعم، لأن ذلك مما يوصف بأنه مُكتسَب" (¬3). وعن سمرة بن جندب (¬4) رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نُعِدُّ للبيع (¬5). وقد استدلَّ العلماء بهذا الحديث على "أن المال الذي يُعَدُّ للتجارة إذا ¬

(¬1) أحكام القرآن: (1/ 554). (¬2) أحكام القرآن لابن العربي: (1/ 313). (¬3) مفاتيح الغيب: (7/ 53). (¬4) هو: سمرة بن جندب بن هلال الفزاري، صحابيٌ جليل، من الشجعان القادة، نشأ في المدينة، ونزل ... البصرة، توفي سنة (60 هـ). ينظر في ترجمته: الاستيعاب (2/ 653)، الإصابة (3/ 150)، الأعلام للزركلي (3/ 139). (¬5) أخرجه أبوداود في "سننه",باب العروض اذا كانت للتجارة هل فيها من زكاة؟ برقم (5621) , والبيهقي في "السنن الكبرى ",كتاب الزكاة, باب زكاة التجارة, برقم (7388)، وحسَّنه ابن عبدالبر في التمهيد (8/ 488)

بلغت قيمته نصاباً تجب فيه الزكاة من أي صنفٍ كان" (¬1). وقوله: "للبيع" أي: للتجارة , وقد خُصّ بالذكر لأنه الأغلب , حيث إن أعمّ الأموال هي أموال التجارة (¬2). وعمومات الكتاب والسُّنَّة التي ورد فيها الأمر بزكاة المال لاتُفرِّق بين مالٍ ومال, إلا ماخُصَّ بدليل , فيشمل ذلك أموال التجارة وغيرها إلا ما كان للقُنية والانتفاع , حيث لاتجب فيها الزكاة (¬3). فثبت بنصِّ الكتاب والسُّنَّة أن مناط وجوب الزكاة في غير النقدين هو ما ماكان يُعِدُّه مالكُه للمتاجرة به قصد التربُّح منه. بل إن المنذر حكى الإجماع على وجوب الزكاة في ذلك فقال: " وأجمعوا على أن في العروض التي تُدار للتجارة الزكاة إذا حال عليها الحول" (¬4). ولهذا نصَّ الشافعية (¬5) والحنابلة (¬6) على اشتراط قصد المتاجرة عند تملُّك العروض؛ لأن الأصل تملُّك العروض للقنية والانتفاع , فلايصار للتجارة إلا بنية التجارة مع استصحابها إلى تمام الحول. وقد اجتهد مجلس مجمع الفقه الإسلامي في تحقيق مناط وجوب زكاة العروض في الأسهم المُتاجَر بها في الأسواق المالية , وهي تلك الحالة التي يقصد فيها مالك الأسهم التربُّح منها بالبيع والشراء , ولايقصد ريعها السنوي. وبناءً على ذلك صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي في تلك الحالة بوجوب إخراج زكاة الأسهم باعتبارها من عروض التجارة؛ لأن مالكها قصد التربُّح منها بالمتاجرة فيها. ¬

(¬1) شرح سنن أبي داود: (6/ 219). (¬2) ينظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود (4/ 297) , مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (2/ 96). (¬3) ينظر: بدائع الصنائع (2/ 20) ,عارضة الأحوذي لابن العربي (3/ 104). (¬4) الإجماع: (48). (¬5) ينظر: المجموع (6/ 48 - 49) , مغني المحتاج (2/ 106). (¬6) ينظر: المغني لابن قدامة (4/ 251) , شرح منتهى الإرادات (1/ 435).

وقد ورد في القرار مانصُّه: " وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة، زكَّاها زكاة عروض التجارة ". رابعاً: من مسالك الاجتهاد في تحقيق المناط الاعتماد على قول أهل الخبرة فيما يحتاج إلى تقويمٍ وتقدير , كما تقدم في مسالك تحقيق المناط (¬1). وقد ردَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي تقويم الأسهم المُعَدَّة للمتاجرة التي تجب فيها زكاة عروض التجارة إلى أهل الخبرة بقيم الأسهم في أسواق المال, وذلك في حال ما إذا لم يكن لتلك الأسهم سوقٌ يُرجَع إليه في قيمتها. حيث جاء في القرار ما نصُّه: " وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة، زكَّاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه، زكَّى قيمتها السوقية، وإذا لم يكن لها سوقٌ زكَّى قيمتها بتقويم أهل الخبرة .. ". خامساً: ثبت بالنصِّ أن الخلطة تؤثر في زكاة بهيمة الأنعام، وهي: الإبل، والبقر، والغنم، فتجعل مالَ الرجلين أو أكثر كمالِ الرجل الواحد في الزكاة, سواءٌ كانت خلطة أعيان، وهي أن تكون الماشية مشتركةً بينهما، لكلِّ واحدٍ منهما نصيبٌ مشاع, أو خلطة أوصاف، وهي أن يكون مالُ كلِّ واحدٍ منهما مميزاً، فخلطاه، واشتركا في الأوصاف كالمسرح، والمبيت، والمحلب، والمشرب، والفحل (¬2). فإن اختلط جماعةٌ في خمسٍ من الإبل, أو ثلاثين من البقر، أو أربعين من الغنم، وكان مسرحهم، ومبيتهم، ومحلبهم، ومشربهم , وفحلهم, واحداً أُخِذت منهم الزكاة، وتراجعوا فيما بينهم بالحِصص (¬3). ¬

(¬1) ينظر: (269 - 272). (¬2) وقد ذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء مع اختلافٍ بينهم في شروط وجوب الزكاة في المال المختلط ,وذهب الحنفية إلى القول بعدم تأثير الخلطة في الزكاة. ينظر: روضة الطالبين (2/ 170) , المغني لابن قدامة (4/ 51 - 52) , مواهب الجليل (2/ 266) , حاشية ابن عابدين (2/ 304). (¬3) ينظر: المراجع السابقة.

قال صلى الله عليه وسلم: «لا يُجْمَع بين متفرق، ولا يُفْرَّق بين مُجْتَمع، خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية» (¬1). ومعناه: أن يكون النفر الثلاثة لكلِّ واحدٍ منهم -مثلاً- أربعون شاة وجبت فيها الزكاة فيجمعونها حتى لا تجب عليهم كلهم فيها إلا شاةٌ واحدة , أو يكون للخليطين مائتا شاةٍ وشاتان ,فيكون عليهما فيها ثلاث شياه, فيفرقونها حتى لا يكون على كلِّ واحدٍ إلا شاةٌ واحدة (¬2). و" هو خطابٌ لربِّ المال من جهة , وللساعي من جهة , فأمَرَ كلَّ واحدٍ منهم أن لا يُحدِث شيئاً من الجمع والتفريق خشية الصدقة , فربُّ المال يخشى أن تكثر الصدقة فيجمع , أو يفرِّق لتَقِلّ , والساعي يخشى أن تَقِلَّ الصدقة فيجمع , أو يفرِّق لتكثر " (¬3). ومعنى قوله: "يتراجعان بينهما بالسوية": أن يكون بين رجلين أربعون شاةً, لكلِّ واحدٍ منهما عشرون , وقد عَرَفَ كلُّ واحدٍ منهما عينَ مالِه , فيأخذ المُصَّدِّق من نصيب أحدهما شاةً, فيرجِع المأخوذُ من مالِه على شريكه بقيمة نصف شاة (¬4). وقد ذهب الشافعية إلى تعميم زكاة الخلطة في السائمة وفي غيرها مما تجب فيه الزكاة , كالزروع والثمار , وعروض التجارة , والنقدين, وذلك لعموم الحديث (¬5). وبناء على ذلك اجتهد مجلس مجمع الفقه الإسلامي في تحقيق مناط زكاة المال المختلط في أموال شركة المساهمة, وذلك باعتبار أنه مالٌ مختلط تعدَّدَ مُلاّكُه , فيُعامَل معاملة المال الواحد في وجوب الزكاة إذا بلغ النصاب مجتمعاً كالماشية. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في "صحيحه", كتاب الزكاة, باب: لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع, برقم (1450) , من حديث أنس عن أبي بكر رضي الله عنهما. (¬2) ينظر: الموطأ (2/ 371) ,فتح الباري لابن حجر (3/ 314). (¬3) فتح الباري لابن حجر: (3/ 314). (¬4) ينظر: معالم السنن للخطابي (2/ 27) ,فتح الباري لابن حجر (3/ 314). (¬5) ينظر: روضة الطالبين (2/ 172) , المجموع للنووي (5/ 450) , مغني المحتاج (2/ 76).

حيث جاء في القرار ما نصُّه: " تخرج إدارة الشركة زكاة الأسهم كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله، بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخصٍ واحد، وتُفرَض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة، ومن حيث النصاب، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي، وذلك أخذاً بمبدأ الخلطة عند من عمَّمَه من الفقهاء في جميع الأموال".

المبحث الرابع استخدام الحقن العلاجية أثناء الصيام

المبحث الرابع استخدام الحقن العلاجية أثناء الصيام الحقن العلاجية على ثلاثة أنواع: (¬1) النوع الأول: الحقن الجلدية. وهي التي تُعطى للمريض تحت الجلد , مثل: حقن الإنسولين التي تُعطَى في حالات زيادة السُّكر في الدم , وحقن الجلوكاجون التي تُعطَى في حالات نقصان السُّكر في الدم. النوع الثاني: الحقن العضلية. وهي التي تُعطَى للمريض في العَضَل , كاللقاحات المختلفة، والمسكِّنات، وخافضات الحرارة، وحقن الحساسية التي تزيد من مناعة المريض تجاه مثيرات الحساسية. النوع الثالث: الحقن الوريدية. وهي التي تُعطى للمريض من خلال الوريد , وهي تعتبر من أفضل الطرق لإيصال جرعاتٍ محددةٍ من المواد الغذائية أو الأدوية بسرعة، وبطريقةٍ منظمةٍ إلى أنحاء الجسم، كما أنها أقلُّ إيلاماً للمريض في حالة إعطائه أدويةً مهيِّجة. والحقن الوريدية نوعان: 1 - الحقن الوريدية غير المغذية: كالصبغة الخاصة التي يُحقَن بها ¬

(¬1) ينظر: الموسوعة الطبية (218)، مفطرات الصيام المعاصرة (53 - 57).

المريض لعمل الأشعّات المختلفة , وذلك لإعطاء صورٍ أكثر وضوحاً، حيث تُحقَن الصبغة في وريدٍ صغيرٍ في اليد أو الذراع، ثم يتمّ تشغيل الجهاز والتقاط الصور المطلوبة. 2 - الحقن الوريدية المغذية: وهي محاليل مُعَقَمَةٌ تحتوي على بعض المواد الغذائية اللازمة كالسكاكر والأملاح، تُحقَن عبر أنبوبٍ موصلٍ بإبرةٍ تُولَج في الوريد , وتُعطَى للمرضى الذين لا يستطيعون الحصول على حاجتهم من المواد الغذائية , أو المرضى الذين لا يستطيعون تناول الطعام ألبتة بسب مرضٍ أو حادثٍ أو عمليةٍ جراحية، أو بسبب الجفاف الناتج عن ضربات الشمس. فهذه الحقن العلاجية بأنواعها المختلفة: هل يجوز استخدامها أثناء الصيام أم تعتبر مُفسِدةً للصوم؟ لقد بحث مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذه المسألة ضمن المُفَطِّرات في مجال التداوي , وأصدر قراراً مفصَّلاً فيها , وذلك في دورته العاشرة المنعقدة في جدة خلال الفترة من 23 - 28 صفر 1418 هـ 28 يونيو - 3 يوليو 1997 م. وقد جاء في سياق قرار مجمع الفقه الإسلامي ذكر الأمور التي لا تعتبر من المفطرات وهي: " (8 - الحُقن العلاجية الجلدية أو العضلية أو الوريدية، باستثناء السوائل والحقن المغذية ". كما سُئِلَت اللجنة الدائمة للإفتاء عن حُكْم التداوي بالحقن في نهار رمضان سواءٌ كانت للتغذية أم التداوي؟ فأجابت: "يجوز التداوي بالحقن في العَضَل والوريد للصائم في نهار رمضان، ولا يجور للصائم تعاطي حقن التغذية في نهار رمضان. . . وإن تيسر تعاطي الحقن في العضل والوريد ليلاً فهو أولى" (¬1). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة: (10/ 252).

ويمكن إبراز أوجه تطبيق الاجتهاد في المناط على هذه المسألة فيما يأتي: أولاً: ثبت بالنصِّ والإجماع أن الأكل والشرب مفسدان للصيام , وعلى الصائم أن يمتنع عنهما من طلوع الفجر الصادق- وهو الضياء المعترِض في الأفق-إلى غروب الشمس (¬1). قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عزَّ وجل: « .. إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به , يَدَعُ طعامه وشهوته من أجلي» (¬2). وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن مناط التفطير بالأكل والشرب هو كلُّ ماوصل إلى الجوف أو الحلق أو الدماغ , سواءٌ كان ممايتغذَّى به البدن أو لايتغذى به, وسواءٌ كان من منفذٍ معتادٍ لوصول الطعام والشراب إلى الجوف أو من منفذٍ غير معتاد , مع اختلافٍ بينهم في بعض المسائل كالاكتحال والاحتقان والسُّعوط والتقطير في الأذن ونحو ذلك (¬3). قال الكاساني (¬4): "وما وصل إلى الجوف أو إلى الدماغ عن المخارق الأصلية، كالأنف، والأذن، والدُّبُر، بأن استَعَطَّ أو احتقن أو أقطَرَ في أذنه فوصل إلى الجوف أو إلى الدماغ فسد صومه, أما إذا وصل إلى الجوف فلا شك فيه لوجود الأكل من حيث الصورة , وكذا إذا وصل إلى الدماغ؛ لأن له ¬

(¬1) ينظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 232) , بدائع الصنائع (2/ 90) ,المغني لابن قدامة (4/ 349 - 350) ,أحكام ... القرآن لابن العربي (1/ 132 - 133). (¬2) أخرجه البخاري في "صحيحه",كتاب الصوم, باب فضل الصوم, رقم (1894) ,وأخرجه مسلم في "صحيحه",كتاب الصيام, باب فضل الصيام , رقم (1151) واللفظ له. (¬3) ينظر: مواهب الجليل (2/ 424 - 426) , مغني المحتاج للشربيني (2/ 155 - 156) , شرح منتهى الإرادات (1/ 481) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين (2/ 395 - 397). (¬4) هو: أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني، علاء الدين، فقيهٌ حنفي، من مؤلفاته: بدائع الصنائع في ... ترتيب الشرائع (ط)، والسلطان المبين في أصول الدين، وغيرهما، توفي بحلب سنة (587 هـ). ينظر في ترجمته: الجواهر المضية (4/ 25)، الفوائد البهية (53)، الأعلام للزركلي (2/ 70).

منفذاً إلى الجوف، فكان بمنزلة زاوية من زوايا الجوف .. " (¬1). وقال ابن قدامة: "فيُفطِر بكلِّ ما أدخله إلى جوفه أو مجوَّفٍ في جسده، كدماغه وحلقه ونحو ذلك، مما ينفذ إلى معدته إذا وصل باختياره، وكان مما يمكن التحرُّز منه، سواءٌ وصل من الفمّ على العادة، أو غير العادة كالوجور واللدود، أو من الأنف كالسُّعوط، أو ما يدخل في الأذن إلى الدماغ، أو ما يدخل من العين إلى الحلق كالكحل، أو ما يدخل إلى الجوف من الدُّبُر بالحقنة، أو ما يصل من مداواة الجائفة إلى جوفه، أو من دواء المأمومة إلى دماغه، فهذا كله يُفَطِّرُه؛ لأنه واصلٌ إلى جوفه باختياره فأشبه الأكل، وكذلك لو جرح نفسَه أو جرحه غيرُه باختياره فوصل إلى جوفه، سواءٌ استقر في جوفه أو عاد فخرج منه" (¬2). وقال الرافعي (¬3): "من اسباب الفطر دخول الشئ جوفَه , وقد ضبطوا الداخل الذى يُفَطِّر بالعين الواصل من الظاهر إلى الباطن في منفذٍ مفتوحٍ عن قصدٍ مع ذكر الصوم" (¬4). وقال القرافي عند بيانه حقيقة الصوم: " وهي: الإمساك عن دخول كلِّ ما يمكن الاحتراز منه غالباً من المنافذ المحسوسة كالفمّ والأنف والأذن إلى المعدة." (¬5). والتحقيق أن أدلة الكتاب والسُّنَّة الواردة في ذلك إنما تدلُّ على فساد الصوم بالأكل أوالشرب , فيُلحَق بهما مافي معناهما مما يتغذَّى به البدن ويتقوَّى , وماسوى ذلك لايُطلَق عليه أكل ولاشربٌ , وليس هو في معناهما لاعرفاً ولا لغةً؛ وذلك لأن المنطوق به هو المغذِّي , فلايقاس عليه غير المغذِّي. قال ابن حزم: "إنما نهانا الله تعالى في الصوم عن الأكل، والشرب، ¬

(¬1) بدائع الصنائع: (2/ 93). (¬2) المغني: (4/ 352 - 353). (¬3) هو: عبدالكريم بن محمد بن عبدالكريم، أبو القاسم، الرافعي، القزويني، من كبار فقهاء الشافعية، من مؤلفاته: فتح العزيز في شرح الوجيز للغزالي (ط)، والتدوين في ذكر أخبار قزوين، وشرح مسند الشافعي، وغيرها، توفي سنة (623 هـ). ينظر في ترجمته: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (8/ 281)، شذرات الذهب (5/ 108)، الأعلام للزركلي (4/ 55). (¬4) فتح العزيز بشرح الوجيز: (6/ 359). (¬5) الذخيرة: (2/ 504).

والجماع, وتعمُّد القيء , والمعاصي، وما علمنا أكلاً، ولا شربًا يكون على دُبُرٍ أو إحليلٍ أو أُذُنٍ أو عينٍ أو أنفٍ، أو من جرحٍ في البطن، أو الرأس! ! وما نُهينا قط عن أن توصل إلى الجوف - بغير الأكل والشرب - ما لم يحرم علينا إيصاله" (¬1). وقال ابن تيمية: "وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله ومداواة المأمومة والجائفة فهذا مما تنازع فيه أهل العلم , فمنهم من لم يُفَطِّر بشيءٍ من ذلك , ومنهم من فَطَّر بالجميع لا بالكحل , ومنهم من فَطَّر بالجميع لا بالتقطير , ومنهم من لم يُفَطِّر بالكحل ولا بالتقطير , ويُفَطِّر بما سوى ذلك , والأظهر أنه لا يفطر بشيءٍ من ذلك. . . " (¬2). ثم ساق عدة أوجهٍ تؤيد ذلك من أهمها: 1 - إن إثبات التفطير بالقياس يحتاج إلى أن يكون القياس صحيحاً , وذلك إما قياس عِلَّةٍ بإثبات الجامع , وإما بإلغاء الفارق , فإما أن يدل دليلٌ على العِلَّة في الأصل فيُعدَّى بها إلى الفرع , وإما أن يُعلَم أن لا فارق بينهما من الأوصاف المُعْتَبرة في الشرع , وهذا القياس هنا منتفٍ, وذلك أنه ليس في الأدلة ما يقتضي أن المُفَطِّر الذي جعله الله ورسوله مُفَطِّراً هو ما كان واصلاً إلى دماغٍ أو بدنٍ أو ما كان داخلاً من منفذٍ أو واصلاً إلى الجوف, ونحو ذلك من المعاني التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحُكْم عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم , ويقولون إن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إنما جعلا الطعام والشراب مُفَطِّراً لهذا المعنى المشترك من الطعام والشراب , ومما يصل إلى الدماغ والجوف من دواء المأمومة والجائفة , وما يصل إلى الجوف من الكحل ومن الحقنة والتقطير في الإحليل ونحو ذلك, وإذا لم يكن على تعليق الله ورسوله للحُكْم بهذا الوصف دليلٌ كان قول القائل: إن الله ورسوله إنما جعلا هذا مُفَطِّراً لهذا قولاً بلا علم , وكان قوله: " إن الله حرَّم على الصائم أن يفعل هذا " قولاً بأن ¬

(¬1) المحلى: (4/ 348). (¬2) مجموع الفتاوى لابن تيمية: (25/ 233 - 234).

هذا حلالٌ وهذا حرامٌ بلا علم , وذلك يتضمن القول على الله بما لا يعلم , وهذا لا يجوز, ومن اعتقد من العلماء أن هذا المشترك مناط الحُكْم فهو بمنزلة من اعتقد صحة مذهب لم يكن صحيحاً , أو دلالةَ لفظٍ على معنىً لم يُرِده الرسول , وهذا اجتهادٌ يثابون عليه , ولا يلزم أن يكون قولاً بحُجَّةٍ شرعيَّةٍ يجب على المسلم اتباعها (¬1). 2 - إن القياس إنما يصح إذا لم يدل كلام الشارع على عِلَّة الحُكْم إذا سبرنا أوصاف الأصل فلم يكن فيها ما يصلح للعِلَّة إلا الوصف المعين , وحيث أثبتنا عِلَّة الأصل بالمناسبة أو الدوران فلا بد من السَّبر, فإذا كان في الأصل وصفان مناسبان لم يجز أن يقول الحُكْم بهذا دون هذا , ومعلومٌ أن النصَّ والإجماع أثبتا الفطر بالأكل والشرب, والجماع , والحيض , والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى المتوضِئ عن المبالغة في الاستنشاق إذا كان صائماً , وقياسهم على الاستنشاق أقوى حججهم كما تقدم , وهو قياسٌ ضعيف , وذلك لأن من نشق الماء بمنخريه ينزل الماء إلى حلقه وإلى جوفه , فحصل له بذلك ما يحصل للشارب بفَمِه , ويغذِّي بدَنَه من ذلك الماء, ويزول العطش , ويطبخ الطعام في معدته كما يحصل بشرب الماء , فلو لم يَرِد النصُّ بذلك لعُلِم بالعقل أن هذا من جنس الشرب , فإنهما لا يفترقان إلا في دخول الماء من الفم , وذلك غير معتبر , بل دخول الماء إلى الفم وحده لا يفطر , فليس هو مُفَطِراً ولا جزءاً من المُفَطِر؛ لعدم تأثيره , بل هو طريقٌ إلى الفِطر , وليس كذلك الكحل والحقنة ومداواة الجائفة والمأمومة؛ فإن الكحل لا يغذِّي ألبتة , ولا يُدخِل أحدٌ كحلاً إلى جوفه لا من أنفه ولا فمه ,كذلك الحقنة لا تغذِّي بل تستفرغ ما في البدن , كما لو شمَّ شيئاً من المُسَهِلات , أو فزع فزعاً أوجب استطلاق جوفه , وهي لا تصل إلى المعدة , والدواء الذي يصل إلى المعدة في مداواة الجائفة والمأمومة لا يشبه ما يصل إليها من غذائه. . . فالصائم نُهِيَ عن الأكل والشرب لأن ذلك سبب التقوي , فترك الأكل والشرب الذي يولِّد الدم الكثير ¬

(¬1) ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية: (25/ 242 - 243).

الذي يجري فيه الشيطان إنما يتولد من الغذاء , لا عن حقنةٍ , ولا كحلٍ , ولا ما يقطر في الذَّكَر , ولا ما يداوي به المأمومة والجائفة , وهو متولِّدٌ عما استُنشِق من الماء؛ لأن الماء مما يتولَّد منه الدم , فكان المنع منه من تمام الصوم , فإذا كانت هذه المعاني وغيرها موجودةً في الأصل الثابت بالنصِّ والإجماع فدعواهم أن الشارع علَّق الحُكْم بما ذكروه من الأوصاف معارَضٌ بهذه الأوصاف , والمعارضة تبطل كلَّ نوعٍ من الأقيسة إن لم يتبين أن الوصف الذي ادعوه هو العِلَّة دون هذا (¬1). وبهذا يكون مناط فساد الصوم في ذلك هو: الأكل أو الشرب أو مافي معناهما مما يصل إلى المعدة أو الدم , ويتغذَّى به البدن ويتقوَّى. وبناءً على ذلك فقد اجتهد مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في تحقيق مناط فساد الصوم بالأكل والشرب ومافي معناهما في الحقن الوريدية المغذِّية دون الحقن الجلدية والعضلية والوريدية غير المغذية, وذلك لأنها تُغذِّي البدن وتقوِّيه , فتقوم مقام الأكل والشرب. حيث جاء في القرار مانصُّه: " أولاً: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات .. " ثم ذُكِر من ضمنها: " 8 - الحُقن العلاجية: الجلدية أو العضلية أو الوريدية، باستثناء السوائل والحقن المغذية ". كما ورد تعليل الحُكْم بذلك صريحاً في فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء , حيث جاء في الفتوى مانصُّه: " يجوز التداوي بالحقن في العضل والوريد للصائم في نهار رمضان، ولا يجوز للصائم تعاطي حقن التغذية في نهار رمضان؛ لأنه في حُكْم تناول الطعام والشراب .. " (¬2). ثانياً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط التصوُّر الصحيح التام للواقعة , ومعرفة حقيقتها , كما تقدم (¬3). ¬

(¬1) ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (25/ 244 - 246). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة: (10/ 252). (¬3) ينظر: (223 - 228).

وقد راعى مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذا الضابط في تحقيق مناط مايفسد الصوم من الأكل والشرب ومافي معناهما في الحقن الوريدية المغذية دون غيرها , وذلك بالاطلاع على الأبحاث والدراسات الطبية , والاستماع إلى مناقشات الأطباء بشأن أنواع الحقن العلاجية ,وبيان حقيقتها, وصفاتها , ووظائفها, وذلك بحسب استخداماتها في التداوي. حيث جاء في القرار مانصُّه: " إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنعقد في دورة مؤتمره العاشر بجدة بالمملكة العربية السعودية خلال الفترة من 23 - 28 صفر 1418 هـ الموافق 28 حزيران (يونيو) - 3 تموز (يوليو) 1997 م، بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع المفطرات في مجال التداوي، والدراسات والبحوث والتوصيات الصادرة عن الندوة الفقهية الطبية التاسعة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، بالتعاون مع المجمع وجهات أخرى، في الدار البيضاء بالمملكة المغربية في الفترة من 9 - 12 صفر 1418 هـ الموافق 14 - 17 حزيران (يونيو) 1997 م، واستماعه للمناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة الفقهاء والأطباء، والنظر في الأدلة من الكتاب والسنة، وفي كلام الفقهاء، قرر ما يلي: أولاً: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات: . . . . " وذكر ضمنها: " 8 - الحُقن العلاجية الجلدية أو العضلية أو الوريدية، باستثناء السوائل والحقن المغذية ". ولاريب أن الرجوع المباشر إلى الأطباء في توصيف الحقن العلاجية , وبيان وظائفها , ومناقشة الفقهاء لهم في ذلك , من أهم مدارك التصور الصحيح التام لها, ومعرفة حقيقتها , ومايترتب عليها. كما أن استناد مجمع الفقه الإسلامي في ذلك إلى الدراسات والأبحاث الصادرة عن مؤسسةٍ علميةٍ مختصَّةٍ مثل المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية يُعْتَبر من أوثق مدارك التصوُّر الصحيح التام لمثل تلك الأمور؛ لأن الجهود العلمية المؤسسية غالباً ما يتوافر فيها من الخبرات والمَلَكَات المتنوعة مالايتوافر في الأفراد إذا كانوا مُتَفَرَّقين.

المبحث الخامس الإحرام بالحج أو العمرة للقادمين جوا بالطائرة

المبحث الخامس الإحرام بالحج أو العمرة للقادمين جواً بالطائرة الإحرام لغةً هو: الدخول في الحرمة، يُقال: أحرَمَ الرجلُ إذا دخل في حُرْمَة عهدٍ أو ميثاق , فيمتنِع عليه ما كان حلالاً له (¬1). واصطلاحاً هو: نية الدخول في النُّسُك , من حجٍّ أو عمرة، أو هما معاً (¬2). وقد حدَّد الرسول صلى الله عليه وسلم مواقيت مكانيةٍ مخصوصةٍ لمن أراد أن يُحْرِم بالحج أو العمرة أو بهما معاً , لايجوز لأحدٍ أن يتعدَّاها حتى يُحْرِم منها. فعن ابن عباسٍ (¬3) رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرناً، فهنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهنّ، من غير أهلهنّ ممن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهنَّ فمن أهلِه , حتى إن أهل مكة يُهِلُّون منها» (¬4). وبناءً على هذا النصِّ الصريح فإنه يجب على كلِّ من أراد أن يُحْرِم بالحج أو العمرة أو بهما معاً أن يُحْرِم من هذه المواقيت المخصوصة إذا أتى عليها طريقُه , أمإذا لم يكن طريقُه يمرُّ بأحد تلك المواقيت فإنه يُحْرِم بمحاذاة أقرب ميقاتٍ من طريقه الذي يسلكه إلى مكة. (¬5). ¬

(¬1) ينظر: لسان العرب (12/ 119 - 120) , تاج العروس (31/ 453 - 454) مادة"ح ر م". (¬2) ينظر: مواهب الجليل للحطاب (3/ 15) , مغني المحتاج للشربيني (2/ 230) , شرح منتهى الإرادات ... للبهوتي (1/ 596). (¬3) هو: أبو العباس عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب القرشي الهاشمي، حبر الأمة، وترجمان القرآن، ... صحابيٌ جليل، لازم النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أحاديث كثيرة، توفي بالطائف سنة (68 هـ). ينظر في ترجمته: الاستيعاب (3/ 933)، الإصابة (6/ 130)، الأعلام للزركلي (4/ 95). (¬4) أخرجه البخاري في "صحيحه",كتاب الحج , باب مهل من كان دون المواقيت, رقم (1529) ,وأخرجه مسلم ... في "صحيحه",كتاب الحج, باب مواقيت الحج والعمرة , رقم (1181). (¬5) ينظر: روضة الطالبين (3/ 39 - 40) , تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (2/ 7) , مواهب الجليل (3/ 33 - 35) , شرح منتهى الإرادات (2/ 402).

وذلك لِما ثبت عن ابن عمر (¬1) رضي الله عنهما، حيث قال: لما فتح هذان المصران- أي: البصرة والكوفة- أتوا عمرَ، فقالوا: يا أمير المؤمنين، «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّ لأهل نجد قرناً»، وهو جورٌ عن طريقنا، وإنَّا إن أردنا قرناً شقَّ علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فحدَّ لهم ذات عِرق (¬2). وإذا ثبت هذا الحُكْم في حقِّ من مرَّ على الميقات أو حاذاه عن طريق البَرِّ: فهل يشمل هذا الحُكْم القادمين جواً بالطائرة ممن أراد الحج أو العمرة؟ وإذا كان يشملهم: فكيف يمكن معرفة نقطة المحاذاة لأقرب ميقاتٍ أثناء سير الطائرة في الجو؟ وكيف يكون الإحرام في الطائرة مع شدة سرعتها أثناء مرورها بنقطة المحاذاة؟ لقد بحث مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذه المسألة في دورته الثالثة بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ، الموافق 11 - 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1986 م، وبعد اطلاعه على البحوث المقدمة بخصوص موضوع الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة قرر ما يأتي: "المواقيت المكانية التي حددتها السُّنَّة النبوية يجب الإحرام منها لمريد الحج أو العمرة للمارِّ عليها أو للمحاذي لها أرضاً أو جواً أو بحراً. . . ". كما بحث -أيضاً- مجلسُ المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي موضوعَ الإحرام من جدة , وما يعترض الحجاج القادمين عن طريق البحر والجو بخصوص الإحرام من المواقيت المخصوصة , وذلك في دورته الخامسة المنعقدة (من 8 - 16/ 4/ 1402 هـ الموافق 4/ 2/ 1982 م) ,وبعد التدارس واستعراض النصوص الشرعيَّة الواردة في ذلك أصدر المجلس قراراً فقهياً وَرَدَ فيه ما نصُّه: ¬

(¬1) هو: أبو عبدالرحمن عبدالله بن عمر بن الخطاب العدوي، صحابي جليل، شهد فتح مكة، وكان يفتي ... الناس ستين سنة، توفي بمكة سنة (73 هـ). ينظر في ترجمته: الاستيعاب (3/ 950)، الإصابة (6/ 167)، الأعلام للزركلي (4/ 108). (¬2) أخرجه البخاري في "صحيحه" ,كتاب الحج , باب: ذات عرق لأهل العراق, رقم (1531).

" إن المواقيت التي وقَّتها النبيُّ صلى الله عليه وسلم , وأوجبَ الإحرامَ منها على أهلها , وعلى من مَرَّ عليها من غيرهم ممن يريد الحج والعمرة , وهي: ... ذو الحليفة لأهل المدينة ,ومن مَرَّ عليها من غيرهم , وتُسَمَّى حالياً (أبيار علي) , والجحفة وهي لأهل الشام ومصر والمغرب ,ومن مَرَّ عليها من غيرهم, وتُسَمَّى حالياً (رابغ) , وقرن المنازل وهي لأهل نجد , ومن مَرَّ عليها من غيرهم , وتُسَمَّى حالياً (وادي مَحرَم) , وتُسَمَّى أيضاً (السيل) , وذات عِرق لأهل العراق وخراسان , ومن مَرَّ عليها من غيرهم, وتُسَمَّى (الضريبة) , ويلملم لأهل اليمن , ومن مَرَّ عليها من غيرهم. وقرر أن الواجب عليهم أن يُحرِموا إذا حاذوا أقربَ ميقاتٍ إليهم من هذه المواقيت الخمسة جواً أو بحراً، فإن اشتبه عليهم ذلك ولم يجدوا معهم من يرشدهم إلى المحاذاة وجب عليهم أن يحتاطوا، وأن يحرموا قبل ذلك بوقتٍ يعتقدون أو يغلب على ظنهم أنهم أحرموا قبل المحاذاة. . . " (¬1). كما إن اللجنة الدائمة للإفتاء قد أصدرت فتوى فيمن أراد أن يُحْرِم بالحج أو العمرة وهو في الطائرة، ولا يعرف الميقات أثناء سير الطائرة , وقد جاء في الفتوى مانصُّه: "إذا أراد الحج والعمرة وهو في الطائرة فله أن يغتسل في بيته، ويلبس الإزار والرداء إن شاء، وإذا بقي على الميقات شيءٌ قليلٌ أحرم بما يريد من حجٍّ أو عمرة، وليس في ذلك مشقة، وإذا كان لايعرف الميقات فإنه يسأل قائد الطائرة، أو أحد المساعدين له، أو أحد المضيفين، أو الركاب ممن يثق به من أهل الخبرة بذلك " (¬2). ويمكن إبراز أوجه تطبيق الاجتهاد في المناط على هذه المسألة فيما يأتي: أولاً: ثبت بالنصِّ كما تقدَّم أن مناط وجوب الإحرام من المواقيت ¬

(¬1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي: (89 - 90) (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: (11/ 153).

المخصوصة شرعاً هو المرور بها أو بمحاذاتها مع قصد الحج أو العمرة (¬1). وقد اجتهد مجمع الفقه الإسلامي, والمجمع الفقهي الإسلامي , واللجنة الدائمة للإفتاء, في تحقيق مناط وجوب الإحرام من المواقيت المخصوصة في حالة المرور الجوي بتلك المواقيت أو بمحاذاتها مع قصد الحج أو العمرة؛ وذلك باعتبار أن من مَرَّ على سماء القرية أو المدينة فقد أتى عليها , فيكون من مَرَّ بسماء الميقات أو بمحاذاته فقد أتى على الميقات أو حاذاه (¬2). كما إن قوله صلى الله عليه وسلم: " .. فهُنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهنّ، من غير أهلهنّ ممن كان يريد الحج والعمرة .. " (¬3) لفظٌ عام يشمل المرورَ الأرضي بالميقات, والمرورَ الجوي بسماء الميقات , ولافرق بين سماء الميقات وأرضه في الحكم، ومَن ادعى الفرق فعليه أن يأتي بالدليل، ولا دليل (¬4). وقد نصَّ مجمع الفقه الإسلامي في قراره على دخول هذه الصورة الحادثة في عموم الأحاديث الواردة في المسألة حيث جاء في القرار ما نصُّه: " المواقيت المكانية التي حددتها السُّنَّة النبوية يجب الإحرام منها لمريد الحج أو العمرة للمارِّ عليها أو للمحاذي لها أرضاً أو جواً أو بحراً؛ لعموم الأمر بالإحرام منها في الأحاديث النبوية الشريفة". ثانياً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط مراعاة اختلاف أحوال المكلَّفين كما تقدَّم (¬5) , ومن صور ذلك مراعاة المشقة التي قد تلحقهم في تلك الأحوال , ومراعاة اختلاف أحوالهم في مايمكن التحقُّق منه, ومالايمكن ,وما يُشتَبَهُ فيه. وقد راعى مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي هذا ¬

(¬1) ينظر: روضة الطالبين (3/ 39 - 40) , تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (2/ 7) , مواهب الجليل (3/ 33 - 35) , شرح منتهى الإرادات (2/ 402). (¬2) ينظر: مجلة المجمع الفقهي: الدورة 3، ع 3، ج 3، س 1408 هـ، ص 1637، 1638. (¬3) تقدم تخريجه: (450). (¬4) ينظر: المرجع السابق. (¬5) ينظر: (229 - 235).

الضابط في تحقيق مناط وجوب الإحرام من المواقيت المخصوصة أثناء المرور الجوي بتلك المواقيت أو بمحاذاتها مع قصد الحج أو العمرة, وذلك في حالة من اشتبه عليه العلم بموضع المحاذاة أثناء سير الطائرة في الجو , ولم يجد من يرشده إلى ذلك , ومراعاة حالة سرعة الطائرة أثناء مرورها بالميقات أو بمحاذاته , وعدم التمكُّن من إيقاع الإحرام في لحظة المرور الجوي بالميقات أو بمحاذاته؛ لسرعتها الشديدة. حيث جاء في القرار ما نصُّه: ". . . الواجب عليهم أن يُحْرِموا إذا حاذوا أقربَ ميقاتٍ إليهم من هذه المواقيت الخمسة جواً أو بحراً، فإن اشتبه عليهم ذلك ولم يجدوا معهم من يرشدهم إلى المحاذاة وجب عليهم أن يحتاطوا وأن يُحْرِموا قبل ذلك بوقتٍ يعتقدون أو يغلب على ظنهم أنهم أحرموا قبل المحاذاة؛ لأن الإحرام قبل الميقات جائزٌ مع الكراهة، ومنعقد، ومع التحري والاحتياط، خوفاً من تجاوز الميقات بغير إحرامٍ فتزول الكراهة؛ لأنه لا كراهة في أداء الواجب ... ولأن الله سبحانه أوجب على عباده أن يتقوه ما استطاعوا، وهذا هو المستطاع في حقِّ من لم يَمُرّ على نفس الميقات .. " (¬1). فمن اشتبه عليه موضع المحاذاة ممن يقصد الحج أو العمرة أثناء سير الطائرة جواً , ولم يحصل تنبيهٌ من قيادة الطائرة بالاقتراب من موضع المحاذاة , ولم يجد من يرشده إلى معرفة ذلك, فإنه يجتهد بحسب وسعه في تقدير المحاذاة , ويحتاط بأن يُحْرِم في موضعٍ يعتقد أو يغلب على ظنِّه أنه عَقَدَ إحرامَه فيه قبل المحاذاة. أما من تبين له موضع محاذاة الميقات بتنبيهٍ من قيادة الطائرة , أو بمعرفة أهل الخبرة , فإنه يلزمه أن يُحرِم قبل الوصول إليه بزمنٍ يسير , مع تقدير سرعة الطائرة؛ حتى لايقع إحرامه بعد تجاوز الميقات. حيث جاء في فتوى اللجنة الدائمة بشأن هذه المسألة ما نصُّه: "إذا أراد الحج والعمرة وهو في الطائرة فله أن يغتسل في بيته، ويلبس الإزار والرداء إن شاء، وإذا بقي على الميقات شيءٌ قليل أحْرَمَ بما يريد من حجٍّ أو عمرة، وليس في ¬

(¬1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي: (89 - 90).

ذلك مشقة، وإذا كان لا يعرف الميقات فإنه يسأل قائد الطائرة، أو أحد المساعدين له، أو أحد المضيفين، أو الركاب ممن يثق به من أهل الخبرة بذلك " (¬1). وهذا كلُّه من صور مراعاة اختلاف أحوال المكلَّفين أثناء تحقق مناطات الأحكام على تلك الأحوال المختلفة. ثالثاً: من مسالك تحقيق المناط الرجوعُ إلى أهل الخبرة فيما تَعتمِد معرفتُه على معرفتهم به كما تقدَّم (¬2). وقد نصَّت اللجنة الدائمة للإفتاء على إرجاع العلم بموضع المحاذاة للميقات أثناء سير الطائرة جواً لأهل الخبرة والاختصاص كقائد الطائرة ومساعديه ومن لديه معرفةٌ بذلك , فإذا بيَّنوا ذلك لزم العمل بقولهم في تحقيق مناط وجوب الإحرام قبل الوصول إلى ذلك الموضع بزمنٍ يسير. حيث جاء في فتوى اللجنة الدائمة ما نصُّه: " .. وإذا كان لا يعرف الميقات فإنه يسأل قائد الطائرة، أو أحد المساعدين له، أو أحد المضيفين، أو الركاب ممن يثق به من أهل الخبرة بذلك " (¬3). كما أصدر المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي قراراً ينصُّ على تكليف الأمانة العامة للرابطة " بالكتابة إلى شركات الطيران والبواخر بتنبيه الركاب قبل القرب من الميقات بأنهم سيمرُّون على الميقات قبل مسافةٍ ممكنة" (¬4). وذلك باعتبار أن قائد الطائرة ومساعديه هم الذين يستطيعون معرفة ذلك بدقةٍ عالية ,فهم أهل الخبرة الذين يُعتَمَد على قولهم في ذلك. فإذا تم تنبيه الركاب في الطائرة قبل القرب من الميقات أو موضعِ محاذاته بمسافةٍ يسيرة تُمَكِّنُهم من الإحرام قبل تجاوز الميقات فإنه حينئذٍ يلزم العمل بمقتضى ذلك التنبيه؛ لأنه صادرٌ عن أهل الخبرة به , وهو من الاجتهاد في تحقيق المناط استناداً على قول أهل الخبرة فيما يتوقف تقديره أو معرفته عليهم. ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: (11/ 153). (¬2) ينظر: (269 - 272). (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: (11/ 153). (¬4) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي: (91).

المبحث السادس المتاجرة بالهامش في الأسواق المالية

المبحث السادس المتاجرة بالهامش في الأسواق المالية (¬1) المتاجرة لغةً: مصدر من الفعل تَجَرَ يتْجُرُ تَجْرَاً وتِجارةً, والتِّجارة هي: البيع والشراء , والتاجِر: هو الذي يبيع ويشتري , وجمعه: تُجَّار , وتجْرٌ مثل: صاحب وصحْب (¬2). أما في الاصطلاح فالتِّجارة هي: تقليب المال بالتصرُّف فيه لغرض الرِّبح (¬3). والهامش في اللغة: قال ابن فارس: " الهاء والميم والشين: أصلٌ يدل على سرعة عملٍ أو كلام, يقولون: الهمش: السريع العمل بأصابعه, وامرأةٌ همشى الحديث، إذا تسرَّعت فيه" (¬4). ويُطلَق الهامش على: حاشية الكتاب, يقال: كتب على هامشه، وعلى الهامش، وهو مُوَلَّدٌ ليس من أصل كلام العرب (¬5). أما الهامش في اصطلاح الأسواق المالية فهو: المال الذي يضعه العميل ¬

(¬1) السوق المالية هي: المجال الذي يتم من خلاله إصدار أدواتٍ معينة ,كالأسهم والسندات؛ للحصول على الأموال اللازمة للمشروعات الإنتاجية وغيرها , ويتم من خلالها تداول الأدوات المالية المختلفة ,كشهادات الإيداع والأوراق التجارية وغيرها. ينظر: الأسواق المالية والنقدية, د. رسمية أبوموسى (11) ,أحكام التعامل في الأسواق المالية المعاصرة (39). (¬2) ينظر: الصحاح (2/ 600) , لسان العرب (4/ 89) , تاج العروس (10/ 278 - 279) "مادة: ت ج ر ". (¬3) ينظر: التعريفات للجرجاني (53) , التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (91). (¬4) معجم مقاييس اللغة: (6/ 66) " مادة: هـ م ش ". (¬5) ينظر: تاج العروس (17/ 466).

لدى البنك أو السمسار على وجه التوثيق يتوقف عليه التمويل والمتاجرة (¬1). وهذا المال قد يكون نقوداً , أو أوراقاً مالية ,كالأسهم والسندات. ومعنى " يتوقف عليه التمويل والمتاجرة": أي أن التمويل يكون منسوباً إلى الهامش بنسبةٍ معينة, كأن يكون مثلَه أو ضِعْفَه أو غير ذلك ,كما إن المتاجرة في الأسواق المالية تكون متوقفةً على نسبةٍ من الهامش, حيث يمنع البنك أو السمسار عميله في الاستمرار بالمتاجرة عند نزولها, ويقوم بالبيع نيابةً عنه عند امتناعه (¬2). والمتاجرة بالهامش تعني: دفع المشتري -العميل- جزءاً يسيراً من قيمة ما يرغب شراءَه ويُسَمَّى هامشاً، ثم يقوم الوسيط -مصرفاً أو غيره- بدفع الباقي على سبيل القرض، على أن تبقى العقود المشتراة لدى الوسيط، رهناً بمبلغ القرض (¬3). ومن أهم الشروط التي يفرضها الوسيط لإتمام هذه المعاملة مايأتي (¬4): 1 - أن يقوم العميل بفتح حسابٍ لدى البنك أو بيت السمسرة يُسمَّى حساب الهامش. 2 - أن يقوم العميل بإيداع جزءٍ من قيمة العقد المراد شراؤه بحسب نوعه: عقد شراء وبيع العملات , أو عقد سبائك , أو عقد أسهم, أو غير ذلك. ¬

(¬1) ينظر: المتاجرة بالهامش دراسة تصويرية فقهية (8) ضمن الأبحاث المقدمة للمجمع الفقهي الإسلامي في دورته الثامنة عشرة , الأسواق المالية العالمية وأدواتها المشتقة ,محمد محمود حبش (35) , , الأوراق المالية وأسواق رأس المال, د. منير هندي (135). (¬2) ينظر: المتاجرة بالهامش دراسة تصويرية فقهية (8 - 9) ضمن الأبحاث المقدمة للمجمع الفقهي الإسلامي في دورته الثامنة عشرة , الأوراق المالية وأسواق رأس المال, د. منير هندي (136 - 138). (¬3) ينظر: قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الثامنة عشر, المتاجرة بالهامش والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلامي , د. محمد شبير (14) ,بورصة الأوراق المالية من منظور إسلامي ,شعبان البراوري (187). (¬4) ينظر: الأحكام الشرعية لتجارة الهامش , د. حمزة الفعر (9 - 10) , الأوراق المالية وأسواق رأس المال , د. منير هندي (616) , بورصة الأوراق المالية من منظور إسلامي ,شعبان البراوري (189).

3 - أن يكون البيع والشراء عن طريق البنك أو الوسيط , مع احتساب عمولات البيع والشراء , وفي بعض العقود تحتسب عمولات البيع فقط. 4 - أن تكون العقود المشتراه رهناً لدى البنك أو السمسار حتى يتم البيع أو تصفية الحسابات. 5 - أن يتعهد العميل بإكمال الفرق الذي يطرأ على الهامش الابتدائي فيتسبب في انخفاضه عن الحدِّ المشروط. 6 - منح البنك أو الوسيط حقَّ بيع العقد وتصفية العملية في حال انخفاض الهامش الابتدائي ,وعدم قيام العميل بتغطية هذا الانخفاض. 7 - تشترِط كثيرٌ من البنوك وشركات الوساطة دفعَ فوائد على القرض الممنوح للعميل. 8 - تشترِط كثيرٌ من البنوك وشركات الوساطة دفعَ رسومٍ على تبييت العقود في حال عدم بيع العقد في نفس يوم الشراء , فتأخذ عن كلِّ ليلةٍ يبيتها العقد قبل بيعه عمولةً معينة. فإذا كانت المتاجرة بالهامش تجري غالباً بهذا التصُّور فما الحُكْم الشرعي في التعامل بها؟ لقد بحث مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي هذه المعاملة كما تجريها البنوك وشركات الوساطة المالية , وذلك في دورته الثامنة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من 10 - 14/ 3/1427 هـ - الذي يوافقه: 8 - 12 أبريل 2006 م. و"خلص المجلس إلى أن هذه المعاملة لا تجوز شرعاً .. " (¬1). ويمكن إبراز أوجه تطبيق الاجتهاد في المناط على هذه المعاملة فيما يأتي: أولاً: إن التصُّور التام للواقعة ومعرفة حقيقتها وكيفية جريانها في الواقع ¬

(¬1) ينظر: قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الثامنة عشرالمنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من 10 - 14/ 3/1427 هـ.

يُعْتَبر من أهم ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط كما تقدَّم (¬1). وقد اعتبر مجلس المجمع الفقهي هذا الضابط في تحقيق مناط الحُكْم الشرعي على المتاجرة بالهامش كما تجري في البنوك وشركات الوساطة المالية. حيث اشتمل قرار المجمع الفقهي الإسلامي في هذه المعاملة على بيان حقيقتها , فنصَّ القرار على أن المتاجرة تعني: " دفع المشتري -العميل- جزءاً يسيراً من قيمة ما يرغب شراءه يُسمَّى هامشاً، ويقوم الوسيط -مصرفاً أو غيره- بدفع الباقي على سبيل القرض، على أن تبقى العقود المشتراة لدى الوسيط، رهناً بمبلغ القرض". كما اشتمل القرار على بيان المكونات الأساسية لهذه المعاملة , فنصَّ على أنها تشتمل على الآتي: (1) المتاجرة (البيع والشراء بهدف الربح)، وهذه المتاجرة تتم غالباً في العملات الرئيسة، أو الأوراق المالية (الأسهم والسندات)، أو بعض أنواع السلع، وقد تشمل عقود الخيارات، وعقود المستقبليات، والتجارة في مؤشرات الأسواق الرئيسة. (2) القرض، وهو المبلغ الذي يقدمه الوسيط للعميل مباشرةً إن كان الوسيط مصرفاً، أو بواسطة طرفٍ آخر إن كان الوسيط ليس مصرفاً. (3) الرِّبا، ويقع في هذه المعاملة من طريق (رسوم التبييت)، وهي الفائدة المشروطة على المستثمِر إذا لم يتصرف في الصفقة في اليوم نفسه، والتي قد تكون نسبةً مئويةً من القرض، أو مبلغاً مقطوعاً. (4) السمسرة، وهي المبلغ الذي يحصل عليه الوسيط نتيجة متاجرة المستثمر (العميل) عن طريقه، وهي نسبةٌ متفقٌ عليها من قيمة البيع أو الشراء. (5) الرهن، وهو الالتزام الذي وقَّعه العميل بإبقاء عقود المتاجرة لدى الوسيط رهناً بمبلغ القرض، وإعطائه الحق في بيع هذه العقود واستيفاء القرض ¬

(¬1) ينظر: (223 - 228).

إذا وصلت خسارة العميل إلى نسبةٍ محددةٍ من مبلغ الهامش، ما لم يقم العميل بزيادة الرهن بما يقابل انخفاض سعر السلعة". وهذا كلُّه يُعْتَبر من الإحاطة بأطراف الواقعة ومكوناتها وأوصافها وآثارها التي يُبنى عليها إثبات وجود مُتَعَلَّق الحُكْم الشرعي في تلك الواقعة أو نفيه عنها. ثانياً: ثبت بالنصِّ الصريح من الكتاب والسُّنَّة تحريم التعامل بالرِّبا , كما قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وقال صلى الله عليه وسلم: " لعن الله آكلَّ الرِّبا وموكِلَه وكاتبَه وشاهديه وقال: هم سواء" (¬1). ومن أنواع الرِّبا المحرَّم بالإجماع مايتعلَّق بالديون وهو: اشتراط الزيادة في القرض , وهو الرِّبا الذي كان يتعامل به الناس في الجاهلية (¬2) ,كما لو أقرض أحدهم آخرَ مائة ألف ريال على أن يردَّها له مائةً وثلاثين ألف ريال. وقد" أجمع المسلمون نقلاً عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف رباً، ولو كان قبضةً من عَلَفٍ أو حبة" (¬3). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " اتفق العلماء على أن المُقرِض متى اشترط زيادةً على قرضه كان ذلك حراماً" (¬4). وقد اجتهد مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في تحقيق مناط تحريم رِبا الديون في الفائدة المشروطة على العميل إذا لم يتم بيع العقد في نفس يوم الشراء , فتؤخذ عن كلِّ ليلةٍ يبيتها العقد قبل بيعه عمولةٌ معينة, والتي قد تكون نسبةً مئويةً من القرض، أو مبلغاً مقطوعاً, وهو مايسمَّى ب" رسوم التبييت" في المتاجرة بالهامش. ¬

(¬1) أخرجه مسلم في "صحيحه", كتاب المساقاة , باب لعنِ آكل الربا ومؤكِلِه ,رقم (1597) من حديث جابر بن ... عبدالله رضي الله عنه. (¬2) ينظر: المغني لابن قدامة (6/ 436) ,روضة الطالبين للنووي (4/ 34) ,مواهب الجليل شرح مختصر خليل (4/ 546 - 547) ,النهر الفائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم (3/ 469) , (¬3) التمهيد: (4/ 68). (¬4) مجموع الفتاوى: (29/ 334).

ونظراً لما اشتملت عليه هذه المعاملة من الرِّبا بسبب ذلك فقد صدر القرار الفقهي بتحريمها. حيث جاء في القرار ما نصُّه: " ويرى المجلس أن هذه المعاملة لا تجوز شرعاً للأسباب الآتية: أولاً: ما اشتملت عليه من الرِّبا الصريح، المتمثل في الزيادة على مبلغ القرض، المُسمَّاة (رسوم التبييت)، فهي من الرِّبا المحرَّم، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} [البقرة: 278، 279]. كما اجتهد مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في تحقيق مناط تحريم ربا الديون في بيع وشراء السندات (¬1) الذي غالباً ما تشتمل عليه عقود المتاجرة بالهامش في السوق المالية؛ وذلك لأن السندات أوراقٌ ماليةٌ تمثِّل التزاماً بدفع مبلغها مع فائدةٍ منسوبةٍ إليه أو نفعٍ مشروط , فهي في حقيقتها قروضٌ للجهة المُصدِرة لها يترتب عليها أخذ أرباحٍ بنسبةٍ محددةٍ أو منافع مشروطة , وهو من رِبا الديون المحرَّم بالنصِّ والإجماع. ونظراً لما تشتمل عليه أغلب عقود المتاجرة بالهامش من بيع وشراء السندات فقد نصَّ قرار المجمع الفقهي في بيان أسباب تحريم المتاجرة بالهامش على ذلك , حيث ورد في القرار ما نصُّه: ثانياً: أن المتاجرة التي تتم في هذه المعاملة في الأسواق العالمية غالباً ما تشتمل على كثير من العقود المحُرْمَة شرعاً، ومن ذلك: 1. المتاجرة في السندات، وهي من الرِّبا المحرَّم، وقد نصَّ على هذا ¬

(¬1) السند هو: شهادةٌ يلتزم المُصدِر بموجبها أن يدفع لحاملها القيمة الاسمية عند الاستحقاق، مع دفع فائدةٍ متفقٍ عليها منسوبةً إلى القيمة الاسمية للسند، أو ترتيب نفعٍ مشروطٍ سواءٌ أكان جوائز توزَّع بالقرعة أم مبلغاً مقطوعاً أم حسماً. ينظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسة من 17 - 23 شعبان 1410 الموافق 14 - 20 آذار (مارس) 1990 م, الموسوعة الاقتصادية لراشد البراوي (314).

قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة رقم (60) في دورته السادسة. ثالثاً: ثبت بنصِّ السُّنَّة تحريم الجمع بين القرض والبيع في عقدٍ واحد (¬1) , كما يدل عليه عموم قوله عليه الصلاة: "لا يحِلّ سلفٌ وبيع .. (¬2) " قال ابن القيم: " إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع الرجل بين سلفٍ وبيع ,وهو حديث صحيح، ومعلومٌ أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح، وإنما ذاك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعةٌ إلى أن يقرِضَه ألفاً ويبيعه سلعةً تساوي ثمانمائة بألفٍ أخرى، فيكون قد أعطاه ألفاً وسلعة بثمانمائة ليأخذ منه ألفين, وهذا هو معنى الرِّبا" (¬3). وقد اجتهد مجلس المجمع الفقهي في تحقيق مناط تحريم الجمع بين القرض والبيع في اشتراط أن يكون البيع والشراء عن طريق البنك أو الوسيط من خلال القنوات الإلكترونية المعتمدة لدى البنك أو شركة الوساطة المالية , وذلك لاحتساب عمولاتٍ على البيع والشراء, أو على البيع فقط. حيث جاء في القرار ما نصُّه: " ثانياً: أن اشتراط الوسيط على العميل أن تكون تجارته عن طريقه، يؤدي إلى الجمع بين سلفٍ ومعاوضة (السمسرة)، وهو في معنى الجمع بين سلفٍ وبيع المنهي عنه شرعاً في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يحل سلفٌ وبيع .. " (¬4) , وهو بهذا يكون قد انتفع من قرضه، وقد اتفق الفقهاء على أن كلَّ قرضٍ جرَّ نفعاً فهو من الرِّبا المحرَّم". فالبنك أو الوسيط هو المُقرِض في هذه المعاملة , ويشترِط على العميل أن يجري عمليات البيع والشراء في السوق المالية عن طريقه , ليحتسب عليه ¬

(¬1) ينظر: المغني لابن قدامة (6/ 334) ,روضة الطالبين للنووي (3/ 400) ,فتح القدير لابن الهمام (5/ 217) ,مواهب الجليل (4/ 390 - 391). (¬2) أخرجه أبوداود في "سننه", كتاب البيع , باب في الرجل يبيع ما ليس عنده , رقم (3504) , وأخرجه الترمذي في "جامعه",كتاب البيوع , باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك, رقم (1234) , وقال: حديث حسن صحيح , وصححه الألباني في " السلسلة الصحيحة " برقم (1212). (¬3) إعلام الموقعين: (5/ 17 - 18). (¬4) سبق تخريجه: ( ... 461).

عمولاتٍ معينةٍ يربح منها البنك أو الوسيط المالي, إما بنسبةٍ محددةٍ أو بمبلغٍ مقطوعٍ يُتفَق عليه بحسب نوع العقد, وهذا داخلٌ في النهي عن الجمع بين القرض والبيع في عقدٍ واحد , كما يُعْتَبر من القرض الذي جرَّ منفعةً مشروطة (¬1). رابعاً: من الشروط المتفق عليها في صحة البيع أن يكون المبيع مباحاً؛ لأن بيع المحرَّمات من التعاون على الإثم والعدوان. وقد اجتهد مجلس المجمع الفقهي في تحقيق مناط هذ الحكم في بيع وشراء أسهم الشركات الربوية ,والشركات التي تقوم أنشطتها الأساسية على التجارة في المحرَّمات كمصانع الخمور ونحو ذلك , فهذه الأسهم لايجوز تداولها بالبيع والشراء؛ لتحريم محلِّها (¬2). ونظراً لما تشتمل عليه أغلب عقود المتاجرة بالهامش من بيع وشراء أسهم الشركات دون تفريقٍ بين مايجوز منها وما لايجوز , فقد نصَّ قرار المجمع الفقهي في بيان أسباب تحريم المتاجرة بالهامش على ذلك , حيث ورد في القرار ما نصُّه: " ثانياً: المتاجرة في أسهم الشركات دون تمييز، وقد نصَّ القرار الرابع للمجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الرابعة عشرة سنة 1415 هـ على حُرْمَة المتاجرة في أسهم الشركات التي غرضها الأساسي محرَّم، أو بعض معاملاتها رِبا". خامساً: ثبت بالنصِّ الصريح في السُّنَّة اشتراط التقابض في الصرف , كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة. . . فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد " (¬3). ¬

(¬1) ينظر: الأحكام الشرعية لتجارة الهامش ,د. حمزة الفعر (20) , المتاجرة بالهامش دراسة تصويرية فقهية, د. عبدالله السعيدي (15 - 16) ضمن الأبحاث المقدمة للمجمع الفقهي الإسلامي في دورته الثامنة عشرة. (¬2) ينظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة من من 7 - 12 ذي القعدة 1412 الموافق 9 - 14 أيار (مايو) 1992 م. (¬3) سبق تخريجه: (49).

وهو نصٌّ صريحٌ في وجوب التقابض في حال اختلاف البدلين قبل التفرُّق عن مجلس العقد , وإلا كان ذلك من قبيل الرِّبا , ويُطلَق عليه "رِبا النسيئة" (¬1). وقد اجتهد مجلس المجمع الفقهي في تحقيق مناط هذ الحكم في بيع وشراء العملات الورقية كالريال والجنيه والدولار؛ وذلك باعتبار أنها نقودٌ اعتباريةٌ فيها صفة الثمنية كاملة , فتجري عليها الأحكام الشرعيَّة المقررة للذهب والفضة , مثل أحكام الرِّبا والزكاة والسَّلَم وسائر أحكامهما, ومن ذلك وجوب التقابض الحقيقي أو الحكمي (¬2) في مجلس العقد (¬3). ومن الصور المعاصرة للقبض الحكمي المُعْتَبرة شرعاً وعرفاً: القيد المصرفي لمبلغٍ من المال في حساب العميل , وذلك في حالات منها (¬4): - إذا عقد العميل عقدَ صرفٍ ناجزٍ بينه وبين المصرف في حال شراء عملةٍ بعملةٍ أخرى لحساب العميل. - إذا اقتطع المصرف - بأمر العميل - مبلغاً من حسابٍ له إلى حسابٍ آخر بعملةٍ أخرى، في المصرف نفسه أو غيره، لصالح العميل أو لمستفيدٍ آخر، وعلى المصارف مراعاة قواعد عقد الصرف في الشريعة الإسلامية. ويغتفر تأخير القيد المصرفي بالصورة التي يتمكن المستفيد بها من ¬

(¬1) ينظر: بدائع الصنائع (5/ 215) ,مواهب الجليل (4/ 300) , مغني المحتاج للشربيني (2/ 364) ,شرح منتهى الإرادات (3/ 2620). (¬2) قبض الأموال كما يكون حسِّياً في حالة الأخذ باليد، أو الكيل أو الوزن في الطعام، أو النقل والتحويل إلى حوزة القابض، يتحقق اعتباراً وحكماً بالتخلية مع التمكين من التصرف ولو لم يوجد القبض حسَّاً , وتختلف كيفية قبض الأشياء بحسب حالها واختلاف الأعراف فيما يكون قبضاً لها. ينظر: المغني لابن قدامة (6/ 186 - 188) , روضة الطالبين للنووي (3/ 517 - 518) ,بدائع الصنائع (5/ 244) , مواهب الجليل (4/ 477). (¬3) ينظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنعقد في دورته الثالثة بعمان في المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ، الموافق 11 - 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1986 م. (¬4) ينظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسة بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410 الموافق 14 - 20 آذار (مارس) 1990 م.

التسلَّم الفعلي، للمُدَد المتعارف عليها في أسواق التعامل، على أنه لا يجوز للمستفيد أن يتصرف في العملة خلال المدة المغتفرة إلا بعد أن يحصل أثر القيد المصرفي بإمكان التسلم الفعلي (¬1). ونظراً لما تشتمل عليه أغلب عقود المتاجرة بالهامش من بيع وشراء العملات دون مراعاةٍ لشرط القبض الحكمي فيها , فقد اعتبر مجلس المجمع الفقهي ذلك من أسباب تحريم المتاجرة بالهامش, حيث ورد في قرار المجمع الفقهي ما نصُّه: "ويرى المجلس أن هذه المعاملة لا تجوز شرعاً للأسباب الآتية: .. " , ثم جاء ضمن الأسباب المذكورة: " 3 - بيع وشراء العملات يتم غالباً دون قبضٍ شرعيٍّ يُجيز التصرف". وذلك لأن القبض الحكمي الذي يترتب عليه أثره-وهو حصول القيد المصرفي بإمكان التسلُّم الفعلي- يتأخر عدة أيامٍ في بيع وشراء العملات في الأسواق المالية, وفي أثناء ذلك يجري التداول فيها مباشرةً بمجرد القيد الإلكتروني, مما يجعل المعاملة من الرِّبا المحرَّم؛ لفوات شرط التقابض في الصرف (¬2). سادساً: إن من شروط المعقود عليه في المعاوضات أن يكون مالاً أو منفعةً أو حقاً متعلقاً بمالٍ, فإنه حينئذٍ يجوز الاعتياض عنه , وماسوى ذلك فأخذ المال في مقابلته من أكل أموال الناس بالباطل؛ وقد ثبت ذلك عند الفقهاء باستقراء أدلة الشرع الواردة فيمايجوز المعاوضة عليه ومالايجوز , كالميتة والخنزير والكلب والخمر والحشرات والسباع وآلات اللهو وحقِّ المرور والمسيل والشرب ونحو ذلك (¬3). ¬

(¬1) ينظر: المرجع السابق. (¬2) ينظر: الأحكام الشرعية لتجارة الهامش للدكتور حمزة الفعر (26) , المتاجرة بالهامش دراسة تصويرية فقهية, د. عبدالله السعيدي (40) ضمن الأبحاث المقدمة للمجمع الفقهي الإسلامي في دورته الثامنة عشرة. (¬3) ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (4/ 52) , مغني المحتاج للشربيني (2/ 242 - 243) , مواهب الجليل (4/ 263 - 264)) , شرح منتهى الإرادات (3/ 126).

وقد اجتهد مجلس مجمع الفقه الإسلامي في تحقيق مناط هذا الحكم في عقود الخيارات (¬1) , والمستقبليات (¬2) , والعقود على المؤشر (¬3) , التي يجري تداولها في الأسواق المالية , وذلك باعتبار أنها ليست مالاً ولا منفعةً ولا حقَّا مالياً يجوز الاعتياض عنه؛ فلا يجوز حينئذٍ تداولها (¬4). ونظراً لما تشتمل عليه أغلب عقود المتاجرة بالهامش من بيع وشراء عقود الخيارات والمستقبليات , والعقد على المؤشِّر (¬5) , فقد اعتبر مجلس المجمع الفقهي ذلك من أسباب تحريم المتاجرة بالهامش, حيث ورد في قرار المجمع الفقهي ما نصُّه: "ويرى المجلس أن هذه المعاملة لا تجوز شرعاً للأسباب الآتية: .. " , ثم جاء ضمن الأسباب المذكورة: " 4 - التجارة في عقود الخيارات وعقود المستقبليات، وقد نصَّ قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة رقم (63) في دورته السادسة أن عقود الخيارات غير جائزةٍ شرعاً؛ لأن المعقود عليه ليس مالاً ولا منفعةً ولا حقاً مالياً يجوز الاعتياض عنه، ومثلُها عقود المستقبليات والعقد على المؤشِّر". ¬

(¬1) عقد الاختيار هو: عقدٌ يعطي لحامله الحق في شراء أو بيع أصلٍ معينٍ أو أداةٍ مالية، في تاريخٍ لاحقٍ وبسعرٍ محدَّدٍ وقت العقد، على أن يكون لمشتري حق الخيار الحقُّ في التنفيذ من عدمه. ينظر: إدارة الأسواق والمنشآت المالية ,د. منير هندي (589) ,الأسواق المالية مفاهيم وتطبيقات, د. حسني خريوش (163). (¬2) عقود المستقبليات هي: عقودٌ تعطي لحاملها الحق في شراء أو بيع كميةٍ من أصلٍ معين (قد يكون سلعة أو ورقة مالية) بسعرٍ محدَّدٍ مسبقًا، على أن يتم التسليم والتسلُّم في تاريخٍ لا حقٍ في المستقبل. ينظر: إدارة الأسواق والمنشآت المالية ,د. منير هندي (631) ,مبادئ الاستثمار المالي ,د. زياد رمضان (97). (¬3) المؤشِّر هو: رقمٌ حسابيٌّ يحسب بطريقةٍ إحصائيةٍ خاصة, يُقصَد منه معرفة الاتجاه العام في السوق, صعوداً وهبوطاً, وتجري عليه المبايعات في بعض الأسواق المالية. ينظر: الأحكام الشرعية لتجارة الهامش ,د. حمزة الفعر (13) ,قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته السابعة بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 - 12 ذي القعدة 1412 الموافق 9 - 14 أيار (مايو) 1992 م. (¬4) ينظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته السابعة بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 - 12 ذي القعدة 1412 الموافق 9 - 14 أيار (مايو) 1992 م. (¬5) ينظر: بورصة الأوراق المالية للدكتور شعبان البرواري (234) ,الأحكام الشرعية لتجارة الهامش للدكتور حمزة الفعر (29 - 30).

سابعاً: ثبت بنصِّ السُّنَّة الصريح النهيُ عن بيع ماليس بمملوكٍ للبائع , كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "لاتبع ماليس عندك" (¬1). وهو نصٌّ صريحٌ على شرطٍ من شروط المعاوضات , وهو أن يكون المعقود عليه مملوكاً لمن له العقد أو مأذوناً له فيه بالتصرُّف؛ لأن البيع تمليكٌ فلا ينعقد فيما ليس بمملوك (¬2). وقد اجتهد مجلس مجمع الفقه الإسلامي في تحقيق مناط هذا الحكم في عقود المتاجرة بالهامش التي يجري فيها التداول، وينتقل محل العقد من شخصٍ إلى آخر من دون تحقُّق وجوده وقبضه في حال التداول, حيث يبيع الوسيط للعميل عدداً من الأوراق المالية, ثم قبل موعد تسليمها للمشتري يقوم البائع -العميل- بشرائها أو يقوم الوسيط باقتراضها له وتسليمها للمشتري, وبهذا يكون قد باع ما لايملك وقت العقد. حيث جاء في نصِّ القرار ضمن أسباب تحريم المتاجرة بالهامش: " 5 - أن الوسيط في بعض الحالات يبيع ما لا يملك، وبيع ما لا يملك ممنوعٌ شرعاً". ثامناً: ثبت بنصِّ الكتاب والسُّنَّة النهي عن أكل أموال الناس بالباطل , ومن أصرح النصوص في ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. أي: " ولا يأكل بعضكم أموال بعض فيما بينكم بالباطل، وأكلُه بالباطل: أكلُه من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه" (¬3). وقد اجتهد مجلس مجمع الفقه الإسلامي في تحقيق مناط هذا الحكم ¬

(¬1) أخرجه أبوداود في "سننه",كتاب البيوع ,باب الرجل يبيع ماليس عنده, رقم (3503) ,كتاب البيوع , باب ما جاء في كراهية بيع ماليس عنده, رقم (1232) ,وقال الترمذي: حديث حسن , وصححه الألباني في إرواء الغليل (5/ 132). (¬2) ينظر: المغني لابن قدامة (6/ 296) ,بدائع الصنائع (5/ 146) ,مغني الحتاج (2/ 349 - 350) ,التاج والإكليل لمختصر خليل (6/ 71). (¬3) جامع البيان للطبري: (3/ 276).

في عقود المتاجرة بالهامش؛ لما تشتمل عليه غالباً من المجازفة والخداع والتضليل والاحتكار والنجش , وغير ذلك من التصرفات المحُرْمَة التي ينتج عنها الإضرار باقتصاد المجتمع وكلُّ ذلك من كلِ أموال الناس بالباطل. حيث جاء في نصِّ القرار ضمن أسباب تحريم المتاجرة بالهامش: " رابعاً: لما تشتمل عليه هذه المعاملة من أضرارٍ اقتصاديةٍ على الأطراف المتعاملة، وخصوصاً العميل (المستثِمر)، وعلى اقتصاد المجتمع بصفةٍ عامة؛ لأنها تقوم على التوسُّع في الديون، وعلى المجازفة، وما تشتمل عليه غالباً من خداعٍ وتضليلٍ وشائعات، واحتكارٍ ونجشٍ وتقلباتٍ قويةٍ وسريعةٍ للأسعار؛ بهدف الثراء السريع والحصول على مُدَّخرات الآخرين بطرقٍ غير مشروعة، مما يجعلها من قبيل أكلِ المال بالباطل، إضافةً إلى تحوُّل الأموال في المجتمع من الأنشطة الاقتصادية الحقيقية المثمرة إلى هذه المجازفات غير المثمرة اقتصادياً، وقد تؤدي إلى هزَّاتٍ اقتصاديةٍ عنيفةٍ تُلْحِق بالمجتمع خسائرَ وأضراراً فادحة".

المبحث السابع خطاب الضمان البنكي

المبحث السابع خطاب الضمان البنكي الضمان لغةً: مأخوذٌ من الضِمْن , وضمَّنت الشيء، إذا جعلته في وعائه, والكفالة تُسمَّى ضماناً من هذا ; لأنه إذا ضَمِنَه فقد استوعب ذمته, والضمين هو: الكفيل (¬1). والضمان البنكي اصطلاحاً هو: عبارةٌ عن تعهدٍ كتابيٍّ بناءً على طلب العميل؛ يلتزِم فيه المَصْرِف لصالح العميل في مواجهة شخصٍ ثالثٍ بدفع مبلغٍ معينٍ في وقتٍ معين (¬2). وتنقسم خطابات الضمان من حيث الغطاء وعدمه إلى ثلاثة أقسام (¬3): القسم الأول: خطاب الضمان المقابل بغطاءٍ كامل ,وهو الخطاب الذي يصدر من البنك لصالح المستفيد بعد أن يودع العميل في حسابه البنكي ما يساوي ضمان الخطاب، ويودع مبلغ الغطاء في حسابٍ يُسمَّى احتياطي الضمان، ولا يجوز للعميل أن يتصرف فيه حتى ينتهي تاريخ التزام البنك بالخطاب. والقسم الثاني: خطاب الضمان المقابل بغطاءٍ جزئي, وهو الخطاب الذي يصدر من البنك بعد أن يودع العميل في حسابه ما هو أقل من ضمان الخطاب. ¬

(¬1) ينظر: الصحاح (6/ 2115) , معجم مقاييس اللغة (3/ 372) , لسان العرب (13/ 257) مادة"ض م ن". (¬2) ينظر: الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية (ج 5/مج 1/ 464) , خطابات الضمان المصرفية, علي جمال الدين عوض (11 - 12). (¬3) ينظر: الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية (ج 5/مج 1/ 465).

فإذا كان خطاب الضمان البنكي كما تقدم فما حُكْم أخذ البنك أجرةً - عمولة - من العميل على إصدار خطاب الضمان؟ لقد بحث مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي, وذلك في دورته الثانية بجدة من 10 - 16 ربيع الآخر 1406 هـ، الموافق 22 - 28 كانون الأول (ديسمبر) 1985 م. وقرر المجلس ما يلي: أولاً: إن خطاب الضمان لا يجوز أخذ الأجر عليه لقاء عملية الضمان - والتي يراعى فيها عادةً مبلغ الضمان ومدته - سواء أكان بغطاءٍ أم بدونه. ثانياً: إن المصاريف الإدارية لإصدار خطاب الضمان بنوعيه جائزةٌ شرعاً، مع مراعاة عدم الزيادة على أجر المِثْل، وفي حالة تقديم غطاءٍ كليٍّ أو جزئي، يجوز أن يُراعى في تقدير المصاريف لإصدار خطاب الضمان ما قد تتطلبه المهمة الفعلية لأداء ذلك الغطاء (¬1). ويمكن إبراز أوجه تطبيق الاجتهاد في المناط على هذه المسألة فيما يأتي: أولاً: من ضوابط الاجتهاد في المناط التصوُّر التام للواقعة ومعرفة حقيقتها, ومكوناتها , وخصائصها, كما تقدم (¬2). وقد راعى مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذا الضابط في تحقيق مناط الضمان أو الكفالة في خطاب الضمان البنكي غير المغطَّى, وذلك باعتبار أن الضمان أو الكفالة هي ضمُّ ذمَّة الضامن إلى ذمَّة غيره فيما يلزم حالاً أو مآلاً , وهذا موجودٌ في خطابات الضمان، فالمَصْرِف يلتزم الدَّين الذي يكون على العميل تجاه الغير في وقتٍ محدد. كما راعى -أيضاً- مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر ¬

(¬1) ينظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية بجدة من 10 - 16 ربيع الآخر 1406 هـ، الموافق 22 - 28 كانون الأول (ديسمبر) 1985 م. (¬2) ينظر: (223 - 228).

الإسلامي هذا الضابط في تحقيق مناط الوكالة في خطاب الضمان البنكي المُغطَّى, وذلك باعتبار أن الوكالة هي إقامة الغير مقام النفس في تصرُّفٍ جائزٍ معلوم، وهذا موجودٌ في خطاب الضمان، فالعميل يوكِّل المصرف في تصرُّفٍ معلومٍ جائز؛ وهو أن يسدِّد عنه إذا لم يسدِّد هذه الضمانات أو لم يقم بهذه العملية ونحو ذلك. حيث ورد في القرار ما نصُّه: " وبعد النظر فيما أُعد في خطاب الضمان من بحوث ودراسات، وبعد المداولات والمناقشات المستفيضة التي تبين منها: أولاً: أن خطاب الضمان بأنواعه الابتدائي والانتهائي لا يخلو إما أن يكون بغطاءٍ أو بدونه، فإن كان بدون غطاء، فهو: ضمُّ ذمَّة الضامن إلى ذمَّة غيره فيما يلزم حالاً أو مآلاً، وهذه هي حقيقة ما يعنى في الفقه الإسلامي باسم: الضمان أو الكفالة. وإن كان خطاب الضمان بغطاء , فالعلاقة بين طالب خطاب الضمان وبين مُصْدِرِه هي: الوكالة، والوكالة تصح بأجرٍ أو بدونه مع بقاء علاقة الكفالة لصالح المستفيد (المكفول له) " (¬1). والتفريق في الأحكام -كما سيأتي- بين خطاب الضمان المغطَّى وغير المغطَّى قد بُنيَ على تصورٍ تام لهذا النوع من المعاملات البنكية , وبعد معرفةٍ لحقيقتها, وهو المقصود من مراعاة هذا الضابط أثناء الاجتهاد في تحقيق مناطات الأحكام. ثانياً: تقرر شرعاً أنه لايجوز أخذ الأجرة على الضمان. وقد ذهب إلى ذلك الجمهور من الحنفية (¬2) , والمالكية (¬3) , والشافعية (¬4) , والحنابلة (¬5). ¬

(¬1) ينظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية بجدة من 10 - 16 ربيع الآخر 1406 هـ، الموافق 22 - 28 كانون الأول (ديسمبر) 1985 م. (¬2) ينظر: المبسوط للسرخسي (20/ 32). (¬3) ينظر: مواهب الجليل (4/ 391). (¬4) ينظر: مغني المحتاج (3/ 218). (¬5) ينظر: المغني (7/ 91).

بل إن ابن المنذر حكى الإجماع في ذلك فقال: " أجمع من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الحِمالة بجُعلٍ يأخذه الحميل، لا تحلّ ولا تجوز " (¬1). وذلك لأنه في حال عدم وفاء المضمون عنه بالالتزام تجاه الطرف الثالث يكون الضامن ملزَماً بأداء الدَّين بناءً على عقد الضمان, وإذا أدَّاه وجب ذلك المبلغ المضمون عنه ,فصار الضمان في هذه الحالة كالقرض , فإذا أخذ عنه عوضاً صار قرضاً جرَّ نفعاً (¬2). وقد اجتهد مجلس مجمع الفقه الإسلامي في تحقيق مناط هذا الحُكْم في خطاب الضمان غير المُغطَّى؛ لأنه في حالة أداء الكفيل (البنك) مبلغَ الضمان فإنه يشبه القرض, فإذا أخذ البنك عنه عوضاً صار قرضاً جرَّ نفعاً على المقرِض، وهو محرَّمٌ شرعاً. حيث ورد في القرار ما نصُّه: " إن الكفالة هي عقد تبرعٍ يُقصَد به الإرفاق والإحسان, وقد قرَّر الفقهاء عدم جواز أخذ العوِض على الكفالة؛ لأنه في حالة أداء الكفيل مبلغ الضمان يشبه القرض الذي جرَّ نفعاً على المقرِض، وذلك ممنوع شرعاً". ولأن الأصل في الضمان أنه من عقود الإرفاق والإحسان، فإذا شرط الضامن لنفسه حقاً مالياً خرج عن موضوعه، فمنع صحته (¬3). وقد اجتهد مجلس مجمع الفقه الإسلامي في تحقيق مناط هذا الحُكْم في خطاب الضمان الذي يأخذ عليه البنك أجراً-عمولة - من العميل , سواء كان خطاب الضمان مُغطَّى كلياً أو جزئياً أو غير مُغطَّى , وذلك باعتبار أنه عقد كفالة, وعقد الكفالة من عقود التبرع التي يقصد بها الإرفاق والإحسان, ويجوز في هذه الحالة أن يأخذ البنك قيمة المصروفات الفعلية التي تكلِّفها عملية إصدار خطاب الضمان. ¬

(¬1) ينظر: الإشراف على مذاهب أهل العلم (1/ 120). (¬2) ينظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير (3/ 404) ,كشاف القناع (8/ 146) ,الربا والمعاملات المصرفية, عمر المترك (387). (¬3) ينظر: الأم (3/ 234)، المبسوط (20/ 8) ,الربا والمعاملات المصرفية, عمر المترك (387).

حيث ورد في القرار مانصُّه: ": أن خطاب الضمان بأنواعه الابتدائي والانتهائي لا يخلو إما أن يكون بغطاءٍ أو بدونه، فإن كان بدون غطاءٍ فهو: ضمُّ ذمَّة الضامن إلى ذمَّة غيره فيما يلزم حالاً أو مآلاً، وهذه هي حقيقة ما يعنى في الفقه الإسلامي باسم: الضمان أو الكفالة". "وإن كان خطاب الضمان بغطاءٍ فالعلاقة بين طالب خطاب الضمان وبين مصدره هي: الوكالة، والوكالة تصح بأجرٍ أو بدونه مع بقاء علاقة الكفالة لصالح المستفيد (المكفول له) ".

المبحث الثامن التورق المصرفي المنظم

المبحث الثامن التورُّق المصرفي المنظَّم التورُّق لغةً: طلب الوَرِق , والوَرِق هي: الفضة مضروبةً كانت أو غير مضروبة , ثم شاع استعمال الوَرِق: في الدراهم المضروبة من الفضة (¬1). والتورُّق اصطلاحاً هو: أن يشتري المرءُ سلعةً نسيئةً، ثم يبيعها نقداً لغير البائع بأقل ممّا اشتراها به، ليحصل بذلك على النقد (¬2). وهذه المسألة تُسمَّى عند الحنابلة بـ"مسألة التورُّق" من الوَرِق، وهو الفضة؛ لأن مشترِي السلعة يبيع بها, والمقصود فيها الحصول على النقد (¬3). وتسمَّى عند بعض الشافعية ب"الزرنقة", وهي لفظةٌ أعجميةٌ معرَّب زرنة: أي ليس الذهب معي، فيطلب الذهب بالعِينَة (¬4). ويبحثها أكثر الفقهاء ضمن مسائل بيوع الآجال, وعند ذكر مسألة العِينَة , مع الاقتصار على إيراد صورتها دون تسميتها (¬5). أما التورُّق المصرفي المنظَّم فهو: "قيام المصرف بعملٍ نمطيٍّ يتم فيه ترتيب بيع سلعةٍ (ليست من الذهب أو الفضة) من أسواق السلع العالمية أو غيرها، على المستورِق بثمنٍ آجل، على أن يلتزم المصرف - إما بشرطٍ في ¬

(¬1) ينظر: الصحاح (10/ 375) ,معجم مقاييس اللغة (6/ 101) ,لسان العرب (10/ 375). (¬2) ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (29/ 303) , كشاف القناع (7/ 382) , شرح منتهى الإرادات (3/ 164). (¬3) ينظر: كشاف القناع (7/ 383) , مطالب أولي النهى (3/ 61). (¬4) ينظر: الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي للأزهري (143) ,النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (2/ 301). (¬5) ينظر: القوانين الفقهية لابن جزي (422 - 423) , حاشية ابن عابدين (5/ 325 - 326).

العقد أو بحُكْم العرف والعادة - بأن ينوب عنه في بيعها على مشترٍ آخر بثمنٍ حاضر، وتسليم ثمنها للمستورِق" (¬1). أو يقال هو: " شراء المستورِق سلعةً من الأسواق المحلية أو الدولية أو ما شابهها بثمنٍ مؤجَّلٍ يتولى البائع (المموِّل) ترتيب بيعها، إما بنفسه أو بتوكيل غيره أو بتواطؤ المستورِق مع البائع على ذلك، وذلك بثمنٍ حالٍّ أقلّ غالباً" (¬2). ومن أبرز غايات التورُّق المصرفي المنظَّم مايأتي (¬3): 1 - تمويل الأفراد والشركات، وتوفير السيولة اللازمة التي تحتاجها مشاريعهم الاقتصادية والاجتماعية. 2 - تمكين المدينين من سداد ديونهم لدى المصارف التجارية، حيث تستخدم المصارف الإسلامية التورُّق لتحويل المدين للبنوك التجارية للتعامل مع المصارف الإسلامية. 3 - استثمار المصرف ما لديه من سيولةٍ فائضةٍ في السلع الدولية عن طريق المتاجرة بها، حيث يقوم المصرف بشراء السلعة من شركةٍ في السوق الدولية بوسائل الاتصال الحديثة، ومن ثَمَّ بيعها للمتورِق بالأجل مساومةً أو مرابحة، بأكثر من سعر يومها، ثم يبيعها المصرف نيابةً عن المالك (العميل)، وقد يبيعها للشركة التي اشترى منها السلعة, ويستفيد المصرف من فرق السعرين. فإذا كان التورّق المصرفي المنظَّم كما تقدم بيانه فما حُكْم التعاقد به في الشرع المطهّر؟ ¬

(¬1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من 19 - 23/ 10/1424 هـ. (¬2) ينظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورته التاسعة عشرة من 1 إلى 5 جمادى الأولى 1430 هـ، الموافق 26 - 30 نيسان (إبريل 2009 م). (¬3) ينظر: التورق الفقهي وتطبيقاته المصرفية المعاصرة في الفقه الإسلامي ,د. محمد عثمان شبير , (22) بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته التاسعة عشرة.

لقد بحث مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي هذه المعاملة , وذلك في دورته السابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من 19 - 23/ 10/ 1424 هـ الذي يوافقه: 13 - 17/ 12/ 2003 م. وبعد الاستماع إلى الأبحاث المقدمة حول الموضوع، والمناقشات التي دارت حوله، قرر مايلي: " عدم جواز التورّق الذي سبق توصيفه .. ". كما بحث مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي هذه المعاملة , وذلك في دورته التاسعة عشرة في إمارة الشارقة (دولة الإمارات العربية المتحدة) من 1 إلى 5 جمادى الأولى 1430 هـ، الموافق 26 - 30 نيسان (إبريل) 2009 م. وبعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع التورّق: حقيقته، أنواعه (الفقهي المعروف والمصرفي المنظَّم)، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، وبعد الاطلاع على قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة بهذا الخصوص, قرَّر مايلي: " لا يجوز التورّقان (المنظَّم والعكسي) .. " (¬1). ويمكن إبراز أوجه تطبيق الاجتهاد في المناط على هذه المسألة فيما يأتي: أولاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط التصوّر التام للواقعة ومعرفة مكوناتها التي تميِّزها عن غيرها كما تقدّم (¬2). وقد راعى مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي هذا الضابط في توصيفه للتورّق المصرفي المنظَّم كما يجري في الوقت الحاضر قبل تحقيق مناط التحريم فيه. ¬

(¬1) صورة التورّق العكسي هي صورة التورّق المنظَّم نفسها مع كون المستورِق هو المؤسسة والمموِّل هو العميل. ينظر: قرارات مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته التاسعة عشرة في إمارة الشارقة (دولة الإمارات العربية المتحدة) من 1 إلى 5 جمادى الأولى 1430 هـ، الموافق 26 - 30 نيسان (إبريل) 2009 م. (¬2) ينظر: (223 - 228).

حيث ورد في القرار ما نصُّه: " وبعد الاستماع إلى الأبحاث المقدمة حول الموضوع، والمناقشات التي دارت حوله، تبين للمجلس أن التورّق الذي تجريه بعض المصارف في الوقت الحاضر هو: قيام المصرف بعملٍ نمطيٍّ يتم فيه ترتيب بيع سلعةٍ (ليست من الذهب أو الفضة) من أسواق السلع العالمية أو غيرها، على المستورِق بثمنٍ آجل، على أن يلتزم المصرف - إما بشرطٍ في العقد أو بحُكْم العرف والعادة - بأن ينوب عنه في بيعها على مشترٍ آخر بثمنٍ حاضر، وتسليم ثمنها للمستورِق". كما أوضح مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي الفرق بين التورّق المعروف عند الفقهاء والتورّق المصرفي المنظَّم , وهو من تمييز مكونات الواقعة عن غيرها الذي يترتَّب عليه الأثر في اختلاف الحُكْم بين الصور والوقائع. حيث ورد في القرار ما نصُّه: " وهذه المعاملة -أي: التورّق المصرفي المنظَّم- غير التورّق الحقيقي المعروف عند الفقهاء، والذي سبق للمجمع في دورته الخامسة عشرة أن قال بجوازه بمعاملاتٍ حقيقيةٍ وشروطٍ محدَّدَةٍ بيَّنها قرارُه (¬1) .. وذلك لما بينهما من فروقٍ عديدةٍ فصَّلت القولَ فيها البحوثُ المقدَّمة, فالتورّق الحقيقي يقوم على شراءٍ حقيقيٍّ لسلعةٍ بثمنٍ آجلٍ تدخل في ملك المشتري , ويقبضها قبضاً حقيقياً , وتقع في ضمانه، ثم يقوم ببيعها هو بثمنٍ حالٍّ لحاجته إليه، قد يتمكن من الحصول عليه وقد لا يتمكن، والفرق بين الثمنين الآجل والحال لا يدخل في ملك المصرف الذي طرأ على المعاملة لغرض تسويغ الحصول على زيادةٍ لِما قدَّم من تمويلٍ لهذا الشخص بمعاملاتٍ صوريَّةٍ في معظم أحوالها، وهذا لا يتوافر في المعاملة المبيَّنة التي تجريها بعض المصارف" (¬2). أما مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي فقد ¬

(¬1) ينظر: قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي (320 - 321). (¬2) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من 19 - 23/ 10/1424 هـ.

راعى هذا الضابط بذكر أنواع التورّق، وتوصيف التورّق المعروف عند الفقهاء، وتوصيف التورّق المصرفي المنظَّم ,ثم بناء الحُكْم على الفرق المميِّز بينهما. حيث ورد في القرار ما نصّه: " أولاً: أنواع التورّق وأحكامها: (1) التورّق في اصطلاح الفقهاء: هو شراء شخصٍ (المستورق) سلعةً بثمنٍ مؤجَّلٍ من أجل أن يبيعها نقداً بثمنٍ أقلّ غالباً إلى غير من اشتُريت منه بقصد الحصول على النقد. . . (2) التورّق المنظَّم في الاصطلاح المعاصر: هو شراء المستورق سلعةً من الأسواق المحلية أو الدولية أو ما شابهها بثمنٍ مؤجَّلٍ يتولى البائع (المموِّل) ترتيب بيعها، إما بنفسه أو بتوكيل غيره أو بتواطؤ المستورِق مع البائع على ذلك، وذلك بثمنٍ حالٍّ أقلّ غالباً. (3) التورّق العكسي: هو صورة التورّق المنظَّم نفسَها مع كون المستورِق هو المؤسسة والمموِّل هو العميل" (¬1). ثانياً: ثبت بنصِّ السُّنَّة الصريح تحريم بيع العِينَة , كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا تبايعتم بالعِينَة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزَّرع وتركتم الجهاد سلَّط الله عليكم ذُلَّاً لا ينْزِعُه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم" (¬2). والمقصود بالعِينَة: بيع الرجل سلعةً إلى أجل، ثم يشتريها البائع نفسُه بثمنٍ حالٍّ أقلّ منه (¬3). ¬

(¬1) ينظر: قرارات مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته التاسعة عشرة في إمارة الشارقة (دولة الإمارات العربية المتحدة) من 1 إلى 5 جمادى الأولى 1430 هـ، الموافق 26 - 30 نيسان (إبريل) 2009 م. (¬2) أخرجه أبو داود في "سننه", كتاب البيوع , باب النهي عن العِينَة, رقم (3462) وأحمد في المسند , ... ... رقم (4825)، وحسّنه ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود (5/ 104). (¬3) ولها صورٌ أخرى عديدة. ينظر: مغني المحتاج (2/ 396) , مواهب الجليل شرح مختصر خليل (4/ 404) , شرح منتهى الإرادات (3/ 164) , حاشية ابن عابدين (5/ 325).

ومناط التحريم في بيع العِينَة: أنه ذريعةٌ إلى الرِّبا، وسَدُّ الذرائع مُعتبرٌ شرعاً، ووجه اعتباره ذريعةً إلى الرِّبا أن البائع استباح أخذ الثمن الأكثر الآجل بالثمن الأقل العاجل إلى أجلٍ معلوم, واحتال على ذلك بالبيع إلى أجل (¬1). وقد اجتهد مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في تحقيق مناط التذرّع إلى الرِّبا في التورّق المصرفي المنظَّم , وذلك باعتبار أن المصرف يهدف بطريقةٍ منظَّمةٍ إلى توفير السيولة النقدية للمتورِّق على أن يكون مديناً له بزيادة , وهذا هو حاصل رِبا النسيئة , وقد اتخذ المصرف التورّقَ المنظَّم ذريعةً إلى ذلك (¬2). حيث ورد في القرار ما نصّه -في سياق ذكر تعليل الحُكْم بعدم جواز التورّق المصرفي المنظَّم-: " أن التزام البائع في عقد التورّق بالوكالة في بيع السلعة لمشترٍ آخر أو ترتيب من يشتريها يجعلها شبيهةً بالعِينَة الممنوعة شرعاً، سواء أكان الالتزام مشروطاً صراحةً أم بحُكْم العرف والعادة المتَّبَعة ". ونصّ القرار على "أن واقع هذه المعاملة يقوم على منح تمويلٍ نقديٍّ بزيادةٍ لما سُمِّيَ بالمستورِق فيها من المصرف في معاملات البيع والشراء التي تجري منه والتي هي صوريةٌ في معظم أحوالها، هدفَ البنكُ من إجرائها أن تعود عليه بزيادةٍ على ما قدَّم من تمويل". فالمتورِّق -هنا- لا همَّ له غير السيولة النقدية , وموضوع السلعة إنما كان فقط للتحايل، فالمحصِّلة بالنسبة للمتورِّق في هذه المعاملة أنه أخذ من البنك مبلغاً وهو (ثمن السلعة بعد بيعها حالَّا) وسيردُّه أكبرَ من ذلك (ثمن السلعة التي اتفق أن يشتريها من البنك آجلا) , وهذا من صور الرِّبا. كما اجتهد مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في تحقيق مناط التذرُّع إلى الرِّبا في التورّق المصرفي المنظَّم , وجاء ¬

(¬1) ينظر: المراجع السابقة. (¬2) ينظر: التورُّق والتورُّق المنظم دراسة تأصيلية ,د. سامي السويلم, (22 - 23) ,التورّق حقيقته وأنواعه , أ. د. وهبة الزحيلي, (10 - 11) بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته التاسعة عشرة.

في القرار الصادر عنه ما نصُّه: " لا يجوز التورقان (المنظَّم والعكسي) وذلك لأن فيهما تواطؤاً بين المموِّل والمستورِق، صراحةً أو ضمناً أو عرفاً، تحايلاً لتحصيل النقد الحاضر بأكثر منه في الذمة وهو رِبا" (¬1). وهذا المعنى هو ماحدا بشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم إلى القول بتحريم التورّق المعروف عند الفقهاء. قال ابن القيم: "وكان شيخنا -رحمه الله- يمنع من مسألة التورُّق، وروجع فيه مراراً وأنا حاضِرٌ فلم يرخِّص فيها ,وقال: المعنى الذي لأجله حُرِّم الرِّبا موجودٌ فيها بعينه" (¬2). بل قرر ابن القيم في موضعٍ آخر أنه أعظم تحريماً؛ وذلك لأنه قَصَدَ التحايلَ على الرِّبا, حيث قال: " فإن من أراد أن بيع مائةً بمائةٍ وعشرين إلى أجلٍ فأعطى سلعةً بالثمن المؤجَّل ثم اشتراها بالثمن الحال , ولا غرض لواحدٍ منهما في السلعة بوجهٍ ما. . . فلا فرق بين ذلك وبين مائةٍ بمائةٍ وعشرين درهماً بلا حيلةٍ البتة , لا في شرعٍ ولا في عقلٍ ولا في عرفٍ , بل المفسدة التي لأجلها حُرِّم الرِّبا بعينه قائمةٌ مع الاحتيال أو أزيد , فانها تضاعفت بالاحتيال " (¬3). بينما ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬4) ,والمالكية (¬5) , والشافعية (¬6) , والحنابلة (¬7) إلى جواز التورّق البسيط باعتبار أنه لاتذرُّع فيه إلى الرِّبا , والأصل في البيوع الإباحة. ¬

(¬1) ينظر: قرارات مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته التاسعة عشرة في إمارة الشارقة (دولة الإمارات العربية المتحدة) من 1 إلى 5 جمادى الأولى 1430 هـ، الموافق 26 - 30 نيسان (إبريل) 2009 م. (¬2) ينظر: إعلام الموقعين (5/ 86). (¬3) إعلام الموقعين (4/ 524 - 525). (¬4) ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (4/ 55). (¬5) ينظر: القوانين الفقهية لابن جزي (422 - 423). (¬6) ينظر: الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي للأزهري (143). (¬7) ينظر: شرح منتهى الإرادات (3/ 164).

كما أصدر المجمع الفقهي الاسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي قراراً ينصُّ على جواز التورّق المعروف عند الفقهاء -وهو: شراء سلعةٍ في حوزة البائع وملكه، بثمنٍ مؤجَّلٍ، ثم يبيعها المشتري بنقدٍ لغير البائع، للحصول على النقد (الوَرِق) - لأن الأصل في البيوع الإباحة، لقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ولم يظهر في هذا البيع رِباً لا قصداً ولا صورة، ولأن الحاجة داعيةٌ إلى ذلك لقضاء دَين، أو زواج , أو غيرهما (¬1). ثالثاً: ثبت بنصِّ السُّنَّة الصريح اشتراط قبض المبيع قبل بيعه , كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه" (¬2). وهذا النهي يشمل الطعامَ وغيرَه من المبيعات ,كما ذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء من الحنفية (¬3) , والشافعية (¬4) , والحنابلة (¬5). قال ابن عباس (راوي الحديث): ولا أحسب كلَّ شيءٍ إلا مثلَه (¬6). وتختلف كيفية قبض الأشياء بحسب حالها واختلاف الأعراف فيما يكون قبضاً لها, فقبض ما يُتنَاول عادةً باليد يكون بتناوله باليد, وقبض المكيل والموزون والمعدود والمذروع يحصل باستيفائه كيلاً أو وزناً أو عدّاً أو ذرعاً ,وتمييزه عن غيره , وقبض مالا يُعْتَبر فيه تقديرٌ من كيلٍ أو وزنٍ أو ذَرْعٍ أو عدٍّ كالدَّواب يُرجَع فيه إلى العرف , والأشياء التي لا تنقل كالأراضي والعقارات ونحوها يكون قبضها بالتخلية بينها وبين المشتري, بلا حائلٍ دونها, وتمكينه من التصرف فيها (¬7). ¬

(¬1) ينظر: قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة , (320). (¬2) أخرجه البخاري في "صحيحه", كتاب البيوع, باب مايذكر في بيع الطعام والحُكْرة, رقم (2132) , وأخرجه مسلم في "صحيحه",كتاب البيوع, باب بطلان المبيع قبل القبض, رقم (1525) , كلاهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬3) ينظر: الهداية في شرح بداية المبتدي (3/ 59). (¬4) ينظر: مغني المحتاج (2/ 461). (¬5) ينظر: شرح منتهى الإرادات (3/ 231). (¬6) أخرجه مسلم في "صحيحه",كتاب البيوع, باب بطلان المبيع قبل القبض, رقم (1525). (¬7) ينظر: المغني لابن قدامة (6/ 186 - 188) ,روضة الطالبين للنووي (3/ 517 - 518) ,بدائع الصنائع (5/ 244) , ... مواهب الجليل (4/ 477).

وقد اجتهد مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في تحقيق مناط القبض في معاملة التورّق المصرفي المنظَّم, فأثبت في القرار عدم تحقُّق القبض الشرعي في أكثر عقود التورّق المصرفي , واعتبر ذلك سبباً من أسباب عدم جواز هذه المعاملة. حيث ورد في القرار ما نصّه -في سياق ذكر تعليل الحُكْم بعدم جواز التورّق المصرفي المنظَّم -: "أن هذه المعاملة تؤدي في كثيرٍ من الحالات إلى الإخلال بشروط القبض الشرعي اللازم لصحة المعاملة". فالمصرف - غالباً- لايقبض السلعة ويحوزها من الأسواق العالمية قبضاً شرعياً أثناء إبرام عقد الشراء الذي وكَّلَه فيه العميل , وكذلك العميل فإنه لا يقبض تلك السلعة ويستوفيها أثناء عقد البيع الذي وكَّل فيه المصرف لبيعها , وكلُّ مايتم في ذلك إنما هو على الأوراق فقط؛ لأن وجود السلعة -هنا- أمرٌ صوريٌّ ليس مقصوداً لذاته. حيث" إن السلعة التي ذُكِرَت للتحليل لا وجود لها، ولا يعلم المشتري عنها شيئاً، ولا يمكن أن يتم تسليمها، وإنما التعامل في أوراقٍ فقط، وأوراق المخازن الأصلية التي تثبت الملكية لا أحد يتسلمها أو يفكر في الحصول عليها، والذين يحصلون عليها للتسلُّم شركاتٌ عملاقةٌ تشتري بمئات الملايين أو بالمليارات، ويمكن لها التعامل في البورصة، أما المبالغ التي تودع في البنوك في هذا المنتج فهي ضئيلةٌ لا تصلح لشراء الأطنان من المعادن, لذلك وجدنا من هذه البنوك من يلغي السلعة أصلاً، ووجدنا كذلك من يصرِّح بأن العمليات تتم بالأوراق فقط، فالسلعة غير مقصودة" (¬1). رابعاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط اعتبار مقاصد المكلَّفين , والنظر في حقائق العقود لامسمياتها أو أشكالها الصورية كما تقدم (¬2). وقد راعى مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم ¬

(¬1) المنتج البديل للوديعة لأجل ـ أ. د. على السالوس: (13). (¬2) ينظر: (241 - 244).

الإسلامي هذا الضابط في تحقيق مناط التحريم في عقود التورّق المصرفي المنظَّم , وذلك بناءً على اختلاف حقيقته عن التورّق المباح عند الفقهاء بشروطه. حيث ورد في القرار ما نصُّه: -في سياق ذكر تعليل الحُكْم بعدم جواز التورّق المصرفي المنظَّم-" أن واقع هذه المعاملة يقوم على منح تمويلٍ نقديٍّ بزيادةٍ لما سُمِّيَ بالمستورِق فيها من المصرف في معاملات البيع والشراء التي تجري منه والتي هي صوريةٌ في معظم أحوالها، هدفَ البنكُ من إجرائها أن تعود عليه بزيادةٍ على ما قدَّم من تمويل , وهذه المعاملة غير التورّق الحقيقي المعروف عند الفقهاء، والذي سبق للمجمع في دورته الخامسة عشرة أن قال بجوازه بمعاملاتٍ حقيقيةٍ وشروطٍ محدَّدَةٍ بيَّنها قراره (¬1) , وذلك لما بينهما من فروقٍ عديدة. . . " (¬2). ورغم أن التورّق المعروف عند الفقهاء يتفق مع التورّق المصرفي المنظَّم في الحصول على النقد عن طريق شراء سلعةٍ بالأجل وبيعها بالثمن الحال، إلا أنهما يختلفان من عِدَّة وجوهٍ مؤثِرةٍ في الحُكْم من أهمها (¬3): 1 - التورّق المعروف عند الفقهاء يجمع بين عقدين منفصلين عن بعضهما البعض، حيث يقوم العميل بشراء السلعة مستوفياً أركانَ البيع بالأجل، ثم تنتهي هذه العملية لتبدأ عملية أخرى منفصلةً عنها مطلقاً, وهي بيع السلعة التي اشتراها بثمنٍ حال, أما في التورّق المصرفي فإن عملياته مرتبطةٌ بعضها ببعض، حيث يقوم المصرف باتفاقاتٍ سابقةٍ على العملية، مع كلٍّ من الجهة التي يشتري منها، والجهة التي يبيع عليها؛ ليضمن استقرار السعر، وعدم ¬

(¬1) ينظر: قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي (320 - 321). (¬2) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من 19 - 23/ 10/1424 هـ. (¬3) ينظر: التورّق والتورق المنظم , د. سامي السويلم (40 - 41) , التورق الفقهي وتطبيقاته المصرفية المعاصرة في الفقه الإسلامي ,د. محمد عثمان شبير , (25) بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته التاسعة عشرة, قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من 19 - 23/ 10/1424 هـ.

تذبذبه, وهو تواطؤٌ يقترب من بيع العِينَة , وبمجرد توقيع العميل على الأوراق تتم عملية البيع والشراء، ويدخل الدَّين في ذِمَّة العميل , ويتم تحويل ثمن السلعة بالنقد على حسابه البنكي. 2 - في التورّق المصرفي المنظَّم يكون المصرف وكيلاً عن المشتري في بيع السلعة التي اشتراها منه، ولولا وكالة المصرف بالبيع نقداً لما أقدم العميل على هذه المعاملة، ولو انفصلت الوكالة عن البيع الآجل لانهار هذا التمويل من أساسه ,في حين أن البائع في التورّق المعروف عند الفقهاء لا علاقة له ببيع السلعة مطلقاً، ولا علاقة له بالمشتري الثاني. 3 - في التورّق المعروف عند الفقهاء تدور السلعة دورتها العادية من مالكٍ أصليٍّ إلى المتورّق إلى مالكٍ جديد، ثم منه إلى أطرافٍ أخرى, أما في التورّق المصرفي المنظَّم فالسلعة قد ترجع إلى الشركة التي باعتها إلى المصرف , وبهذا يكون التورّق المصرفي صورةً من صور العِينَة. 4 - التورّق المعروف عند الفقهاء يقوم على شراءٍ حقيقيٍّ لسلعةٍ بثمنٍ آجلٍ تدخل في ملك المشتري ,ويقبضها قبضاً حقيقياً , وتقع في ضمانه، ثم يقوم ببيعها هو بثمنٍ حالٍّ لحاجته إليه، قد يتمكّن من الحصول عليه وقد لا يتمكّن، والفرق بين الثمنين الآجل والحال لا يدخل في ملك المصرف الذي طرأ على المعاملة لغرض تسويغ الحصول على زيادةٍ لما قدَّم من تمويلٍ لهذا الشخص بمعاملاتٍ صوريةٍ في معظم أحوالها، وهذا لا يتوافر في التورّق المصرفي المنظَّم. وبهذا يتبين أن عقد التورّق المصرفي المنظَّم كما تجريه أكثر البنوك أشبه ما يكون بالصورية أو الشكلية التي تعود عليها بالتربُّح من التمويل بمايشبه بيع العِينَة في المعنى الذي من أجله وقع النهي عن التبايع به , والأصل تحريم ما أدى من العقود إلى محرَّم يكثرُ قصدُه , ولو لم يُقصَد بالفعل (¬1). ¬

(¬1) ينظر: مواهب الجليل (4/ 390)، منح الجليل (5/ 76 - 77) , بلغة السالك لأقرب المسالك للدردير (3/ 117).

المبحث التاسع تحديد النسل

المبحث التاسع تحديد النَّسْل التحديد مصدر من (حدد) , والحدّ في اللغة يُطْلَق على عدة معانٍ منها (¬1): - الحاجز بين الشيئين لئلا يختلط أحدهما بالآخر أو لئلا يتعدَّى أحدهما على الآخر. - ومنتهى الشيء , يقال: حدود الأراضين , أي: منتهاها. - والمنع, يقال: حدَدتُ الرجلَ إذا أقمت عليه الحدّ؛ لأنه يمنعه من المعاودة. قال ابن فارس: "الحاء والدال أصلان: الأول: المنع، والثاني: طرفُ الشيء" (¬2). أما النَّسْل فهو: الولد والذُّرِّيَّة (¬3). والمراد بـ (تحديد النسل) في الاصطلاح هو: كلُّ ما يتَّبِعُه الزوجان من الوسائل والأسباب التي من شأنها أن تحول دون نشوء الحمل، إما بشكلٍ دائمٍ أو بشكلٍ مؤقت، وإما باختيارٍ منهما أو بإجبارٍ من الدولة (¬4). ¬

(¬1) ينظر: الصحاح (2/ 462 - 463) , معجم مقاييس اللغة (2/ 3 - 4) ,لسان العرب (3/ 140) مادة" ح د د". (¬2) معجم مقاييس اللغة (2/ 3) مادة" ح د د". (¬3) ينظر: الصحاح (5/ 1829) ,لسان العرب (11/ 660) ,تاج العروس (30/ 488) مادة" ن س ل". (¬4) ينظر: موقف الشريعة الإسلامية من تنظيم النسل , الزين يعقوب الزبير (17) , تنظيم النسل وموقف الشريعة الإسلامية منه, د. عبدالله الطريقي (17) ,مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي , ج 1 / ع 5.

وهذا التعريف يشمل مايمنع الإنجاب مطلقاً , أو مؤقتاً , أو يحدِّده بعددٍ معين , ومن أهم الصور التطبيقية على ذلك مايأتي (¬1): - سَنَّ الدولة لقانونٍ يحدِّد عدداً من الأولاد لكلِّ أسرة , وإجبار الناس على التزام ذلك, وترتيب عقوباتٍ على المخالفين له. - اتفاق الزوجين على تأجيل الحمل لفترةٍ محدَّدةٍ باستخدام الوسائل المباحة. - اتفاق الزوجين على منع الحمل بشكلٍ دائمٍ باستخدام الوسائل المباحة. - إجراء عمليات التعقيم التي تمنع الحمل بشكلٍ دائم. - إجراء عمليات الإجهاض التي يُتَخلَّص فيها من الحمل. فإذا كان تحديد النَّسْل كما تقدم بيانه فما حكمه في الشرع الحنيف؟ لقد بحث مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي هذا الموضوع في دورته الثالثة المنعقدة في مكة المكرمة في الفترة من 23 إلى 30 ربيع الآخر سنة 1400 هـ. وبعد المناقشة وتبادل الآراء في ذلك قرر المجلس بالإجماع ما يلي: " لا يجوز تحديد النَّسْل مطلقاً، ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق. . . أو كان ذلك لأسبابٍ أخرى غير معتبرة شرعاً, أما تعاطي أسباب منع الحمل أو تأخيره في حالاتٍ فرديةٍ لضررٍ محقَّقٍ لكون المرأة لا تلد ولادةً عاديَّةً وتضطر معها إلى إجراء عمليةٍ جراحيةٍ لإخراج الجنين فإنه لا مانع من ذلك شرعاً، وهكذا إذا كان تأخيره لأسبابٍ أخرى شرعيَّة أو صحيةٍ يُقِرُّها طبيبٌ مسلمٌ ثقة، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرر المحقَّق على أُمِّه إذا كان يُخْشى على حياتها منه بتقريرِ مَنْ يُوثَق به من الأطباء المسلمين, أما الدعوة إلى تحديد النَّسْل أو منع الحمل بصفةٍ ¬

(¬1) ينظر: سياسة ووسائل تحديد النسل , د. محمد البار (193 - 294).

عامّةٍ فلا تجوز شرعاً, وأشدُّ من ذلك في الإثم والمنع إلزام الشعوب بذلك وفرضه عليها ... " (¬1). كما بحث هذا الموضوع -أيضاً- مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي , وذلك في دورته الخامسة بالكويت من 1 - 6 جمادى الأولى 1409 الموافق 10 - 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م. وبعد اطلاعه على البحوث المقدمة في الموضوع، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله , قرَّر ما يلي: "أولاً: لا يجوز إصدار قانونٍ عامٍّ يَحُدُّ من حرية الزوجين في الإنجاب. ثانياً: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة، وهو ما يُعرَف بالإعقام أو التعقيم، ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية. ثالثاً: يجوز التحكُّم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل، أو إيقافه لمدةٍ معينةٍ من الزمان، إذا دعت إليه حاجةٌ معتبَرةٌ شرعاً، بحسب تقدير الزوجين عن تشاورٍ بينهما وتراض، بشرط أن لا يترتَّب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وأن لا يكون فيها عدوانٌ على حملٍ قائم" (¬2). ويمكن إبراز أوجه تطبيق الاجتهاد في المناط على هذه المسألة فيما يأتي: أولاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط التصوُّر التام لمحل الحُكْم ,وحقيقته , وعدم الاغترار بالمسمَّيات الخادعة كما تقدَّم (¬3). وقد راعى مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي هذا الضابط في تحقيق مناط تحديد النَّسْل , وذلك ببيان حقيقته , ¬

(¬1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة: (59 - 60). (¬2) قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة بالكويت من 1 - 6 جمادى الأولى 1409 الموافق 10 - 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م. (¬3) ينظر: (223 - 228).

ومقاصد الدعوة إليه , وأن باعثها الكيد للمسلمين لتقليل أعدادهم , ونهب ثرواتهم , مع تضليل الناس وخداعهم بتسميته "تنظيم النَّسْل". حيث ورد في قرار المجمع الفقهي الإسلامي ما نصُّه: "فقد نظر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في موضوع تحديد النَّسْل أو ما يُسمَّى تضليلاً بـ (تنظيم النَّسْل)." (¬1). وورد في نصِّ القرار أيضاً: "ونظراً إلى أن دعاة القول بتحديد النَّسْل أو منع الحمل فئةٌ تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين لتقليل عددهم بصفةٍ عامة، وللأمة العربية المسلمة والشعوب المُستضْعَفَة بصفةٍ خاصة، حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعباد أهلها والتمتع بثروات البلاد الإسلامية" (¬2). كما إن الاستماع إلى آراء الخبراء ومناقشاتهم يكشف عن حقيقة الموضوع, وأصل نشأته, وآثاره المباشرة وغير المباشرة , وهو مايُعطي تصوُّراً دقيقاً عن محل الحُكْم. وقد ورد في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي مايشير إلى الاعتماد على رأي الخبراء في بيان حقيقة الدعوة إلى تحديد النَّسْل وتنظيمه , والصور الداخلة تحته , وآثارها على استمرار النوع البشري. حيث جاء في القرار مانصُّه: " بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع تنظيم النَّسْل، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله .. " (¬3). ثانياً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط اعتبار مقاصد المكلَّفين كما تقدَّم (¬4). ¬

(¬1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة: (59 - 60). (¬2) المرجع السابق. (¬3) قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة بالكويت من 1 - 6 جمادى الأولى 1409 الموافق 10 - 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م. (¬4) ينظر: (241 - 244).

وقد راعى المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي هذا الضابط أثناء تحقيق مناط التحريم في إحدى صور تحديد النَّسْل , وهي الصورة التي يُقصَد فيها تحديد النَّسْل خشية الإنفاق. حيث ورد في القرار ما نصُّه: "ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق؛ لأن الله تعالى هو الرَّزَّاق ذو القوة المتين، وما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها" (¬1). كما اعتبر مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي من الصور التي يجوز فيها منع الحمل مؤقتاً إذا ما كان ذلك بقصد المباعدة بين فترات الحمل , لاخشيةَ الإنفاق. حيث ورد في القرار ما نصُّه: " يجوز التحكُّم المؤقَّت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل .. " (¬2). وقد بُنيَ التفريق بين الحالتين في تحقيق مناط التحريم أو الجواز على قصد المكلَّف الباطن , فيحرم منع الحمل إذا كان القصد منه تقليل النفقات واتقاء الفقر , ويجوز منع الحمل مؤقَّتاً إذا كان القصد منه إيجاد فترةٍ محدودةٍ تفصل بين الحملين تَسْتَرِد فيها الحامل صحتها , وتستكمل الرضاعة فيها لمولودها. ثالثاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط الموازنة بين المصالح والمفاسد كما تقدَّم (¬3). وقد راعى المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي هذا الضابط أثناء تحقيق مناط المشروعية في بعض صور تحديد النَّسْل التي يجوز أو يجب فيها استخدام وسائل منع الحمل ,أو تأخيره , لضررٍ محقَّقٍ , أو راجح , كأن تكون المرأة لاتلِدُ إلا بعمليةٍ جراحية , أو كان يغلب على الظنّ ¬

(¬1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة: (59 - 60). (¬2) قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة بالكويت من 1 - 6 جمادى الأولى 1409 الموافق 10 - 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م. (¬3) ينظر: (245 - 256).

فوات حياتها إن قُدِّر لها الحمل , وفي ذلك موازنةٌ وترجيحٌ بين المصالح والمفاسد , فحفظ حياة الأم يترجّح على طلب الحمل وتكثير النَّسْل في مثل هذه الحالات. حيث ورد في القرار ما نصُّه: "أما تعاطي أسباب منع الحمل أو تأخيره في حالاتٍ فرديةٍ لضررٍ محقَّقٍ لكون المرأة لا تلِدُ ولادةً عاديةً , وتضطر معها إلى إجراء عمليةٍ جراحيةٍ لإخراج الجنين , فإنه لا مانع من ذلك شرعاً، وهكذا إذا كان تأخيره لأسبابٍ أخرى شرعيَّة أو صحيةٍ يُقِرُّها طبيبٌ مسلمٌ ثقة، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرر المحقَّق على أُمِّه إذا كان يُخشَى على حياتها منه (¬1). كما اعتبر مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي حالات الضرورة سبباً من أسباب جواز مايسمَّى ب"التعقيم". حيث ورد في القرار ما نصُّه: " يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة، وهو ما يعرف بالإعقام أو التعقيم، ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية" (¬2). رابعاً: من وسائل الاجتهاد في تحقيق المناط الاعتماد على قول أهل الخبرة كما تقدَّم (¬3). وقد راعى المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي هذا الضابط أثناء تحقيق مناط المشروعية في صور تحديد النَّسْل التي يجوز أو يجب فيها استخدام وسائل منع الحمل أو تأخيره لضررٍ محقَّقٍ أو راجح , ففي هذه الحالات وغيرها يتحقَّق مناط الجواز أو الوجوب اعتماداً على قول أهل الخبرة , وهم -هنا- الأطباء المختصّون من المسلمين الثقات. حيث ورد في القرار ما نصُّه: "وهكذا إذا كان تأخيره لأسبابٍ أخرى ¬

(¬1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة: (59 - 60). (¬2) قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة بالكويت من 1 - 6 جمادى الأولى 1409 الموافق 10 - 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م. (¬3) ينظر: (269 - 272).

شرعيَّةٍ أو صحيةٍ يُقِرُّها طبيبٌ مسلمٌ ثقة، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرر المحقَّق على أُمِّه إذا كان يُخشَى على حياتها منه بتقريرِ من يُوثَق به من الأطباء المسلمين" (¬1). خامساً: ثبت باستقراء نصوص الشرع أن من أعظم مقاصد النكاح بقاء النوع الإنساني , والحث على تكثيره. ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثرٌ بكم الأمم" (¬2). و" فيه فضيلة كثرة الأولاد؛ لأن بها يحصل ما قصده النبي صلى الله عليه وسلم من المباهاة" (¬3). كما أنه " لا ينتظم أمر المعاش حتى يبقى بدنه سالماً ونسله دائماً، ولا يتم كلاهما إلا بأسباب الحفظ لوجودهما وذلك ببقاء النَّسْل." (¬4). ومن ذلك أيضاً: نهيُّ الشرع المطهَّر عن التبتُّل والاختصاء، فعن سعد بن أبي وقاص (¬5) رضي الله عنه قال: "ردَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عثمان بن مظعون (¬6) التبتَّل , ولو أذِنَ له لاختصينا" (¬7). قال ابن حجر: "والحكمة في منعهم من الاختصاء إرادة تكثير النَّسْل ليستمر جهاد الكفار، وإلا لو أذِنَ في ذلك لأوشك تواردهم عليه فينقطع النَّسْل، فيقل المسلمون بانقطاعه، ويكثر الكفار، فهو خلاف المقصود من البعثة المحمدية" (¬8). ¬

(¬1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة: (59 - 60). (¬2) أخرجه أبو داود في "سننه",كتاب النكاح , باب في تزويج الولود, رقم (2050)، والنسائي في "سننه",كتاب النكاح , باب كراهية تزويج العقيم ,رقم (3227)، وصححه الألباني في إرواء الغليل برقم (1784). (¬3) شرح الطيبي على المشكاة: (6/ 226). (¬4) فيض القدير شرح الجامع الكبير: (3/ 242). (¬5) هو: سعد بن مالك بن أهيب القرشي الزهري، صاحبيٌ جليل، أحد العشرة المبشرين بالجنة، ولي الكوفة ... في عهد عمر رضي الله عنه، وروى كثيراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي سنة (56 هـ). ينظر في ترجمته: الاستيعاب (2/ 18)، أسد الغابة (2/ 290)، الأعلام للزركلي (3/ 87). (¬6) هو: عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب الجمحي، أبو السائب، صحابي جليل، كان من حكماء العرب في الجاهلية، اسلم بعد ثلاثة عشر رجلاً، وشهد بدراً، وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين، وأول من دفن بالبقيع منهم، توفي سنة (2 هـ). ينظر في ترجمته: أسد الغابة (3/ 589)، الإصابة (4/ 381)، الأعلام للزركلي (4/ 214). (¬7) أخرجه البخاري في "صحيحه" , كتاب النكاح, باب مايكره من التبتل والاختصاء, برقم (5073) ومسلم في "صحيحه",كتاب النكاح , باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤونة واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم ,رقم (1402). (¬8) فتح الباري: (9/ 118).

وبناءً على ذلك فقد نصَّ الفقهاء على تحريم استعمال ما يقطع الماء أو يقطع الحَبَل؛ لأن ذلك يقطع النَّسْل من أصله , وهو مايتعارض مع مقصود الشارع من استمرار النَّسْل وتكثيره (¬1). وقد اجتهد مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في تحقيق هذا المناط الكلي في مسألة تحديد النَّسْل , ومنع الحمل مطلقاً , أو فرض ذلك على الشعوب وإلزامهم به. حيث ورد في القرار ما نصُّه: "نظراً إلى أن الشريعة الإسلامية تحضُّ على تكثير نسل المسلمين وانتشاره، وتعتبر النَّسْل نعمةً كبرى ومِنَّةً عظيمة منَّ الله بها على عباده، وقد تضافرت بذلك النصوص الشرعيَّة من كتاب الله- عز وجل- وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودلَّت على أن القول بتحديد النَّسْل أو منع الحمل مصادمٌ للفطرة الإنسانية التي فطر اللهُ الناسَ عليها وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الله تعالى للعباده، ونظراً إلى أن دعاة القول بتحديد النَّسْل أو منع الحمل فئةٌ تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين لتقليل عددهم بصفةٍ عامة، وللأمة العربية المسلمة والشعوب المستضعَفَة بصفةٍ خاصة، حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعباد أهلها والتمتع بثروات البلاد الإسلامية، وحيث إن في الأخذ بذلك ضرباً من أعمال الجاهلية وسوء ظنًّ بالله- تعالى- وإضعافاً للكيان الإسلامي المتكوِّن من كثرة اللَّبِنات البشرية وترابطها, لذلك كلِّه فإن المجمع الفقهي الإسلامي يقرر بالإجماع أنه لا يجوز تحديد النَّسْل مطلقاً .. " (¬2). كما أوضح القرار أن إلزام الشعوب بذلك يُعْتَبر أشد إثماً , حيث ورد في القرار ما نصّه: "أما الدعوة إلى تحديد النَّسْل أو منع الحمل بصفةٍ عامةٍ فلا تجوز شرعاً للأسباب المتقدم ذكرها، وأشدُّ من ذلك في الإثم والمنع إلزامُ الشعوب بذلك وفرضه عليها " (¬3). ¬

(¬1) ينظر: تحفة المحتاج لابن حجر الهيثمي (8/ 241) ,مواهب الجليل للحطاب (3/ 477) , منح الجليل شرح مختصر خليل (3/ 361) ,كشاف القناع (1/ 218). (¬2) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة: (59 - 60). (¬3) المرجع السابق: (60).

كما إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي , اجتهد في تحقيق مناط التحريم في صور تحديد النَّسْل التي تتنافى مع مقصود بقاء النوع الإنساني والحث على تكِثير ذلك كإصدار قانونٍ عامًّ يَحُدُّ من حرية الزوجين في الإنجاب, واستئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة. حيث ورد في القرار ما نصُّه: " وبناءً على أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني، وأنه لا يجوز إهدار هذا المقصد؛ لأن إهداره يتنافى مع نصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل والحفاظ عليه والعناية به، باعتبار حفظ النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها .. قرر ما يلي: أولاً: لا يجوز إصدار قانونٍ عامًّ يَحُدُّ من حرية الزوجين في الإنجاب. ثانياً: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة. . ." (¬1). سادساً: ثبت في السُّنَّة الصحيحة جواز العَزْل (¬2) عن المرأة إذا تعلَّق بذلك سببٌ مشروع ,كخشية أن يصير الولد رقيقاً إذا كانت الموطوءة أمَةً , أو خشية دخول الضرر على الولد المرضَع إذا كانت الموطوءة ترضِعُه (¬3) , فعن جابرٍ رضي الله عنه قال: "كنا نَعْزِل على عهد النبي صلى لله عليه وسلم والقرآن يَنْزِل" (¬4). ¬

(¬1) قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة بالكويت من 1 - 6 جمادى الأولى 1409 الموافق 10 - 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م. (¬2) العزل: أن يجامِع فإذا قارب الإنزال نزع وأنزل خارج الفرج. ينظر: شرح صحيح مسلم للنووي (10/ 10) , فتح الباري لابن حجر (9/ 305). (¬3) قال الحافظ ابن حجر: "الفرار من حصول الولد يكون لأسباب، منها: خشية علوق الزوجة الأمَة لئلا يصير الولد رقيقاً , أو خشية دخول الضرر على الولد المرضَع إذا كانت الموطوءة ترضِعُه , أو فراراً من كثرة العيال إذا كان الرجل مُقِلَّاً فيرغب عن قلة الولد لئلا يتضرر بتحصيل الكسب , وكل ذلك لا يغني شيئاً ... وليس في جميع الصور التي يقع العَزْل بسببها ما يكون العَزْل فيه راجحاً سوى الصورة المتقدمة من عند مسلم في طريق عبد الرحمن بن بشر عن أبي سعيد وهي خشية أن يضر الحمل بالولد المرضَع؛ لأنه مما جُرِّب فضرَّ غالباً".فتح الباري (9/ 307 - 308). (¬4) أخرجه البخاري في "صحيحه" ,كتاب النكاح, باب العزل, رقم (5208) , ومسلم في "صحيحه", كتاب النكاح, باب حكم العزل, رقم (1440).

ومناط جواز العَزْل عن الموطوءة هو: استعمال ما يمنع مؤقتاً-لابالكليِّة- من وصول ماء الرجل إلى رحم المرأة دون إلحاق الضرر بهما أو بأحدهما (¬1). وقد ذهب إلى جواز العَزْل عن الزوجة بشرط إذنها: جمهور الفقهاء من الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5). واستندوا في ذلك على ما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعْزَل عن الحرَّة إلا بإذنها (¬6). وذلك لأن الوطء عن إنزالٍ سببٌ لحصول الولد، ولها في الولد حقّ، وبالعزل يفوت الولد، فكأنه سببٌ لفوات حقِّها, فلم يجز إلا بإذنها (¬7). وقد اجتهد مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في تحقيق مناط جواز العَزْل في الحالات التي يُتعاطَى فيها وسائل تمنع الحمل مؤقتاً , وذلك باعتبار أنها لاتقطع الحمل بالكليِّة , فيجوز استعمالها عند الحاجة , وبتشاورٍ من الزوجين. حيث ورد في القرار -أثناء ذكر الحالات التي يجوز فيها تعاطي أسباب منع الحمل مؤقتاً - ما نصّه: " .. وهكذا إذا كان تأخيره لأسبابٍ أخرى شرعيَّةٍ أو صحيِّةٍ يُقِرُّها طبيبٌ مسلمٌ ثقة " (¬8). ¬

(¬1) ينظر: تحفة المحتاج لابن حجر الهيثمي مع حاشية الشرواني (8/ 241) ,مواهب الجليل للحطاب (3/ 477) , منح الجليل شرح مختصر خليل (3/ 361) ,كشاف القناع (1/ 218) , حاشية ابن عابدين (3/ 176). (¬2) ينظر: بدائع الصنائع للكاساني (2/ 334) , البحر الرائق شرح كنز الدقائق (3/ 214). (¬3) ينظر: مواهب الجليل للحطاب (3/ 476) , الشرح الكبير على مختصر خليل للدردير (2/ 266). (¬4) ينظر: روضة الطالبين (7/ 205) ,المهذب للشيرازي (2/ 482). (¬5) ينظر: المغني (10/ 228) ,شرح منتهى الإرادات (5/ 309). (¬6) أخرجه ابن ماجه في "سننه",كتاب النكاح, باب العزل, رقم (1928) , وأحمد في "مسنده" (1/ 31) والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 231). (¬7) ينظر: المغني (10/ 230) , بدائع الصنائع للكاساني (2/ 334). (¬8) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة: (60).

وذلك بناءً على أنها وسائل تؤخِّر الحمل إلى فترةٍ مؤقتةٍ لحاجة , وليس من وظيفتها قطع الحمل بالكليِّة. كما ورد في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ما نصّه: " يجوز التحكُّم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل، أو إيقافه لمدةٍ معينةٍ من الزمان، إذا دعت إليه حاجةٌ معتبَرةٌ شرعاً، بحسب تقدير الزوجين عن تشاورٍ بينهما وتراض، بشرط أن لا يترتَّب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وأن لا يكون فيها عدوانٌ على حملٍ قائم" (¬1). ¬

(¬1) قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة بالكويت من 1 - 6 جمادى الأولى 1409 الموافق 10 - 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م.

المبحث العاشر إنشاء بنوك الحليب البشري والرضاع منها

المبحث العاشر إنشاء بنوك الحليب البشري والرضاع منها بنوك الحليب هي: مؤسساتٌ متخصصةٌ تقوم بجمع اللبن الطبيعي من أمهاتٍ شتى يتبرَّعن بشيءٍ مما في أثدائهن من اللبن , إما لكونه فائضاً عن حاجة أطفالهن، وإما لكون الطفل قد تُوفي وبقي اللبن في ثدي أمِّه، أو بأجرةٍ وقيمةٍ تُعطَى لهن مقابل اللبن المأخوذ منهن , ومن ثم بيعه واستعماله في إرضاع الأطفال المحتاجين إلى اللبن الطبيعي بعد تعقيمه وحفظه بطريقةٍ معقَّمةٍ في قوارير خاصةٍ يتم تخزينها في ثلاجاتٍ خاصةٍ داخل تلك المؤسسات (¬1). وقد بدأت فكره إنشاء بنوك الحليب خلال السبعينات من القرن العشرين في أوروبا والولايات المتحدة بعد أن انتشرت بنوك الدم وبنوك القرنية وبنوك المني وبنوك الأعضاء، ونحو ذلك (¬2). ومن أهم الأسباب الداعية لهم إلى ذلك (¬3): 1 - تخلِّي الأم عن طفلها بعد ولادتها له سفاحاً مع حاجته إلى الرضاعة الطبيعية لكونه خداجاً أو ناقص الوزن أو مصاباً بالتهاباتٍ حادَّةٍ مما يحتاج معه إلى الرضاعة الطبيعية. 2 - وفاة الأم بعد ولادتها مع حاجة الطفل إلى الرضاعة الطبيعية لما تقدم. ¬

(¬1) ينظر: الرضاع وبنوك اللبن ,محمد ابراهيم الحفناوي (349) ,مجلة مجمع الفقه الإسلامي (2/ 261). (¬2) ينظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي (2/ 261 - 263). (¬3) ينظر: المرجع السابق.

3 - مرض الأم الذي يمنع من الرضاعة الطبيعية مع حاجة الطفل الشديدة إلى ذلك لما تقدم. 4 - عدم وجود الحليب في ثدي الأم أو عدم كفايته لحاجة الطفل ولاسيما إذا كانت هناك حاجةٌ ماسَّةٌ إلى الرضاعة الطبيعية كما في الحالات التي تقدم ذكرها. ونظراً لندرة وجود المرضِعة البديلة عن الأم إثر التفكك الاجتماعي في البلدان الغربية، مع الحاجة إلى تأمين الرضاعة الطبيعية للأطفال الخداج وناقصي الوزن والمصابين بالالتهابات الحادة، تم إنشاء بنوك الحليب التي تقوم بجمع اللبن الطبيعي من أمهاتٍ شتى إما تبرعاً أو بأجرةٍ , ثم تعقيمه وحفظه في ثلاجاتٍ خاصَّةٍ بغرض بيعه واستعماله في إرضاع الأطفال المحتاجين إلى ذلك (¬1). فإذا كان الأمر كما تقدم بيانه فما حُكْم إنشاء بنوك الحليب البشري والإرضاع منها؟ لقد بحث مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي هذا الموضوع , وذلك في دورته الثانية بجدة من 10 - 16 ربيع الآخر 1406 هـ الموافق 22 - 28 كانون الأول (ديسمبر) 1985 م، وقرر المجلس ما يلي: أولاً: منع إنشاء بنوك حليب الأمهات في العالم الإسلامي. ثانياً: حُرْمَة الرضاع منها (¬2). ويمكن إبراز أوجه تطبيق الاجتهاد في المناط على هذه المسألة فيما يأتي: أولاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط التصوُّر التام لمحل ¬

(¬1) ينظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي (2/ 261 - 263). (¬2) ينظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية بجدة من 10 - 16 ربيع الآخر 1406 هـ الموافق 22 - 28 كانون الأول (ديسمبر) 1985 م.

الحُكْم، ومعرفة حقيقته، وملابساته المحيطة به , ومن أهم الوسائل الموصلة إلى ذلك الرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص كما تقدم (¬1). وقد راعى مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذا الضابط بالرجوع إلى الدراسات الطبية المتخصصة في ذلك , حيث ورد في القرار ما نصُّه: " بعد أن عُرِض على المجمع دراسةٌ فقهية، ودراسةٌ طبيَّةٌ حول بنوك الحليب، وبعد التأمل فيما جاء في الدراستين , ومناقشة كلٍّ منهما مناقشةً مستفيضةً شملت مختلف جوانب الموضوع , وتبيَّن منها: أولاً: أن بنوك الحليب تجربةٌ قامت بها الأمم الغربية، ثم ظهرت مع التجربة بعض السلبيات الفنية والعلمية فيها , فانكمشت وقلَّ الاهتمام بها. ثانياً: أن الإسلام يَعْتَبِر الرضاعَ لُحْمَةً كلُحْمِة النَّسب يحْرُم به ما يحْرُم من النَّسب بإجماع المسلمين, ومن مقاصد الشريعة الكليَّة المحافظة على النَّسب، وبنوك الحليب مؤديةٌ إلى الاختلاط أو الريبة. ثالثاً: أن العلاقات الاجتماعية في العالم الإسلامي توفِّر للمولود الخِداج أو ناقص الوزن أو المحتاج إلى اللبن البشري في الحالات الخاصة ما يحتاج إليه من الاسترضاع الطبيعي، الأمر الذي يغني عن بنوك الحليب .. " (¬2). ثانياً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط اعتبار مآلات الأفعال كما تقدم (¬3). وقد راعى مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذا الضابط أثناء تحقيق مناط تحريم إنشاء بنوك الحليب , وذلك باعتبار أنها تؤدي إلى اختلاط الأنساب والريبة فيها , حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى أن يتزوج الرجل امرأةً يكون قد رضع منها أو من لبن ابنتها أو من لبن أمِّها, ¬

(¬1) ينظر: (223 - 228). (¬2) ينظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية بجدة من 10 - 16 ربيع الآخر 1406 هـ الموافق 22 - 28 كانون الأول (ديسمبر) 1985 م. (¬3) ينظر: (223 - 240).

وذلك لأن اللبن المرتضَع لايُعْرَف هو لبن أي امرأة , فلم ينظر -هنا- إلى مجرد تجميع لبن الأمهات فحسب, بل نظر إلى هذا الفعل من حيث ما يؤدي إليه , ومالا يتم ترك الحرام إلا به فتركه واجبٌ وفعله محرَّم, ولذلك اشتمل القرار على تحريم إنشاء مثل هذه البنوك وتحريم الإرضاع منها باعتبار أنها وسيلةٌ للمُحرَّم (¬1). ثالثاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط الموازنة بين المصالح والمفاسد , ومن ذلك درء المفاسد الراجحة وإن تعلَّقت بها مصالح مرجوحة. وقد راعى مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذا الضابط أثناء تحقيق مناط تحريم إنشاء بنوك الحليب , وذلك باعتبار أنها تؤدي إلى مفسدة اختلاط الأنساب والريبة فيها , فقد يتزوج الرجل امرأةً يحْرُم عليه الزواجُ منها لرضاعٍ محرِّم , وهذه المفسدة معتبَرةٌ في مقابل مصلحة تأمين الحليب الطبيعي من تلك البنوك الذي يمكن الحصول عليه مباشرةً عن طريق المرضِعات المتبرِّعات أو المستأجَرات ,وهنَّ موجوداتٌ بحمد الله في المجتمعات الإسلامية , كما يمكن الاستفادة من أنواع الحليب المصنَّعة التي تؤدي الغرض المطلوب دون ارتكاب مايؤدي إلى المفسدة الأعظم وهي اختلاط الأنساب والارتياب فيها. رابعاً: ثبت باستقراء نصوص الشرع أن المحافظة على النَّسب , ومنع كلِّ مايؤدي إلى اختلاطه أو الريبة فيه من أعظم مقاصد الشريعة الكليَّة, ولأجل تحقيق هذا المقصد العظيم فقد حرَّم الشارع الزِّنا , ورتَّب عليه الحدّ , وتوعَّد مرتكبه بأشنع العقوبات , كما حرّم التَّبَنِّي، وشرَّع أحكاماً خاصةً بالعِدَّةِ وبراءة الأرحام، وأحكاما أخرى تتعلق بإثبات النسب وجحده كما في اللعان, وحرَّم الجَنَّة على من انتسب إلى غير أبيه , وغيرِ ذلك من الأحكام التي تؤكد اعتناء الشارع الحكيم بضبط الأنساب وصيانتها من كلِّ مايؤدي إلى الريبة أو ¬

(¬1) ينظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية بجدة من 10 - 16 ربيع الآخر 1406 هـ الموافق 22 - 28 كانون الأول (ديسمبر) 1985 م.

الاختلاط , وآصرة الرضاع كآصرة النسب (¬1). وقد اجتهد مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في تحقيق هذا المناط الكلِّي في تحريم إنشاء بنوك الحليب والإرضاع منها , وذلك باعتبار أنها تتنافى مع المقصود الكلِّي من المحافظة على الأنساب , وتؤدي إلى الاختلاط والريبة فيه. خامساً: ثبت بالسُّنَّة الصحيحة أن مناط انتشار التحريم في الرضاع هو: " حصول الغذاء بلبن آدميةٍ يُنْبِت اللحم ويَشُدُّ العظم". عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا رضاع إلا ما شدَّ العظمَ وأنْبَتَ اللحم" (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه أنه قال: " .. فإنما الرضاعة من المجاعة" (¬3). أي: إنما الرضاعة التي تثبُت بها الحُرْمَة وتَحِلُّ بها الخلوة هي حيث يكون الرضيع طفلاً لسدِّ اللبن جوعته؛ لأن معدته ضعيفةٌ يكفيها اللبن , وينْبُت بذلك لحمه , فيصير كجزءٍ من المرضِعة , فيشترك في الحُرْمَة مع أولادها، فكأنه قال لا رضاعة معتبَرةٌ إلا المُغْنية عن المجاعة أو المُطْعِمة من المجاعة (¬4). وبناءً على ذلك فإنه لايُشترَط في انتشار التحريم في الرضاع المصُّ من الثدي مباشرة , بل يحصل التحريم أيضاً بصبِّ اللبن في حَلْق الطفل أو في فَمِه من غير التقام الثدي وهو ما يسمى ب"الوَجُور" (¬5) ,كما ذهب إلى ذلك ¬

(¬1) ينظر: مقاصد الشريعة لابن عاشور: (441 - 444). (¬2) أخرجه أبو داود في "سننه" , برقم (2060) ,وصححه الألباني موقوفاً على ابن مسعود كما في صحيح سنن أبي داود , رقم (1814)، وضعفه مرفوعا كما في إرواء الغليل، 7/ 223 رقم (2153). (¬3) أخرجه البخاري في "صحيحه",كتاب الشهادات , باب الشهادة على الأنساب , رقم (2647) ,وأخرجه مسلم في "صحيحه", كتاب الرضاع, باب إنما الرضاعة من المجاعة, (1455). (¬4) ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (7/ 197 - 198) , فتح الباري لابن حجر (9/ 148) , عمدة القاري ... شرح صحيح البخاري للعيني (20/ 97). (¬5) الوَجور هو: الدواء ونحوه يُصَبُّ في حَلْق الطفل أو في وسط فَمِه. ينظر: الصحاح (2/ 844) , لسان العرب (5/ 279) , تاج العروس (14/ 349)

جمهور الفقهاء من الحنفية (¬1) , والمالكية (¬2) , والشافعية (¬3) , والحنابلة (¬4). وقد اجتهد مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في تحقيق مناط انتشار التحريم في الرضاع في اللبن المرتضَع من بنوك الحليب الذي يُسقَى به الطفل, وذلك باعتبار أنه لبن آدميةٍ يحصل به الغذاء فيشُدُّ العظمَ ويُنْبِت اللحم , فلا فرق في ذلك بين مصِّ اللبن من الثدي مباشرةً وتناوله من القوارير التي يحفظ بها , فكلاهما يسُدُّ الجوعَ ويحصل به الغذاء للطفل, ولما كان الخلط بين لبن الأمهات في تلك القوارير يؤدي إلى اختلاط الأنساب والريبة فيها صدر القرار في ذلك بتحريم إنشاء بنوك الحليب والرضاع منها (¬5). ¬

(¬1) ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (2/ 185) ,رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين (3/ 209). (¬2) ينظر: الذخيرة للقرافي (4/ 274) ,الشرح الكبير على مختصر خليل للدردير (2/ 503). (¬3) ينظر: روضة الطالبين للنووي (9/ 6) ,مغني المحتاج (5/ 131). (¬4) ينظر: المغني (11/ 313) ,شرح منتهى الإرادات (5/ 632 - 633). (¬5) ينظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية بجدة من 10 - 16 ربيع الآخر 1406 هـ الموافق 22 - 28 كانون الأول (ديسمبر) 1985 م.

المبحث الحادي عشر إجراء عمليات التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب

المبحث الحادي عشر إجراء عمليات التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب تُعتبَر عمليات التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب من طرق التخصيب الطبية الحديثة في حال تعذُّر الإنجاب الطبيعي بالاتصال المباشر بين الزوج وزوجته (¬1). والتلقيح الصناعي نوعان: النوع الأول: التلقيح الصناعي الداخلي , وهي العملية التي يتم بواسطتها أخذ كميَّةٍ مركَّزةٍ من السائل المنوي وحقنها داخل تجويف الرَّحِم (¬2). ويتم إجراء التلقيح الصناعي الداخلي لعدة أسبابٍ من أهمها: (¬3) 1 - وجود عائقٍ لوصول السائل المنوي إلى عنق الرَّحِم لسببٍ أو لآخر (كحالات الضعف الجنسي). 2 - وجود أجسامٍ مضادَّةٍ بين الحيوانات المنوية وإفرازات عنق الرَّحِم. 3 - وجود قطعٍ صغيرةٍ مشابهةٍ لبطانةٍ جدار الرَّحِم خارجةً , أو في الحوض ,أو على المبيضين ,وهو ما يُعْرَف بالبِطانة المهاجرة التي تمنع غالباً من فرص الإخصاب. 4 - قلة عدد الحيوانات المنوية ,وضعف حركتها ,أو شكلها , بنسبةٍ ضئيلةٍ أو متوسطة. ¬

(¬1) ينظر: أطفال الأنابيب بين العلم والشرع (53). (¬2) ينظر: أطفال الأنابيب بين العلم والشرع (79 - 80) , طرق الإنجاب في الطب الحديث (266 - 263) ضمن ... أبحاث فقه النوازل , ,د. بكر أبوزيد. (¬3) ينظر: طفل الأنبوب للدكتور محمد البار (41)، أطفال الأنابيب بين العلم والشرع (37 - 38).

النوع الثاني: التلقيح الصناعي الخارجي أو ما يُسمَّى ب "طفل الأنبوب" , وهي العملية التي يتم فيها جمع الحيوان المنوي مع البويضة في أنبوبٍ خارجيٍّ في ظل ظروفٍ معيَّنةٍ حتى يتم التخصيب ,ومن ثَمَّ تُغْرَس البويضة الملقَّحة في الرَّحِم لتواصل مراحل نموها (¬1). وتعتمِد هذه العملية على أخذ البويضة من المرأة عند خروجها من المبيض , وذلك بواسطة مسبارٍ خاصٍّ يُدخِله الطبيب في تجويف البطن عند موعد خروج البويضة من المبيض فيلتقطها , ثم يضعها في طبقٍ , وفي هذا الطبق سائلٌ فسيولوجي مناسبٌ لبقاء البويضة، ثم يؤخذ مني الرجل ويوضع في الطبق مع البويضة، فإذا تم تلقيح البويضة بأحد الحيوانات المنوية-وذلك يمكن مشاهدته تحت الميكروسكوب- تُركِت هذه البويضة الملقَّحة لتنقسم انقساماتها الطبيعية حتى تصبح ثمان خلايا , ثم تُغْرَز أو تُوضَع في الرِّحِم، والمدة التي تبقى فيها البويضة في الطبق لا تعدو يومين أو ثلاثة. ويتم إجراء ذلك لأسبابٍ من أهمها: (¬2) 1 - الضعف الشديد في عدد الحيوانات المنوية وقدرتها على الحركة عند الرجل. 2 - عدم نجاح ثلاث محاولاتٍ أو أكثر من الحقن الصناعي الداخلي. 3 - حدوث تضادٍّ مناعيٍّ في الجهاز التناسلي للمرأة أو الرجل يمنع من فرص التخصيب. وتنحصر صور التلقيح الاصطناعي - سواء كان داخلياً أو خارجياً - فيما يأتي: (¬3) الصورة الأولى: أن يجري التلقيح بين نطفةٍ مأخوذةٍ من زوجٍ وبييضةٍ مأخوذةٍ من امرأةٍ ليست زوجته , ثم تُزرَع تلك اللقيحة في رحِم زوجته. ¬

(¬1) ينظر: أطفال الأنابيب بين العلم والشرع (86 - 98) ,طرق الإنجاب في الطب الحديث (264 - 267) ضمن أبحاث فقه النوازل، د. بكر أبوزيد. (¬2) ينظر: طفل الأنبوب للدكتور محمد البار (41)، أطفال الأنابيب بين العلم والشرع (37 - 38). (¬3) ينظر: طرق الإنجاب في الطب الحديث (272) ضمن أبحاث فقه النوازل , د. بكر أبوزيد.

الصورة الثانية: أن يجري التلقيح بين نطفة رجلٍ غير الزوج وبييضة الزوجة , ثم تُزرَع تلك اللقيحة في رحِم الزوجة. الصورة الثالثة: أن يجري تلقيحٌ خارجيٌّ بين بذرتي زوجين , ثم تُزرَع اللقيحة في رحِم امرأةٍ متطوعةٍ بحملها. الصورة الرابعة: أن يجري تلقيحٌ خارجيٌّ بين بذرتي رجلٍ أجنبيٍّ وبييضة امرأةٍ أجنبيةٍ , ثم تُزرَع اللقيحة في رحِم الزوجة. الصورة الخامسة: أن يجري تلقيحٌ خارجيٌّ بين بذرتي زوجين , ثم تُزرَع اللقيحة في رحِم الزوجة الأخرى. الصورة السادسة: أن تؤخذ نطفةٌ من زوجٍ وبييضةٍ من زوجته , ويتم التلقيح خارجياً, ثم تُزرَع اللقيحة في رحِم الزوجة. الصورة السابعة: أن تؤخذ بذرة الزوج وتُحقَن في الموضع المناسب من مهبل زوجته أو رحِمها تلقيحاً داخلياً. فإذا كانت هذه صور التلقيح الصناعي , وتلك أنواعه , وأسبابه, فما حكم الشرع في إجراء هذا النوع من العمليات؟ لقد بحث المجمع الفقهي الإسلامي هذه النازلة في دورته السابعة عام 1404 هـ, وفي دورته الثامنة عام 1405 هـ , وأصدر في ذلك قراراً بجواز صورتين فقط من صور التلقيح الصناعي وهما: -التلقيح الذي تؤخذ فيها النطفة الذَّكرية من رجلٍ متزوج , ثم تُحقَن في رحِم زوجته نفسها. -التلقيح الذي تؤخذ فيها البذرتان الذكرية والأنثوية من رجلٍ وامرأةٍ زوجين أحدهما للآخر، ويتم تلقيحهما خارجياً في أنبوب اختبار، ثم تُزرَع اللقيحة في رحِم الزوجة نفسها صاحبة البويضة. أما الصور الأخرى للتلقيح الصناعي فقد نصَّ القرار على تحريمها ومنعها مطلقاً , حيث صدر في القرار ما نصُّه: " وأما الأساليب الأخرى من أساليب التلقيح الاصطناعي، في الطريقين الداخلي والخارجي، مما سبق

بيانه، فجميعها محرَّمةٌ في الشرع الإسلامي، لا مجال لإباحة شيءٍ منها .. ". كما بحث مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي هذا الموضوع في دورته الثالثة بعمَّان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ، الموافق 11 - 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1986 م، وأصدر في ذلك قراراً بتحريم الصور الخمس الأولى من صور التلقيح الصناعي, ومنعها منعاً باتاً (¬1)، وأجاز الصورتين السادسة والسابعة (¬2). ويمكن إبراز أوجه تطبيق الاجتهاد في المناط على هذه المسألة فيما يأتي: أولاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط التصوُّر التام للواقعة , ومعرفة حقيقتها , ومكوناتها, وأسبابها؛ لأن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره كما تقدم (¬3). وقد راعى مجلس المجمع الفقهي هذا الضابط , واستهلَّ القرار الصادر في هذا الشأن بتوصيفٍ شاملٍ للتلقيح الصناعي , وبيان أنواعه ,وطرقه , وأسبابه. حيث ورد في القرار ما نصُّه: " استعرض المجلس ما تحقَّق في هذا المجال من إنجازاتٍ طبيةٍ توصَّل إليها العلم والتقنية في العصر الحاضر لإنجاب الأطفال من بني الإنسان، والتغلُّب على أسباب العقم المختلفة المانعة من الاستيلاد , وقد تبيَّن للمجلس من تلك الدراسة الوافية المشار إليها، أن التلقيح الاصطناعي بغية الاستيلاد (بغير الطريق الطبيعي وهو الاتصال الجنسي المباشر بين الرجل والمرأة) يتم بأحد طريقين أساسيين: - طريق التلقيح الداخلي، وذلك بحقن نطفة الرجل في الموقع المناسب من باطن المرأة. ¬

(¬1) ينظر: (499 - 500). (¬2) ينظر: (500). (¬3) ينظر: (223 - 228).

- وطريق التلقيح الخارجي بين نطفة الرجل وبويضة المرأة في أنبوب اختبار، في المختبرات الطبية، ثم زرع البويضة الملقَّحة (اللقيحة) في رحِم المرأة. ولابد في الطريقين من انكشاف المرأة على من يقوم بتنفيذ العملية. وقد تبين لمجلس المجمع من تلك الدراسة المقدَّمة إليه في الموضوع، ومما أظهرته المذاكرة والمناقشة، أن الأساليب والوسائل التي يجري بها التلقيح الاصطناعي بطريقيه الداخلي والخارجي لأجل الاستيلاد هي سبعة أساليب بحسب الأحوال المختلفة , للتلقيح الداخلي فيها أسلوبان، وللخارجي خمسةٌ من الناحية الواقعية، بقطع النظر عن حِلِّها أو حُرمتِها شرعًا، وهي الأساليب التالية: في التلقيح الاصطناعي الداخلي: الأسلوب الأول: أن تؤخذ النطفة الذَّكرية من رجلٍ متزوجٍ , وتُحقَن في الموقع المناسب داخل مهبل زوجته، أو رحِمها، حتى تلتقي النطفة التقاءً طبيعيًّا بالبويضة التي يفرزها مبيض زوجته، ويقع التلقيح بينهما، ثم العلوق في جدار الرَّحِم بإذن الله، كما في حالة الجماع , وهذا الأسلوب يُلجَأ إليه إذا كان في الزوج قصورٌ لسببٍ ما عن إيصال مائه في المواقعة إلى الموضع المناسب. الأسلوب الثاني: أن تؤخذ نطفةٌ من رجلٍ، وتُحقَن في الموقع المناسب من زوجة رجلٍ آخر، حتى يقع التلقيح داخليًّا، ثم العلوق في الرَّحِم، كما في الأسلوب الأول , ويُلجَأ إلى هذا الأسلوب حين يكون الزوج عقيمًا لا بذرة في مائه، فيأخذون النطفة الذَّكرية من غيره. في طريق التلقيح الخارجي: الأسلوب الثالث: أن تؤخذ نطفةٌ من زوجٍ، وبويضةٍ من مبيض زوجته، فتوضعا في أنبوب اختبارٍ طبي، بشروطٍ فيزيائيةٍ معينة، حتى تلقِّح نطفةُ الزوج بويضةَ زوجته في وعاء الاختبار، ثم بعد أن تأخذ اللقيحة في الانقسام

والتكاثر، تنقل في الوقت المناسب من أنبوب الاختبار إلى رحِم الزوجة نفسها صاحبة البويضة، لتعلق في جداره، وتنمو وتتخلَّق ككل جنين، ثم في نهاية مدة الحمل الطبيعية، تلده الزوجة طفلاً أو طفلة , وهذا هو طفل الأنبوب الذي حققه الإنجاز العلمي، الذي يسره الله، وولد به إلى اليوم عدد من الأولاد ذكورًا وإناثًا وتوائم، تناقلت أخبارها الصحف العالمية، ووسائل الإعلام المختلفة , ويُلجَأ إلى هذا الأسلوب الثالث عندما تكون الزوجة عقيمًا، بسبب انسداد القناة التي تصل بين مبيضها ورحِمها (قناة فالوب). الأسلوب الرابع: أن يجري تلقيحٌ خارجيٌّ في أنبوب الاختبار بين نطفةٍ مأخوذةٍ من زوجٍ وبويضةٍ مأخوذةٍ من مبيض امرأةٍ ليست زوجته (يسمونها متبرِّعة) ثم تُزرَع اللقيحة في رحِم زوجته , ويلجؤون إلى هذا الأسلوب عندما يكون مبيض الزوجة مستأصَلاً أو معطَّلاً، ولكن رحِمها سليمٌ قابلٌ لعلوق اللقيحة فيه. الأسلوب الخامس: أن يجري تلقيحٌ خارجيٌّ في أنبوب اختبارٍ بين نطفة رجلٍ وبويضةٍ من امرأة ليست زوجة له (يسمونهما متبرِّعَيْن)، ثم تُزرَع اللقيحة في رحِم امرأةٍ أخرى متزوجة , ويلجؤون إلى ذلك حينما تكون المرأة المتزوجة- التي زرعت اللقيحة فيها- عقيمًا، بسبب تعطُّل مبيضها، لكن رحِمها سليم، وزوجها أيضًا عقيم , ويريدان ولدًا. الأسلوب السادس: أن يجري تلقيحٌ خارجيٌّ في وعاء الاختبار بين بذرتي زوجين، ثم تُزرَع اللقيحة في رحِم امرأةٍ تتطوع بحملها ,ويلجؤون إلى ذلك حين تكون الزوجة غير قادرةٍ على الحمل لسبب في رحمها، ولكن مبيضها سليمٌ منتج، أو تكون غير راغبةٍ في الحمل ترفُّهاً، فتتطوع امرأةٌ أخرى بالحمل عنها. هذه هي أساليب التلقيح الاصطناعي الذي حقَّقَّه العلم لمعالجة أسباب عدم الحمل , وقد نظر مجلس المجمع، فيما نشر وأذيع- أنه يتم فعلاً تطبيقه في أوربا وأمريكا- من استخدام هذه الإنجازات لأغراضٍ مختلفةٍ: منها تجاري، ومنها ما يجري تحت عنوان (تحسين النوع البشري)، ومنها ما يتم

لتلبية الرغبة في الأمومة لدى نساءٍ غير متزوجات، أو نساءٍ متزوجات لا يحملن لسببٍ فيهن، أو أزواجِهن، وما أنشئ لتلك الأغراض المختلِفة من مصارف النطف الإنسانية، التي تُحفَظ فيها نطف الرجال بصورةٍ تقانية، تجعلها قابلةً للتلقيح بها إلى مدةٍ طويلة , وتؤخذ من رجالٍ معينين، أو غير معينين تبرُّعًا، أو لقاء عِوض، إلى آخر ما يقال إنه واقعٌ اليوم في بعض بلاد العالم المتمدِّن " (¬1). كما راعى مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذا الضابط بالرجوع إلى الأطباء والخبراء المختصين في تصوُّر حقيقة عمليات التلقيح الصناعي , وأنواعه , حيث ورد في القرار ما نصُّه: " إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمَّان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ، الموافق 11 - 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1986 م، بعد استعراضه البحوث المقدمة في موضوع التلقيح الصناعي (أطفال الأنابيب) والاستماع لشرح الخبراء والأطباء، وبعد التداول الذي تبيَّن منه للمجلس أن طرق التلقيح الصناعي المعروفة في هذا الأيام هي سبعة ... " , ثم ذُكِرت الطرق التي تقدم بيانها. ثانياً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط اعتبار مآلات الأفعال كما تقدم (¬2). وقد راعى مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذا الضابط أثناء تحقيق مناط تحريم الطرق الخمسة في التلقيح الصناعي، وذلك باعتبار ما يترتب عليها من اختلاط الأنساب , وضياع الأمومة , وغير ذلك من المحاذير الشرعية (¬3). كما نصَّ القرار على ضرورة أخذ كل الاحتياطات اللازمة عند الحاجة ¬

(¬1) قرارات المجمع الفقهي: (162 - 165). (¬2) ينظر: (236 - 240). (¬3) ينظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته الثالثة بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ، الموافق 11 - 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1986 م.

إلى إجراء عمليات التلقيح الصناعي بالطريقة السادسة والسابعة التي صدر القرار بجوازها عند الحاجة إلى ذلك. وذلك تحرُّزا من الوقوع في أي خطأ يؤدي إلى اختلاط النطف أو الريبة فيها, وهو ما يتعارض مع مقصود الشريعة في صيانة الأنساب وحفظها كما تقدم. وكذلك نصَّ القرار الصادر عن مجلس المجمع الفقهي على ذلك حيث ورد فيه: " ونظرًا لما في التلقيح الاصطناعي- بوجهٍ عام-من ملابساتٍ حتى في الصورتين الجائزتين شرعًا، ومن احتمال اختلاط النُّطَف، أو اللقائح في أوعية الاختبار، ولاسيما إذا كثرت ممارسته وشاعت، فإن مجلس المجمع الفقهي ينصح الحريصين على دينهم، ألاَّ يلجؤوا إلى ممارسته إلا في حالة الضرورة القصوى، وبمنتهى الاحتياط والحذر من اختلاط النُّطَف، أو اللقائح" (¬1). ثالثاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط الموازنة بين المصالح والمفاسد أثناء اجتماعها في محلِّ الحكم كما تقدم (¬2). وقد راعى مجلس المجمع الفقهي هذا الضابط بالموازنة بين حاجة الزوجين إلى إجراء عملية التلقيح الصناعي للمساعدة على الإنجاب من جهة, ومفسدة الكشف على عورة المرأة المغلَّظة من جهةٍ أخرى , ورجَّحوا مصلحة التداوي بالتلقيح الصناعي إذا تحقَّق فيه ما يخفِّف المفاسد المترتِّبة على ذلك , كأن يكون المعالِج امرأةً مسلمةً -إن أمكن ذلك- وإلا فامرأةٌ غير مسلمة، وإلا فطبيبٌ مسلمٌ ثقة، وإلا فغير مسلمٍ بهذا الترتيب, وانتفاء الخلوة بالمرأة إذا كان المعالج رجلاً وذلك بحضور زوجها أو امرأةٍ أخرى , وأن يثبت طبياً حاجة المرأة إلى إجراء عملية التلقيح الصناعي للمساعدة على الإنجاب بإذن الله , مع أخذ كل الاحتياطات اللازمة لمنع اختلاط النُّطَف أو الريبة فيها. ¬

(¬1) قرارات المجمع الفقهي: (167). (¬2) ينظر: (499 - 500).

وذلك لأن الأصل تحريم النظر إلى عورة المرأة ولمسها ,ولاسيما العورة المغلَّظة التي لايجوز لغير زوجها النظر إليها أو لمسها , سواءً أكان الناظر أو اللامس رجلاً أو امرأة، ولكن أجاز الفقهاء كشف العورة ونظر الأجنبي إليها لدواعي الكشف الطبي والتعليم والحاجة إلى العلاج , باعتبار أن ذلك من الضرورات التي تبيح المحظورات , ولكن تُقدَّر بقدرها , فيقتصر النظر واللمس على قدر الضرورة أو الحاجة. قال السرخسي: " وإذا أصاب امرأةً قرحةٌ في موضعٍ لا يحِلُّ للرجل أن يُنْظَر إليه ,لا يَنْظُر إليه ,ولكن يعلِّم امرأةً دواءَها لتداويها؛ لأن نظر الجنس إلى الجنس أخف ... وإن لم يجدوا امرأةً تداوي تلك القرحة ,ولم يقدروا على امرأةٍ تعلَّم ذلك إذا علمت , وخافوا أن تهلك أو يصيبها بلاءٌ أو وجعٌ لا تحتمله , فلا بأس أن يستروا منها كلَّ شيءٍ إلا موضع تلك القرحة, ثم يداويها رجلٌ ويغضُّ بصرَه ما استطاع إلا عن ذلك الموضع؛ لأن نظر الجنس إلى غير الجنس أغلظ ,فيُعتبَر فيه تحقُّق الضرورة ,وذلك لخوف الهلاك عليها" (¬1). وقال ابن مفلح (¬2): "فإن مرضت امرأةٌ ولم يوجد من يطبُّها غير رجلٍ جاز له منها نظر ما تدعو الحاجة إلى نظره منه حتى الفرجين" (¬3). وقال ابن قدامة: "ويباح للطبيب النظر إلى ما تدعو إليه الحاجة من بدنها من العورة وغيرها؛ فإنه موضع حاجة" (¬4). وقال ابن عابدين: "وينظر الطبيب إلى موضع مرضها بقدر الضرورة " (¬5). وقد ورد في القرار ما يؤكد ذلك المعنى , ويحقِّق مناطه في الصورتين ¬

(¬1) المبسوط: (10/ 156 - 157). (¬2) هو: أبو عبدالله، شمس الدين، محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج المقدسي الصالحي، أعلم أهل عصره ... بمذهب الإمام أحمد بن حنبل، من مؤلفاته: الفروع (ط)، والآداب الشرعية (ط)، وأصول الفقه (ط)، ... وغيرها توفي بدمشق سنة (763 هـ). ينظر في ترجمته: الدرر الكامنة (4/ 262)، المقصد الأرشد (2/ 519)، الأعلام للزركلي (7/ 107). (¬3) الآداب الشرعية: (2/ 442). (¬4) المغني: (6/ 558). (¬5) حاشية ابن عابدين: (5/ 237).

الجائزتين من صور التلقيح الصناعي إذا تحقَّت الشروط اللازمة في ذلك, حيث جاء فيه ما نصُّه: " هذا، وإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، بعد النظر فيما تجمَّع لديه من معلوماتٍ موثَّقةٍ، مما كُتِب ونُشِر في هذا الشأن، وتطبيق قواعد الشريعة الإسلامية ومقاصدها، لمعرفة حكم هذه الأساليب المعروضة وما تستلزمه، قد انتهى إلى القرار التفصيلي التالي: أولاً: أحكامٌ عامة: (أ) إن انكشاف المرأة المسلمة على غير من يحِلُّ شرعًا بينها وبينه الاتصال الجنسي، لا يجوز بحالٍ من الأحوال، إلا لغرضٍ مشروعٍ يعتبره الشرع مبيحًا لهذا الانكشاف. (ب) إنَّ احتياج المرأة إلى العلاج من مرضٍ يؤذيها، أو من حالةٍ غير طبيعيةٍ في جسمها، تُسَبِّب لها إزعاجًا، يُعْتبَر ذلك غرضًا مشروعًا يبيح لها الانكشاف على غير زوجها لهذا العلاج، وعندئذٍ يتقيد ذلك الانكشاف بقدر الضرورة. (ج) كلما كان انكشاف المرأة على غير من يحِلُّ بينها وبينه الاتصال الجنسي مباحًا لغرضٍ مشروع، يجب أن يكون المعالج امرأةً مُسْلِمَةً -إن أمكن ذلك- وإلا فامرأةٌ غير مُسْلِمَةٍ، وإلا فطبيبٌ مُسْلِمٌ ثقة، وإلا فغير مُسْلِمٍ بهذا الترتيب. ولا تجوز الخلوة بين المعالِج والمرأة التي يعالجها، إلا بحضور زوجها أو امرأةٍ أخرى. ثانيًا: حكم التلقيح الاصطناعي: 1 - إن حاجة المرأة المتزوجة، التي لا تحمل، وحاجة زوجها إلى الولد، تُعتبَر غرضًا مشروعًا، يبيح معالجتها بالطريقة المباحة، من طرق التلقيح الاصطناعي. 2 - إن الأسلوب الأول (الذي تؤخذ فيه النطفة الذَّكرية، من رجلٍ متزوج، ثم تُحقَن في رحِم زوجته نفسها، في طريقة التلقيح الداخلي) هو

أسلوبٌ جائزٌ شرعًا، بالشروط العامة الآنفة الذكر، وذلك بعد أن تثبت حاجة المرأة إلى هذه العملية لأجل الحمل. 3 - إن الأسلوب الثالث (الذي تؤخذ فيه البذرتان الذَّكرية والأنثوية من رجلٍ وامرأةٍ زوجين أحدهما للآخر، ويتم تلقيحهما خارجيًّا في أنبوب اختبار، ثم تُزرَع اللقيحة في رحِم الزوجة نفسها صاحبة البويضة) هو أسلوبٌ مقبولٌ مبدئيًّا في ذاته، بالنظر الشرعي، لكنه غير سليمٍ تمامًا من موجبات الشك، فيما يستلزمه، ويحيط به من ملابسات، فينبغي ألاَّ يُلجأ إليه إلا في حالات الضرورة القصوى، وبعد أن تتوفر الشرائط العامة الآنفة الذكر" (¬1). وإذا تحقق العمل بهذه الضوابط المذكورة فإنه يترجح حينئذٍ جواز عملية التلقيح الصناعي على منعه , وذلك لرجحان المصالح على المفاسد في هذه الواقعة مع توافر الضوابط المذكورة, وإن لم يتحقق العمل بالضوابط المذكورة فقد يفضي ذلك إلى مفاسد راجحة على المصالح , فيتجه حينئذ المنع والتحريم (¬2). رابعاً: ثبت باستقراء نصوص الشرع أن المحافظة على النَّسب , ومنع كلِّ مايؤدي إلى اختلاطه أو الريبة فيه من أعظم مقاصد الشريعة الكليَّة, ولأجل تحقيق هذا المقصد العظيم فقد حرَّم الشارع الزِّنا , ورتَّب عليه الحدّ , وتوعَّد مرتكبه بأشنع العقوبات , كما حرّم التَّبَنِّي، وشرَّع أحكاماً خاصةً بالعِدَّةِ ,وبراءة الأرحام، وأحكاماً أخرى تتعلَّق بإثبات النَّسَب وجحده كما في اللِّعان, وحرَّم الجنَّة على من انتسب إلى غير أبيه , وغيرِ ذلك من الأحكام التي تؤكد اعتناء الشارع الحكيم بضبط الأنساب وصيانتها من كل مايؤدي إلى الريبة والاختلاط (¬3). وقد اجتهد مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر ¬

(¬1) قرارات المجمع الفقهي: (165 - 167). (¬2) ينظر: طرق الإنجاب في الطب الحديث (249) ضمن أبحاث فقه النوازل , د. بكر أبوزيد. (¬3) ينظر: مقاصد الشريعة لابن عاشور (441 - 444) , طرق الإنجاب في الطب الحديث , د. بكر أبوزيد (250 - 252).

الإسلامي في تحقيق هذا المناط الكلِّي في المنع من الطرق الخمسة المذكورة تباعاً في طرق التلقيح الصناعي , وذلك باعتبارها تتنافى مع ذلك المقصود الكلِّي , وتؤدي إلى اختلاط الأنساب، لأن البذرتين الذكرية والأنثوية فيها ليستا من الزوجين، أو لأن المتطوعة بالحمل هي أجنبية عن الزوجين مصدر البذرتين (¬1). ¬

(¬1) قرارات المجمع الفقهي: (167).

المبحث الثاني عشر إسقاط الجنين المشوه خلقيا

المبحث الثاني عشر إسقاط الجنين المشوَّه خِلْقياً الجنين هو: الولد مادام في بطن أُمِّه مستتراً , والمراد به الكائن المتخلِّق من الحيوان المنوي للرجل والبويضة للمرأة داخل الرَّحِم (¬1). والإسقاط هو: إلقاء المرأة جنينها قبل أن يستكمل مدة الحمل، وقد استبان بعضُ خلقه , سواءٌ كان ذلك بفعلٍ منها كاستعمال دواءٍ أو بفعلٍ من غيرها (¬2). والتشوهات الخِلْقية التي يتعرض لها الجنين تنقسم إلى ثلاثة أنواع: (¬3) النوع الأول: تشوهاتٌ لاتؤثر على حياة الجنين , كالعمى والصمم والبكم. ... النوع الثاني: تشوهاتٌ يمكن أن يعيش معها الجنين بعد الولادة , كمن يولد بكِلْيةٍ واحدة, وبعضها يمكن إصلاحه بعد الولادة كبعض تشوهات المعدة والأمعاء. النوع الثالث: تشوهاتٌ خطيرةٌ لايُرْجَى للجنين معها حياةٌ بعد الولادة , كانسداد الحنجرة مما يمنع دخول الهواء للرئتين, وانسداد مجرى الهواء بين الأنف والحنجرة. ¬

(¬1) ينظر: لسان العرب (13/ 92) , مفردات ألفاظ القران للراغب الأصفهاني (204) , الجامع لأحكام القران الكريم للقرطبي (17/ 110)، حاشية ابن عابدين (6/ 578) , خلق الإنسان, للدكتور محمد البار (191 - 200). (¬2) ينظر: التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (195)، القاموس الفقهي (174). (¬3) ينظر: الموسوعة الطبية (259 - 263).

وهذه التشوهات الخِلْقية التي تحدث للجنين لها عدة أسبابٍ من أهمها: (¬1) - تعرُّض الحامِل في الأشهر الأولى للإشعاعات المباشرة, لاسيما منطقة البطن والحوض. - تناول العقاقير والمواد الكيماوية التي تضرّ الجنين أثناء الحمل , وتؤدي إلى تشوهات جسميةٍ وذهنيةٍ بسبب ما تحدثه من تغييرٍ كيمائيٍّ في الدم. - الإدمان على الكحول والمخدرات التي بدورها تؤثر على الحيوانات المنوية والبويضات, ويؤدي ذلك إلى حدوث تشوهاتٍ للجنين في الدماغ والقلب. - وجود تشوهات خِلْقية في أصل الحيوانات المنوية أو البويضات ,كالخلل في الكروموسومات من حيث الشكل أو الحجم. فإذا كانت التشوهات الخِلْقية التي تحدث للجنين كما تقدمت أنواعها وأسبابها فهل يجوز إجراء عملية إسقاطٍ للجنين إذا ثبت طبياً من خلال الفحوصات تعرُّض الجنين لبعض تلك التشوهات في مراحل تخلُّقه؟ لقد بحث مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي هذه المسألة في دورته الثانية عشرة عام 1410 هـ, وبعد الاستماع إلى الأبحاث المقدمة حول الموضوع، والمناقشات التي دارت حوله، قرَّر مايأتي: " - إذا كان الحمل قد بلغ مائةً وعشرين يومًا، فلا يجوز إسقاطه، ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوَّه الخِلْقة، إلا إذا ثبت بتقرير لجنةٍ طبيةٍ من الأطباء الثقات المختصين أن بقاء الحمل فيه خطرٌ مؤكدٌ على حياة الأم، فعندئذٍ يجوز إسقاطه، سواء أكان مشوَّهًا أم لا، دفعًا لأعظم الضررين. - قبل مرور مائةٍ وعشرين يومًا على الحمل، إذا ثبت وتأكد بتقرير لجنةٍ طبيةٍ من الأطباء المختصين الثقات-وبناءً على الفحوص الفنية، بالأجهزة ¬

(¬1) ينظر: المرجع السابق (293 - 297).

والوسائل المختبرية- أن الجنين مشوَّه تشويهًا خطيرًا، غير قابلٍ للعلاج، وأنه إذا بقي وولد في موعده، ستكون حياته سيئة، وآلامًا عليه وعلى أهله، فعندئذٍ يجوز إسقاطه بناءً على طلب الوالدين " (¬1). ويمكن إبراز أوجه تطبيق الاجتهاد في المناط على هذه المسألة فيما يأتي: أولاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط التصور التام لمحلِّ الحكم , ومن أهم الأمور المعينة على ذلك الرجوع إلى أهل الخبرة في كل شيئٍ بحسبه. وقد راعى مجلس المجمع الفقهي هذا الضابط في تصور حقيقة التشوهات الخِلْقية التي يتعرض لها الجنين وأنواعها وأسبابها ,وذلك بالرجوع إلى الأطباء المختصين الثقات , حيث ورد في القرار ما نصُّه: " وبعد مناقشته من قبل هيئة المجلس الموقرة، ومن قبل أصحاب السعادة الأطباء المختصين، الذين حضروا لهذا الغرض .. ". كما ربط المجلس جواز إسقاط الجنين في حالة ثبوت خطرٍ من بقائه على حياة الأم بصدور تقريرٍ من لجنةٍ طبيةٍ تضم الثقات من الأطباء المختصين يؤكد أن بقاء الجنين قد يتسبب في إزهاق حياة الأم, حيث ورد في القرار ما نصُّه: " .. إلا إذا ثبت بتقرير لجنةٍ طبية، من الأطباء الثقات المختصين أن بقاء الحمل فيه خطرٌ مؤكدٌ على حياة الأم، فعندئذٍ يجوز إسقاطه، سواء أكان مشوَّهًا أم لا .. ". فإذا صدر تقريرٌ يفيد ذلك عن أطباء ثقاتٍ مختصين فحينئذٍ يتحقق مناط جواز إسقاط الجنين في هذه الحالة , وهو من باب تحقيق المناط بالاعتماد على قول أهل الخبرة. وكذلك أيضاً في الحالة الأخرى التي خلص القرار فيها إلى جواز إسقاط الجنين , وهي الحالة التي لم يبلغ فيها الجنين مائةً وعشرين يوماً , ¬

(¬1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي: (277).

وثبت بتقرير الأطباء المختصين أن الجنين تعرَّض لتشوُّهٍ خطيرٍ غير قابلٍ للعلاج، وأنه إذا بقي وولد في موعده، ستكون حياته سيئة، وآلامًا عليه وعلى أهله. فإذا ثبت ذلك بتقرير الأطباء الثقات المختصين فحينئذٍ يتحقق مناط جواز إسقاط الجنين في هذه الحالة أيضاً , وهو من تحقيق المناط بالاعتماد على قول أهل الخبرة. ثانياً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط الموازنة بين المصالح والمفاسد أثناء اجتماعها في محلِّ الحكم كما تقدم (¬1). وقد راعى مجلس المجمع الفقهي هذا الضابط في الحالة التي يكون فيها الجنين قد بلغ مائةً وعشرين يوماً , وأثبت فريقٌ من الأطباء المختصين الثقات أنه تعرَّض لتشوُّهٍ خطير , وأن بقاءه يهدد حياة الأم , ففي هذه الحالة تمت الموازنة بين مفسدة إسقاط الجنين وقد بلغ مائة وعشرين يوماً , وبين مفسدة إزهاق روح الأم , فقرر المجلس في هذه الحالة جواز إسقاط الجنين حمايةً لحياة الأم التي هي الأصل, وذلك من باب دفع أشد الضررين بارتكاب أخفهما , كما أن حياة الأم في هذه الحالة متيقنة، وبقاء هذا الجنين حياً بعد الولادة أمرٌ مشكوك فيه. ثالثاً: ثبت بنصِّ السُّنَّة أن نفخ الروح في الجنين إنما يكون بعد مضي مائةٍ وعشرين يوماً على الحمل، كما جاء ذلك في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، فقال: " إنَّ أحدكم يُجْمَع خلْقُه في بطن أُمِّه أربعين يوماً نطفة، ثم علقةً مثل ذلك، ثم مضغةً مثل ذلك , ثم يُرسَل إليه الملَك فينفخ فيه الروح .. " (¬2). وبناءً على ذلك فقد أناط مجلس المجمع الفقهي تحريم إسقاط الجنين ¬

(¬1) ينظر: (245 - 256). (¬2) أخرجه البخاري في "صحيحه" , كتاب بدء الخلق , باب ذكر الملائكة , رقم (3208) , وأخرجه مسلم في "صحيحه" , كتاب القدر , باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه ,رقم (2643).

ولو كان مشوَّهاً خِلقياً ببلوغه مائةً وعشرين يوماً في بطن أمِّه , حيث ثبت عن الصادق المصدوق نفخ الروح فيه بعد مضي أربعة أشهر , فلايجوز التعدي على هذه الروح وإزهاقها, وذلك لأن الجنين بعد نفخ الروح أصبح نفسًا محترمة، يجب صيانتها والمحافظة عليها , حتى وإن ثبت بتقريرٍ طبيٍّ أنه قد تعرَّض لتشوُّهٍ خِلْقي, مالم يكن في بقائه إزهاقٌ لروح أمِّه. كما أناط مجلس المجمع الفقهي جواز إسقاط الجنين المشوَّه تشويهاً خطيراً بعدم بلوغه مائةً وعشرين يوماً في بطن أمِّه , حيث لم تنفخ فيه الروح بعد حسب ما أفاده النصُّ الصريح في الحديث المتقدم , ولأنه إذا بقي وولد في موعده، ستكون حياته سيئة، وآلامًا عليه وعلى أهله.

المبحث الثالث عشر رفع أجهزة الإنعاش عن المتوفى دماغيا

المبحث الثالث عشر رفع أجهزة الإنعاش عن المتوفَّى دماغياً المراد بالإنعاش الطبي: المعالجة المكثفة التي يقوم بها طبيبٌ أو مجموعةٌ من المختصين لإعادة الوظائف الحيوية في الجسم إلى مباشرة عملها من جديد بعد أن توقفت أو كانت على وشك التوقف (¬1). وأهم أجهزة الإنعاش المستخدمة في ذلك: (¬2) - المِنْفَسَة , وهو: جهازٌ يقوم بإدخال الهواء إلى الرئتين وإخراجه منهما مع إمكانية التحكم بنسبة الأكسجين في الهواء الداخل, إضافةً لأشياء أخرى عديدةٍ تساعد في إيصال هذا الغاز للدم، وسحب غاز ثاني أكسيد الفحم منه, فعندما يرى الطبيب مثلاً أن التنفس قد توقف أو أوشك على التوقف فإنه يقوم بإدخال أنبوبةٍ إلى القصبة الهوائية ويوصل ذلك الأنبوب بالمِنْفَسَة. - أجهزة إنعاش القلب, وهي: مانع الذبذبات, وهذا الجهاز يعطي صدمات كهربائيةٍ لقلبٍ اضطرب نبضه اضطراباً شديداً، وتحول إلى ذبذباتٍ بطينيةٍ لا تدفع الدم من البطين إلى الأورطي (الأبهر) , وإذا لم تُنْقَذ هذه الحالة فإن القلب يتوقف تمامًا عن العمل، وذلك يعنى توقف تغذية الدماغ, وإذا توقفت تغذية الدماغ وخاصةً جذع الدماغ لمدة دقيقتين فذلك يعني موت الدماغ الذي لا رجعة فيه. ¬

(¬1) ينظر: الإنعاش الصناعي من الناحية الطبية والإنسانية، أحمد جلال الجوهري، مجلة الحقوق والشريعة, العدد 2 , السنة 5 ,ص 122,الإنعاش، محمد المختار السلامي, مجلة مجمع الفقه الإسلامي, ع 2, 1/ 481. (¬2) ينظر: أجهزة الإنعاش للدكتور محمد علي البار, مجلة مجمع الفقه الإسلامي, (ع 2/ج 1/ 436 - 438)، الحياة الإنسانية بداياتها ونهاياتها (36).

- جهاز منظِّم ضربات القلب , وهو: جهازٌ يُصْدِر موجاتٍ كهربائيةٍ تعمل على تنشيط القلب , ويُسْتخدَم عندما تكون ضربات القلب بطيئةً جداً بحيث إن الدم لا يصل إلى الدماغ بكميةٍ كافية, أو ينقطع لفترة ثوانٍ أو لدقيقةٍ ثم يعود، وذلك يسبب الغشى (الإغماء) وفقدان الوعي المتكرر, أو أن ضربات القلب مضطربةٌ جداً كذلك بحيث إنَّ ضخ الدم من القلب منخفضٌ بدرجةٍ خطيرةٍ تؤدي إلى اضطرابات في الوعي، أو في درجة نشاط ذلك الشخص المُصاب. وهناك أيضاً مجموعةٌ من العقاقير التي يستخدمها الطبيب لإنعاش التنفس أو القلب أو تنظيم ضرباته تُستخدَم في إنعاش المرضى. فإذا أصيب شخصٌ بتوقف القلب أو التنفس نتيجةً لإصابة الدماغ بصدمة مثلاً، أو إصابته بأي عرضٍ آخر كغرق , أو خنق، أو موادٍ سامّة، أو جلطةٍ للقلب، أو اضطرابٍ في النبض .. فإنه يترقب الأمل بإنعاش ما توقف من دقات قلبه أو تنفسه باستخدام الوسائل الحديثة في ذلك. وتنحصر حينئذٍ أحوال المريض في غرفة الإنعاش في صور ثلاث: (¬1) الصورة الأولى: عودة أجهزة المريض لمباشرة وظائفها الحيوية من التنفس، وانتظام ضربات القلب, وحينئذٍ يقرر الطبيب: رفع الجهاز؛ لتحقق السلامة وزوال الخطر. الصورة الثانية: التوقف التام للقلب والتنفس، وعدم القابلية لوسائل الإنعاش الطبية، وحينئذٍ يقرر الطبيب: موت المريض تمامًا بموت أجهزته من الدماغ والقلب، ومفارقة الحياة لهما, وتُرْفَع أجهزة الإنعاش لتحقق الوفاة. الصورة الثالثة: قيام علامات موت جذع الدماغ من: الإغماء، وعدم الحركة، وعدم وجود أي نشاطٍ كهربائيٍّ في رسم المخ، لكن بواسطة العناية المركزة واستخدام أجهزة الإنعاش كجهاز التنفس، وجهاز ذبذبات القلب، لا يزال القلب ينبض، والنفس مستمر, وفي حال رفع أجهزة الإنعاش ¬

(¬1) ينظر: أجهزة الإنعاش وحقيقة الوفاة بين الفقهاء والأطباء للدكتور بكر أبوزيد (1/ 229 - 230) ضمن أبحاث فقه النوازل , الإنعاش للدكتور محمد المختار السلامي, مجلة مجمع الفقه الإسلامي, ع 2, 1/ 482.

عن المريض يتوقف القلب عن النبض ويتوقف النفس , وحينئذٍ يقرر الطبيب موت المريض دماغياً. فإذا قرر الأطباء المختصون في هذه الحالة موت جذع الدماغ الذي هو مركز إمداد القلب: فهل يجوز رفع أجهزة الإنعاش عن ذلك المريض المتوفىَّ دماغياً؟ لقد بحث مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي هذه النازلة في دورته الثالثة بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ. وبعد الاستماع إلى الأبحاث المقدمة حول الموضوع، والمناقشات التي دارت حوله، قرر مايلي: "يعتبر شرعاً أن الشخص قد مات وتترتب جميع الأحكام المقررة شرعاً للوفاة عند ذلك إذا تبينت فيه إحدى العلامتين التاليتين: 1 - إذا توقف قلبه وتنفسه توقفاً تاماً، وحكم الأطباء بأن هذا التوقف لا رجعة فيه. 2 - إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلاً نهائياً، وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه، وأخذ دماغه في التحلل. وفي هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص وإن كان بعض الأعضاء، - كالقلب مثلا-، لا يزال يعمل آلياً بفعل الأجهزة المركبة" (¬1). كما بحث هذه المسألة - أيضاً- مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته العاشرة، المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 42 صفر 1408 هـ إلى يوم الأربعاء الموافق 28 صفر 1408 هـ. وبعد المداولة في هذا الموضوع، من جميع جوانبه وملابساته، انتهى المجلس إلى القرار الآتي: "المريض الذي رُكِّبَت على جسمه أجهزة الإنعاش، ¬

(¬1) مجلة المجمع الفقهي: (العدد الثالث، ج 2 ص 523).

يجوز رفعها، إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطُّلاً نهائيًّا، وقررت لجنة من ثلاثة أطباء اختصاصيين خبراء، أن التعطل لا رجعة فيه، وإن كان القلب والتنفس لا يزالان يعملان آليًّا، بفعل الأجهزة المركبة، لكن لا يحكم بموته شرعًا إلا إذا توقف التنفس والقلب توقُّفًا تامًّا بعد رفع هذه الأجهزة " (¬1). ويمكن إبراز أوجه تطبيق الاجتهاد في المناط على هذه المسألة فيما يأتي: أولاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط التصوُّر التام لمحلِّ الحكم، ومعرفة حقيقته، وملابساته المحيطة به , ومن أهم الوسائل الموصلة إلى ذلك الرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص كما تقدم (¬2). وقد راعى مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذا الضابط بالرجوع إلى الأطباء المختصين في التعرُّف على حقيقة موت الدماغ، وأجهزة الإنعاش، ووظيفتها، ووسائلها وما يترتب على استخدامها أو رفعها عن المريض المتوفى دماغياً , حيث ورد في مستهل القرار ما نصُّه: " إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ، الموافق 11 - 16 تشرين الأول ... (أكتوبر) 1986 م، بعد تداوله في سائر النواحي التي أثيرت حول موضوع أجهزة الإنعاش واستماعه إلى شرحٍ مستفيضٍ من الأطباء المختصين قرر مايلي". كما راعى -أيضاً- المجمع الفقهي الإسلامي هذا الضابط ,واستوفى كل مايمكن الاطلاع عليه للتعرف على حقيقة ذلك , حيث ورد في مستهل القرار ما نصُّه: " فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، في دورته العاشرة، المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 42 صفر 1408 هـ الموافق 17 أكتوبر 1987 م إلى يوم الأربعاء الموافق 28 صفر 1408 هـ الموافق 21 ¬

(¬1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي: (214). (¬2) ينظر: (223 - 228).

أكتوبر 1987 م قد نظر في موضوع تقرير حصول الوفاة، بالعلامات الطبية القاطعة، وفي جواز رفع أجهزة الإنعاش عن المريض الموضوعة عليه، في حالة العناية المركزة، واستعرض المجلس الآراء، والبيانات الطبية المقدمة شفهيًّا وخطيًّا، من وزارة الصحة في المملكة العربية السعودية، ومن الأطباء الاختصاصيين، واطلع المجلس كذلك على قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، المنعقد في مدينة عمان العاصمة الأردنية رقم (5) 3/ 7/1986 م. وبعد المداولة في هذا الموضوع، من جميع جوانبه وملابساته، انتهى المجلس إلى القرار التالي ... ". ثانياً: من مسالك الاجتهاد في تحقيق المناط الاعتماد على قول أهل الخبرة فيما يختصون بمعرفته , كما تقدم في مسالك تحقيق المناط (¬1). وقد أناط مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي حكم جواز رفع أجهزة الإنعاش عن المريض بما إذا قرر الأطباء المختصون أن جميع وظائف دماغه تعطلت تعطلاً نهائياً، وأن هذا التعطل لا رجعة فيه. وكذلك المجمع الفقهي الإسلامي فإنه أناط حكم جواز رفع أجهزة الإنعاش عن المريض بما إذا قررت لجنةٌ من ثلاثة أطباءٍ مختصين أن جميع وظائف دماغه تعطلت تعطلاً نهائياً، وأن هذا التعطل لا رجعة فيه. ويُعَدُّ هذا التصرف من صور الاجتهاد في تحقيق مناطات الأحكام بالاعتماد على قول أهل الخبرة فيما يختصون بمعرفته. ثالثاً: ثبت عند الفقهاء أن مناط الأحكام الشرعية المترتبة على الموت هو مفارقة الروح للجسد مفارقةً تامةً تستحيل عودة الحياة بعدها (¬2). ومعنى مفارقتها للجسد: انقطاع تصرفها عنه بخروج الجسد عن طاعتها، فإن الأعضاء آلاتٌ للروح تستعملها (¬3). ¬

(¬1) ينظر: (269 - 272). (¬2) ينظر: المجموع شرح المهذب للنووي (5/ 105) ,مغني المحتاج للشربيني (1/ 32). (¬3) ينظر: إحياء علوم الدين للغزالي (4/ 493).

قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم في شأن قبض روح المؤمن: " فتخرُج تسيل كما تسيل القطرة من فِيّ السّقاء، فيأخذها مَلَكُ الموت." (¬1) وعلى هذا فإن الصلاة على الميت وتغسيله وتكفينه ودفنة واعتداد زوجته عليه وتقسيم إرثه ونحو ذلك من الأحكام تدور وجوداً وعدماً مع مناطها وهو "مفارقة الروح للجسد مفارقةً تامةً تستحيل عودة الحياة بعدها". ويُستَدل على ذلك بعلاماتٍ منها: (¬2) 1 - انقطاع النفس. 2 - استرخاء القدمين مع عدم انتصابهما. 3 - انفصال الكفين. 4 - ميل الأنف. 5 - امتداد جلدة الوجه. 6 - انخساف الصدغين. 7 - تقلص خصيتيه إلى فوق مع تدلي الجلدة. 8 - برودة البدن. وبناءً على ذلك فقد أناط مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي الحكم شرعاً بالموت على المتوفَّى دماغياً الذي رُفِعت عنه أجهزة الإنعاش إذا توقف عنده التنفس والقلب توقفاً تاماً لا رجعة بعده , مما يؤدي إلى انقطاع وصول الدم المحمل بالغذاء والأكسجين إلى أعضاء الجسم المختلفة، فينتج عن ذلك موت خلايا تلك الأعضاء بشكل تدريجي واحداً تلو الآخر (¬3). وذلك لأن الأصل حياة المريض, فنبقى على هذا الأصل حتى نجزم بزواله. ¬

(¬1) أخرجه أحمد في " مسنده "، رقم (17803)، وصححه الألباني في أحكام الجنائز (156). (¬2) ينظر: روضة الطالبين (2/ 98)، ، منتهى الإرادات (1/ 323) ,حاشية ابن عابدين (1/ 189)، الحياة الإنسانية بداياتها ونهاياتها (475). (¬3) ينظر: أجهزة الإنعاش للدكتور البار, مجلة مجمع الفقه الإسلامي , (ع 2/ ج 1/ 454 - 455).

رابعاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط الموازنة بين المصالح والمفاسد كما تقدم (¬1). وقد راعى المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي هذا الضابط في الحالة التي يجوز فيها رفع أجهزة الإنعاش عن المتوفَّى دماغياً بعد أن ثبت طبياً بأن وظائف الدماغ تعطلت تعطلاً تاماً لا رجعة بعده. ووجه ذلك أن بقاء أجهزة الإنعاش متصلةً بالمتوفَّى دماغياً يترتب عليه عدة أضرارٍ منها: (¬2) - أن في ذلك بذل جهدٍ كبيرٍ فيما لاجدوى منه، بل يقرب من كونه نوعاً من العبث، حيث أثبتت الدراسات العملية أن من توفرت فيه كل شروط تشخيص موت الدماغ فقد وصل إلى نقطةٍ يستحيل عودته للحياة بعدها؛ لأن جذع الدماغ هو المتحكِّم في جهازي التنفس والقلب والدورة الدموية , وتوقف جذع الدماغ وموته يؤدي لا محالة إلى توقف القلب والدورة الدموية والتنفس ولو بعد حين. - إنَّ غرف العناية المكثفة في المستشفيات محدودةٌ ومخصَّصةٌ لإعطاء عنايةٍ متواصلةٍ في كلِّ ثانيةٍ حتى تستقر حالة المريض الصحية، لمن يحتاج إلى ذلك، فإذا وُجِد مريضٌ بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى أجهزة الإنعاش ويمكن إنقاذ حياته بإذن الله فإنه أولى بتلك الأجهزة من مريضٍ قرر الأطباء تعطل دماغه تعطلاً نهائياً لارجعة بعده. - ازدياد آلام أقارب المريض وذويه، ومعاناتهم بتكرار رؤيتهم له على حالٍ أقرب مايكون فيه إلى الموت , وكلما طالت الفترة وهو على ذلك الحال زادت معاناتهم أكثر. - إن تكاليف وسائل الإنعاش باهظة جداً , وصرف ملايين الريالات ¬

(¬1) ينظر: (245 - 256). (¬2) ينظر: موت الدماغ الموقف القانوني والشرعي للدكتور البار, مجلة مجمع الفقه الإسلامي, (2/ 303).

لإبقاء الميت دماغياً يتنفس أمرٌ قليل الجدوى أو عديمها , والأولى من ذلك صرفها على المرضى الآخرين الذين يمكن إنقاذ حياتهم. وبناءً على ما تقدم فإنه يترجح حينئذٍ جواز رفع أجهزة الإنعاش عن المتوفَّى دماغياً؛ لأن بقاءها لا جدوى منه , ويترتب على ذلك عدة أضرار , كما أن في رفعها عن المتوفَّى دماغياً تتحقق مصالحٌ أخرى تتعلق بمرضى آخرين هي أولى من مصلحة إبقاء ذلك المتوفَّى دماغياً يتنفس رغم تعطل الدماغ تعطلاً نهائياً لا رجعة بعده.

المبحث الرابع عشر زراعة ونقل الأعضاء التناسلية

المبحث الرابع عشر زراعة ونقل الأعضاء التناسلية زراعة الأعضاء في الطب الحديث تعني: نقل عضوٍ سليمٍ أو مجموعةِ أنسجةٍ من إنسانٍ إلى آخر أو إلى الإنسان نفسه ليقوم مقام العضو أو النسيج التالف (¬1). والأعضاء التناسلية عند الرجل هي: الخصيتان , والبربخ , والحبل المنوي , وغدة البروستات , والحويصلتان المنويتان , والغدتان البصليتان , والقضيب (¬2). أما الأعضاء التناسلية عند المرأة فهي: المبيضان , وقناة فالوب , والرَّحِم , والمهبل , والفرج (¬3). ومن أهم وظائف الأعضاء التناسلية سواءً عند الرجل أو المرأة: تحصيل الإنجاب , وتحقيق الاستمتاع والتلذذ بالمعاشرة , وإفراز الهرمونات التي تظهر الصفات الرجولية عند الرجل، والصفات الأنثوية عند المرأة (¬4). وأكثر الأسباب الداعية إلى نقل وزراعة الأعضاء التناسلية هو معالجة العقم والمساعدة على الإنجاب , وذلك بزراعة الخصية أو الحبل المنوي ¬

(¬1) ينظر: عمليات نقل وزرع الأعضاء البشرية بين القانون والشرع للدكتورة سميرة ديات (7). (¬2) ينظر: الموسوعة الطبية الفقهية للدكتور أحمد كنعان (87). (¬3) ينظر: الموسوعة الطبية الفقهية للدكتور أحمد كنعان (87 - 88). (¬4) ينظر: زرع الغدد التناسلية والأعضاء التناسلية للدكتور محمد البار (ع 6 /ج 3/ 2023) ضمن أبحاث مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع للمؤتمر الإسلامي, إمكانية نقل الأعضاء التناسلية في المرأة للدكتور طلعت القصبي (ع 6/ج 3/ 1977) ضمن أبحاث مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع للمؤتمر الإسلامي.

للرجل, وزراعة المبيض أو الرَّحِم أو قناة فالوب للمرأة (¬1). فهل يجوز إجراء عمليات نقل وزراعة الأعضاء التناسلية من رجلٍ إلى آخر, أو من امرأةٍ إلى أخرى؟ لقد بحث مجلس مجمع الفقه الإسلامي هذه النازلة في دورته السادسة بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14 - 20 آذار (مارس) 1990 م، وبعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات المتعلقة بهذا الموضوع قرر مايأتي: "أولاً: زرع الغدد التناسلية: بما أن الخصية والمبيض يستمران في حمل وإفراز الصفات الوراثية (الشفرة الوراثية) للمنقول منه حتى بعد زرعهما في متلقٍّ جديد، فإن زرعهما محرَّمٌ شرعاً. ثانياً: زرع أعضاء الجهاز التناسلي: زرع بعض أعضاء الجهاز التناسلي التي لا تنقل الصفات الوراثية - ما عدا العورات المغلَّظة - جائزٌ لضرورةٍ مشروعةٍ، ووفق الضوابط والمعايير الشرعية المبينة في القرار رقم 26 (1/ 4) لهذا المجمع" (¬2). ويمكن إبراز أوجه تطبيق الاجتهاد في المناط على هذه المسألة فيما يأتي: أولاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط التصوُّر التام للواقعة , ومعرفة حقيقتها, ومكوناتها, وأسبابها؛ لأن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره كما تقدم (¬3). وقد راعى مجلس مجمع الفقه الإسلامي هذا الضابط بالرجوع إلى ¬

(¬1) ينظر: المراجع السابقة. (¬2) قرارات مجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسة بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14 - 20 آذار (مارس) 1990 م. (¬3) ينظر: (223 - 228).

الأطباء المختصين، وعقد ندواتٍ فقهيةٍ طبيةٍ متخصصةٍ في زراعة ونقل الأعضاء التناسلية؛ لتصور الموضوع تصوراً دقيقاً, ومعرفة حقيقته , ومايؤدي إليه , حيث استهلَّ القرار بما نصُّه: " إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14 - 20 آذار (مارس) 1990 م، بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات المتعلقة بهذا الموضوع الذي كان أحد موضوعات الندوة الفقهية الطبية السادسة المنعقدة في الكويت من 23 - 26 ربيع الأول 1410 هـ الموافق 23 - 26/ 10/ 1990 م، بالتعاون بين هذا المجمع وبين المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، قرر ما يلي .. " (¬1). وبناء على ذلك التصور الدقيق للنازلة فرَّق مجمع الفقه الإسلامي في الحكم بين الغدد التناسلية التي تفرز الصفات الوراثية للمنقول منه كالخصية والمبيض, والأعضاء التناسلية الأخرى التي لاتفرز الصفات الوراثية للمنقول منه مما ليس من العورات المغلَّظة كالرَّحِم للمرأة والحبل المنوي للرجل. ثانياً: من مسالك الاجتهاد في تحقيق المناط الاعتماد على قول أهل الخبرة كما تقدم (¬2). وأهل الخبرة في هذه النازلة هم الأطباء المختصون في علاجات وجراحات الجهاز التناسلي. وقد اجتهد أعضاء مجمع الفقه الإسلامي في تحقيق مناط تحريم زراعة ونقل الخصيتن والمبيضين اعتماداً على قول أهل الخبرة , حيث أثبتوا أن الخصية والمبيض توجب انتقال الصفات الوراثية الموجودة في الشخص المنقولة منه إلى أبناء الشخص المنقولة إليه. ثالثاً: المحافظة على وضوح الأنساب ونقائها ومنع أسباب اختلاطها من ¬

(¬1) قرارات مجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسة بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14 - 20 آذار (مارس) 1990 م. (¬2) ينظر: (269 - 272).

أعظم مقاصد الشرع الكلِّية كما تقدم (¬1). وقد اجتهد مجلس مجمع الفقه الإسلامي في تحقيق هذا المناط الكلِّي في زراعة ونقل الخصية والمبيض وما شابههما مما يحمل الصفات الوراثية للمنقول منه. وذلك باعتبار أن إجراء هذا النوع من العمليات يتنافى مع المقصود الكلِّي من المحافظة على وضوح الأنساب ونقائها، ومنع أسباب اختلاطها أوالريبة فيها. فزراعة الخصية تعني انتقال الحيوانات المنوية التابعة لصاحب الخصية بماتحمله من الصفات الوراثية إلى المتلقي , وزراعة المبيض تعني انتقال البويضات التابعة لصاحبة المبيض بماتحمله من الصفات الوراثية إلى المتلقِّي, وهو أمرٌ يؤدي إلى اختلاط الأنساب؛ لأن الأولاد حينئذٍ يتبعون في الشبه وفي الصفات الوراثية لصاحب الخصية المنقول منه أو صاحبة المبيض المنقول منها , وتكون ثمرة الإنجاب غير متولِّدةٍ من الزوجين الشرعيين المرتبطين بعقد الزواج , وهي صورةٌ لاتختلف عن صورة الإخصاب لبويضةٍ من حيوانٍ منويٍّ ليس من الزوج، أو إخصاب حيوانٍ منويٍّ من الزوج لبويضةٍ ليست لزوجته فيكون محرَّماً. رابعاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط الموازنة بين المصالح والمفاسد أثناء اجتماعها في محلِّ الحكم كما تقدم (¬2). وقد راعى أعضاء مجمع الفقه الإسلامي هذا الضابط في تحقيق مناط جواز نقل وزراعة عضوٍ تناسليٍّ -كالرَّحِم والحبل المنوي- مما لا يفرز الصفات الوراثية في حال إذا ما دعت ضرورةٌ لذلك، مع مراعاة الضوابط الشرعية الأخرى التي نصَّ عليها قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الرابعة بشأن انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسانٍ آخر حياً كان أو ميتاً (¬3). ¬

(¬1) ينظر: (469 - 470). (¬2) ينظر: (245 - 256). (¬3) ينظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي في دورته الرابعة بشأن انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً كان أو ميتاً, القرار رقم 26 (1/ 4).

وذلك بالموازنة في هذه الحالة بين مفسدة الكشف على العورات وإلحاق الضرر بالجسد , والضرورة التي يمكن أن تدعو إلى فعل ذلك وما يرجى أن يتحقق من مصلحةٍ راجحةٍ للمنقول إليه , فتُرجَّح حينئذٍ مصلحة نقل وزراعة ذلك العضو التناسلي - ماعدا العورات المغلَّظة - على ما يصحب ذلك من مفاسد مرجوحة , مع الاجتهاد ما أمكن في تخفيف تلك المفاسد , كأن يكون المعالِج من جنس المريض , فالمرأة المسلمة تعالج مثلَها ,والرجل كذلك , فإن لم يكن المعالِج مسلِماً فطبيبٌ ثقة , وكانتفاء الخلوة بالمرأة إذا كان المعالِج رجلاً وذلك بحضور زوجها أو امرأةٍ أخرى , وأن يثبت طبياً حاجة المريض إلى إجراء هذا النوع من العمليات , ولاتتوفر آنذاك وسيلةٌ طبيةٌ أقل مفسدةٍ من ذلك (¬1). ¬

(¬1) ينظر: (504 - 506).

المبحث الخامس عشر زراعة عضو استؤصل في حد أو قصاص

المبحث الخامس عشر زراعة عضوٍ استُؤصِل في حدٍّ أو قصاص زراعة الأعضاء في الطب الحديث تعني: نقل عضوٍ سليمٍ أو مجموعةِ أنسجةٍ من إنسانٍ إلى آخر أو إلى الإنسان نفسه ليقوم مقام العضو أو النسيج التالف (¬1). والحدُّ في الاصطلاح الفقهي هو: عقوبةٌ مقدَّرةٌ شرعاً لأجل حقِّ الله تعالى (¬2). أما القصاص فهو: أن يفُعل بالجاني مثل ما فَعَل بالمجني عليه أو شبهه في القتل أو القطع أو الجرح , وهو ما يطلِق عليه الفقهاء مُسمَّى "القَوَد" (¬3). وصورة المسألة أنه إذا أقيم الحدّ الشرعي على الجاني كأن تقطع يده كما في حدِّ السرقة مثلاً , أو يقتص منه بقطع عضوٍ من أعضائه كما فَعَل بالمجني عليه: فهل يجوز للجاني بعد تنفيذ الحدِّ عليه أو القصاص منه أن يقوم بعملية جراحيةٍ لزراعة ذلك العضو وإعادته إلى مكانه؟ لقد بحث مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي هذه المسألة في دورته السادسة بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410 الموافق 14 - 20 آذار (مارس) 1990 م. ¬

(¬1) ينظر: عمليات نقل وزرع الأعضاء البشرية بين القانون والشرع للدكتورة سميرة ديات (7). (¬2) ينظر: بدائع الصنائع (7/ 54) , الحدود لابن عرفة (479) ,التعريفات للجرجاني (74) , كشاف القناع (6/ 77) , ... مغني المحتاج للشربيني (5/ 460). (¬3) ينظر: المبسوط للسرخسي (26/ 125) , نهاية المحتاج للرملي (7/ 287) , المبدع شرح المقنع لابن مفلح (8/ 241) , ,مواهب الجليل شرح مختصر خليل (6/ 274) , طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية (163).

وبعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع زراعة عضوٍ استؤصِل في حدٍّ أو قصاصٍ، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، قرر ما يأتي: "أولاً: لا يجوز شرعاً إعادة العضو المقطوع تنفيذاً للحد؛ لأن في بقاء أثر الحدِّ تحقيقاً كاملاً للعقوبة المقررة شرعاً، ومنعاً للتهاون في استيفائها، وتفادياً لمصادمة حكم الشرع في الظاهر. ثانياً: بما أن القصاص قد شُرِع لإقامة العدل وإنصاف المجني عليه، وصون حقِّ الحياة للمجتمع، وتوفير الأمن والاستقرار، فإنه لا يجوز إعادة عضوٍ استؤصِل تنفيذاً للقصاص، إلا في الحالات التالية: أ- أن يأذن المجني عليه بعد تنفيذ القصاص بإعادة العضو المقطوع من الجاني. ب- أن يكون المجني عليه قد تمكن من إعادة عضوه المقطوع منه. ثالثاً: يجوز إعادة العضو الذي استُؤصِل في حدٍّ أو قصاصٍ بسبب خطأٍ في الحكم أو في التنفيذ" (¬1). ويمكن إبراز أوجه تطبيق الاجتهاد في المناط على هذه المسألة فيما يأتي: أولاً: من أعظم مقاصد الشرع في الأمر بإقامة الحدود -إذا توفرت شروطها وانتفت موانعها - تحقيق الزجر والتنكيل الذي يمنع الجاني وغيره من ارتكاب ما يوجب إقامة تلك الحدود. كما قال تعالى في حدِّ السرقة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة: 38] أي: عقوبةً زاجرةً وعبرةً للناس (¬2). ¬

(¬1) قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي هذه المسألة في دورته السادسة بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410 الموافق 14 - 20 آذار (مارس) 1990 م، مجلة المجمع (64، ج 3/ 2161). (¬2) ينظر: معالم التنزيل للبغوي (1/ 105).

وقد اجتهد مجلس مجمع الفقه الإسلامي في تحقيق هذا المناط الكلي في منع إعادة العضو الذي استؤصِل في حدٍّ؛ لأن ذلك يتنافى مع مقصود الشارع من إقامة الحدود , وهو تحقيق الزجر والنكال الذي يحجز الناس عن الإقدام على مايوجب إقامة تلك الحدود. حيث ورد في القرار مانصّه: " وبمراعاة مقاصد الشريعة من تطبيق الحدّ في الزجر والردع والنكال، وإبقاءً للمراد من العقوبة بدوام أثرها للعبرة والعظة وقطع دابر الجريمة، ونظراً إلى أن إعادة العضو المقطوع تتطلب الفورية في عرف الطب الحديث، فلا يكون ذلك إلاّ بتواطؤٍ وإعدادٍ طبيٍّ خاصٍّ ينبئ عن التهاون في جدّية إقامة الحدِّ وفاعليته، قرر ما يلي: أولاً: لا يجوز شرعاً إعادة العضو المقطوع تنفيذاً للحد؛ لأن في بقاء أثر الحدِّ تحقيقاً كاملاً للعقوبة المقررة شرعاً، ومنعاً للتهاون في استيفائها، وتفادياً لمصادمة حكم الشرع في الظاهر" (¬1). ولا ريب أن الزجر والتنكيل في إقامة الحدود لا يتحقق إلا بتنفيذها وبقاء أثرها إذا توافرت شروطها وانتفت موانعها, وإلا أدَّى ذلك إلى الاستهانة بالحدود والجرأة على موجباتها , فإذا علم السارق -مثلا- أنه يحقُّ له شرعاً إعادة يده إذا قُطِعت في حدِّ السرقة بإجراء زراعةٍ لذلك العضو فإنه قد يتجرأ على السرقة مرةً أخرى, ولا يتحقق حينئذٍ مقصود الشارع من إقامة حدِّ السرقة عليه وعلى مثله بقطع يده التي امتدت على أموال الناس ظلماً وعدواناً. قال تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} , أي: "مجازاةً على صنيعهما السييء في أخذ أموال الناس بأيديهم , فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك" (¬2). ثانياً: من أعظم مقاصد الشرع في الأمر بالقصاص تحقيق العدل في العقوبات ,وإنصاف المجني عليه ,وصون النفس من الاعتداء عليها بغير حق, ¬

(¬1) قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي هذه المسألة في دورته السادسة بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410 الموافق 14 - 20 آذار (مارس) 1990 م، مجلة المجمع (64، ج 3/ 2161). (¬2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير: (3/ 103).

وقد أناط الشارع ذلك المقصود بتحقيق المثلية في القصاص , وهو أن يُفعل بالجاني مثل مافعَلَ بالمجني عليه سواءً بسواء. قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]. وقال عزَّ مِنْ قائل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]. ولا ريب أن عدم تحقيق شرط المثلية في القصاص يجرِّئ الجناة على الاعتداء على الآخرين , ويوغر صدور المجني عليهم , ويثير العداوات التي ليس لها حدّ , ولا يضبطها ضابطٌ إلا الشرع. وقد اجتهد مجلس مجمع الفقه الإسلامي في تحقيق مناط المثلية في منع إعادة العضو الذي استؤصِل في قصاص , فإذا اعتدى إنسانٌ على آخر فقطع أذنَه -مثلاً- ثم اقتُصَّ منه بقطع أذنه , فإن الجاني لايحقُّ له شرعاً إجراء عملية زراعةٍ لإعادة تلك الأذن إلى مكانها بعد تنفيذ القصاص. وذلك: " لأنه أبان عضواً من غيره دواماً , فوجبت إبانته منه دواماً؛ لتحقُّق المقاصَّة" (¬1). حيث ورد في القرار مانصّه: " بما أن القصاص قد شُرِع لإقامة العدل وإنصاف المجني عليه، وصون حقِّ الحياة للمجتمع، وتوفير الأمن والاستقرار، فإنه لا يجوز إعادة عضوٍ استُؤصِل تنفيذاً للقصاص، إلا في الحالات التالية: أ- أن يأذن المجني عليه بعد تنفيذ القصاص بإعادة العضو المقطوع من الجاني. ب- أن يكون المجني عليه قد تمكن من إعادة عضوه المقطوع منه" (¬2). ¬

(¬1) كشاف القناع: (5/ 550). (¬2) قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي هذه المسألة في دورته السادسة بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410 الموافق 14 - 20 آذار (مارس) 1990 م، مجلة المجمع (64، ج 3/ 2161).

ثالثاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط مراعاة اختلاف أحوال المكلَّفين , فاختلاف الحال الذي يصاحب محلَّ الحكم له أثرٌ كبير في اختلاف الأحكام التي تجري عليه كماتقدم بيانه (¬1). وقد راعى مجلس مجمع الفقه الإسلامي هذا الضابط في تحقيق مناط الحكم بجواز إعادة العضو المقطوع من الجاني في حدٍّ أو قصاص , وذلك في الحالات التي يشترط فيها تحقيق المثلية المأمور بها في القصاص. وهي الحالات الآتية (¬2): الحالة الأولى: أن يأذن المجني عليه بعد تنفيذ القصاص بإعادة العضو المقطوع من الجاني. وذلك لأن المجني عليه إذا أذن للجاني أن يعيد العضو المقطوع منه فقد أسقط حقه في المثلية التي أناط الشارع حكم القصاص بها. الحالة الثانية: أن يكون المجني عليه قد تمكَّن من إعادة عضوه المقطوع منه. الحالة الثالثة: إعادة العضو الذي استؤصِل في حدٍّ أو قصاصٍ بسبب خطأٍ في الحكم أو في التنفيذ. ¬

(¬1) ينظر: (229 - 235). (¬2) ينظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته السادسة بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410 الموافق 14 - 20 آذار (مارس) 1990 م، مجلة المجمع (العدد السادس، ج 3 ص 2161).

خاتمة البحث

خاتمة البحث في ختام هذا البحث أحمد الله تعالى على توفيقه، وأسأله جلَّ وعلا كما أعانني على إتمامه أن يتقبله وينفع به، ومِنْ شكر الله تعالى الذي لا تنقضي موجبات شكره أسطِّرِ في هذه الخاتمة أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال هذا البحث وهي على النحو الآتي: - المناط اصطلاحاً هو: متعلَّق الحكم الشرعي مطلقاً , أي سواءٌ كان عِلَّةً -وهو الاصطلاح الغالب عند الأصوليين- أو قاعدةً شرعية، أو معنى لفظٍ عامٍّ أو مطلقٍ تعلَّق به حكمٌ شرعي. - الاجتهاد في المناط هو: استفراغ الوسع في تنقيح عِلَّةٍ منصوصةٍ ,أو استخراج عِلَّةٍ مستنَبطة , أو إثبات معنىً تعلَّق به حُكْمٌ شرعيٌّ في بعض أفراده. - أنواع الاجتهاد في المناط ثلاثة: تنقيح المناط , وتخريج المناط , وتحقيق المناط. - من أهم أوجه الجمع بين تنقيح المناط , وتخريج المناط , وتحقيق المناط مايأتي: - الأنواع الثلاثة تعتبر من أفعال المجتهد، ولاتُعتَبر من مسالك العِلَّة. - الأنواع الثلاثة من مقدمات القياس، وليست هي القياس نفسه. - الأنواع الثلاثة تشترك في أن النظر فيها يتعلق بالعِلَّة , وإن كان تحقيق المناط أعمَّ مورداً من التنقيح والتخريج.

- من أهم أوجه الفرق بين تنقيح المناط , وتخريج المناط , وتحقيق المناط مايأتي: - تنقيح المناط وتخريجه لا يَرِدَانِ إلا على العِلَّة، بينما تحقيق المناط يَرِدُ على العِلَّة وعلى غيرها من متعلَّقات الحكم الشرعي , فهو أعمُّ مورداً منهما. - في " تخريج المناط " يَسْتَخْرِجُ المجتهدُ العِلَّة بأحد مسالكها المُسْتَنْبَطَة، بخلاف ... " تنقيح المناط " فإنه لا يَسْتَخْرِجُ العِلَّة لكونها مذكورةً في النصِّ، بل يُنَقِّحُ العِلَّة المنصوصةَ التي اقترن بها أوصافٌ لا تصلح للعِلِّية، وذلك بإثبات الوصف الصالح للعِلِّية وإلغاء ما سواه, أما في "تحقيق المناط" فإنه يجتهد في إثبات وجود عِلَّة الأصل في الفرع بعد ثبوتها في نفسها بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط. - النظر في " تنقيح المناط " يتعلق بالعِلَّة التي عُرِفَتْ بالنصِّ، واقترن بها من الأوصاف ما لايصلح للعِلِّية، وفي" تخريج المناط " يتعلَّق النظر بالعِلَّة التي تُعْرَفُ بالاستنباط، أما في " تحقيق المناط " فإن النظر يتعلق بمعرفة العِلَّة في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط. - بالنظر إلى ترتيب الأنواع الثلاثة حسب عمل المجتهد فإن تنقيح المناط وتخريجه يتقدمان على تحقيق المناط ويتأخر هو عنهما. - لا يلزم في " تخريج المناط " أن تكون هناك أوصافٌ، بل قد لا يكون في محلِّ الحكم إلا وصفٌ واحدٌ وهو العِلَّة فَتُسْتَخَرج بالاجتهاد , بينما في " تنقيح المناط " يلزم أن تكون هناك أوصافٌ حتى يُحْذَفَ منها ما لا مدخل له في العِلِّية، ويثبت ما يصلح وصفاً يقترن به الحكم. - بالنظر إلى درجة الخلاف في كل نوعٍ من الأنواع الثلاثة فإن تحقيق المناط بمعناه الأعمّ لا خلاف فيه، كما أن تنقيح المناط يُقرُّ به أكثر منكري القياس، أما تخريج المناط فهو الاجتهاد الذي عَظَمُ فيه الخلاف. - تنقيح المناط اصطلاحاً هو: " أن يدلَّ نصٌّ ظاهرٌ على التعليل

بوصفٍ، فَيُحْذَف خصوصه عن الاعتبار، ويُنَاطُ الحكم بالمعنى الأعمِّ، أو يقترن بالحكم أوصافٌ مذكورةٌ في النصِّ لا مدخل لها في العِلِّية، فَتُحْذَف عن الاعتبار، ويُنَاطُ الحكم بالباقي ". - اتفق الأصوليون على إثبات العمل بـ " تنقيح المناط " إما باعتباره مسلكاً من المسالك التي تثبت بها العِلَّة، أو باعتباره طريقاً من طرق الاجتهاد في العِلَّة بعد إثباتها بمسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه. - اصطلح جمهور الأصوليين على تسميته ب"تنقيح المناط" , واعتبروه قياساً خاصاً مندرجاً تحت مطلق القياس, بينما اصطلح الحنفية على تسميته بـ" الاستدلال "، أو "دلالة النصّ"، وجوَّزوا إثبات الكفارة والنسخ وإثبات الزيادة على النصِّ به، ولم يجوِّزوا نسخه بخبر الواحد. وفرَّقوا بينه وبين القياس: بأن القياس ما أُلحق فيه حكمٌ آخر بجامعٍ يفيد غلبة الظنّ، والاستدلال ما أُلحِق فيه الحكم بإلغاء الفارق المفيد للقطع. - " إلغاء الفارق " إذ أُظْهِر معه حذف خصوصية الوصف الذي دلَّ ظاهر النصّ على عِلِّيته صراحةً أو إيماءً، وأنيط الحكم بالمعنى الأعمِّ بعد تعيينه، فهو أحد صور تنقيح المناط. أما إذا اقْتُصِرَ فيه على إلغاء الوصف الفارق بين الأصل والفرع، ولم تُعَيَّن العِلَّة وتتميَّز فإنه لا يُعَدُّ من تنقيح المناط؛ لأن " تنقيح المناط " يعني: تهذيب العِلَّة وتمييزها، فإذا لم تُعيَّن العِلَّة وتُهَذَّب لم تصدق التسمية بذلك. - السَّبْر والتقسيم دليلٌ خادمٌ للاجتهاد في العِلَّة الذي أحد أضربه الاجتهاد في تنقيح المناط، فالسَّبْر والتقسيم أعمُّ وأشمل من تنقيح المناط، حيث يشمل الاستدلالُ به مسالكَ العِلَّة المنصوصة والمستنبطة، أما تنقيح المناط فهو يختصُّ بالاجتهاد في الأوصاف التي دلَّ عليها ظاهر النصّ، وقد يُحتاج في بعض صوره إلى استعمال دليل السَّبْر والتقسيم كما في النوع الثاني من تنقيح المناط. - تنقيح المناط وتمييزه عن غيره من الأوصاف غير المؤثرة لا يثبت إلا بطريقٍ معتبر.

- من أهم طرق تنقيح المناط ما يأتي: أولاً: استقراء عادة الشرع في إلغاء وصفٍ عن درجة الاعتبار وعدم إناطة الحكم به. ثانياً: الإجماع على أن الشارع ألغى ذلك الوصف عن درجة الاعتبار أو ألغى خصوصه وأناط الحكم بما هو أعمّ منه. ثالثاً: كون الحكم ثابتاً في صورةٍ ما بالباقي من الأوصاف دون الوصف المحذوف. - تخريج المناط اصطلاحاً: الاجتهاد في استنباط عِلَّة الحكم الذي دلَّ النصُّ أو الاجماعُ عليه من غير تعرُّضٍ لبيان عِلِّيته لا صراحةً ولا إيماءً، وذلك بأي مسلكٍ من مسالك العِلَّة الاجتهادية المعتبرة، كالمناسبة أو السَّبْر والتقسيم، أو الدوران. - اتفق القائلون بأصل القياس على إثبات العمل بـ " تخريج المناط " - في الجملة - باعتباره نوعاً من أنواع الاجتهاد في العِلَّة والخلاف في إثبات العمل بـ " تخريج المناط " إنما يجري مع نفاة القياس ومنكريه. - صورة تخريج المناط بمسلك المناسبة: أن يحكم الشارع في محلٍّ بحكم، ولا يتعرض لبيان عِلَّة ذلك الحكم لا بصريح لفظٍ ولا بإيماء، فيستخرِج المجتهد وصفاً ظاهراً منضبطاً يحصل من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً من جلب مصلحةٍ أو دفع مضرَّة، ولا يجد غيرَه من الأوصاف الصالحة للعِلِّيِّة مثلَه ولا أولى منه، ويغلب على ظنِّه كون ذلك الوصف عِلَّةً لذلك الحكم فيعينه مناطاً له، ثم يستدل على ذلك بإظهار ملائمة الوصف للحكم. - صورة تخريج المناط بمسلك السَّبْر والتقسيم: أن يحكم الشارع في محلٍّ بحكم، ولا يتعرَّض لبيان عِلَّة ذلك الحكم لا بصريح لفظٍ ولا بإيماء، فيحصر المجتهدُ الأوصافَ الموجودة في الأصل المحتمِلة للتعليل، ثم يختبر تلك الأوصاف واحداً واحداً، ويبطل ما لا يصلح أن يكون عِلَّةً لذلك الحكم بدليله، فيتعيَّن الوصفُ الباقي مناطاً للحكم.

- صورة تخريج المناط بمسلك الدوران: أن يحكم الشارع بحكمٍ في محلّ، ولا يتعرَّض لبيان عِلَّة ذلك الحكم لا بصريح لفظٍ ولا بإيماء، فيستنبِط المجتهد وصفاً يدور الحكم معه وجوداً وعدماً، ولم يقم دليلٌ على عدم عليِّة المدار فيه، ولم توجد عِلَّةٌ أخرى لهذا الحكم سوى ذلك الوصف، فإنه حينئذٍ يتعين عِلَّةً لذلك الحكم. - " تحقيق المناط " في الاصطلاح يطلق على ثلاث صور: الأولى: إثبات عِلَّة حكم الأصل في الفرع بعد معرفتها في نفسها بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط ,وهذا هو الإطلاق المشهور. الثانية: إثبات مقتضى قاعدةٍ شرعيةٍ ثبتت بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباطٍ في إحدى جزئياتها. الثالثة: إثبات معنى لفظٍ عامٍّ أو مطلقٍ تعلَّق به حكمٌ شرعِيٌّ في بعض أفراده. وأقرب تعريفٍ جامعٍ لتلك الصور الداخلة تحته وبعبارة موجزة هو أن يقال: ... " تحقيق المناط: إثبات مُتَعَلَّقِ حكمٍ شرعيٍّ في بعض أفراده ". - ينقسم تحقيق المناط إلى عدَّة أقسام، وذلك باعتباراتٍ عِدَّة. - ينقسم تحقيق المناط باعتبار النظر إلى نوع المناط المراد تحقيقه إلى خمسة أقسام: الأول: تحقيق المناط باعتباره عِلَّةً، سواءً ثبتت بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط. الثاني: تحقيق المناط باعتباره قاعدةً شرعية. الثالث: تحقيق المناط باعتباره لفظاً عاماً تعلَّق به حكمٌ شرعي. الرابع: تحقيق المناط باعتباره معنىً مطلقاً تعلَّق به حكمٌ شرعي. - وينقسم تحقيق المناط باعتبار النظر إلى وضوحه وخفائه إلى قسمين: الأول: تحقيق المناط الجلي. والثاني: تحقيق المناط الخفي. - وينقسم تحقيق المناط باعتبار مراتبه إلى قسمين:

الأول: تحقيق المناط في الأنواع. والثاني: تحقيق المناط في الأشخاص أو الأعيان. - اتفق الأصوليون على إثبات العمل بمقتضى الاجتهاد في تحقيق المناط إذا كان المناط معلوماً ثبت بنصٍّ أو إجماعٍ ويجتهد في تحقيقه في الفرع. - أما إذا كان المناط عِلَّةً ثبتت بالاستنباط فقد اتفق القائلون بالقياس على إثبات العمل بمقتضى الاجتهاد في تحقيق المناط، حيث لا فرق في ذلك - عندهم- بين ثبوت المناط بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط، إلا أن الحنفية لم يصطلحوا على تسميته بـ " تحقيق المناط " مع إثبات العمل بمقتضاه والاحتجاج به. - من أهم الضوابط التي ينبغي على المجتهد مراعاتها واعتبارها أثناء الاجتهاد في تحقيق المناط مايأتي: أولاً: التصوُّر الصحيح التام للواقعة ومعرفة حقيقتها. ثانياً: مراعاة اختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة. ثالثاً: اعتبار مآلات الأفعال والأقوال الصادرة عن المكلَّفين. رابعاً: مراعاة اختلاف مقاصد المكلَّفين. خامساً: الموازنة بين المصالح والمفاسد المتعارضة. - مسالك تحقيق المناط هي: الأدلة الدالة على ثبوت مناط الحكم في بعض أفراده. - كلّ ما يدلُّ على ثبوت مناط الحكم في في بعض أفراده، ولا معارض له أرجهح منه فإنه يصح اعتباره مسلكاً من مسالك تحقيق المناط؛ لأن إيقاع الأحكام على الأعيان لا يلزم أن يُعْلَم بالأدلة الشرعية النقلية، بل يُعْلَم بكلِّ ما يدل على وقوعها, ولا معارض له أرجح منه. - تنقسم المسالك التي يُدْرَك بها ثبوت المناط في بعض أفراده إلى: مسالك نقلية، ومسالك اجتهادية.

- المراد بالمسالك النقلية: أن يدلَّ دليلٌ نقليٌّ على ثبوت مناط الحكم في بعض أفراده. - المراد بالمسالك الاجتهادية: أن يدلَّ دليلٌ اجتهاديٌّ على ثبوت مناط الحكم في بعض أفراده. - من أهم مسالك تحقيق المناط النقلية: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، وقول الصحابي. - من أهم مسالك تحقيق المناط الاجتهادية: لغة العرب، والعُرْف، والحِسّ، وقول أهل الخبرة، وطرق الإثبات، والحساب والعدد. - تظهر العلاقة بين دليل الكتاب والاجتهاد في المناط في جوانب عديدةٍ من أهمها مايأتي: -الكتاب هو المصدر الأول الذي يجب أن يفزع إليه المجتهد في سائر أنواع الاجتهاد بمافي ذلك الاجتهاد في المناط بأنواعه الثلاثة. -يعتبر الكتاب هو المعين الذي لا ينضب للمعاني والأوصاف التي التي أنيطت بها الأحكام في الشريعة؛ لأن أكثر ورود الأحكام في القرآن جاء على وجهٍ كليٍّ يندرج تحته من الجزئيات في كلِّ زمانٍ ومكانٍ ما لا ينحصر. - يُعتبَر نصُّ الكتاب أهم المسالك النصية الدالة على مناطات الأحكام , وهو مقدَّمٌ على غيره من المسالك الأخرى. -النصُّ من أهم المسالك المُعَتبرَة في تنقيح مناطات الأحكام , وهو يشمل نصوص الكتاب والسُّنَّة , وما عُلِمَ من عادتهما في شرع الأحكام. -إن الكتاب من المسالك المُعتبَرة في تحقيق مناطات الأحكام، ولكن ذلك قليل جداً لأن أكثر أحكام الكتاب كليٌّ. -قد يثبت الحكم بنصِّ الكتاب دون أن يتعرض لمناطه نصاً ولا إيماءاً , فيُجْتَهد حينئذٍ في استخراجه بأحد المسالك الاجتهادية , كالمناسبة أو السَّبْر والتقسيم أو الدوران.

- من ضوابط تحقيق المناط الموازنة بين المصالح والمفاسد؛ لأن الغرض من الاجتهاد في تحقيق المناط موافقة قصد الشارع في الأحكام , وهذا يستلزم معرفة مراتب المصالح والمفاسد في الشرع , ويُعْتبَر الكتاب هو منبع العلم بالمصالح والمفاسد ومراتبها. - تظهر العلاقة بين الاجتهاد في المناط ودليل السُّنَّة في جوانب عديدةٍ من أهمها ما يأتي: -إن مناط الحكم لابَّد له من دليلٍ يشهد له بالاعتبار , ومن أقوى الأدلة المعتبرة مسلك النصِّ والإيماء الذي يشمل الكتاب والسُّنَّة. -النصُّ من أهم المسالك المعتبرة في تنقيح مناطات الأحكام , وهويشمل نصوص الكتاب والسُّنَّة , وماعُلِم من عادتهما في شرع الأحكام. -قد يثبت الحكم بنصِّ السُّنَّة , ويدل ظاهر النصِّ على تعليل الحكم بوصفٍ ما , فُيْجَتَهُد في حذف خصوص ذلك الوصف عن الاعتبار, ويناط الحكم بالمعنى الأعم؛ لأن الوصف المذكور ليس علَّةً لذاته بل لما يلازمه. -قد يثبت الحكم بنصِّ السُّنَّة, ويدل ظاهر النصِّ على تعليل الحكم بمجموع الأوصاف المذكورة , فيُجْتهَد في حذف الأوصاف التي لاتصلح للعليِّة عن الاعتبار, وتعيين الباقي من الأوصاف مناطاً للحكم. - قد يثبت الحكم بنصِّ السُّنَّة دون أن تتعرض لمناطه لا صراحةً ولا إيماءً , فيُجتَهد حينئذٍ في استخراجه بأحد المسالك الاجتهادية كالمناسبة أو السَّبْر والتقسيم أو الدوران. -تعتبر السُّنَّة من مسالك تحقيق مناطات الأحكام في الأعيان , فقد يدلَّ قول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله أو تقريره على ثبوت مناط الحكم في بعض أفراده. - تظهر العلاقة بين الاجتهاد في المناط ودليل الإجماع في جوانب عديدةٍ من أهمها مايأتي: - يُعتبَر الإجماع من أقوى المسالك التي قد يثبت بها مناط الحكم في الأصل.

-قد ينعقد الإجماع على أن الحكم الفلاني منوطٌ بوصفٍ - أي: إنه معلَّل - , ثم يقع الاختلاف في تعيين الوصف الذي يصلح مناطاً لذلك الحكم. -قد ينعقد الإجماع على حكم شيءٍ ما , ولايوجد ما ينصُّ صراحةً أو إيماءاً على مناط الحكم , فيُجتهَد حينئذٍ في استخراجه بأحد المسالك المعتبرة , كالمناسبة أو السَّبْر والتقسيم أو الدوران. -قد يثبت الحكم بالنصِّ , ويدل ظاهر النصِّ على تعليل الحكم بوصفٍ ما , فينعقد الإجماع على حذف خصوص ذلك الوصف عن الاعتبار, ويُناط الحكم بالمعنى الأعم؛ لأن الوصف المذكور ليس عِلَّةً لذاته بل لما يلازمه. -قد يثبت الحكم بالنصّ , ويدل ظاهر النصِّ على تعليل الحكم بالأوصاف المذكورة فيه , وينعقد الإجماع على حذف الأوصاف التي عُلِم قطعاً أنه لاتأثير لها في الحكم, ثم يقع الاختلاف في حذف الأوصاف المظنونة التي تحتمل التأثير وعدمه, وتعيين الباقي مناطاً للحكم. -قد يثبت الحكم الشرعي , ويثبت مناطه بطريقِ من الطرق المعتبرة , ثم ينعقد الإجماع على تحقق ذلك المناط في بعض جزئياته. - يُعتبَر دليل القياس أوثق الأدلة الشرعية صلةً بالاجتهاد في المناط , وتظهر هذه العلاقة الوثيقة بينهما في جوانب عديدة , من أهمها مايأتي: -الاجتهاد في المناط بأنواعه الثلاثة يُعْتَبَر من أهم مُتَعَلَّقات النظر والاستدلال في القياس لأنه يتوجّه إلى أهم ركنٍ من أركان القياس وهو " العِلَّة "وهو المقدمة الضرورية لإجراء القياس. -القياس تارةً يكون بذكر الجامع , وتارةً يكون بإلغاء الفارق، وإلغاء الفارق من صور تنقيح المناط. -يُعتبَر الاجتهاد في تخريج المناط هو الاجتهاد القياسي الذي عَظُمَ فيه الخلاف بين العلماء. -يُعتبَر الاجتهاد في تحقيق المناط أعمَّ من القياس, فالقياس يختصُّ بالعلل

سواء كانت منصوصةً أو مجمعاً عليها أو مُسْتَنبطة , بينما تحقيق المناط يشمل ما إذا كان المناط عِلَّةً ثبتت بنصٍّ أو إجماع أو استنباط، أو كان المناط قاعدةً كُليَّةً ثبتت بنصٍّ أو إجماع أو استنباط، أومقتضى لفظٍ عامٍّ أو مُطلقٍ تعلَّق به حُكمٌ شرعي. -إذا كان المناطٍ عِلَّةً ثبتت بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباطٍ وثبت المناط في حُكْم الأصل قطعاً , ثم ثبت وجودهٍ كذلك في الفرع كان القياس قطعياً، أما إذا ثبت المناط فيهما, أو في أحدهما ظنّا, كان القياس حينئذٍ ظَنِيِّاً. - تظهر العلاقة بين الاجتهاد في المناط ودليل الاستصحاب في جوانب عديدة, من أهمها ما يأتي: -إن المجتهد لا يأخذ بدليل الاستصحاب إلا بعد البحث التام في أدلة الكتاب والسُّنَّة والإجماع والقياس، وهذا يستلزم بذل الجهد في طلب الأحكام بمناطاتها من تلك الأدلة قبل الأخذ بدليل الاستصحاب. -إذا رتَّب المجتهد حكماً شرعياً بالنظر إلى تحقُّق مناطه في بعض أفراده، فالأصل دوامه واستمراره وتكرره بتكرر سببه, ما لم يتخلف مناط ذلك الحكم أو يتغير سببه. -استصحاب العموم حتى يردِ المخصِّص أمرٌ معمولٌ به بالإجماع, ومن أنواع الاجتهاد في تحقيق المناط تحقيق مناط الحكم الثابت بنصٍّ عامٍّ في بعض أفراده الداخلة تحته، فيستصحب ذلك العموم ما لم يرد دليلٌ معتبرٌ بتخصيصه. - تظهر العلاقة بين الاجتهاد في المناط وشرع مَنْ قبلنا في جوانب عديدة, من أهمها مايأتي: -من أهم صور الاجتهاد في المناط ما كان متعلِّقاً بنصوص الكتاب والسُّنَّة, ومعانيها, تنقيحاً وتخريجاً وتحقيقاً، ويندرج تحت ذلك: الاجتهاد في مناطات الأحكام الواردة في الكتاب والسُّنَّة الصحيحة التي تُثْبِت شرعَ مَنْ قبلنا وليس فيها تصريحٌ بالتكليف به أو إنكاره أو نسخه.

-قد يثبت حكمٌ في شرع مَنْ قبلنا بنصِّ الكتاب أو السُّنَّة ,ويُجْتهَد في تحقيق مناطه في بعض أفراده. - تظهر العلاقة بين الاجتهاد في المناط وقول الصحابي في جوانب عديدة, من أهمها مايأتي: -الصحابة رضي الله عنهم أعرف الناس بمعاني الكتاب والسُّنَّة, وأعلمهم بمناطات الأحكام , وأكثرهم تأهلاً للاجتهاد فيها , فإذا ثبت عن الصحابي قولٌ أو عملٌ يقع مواقع الاجتهاد في الشريعة, ولم يُعلَم له مخالفٌ من الصحابة, لزم العمل به, والاعتماد عليه؛ لأن فهمهم في الشريعة أتمُّ وأحرى بالتقديم. -قول الصحابي يُعتبَر من مسالك تحقيق المناط، فقد يدلَّ قول الصحابي على ثبوت مناط الحكم في بعض أفراده ولايُعلَم له مخالف. -قول الصحابي إذا ثبت فإنه مقدَّمٌ على العمل بالأقيسة؛ لأن قول الصحابي أعلى في الرتبة من القياس , والأخذ بأقوى الدليلين متعيِّن. -قول الصحابي إذا ثبت ولم يُعلَم له مخالفٌ فإنه يخصِّص العموم الوارد في الكتاب والسُّنَّة. -قول الصحابي إذا ثبت ولم يُعلَم له مخالفٌ فإنه يقيد المطلق الوارد في الكتاب والسُّنَّة. -إذا تعارضت عِلَّتان وكان مع إحداهما قولٌ لصحابي ترجحت العِلَّة التي تتفق مع قول الصحابي على العِلَّة الأخرى. - تظهر العلاقة بين الاجتهاد في المناط ودليل الاستحسان في جوانب عديدة, من أهمها مايأتي: -قد يكون المناط متحقِّقاً ظاهراً في فرعٍ , والقياس يوجب الحكم به , إلا أنه قد ثبت بدليلٍ آخر ما يقتضي العدول عن موجِب ذلك القياس إلى موجِب ذلك الدليل, فإذا ثبت ذلك الدليل عند المجتهد قطعَ المسألةَ -حينئذٍ- عن نظائرها , وأجرى عليها حكماً خاصاً بها؛ لأن مناط الحكم فيها غير متحقِّقٍ في نظائرها.

-من ضوابط تحقيق المناط الموازنة بين المصالح والمفاسد, والاستحسان في أصله الأخذ بمصلحةٍ جزئيةٍ في مقابلة دليلٍ كلي. -من أظهر صور الاجتهاد في المناط الاجتهادُ في العلل القياسية , وذلك لإلحاق الفروع بالأصول في الأحكام, ومن أدق أنواع الاستحسان ترك القياس الجلي , والأخذ بالقياس الخفي , وذلك لقوة العلَّة وثبوتها فيه. -من ضوابط تحقيق المناط اعتبار مآلات الأفعال في الأحكام , والاستحسان يرجع إلى النظر في مآلات الأفعال. - يُعتبَر دليل المصلحة المرسلة من أوثق الأدلة الشرعية صلةً بالاجتهاد في المناط , وتظهر العلاقة الوثيقة بينهما في جوانب عديدة , من أهمها ما يأتي: -قد يجد المجتهد عند بحثه عن مناط الحكم في الأصل وصفاً ظاهراً منضبطاً يمكن تعديته إلى الفرع فلايعدل حينئذٍ عن إجراء القياس, وقد لايجد إلا معنىً مناسباً يلائم تصرفات الشارع في تحقيق المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها ولم يرد بشأنه دليلٌ خاص بالإلغاء أو الاعتبار ,فيفزع حينئذٍ للاستنجاد به وبناء الأحكام عليه في النوازل والمستجدات. -قد يتفق المجتهدون على أصل المصلحة المقصودة شرعاً ولكنهم يختلفون في تحقيق مناطها في بعض الصور والجزئيات فقد يرى بعضهم أن المصلحة متحقِّقةٌ في صورةٍ معينة، ويرى آخرون أنها غير متحقِّقةٍ أو يعارضها ماهو أرجح منها. -الأحكام الشرعية مطَّرِدةٌ لا تختلف ولا تتغير , وإنما الذي يتغير هو محلُّ ذلك الحكم الذي يتحقق فيه المناط أو يتخلف عنه، إما لفقدان شرطٍ أو ولوجود مانع ,فقد يطرأ على محلِّ الحكم من الأحوال والحيثيات ما يتحقق معه مناط المصلحة المقصودة شرعاً , وقد يطرأ عليه من الأحوال والحيثيات ما يتخلف عنه مناط المصلحة المقصودة شرعاً. - يُعتبَر دليل سدِّ الذرائع من أوثق الأدلة الشرعية صلةً بالاجتهاد في

المناط , وتظهر العلاقة الوثيقة بينهما في جوانب عديدة , من أهمها مايأتي: -من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط اعتبار مآلات الأفعال والأقوال الصادرة عن المكلَّفين, وقاعدة سدِّ الذرائع راجعةٌ في الأصل إلى اعتبار المآل. -من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط مراعاة مقاصد المكلَّفين في التصرفات، ومن الذرائع التي يجب سدُّها ما قصد المكلَّفُ فيه بالمباح التحيُّلَ على مقصود الشارع ,فينتج عن ذلك مفسدةٌ راجحة. -قد يتفق المجتهدون على العمل بقاعدة سدِّ الذرائع, ولكن يختلفون في تحقيق مناط هذه القاعدة في بعض الصور والجزئيات الحادثة التي قد لا يظهر فيها رجحان المصالح أو المفاسد بشكلٍ جلي , وهو من أكثر صور الاختلاف بين المجتهدين في النوازل والمستجدات. - يُعتبَر دليل العُرف من أوثق الأدلة الشرعية صلةً بالاجتهاد في المناط، وتظهر العلاقة الوثيقة بينهما في جوانب عديدة , من أهمها ما يأتي: -من ضوابط الاجتهاد في تحقيق مناطات الأحكام مراعاة اختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة, ومن أهم الصور في ذلك: مراعاة المجتهد لاختلاف عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم بحسب اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم. -يُعتبَر العُرف من أهم مسالك تحقيق المناط في الأحكام الشرعية المطلقة التي لم يَرِد فيها تحديدٌ أو تقدير. -قد ينيط الشارعُ الحكمَ بالعُرف , والعُرف تختلف صوره بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال, فإذا تغيَّر العُرف لزم تغيُّر الحكم، فالأحكام تدور مع مناطاتها وجوداً وعدماً. - من خلال الدراسة التطبيقية تبين لي أن الاجتهاد في تحقيق المناط هو أوسع صور الاجتهاد في النوازل والمستجدات المعاصرة.

- من خلال الدراسة التطبيقية تبين لي أن مؤسسات الاجتهاد المعاصرة كالمجامع الفقهية ومؤسسات الفتوى الموثوقة أهم المصادر العلمية التي يُعتَمد عليها في تطبيقات الاجتهاد في المناط المتعلِّقة بالنوازل والمستجدات المعاصرة لأنها تراعي بدقةٍ تامَّةٍ الضوابط والشروط العلمية في ذلك، وتحظى موضوعات الاجتهاد فيها بدراساتٍ معمَّقةٍ وشاملةٍ من الفقهاء والمختصِّين وأهل الخبرة.

فهرس المصادر والمراجع

فهرس المصادر والمراجع 1. أبجد العلوم , صديق حسن خان القنوجي (ت 1307 هـ) , دار ابن حزم , ط 1, 1423 هـ- 2002 م. 2. أبحاث هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية , الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية, دار القاسم ,الرياض , ط 1, 1421 هـ. 3. إبطال الحيل , أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن حمدان العُكْبَري المعروف بابن بَطَّة (ت 387 هـ) ,تحقيق: زهير الشاويش, المكتب الإسلامي, بيروت, ط 3. 4. الإبهاج في شرح المنهاج , تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن حامد بن يحيي السبكي (ت 756 هـ) , وولده تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب (ت 771 هـ) , دار الكتب العلمية , ببيروت , 1416 هـ - 1995 م. 5. الإثبات بالقرائن في الفقه الإسلامي, إبراهيم بن محمد الفائز, المكتب الإسلامي , بيروت, مكتبة أسامة , الرياض, ط 1, 1403 هـ-1983 م. 6. أثر العرف في التشريع الإسلامي, السيد صالح عوض, دار الكتاب الجامعي, القاهرة. 7. إجابة السائل شرح بغية الآمل , محمد بن إسماعيل بن صلاح الحسني، الصنعاني، (ت 1182 هـ) , تحقيق: حسين بن أحمد السياغي, ود. حسن محمد مقبولي الأهدل, مؤسسة الرسالة , بيروت, ط 1, 1986 م. 8. الإجماع , أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري (ت 319 هـ) ,تحقيق: د. فؤاد عبد المنعم أحمد , دار المسلم ,الرياض, ط 1, 1425 هـ-2004 م.

9. إجمال الإصابة في أقوال الصحابة , صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي العلائي (ت 761 هـ) , تحقيق: د. محمد سليمان الأشقر, جمعية إحياء التراث الإسلامي , الكويت, ط 1 , 1407 هـ. 10. أجهزة الإنعاش , محمد علي البار , ضمن أبحاث مجلة مجمع الفقه الإسلامي ,العدد 2, الجزء 1. 11. أجهزة الإنعاش وحقيقة الوفاة بين الفقهاء والأطباء ,د. بكر أبوزيد , ضمن أبحاث فقه النوازل, مؤسسة الرسالة, بيروت, ط 1 , 1416 هـ-1996 م. 12. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام , تقي الدين محمد بن علي الشهير بابن دقيق العيد (ت 702 هـ) , مطبعة السنة المحمدية بمصر. 13. الإحكام في أصول الأحكام , أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (ت 613 هـ) , تعليق: عبدالرزاق عفيفي, دار الصميعي, ط 1 , 1424 هـ-2003 م. 14. الإحكام في أصول الأحكام, أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي (ت 456 هـ) ,تحقيق: أحمد محمد شاكر, دار الآفاق الجديدة، بيروت. 15. أحكام التعامل في الأسواق المالية, د. مبارك بن سليمان آل سليمان, كنوز إشبيليا, الرياض, ط 1 , 1426 هـ-2005 م. 16. أحكام الجراحات الطبية والآثار المترتبة عليها, د. محمد بن محمد المختار الشنقيطي , مكتبة الصحابة , جدة , ط 2, سنة: 1415 هـ. 17. أحكام الجنائز , أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني (ت 1420 هـ) , المكتب الاسلامي, ط 4 , 1406 هـ - 1986 م. 18. موت الدماغ الموقف القانوني والشرعي , د. محمد علي البار, ضمن أبحاث مجلة مجمع الفقه الإسلامي, العدد 2 , الجزء 2. 19. الأحكام الشرعية لتجارة الهامش , د. حمزة بن حسين الفعر , ضمن أبحاث الدورة الثامنة عشر للمجمع الفقهي الإسلامي المنعقدة في مكة المكرمة في الفترة من 10 - 14 ربيع أول 1427 هـ. 20. الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام , شهاب الدين أبوالعباس أحمد بن إدريس القرافي المالكي (ت 684 هـ) ,اعتنى به: عبدالفتاح أبوغدة, دار البشائر الإسلامية, بيروت, ط 2 , 1416 هـ-1995 م.

21. أحكام القرآن ,أبوبكر محمد بن عبدالله ابن العربي المالكي (ت 543 هـ) , تحقيق: محمد عبد القادر عطا , دار الكتب العلمية , بيروت , ط 3 ,1424 هـ -2003 م. 22. أحكام القرآن , أحمد بن علي أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي (ت 370 هـ) ,تحقيق: عبد السلام محمد علي شاهين, دار الكتب العلمية بيروت, ط 1, 1415 هـ-1994 م. 23. إحياء علوم الدين , أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت 505 هـ) , دار المعرفة , بيروت. 24. الآداب الشرعية والمنح المرعية , شمس الدين أبوعبدالله محمد ابن مفلح المقدسي الحنبلي (ت 763 هـ) , رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد , الرياض, ط 1, 1977 م. 25. آداب الفتوى والمفتي والمستفتي , أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (ت 676 هـ) , تحقيق: بسام عبد الوهاب الجابي, دار الفكر , دمشق, ط 1 ,1408 هـ. 26. إدارة الأسواق والمنشآت المالية ,د. منير إبراهيم هندي, منشأة المعارف, الاسكندرية,1999 م. 27. إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول , محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) ,تحقيق: أبي حفص سامي بن العربي, دار الفضيلة , الرياض, ط 1 ,1421 هـ-2000 م. 28. إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل , محمد ناصر الدين الألباني (ت 1420 هـ) , المكتب الإسلامي, بيروت , ط 1 , 1399 هـ. 29. الاستصلاح والمصالح المرسلة في الشريعة الإسلامية وأصول فقهها, مصطفى أحمد الزرقا (ت 1420 هـ) , دار القلم, دمشق, بيروت, ط 1, 1408 هـ. 30. أساس القياس , أبو حامد محمد بن محمد الغزالي (ت 505 هـ) , تحقيق: د. فهد السدحان ,مكتبة العبيكان ,الرياض, 1413 هـ -1993 م. 31. الاستقامة , أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية (ت 728 هـ) , تحقيق: محمد رشاد سالم, جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية, ط 1 , 1403 هـ.

32. الاستيعاب في معرفة الأصحاب , أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي (ت 463 هـ) ,تحقيق: علي محمد البجاوي, دار الجيل، بيروت, ط 1, 1412 هـ - 1992 م. 33. أسد الغابة في معرفة الصحابة , عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني ابن الأثير الجزري (ت 630 هـ) , دار الفكر, بيروت, 1409 هـ - 1989 م. 34. أسس معالجة مياه الصرف الصحي وتشغيل المحطات, سامح خليل سيد, دار الفكر العربي ,ط 1, 1422 هـ-2002 م. 35. الأسهم والسندات وأحكامها في الفقه الإسلامي , د. أحمد بن محمد الخليل ,دار ابن الجوزي, ط 2, 1426 هـ. 36. الأسواق المالية العالمية وأدواتها المشتقة ,محمد محمود حبش, مؤسسة الوراق, عمَّان ,ط 1 , 1998 م. 37. الأسواق المالية مفاهيم وتطبيقات, د. حسني خريوش ,د. عبدالمعطي أرشيد, د. محفوظ جودة, دار زهران ,1998 م. 38. الأسواق المالية والنقدية, د. رسمية أبوموسى , دار المعتز , عمَّان، ط 1، 2004 م. 39. الإشارة في معرفة الأصول , تحقيق: د. محمد علي فركوس , دار البشائر الإسلامية, بيروت ,ط 1 , 1416 هـ. 40. الأشباه والنظائر , تاج الدين عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي (ت 771 هـ) , تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود, وعلي محمد عوض , دار الكتب العلمية , بيروت ,ط 1 , 1411 هـ. 41. الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان ,زين الدين ابن إبراهيم ... ابن نجيم (ت 970 هـ) , دار الكتب العلمية , بيروت, ط 1 ,1413 هـ. 42. الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية , جلال الدين أبوبكر عبدالرحمن السيوطي (ت 911 هـ) ,دار الكتب العلمية , بيروت, ط 1 , 1399 هـ. 43. الإشراف على مذاهب أهل العلم , أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري (ت 319 هـ) ,تحقيق: د. أبوحماد صغير الأنصاري ,مكتبة مكة الثقافية , رأس الخيمة, ط 1 , 1425 هـ-2004 م.

44. الإصابة في تمييز الصحابة , أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) , تحقيق: عادل أحمد عبدالموجود وعلى محمد معوض, دار الكتب العلمية , بيروت, ط 1 , 1415 هـ. 45. أصول السرخسي , أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي (ت 490 هـ) , تحقيق: أبوالوفاء الأفغاني, دار الكتب العلمية , بيروت ,ط 1, 1414 هـ -1993 م. 46. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن, محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (ت 1393 هـ) , دار الفكر, بيروت, 1415 هـ- 995 م. 47. أطفال الأنابيب بين العلم والشريعة , زياد أحمد سلامة , دار البيارق ,الدار العربية للعلوم ,بيروت , ط 1, سنة: 1417 هـ. 48. الاعتصام , أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي الغرناطي (ت 790 هـ) , تحقيق: سليم بن عيد الهلالي, دار ابن عفان، الخُبَر , ط 1 , 1412 هـ - 1992 م. 49. الأعلام , خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس الزركلي (ت 1396 هـ) , دار العلم للملايين, ط 15 ,2002 م. 50. إعلام الموقعين عن رب العالمين, شمس الدين أبوعبدالله محمد بن أبي بكر ابن القيم الجوزية (ت 751 هـ) , تحقيق: مشهور بن حسن سلمان, دار ابن الجوزي , الدمام , ط 1, 1423 هـ. 51. أعيان دمشق في القرن الثالث عشر ونصف القرن الرابع عشر (1201 - 1350 هـ) , محمد جميل الشطي (ت 1375 هـ) , دار البشائر, دمشق, 1994 م. 52. إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان , شمس الدين أبوعبدالله محمد بن أبي بكر ابن القيم الجوزية (ت 751 هـ) ,تحقيق: محمد سيد كيلاني, مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده, القاهرة ,الطبعة الأخيرة,1381 هـ-1961 م. 53. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم, تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (ت 728 هـ) ,تحقيق: د. ناصر عبدالكريم العقل, دار عالم الكتب، بيروت، ط 7, 1419 هـ - 1999 م.

54. الإقناع لطالب الانتفاع ,شرف الدين أبوالنجا موسى بن أحمد بن سالم الحجاوي المقدسي (ت 968 هـ) , تحقيق: د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي, دار هجر, ط 1 , 1418 هـ. 55. الإنعاش , محمد المختار السلامي, ضمن أبحاث مجلة مجمع الفقه الإسلامي, العدد 2, الجزء 1. 56. الإنعاش الصناعي من الناحية الطبية والإنسانية , أحمد جلال الجوهري, ضمن أبحاث مجلة الحقوق والشريعة ,العدد 2 ,السنة 5. 57. أنوار البروق في أنواء الفروق, شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس بن عبدالرحمن القرافي المالكي (ت 684 هـ) , عالم الكتب , بيروت. 58. الأم, أبو عبدالله محمد بن إدريس الشافعي المطلبي القرشي (ت 204 هـ) , دار المعرفة بيروت , ط 1 , 1410 هـ-1990 م. 59. إمكانية نقل الأعضاء التناسلية في المرأة , د. طلعت القصبي , ضمن أبحاث مجلة مجمع الفقه الإسلامي , العدد 6, الجزء 3. 60. الأوراق المالية وأسواق رأس المال, د. منير إبراهيم هندي ,منشأة المعارف, الإسكندرية ,1995 م. 61. الآيات البينات على شرح جمع الجوامع , أحمد بن قاسم العبادي الشافعي (ت 992 هـ) , تحقيق: زكريا عميرات ,دار الكتب العلمية, ط 1, 1996 م. 62. البحر الرائق شرح كنز الدقائق , زين الدين بن إبراهيم بن محمد، المعروف بابن نجيم المصري (ت 970 هـ) , دار الكتاب الإسلامي, ط 2. 63. البحر المحيط في أصول الفقه , أبو عبدالله بدر الدين محمد بن عبدالله بن بهادر الزركشي الشافعي (ت 794 هـ) , تحرير ومراجعة: د. عبدالستار أبو الغدة ود. محمد بن سليمان الأشقر ود. عمر بن سليمان الأشقر والشيخ عبدالقادر عبدالله العاني, ,وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية , الكويت , ط 2 , 1413 هـ. 64. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع , علاء الدين أبوبكر ابن مسعود الكاساني الحنفي (ت 587 هـ) , دار الكتب العلمية , بيروت ,ط 2 , 1406 هـ - 1986 م. 65. بداية المجتهد ونهاية المقتصد , أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي الشهير بابن رشد الحفيد (ت 595 هـ) , دار الحديث , القاهرة, 1425 هـ - 2004 م.

66. البداية والنهاية , أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري الدمشقي (ت 774 هـ) , تحقيق: د. عبدالله بن عبد المحسن التركي, دار هجر, ط 1 , 1418 هـ - 1997 م. 67. البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع , محمد بن علي بن محمد الشوكاني (ت 1250 هـ) , دار المعرفة , بيروت. 68. البرهان في أصول الفقه, أبو المعالي عبدالملك بن عبدالله ابن يوسف الجويني (ت 478 هـ) , تحقيق: عبدالعظيم محمود الديب, دار الوفاء للطباعة والنشر, المنصورة , ط 2 ,1412 هـ. 69. بلغة السالك لأقرب المسالك (حاشية الصاوي على الشرح الصغير) , ... أبو العباس أحمد بن محمد الخلوتي الشهير بالصاوي المالكي (ت 1241 هـ) , دار المعارف, القاهرة. 70. بورصة الأوراق المالية من منظور إسلامي ,شعبان محمد البراوري , دار الفكر المعاصر , بيروت , ط 1 , 1423 هـ- 2002 م. 71. بيان الدليل على بطلان التحليل , أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية (ت 728 هـ) , تحقيق: حمدي عبدالمجيد السلفي ,المكتب الإسلامي, بيروت, ط 1, 1998 م. 72. بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب, شمس الدين أبي ثناء محمود بن عبدالرحمن الأصفهاني (ت 749 هـ) , تحقيق د. محمد مظهر بقا , مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى ,مكة المكرمة, ط 1, سنة 1406 هـ. 73. تاج التراجم في طبقات الحنفية , أبو الفداء قاسم بن قطلوبغا (ت 879 هـ) ,تحقيق: محمد خير رمضان يوسف , دار القلم بدمشق , ط 1, سنة 1413 هـ. 74. تاج العروس من جواهر القاموس , محمد مرتضى الحسيني الزبيدي (ت 1205 هـ) ,وزارة الإرشاد والأنباء ,سلسلسة التراث العربي, الكويت,1385 هـ-1965 م. 75. التاج والإكليل لمختصر خليل ,، أبو عبدالله محمد بن يوسف بن أبي القاسم بن يوسف العبدري الغرناطي المواق المالكي (ت 897 هـ) , دار الكتب العلمية , بيروت, ط 1 , 1416 هـ-1994 م. 76. ترتيب المدارك وتقريب المسالك , أبو الفضل القاضي عياض بن موسى اليحصبي (ت 544 هـ) , مطبعة فضالة - المحمدية، المغرب, ط 1, 1403 هـ - 1983 م.

77. تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام , برهان الدين إبراهيم بن علي بن أبي القاسم محمد بن فرحون المالكي (ت 799 هـ) , مكتبة الكليات الأزهرية, القاهرة, ط 1 , 1406 هـ - 1986 م. 78. التبصرة في أصول الفقه , أبو اسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي (ت 476 هـ) , تحقيق: د. محمد حسن هيتو , دار الفكر , دمشق ,ط 1 , 1400 هـ. 79. تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق, عثمان بن علي بن محجن البارعي الزيلعي الحنفي (ت 743 هـ) , المطبعة الكبرى الأميرية بولاق، القاهرة , ط 1 , 1313 هـ. 80. التحبير شرح التحرير في أصول الفقه, علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي (ت 885 هـ) , تحقيق: د. عبدالرحمن بن عبدالله الجبرين , ود. عوض بن محمد القرني , ود. أحمد بن محمد السراح, مكتبة الرشد , الرياض, ط 1 ,1421 هـ-2000 م. 81. التحرير في أصول الفقه (مطبوع مع شرحه تيسير التحرير) , كمال الدين محمد بن عبدالواحد بن عبدالحميد السيواسي الإسكندريالمعروف بابن الهمام الحنفي (ت 861 هـ) , دار الفكر, بيروت. 82. تحرير القواعد المنطقية في شرح الرسالة الشمسية, قطب الدين أبوعبدالله محمود بن محمد الرازي (ت 766 هـ) , مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر, ط 2, 1367 هـ. 83. التحرير والتنوير , محمد الطاهر ابن عاشور (ت 1393 هـ) , الدار التونسية للنشر , 1984 م .. 84. تحفة المحتاج في شرح المنهاج, شهاب الدين أحمد ابن حجر الهيتمي (ت 974 هـ) , المكتبة التجارية, القاهرة, 1357 هـ - 1983 م. 85. تخريج الفروع على الأصول , أبو المناقب شهاب الدين حمود بن أحمد بن محمود بن بختيار الزَّنْجاني (ت 656 هـ) ,تحقيق: د. محمد أديب صالح , مؤسسة الرسالة , بيروت, ط 2, 1398 هـ. 86. تذكرة الحفاظ , أبو عبدالله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748 هـ) , دار الكتب العلمية , بيروت, ط 1, 1419 هـ- 1998 م. 87. تشنيف المسامع شرح جمع الجوامع , بدر الدين محمد بن عبدالله بن بهادر الزركشي (ت 794 هـ) , تحقيق: عبدالله ربيع وسيد عبدالعزيز, مكتبة قرطبة, القاهرة , ط 1 , 1419 هـ.

88. تنظيم النسل وموقف الشريعة الإسلامية منه, د. عبدالله الطريقي , ضمن أبحاث مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي , العدد 5,الجزء 1. 89. التعريفات ,علي بن محمد الشريف الجرجاني (ت 816 هـ) , دار الكتب العلمية , بيروت, ط 1 , 1403 هـ -1983 م. 90. تعليل الأحكام: عرض وتحليل لطريقة التعليل وتطوراتها في عصور الاجتهاد والتقليد، محمد مصطفى شلبي, مطبعة الأزهر , القاهرة,1947 م. 91. تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) , محمد رشيد بن علي رضا بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني (ت 1354 هـ) , الهيئة المصرية العامة للكتاب, القاهرة, 1990 م. 92. تفسير القرآن العظيم , أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (ت 774 هـ) ,تحقيق: سامي بن محمد السلامة, دار طيبة, الرياض, ط 2, 1420 هـ-1999 م. 93. تقريب الوصول إلى علم الأصول , أبوالقاسم محمد بن أحمد ابن جزي, تحقيق: محمد المختار الشنقيطي , مكتبة ابن تيمية , القاهرة , ط 1 , 1414 هـ. 94. التقرير والتحبير في شرح التحرير , أبو عبدالله، شمس الدين محمد بن محمد بن محمد المعروف بابن أمير حاج الحنفي (ت 879 هـ) , دار الكتب العلمية, بيروت , ط 2 , 1403 هـ. 95. تقريرات الشربيني على حاشية البناني ,عبدالرحمن بن محمد الشربيني (ت 1326 هـ) , مطبعة دار إحياء الكتب العربية ,القاهرة,1356 هـ. 96. تقويم الأدلة في أصول الفقه ,أبوزيد عبيدالله بن عمر بن عيسى الدبوسي الحنفي (ت 430 هـ) ,تحقيق: خليل محيي الدين الميس, دار الكتب العلمية, بيروت, ط 1 ,1421 هـ-2001 م. 97. التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير , أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) , عني بتصحيحه والتعليق عليه: عبدالله هاشم اليماني المدني , المدينة المنورة, 1384 هـ-1964 م. 98. التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه, سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني الشافعي (ت 792 هـ) , تحقيق: زكريا عميرات ,دار الكتب العلمية , بيروت, ط 1.

99. التمهيد في أصول الفقه , محفوظ بن أحمد بن الحسن أبوالخطاب الكلوذاني (ت 510 هـ) , تحقيق: د. مفيد محمد أبوعمشة ,ود. محمد بن علي بن إبراهيم, مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى, مكة المكرمة , ط 1, 1416 هـ-1985 م. 100. التمهيد في تخريج الفروع على الأصول , جمال الدين أبومحمد عبدالرحمن بن الحسن الإسنوي (ت 772 هـ) , تحقيق: محمد حسن هيتو , مؤسسة الرسالة , بيروت , ط 2 , 1401 هـ. 101. التمهيد لمافي الموطأ من المعاني الأسانيد , أبوعمر يوسف بن عبدالله بن محمد بن عبدالبر النمري (ت 463 هـ) , وزارة الشؤون الإسلامية بالمغرب, تحقيق: أحمد أعراب وآخرين, 1387 هـ. 102. التنقيح في أصول الفقه (مطبوع مع شرحه التوضيح) , صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود المحبوبي البخاري الحنفي (ت 747 هـ) ,ضبطه وخرج أحاديثه: زكريا عميرات, دار الكتب العلمية, بيروت, ط 1. 103. توثيق الديون في الفقه الإسلامي , د. صالح بن عثمان الهليل, جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية, الرياض, ط 1 ,1421 هـ-2001 م. 104. التورّق حقيقته وأنواعه ,أ. د. وهبة الزحيلي, بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته التاسعة عشرة. 105. التورق الفقهي وتطبيقاته المصرفية المعاصرة في الفقه الإسلامي ,د. محمد عثمان شبير , بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته التاسعة عشرة. 106. التورُّق والتورُّق المنظم دراسة تأصيلية ,د. سامي بن إبراهيم السويلم, بحث مقدم للدورة السابعة عشر للمجمع الفقهي الإسلامي، بمكة المكرمة. 107. توشيح الديباج وحلية الابتهاج, بدر الدين بن محمد بن يحيى القرافي (ت 946 هـ) ,تحقيق: أحمد الشتيوي , دار الغرب الإسلامي, بيروت , 1403 هـ-1983 م. 108. التوضيح شرح التنقيح في أصول الفقه , صدر الشريعة عبدالله بن مسعود المحبوبي الحنفي (ت 747 هـ) ,تحقيق: زكريا عميرات ,دار الكتب العلمية , بيروت, ط 1.

109. التوقيف على مهمات التعاريف , محمد عبدالرؤوف المناوي (ت 1031 هـ) , تحقيق: محمد رضوان الداية , دار الفكر , دمشق, ط 1 , 1410 هـ. 110. تيسير التحرير على كتاب التحرير في أصول الفقه ,محمد أمين بن محمود البخاري المعروف بأمير بادشاه الحنفي (ت 972 هـ) , دار الفكر, بيروت. 111. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان , أبو عبدالله عبدالرحمن بن ناصر آل سعدي (ت 1376 هـ) , تحقيق: د. عبدالرحمن بن معلا اللويحق, مؤسسة الرسالة , بيروت , ط 1, 1419 هـ. 112. ثبت أعمال ندوة رؤية إسلامية لبعض المشاكل الصحية , الندوة الفقهية الطبية الثامنة , المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية , الكويت. 113. الجامع الكبير ,أبوعيسى محمد بن عيسى الترمذي (ت 279 هـ) ,تحقيق: د. بشار عواد معروف, دار الغرب الإسلامي, بيروت, ط 1 , 1996 م. 114. الجامع لأحكام القرآن , أبوعبدالله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (ت 671 هـ) , تحقيق: د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي, مؤسسة الرسالة, بيروت, ط 1 , 1427 هـ-2006 م. 115. جامع بيان العلم وفضله, أبوعمر يوسف بن عبدالله بن محمد بن عبدالبر النمري (ت 463 هـ) , تحقيق: أبي الأشبال الزهيري , دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع , الدمام , ط 1, 1414 هـ. 116. جامع البيان عن تأويل آي القرآن ,أبوجعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) , تحقيق: د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي, دار هجر , القاهرة,1422 هـ-2001 م. 117. جمع الجوامع في أصول الفقه, تاج الدين أبو نصر عبدالوهاب بن علي بن عبدالكافي السبكي (ت 771 هـ) ,علق عليه وخرج أحاديثه: عبدالمنعم خليل إبراهيم, دار الكتب العلمية, بيروت, ط 2, 1424 هـ-2003 م. 118. جواهر الإكليل شرح مختصر خليل , صالح عبدالسميع الأبي الأزهري, دار المعرفة , بيروت. 119. الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية, محيي الدين أبو محمد عبدالقادر بن محمد بن محمد بن محمد القرشي, إدارة القرآن , باكستان 1332 هـ. 120. حاشية البناني على شرح المحلى لجمع الجوامع, عبدالرحمن بن جاد الله البناني (ت 1198 هـ) , مطبعة دار إحياء الكتب العربية ,القاهرة,1356 هـ.

121. حاشية الدسوقي على الشرح الكبير , محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي (ت 1230 هـ) , مطبعة دار إحياء الكتب العربية ,القاهرة. 122. حاشية ابن عابدين على البحر الرائق , محمد أمين بن عمر الدمشقي المعروف بابن عابدين الحنفي (ت 1252 هـ) , دار الفكر, بيروت, ط 2, 1412 هـ - 1992 م. 123. حاشية شيخ الإسلام زكريا الأنصاري على شرح المحلي على جمع الجوامع , تحقيق: عبدالحفيظ طاهر هلال الجزائري, مكتبة الرشد, الرياض, ط 1 , 1427 هـ. 124. حاشية السعد التفتازاني على شرح العضد لمختصر ابن الحاجب (مطبوع بهامش شرح العضد على مختصر ابن الحاجب) ,سعد الدين مسعود بن عمر بن عبدالله التفتازاني (ت 793 هـ) ,مراجعة وتصحيح: د. شعبان إسماعيل ,مكتبة الكليات الأزهرية, القاهرة,1403 هـ-1983 م. 125. حاشية العطار على شرح الجلال المحلي , حسن بن محمد بن محمود العطار (ت 1250 هـ) , دار الكتب العلمية , بيروت. 126. حجة الله البالغة, شاه ولي الله ابن عبدالرحيم الدهلوي (ت 1176 هـ) ,تحقيق: السيد سابق, دار الجيل, القاهرة, ط 1, 1426 هـ-2005 م. 127. حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر, عبدالرزاق بن حسن البيطار الدمشقي (ت 1335 هـ) , تحقيق: محمد بهجة البيطار, دار صادر , بيروت, ط 2, مطبعة دار إحياء الكتب العربية ,القاهرة. 128. ثبت كامل لأعمال ندوة الحياة الإنسانية بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي , المنعقدة بتاريخ 24/ربيع الآخر 1405 هـ الموافق 15 يناير 1985 م, المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية , الكويت,1991 م. 129. خريطة الجينوم البشري والإثبات الجنائي دراسة تأصيلية , مريع بن عبدالله بن سعيد آل جار الله، كنوز إشبيليا, الرياض, ط 1 , 2008 م. 130. خطابات الضمان المصرفية, علي جمال الدين عوض ,دار النهضة العربية , القاهرة,2004 م. 131. خلق الإنسان بين الطب والقرآن, د. محمد علي البار, الدار السعودية للنشر والتوزيع , ط 6 , 1406 هـ.

132. درء تعارض العقل والنقل , تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية (ت 728 هـ) , تحقيق: د. محمد رشاد سالم , جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية , الرياض, ط 2 , 1411 هـ-1991 م. 133. الدر المختار شرح تنوير الأبصار وجامع الأبحار (مطبوع مع حاشية ابن عابدين) , محمد بن علي بن محمد بن عبد الرحمن الحنفي الحصكفي (ت 1088 هـ) , , دار الفكر, بيروت, ط 2, 1412 هـ - 1992 م. 134. درر الحكام في شرح مجلة الأحكام , علي حيدر خواجه أمين أفندي (ت 1353 هـ) , تعريب: فهمي الحسيني, دار الجيل, ط 1 , 1411 هـ - 1991 م. 135. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة, أبو الفضل أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) ,تحقيق: محمد سيد جاد الحق , دار الكتب الحديثة, القاهرة, ط 2, 1385 هـ. 136. دُرَّةْ الحِجَال في أسماء الرجال, أبوالعباس أحمد بن محمد المكناسي الشهير بابن القاضي (ت 1025 هـ) ,مكتبة دار التراث, القاهرة, المكتبة العتيقة, تونس, 1390 هـ .. 137. دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب, محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (ت 1393 هـ) , إشراف: د. بكر بن عبدالله أبوزيد , دار عالم الفوائد , مكة المكرمة, ط 1 , 1426 هـ. 138. دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة, أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي (ت 458 هـ) , دار الكتب العلمية , بيروت, ط 1, 1405 هـ. 139. دور الأثر المادي في الإثبات الجنائي, د. مجيب معدي الحويطل, أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية, ط 1, الرياض , 1419 هـ - 1999 م. 140. الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب , إبراهيم بن علي بن محمد ابن فرحون اليعمري (ت 797 هـ) , دار الكتب العلمية ببيروت. 141. ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر= تاريخ ابن خلدون, ولي الدين عبدالرحمن بن محمد بن محمد ابن خلدون الحضرمي الإشبيلي (ت 808 هـ) ,تحقيق: خليل شحادة, دار الفكر، بيروت, ط 2, 1408 هـ - 1988 م.

142. الذخيرة , شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي المالكي (ت 684 هـ) ,تحقيق: محمد حجي وآخرين , دار الغرب الإسلامي , بيروت, ط 1, 1994 م. 143. ذيل على طبقات الحنابلة , زين الدين عبدالرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي (ت 795 هـ) , تحقيق: د عبد الرحمن بن سليمان العثيمين, مكتبة العبيكان , الرياض, ط 1, 1425 هـ - 2005 م. 144. الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية, د. عمر ابن عبد العزيز المترك , اعتنى به: د. بكر بن عبدالله أبو زيد, دار العاصمة , الرياض , ط 2, 1417 هـ. 145. الرد على المنطقيين, تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية الحراني (ت 728 هـ) ,دار المعرفة , بيروت. 146. الردود والنقود شرح مختصر ابن الحاجب , محمد بن محمود بن أحمد البابرتي الحنفي (ت 786 هـ) ,تحقيق: ضيف الله بن صالح العمري, ود. ترحيب بن ربيعان الدوسري, مكتبة الرشد, الرياض, ط 1 , 1426 هـ-2005 م. 147. الرسالة , أبو عبدالله محمد بن إدريس الشافعي المطلبي القرشي (ت 204 هـ) , تحقيق: أحمد محمد شاكر ,دار الكتب العلمية, بيروت. 148. رسالة في أصول الفقه , أبو علي الحسن بن شهاب العكبري الحنبلي (ت 428 هـ) ,تحقيق: د. موفق بن عبدالله بن عبدالقادر, المكتبة المكية , مكة المكرمة, ط 1 , 1413 هـ-1992 م. 149. رسالة في رعاية المصلحة (مستلة من كتاب المؤلف التعيين في شرح الأربعين) , نجم الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي (ت 716 هـ) ,تحقيق: أحمد عبد الرحيم السايح, الدار المصرية اللبنانية, ط 1, 1413 هـ -1993 م. 150. الرضاع وبنوك اللبن ,محمد ابراهيم الحفناوي, دار البشير للثقافة والعلوم , القاهرة , ط 1, 1990 م. 151. رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب, تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي (ت 771 هـ) , تحقيق: علي محمد معوض, وعادل أحمد عبدالموجود, عالم الكتب, بيروت, ط 1 , 1419 هـ-1999 م.

152. رفع النقاب عن تنقيح الشهاب ,أبو علي حسين بن علي بن طلحة الرجراجي الشوشاوي (ت 899 هـ) ,تحقيق: د. أحمد بن محمد السراح، د. عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين, مكتبة الرشد, الرياض, ط 1, 1425 هـ-2004 م. 153. روض البشر في أعيان دمشق في القرن الثالث عشر (1201 - 1300) , محمد جميل بن عمر البغدادي المعروف بابن شطي (ت 1379 هـ) , دار اليقظة العربية, دمشق ,1946 م. 154. روضة الطالبين وعمدة المفتين , محيي الدين أبوزكريا يحيى بن شرف النووي (ت 676 هـ) , إشراف: زهير الشاويش , المكتب الإسلامي, بيروت, ط 2 , 1405 هـ. 155. روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل , موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي (ت 620 هـ) ,تحقيق: د. عبدالكريم بن علي النملة , مكتبة الرشد, الرياض, ط 4 , 1416 هـ- 1995 م. 156. زاد المعاد في هدي خير العباد , شمس الدين أبوعبدالله محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (751 هـ) , تحقيق: شعيب الأرناؤوط, وعبدالقادر الأرناؤوط, مؤسسة الرسالة , بيروت, مكتبة المنار الإسلامية , الكويت. 157. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي , أبومنصور محمد بن أحمد الأزهري (ت 370 هـ) , تحقيق: شهاب الدين أبوعمر, دار الفكر , بيروت , 1414 هـ-1994 م. 158. زرع الغدد التناسلية والأعضاء التناسلية , د. محمد علي البار ,ضمن أبحاث مجلة مجمع الفقه الإسلامي, العدد 6, الجزء 3. 159. سلسلة الأحاديث الصحيحة, أبوعبدالرحمن ناصر الدين الألباني (ت 1420 هـ) , مكتبة المعارف , الرياض, ط 1 , 1408 هـ. 160. سلم الوصول إلى منهاج الأصول (بهامش نهاية السول شرح منهاج الأصول للإسنوي) , محمد بخيت المطيعي, المطبعة السلفية, القاهرة ,1345 هـ. 161. سنن ابن ماجه ,أبوعبد الله محمد بن يزيد القزويني (ت: 273 هـ) , تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي ,دار الفكر , بيروت. 162. سنن أبي داود ,أبو داود سليمان بن الأشعت السجستاني الأزدني (ت: 275 هـ) مراجعة وضبط وتعليق: محمد محيي الدين عبدالحميد , دار الفكر.

163. السنن الكبرى , أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي (ت: 458 هـ) ,دار المعرفة , بيروت , 1413 هـ. 164. سنن النسائي (المجتبى) , أبو عبدالرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي (ت: 303 هـ) , اعتنى به ورقمه وصنع فهارسه: عبد الفتاح أبو غدة , دار البشائر الإسلامية , بيروت , ط 1 , 1406 هـ. 165. سياسة ووسائل تحديد النسل , د. محمد علي البار, العصر الحديث للنشر , القاهرة , ط 1, 1991 م. 166. سير أعلام النبلاء, أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748 هـ) , إشراف: شعيب الأناؤوط ,مؤسسة الرسالة, بيروت ,ط 3 , 1405 هـ-1985 م. 167. السيرة النبوية ,جمال الدين أبومحمد عبدالملك بن هشام الحميري المعافري (ت 213 هـ) , تحقيق: مصطفى السقا , وإبراهيم الأبياري, وعبدالحفيظ شلبي, مطبعة مصطفى البابي الحلبي, القاهرة, ط 2, 1375 هـ-1955 م. 168. شجرة النور الزكية في طبقات المالكية , محمد بن محمد مخلوف, دار الفكر. 169. شرح تنقيح الفصول, شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي المالكي (ت: 684 هـ) , تحقيق: طه عبدالرؤوف سعد , مكتبة الكليات الأزهرية بمصر , ودار الفكر , القاهرة , بيروت , ط 1, 1393 هـ. 170. شرح السلم المنورق في المنطق ,أبوزيد عبدالرحمن بن محمد الصغير الأخضري (ت 983 هـ) , مطبعة مصطفى البابي الحلبي, القاهرة. 171. شرح السنة , محيي السنة أبومحمد الحسين بن مسعود بن الفراء البغوي (ت 516 هـ) , تحقيق: شعيب الأرناؤوط, ومحمد زهير الشاويش, المكتب الإسلامي, بيروت, ط 2 , 1403 هـ-1983 م. 172. شرح سنن أبي داود, بدر الدين أبومحمد محمود بن أحمد الغيتابي الحنفي العيني (ت 855 هـ) , تحقيق: أبو المنذر خالد بن إبراهيم المصري, مكتبة الرشد , الرياض, ط 1 , 1420 هـ-1999 م. 173. شرح صحيح البخاري أبو الحسن علي بن خلف بن عبدالله المشهور بابن بطال القرطبي (ت 449 هـ) , تحقيق: ياسر إبراهيم , مكتبة الرشد , الرياض , ط 1, 1420 هـ.

174. شرح الطيبي على مشكاة المصابيح المسمى بالكاشف عن حقائق السنن, شرف الدين الحسين بن عبدالله بن محمد الطيبي (ت 743 هـ) , تحقيق: عبدالحميد هنداوي, مكتبة نزار مصطفى الباز, مكة المكرمة, ط 1, 1417 هـ- 1997 م. 175. شرح صحيح مسلم, أبو زكريا يحيى بن شرف ابن مري النووي , دار إحياء التراث العربي , ط 2, 1392 هـ. 176. شرح مختصر ابن الحاجب, عضد الدين بن عبدالرحمن بن أحمد الأيجي (ت 756 هـ) , مراجعة وتصحيح: د. شعبان إسماعيل, مكتبة الكليات الأزهرية, القاهرة, 1403 هـ-1983 م. 177. شرح القواعد الفقهية , أحمد بن محمد الزرقاء (ت 1357 هـ) , نسقه وراجعه وصححه: عبد الستار أبو غدة ,دار الغرب الإسلامي , ط 1 , 1403 هـ. 178. شرح الكوكب المنير, محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن علي الفتوحي ابن النجار الحنبلي (ت 972 هـ) ,تحقيق: د. محمد الزجيلي ,ود. نزيه حماد , مكتبة العبيكان, الرياض, ط 1 , 1418 هـ-1997 م. 179. شرح جمع الجوامع في أصول الفقه ,شمس الدين محمد بن أحمد المحلي (ت 864 هـ) , دار إحياء الكتب العربية, القاهرة ,1356 هـ. 180. شرح المعالم في أصول الفقه ,شرف الدين عبدالله بن محمد الفهري التلمساني (ت 644 هـ) , تحقيق: علي محمد معوض, وعادل أحمد عبدالموجود, عالم الكتب, بيروت, ط 1 , 1419 هـ-1999 م. 181. شرح اللمع , أبو إسحاق ابراهيم بن علي الشيرازي (ت 476 هـ) ,تحقيق: عبدالمجيد تركي, دار الغرب الإسلامي, بيروت, ط 1 , 1418 هـ-1988 م. 182. شرح مختصر خليل , أبو عبدالله محمد بن عبد الله الخرشي المالكي (ت 1101 هـ) , دار الفكر , بيروت. 183. شرح مختصر الروضة ,نجم الدين سليمان بن عبد القوي بن الكريم الطوفي الصرصري (ت 716 هـ) , تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي, مؤسسة الرسالة ,ط 1 , 1407 هـ -1987 م. 184. شرح منتهى الإرادات في الجمع بين المقنع والتنقيح وزيادات , منصور بن يونس بن إدريس البهوتي (ت 1051 هـ) ,تحقيق: د. عبدالله بن محسن التركي, مؤسسة الرسالة, بيروت, ط 1, 1421 هـ-2000 م.

185. شركة المساهمة في النظام السعودي , صالح بن زابن المرزوقي البقمي, مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى ,مكة المكرمة ,1406 هـ. 186. شذرات الذهب في أخبار من ذهب, أبو الفلاح عبد الحي بن أحمد بن محمد ابن العماد الحنبلي (ت 1089 هـ) , تحقيق: محمود الأرناؤوط, دار ابن كثير، دمشق - بيروت, ط 1 , 1406 هـ - 1986 م. 187. شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل, شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد ابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) , دار المعرفة، بيروت، 1398 هـ-1978 م. 188. شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل , أبو حامد محمد بن محمد الطوسي الغزالي (ت 505 هـ) , تحقيق: د. حمد الكبيسي , مطبعة الإرشاد , بغداد , 1390 هـ. 189. شيوخ الأهر, أشرف فوزي صالح, الشركة العربية للنشر والتوزيع, القاهرة, 1997 م. 190. الصارم المسلول على شاتم الرسول, تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية الحراني (ت 728 هـ) ,تحقيق: د. محمد عبدالله الحلواني, ود. محمد كبير شودري, رمادي للنشر, الدمام, المؤتمن للتوزيع, الرياض, ط 1, 1417 هـ-1997 م. 191. الصحاح, أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري (ت 393 هـ) , تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار, دار العلم للملايين ,بيروت, ط 4 , 1407 هـ‍ - 1987 م. 192. صحيح ابن خزيمة , أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري (ت: 311 هـ) , مراجعة: محمد مصطفى الأعظمي , المكتب الإسلامي , بيروت , 1390 هـ- 1970 م. 193. صحيح البخاري, أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ) , بيت الأفكار الدولية, الرياض, ط 1 , 1419 هـ-1998 م. 194. صحيح وضعيف سنن أبي داود, أبوعبدالرحمن ناصر الدين الألباني (ت 1420 هـ) ,مكتبة المعارف, الرياض, ط 1, 1419 هـ-1998 م. 195. صحيح مسلم ,أبو الحسين مسلم ابن الحجاج النيسابوري (ت 261 هـ) , بيت الأفكار الدولية , الرياض, ط 1 ,1419 هـ-1998 م.

196. صحيح وضعيف سنن النسائي, أبوعبدالرحمن ناصر الدين محمد الألباني (ت 1420 هـ) ,مكتبة المعارف, الرياض, ط 1 , 1419 هـ-1998 م. 197. الضوء اللامع لأهل القرن التاسع , شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت 902 هـ) , دار الكتاب الإسلامي , القاهرة. 198. الضياء اللامع شرح جمع الجوامع, أحمد بن عبد الرحمن بن موسى الزليطني (ت 898 هـ) , تحقيق: د. عبد الكريم بن علي النملة , مكتبة الرشد, الرياض, ط 1 ,1420 هـ. 199. طبقات الحنابلة , أبو الحسين محمد بن أبي يعلى الفراء البغدادي (ت 526 هـ) , تحقيق: د. عبدالرحمن بن سليمان العثيمين , الأمانة العامة للاحتفال بمرور مائة سنة على تأسيس المملكة العربية السعودية , الرياض, 1419 هـ-1999 م. 200. طبقات الشافعية , جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي (ت 772 هـ) , تحقيق: د. عبد الله الجبوري, مطبعة رئاسة ديوان الأوقاف, بغداد , 1391 هـ. 201. طبقات الشافعية ,أبو بكر بن أحمد بن عمر بن قاضي شهبة (ت 851 هـ) , تحقيق: د. حافظ عبد العليم خان , عالم الكتب , بيروت , ط 1, 1407 هـ. 202. طبقات الشافعية , أبو بكر بن هداية الله الحسيني (ت 1014 هـ)، تحقيق: عادل نويهض، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط 3، 1402 هـ - 1982 م. 203. طبقات الشافعية الكبرى , تاج الدين عبدالوهاب بن تقي الدين السبكي (ت 771 هـ) ,تحقيق: د. محمود محمد الطناحي ود. عبدالفتاح محمد الحلو, دار هجر, ط 2 , 1413 هـ. 204. الطبقات الكبرى , أبو عبدالله محمد بن سعد بن منيع البصري البغدادي المعروف بابن سعد (ت 230 هـ) ,تحقيق: إحسان عباس, دار صادر , بيروت, ط 1 , 1968 م. 205. طرق الإنجاب في الطب (ضمن أبحاث فقه النوازل) , د. بكر بن عبدالله أبوزيد ,مؤسسة الرسالة, بيروت. 206. الطرق الحكمية في السياسة الشرعية , شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد ابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) , مكتبة دار البيان. 207. طفل الأنبوب والتلقيح الصناعي , د. محمد علي البار, دار المنار، جدة، ط 1، 1407 هـ.

208. طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية , نجم الدين عمر بن محمد النسفي الحنفي , تعليق: أبي عبدالله محمد الشافعي , دار الكتب العلمية , بيروت, ط 1, 1418 هـ. 209. ظفر اللاضي بما يجب في القضاء على القاضي , صديق حسن خان القنوجي (ت 1307 هـ) , مطبعة الصديقية، هوبال ,1294 هـ. 210. عارضة الأحوذي شرح سنن الترميذي ,أبو بكر محمد بن عبد الله الأندلسي المعروف بابن العربي (ت 543 هـ) , تحقيق: جمال مرعشلي , دار الكتب العلمية, بيروت , ط 1, 1418 هـ. 211. العدة في أصول الفقه, أبويعلى محمد بن الحسين الفراء البغدادي الحنبلي (ت 458 هـ) ,تحقيق: د. أحمد بن علي سير المباركي, ط 3 , 1414 هـ-1993 م. 212. العرف والعادة في رأي الفقهاء , أحمد فهمي أبو سنة , القاهرة , 1947 هـ. 213. علماء نجد خلال ثمانية قرون, عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح آل بسام (ت 1423 هـ) , دار العاصمة, الرياض, ط 2, 1419 هـ 214. عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق , محمد سعيد الباني (ت 1351 هـ) , المكتب الإسلامي , دمشق , بيروت , 1401 هـ. 215. عمدة القاري شرح صحيح البخاري: بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى المعروف بالبدر العيني (ت 855 هـ) ,دار الفكر , بيروت. 216. عمليات نقل وزرع الأعضاء البشرية بين القانون والشرع ,د. سميرة عابد الديات, مكتبة دار الثقافة, عمَّان, ط 1 ,2004 م. 217. عون المعبود شرح سنن أبي داود ,أبو الطيب محمد شمس الدين الحق العظيم آبادي (ت 1329 هـ) , ضبط وتحقيق: عبدالرحمن محمد عثمان , دار الفكر , بيروت , ط 3 ,1399 هـ. 218. غاية النهاية في طبقات القراء, شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد بن يوسف ابن الجزري (ت 833 هـ) , عني بنشره لأول مرة عام 1351 هـ: ج. برجستراسر, مكتبة ابن تيمية (طبعة مصورة) , القاهرة. 219. غمز عيون البصائر شرح كتاب الأشباه والنظائر , أحمد بن الحنفي الحموي (ت 1098 هـ) , دار الكتب العلمية , بيروت , ط 1, 1405 هـ. 220. غياث الأمم في التياث الظلم= الغياثي: أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني (ت 478 هـ) , تحقيق: عبد العظيم الديب وط 2 ,1401 هـ, مطبعة النهضة , مصر.

221. الغيث الهامع شرح جمع الجوامع ,ولي الدين أبو زرعة أحمد العراقي (ت 826 هـ) ,مكتبة القرطبي , الفاروق الحديثة , القاهرة , ط 1, 1420 هـ-2000 م. 222. الفائق في أصول الفقه ,صفي الدين محمد بن عبد الرحيم الأرموي الهندي (ت 715 هـ) ,تحقيق: علي بن عبد العزيز العميريني, دار الاتحاد الأخوي, القاهرة, 1411 هـ. 223. الفتاوى الكبرى , تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت 728 هـ) , دار الكتب العلمية, ط 1, 1408 هـ - 1987 م. 224. فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية ولإفتاء (السعودية) , جمع وترتيب: أحمد بن عبدالرزاق الدويش , رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء ,دار المؤيد. 225. فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (ت: 1389 هـ) , جمع وترتيب: محمد بن عبد الرحمن ابن القاسم , مطبعة الحكومة , مكة المكرمة, 1399 هـ. 226. فتح الباري شرح صحيح البخاري, شهاب الدين أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) , ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي , إشراف: محب الدين الخطيب , المكتبة السلفية, ط 3, 1407 هـ. 227. فتح العزيز بشرح الوجيز, عبدالكريم بن محمد الرافعي القزويني (ت 623 هـ) , دار الفكر, بيروت. 228. فتح القدير , كمال الدين محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد السيواسي الإسكندري المعروف بابن الهمام الحنفي (ت 861 هـ) , دار الفكر , بيروت. 229. الفتح المبين في طبقات الأصوليين, عبدالله مصطفى المراغي , المكتبة الأزهرية للتراث, القاهرة , 1419 هـ-1999 م. 230. الفقيه والمتفقه , أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي الخطيب (ت 463 هـ) , صححه وعلق عليه: إسماعيل الأنصاري ,مطابع القصيم , الرياض ,ط 1 , 1389 هـ. 231. الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي ,محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي (ت 1376 هـ) , خرج أحاديثه وعلق عليه ,عبد العزيز بن عبدالفتاح القارئ, المكتبة العلمية , المدينة المنورة , 1397 هـ.

232. الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة, محمد بن علي بن محمد الشوكاني (ت 1250 هـ) , عبد الرحمن بن يحي المعلمي اليماني, دار الكتب العلمية، بيروت. 233. فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت ,عبدالعلي محمد بن نظام الدين السهالوي الأنصاري اللكنوي (ت 1225 هـ) , ضبطه وصححه: عبدالله محمود عمر, دار الكتب العلمية, بيروت , ط 1, 1423 هـ-2002 م. 234. الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني, شهاب الدين حمد بن غانم (أو غنيم) بن سالم ابن مهنا النفراوي الأزهري المالكي (ت 1126 هـ) , دار الفكر, 1415 هـ - 1995 م. 235. فيض القدير شرح الجامع الصغير , زين الدين محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي المناوي (ت 1031 هـ) , المكتبة التجارية الكبرى, القاهرة , ط 1, 1356 هـ. 236. القاموس المحيط, مجد الدين محمد يعقوب الفيروزآبادي (ت: 817 هـ) , مؤسسة الرسالة, بيروت , ط 2, 1407 هـ. 237. القاموس الفقهي,, د. سعدي أبو حبيب , دار الفكر , دمشق, ط 2, 1408 هـ - 1988 م. 238. القانون التجاري السعودي ,د. محمد بن حسن الجبر, مطابع جامعة الملك سعود, الرياض, ط 5, 1417 هـ. 239. قرارات المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي من دورته الأولى إلى السابعة عشرة , رابطة العالم الإسلامي , المجمع الفقهي الإسلامي, مكة المكرمة. 240. القواعد , أبوعبدالله محمد بن محمد بن أحمد المقري (ت 858 هـ) , تحقيق: د. أحمد بن عبدالله بن حميد ,مركز إحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى, مكة المكرمة. 241. القواعد , تقي الدين أبوبكر بن محمد بن عبدالمؤمن الحصني (ت 829 هـ) , تحقيق: د. عبدالرحمن الشعلان, ود. جبريل البصيلي, مكتبة الرشد ,ط 1, 1418 هـ-1997 م. 242. قواطع الأدلة في أصول الفقه , أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني الشافعي (ت: 489 هـ) , تحقيق: د. عبد الله بن حافظ بن أحمد الحكمي , ود. علي بن عباس بن عثمان الحكمي ,مكتبة التوبة, الرياض , ط 1 ,1419 هـ-1998 م.

243. قواعد الأحكام في مصالح الأنام , أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي (ت 660 هـ) , د. نزيه كمال حماد ,ود. عثمان جمعة ضميرية, دار القلم , دمشق , ط 1, 1421 هـ-2000 م. 244. القواعد الصغرى" الفوائد في اختصار المقاصد", أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي (ت 660 هـ) ,تحقيق: إياد خالد الطباع, دار الفكر المعاصر , دار الفكر - دمشق, ط 1, 1416 هـ-1996 م. 245. القواعد النورانية الفقهية, تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية الحراني (ت 728 هـ) ,تحقيق: د أحمد بن محمد الخليل, دار ابن الجوزي, الدمام, ط 1, 1422 هـ. 246. القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية , أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله ابن جزي الكلبي الغرناطي (ت 741 هـ) , تحقيق: أ. د. محمد بن سيدي محمد مولاي. 247. الكاشف عن المحصول ,أبوعبدالله محمد بن محمود بن عباد العجلي الأصفهاني (ت 653 هـ) , تحقيق: علي محمد معوض، عادل أحمد عبدالموجود, دار الكتب العلمية, بيروت , ط 1, 1419 هـ -1998 م. 248. كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم, محمد بن علي ابن القاضي محمد حامد بن محمّد صابر الفاروقي الحنفي التهانوي (ت بعد 1158 هـ) ,تحقيق: رفيق العجم ,وعلي دحروج, مكتبة لبنان, بيروت, ط 1, 1996 م. 249. كشاف القناع عن متن الإقناع , منصور بن يونس بن إدريس البهوتي (ت 1051 هـ) , دار الكتب العلمية, بيروت, 250. كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ,علاء الدين عبد العزيز البخاري (ت 730 هـ) ,ضبط وتعليق وتخريج: محمد المعتصم بالله البغدادي , دار الكتاب العربي , بيروت , ط 1, 1411 هـ. 251. كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس , إسماعيل بن محمد بن عبدالهادي الجراحي العجلوني الدمشقي (ت 1162 هـ) , المكتبة العصرية, عبد الحميد بن أحمد بن يوسف بن هنداوي, ط 1 , 1420 هـ - 2000 م. 252. كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون, مصطفى بن عبدالله القسطنطي الشهير بحاجي خليفة (ت 1067 هـ) ,دار الكتب العلمية , بيروت, 1413 هـ-1992 م.

253. الكليات , أبوالبقاء أيوب بن موسى الحسني الكفوي (ت 1094 هـ) , قابله وأعده للطبع: عدنان درويش , ومحمد المصري , مؤسسة الرسالة , بيروت , ط 1, 1412 هـ. 254. الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة , نجم الدين محمد بن محمد الغزي (ت 1061 هـ) ,تحقيق: خليل المنصور, دار الكتب العلمية، بيروت , 1418 هـ - 1997 م. 255. لسان العرب , أبو الفضل جمال الدين بن محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري (ت 711 هـ) , دار صادر , بيروت , 1412 هـ. 256. مبادئ الاستثمار المالي والحقيقي, أ. د. زياد رمضان, دار وائل للنشر والتوزيع , عمّان, ط 1, 2007 م. 257. المبدع شرح المقنع , أبو إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن مفلح الحنبلي (ت 884 هـ) ,المكتب الإسلامي, بيروت , دمشق, 1980 م. 258. المبسوط, شمس الأئمة محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي (ت 483 هـ) , دار المعرفة ,بيروت , 1414 هـ-1993 م. 259. المتاجرة بالهامش دراسة تصويرية فقهية , ضمن الأبحاث المقدمة للمجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الثامنة عشرة , د. عبدالله السعيدي. 260. المتاجرة بالهامش والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلامي ,ضمن الأبحاث المقدمة للمجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الثامنة عشر, د. محمد عثمان شبير. 261. المجموع شرح المهذب (بتكملة السبكي والمطيعي) , محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت 676 هـ) , دار الفكر, بيروت. 262. مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية , جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي الحنبلي (ت 1392 هـ) , مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة المنورة، 1416 هـ-1995 م. 263. مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين , جمع وترتيب: فهد بن ناصر السليمان , دار الثريا, ط 1, 1420 هـ. 264. مجموع الفوائد واقتناص الأوابد, أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي (ت 1376 هـ) , دار ابن الجوزي, الدمام, 1424 هـ - 2003 م.

265. المجموع المذهب في قواعد المذهب ,أبو سعد خليل بن كيكلدي العلائي, تحقيق: د. مجيد علي العبيدي ود. أحمد خضير عباس , المكتبة المكية , مكة المكرمة , ودار عمار عمّان , 1425 هـ. 266. مجموعة رسائل ابن عابدين, محمد أمين بن عمر الدمشقي المعروف بابن عابدين الحنفي (ت 1252 هـ) ,باكستان, سهيل أكاديمي, لاهور, ط 2 , 1400 هـ-1980 م. 267. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز, أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية الأندلسي المحاربي (ت 542 هـ) , تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد, دار الكتب العلمية , بيروت, ط 1 , 1422 هـ. 268. المحصول, أبو عبد الله فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن الرازي (ت 606 هـ) , تحقيق: د. طه جابر فياض العلواني, مؤسسة الرسالة, ط 3 , 1418 هـ - 1997 م. 269. المحصول في أصول الفقه , أبو بكر بن العربي المعافري المالكي ,أخرجه واعتنى به: حسين علي اليدري, وعلق على مواضع منه: سعيد عبداللطيف فودة , دار البيارق , الأردن , ط 1, 1420 هـ. 270. المحلى , أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد ابن حزم (ت 456 هـ) , تحقيق: أحمد محمد شاكر ,المكتب التجاري للطباعة والنشر , بيروت. 271. مختصر طبقات الحنابلة, محمد جميل بن عمر البغدادي المعروف بابن شطي (ت 1379 هـ)، دراسة: فواز أحمد زمرلي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1406 هـ - 1986 م. 272. مختصر منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل, جمال الدين أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس ابن الحاجب الكردي المالكي (ت 646 هـ) ,تحقيق: د. نذير حمادو , دار ابن حزم ,ط 1, 1427 هـ-2006 م. 273. المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ابن حنبل ,عبدالقادر ابن بدران الدمشقي (ت 1346 هـ) , تحقيق: د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي , مؤسسة الرسالة , بيروت , ط 3, 1450 هـ. 274. المدخل الفقهي العام , مصطفى أحمد الزرقاء (ت 1420 هـ) , دار القلم, دمشق, ط 1, 1418 هـ-1998 م. 275. مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر, محمد الأمين المختار الجكني الشنقيطي (ت 1393 هـ) , دار عالم الفوائد , مكة المكرمة, ط 1, 1426 هـ.

276. مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقادات, أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد ابن حزم (ت 456 هـ) , دار الكتب العلمية , بيروت. 277. المرشد لاتجاهات القبلة والمواقيت للصلاة، اد. حسين كمال الدين, نشر جامعة الإمام محمد بن سعود , الرياض , 1402 هـ- 1982 م. 278. المستدرك على الصحيحين , أبو عبدالله محمد بن عبدالله الحاكم النيسابوري (ت 405 هـ) , تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا , دار الكتب العلمية , بيروت , ط 1 , 1411 هـ. 279. المستصفى من علم الأصول , أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت 505 هـ) , تحقيق: د. حمزة بن زهير حافظ , الجامعة الإسلامية , المدينة المنورة. 280. مسند الإمام أحمد ابن حنبل , أبو عبدالله بن محمد ابن حنبل الشيباني (ت 241 هـ) , شرحه ووضع فهارسه: أحمد محمد شاكر, دار المعارف مصر. 281. مسلم الثبوت (مطبوع مع شرحه فواتح الرحموت) ,محب الله بن عبدالشكور البهاري (ت 1119 هـ) , ضبطه وصححه: عبدالله محمود عمر, دار الكتب العلمية, بيروت ,ط 1, 1423 هـ-2002 م. 282. المسودة في أصول الفقه , مجد الدين أبو البركات بن عبدالسلام (ت: 652 هـ) وشهاب الدين أبو المحاسن عبد الحليم بن عبدالسلام (ت: 682 هـ) وتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم (ت: 728 هـ) , جمعها وبيضها: شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد ابن عبدالغني الحراني الدمشقي (ت 745 هـ) , تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد, مطبعة المدني , القاهرة. 283. مشاهير علماء نجد وغيرهم, عبدالرحمن بن عبداللطيف بن عبدالله آل الشيخ (ت 1293 هـ) , دار اليمامة, ط 2 , 1394 م. 284. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير , أبوالعباس أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي (ت 770 هـ) , المكتبة العلمية , بيروت. 285. المصنف , أبو بكر عبد الرزاق ابن همام الصنعاني (ت 211 هـ) , تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي , المكتب الإسلامي ,بيروت , ط 2, 1403 هـ. 286. المصنف في الأحاديث والآثار, أبو بكر عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي بن أبي شيبة العبسي (ت 235 هـ) ,تحقيق: كمال يوسف الحوت, مكتبة الرشد , الرياض, ط 1, 1409 هـ.

287. مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى , مصطفى السيوطي الرحيباني (ت 1240 هـ) , المكتب الإسلامي , بيروت , ط 2 , 1415 هـ - 1994 م. 288. معالم التنزيل في تفسير القرآن, أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (ت 510 هـ) , تحقيق: عبدالرزاق المهدي, دار إحياء التراث العربي , بيروت, ط 1, 1420 هـ. 289. معالم السنن شرح سنن أبي داود , أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي (ت: 388 هـ) , تخريج وترقيم: عبد السلام عبد الشافي محمد , دار الكتب العلمية , بيروت , ط 1 , 1411 هـ. 290. المعتبر في أحاديث المختصر , أبو عبدالله بدر الدين محمد بن عبدالله بن بهادر الزركشي الشافعي (ت 794 هـ) , تحقيق: حمدي عبدالمجيد السلفي, دار الأرقم, ط 1, 1404 هـ-1984 م. 291. المعتمد في أصول الفقه , أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري , تحقيق: د. محمد حميد الله بالتعاون مع محمد بكر وحسن حنفي ,المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية, دمشق , سنة 1384 هـ. 292. معجم البلدان, شهاب الدين أبوعبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي (ت 626 هـ) ,دار صادر , بيروت, ط 2, 1995 م. 293. المعجم الفلسفي ,د. جميل صليبيا ,الشركة العالمية للكتاب , بيروت, 1414 هـ-1994 م. 294. المعجم الكبير, أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني (ت 360 هـ) , تحقيق: حمدي بن عبدالمجيد السلفي , مكتبة العلوم والحكم, الموصل , ط 2, 1404 هـ. 295. معجم المؤلفين, عمر رضا كحالة , مؤسسة الرسالة , بيروت ,ط 1, 1414 هـ-1963 م. 296. المعجم الوسيط, ,إبراهيم مصطفى, وأحمد الزيات, وحامد عبدالقادر , ومحمد النجار, دار الدعوة, مجمع اللغة العربية , القاهرة. 297. معرفة السنن والآثار ,أبوبكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي (ت 458 هـ) ,تحقيق: عبدالمعطى أمين القلعجي, جامعة الدراسات الإسلامية, كراتشي, دار قتيبة, دمشق-بيروت, دار الوعي, حلب-دمشق, دار الوفاء, المنصورة- القاهرة, ط 1, 1412 هـ-1991 م.

298. المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب ,أبوالعباس أحمد بن يحيى الونشريسي (ت 914 هـ) ,بإشراف: د. محمد حجي , وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية, 1401 هـ-1981 م. 299. معين الحكام على القضايا والأحكام , أبو إسحاق إبراهيم بن حسن بن عبدالرفيع (ت 733 هـ) , تحقيق: محمد بن قاسم بن عياد , دار الغرب الإسلامي , بيروت , 1989 م. 300. المغني , موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد ابن قدامة المقدسي الجماعيلي الدمشقي الصالحي الحنبلي (ت 620 هـ) ,تحقيق: د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي, ود. عبدالفتاح محمد الحلو ,دار عالم الكتب, الرياض, ط 3 , 1417 هـ-1997 م. 301. مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج , محمد بن أحمد الشربيني الخطيب, دار الكتب العلمية , بيروت. 302. مفاتيح الغيب= التفسير الكبير, فخر الدين أبوعبدالله محمد بن عمر بن الحسين التيمي الرازي خطيب الري (ت 606 هـ) ,دار إحياء التراث العربي, بيروت, ط 3 , 1420 هـ. 303. مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة , أبو عبد الله شمس الدين محمد ابن أبي بكر , الشهير بابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) , دار الكتب العلمية, بيروت. 304. مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول , أبوعبد الله محمد ابن أحمد المالكي التلمساني (ت 771 هـ) , تحقيق: محمد علي فركوس, المكتبة المكية, مكة المكرمة, مؤسسة الريان, بيروت, ط 1, 1419 هـ-1998 م. 305. المفردات في غريب القرآن, أبوالقاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (ت 502 هـ) , تحقيق: صفوان عدنان الداودي, دار القلم, الدار الشامية, دمشق-بيروت, ط 1 , 1412 هـ. 306. مفطرات الصيام المعاصرة, د. أحمد بن محمد خليل , دار ابن الجوزي, الدمام, ط 2, 1427 هـ-2006 م. 307. المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة , شمس الدين أبو الخير محمد بن عبدالرحمن بن محمد السخاوي (ت 902 هـ) , تحقيق: محمد عثمان الخشت, دار الكتاب العربي , بيروت, ط 1, 1405 هـ - 1985 م.

308. مقاصد الشريعة الإسلامية: , محمد الطاهر ابن عاشور (ت 1393 هـ) , تحقيق: محمد الطاهر الميساوي, دار النفائس, عمّان, ط 2 ,1421 هـ-2001 م. 309. مقاصد الشريعة وعلاقتها بالأدلة الشرعية , محمد بن سعد بن أحمد بن مسعود اليوبي, دار الهجرة, الرياض, ط 1, 1418 هـ. 310. مقاييس اللغة, أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي (ت 395 هـ) ,تحقيق: عبد السلام محمد هارون, دار الفكر, القاهرة, 1399 هـ - 1979 م. 311. المقترح في المصطلح, محمد بن محمد البروي الشافعي (ت 567 هـ)، تحقيق: د. شريفة بنت علي الحوشاني، دار الوراق، دار النبراس، بيروت، الرياض، دمشق، ط 1، 1424 هـ- 2004 م. 312. المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد , , برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله ابن مفلح (ت 884 هـ) , تحقيق: د. عبدالرحمن بن سليمان العثيمين , مكتبة الرشد ,الرياض , ط 1, 1410 هـ. 313. ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد ابن حزم (ت 456 هـ) , تحقيق: سعيد الأفغاني، دار الفكر، بيروت، ط 2، 1389 هـ -1969 م. 314. الملل والنحل, أبو الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني (ت 548 هـ) , تحقيق: محمد سيد كيلاني ,دار المعرفة , بيروت,1404 هـ-. 315. مناهج العقول في شرح منهاج الأصول (مطبوع مع نهاية السول) ,محمد بن الحسن البدخشي (ت 922 هـ) , دار الكتب العلمية , بيروت 1409 هـ. 316. المنتج البديل للوديعة لأجل ـ عرض ومناقشة, أ. د. على السالوس , ضمن الأبحاث المقدمة للمجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته التاسعة عشرة, ـ مكة المكرمة 1428 هـ-2007 م. 317. منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات , تفي الدين محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي , الشهير بابن النجار (ت: 972 هـ) , تحقيق: عبدالله بن عبد المحسن التركي , مؤسسة الرسالة , بيروت ,ط 1, 1419 هـ. 318. المنثور في القواعد , بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي الشافعي (ت 794 هـ) , تحقيق: تيسير فائق محمود , مراجعة: عبد الستار أبو الغدة , وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت , مكتبة آلاء , مطبعة الأبناء بالكويت , ط 2, 1405 هـ.

319. منح الجليل على شرح مختصر خليل , محمد بن أحمد بن محمد المشهور بعليش , دار الفكر , 1409 هـ. 320. منظومات الصرف الصحي ومعالجة مياه المجاري, د. أحمد فيصل الأصفري, الجمعية الكويتية لحماية البيئة , الكويت , 1997 م. 321. منع الموانع عن جمع الجوامع في أصول الفقه, تاج الدين أبو نصر عبدالوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي (ت 771 هـ) , تحقيق: د. سعيد بن علي الحميري, دار البشائر الإسلامية, بيروت, ط 1, 1420 هـ-1999 م. 322. المنقذ من الضلال, أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت 505 هـ) , د. عبدالحليم محمود, دار الكتب الحديثة, مصر. 323. منهاج السنة النبوية , أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (ت 728 هـ) , تحقيق: محمد رشاد السالم , جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية , الرياض ,ط 1 , 1406 هـ. 324. منهاج الوصول في معرفة علم الأصول, ناصر الدين عبدالله بن عمر البيضاوي (ت 685 هـ) , المطبعة المحمودية, مصر. 325. المهذب في فقه الإمام الشافعي , أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي (ت 476 هـ) , دار الكتب العلمي, بيروت. 326. الموافقات, أبو إسحاق الشاطبي إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي (ت 790 هـ) , تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان, دار ابن عفان , الخُبَر, ط 1 , 1417 هـ-1997 م. 327. مواهب الجليل لشرح مختصر الخليل ,شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبدالرحمن المغربي , المعروف بالحطاب (ت 954 هـ) , دار الفكر, ط 3, 1412 هـ-1992 م. 328. الموسوعة الاقتصادية د. راشد البراوي, دار النهضة العربية, ط 1 , 1971 م. 329. الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية, د. سيد الهواري, الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية,1402 هـ-1982 م. 330. الموسوعة الفقهية الطبية د. أحمد محمد كنعان ,دار النفائس, عمّان, ط 2, 2007 م.

331. موسوعة المصطلحات الاقتصادية والإحصائية, عبدالعزيز فهمي هيكل, دار النهضة العربية ,القاهرة, ط 1 ,1986 م. 332. الموطأ , أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي (ت 179 هـ) , تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي, مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية , أبوظبي ,ط 1 ,1425 هـ-2004 م. 333. موقف الشريعة الإسلامية من تنظيم النسل , الزين يعقوب عبدالمقصود الزبير, دار الجيل, بيروت,1991 م. 334. ميزان الأصول في نتائج العقول , علاء الدين شمس النظر أبي بكر محمد بن أحمد السمرقندي (ت 539 هـ) , تحقيق: د. محمد زكي عبد البر , وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية , قطر , ط 2, 1418 هـ. 335. نبراس العقول في تحقيق القياس عند علماء الأصول , عيسى منون الأزهري (ت 1376 هـ) , المطبعة المنيرية ,ط 1 ,1345 هـ. 336. نثر الورود على مراقي السعود, محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (ت 1393 هـ) ,تحقيق وإكمال: محمد ولد سيدي ولد حبيب الشنقيطي, دار المنارة للنشر والتوزيع, جدة, ط 3 , 1423 هـ-2002 م. 337. النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة , جمال الدين أبوالحسن يوسف بن تغري بردي الأتابكي (ت 874 هـ) , وزارة الثقافة والإرشاد القومي, دار الكتب , مصر. 338. النعت الأكمل لأصحاب الإمام أحمد, ابن الغزي, تحقيق: محمد مطيع الحافظ, نزار أباظة, دار الفكر المعاصر, بيروت, دار الفكر , بيروت, ط 1, 1402 هـ-1982 م. 339. نشر البنود على مراقي السعود ,عبدالله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي (1235 هـ) , دار الكتب العلمية , بيروت , ط 1 ,1409 هـ-1988 م. 340. نشر العَرْف في بناء بعض الحكام على العُرف , محمد أمين بن عمر المعروف بابن العابدين (ت 1252 هـ) , مطبوع ضمن رسائل ابن العابدين, باكستان, سهيل أكاديمي, لاهور, ط 2 , 1400 هـ-1980 م. 341. نصب الراية لأحاديث الهداية ,جمال الدين أبومحمد عبدالله بن يوسف الزيلعي (ت 762 هـ) ,تحقيق: محمد عوامة, مؤسسة الريان, بيروت, دار القبلة للثقافة الإسلامية, جدة, ط 1 , 1418 هـ-1997 م.

342. نفائس الأصول في شرح المحصول, شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي المالكي (ت 684 هـ) , تحقيق: عادل أحمد عبدالموجود, وعلي محمد عوض, مكتبة نزار مصطفى الباز, مكة المكرمة, ط 1 , 1416 هـ-1995 م. 343. نهاية السول في شرح منهاج الأصول ,جمال الدين عبد الرحيم ابن الحسن الإسنوي الشافعي (ت 772 هـ) , عالم الكتب , بيروت. 344. النهاية في غريب الحديث والأثر , مجد الدين أبوالبركات المبارك بن محمد ابن الأثير (606 هـ) , تحقيق: طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي , المكتبة العلمية , بيروت, 1399 هـ-1979 م. 345. نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج , شمس الدين محمد بن شهاب الدين الرملي (ت 1004 هـ) , دار الفكر, بيروت, الطبعة الأخيرة,1404 هـ-1984 م. 346. نهاية الوصول في دراية الأصول ,صفي الدين محمد عبدالرحيم الأرموي الهندي (ت 715 هـ) , تحقيق: د. صالح بن سليمان اليوسف, ود. سعد بن سالم السويح ,المكتبة التجارية , مكة المكرمة , ط 2, 1419 هـ-1999 م. 347. نهاية الوصول إلى علم الأصول , أحمد بن علي بن تغلب ابن الساعاتي , تحقيق: د. سعد بن غرير السلمي , مركز البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى, مكة المكرمة ,1408 هـ. 348. النهر الفائق شرح كنز الدقائق , سراج الدين عمر بن إبراهيم ابن نجيم الحنفي (ت 970 هـ) , تحقيق: أحمد عزو العناية, دار الكتب العلمية, ط 1 , 1422 هـ-2002 م. 349. نيل الابتهاج بتطريز الديباج , سيدي أحمد بن أحمد المعروف ببابا التنبكتي, تحقيق: د. علي عمر , مكتبة الثقافة الدينية , ضمن مشروع مكتبة الطبقات المالكية. 350. الهداية في شرح بداية المبتدي, برهان الدين أبوالحسن علي بن أبي بكر المرغيناني (ت 593 هـ) , تحقيق: طلال يوسف, دار إحياء التراث العربي, بيروت. 351. هدية العارفين في أسماء المؤلفين وآثار المصنفين من كشف الظنون, إسماعيل باشا البغدادي (ت 1339 هـ) , دار الكتب العلمية, بيروت, 1413 هـ -1992 م.

352. الواضح في أصول الفقه ,أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد ابن عقيل البغدادي الحنبلي (ت 513 هـ) , تحقيق: د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي, مؤسسة الرسالة , بيروت , ط 1 , 1420 هـ. 353. وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية, د. محمد مصطفى الزحيلي, مكتبة دار البيان , دمشق, بيروت,1402 هـ-1992 م. 354. الوسيط في تراجم أدباء شنقيط , أحمد بن الأمين الشنقيطي (ت 1331 هـ) , عناية: فؤاد سيد, مكتبة الخانجي, القاهرة, ط 5 ,1422 هـ-2002 م. 355. وفيات الأعيان , أبوالعباس أحمد بن محمد ابن خلكان (681 هـ) ,تحقيق: إحسان عباس, دار صادر , بيروت , 1972 م.

§1/1