الإيمان لابن تيمية

ابن تيمية

الإيمان

الإيمان تأليف: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما. اعلم أن [الإيمان] و [الإسلام] يجتمع فيهما الدين كله، وقد كثر كلام الناس في [حقيقة الإيمان والإسلام] ، ونزاعهم، واضطرابهم. وقد صنفت في ذلك مجلدات، والنزاع في ذلك من حين خرجت الخوارج بين عامة الطوائف. ونحن نذكر ما يستفاد من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، مع ما يستفاد من كلام الله تعالى فيصل المؤمن إلى ذلك من نفس كلام الله ورسوله، فإن هذا هو المقصود. فلا نذكر اختلاف الناس ابتداء، بل نذكر من ذلك في ضمن بيان ما يستفاد من كلام الله ورسوله ما يبين أن رد موارد النزاع إلى الله وإلى الرسول خير وأحسن تأويلا، وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة. فنقول: قد فرق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام بين مسمى [الإسلام] ومسمى [الإيمان] ومسمى [الإحسان] . فقال: " الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ". وقال: " الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ".

والفرق مذكور في حديث عمر الذي انفرد به مسلم، وفي حديث أبي هريرة الذي اتفق البخاري ومسلم عليه، وكلاهما فيه: أن جبرائيل جاءه في صورة إنسان أعرابي فسأله. وفي حديث عمر: أنه جاءه في صورة أعرابي. وكذلك فسر [الإسلام] في حديث ابن عمر المشهور، قال: " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان ". وحديث جبرائيل يبين أن الإسلام المبني على خمس هو الإسلام نفسه ليس المبني غير المبني عليه، بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين ثلاث درجات أعلاها: الإحسان، وأوسطها: الإيمان، ويليه: الإسلام، فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسناً، ولا كل مسلم مؤمنا، كما سيأتي بيانه إن شاء الله في سائر الأحاديث، كالحديث الذي رواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن رجل من أهل الشام، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " أسلم تسلم ". قال: وما الإسلام؟ قال: " أن تسلم قلبك لله، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك ". قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: " الإيمان ". قال: وما الإيمان؟ قال: " أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله، وبالبعث بعد الموت ". قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال: " الهجرة ". قال: وما الهجرة؟ قال: " أن تهجر السوء ". قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: " الجهاد ". قال: وما الجهاد؟ قال: " أن تجاهد، أو تقاتل الكفار إذا لقيتهم، ولا تَغْلُل، ولا تَجْبُن ". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عملان هما أفضل الأعمال، إلا من عمل بمثلهما قالها ثلاثا حجة مبرورة، أو عمرة " رواه أحمد، ومحمد بن نصر المروزي.

لهذا يذكر هذه " المراتب الأربعة " فيقول: " المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمهاجر من هجر السيئات، والمجاهد من جاهد نفسه لله ". وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو، وفَضَالة بن عبيد وغيرهما بإسناد جيد، وهو في السنن، وبعضه في الصحيحين. وقد ثبت عنه من غير وجه أنه قال: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم ". ومعلوم أن من كان مأموناً على الدماء والأموال؛ كان المسلمون يسلمون من لسانه ويده، ولولا سلامتهم منه لما ائتمنوه. وكذلك في حديث عبيد بن عمير، عن عمرو بن عَبَسة. وفي حديث عبد الله بن عبيد بن عمير أيضاً عن أبيه، عن جده؛ أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإسلام؟ قال: " إطعام الطعام، وطِيبُ الكلام ". قيل: فما الإيمان؟ قال: " السَّمَاحة والصبر ". قيل: فمن أفضل المسلمين إسلاماً؟ قال: " من سَلِم المسلمون من لسانه ويده ". قيل: فمن أفضل المؤمنين إيمانًا؟ قال: " أحسنهم خُلُقاً ". قيل: فما أفضل الهجرة؟ قال: " من هَجَر ما حَرَّم الله عليه ". قال: أي الصلاة أفضل؟ قال: " طول القُنُوت ". قال: أي الصدقة أفضل؟ قال:

" جُهْد مُقل ". قال: أي الجهاد أفضل؟ قال: " أن تجاهد بمالك ونفسك، فيُعَقْرُ جَوَادُك، ويُراق دَمُك ". قال أي الساعات أفضل؟ قال: " جَوْف الليل الغَابِر ". ومعلوم أن هذا كله مراتب، بعضها فوق بعض، وإلا فالمهاجر لابد أن يكون مؤمناً، وكذلك المجاهد؛ ولهذا قال: " الإيمان: السماحة والصبر "، وقال في الإسلام: " إطعام الطعام، وطيب الكلام ". والأول مستلزم للثاني؛ فإن من كان خلقه السماحة، فعل هذا بخلاف الأول؛ فإن الإنسان قد يفعل ذلك تَخَلُّقاً، ولا يكون في خلقه سماحة وصبر. وكذلك قال: " أفضل المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده ". وقال: " أفضل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً "، ومعلوم أن هذا يتضمن الأول؛ فمن كان حسن الخلق فعل ذلك. قيل للحسن البصري: ما حُسْن الخلق؟ قال: بَذْل النَّدَى، وكَفُّ الأذى، وطلاقة الوجه. فكف الأذى جزء من حسن الخلق. وستأتي الأحاديث الصحيحة بأنه جعل الأعمال الظاهرة من الإيمان كقوله: " الإيمان بِضْعٌ وسبعون شُعْبَة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إمَاطَة الأذى عن الطريق ". وقوله لوَفْد عبد القَيْس: " آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خُمُسَ ما غَنِمْتُم ". ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيمانًا بالله بدون إيمان القلب؛ لما قد أخبر في غير موضع، أنه لابد من إيمان القلب، فعلم أن هذه مع إيمان القلب

وهو الإيمان، وفي المسند عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الإسلام عَلاَنِيَة، والإيمان في القلب ". وقال صلى الله عليه وسلم: " إن في الجسد مُضْغَة، إذا صَلُحَت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب ". فمن صلح قلبه صلح جسده قطعاً، بخلاف العكس. وقال سفيان بن عُيَيْنَة: كان العلماء فيما مَضى يكتب بعضهم إلى بعض بهؤلاء الكلمات: من أصلح سَرِيرَته، أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته، كَفَاه الله أمر دنياه. رواه ابن أبي الدنيا في كتاب [الإخلاص] . فعلم أن القلب إذا صلح بالإيمان، صلح الجسد بالإسلام، وهو من الإيمان؛ يدل على ذلك أنه قال في حديث جبرائيل: " هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم ". فجعل الدين هو الإسلام، والإيمان، والإحسان. فتبين أن ديننا يجمع الثلاثة، لكن هو درجات ثلاث: مسلم ثم مؤمن ثم محسن، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32] ، والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة، بخلاف الظالم لنفسه. وهكذا من أتى بالإسلام الظاهر مع تصديق القلب، لكن لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن، فإنه معرض للوعيد، كما سيأتي بيانه إن شاء الله. وأما [الإحسان] فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإيمان. و [الإيمان] أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإسلام. فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين. وهذا كما يقال: في [الرسالة

والنبوة] ، فالنبوة داخلة في الرسالة، والرسالة أعم من جهة نفسها، وأخص من جهة أهلها؛ فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً، فالأنبياء أعم، والنبوة نفسها جزء من الرسالة، فالرسالة تتناول النبوة وغيرها بخلاف النبوة؛ فإنها لا تتناول الرسالة. والنبي صلى الله عليه وسلم فسر [الإسلام والإيمان] بما أجاب به، كما يجاب عن المحدود بالحد، إذا قيل: ما كذا؟ قيل: كذا، وكذا. كما في الحديث الصحيح، لما قيل: ما الغِيبَة؟ قال: " ذِكْرُك أخاك بما يَكْرَه ". وفي الحديث الآخر: " الكِبْر بَطَر الحق، وغَمْط الناس ". وبَطَر الحق: جحده ودفعه. وغَمْط الناس: احتقارهم وازدراؤهم. وسنذكر إن شاء الله تعالى سبب تنوع أجوبته، وإنها كلها حق. ولكن المقصود أن قوله: " بُنِي الإسلام على خمس "، كقوله: " الإسلام هو الخمس " كما ذكر في حديث جبرائيل؛ فإن الأمر مركب من أجزاء، تكون الهيئة الاجتماعية فيه مبنية على تلك الأجزاء ومركبة منها؛ فالإسلام مبني على هذه الأركان وسنبين إن شاء الله اختصاص هذه الخمس بكونها هي الإسلام، وعليها بني الإسلام، ولم خصت بذلك دون غيرها من الواجبات؟ وقد فسر [الإيمان] في حديث وَفْد عبد القيس بما فسر به الإسلام هنا، لكنه لم يذكر فيه الحج، وهو متفق عليه، فقال: " آمركم بالإيمان بالله وحده، هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم أو خمساً من المغنم ".

وقد روى في بعض طرقه: " الإيمان بالله، وشهادة أن لا إله إلا الله ". لكن الأول أشهر. وفي رواية أبي سعيد: " آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً "، وقد فسر في حديث شعب الإيمان الإيمان بهذا وبغيره، فقال: " الإيمان بِضْعٌ وستون أو بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعْبَة من الإيمان ". وثبت عنه من وجوه متعددة أنه قال: " الحياء شعبة من الإيمان " من حديث ابن عمر، وابن مسعود، وعمران بن حُصَين، وقال أيضاً: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين "، وقال: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "، وقال: " والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن ". قيل: من يا رسول الله؟ قال: " الذي لا يأمن جاره بوائقه "، وقال: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ". وقال: " ما بعث الله من نبي إلا كان في أمته قوم يهتدون بهديه، ويَسْتَنُّون بسُنَّتِه. ثم إنه يخلف من بعدهم خُلُوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حَبَّة خَرْدَل "، وهذا من أفراد مسلم. وكذلك في أفراد مسلم قوله: " والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تَحَابُّوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟

أفشوا السلام بينكم "، وقال في الحديث المتفق عليه من رواية أبي هريرة، ورواه البخاري من حديث ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يَنْتَهِبُ النُّهْبَة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن ". فيقال: اسم [الإيمان] تارة يذكر مفرداً غير مقرون باسم الإسلام، ولا باسم العمل الصالح، ولا غيرها، وتارة يذكر مقروناً، إما بالإسلام، كقوله في حديث جبرائيل: " ما الإسلام وما الإيمان؟ "، وكقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35] ، وقوله عز وجل: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] ، وقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35، 36] . وكذلك ذكر الإيمان مع العمل الصالح، وذلك في مواضع من القرآن، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البينة: 7] ، وإما مقروناً بالذين أوتوا العلم، كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ} [الروم: 56] ، وقوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] . وحيث ذكر الذين آمنوا فقد دخل فيهم الذين أوتوا العلم؛ فإنهم خيارهم، قال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] ، وقال: {لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} [النساء: 162] . ويذكر أيضًا لفظ المؤمنين مقروناً بالذين هادوا والنصارى والصابئين، ثم يقول: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62] ، فالمؤمنون في ابتداء الخطاب غير الثلاثة، والإيمان الآخر عَمَّهُم؛ كما عَمَّهُم في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} وسنبسط هذا إن شاء الله تعالى. فالمقصود هنا العموم والخصوص بالنسبة إلى ما في الباطن والظاهر من الإيمان. وأما العموم بالنسبة إلى الملل، فتلك مسألة أخرى. فلما ذكر الإيمان مع الإسلام، جعل الإسلام هو الأعمال الظاهرة: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج. وجعل الإيمان ما في القلب من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. وهكذا في الحديث الذي رواه أحمد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الإسلام علانية، والإيمان في القلب ". وإذا ذكر اسم الإيمان مجرداً، دخل فيه الإسلام والأعمال الصالحة، كقوله في حديث الشعب: " الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق ". وكذلك سائر الأحاديث التي يجعل فيها أعمال البر من الإيمان. ثم إن نفي [الإيمان] عند عدمها، دل على أنها واجبة، وإن ذكر فضل إيمان صاحبها ولم ينف إيمانه دل على أنها مستحبة؛ فإن الله ورسوله لا ينفي اسم مسمى أمر أمر الله به، ورسوله إلا إذا ترك بعض واجباته، كقوله: " لا صلاة إلا بأم القرآن "، وقوله: " لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له " ونحو ذلك. فأما إذا كان الفعل مستحباً في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب، فإن هذا لو جاز، لجاز أن ينفي عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان والصلاة والزكاة والحج؛ لأنه ما من عمل إلا وغيره أفضل منه. وليس أحد يفعل أفعال البر مثل ما فعلها

النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل ولا أبو بكر ولا عمر. فلو كان من لم يأت بكمالها المستحب يجوز نفيها عنه، لجاز أن ينفي عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين، وهذا لا يقوله عاقل. فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه، ويتعرض للعقوبة، فقد صدق. وإن أراد أنه نفي الكمال المستحب، فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله، ولا يجوز أن يقع؛ فإن من فعل الواجب كما وجب عليه، ولم ينتقص من واجبه شيئاً، لم يجز أن يقال: ما فعله لا حقيقة ولا مجازاً. فإذا قال للأعرابي المسيء في صلاته: " ارجع فَصَلِّ، فإنك لم تُصَلِّ "، وقال لمن صلى خلف الصف وقد أمره بالإعادة: " لا صلاة لفَذٍّ خلف الصف " كان لترك واجب، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] ، يبين أن الجهاد واجب، وترك الارتياب واجب. والجهاد وإن كان فرضاً على الكفاية فجميع المؤمنين يخاطبون به ابتداء، فعليهم كلهم اعتقاد وجوبه، والعزم على فعله إذا تعين؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من مات ولم يَغْزولم يُحَدِّث نفسه بغزو، مات على شُعْبَة نفاق " رواه مسلم. فأخبر أنه من لم يَهِمّ به، كان على شعبة نفاق. وأيضاً، فالجهاد جنس، تحته أنواع متعددة، ولابد أن يجب على المؤمن نوع من أنواعه. وكذلك قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ

يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2-4] . هذا كله واجب؛ فإن التوكل على الله واجب من أعظم الواجبات، كما أن الإخلاص لله واجب، وحب الله ورسوله واجب. وقد أمر الله بالتوكل في غير آية أعظم مما أمر بالوضوء والغسل من الجنابة، ونهى عن التوكل على غير الله، قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] ، وقال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التغابن: 13] ، وقال تعالى: {إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160] ، وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} [يونس: 84] . وأما قوله: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} فيقال: من أحوال القلب وأعماله ما يكون من لوازم الإيمان الثابتة فيه، بحيث إذا كان الإنسان مؤمناً، لزم ذلك بغير قصد منه ولا تَعمُّد له. وإذا لم يوجد، دل على أن الإيمان الواجب لم يحصل في القلب، وهذا كقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} [المجادلة: 22] ، فأخبر أنك لا تجد مؤمناً يواد المحادين لله ورسوله، فإن نفس الإيمان ينافي موادته، كما ينفي أحد الضدين الآخر. فإذا وجد الإيمان انتفى ضده، وهو موالاة أعداء الله، فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه، كان ذلك دليلاً على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب. ومثله قوله تعالى في الآية الأخرى: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 80، 81] ، فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف [لو] ، التي تقتضي مع الشرط انتقاء المشروط، فقال: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا

اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء} ، فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء، ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه. ومثله قوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] ، فإنه أخبر في تلك الآيات أن متوليهم لا يكون مؤمناً، وأخبر هنا أن متوليهم هو منهم، فالقرآن يصدق بعضه بعضًا، قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} الآية [الزمر: 23] ، وكذلك قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] : دليل على أن الذهاب المذكور بدون استئذانه لا يجوز، وأنه يجب ألا يذهب حتى يستأذن، فمن ذهب ولم يستأذن كان قد ترك بعض ما يجب عليه من الإيمان؛ فلهذا نفى عنه الإيمان، فإن حرف [إنما] تدل على إثبات المذكور ونفي غيره. ومن الأصوليين من يقول: إن [إن] للإثبات، و [ما] للنفي، فإذا جمع بينهما دلت على النفي والإثبات، وليس كذلك عند أهل العربية، ومن يتكلم في ذلك بعلم، فإن [ما] هذه هي الكافة التي تدخل على [إن] وأخواتها فتكفها عن العمل؛ لأنها إنما تعمل إذا اختصت بالجمل الإسمية، فلما كفت بطل عملها واختصاصها، فصار يليها الجمل الفعلية والإسمية، فتغير معناها وعملها جميعاً بانضمام [ما] إليها، وكذلك كأنما وغيرها. وكذلك قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 47: 51]

فإن قيل: إذا كان المؤمن حقاً هو الفاعل للواجبات التارك للمحرمات، فقد قال: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 4] ، ولم يذكر إلا خمسة أشياء، وكذلك قال في الآية الأخرى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] ، وكذلك قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور: 62] . قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أن يكون ما ذكر مستلزمًا لما ترك؛ فإنه ذكر وَجَلَ قلوبهم إذا ذكر الله، وزيادة إيمانهم إذا تليت عليهم آياته مع التوكل عليه، وإقام الصلاة على الوجه المأمور به باطناً وظاهراً، وكذلك الإنفاق من المال والمنافع، فكان هذا مستلزمًا للباقي؛ فإن وَجَل القلب عند ذكر الله يقتضي خشيته والخوف منه، وقد فسروا [وجلت] ب [فرقت] . وفي قراءة ابن مسعود: [إذ ذكر الله فرقت قلوبهم] . وهذا صحيح؛ فإن الوَجَل في اللغة: هو الخوف، يقال: حُمْرَة الخَجَل، وصُفْرَة الوَجَل، ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون} [المؤمنون: 60] ، قالت عائشة: يا رسول الله، هو الرجل يزني ويسرق ويخاف أن يعاقب؟ قال: " لا يا ابنة الصديق! هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق، ويخاف ألا يقبل منه ". وقال السُّدِّي في قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] : هو الرجل يريد أن يظلم أو يَهِمَّ بمعصية فينزع عنه، وهذا كقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41] ، وقوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] . قال مجاهد وغيره من المفسرين: هو الرجل يَهِمُّ بالمعصية، فيذكر مقامه بين يدي الله، فيتركها خوفاً من الله. وإذا كان وجل القلب من ذكره يتضمن خشيته ومخافته، فذلك يدعو صاحبه إلى فعل المأمور، وترك المحظور. قال سهل بن عبد الله: ليس بين العبد وبين الله

حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق إليه أقرب من الافتقار، وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله. ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154] ، فأخبر أن الهدى والرحمة للذين يرهبون الله. قال مجاهد وإبراهيم: هو الرجل يريد أن يذنب الذنب، فيذكر مقام الله، فيدع الذنب. رواه ابن أبي الدنيا، عن ابن الجَعْدِ، عن شعبة، عن منصور، عنهما، في قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} . وهؤلاء هم أهل الفلاح المذكورون في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] . وهم [المؤمنون] ، وهم [المتقون] المذكورون في قوله تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 1، 2] ، كما قال في آية البر: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] . وهؤلاء هم المتبعون للكتاب، كما في قوله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123] . وإذا لم يضل فهو متبع مهتد، وإذا لم يَشْقَ فهو مرحوم. وهؤلاء هم أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين. فإن أهل الرحمة ليسوا مغضوباً عليهم، وأهل الهدى ليسوا ضالين، فتبين أن أهل رهبة الله يكونون متقين لله، مستحقين لجنته بلا عذاب. وهؤلاء هم الذين أتوا بالإيمان الواجب. ومما يدل على هذا المعنى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28] ، والمعنى: أنه لا يخشاه إلا عالم، فقد أخبر الله أن كل من خشى الله فهو عالم، كما قال في الآية الأخرى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر: 9] ، والخشية أبداً متضمنة للرجاء، ولولا ذلك لكانت قنوطاً؛ كما أن الرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمناً؛ فأهل الخوف لله والرجاء له هم أهل العلم الذين مدحهم الله.

وقد روى عن أبي حيان التيمي أنه قال: العلماء ثلاثة: فعالم بالله ليس عالماً بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالماً بالله، وعالم بالله عالم بأمر الله. فالعالم بالله هو الذي يخافه، والعالم بأمر الله هو الذي يعلم أمره ونهيه. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بحدوده ". وإذا كان أهل الخشية هم العلماء الممدوحون في الكتاب والسنة، لم يكونوا مستحقين للذم، وذلك لا يكون إلا مع فعل الواجبات، ويدل عليه قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 13، 14] ، وقوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] ، فوعد بنصر الدنيا وبثواب الآخرة لأهل الخوف، وذلك إنما يكون لأنهم أدوا الواجب، فدل على أن الخوف يستلزم فعل الواجب؛ ولهذا يقال للفاجر: لا يخاف الله. ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} [النساء: 17] . قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد عن هذه الآية، فقالوا لي: كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب. وكذلك قال سائر المفسرين. قال مجاهد: كل عاص فهو جاهل حين معصيته. وقال الحسن وقتادة وعطاء والسُّدِّي وغيرهم: إنما سموا جهالاً لمعاصيهم، لا أنهم غير مميزين. وقال الزجاج: ليس معنى الآية: أنهم يجهلون أنه سوء؛ لأن المسلم لو أتى ما يجهله كان كمن لم يواقع سوءاً، وإنما يحتمل أمرين: أحدهما: أنهم عملوه وهم يجهلون المكروه فيه. والثاني: أنهم أقدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة، وآثروا العاجل على الآجل، فسموا جهالاً لإيثارهم القليل على الراحة الكثيرة، والعافية الدائمة. فقد جعل الزجاج الجهل إما عدم العلم بعاقبة الفعل، وإما فساد الإرادة، وقد يقال: هما متلازمان، وهذا مبسوط في الكلام مع الجهمية.

والمقصود هنا أن كل عاص لله فهو جاهل، وكل خائف منه فهو عالم مطيع لله، وإنما يكون جاهلاً لنقص خوفه من الله؛ إذ لو تم خوفه من الله لم يعص. ومنه قول ابن مسعود رضي الله عنه: كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله جهلاً، وذلك لأن تصور المخوف يوجب الهرب منه، وتصور المحبوب يوجب طلبه، فإذا لم يهرب من هذا، ولم يطلب هذا، دل على أنه لم يتصوره تصوراً تاماً، ولكن قد يتصور الخبر عنه، وتصور الخبر وتصديقه وحفظ حروفه غير تصور المخبر عنه، وكذلك إذا لم يكن المتصور محبوباً له ولا مكروهاً، فإن الإنسان يصدق بما هو مخوف على غيره ومحبوب لغيره، ولا يورثه ذلك هرباً ولا طلبا. وكذلك إذا أخبر بما هو محبوب له ومكروه، ولم يكذب المخبر بل عرف صدقه، لكن قلبه مشغول بأمور أخرى عن تصور ما أخبر به، فهذا لا يتحرك للهرب ولا للطلب. وفي الكلام المعروف عن الحسن البصري ويروى مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: " العلم علمان: فعلم في القلب، وعلم على اللسان. فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة الله على عباده ". وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأُتْرُجَّة، طعمها طَيِّب وريحها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة، طعمها طيب، ولا ريح لها. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحَنْظَلَة، طعمها مر، ولا ريح لها ". وهذا المنافق الذي يقرأ القرآن يحفظه ويتصور معانيه، وقد يصدق أنه كلام الله، وأن الرسول حق، ولا يكون مؤمنا، كما أن اليهود يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وليسوا مؤمنين، وكذلك إبليس وفرعون وغيرهما. لكن من كان كذلك، لم يكن حصل له العلم التام

والمعرفة التامة. فإن ذلك يستلزم العمل بموجبه لا محالة؛ ولهذا صار يقال لمن لم يعمل بعلمه: إنه جاهل، كما تقدم. وكذلك لفظ [العقل] وإن كان هو في الأصل: مصدر عَقَل يَعْقِل عَقْلاً، وكثير من النظار جعله من جنس العلوم فلابد أن يعتبر مع ذلك أنه علم يعمل بموجبه، فلا يسمى عاقلاً إلا من عرف الخير فطلبه، والشر فتركه؛ ولهذا قال أصحاب النار: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] ، وقال عن المنافقين: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14] ، ومن فعل ما يعلم أنه يضره؛ فمثل هذا ما له عقل، فكما أن الخوف من الله يستلزم العلم به، فالعلم به يستلزم خشيته، وخشيته تستلزم طاعته، فالخائف من الله ممتثل لأوامره مجتنب لنواهيه، وهذا هو الذي قصدنا بيانه أولا. ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى: 9: 12] فأخبرَ أن من يخشاه يتذكر، والتذكر هنا مستلزم لعبادته، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} [غافر: 13] ، وقال: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} [ق: 8] ؛ ولهذا قالوا في قوله: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} : سيتعظ بالقرآن من يخشى الله، وفي قوله: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} : إنما يتعظ من يرجع إلى الطاعة. وهذا لأن التذكر التام يستلزم التأثر بما تذكره، فإن تذكر محبوباً طلبه، وإن تذكر مرهوباً هرب منه، ومنه قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] ، وقال سبحانه: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ} [يس: 11] ، فنفى الإنذار عن غير هؤلاء مع قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ، فأَثْبَت لهم الإنذار من وجه، ونفاه عنهم من وجه؛ فإن الإنذار هو الإعلام بالمخوف، فالإنذار مثل التعليم والتخويف، فمن عَلَّمْتَه فتعلَّم فقد تم تعليمه، وآخر يقول: علَّمته فلم يتعلم. وكذلك من خوَّفته

فخاف، فهذا هو الذي تم تخويفه. وأما من خُوِّف فما خاف، فلم يتم تخويفه. وكذلك من هديته فاهتدى، ثم هداه، ومنه قوله تعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ، ومن هديته فلم يهتد كما قال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] فَلم يتم هداه، كما تقول: قطعته فانقطع، وقطعته فما انقطع. فالمؤثر التام يستلزم أثره، فمتى لم يحصل أثره لم يكن تاماً، والفعل إذا صادف محلاً قابلاً تم، وإلا لم يتم. والعلم بالمحبوب يورث طلبه، والعلم بالمكروه يورث تركه؛ ولهذا يسمى هذا العلم: الداعي، ويقال: الداعي مع القدرة يستلزم وجود المقدور، وهو العلم بالمطلوب المستلزم لإرادة المعلوم المراد، وهذا كله إنما يحصل مع صحة الفطرة وسلامتها، وأما مع فسادها، فقد يحس الإنسان باللذيذ فلا يجد له لذة بل يؤلمه، وكذلك يلتذ بالمؤلم لفساد الفطرة، والفساد يتناول القوة العلمية والقوة العملية جميعاً، كالممرور الذي يجد العسل مراً، فإنه فسد نفس إحساسه حتى كان يحس به على خلاف ما هو عليه للمرة التي مازجته، وكذلك من فسد باطنه، قال تعالى {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 109، 110] . وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] ، وقال: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ

اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155] ، وقال في الآية الأخرى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 88] . و [الغلف] جمع أغلف، وهو ذو الغلاف الذي في غلاف مثل الأقلف، كأنهم جعلوا المانع خلقة، أي خلقت القلوب وعليها أغطية، فقال الله تعالى: {بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ} و {طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} ، وقال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} [محمد: 16] . وكذلك قالوا: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ} [هود: 91] ، قال: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23] أي: لأفهمهم ما سمعوه، ثم قال: ولو أفهمهم مع هذه الحال التي هم عليها، {لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] ، فقد فسدت فطرتهم فلم يفهموا، ولو فهموا لم يعملوا، فنفى عنهم صحة القوة العلمية، وصحة القوة العملية، وقال: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44] ، وقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] ، وقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] ، وقال عن المنافقين: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] . ومن الناس من يقول: لما لم ينتفعوا بالسمع والبصر والنطق، جعلوا صماً بكماً عمياً؛ أو لما أعرضوا عن السمع والبصر والنطق، صاروا كالصُّمِّ العُْمي البُكْم، وليس كذلك، بل نفس قلوبهم عميت وصمت وبكمت، كما قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] ، والقلب هو الملك، والأعضاء جنوده، وإذا صلح صلح سائر الجسد، وإذا فسد فسد سائر الجسد، فيبقى يسمع بالأذن الصوت كما تسمع البهائم، والمعنى: لا يفقهه، وإن فقه بعض الفقه لم يفقه فقهًا تاماً، فإن الفقه التام يستلزم تأثيره في القلب محبة المحبوب، وبغض المكروه، فمتى لم يحصل هذا لم يكن التصور التام حاصلاً فجاز نفيه؛ لأن ما لم يتم ينفى، كقوله للذي أساء في صلاته: " صَلِّ فإنك لم تُصَلّ "، فنفى الإيمان حيث نفى من هذا الباب.

وقد جمع الله بين وصفهم بوجل القلب إذا ذكر، وبزيادة الإيمان إذا سمعوا آياته. قال الضحاك: زادتهم يقينا. وقال الربيع بن أنس: خشية. وعن ابن عباس: تصديقاً. وهكذا قد ذكر الله هذين الأصلين في مواضع، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16] والخشوع يتضمن معنيين: أحدهما: التواضع والذل. والثاني: السكون والطمأنينة، وذلك مستلزم للين القلب المنافي للقسوة، فخشوع القلب يتضمن عبوديته لله وطمأنينته أيضاً؛ ولهذا كان الخشوع في الصلاة يتضمن هذا، وهذا؛ التواضع والسكون. وعن ابن عباس في قوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] قال: مخبتون أذلاء. وعن الحسن وقتادة: خائفون. وعن مقاتل: متواضعون. وعن علِيّ: الخشوع في القلب، وأن تلِين للمرء المسلم كنفك، ولا تلتفت يمينا ولا شمالا. وقال مجاهد: غَضُّ البصر وخَفْض الْجنَاح، وكان الرجل من العلماء إذا قام إلى الصلاة يهاب الرحمن أن يشد بصره، أو أن يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا. وعن عمرو بن دينار: ليس الخشوع الركوع والسجود، ولكنه السكون وحب حسن الهيئة في الصلاة. وعن ابن سِيرِين وغيره: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء، وينظرون يمينًا وشمالاً حتى نزلت هذه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} الآية [المؤمنون: 1، 2] ، فجعلوا بعد ذلك أبصارهم حيث يسجدون، وما رؤي أحد منهم بعد ذلك ينظر إلا إلى

الأرض. وعن عطاء: هو ألا تعبث بشيء من جسدك وأنت في الصلاة. وأبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال: " لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ". ولفظ الخشوع إن شاء الله يبسط في موضع آخر. وخشوع الجسد تَبَعُ لخشوع القلب، إذا لم يكن الرجل مرائيا يظهر ما ليس في قلبه، كما روي: " تَعَوَّذُوا بالله من خشوع النفاق "، وهو أن يرى الجسد خاشعاً والقلب خالياً لاهياً، فهو سبحانه استبطأ المؤمنين بقوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] ، فدعاهم إلى خشوع القلب لذكره وما نزل من كتابه، ونهاهم أن يكونوا كالذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم،

وهؤلاء هم الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً. وكذلك قال في الآية الأخرى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] ، والذين يخشون ربهم، هم الذين إذا ذكر الله تعالى وجلت قلوبهم. فإن قيل: فخشوع القلب لذكر الله وما نزل من الحق واجب. قيل: نعم، لكن الناس فيه على قسمين: مقتصد وسابق، فالسابقون يختصون بالمستحبات، والمقتصدون الأبرار: هم عموم المؤمنين المستحقين للجنة، ومن لم يكن من هؤلاء، ولا هؤلاء، فهو ظالم لنفسه، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم، إني أعوذ بك من عِلْمٍ لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونَفْسٍ لا تَشْبَعُ، ودعاء لا يُسْمَع ". وقد ذم الله قسوة القلوب المنافية للخشوع في غير موضع، فقال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] . قال الزجاج: قَسَتْ في اللغة: غَلُظَتْ ويَبِسَتْ وعَسِيَتْ. فقسوة القلب، ذهاب اللين والرحمة والخشوع منه. والقاسي والعاسي: الشديد الصلابة، وقال ابن قتيبة: قَسَتْ وعَسَتْ وعَتَتْ، أي يَبِسَتْ. وقوة القلب المحمودة غير قسوته المذمومة، فإنه ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف، وليناً من غير ضعف. وفي الأثر: القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إلى الله أصلبها وأرقها وأصفاها. وهذا كاليد فإنها قوية لينة، بخلاف ما يقسو من العقب، فإنه يابس لا لين فيه، وإن كان فيه قوة، وهو _ سبحانه _ ذكر وجل القلب من ذكره، ثم ذكر زيادة الإيمان عند تلاوة كتابه علماً وعملاً. ثم لابد من التوكل على الله فيما لا يقدر عليه، ومن طاعته فيما يقدر عليه، وأصل ذلك الصلاة والزكاة فمن قام بهذه الخمس كما أمر، لزم أن يأتي بسائر الواجبات. بل الصلاة نفسها إذا فعلها كما أمر، فهي تنهى عن الفحشاء

والمنكر، كما روي عن ابن مسعود، وابن عباس: أن في الصلاة منتهى ومزدجراً عن معاصي الله، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعداً. وقوله: لم يزدد إلابُعْداً، إذا كان ما ترك من الواجب منها أعظم مما فعله، أبعده ترك الواجب الأكثر من الله أكثر مما قربه فعل الواجب الأقل، وهذا كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يَرْقُبُ الشمس حتى إذا كانت بين قَرْنَي شيطان، قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً "، وقد قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 142] . وفي السنن عن عَمَّار، عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه قال: " إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها "، حتى قال: " إلا عشرها "، وعن ابن عباس قال: ليس لك من صلاتك إلا ما عَقَلْت منها. وهذا وإن لم يؤمر بإعادة الصلاة عند أكثر العلماء، لكن يؤمر بأن يأتي من التطوعات بما يجبر نقص فرضه. ومعلوم أن من حافظ على الصلوات بخشوعها الباطن، وأعمالها الظاهرة، وكان يخشى الله الخشية التي أمره بها، فإنه يأتي بالواجبات، ولا يأتي كبيرة، ومن أتى الكبائر _ مثل الزنا، أو السرقة، أو شرب الخمر، وغير ذلك _ فلابد أن يذهب ما في قلبه من تلك الخشية والخشوع والنور، وإن بقي أصل التصديق في قلبه. وهذا من الإيمان الذي ينزع منه عند فعل الكبيرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ". فإن المتقين كما وصفهم الله بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] ، فإذا طاف بقلوبهم طائف من الشيطان تذكروا، فيبصرون.

قال سعيد بن جُبَيْر: هو الرجل يغضب الغَضْبَة، فيذكر الله، فيَكْظِم الغَيْظ. وقال لَيْثُ عن مجاهد: هو الرجل يَهِمُّ بالذنب، فيذكر الله، فيدعه. والشهوة والغضب مبدأ السيئات، فإذا أبصر رجع، ثم قال: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202] أي: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي، ثم لا يقصرون. قال ابن عباس: لا الإنس تقصر عن السيئات. ولا الشياطين تمسك عنهم، فإذا لم يبصر بقي قلبه في غي، والشيطان يمده في غيه. وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب. فذلك النور والإبصار. وتلك الخشية والخوف، يخرج من قلبه. وهذا: كما أن الإنسان يغمض عينيه فلا يرى شيئًا، وإن لم يكن أعمى، فكذلك القلب بما يغشاه من رَيْن الذنوب لا يبصر الحق. وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر. وهكذا جاء في الآثار: قال أحمد بن حنبل في كتاب [الإيمان] : حدثنا يحيي، عن أشعث، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ينزع منه الإيمان، فإن تاب أعيد إليه ". وقال: حدثنا يحيي، عن عوف، قال: قال الحسن: يجانبه الإيمان ما دام كذلك، فإن راجع راجعه الإيمان. وقال أحمد: حدثنا معاوية عن أبي إسحاق، عن الأوزاعي، قال: وقد قلت للزهري حين ذكر هذا الحديث: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ": فإنهم يقولون: فإن لم يكن مؤمنا فما هو؟ قال: فأنكر ذلك. وكره مسألتي عنه. وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس؛ أنه قال لغلمانه: من أراد منكم الباءة زوجناه، لا يزني منكم زان إلا نزع الله منه نور الإيمان، فإن شاء أن يرده رده، وإن شاء أن يمنعه منعه. وقال أبو داود السِّجِسْتَاني: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد، حدثنا صفوان بن عمرو، عن عبد الله بن ربيعة الحضرمي؛ أنه أخبره عن أبي هريرة: أنه كان يقول: إنما الإيمان كثوب أحدكم، يلبسه مرة ويقلعه أخرى، وكذلك رواه

بإسناده عن عمر، وروى عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. وفي حديث عن أبي هريرة مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان فكان كالظُّلَّة، فإذَا انقطع رجع إليه الإيمان ". وهذا _ إن شاء الله _ يبسط في موضع آخر. فَصْل: وقد جاءت أحاديث تَنَازع الناس في صحتها، مثل قوله: " لا صلاة إلا بوُضُوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه "، فأما الأول: فهو كقوله: " لا صلاة إلا بطهور " وهذا متفق عليه بين المسلمين؛ فإن الطهور واجب في الصلاة، فإنما نفى الصلاة لانتفاء واجب فيها، وأما ذكر اسم الله _ تعالى _ على الوضوء، ففي وجوبه نزاع معروف، وأكثر العلماء لا يوجبونه، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، اختارها الخَرْقِي وأبو محمد وغيرهما. والثاني: يجب وهو قول طائفة من أهل العلم. وهو الرواية الأخرى عن أحمد، اختارها أبو بكر عبد العزيز، والقاضي أبو يعلى وأصحابه. وكذلك قوله: " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " رواه الدارقطني، فمن الناس من يضعفه مرفوعاً ويقول: هو من كلام علي _ رضي الله عنه _ ومنهم من يثبته كعبد الحق. وكذلك قوله: " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " قد رواه أهل السنن. وقيل: إن رفعه لم يصح، وإنما يصح موقوفاً على ابن عمر أو حفصة، فليس لأحد أن يثبت لفظا عن الرسول، مع أنه أريد به نفي الكمال المستحب، فإن صحت هذه الألفاظ دلت قطعاً على وجوب هذه الأمور، فإن لم

تصح فلا ينقض بها أصل مستقر من الكتاب والسنة، وليس لأحد أن يحمل كلام الله ورسوله على وفق مذهبه، إن لم يتبين من كلام الله ورسوله ما يدل على مراد الله ورسوله، وإلا فأقوال العلماء تابعة لقول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ليس قول الله ورسوله تابعاً لأقولهم. فإذا كان فى وجوب شيء نزاع بين العلماء، ولفظ الشارع قد اطرد في معنى، لم يجز أن ينقض الأصل المعروف من كلام الله ورسوله بقول فيه نزاع بين العلماء. ولكن من الناس من لا يعرف مذاهب أهل العلم، وقد نشأ على قول لا يعرف غيره فيظنه إجماعاً، كمن يظن أنه إذا ترك الإنسان الجماعة وصلى وحده برئت ذمته إجماعاً، وليس الأمر كذلك، بل للعلماء قولان معروفان في إجزاء هذه الصلاة، وفي مذهب أحمد فيها قولان؛ فطائفة من قدماء أصحابه _ حكاه عنهم القاضي أبو يعلى في شرح المذهب، ومن متأخريهم كابن عقيل وغيره _ يقولون: من صلى المكتوبة وحده من غير عذر يسوغ له ذلك، فهو كمن صلى الظهر يوم الجمعة، فإن أمكنه أن يؤديها في جماعة بعد ذلك فعليه ذلك، وإلا باء بإثمه، كما يبوء تارك الجمعة بإثمه، والتوبة معروضة. وهذا قول غير واحد من أهل العلم، وأكثر الآثار المروية عن السلف من الصحابة والتابعين تدل على هذا. وقد احتجوا بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر، فلا صلاة له "، وأجابوا عن حديث التفضيل بأنه في المعذور الذي تباح له الصلاة وحده، كما ثبت عنه أنه قال: " صلاة الرجل قاعداً على النصف من صلاة القائم، وصلاة المضطجع على النصف من صلاة القاعد "، والمراد به

المعذور، كما في الحديث: أنه خرج وقد أصابهم وَعْكُ، وهم يصلون قعوداً، فقال ذلك. ولم يجوز أحد من السلف صلاة التطوع مضطجعاً من غير عذر، ولا يعرف أن أحداً من السلف فعل ذلك، وجوازه وجه في مذهب الشافعي، وأحمد، ولا يعرف لصاحبه سلف صدق، مع أن هذه المسألة مما تعم بها البلوى؛ فلو كان يجوز لكل مسلم أن يصلي التطوع على جنبه، وهو صحيح لا مرض به، كما يجوز أن يصلي التطوع قاعداً وعلى الراحلة، لكان هذا مما قد بينه الرسول صلىالله عليه وسلم لأمته، وكان الصحابه تعلم ذلك، ثم مع قوة الداعي إلى الخير لابد أن يفعل ذلك بعضهم، فلما لم يفعله أحد منهم، دل على أنه لم يكن مشروعاً عندهم، وهذا مبسوط في موضعه. والمقصود هنا أنه ينبغي للمسلم أن يُقَدِّر قَدْرَ كلام الله ورسوله، بل ليس لأحد أن يحمل كلام أحد من الناس إلا على ما عرف أنه أراده، لا على ما يحتمله ذلك اللفظ في كلام كل أحد، فإن كثيراً من الناس يتأول النصوص المخالفة لقوله؛ يسلك مسلك من يجعل التأويل كأنه ذكر ما يحتمله اللفظ، وقصده به دفع ذلك المحتج عليه بذلك النص وهذا خطأ، بل جميع ما قاله الله ورسوله يجب الإيمان به، فليس لنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، وليس الاعتناء بمراده في أحد النصين دون الآخر بأولى من العكس، فإذا كان النص الذي وافقه يعتقد أنه اتبع فيه مراد الرسول، فكذلك النص الآخر الذي تأوله، فيكون أصل مقصوده معرفة ما أراده الرسول بكلامه، وهذا هو المقصود بكل ما يجوز من تفسير وتأويل عند من يكون اصطلاحه تغاير معناهما، وأما من يجعلهما بمعنى واحد، كما هو الغالب على اصطلاح المفسرين، فالتأويل عندهم هو التفسير. وأما التأويل في كلام الله ورسوله، فله معنى ثالث غير معناه في اصطلاح المفسرين، وغير معناه في اصطلاح متأخري الفقهاء والأصوليين؛ كما بسط في موضعه.

والمقصود هنا أن كل ما نفاه الله ورسوله من مسمى أسماء الأمور الواجبة، كاسم الإيمان، والإسلام، والدين، والصلاة، والصيام، والطهارة، والحج، وغير ذلك، فإنما يكون لترك واجب من ذلك المسمى، ومن هذا قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، فلما نفى الإيمان حتى توجد هذه الغاية، دل على أن هذه الغاية فرض على الناس، فمن تركها كان من أهل الوعيد، لم يكن قد أتى بالإيمان الواجب الذي وعد أهله بدخول الجنة بلا عذاب، فإن الله إنما وعد بذلك من فعل ما أمر به، وأما من فعل بعض الواجبات وترك بعضها، فهو معرض للوعيد. ومعلوم باتفاق المسلمين أنه يجب تحكيم الرسول في كل ما شَجَرَ بين الناس، في أمر دينهم ودنياهم، في أصول دينهم وفروعه، وعليهم كلهم إذا حكم بشيء، ألا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما حكم، ويسلموا تسليماً، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء: 60، 61] ، وقوله: {إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ} وقد أنزل الله الكتاب والحكمة وهي السنة، قَال تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ} [البقرة: 231] ، وقال تعالى: {وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] . والدعاء إلى ما أنزل الله يستلزم الدعاء إلى الرسول، والدعاء إلى الرسول يستلزم الدعاء إلى ما أنزله الله، وهذا مثل طاعة الله والرسول، فإنهما متلازمان، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله، ومن أطاع الله فقد أطاع الرسول.

وكذلك قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] فإنهما متلازمان؛ فكل من شَاقَّ الرسول من بعد ما تبين له الهدى، فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، وكل من اتبع غير سبيل المؤمنين فقد شاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، فإن كان يظن أنه متبع سبيل المؤمنين وهو مخطئ، فهو بمنزلة من ظن أنه متبع للرسول وهو مخطئ. وهذه الآية تدل على أن إجماع المؤمنين حجة؛ من جهة أن مخالفتهممستلزمة لمخالفة الرسول، وأن كل ما أجمعوا عليه فلابد أن يكون فيه نص عن الرسول، فكل مسألة يقطع فيها بالإجماع وبانتفاء المنازع من المؤمنين، فإنها مما بين الله فيه الهدى، ومخالف مثل هذا الإجماع يكفر، كما يكفر مخالف النص البين. وأما إذا كان يظن الإجماع ولا يقطع به، فهنا قد لا يقطع _ أيضًا _ بأنها مما تبين فيه الهدى من جهة الرسول، ومخالف مثل هذا الإجماع قد لا يكفر، بل قد يكون ظن الإجماع خطأ، والصواب في خلاف هذا القول، وهذا هو فصل الخطاب فيما يكفر به من مخالفة الإجماع وما لا يكفر. والإجماع هل هو قطعي الدلالة أو ظني الدلالة؟ فإن من الناس من يطلق الإثبات بهذا أو هذا، ومنهم من يطلق النفي لهذا ولهذا، والصواب التفصيل بين ما يقطع به من الإجماع، ويعلم يقيناً أنه ليس فيه منازع من المؤمنين أصلاً، فهذا يجب القطع بأنه حق، وهذا لابد أن يكون مما بين فيه الرسول الهدى، كما قد بسط هذا في موضع آخر. ومن جهة أنه إذا وصف الواجب بصفات متلازمة، دل على أن كل صفة من تلك الصفات متى ظهرت وجب اتباعها، وهذا مثل [الصراط المستقيم] الذي أمرنا الله بسؤال هدايته، فإنه قد وصف بأنه الإسلام، ووصف بأنه اتباع القرآن، ووصف بأنه طاعة الله ورسوله، ووصف بأنه طريق العبودية، ومعلوم

أن كل اسم من هذه الأسماء يجب اتباع مسماه، ومسماها كلها واحد وإن تنوعت صفاته؛ فأي صفة ظهرت وجب اتباع مدلولها، فإنه مدلول الأخرى. وكذلك أسماء الله _ تعالى _ وأسماء كتابه، وأسماء رسوله، هي مثل أسماء دينه. وكذلك قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران: 103] ، قيل: حبل الله هو دين الإسلام. وقيل: القرآن. وقيل: عهده. وقيل: طاعته وأمره. وقيل: جماعة المسلمين، وكل هذا حق. وكذلك إذا قلنا: الكتاب، والسنة، والإجماع، فمدلول الثلاثة واحد، فإن كل ما في الكتاب فالرسول موافق له، والأمة مجمعة عليه من حيث الجملة، فليس في المؤمنين إلا من يوجب اتباع الكتاب، وكذلك كل ما سنه الرسول صلىالله عليه وسلم فالقرآن يأمر باتباعه فيه، والمؤمنون مجمعون على ذلك، وكذلك كل ما أجمع عليه المسلمون، فإنه لا يكون إلا حقاً موافقاً لما في الكتاب والسنة، لكن المسلمون يتلقون دينهم كله عن الرسول، وأما الرسول فينزل عليه وحي القرآن، ووحي آخر هو الحكمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: " ألا إني أوتِيتُ الكتابَ وِمْثَله معه ". وقال حسان بن عطية: كان جبريل ينزل على النبي صلىالله عليه وسلم بالسنة فيعلِّمه إياها كما يعلمه القرآن. فليس كل ما جاءت به السنة يجب أن يكون مفسراً في القرآن، بخلاف ما يقوله أهل الإجماع، فإنه لابد أن يدل عليه الكتاب والسنة، فإن الرسول هو الواسطة بينهم وبين الله في أمره ونهيه، وتحليله وتحريمه، والمقصود ذكر الإيمان. ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يُبْغِض الأنصارَ رجل يؤمن بالله واليوم

الآخر ". وقوله: " آية الإيمان حُبُّ الأنصار، وآية النفاق بُغْضُ الأنصار ". فإن من علم ما قامت به الأنصار من نصر الله ورسوله من أول الأمر. وكان محباً لله ولرسوله، أحبهم قطعاً، فيكون حبه لهم علامة الإيمان الذي في قلبه، ومن أبغضهم لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجبه الله عليه. وكذلك من لم يكن في قلبه بغض ما يبغضه الله ورسوله من المنكر الذي حرمه الله ورسوله من الكفر والفسوق والعصيان، لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجبه الله عليه، فإن لم يكن مبغضاً لشيء من المحرمات أصلا، لم يكن معه إيمان أصلاً _ كما سنبينه إن شاء الله تعالى _ وكذلك من لا يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه، لم يكن معه ما أوجبه الله عليه من الإيمان، فحيث نفى الله الإيمان عن شخص، فلا يكون إلا لنقص ما يجب عليه من الإيمان، ويكون من المعرضين للوعيد، ليس من المستحقين للوعد المطلق. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " من غَشَّنا فليس مِنَّا، ومن حمل علينا السلاح فليس مِنَّا "، كله من هذا الباب، لا يقوله إلا لمن ترك ما أوجب الله عليه، أو فعل ما حرمه الله ورسوله، فيكون قد ترك من الإيمان المفروض عليه ما ينفي عنه الاسم لأجله، فلا يكون من المؤمنين المستحقين للوعد، السالمين من الوعيد. وكذلك قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 47: 51] . فهذا حكم اسم الإيمان إذا أطلق في كلام الله

ورسوله، فإنه يتناول فعل الواجبات، وترك المحرمات، ومن نفى الله ورسوله عنه الإيمان، فلابد أن يكون قد ترك واجباً أو فعل محرماً، فلا يدخل في الاسم الذي يستحق أهله الوعد دون الوعيد، بل يكون من أهل الوعيد. وكذلك قوله تعالى: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] قال محمد بن نصر المروزي: لما كانت المعاصي بعضها كفر، وبعضها ليس بكفر، فرق بينها، فجعلها ثلاثة أنواع: نوع منها كفر، ونوع منها فسوق وليس بكفر، ونوع عصيان وليس بكفر ولا فسوق، وأخبر أنه كَرَّهها كلها إلى المؤمنين، ولما كانت الطاعات كلها داخلة في الإيمان، وليس فيها شيء خارج عنه، لم يفرق بينها فيقول: حبب إليكم الإيمان والفرائض وسائر الطاعات؛ بل أجمل ذلك فقال: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ} . فدخل في ذلك جميع الطاعات؛ لأنه قد حبب إلى المؤمنين الصلاة والزكاة، وسائر الطاعات حب تديّن؛ لأن الله أخبر أنه حبب ذلك إليهم، وزينه في قلوبهم؛ لقوله: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ} ويكرهون جميع المعاصي؛ الكفر منها والفسوق، وسائر المعاصي، كراهة تدين؛ لأن الله أخبر أنه كره ذلك إليهم. ومن ذلك قول رسول الله صلىالله عليه وسلم: " من سَرَّتْه حَسَنتُه، وساءته سيئته، فهو مؤمن "؛لأن الله حبب إلى المؤمنين الحسنات، وكره إليهم السيئات. قلت: وتكريهه جميع المعاصي إليهم، يستلزم حب جميع الطاعات؛ لأن ترك الطاعات معصية؛ ولأنه لا يترك المعاصي كلها إن لم يتلبس بضدها، فيكون محباً لضدها وهو الطاعة، إذ القلب لابد له من إرادة، فإذا كان يكره الشر كله، فلابد أن يريد الخير. والمباح بالنية الحسنة يكون خيراً، وبالنية السيئة يكون شراً،

ولا يكون فعل اختياري إلا بإرادة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدق الأسماء حارث وهمَّام، وأقبحها: حَرْبٌ وَمُرَّة ". وقوله: " أصدق الأسماء حارث وهمام "؛ لأن كل إنسان همام حارث، والحارث الكاسب العامل، والهمام الكثير الهم _ وهو مبدأ الإرادة _ وهو حيوان، وكل حيوان حساس متحرك بالإرادة، فإذا فعل شيئًا من المباحات؛ فلابد له من غاية ينتهي إليها قصده، وكل مقصود إما أن يقصد لنفسه، وإما أن يقصد لغيره، فإن كان منتهى مقصوده ومراده عبادة الله وحده لا شريك له، وهو إلهه الذي يعبده لا يعبد شيئًا سواه، وهو أحب إليه من كل ما سواه، فإن إرادته تنتهي إلى إرادته وجه الله، فيثاب على مباحاته التي يقصد الاستعانة بها على الطاعة، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " نَفَقَة الرجل على أهله يحتسبها صدقة ". وفي الصحيحين عنه أنه قال لسعد بن أبي وقاص لما مرض بمكة وعاده: " إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللُّقْمَة ترفعها إلى في امرأتك ". وقال معاذ بن جبل لأبي موسى: إني أحتسب نَوْمَتِي كما أحتسب قَوْمَتِي. وفي الأثر: نوم العالِم تسبيحٌ. وإن كان أصل مقصوده عبادة غير الله، لم تكن الطيبات مباحة له؛ فإن الله أباحها للمؤمنين من عباده، بل الكفار وأهل الجرائم والذنوب وأهل الشهوات، يحاسبون يوم القيامة على النعم التي تنعموا بها، فلم يذكروه ولم يعبدوه بها، ويقال لهم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 20] ، وقال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] أي: عن شكره، والكافر لم يشكر على النعيم الذي أنعم الله عليه به فيعاقبه على ذلك، والله إنما أباحها

للمؤمنين، وأمرهم معها بالشكر، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ} [البقرة: 172] . وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكْلَةَ فيحمده عليها، ويشرب الشَّرْبَةَ فيحمده عليها ". وفي سنن ابن ماجه وغيره: " الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ". وكذلك قال للرسل: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] ، وقال تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] ، وقال الخليل: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} قال الله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126] . فالخليل إنما دعا بالطيبات للمؤمنين خاصة، والله إنما أباح بهيمة الأنعام لمن حرم ما حرمه الله من الصيد وهو محرم، والمؤمنون أمرهم أن يأكلوا من الطيبات ويشكروه ولهذا ميز _ سبحانه وتعالى _ بين خطاب الناس مطلقاً وخطاب المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 168: 170] ، فإنما أذن للناس أن يأكلوا مما في الأرض بشرطين: أن يكون طيباً، وأن يكون حلالاً، ثم قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} [البقرة: 172، 173] . فأذن للمؤمنين في الأكل من الطيبات ولم يشترط الحل،

وأخبر أنه لم يحرم عليهم إلا ما ذكره، فما سواه لم يكن محرمًا على المؤمنين، ومع هذا فلم يكن أحله بخطابه، بل كان عفواً، كما في الحديث عن سلمان موقوفًا ومرفوعاً: " الحلال ما أحله الله في كتابه، والحرام ما حرمه الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفى عنه ". وفي حديث أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحَدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ". وكذلك قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145] . نفى التحريم عن غير المذكور، فيكون الباقي مسكوتًا عن تحريمه عفواً، والتحليل إنما يكون بخطاب؛ ولهذا قال في سورة المائدة التي أنزلت بعد هذا: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} إلى قوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ} [المائدة: 4، 5] ، ففي ذلك اليوم أحل لهم الطيبات، وقبل هذا لم يكن محرمًا عليهم إلا ما استثناه.

وقد حرم النبي صلىالله عليه وسلم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مِخْلَب من الطير، ولم يكن هذا نسخاً للكتاب؛ لأن الكتاب لم يحل ذلك، ولكن سكت عن تحريمه، فكان تحريمه ابتداء شرع. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي من طرق من حديث أبي رافع، وأبي ثعلبة، وأبي هريرة، وغيرهم: " لا أَلْفيَنَّ أحدكم متكئا على أريكته؛ يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول: بيننا وبينكم هذا القرآن، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه ". وفي لفظ: " ألا وإنه مثل القرآن أو أكثر، ألا وإني حرمت كل ذي ناب من السباع ". فبين أنه أنزل عليه وحي آخر وهو الحكمة غير الكتاب، وأن الله حرم عليه في هذا الوحي ما أخبر بتحريمه ولم يكن ذلك نسخًا للكتاب؛ فإن الكتاب لم يحل هذه قط، إنما أحل الطيبات، وهذه ليست من الطيبات، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] . فلم تدخل هذه الآية في العموم؛ لكنه لم يكن حرمها؛ فكانت معفوا عن تحريمها، لا مأذونا في أكلها. وأما الكفار، فلم يأذن الله لهم في أكل شيء، ولا أحل لهم شيئًا، ولا عفا لهم عن شيء يأكلونه، بل قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً} [البقرة: 168] . فشرط فيما يأكلونه أن يكون حلالاً، وهو المأذون فيه من جهة الله ورسوله، والله لم يأذن في الأكل إلا للمؤمن به؛ فلم يأذن لهم في أكل شيء إلا إذا آمنوا؛ ولهذا لم تكن أموالهم مملوكة لهم ملكاً شرعياً؛ لأن الملك الشرعي هو المقدرة على التصرف الذي أباحه الشارع صلىالله عليه وسلم، والشارع لم يبح لهم تصرفاً في الأموال، إلا بشرط الإيمان، فكانت أموالهم على الإباحة، فإذا قهر طائفة منهم طائفة قهراً يستحلونه في دينهم، وأخذوها منهم، صار هؤلاء فيها كما كان أولئك. والمسلمون إذا استولوا عليها، فغنموها، ملكوها شرعاً؛ لأن الله أباح لهم الغنائم، ولم يبحها لغيرهم. ويجوز لهم أن يعاملوا الكفار فيما أخذه بعضهم من بعض بالقهر الذي يستحلونه في دينهم، ويجوز أن يشتري من بعضهم ما سباه من غيره؛ لأن هذا

بمنزلة استيلائه على المباحات، ولهذا سمى الله ما عاد من أموالهم إلى المسلمين [فيئًا] ؛ لأن الله أفاءه إلى مستحقه؛ أي: رده إلى المؤمنين به الذين يعبدونه، ويستعينون برزقه على عبادته؛ فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه؛ وإنما خلق الرزق لهم ليستعينوا به على عبادته. ولفظ الفيء قد يتناول الغنيمة، كقول النبي صلىالله عليه وسلم في غنائم حنين: " ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم "، لكنه لما قال تعالى: {وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] ، صار لفظ [الفيء] إذا أطلق في عرف الفقهاء، فهو: ما أخذ من مال الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب، والإيجاف نوع من التحريك. وأما إذا فعل المؤمن ما أبيح له قاصداً للعدول عن الحرام إلى الحلال لحاجته إليه، فإنه يثاب على ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " وفي بُضْع أحدكم صدقة ". قالوا: يا رسول الله، يأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال: " أرأيتم لو وضعها في الحرام كان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ". وهذا كقوله في حديث ابن عمر عن النبي صلىالله عليه وسلم قال: " إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته ". رواه أحمد، وابن خزيمة في صحيحه وغيرهما. فأخبر أن الله يحب إتيان رخصه، كما يكره فعل معصيته. وبعض الفقهاء يرويه: " كما يحب أن تؤتى عزائمه ". وليس هذا لفظ الحديث؛ وذلك لأن الرخص إنما أباحها الله لحاجة العباد إليها، والمؤمنون يستعينون بها على عبادته؛ فهو يحب الأخذ بها، لأن الكريم يحب قبول إحسانه

وفضله؛ كما قال في حديث القصر: " صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته ". ولأنه بها تتم عبادته وطاعته، وما لا يحتاج إليه الإنسان من قول وعمل، بل يفعله عبثًا، فهذا عليه لا له، كما في الحديث: " كل كلام ابن ادم عليه لا له، إلا أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر أو ذكر اللّّه ". وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو لِيَصْمُت ". فأمر المؤمن بأحد أمرين: إما قول الخير أو الصُّمَات؛ ولهذا كان قول الخير خيراً من السكوت عنه، والسكوت عن الشر خيراً من قوله؛ ولهذا قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] . وقد اختلف أهل التفسير: هل يكتب جميع أقواله؟ فقال مجاهد وغيره: يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه، وقال عكرمة لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر. والقرآن يدل على أنهما يكتبان الجميع؛ فإنه قال: {مّا يّلًفٌظٍ مٌن قّوًل} نكرة في الشرط مؤكدة بحرف [من] ؛ فهذا يعم كل قوله. وأيضاً، فكونه يؤجر على قول معين أو يؤزر، يحتاج إلى أن يعرف الكاتب ما أمر به وما نهى عنه، فلابد في إثبات معرفة الكاتب به إلى نقل. وأيضاً فهو مأمور، إما بقول الخير، وإما بالصُّمات. فإذا عدل عما أمر به من الصُّمَات إلى فضول القول الذي ليس بخير، كان هذا عليه، فإنه يكون مكروهاً، والمكروه ينقصه؛ ولهذا قال النبي صلىالله عليه وسلم: " من حُسْنِ إسلام المرء تَرْكُه ما لا يَعنِيه ".

فإذا خاض فيما لا يعنيه، نقص من حسن إسلامه، فكان هذا عليه، إذ ليس من شرط ما هو عليه، أن يكونه مستحقاً لعذاب جهنم وغضب الله، بل نقص قدره ودرجته عليه. ولهذا قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] . فما يعمل أحد إلا عليه أو له، فإن كان مما أمر به، كان له. وإلا كان عليه ولو أنه ينقص قدره. والنفس طبعها الحركة لا تسكن قط، لكن قد عفا الله عما حدث به المؤمنون أنفسهم ما لم يتكلموا به أو يعملوا به، فإذا عملوا به دخل في الأمر والنهي. فإذا كان الله قد كره إلى المؤمنين جميع المعاصي، وهو قد حبب إليهم الإيمان الذي يقتضي جميع الطاعات، إذا لم يعارضه ضد باتفاق الناس، فإن المرجئة لا تنازع في أن الإيمان الذي في القلب يدعو إلى فعل الطاعة ويقتضي ذلك، والطاعة من ثمراته ونتائجه، لكنها تنازع، هل يستلزم الطاعة؟ فإنه وإن كان يدعو إلى الطاعة، فله معارض من النفس والشيطان، فإذا كان قد كره إلى المؤمنين المعارض، كان المقتضى للطاعة سالماً عن هذا المعارض. وأيضًا، فإذا كرهوا جميع السيئات لم يبق إلا حسنات أو مباحات، والمباحات لم تبح إلا لأهل الإيمان الذين يستعينون بها على الطاعات، وإلا فالله لم يبح قط لأحد شيئًا أن يستعين به على كفر، ولا فسوق، ولا عصيان؛ ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم عاصر الخمر ومعتصرها، كما لعن شاربها. والعاصر يعصر عنبًا يصير عصيراً يمكن أن ينتفع به في المباح، لكن لما علم أن قصد العاصر أن يجعلها خمراً، لم يكن له أن يعينه بما جنسه مباح على معصية الله، بل لعنه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ لأن الله لم يبح إعانة العاصي على معصيته، ولا أباح له ما يستعين به في المعصية. فلا تكون مباحات لهم إلا إذا استعانوا بها على الطاعات. فيلزم من انتفاء السيئات أنهم لا يفعلون إلا الحسنات؛ ولهذا كان من ترك المعاصي كلها، فلابد أن يشتغل بطاعة الله. وفي الحديث الصحيح: " كُلُّ الناس يَغْدُوا، فبائع نَفْسَه فمُعْتِقُهَا أو مُوبِقُهَا " فالمؤمن لابد أن يحب الحسنات، ولابد أن يبغض

السيئات، ولابد أن يسره فعل الحسنة، ويسوؤه فعل السيئة، ومتى قدر أن في بعض الأمور ليس كذلك كان ناقص الإيمان، والمؤمن قد تصدر منه السيئة فيتوب منها، أو يأتي بحسنات تمحوها، أو يبتلى ببلاء يكفرها عنه ولكن لابد أن يكون كارهاً لها؛ فإن الله أخبر أنه حَبَّبَ إلى المؤمنين الإيمان، وكَرَّهَ إليهم الكفر والفسوق والعصيان، فمن لم يكره الثلاثة لم يكن منهم. ولكن محمد ابن نصر يقول: الفاسق يكرهها تديناً، فيقال: إن أريد بذلك أنه يعتقد أن دينه حرمها، وهو يحب دينه، وهذه من جملته، فهو يكرهها. وإن كان يحب دينه مجملاً، وليس في قلبه كراهة لها، كان قد عدم من الإيمان بقدر ذلك، كما في الحديث الصحيح: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ". وفي الحديث الآخر الذي في الصحيح أيضاً _ صحيح مسلم _: " فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حَبَّة من خَرْدَل ". فعلم أن القلب إذا لم يكن فيه كراهة ما يكرهه الله، لم يكن فيه من الإيمان الذي يستحق به الثواب. وقوله: [من الإيمان] أي: من هذا الإيمان، وهو الإيمان المطلق، أي: ليس وراء هذه الثلاث ما هو من الإيمان، ولا قدر حبة خردل. والمعنى: هذا آخر حدود الإيمان، ما بقى بعد هذا من الإيمان شيء،

ليس مراده أنه من لم يفعل ذلك لم يبق معه من الإيمان شيء، بل لفظ الحديث إنما يدل على المعنى الأول. فصْل ومن هذا الباب لفظ [الكفر] و [النفاق] ، فالكفر إذا ذكر مفرداً في وعيد الآخرة، دخل فيه المنافقون، كقوله: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5] ، وقوله: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: 136] ، وقوله: {لا يَصْلَاهَا إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 15، 16] ، وقوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاًَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 8، 9] ، وقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 71، 72] ، وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68] ، وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 124: 127] ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6] ، وأمثال هذه النصوص كثير في القرآن. فهذه كلها يدخل فيها المنافقون الذين هم في الباطن كفار ليس معهم من الإيمان شيء، كما يدخل فيها الكفار المظهرون للكفر، بل المنافقون في الدرك

الأسفل من النار، كما أخبر الله بذلك في كتابه. ثم قد يقرن الكفر بالنفاق في مواضع، ففي أول البقرة ذكر أربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في صفة المنافقين، فقال تعالى: {إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140] ، وقال: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} إلى قوله: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 13: 15] ، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} في سورتين [التوبة: 73، التحريم: 9] ، وقال: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [الحشر: 11] . وكذلك لفظ [المشركين] قد يقرن بأهل الكتاب فقط، وقد يقرن بالملل الخمس؛ كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17] والأول كقوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1] ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6] ، وقوله تعالى: {وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ} [آل عمران: 20] . وليس أحد بعد مبعث محمد صلىالله عليه وسلم إلا من الذين أوتوا الكتاب أو الأميين، وكل أمة لم تكن من الذين أوتوا الكتاب فهم من الأميين؛ كالأميين من العرب ومن الخزر والصقالبة والهند والسودان وغيرهم من الأمم الذين لا كتاب لهم، فهؤلاء كلهم أميون، والرسول مبعوث إليهم كما بعث إلى الأميين من العرب.

وقوله: {وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ} وهو إنما يخاطب الموجودين في زمانه بعد النسخ والتبديل يدل على أن من دان بدين اليهود والنصارى، فهو من الذين أوتوا الكتاب، لا يختص هذا اللفظ بمن كانوا متمسكين به قبل النسخ والتبديل، ولا فرق بين أولادهم وأولاد غيرهم، فإن أولادهم إذا كانوا بعد النسخ والتبديل ممن أوتوا الكتاب، فكذلك غيرهم إذا كانوا كلهم كفاراً، وقد جعلهم الذين أوتوا الكتاب بقوله: {وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ} [آل عمران: 20] ، وهو لا يخاطب بذلك إلا من بلغته رسالته، لا من مات؛ فدل ذلك على أن قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} [المائدة: 5] يتناول هؤلاء كلهم، كما هو مذهب الجمهور من السلف والخلف، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وهو المنصوص عن أحمد في عامة أجوبته، لم يختلف كلامه إلا في نصارى بني تغلب، وآخر الروايتين عنه: أنهم تباح نساؤهم وذبائحهم، كما هو قول جمهور الصحابة. وقوله في الرواية الأخرى: لا تباح متابعة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يكن لأجل النسب، بل لكونهم لم يدخلوا في دين أهل الكتاب إلا فيما يشتهونه من شرب الخمر ونحوه، ولكن بعض التابعين ظن أن ذلك لأجل النسب، كما نقل عن عطاء، وقال به الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد، وفَرَّعُوا على ذلك فروعاً، كمن كان أحد أبويه كتابياً والآخر ليس بكتابي ونحو ذلك، حتى لا يوجد في طائفة من كتب أصحاب أحمد إلا هذا القول، وهو خطأ على مذهبه، مخالف لنصوصه، لم يعلق الحكم بالنسب في مثل هذا البتة كما قد بسط في موضعه. ولفظ [المشركين] يذكر مفرداً في مثل قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ، وهل يتناول أهل الكتاب؟ فيه قولان مشهوران للسلف والخلف. والذين قالوا: بأنها تعم، منهم من قال: هي محكمة، كابن عمر والجمهور الذين يبيحون نكاح الكتابيات؛ كما ذكره الله في آية المائدة، وهي متأخرة عن هذه. ومنهم من يقول: نسخ منها تحريم نكاح الكتابيات. ومنهم من يقول: بل هو مخصوص لم يرد باللفظ العام، وقد أنزل الله تعالى بعد صلح

الحُدَيْبِيَةِ قوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] ، وهذا قد يقال: إنما نهى عن التمسك بالعِصْمَة من كان متزوجاً كافرة، ولم يكونوا حينئذ متزوجين إلا بمشركة وثنية، فلم يدخل في ذلك الكتابيات. فصل: وكذلك لفظ [الصالح] و [الشهيد] و [الصديق] ، يذكر مفرداً؛ فيتناول النبيين، قال تعالى في حق الخليل: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27] ، وقال: {وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل: 122] ، وقال الخليل: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 83] ، وقال يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] ، وقال سليمان: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق على صحته لما كانوا يقولون في آخر صلاتهم: "السلام على الله قبل عباده، السلام على فلان فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: " إن الله هو السلام، فإذا قعد أحدكم في الصلاة، فليقل: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإذا قالها أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض " الحديث. وقد يذكر [الصالح] مع غيره، كقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] . قال الزجاج وغيره: الصالح: القائم بحقوق الله وحقوق عباده. ولفظ [الصالح] خلاف الفاسد؛ فإذا أطلق فهو الذي أصلح جميع أمره، فلم يكن فيه شيء من الفساد، فاستوت سريرته وعلانيته، وأقواله وأعماله على ما يرضى ربه، وهذا يتناول النبيين ومن دونهم. ولفظ [الصديق] قد جعل هنا معطوفًا على النبيين، وقد وصف به النبيين في

مثل قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا} [مريم: 41] ، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا} [مريم: 56] . وكذلك [الشهيد] ، قد جعل هنا قرين الصديق والصالح، وقد قال: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر: 69] . ولما قيدت الشهادة على الناس وصفت به الأمة كلها في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ، فهذه شهادة مقيدة بالشهادة على الناس، كالشهادة المذكورة في قوله: {لَوْلا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} [النور: 13] ، وقوله: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ} [البقرة: 282] . وليست هذه الشهادة المطلقة في الآيتين، بل ذلك كقوله: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} [آل عمران: 140] . فصل وكذلك لفظ [المعصية] و [الفسوق] و [الكفر] ، فإذا أطلقت المعصية لله ورسوله دخل فيها الكفر والفسوق، كقوله: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] ، وقال تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود: 59] ، فأطلق معصيتهم للرسل بأنهم عصوا هودًا معصية تكذيب لجنس الرسل، فكانت المعصية لجنس الرسل كمعصية من قال: {فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} [الملك: 9] ، ومعصية من كذب وتولى، قال تعالى: {لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 15، 16] ، أي: كذب بالخبر، وتولي عن طاعة الأمر، وإنما على الخلق أن يصدقوا الرسل فيما أخبروا، ويطيعوهم فيما أمروا. وكذلك قال في فرعون: {فَكَذَّبَ وَعَصَى} [النازعات: 21] ، وقال عن جنس الكافر: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة: 31، 32] . فالتكذيب للخبر، والتولي عن الأمر. وإنما الإيمان

تصديق الرسل فيما أخبروا، وطاعتهم فيما أمروا، ومنه قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15، 16] . ولفظ [التولي] بمعنى التولي عن الطاعة مذكور في مواضع من القرآن، كقوله: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 16] ، وذمه في غير موضع من القرآن من تولى، دليل على وجوب طاعة الله ورسوله وأن الأمر المطلق يقتضى وجوب الطاعة، وذم المتولى عن الطاعة؛ كما علق الذم بمطلق المعصية في مثل قوله: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} . وقد قيل: إن [التأبيد] لم يذكر في القرآن إلا في وعيد الكفار؛ ولهذا قال: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] . وقال فيمن يجور في المواريث: {وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 14] . فهنا قيد المعصية بتعدي حدوده، فلم يذكرها مطلقة، وقال: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] ، فهي معصية خاصة، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152] ، فأخبر عن معصية واقعة معينة، وهي معصية الرماة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث أمرهم بلزوم ثغرهم، وإن رأوا المسلمين قد انتصروا، فعصى من عصى منهم هذا الأمر، وجعل أميرهم يأمرهم لما رأوا الكفار منهزمين، وأقبل من أقبل منهم على المغانم. وكذلك قوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] ، جعل ذلك ثلاث مراتب. وقد قال: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] ، فقيد المعصية؛ ولهذا فسرت بالنياحة، قاله ابن عباس، وروي ذلك مرفوعًا. وكذلك قال زيد بن أسلم: لا يدعن ويلاً، ولا يخدشن وجهًا، ولا ينشرن شعرًا، ولا يشققن ثوبًا، وقد قال بعضهم: هو جميع ما يأمرهم به الرسول من شرائع الإسلام وأدلته كما قاله أبو سليمان الدمشقي. ولفظ

الآية عام أنهن لا يعصينه في معروف. ومعصيته لا تكون إلا في معروف؛ فإنه لا يأمر بمنكر، لكن هذا كما قيل: فيه دلالة على أن طاعة أولي الأمر إنما تلزم في المعروف، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنما الطاعة في المعروف "، ونظير هذا قوله: {اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] ، وهو لا يدعو إلا إلى ذلك. والتقييد هنا لا مفهوم له؛ فإنه لا يقع دعاء لغير ذلك، ولا أمر بغير معروف، وهذا كقوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] ، فإنهن إذا لم يردن تحصنًا، امتنع الإكراه. ولكن في هذا بيان الوصف المناسب للحكم، ومنه قوله تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117] ، وقوله: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ} [البقرة: 61] . فالتقييد في جميع هذا للبيان والإيضاح، لا لإخراج في وصف آخر؛ ولهذا يقول من يقول من النحاة: الصفات في المعارف للتوضيح لا للتخصيص، وفي النكرات للتخصيص، يعني في المعارف التي لا تحتاج إلى تخصيص، كقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: 1، 2] ، وقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] ، وقوله: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 2، 3] . والصفات في النكرات إذا تميزت تكون للتوضيح أيضًا، ومع هذا فقد عطف المعصية على الكفر والفسوق في قوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] ، ومعلوم أن الفاسق عاص أيض فصل: ومن هذا الباب [ظلم النفس] فإنه إذا أطلق تناول جميع الذنوب، فإنها ظلم

العبد نفسه، قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَتَتْبِيبٍ} [هود: 100، 101] ، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] ، وقال في قتل النفس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16] ، وقالت بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] ، وقال آدم عليه السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] . ثم قد يقرن ببعض الذنوب، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 135] ، وقوله: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 110] . وأما لفظ [الظلم] المطلق، فيدخل فيه الكفر وسائر الذنوب، قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 22: 24] . قال عمر بن الخطاب: ونظراؤهم. وهذا ثابت عن عمر، وروي ذلك عنه مرفوعًا. وكذلك قال ابن عباس: وأشباههم. وكذلك قال قتادة والكلبي: كل من عمل بمثل عملهم؛ فأهل الخمر مع أهل الخمر، وأهل الزنا مع أهل الزنا. وعن الضحاك ومقاتل: قرناؤهم من الشياطين؛ كل كافر معه شيطانه في سلسلة، وهذا كقوله: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7] . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الفاجر مع الفاجر، والصالح مع الصالح. قال ابن عباس: وذلك حين يكون الناس أزواجًا ثلاثة. وقال الحسن وقتادة: ألحق كل امرئ بشيعته؛ اليهودي مع اليهود، والنصراني مع النصارى. وقال الربيع بن خثيم: يحشر المرء مع صاحب عمله، وهذا كما ثبت في الصحيح عن

النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، قال: " المرء مع من أحب "، وقال: " الأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف ". وقال: " المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل ". وزوج الشيء نظيره، وسمى الصنف زوجًا؛ لتشابه أفراده، كقوله: {أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 7] ، وقال: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49] . قال غير واحد من المفسرين: صنفين ونوعين مختلفين: السماء والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار، والبر والبحر، والسهل والجبل، والشتاء والصيف، والجن والإنس، والكفر والإيمان، والسعادة والشقاوة، والحق والباطل، والذكر والأنثى، والنور والظلمة، والحلو والمر، وأشباه ذلك، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فتعلمون أن خالق الأزواج واحد. وليس المراد أنه يحشر معهم زوجاتهم مطلقًا؛ فإن المرأة الصالحة قد يكون زوجها فاجرًا، بل كافرًا، كامرأة فرعون. وكذلك الرجل الصالح، قد تكون امرأته فاجرة، بل كافرة، كامرأة نوح ولوط، لكن إذا كانت المرأة على دين زوجها، دخلت في عموم الأزواج؛ ولهذا قال الحسن البصري: وأزواجهم المشركات. فلا ريب أن هذه الآية تناولت الكفار، كما دل عليه سياق الآية. وقد تقدم كلام المفسرين: أنه يدخل فيها الزناة مع الزناة، وأهل الخمر مع أهل الخمر. وكذلك الأثر المروي: إذا كان يوم القيامة قيل: أين الظلمة وأعوانهم؟ أو

قال: وأشباههم فيجمعون في توابيت من نار، ثم يقذف بهم في النار. وقد قال غير واحد من السلف: أعوان الظلمة من أعانهم، ولو أنهم لاق لهم دواة، أو برى لهم قلمًا، ومنهم من كان يقول: بل من يغسل ثيابهم من أعوانهم. وأعوانهم: هم من أزواجهم المذكورين في الآية؛ فإن المعين على البر والتقوى من أهل ذلك، والمعين على الإثم والعدوان من أهل ذلك، قال تعالى: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} [النساء: 85] ، والشافع الذي يعين غيره، فيصير معه شفعا بعد أن كان وترًا؛ ولهذا فسرت الشفاعة الحسنة بإعانة المؤمنين على الجهاد، والشفاعة السيئة بإعانة الكفار على قتال المؤمنين كما ذكر ذلك ابن جرير، وأبو سليمان وفسرت الشفاعة الحسنة بشفاعة الإنسان للإنسان ليجتلب له نفعًا، أو يخلصه من بلاء كما قال الحسن ومجاهد، وقتادة وابن زيد. فالشفاعة الحسنة إعانة على خير يحبه الله ورسوله، من نفع من يستحق النفع، ودفع الضر عمن يستحق دفع الضرر عنه. والشفاعة السيئة إعانته على ما يكرهه الله ورسوله، كالشفاعة التي فيها ظلم الإنسان، أو منع الإحسان الذي يستحقه. وفسرت الشفاعة الحسنة بالدعاء للمؤمنين، والسيئة بالدعاء عليهم، وفسرت الشفاعة الحسنة بالإصلاح بين اثنين، وكل هذا صحيح، فالشافع زوج المشفوع له، إذ المشفوع عنده من الخلق إما أن يعينه على بر وتقوى، وإما أن يعينه على إثم وعدوان. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة، قال لأصحابه: " اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ماشاء ". وتمام الكلام يبين أن الآية وإن تناولت الظالم الذي ظلم بكفره فهي أيضًا متناولة مادون ذلك، وإن قيل فيها: {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} [الصافات: 22] ، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ".

وثبت عنه في الصحيح أنه قال: " ما من صاحب كنز إلا جعل له كنزه يوم القيامة شجاعًا أقرع، يأخذ بلهزمته: أنا مالك، أنا كنزك ". وفي لفظ: " إلا مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع، يفر منه وهو يتبعه، حتى يطوقه في عنقه "، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] ، وفي حديث آخر: " مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع، يتبع صاحبه حيثما ذهب، وهو يفر منه: هذا مالك الذي كنت تبخل به، فإِذَا رأى أنه لابد له منه، أدخل يده في فيه، فيقضمها كما يقضم الفحل ". وفي رواية: " فلا يزال يتبعه، فيلقمه يده فيقضمها، ثم يلقمه سائر جسده ". وقد قال تعالى في الآية الأخرى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34، 35] . وقد ثبت في الصحيح وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمى عليه في نار جهنم، فيجعل صفائح، فيكوى بها جبينه وجنباه، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ". وفي حديث أبي ذر: " بشر الكانزين برضف يحمى عليها في نار جهنم، فتوضع على حلمة ثدي أحدهم، حتى يخرج من نغض كتفيه، ويوضع على نغض كتفيه، حتى يخرج من حلمة ثدييه، يتزلزل وتكوى الجباه والجنوب والظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم ". وهذا كما في القرآن، ويدل على أنه بعد دخول النار، فيكون هذا لمن دخل النار ممن فعل به ذلك أولًا في الموقف. فهذا الظالم لما منع الزكاة يحشر مع أشباهه، وماله الذي صار عبدًا له من دون الله، فيعذب به، وإن لم يكن هذا من أهل الشرك الأكبر الذين يخلدون في النار؛

ولهذا قال في آخر الحديث: " ثم يرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار ". فهذا بعد تعذيبه خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يدخل الجنة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل ". قال ابن عباس وأصحابه: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. وكذلك قال أهل السنة كأحمد بن حنبل وغيره، كما سنذكره إن شاء الله وقد قال الله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] . وفي حديث عدي بن حاتم وهو حديث حسن طويل رواه أحمد والترمذي وغيرهما وكان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو نصراني فسمعه يقرأ الآية، قال: فقلت له: إنا لسنا نعبدهم. قال: " أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ ! " قال: فقلت: بلى. قال: " فتلك عبادتهم ". وكذلك قال أبو البختري: أما إنهم لم يصلوا لهم، ولو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم، ولكن أمروهم، فجعلوا حلال الله حرامه، وحرامه حلاله، فأطاعوهم، فكانت تلك الربوبية. وقال الربيع بن أنس: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال: كانت الربوبية أنهم وجدوا في كتاب الله ما أمروا به ونهوا عنه، فقالوا: لن نسبق أحبارنا بشيء، فما أمرونا به ائتمرنا، وما نهونا عنه انتهينا لقولهم. فاستنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام وتحريم الحلال؛ لا أنهم صلوا لهم، وصاموا لهم، ودعوهم من دون الله، فهذه عبادة للرجال، وتلك عبادة

للأموال، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الله أن ذلك شرك بقوله: {لاَّ إلّهّ إلاَّ هٍوّ سٍبًحّانّهٍ عّمَّا يٍشًرٌكٍونّ} ، فهذا من الظلم الذي يدخل في قوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [الصافات: 22، 23] . فإن هؤلاء والذين أمروهم بهذا هم جميعًا معذبون، وقال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] . وإنما يخرج من هذا من عُبد مع كراهته لأن يعبد ويطاع في معصية الله، فهم الذين سبقت لهم الحسنى، كالمسيح والعزير وغيرهما، فأولئك {مُبْعَدُون} . وأما من رضي بأن يعبد ويطاع في معصية الله، فهو مستحق للوعيد، ولو لم يأمر بذلك، فكيف إذا أمر؟ ! وكذلك من أمر غيره بأن يعبد غير الله، وهذا من أزواجهم؛ فإن أزواجهم قد يكونون رؤساء لهم، وقد يكونون أتباعًا، وهم أزواج وأشباه لتشابههم في الدين، وسياق الآية يدل على ذلك؛ فإنه سبحانه قال: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} . قال ابن عباس: دلوهم. وقال الضحاك مثله. وقال ابن كيسان: قدموهم. والمعنى: قودوهم كما يقود الهادي لمن يهديه؛ ولهذا تسمى الأعناق الهوادي؛ لأنها تقود سائر البدن، وتسمى أوائل الوحش الهوادي. {وَقِفوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 24، 25] أي: كما كنتم تتناصرون في الدنيا على الباطل {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} [الصافات: 26: 36] . وقال تعالى: {قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ

أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف: 38، 39] ، وقال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر: 47، 48] ، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: 31: 33] . وقوله في سياق الآية: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35] ، ولا ريب أنها تتناول الشركين: الأصغر والأكبر، وتتناول أيضًا من استكبر عما أمره الله به من طاعته، فإن ذلك من تحقيق قول: لا إله إلا الله؛ فإن الإله هو المستحق للعبادة، فكل ما يعبد به الله فهو من تمام تأله العباد له، فمن استكبر عن بعض عبادته سامعًا مطيعًا في ذلك لغيره، لم يحقق قول: لا إله إلا الله، في هذا المقام. وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين: أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، اتباعًا لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين

الرسل، فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركًا وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين، واعتقد ما قاله ذلك، دون ما قاله الله ورسوله مشركًا مثل هؤلاء. والثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتًا، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنما الطاعة في المعروف "، وقال: " على المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره، ما لم يؤمر بمعصية "، وقال: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق "، وقال: " من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه ". ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام، إن كان مجتهدًا قصده اتباع الرسول، لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر، وقد اتقى الله ما استطاع فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه، بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه. ولكن من علم أن هذا خطأ فيما جاء به الرسول، ثم اتبعه على خطئه، وعدل عن قول الرسول فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله، لاسيما إن اتبع في ذلك هواه، ونصره باللسان واليد، مع علمه بأنه مخالف للرسول، فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه. ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه، وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال، وإن كان عاجزًا عن إظهار الحق الذي يعلمه، فهذا يكون كمن عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى، فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق، لا يؤاخذ بما عجز عنه، وهؤلاء كالنجاشي وغيره. وقد أنزل الله في هؤلاء آيات من كتابه، كقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 199] ، وقوله: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] ، وقوله: {مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83] .

وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزًا عن معرفة الحق على التفصيل، وقد فعل ما يقدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ، كما في القبلة. وأما إن قلد شخصًا دون نظيره بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه، من غير علم أن معه الحق فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيبًا، لم يكن عمله صالحًا. وإن كان متبوعه مخطئًا، كان آثما، كمن قال في القرآن برأيه، فإن أصاب فقد أخطأ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار. وهؤلاء من جنس مانع الزكاة الذي تقدم فيه الوعيد، ومن جنس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، فإن ذلك لما أحب المال حبًا منعه عن عبادة الله وطاعته، صار عبدًا له. وكذلك هؤلاء، فيكون فيه شرك أصغر، ولهم من الوعيد بحسب ذلك. وفي الحديث: " إن يسير الرياء شرك ". وهذا مبسوط عند النصوص التي فيها إطلاق الكفر والشرك على كثير من الذنوب. والمقصود هنا أن الظلم المطلق يتناول الكفر، ولا يختص بالكفر، بل يتناول ما دونه أيضًا، وكل بحسبه، كلفظ [الذنب] و [الخطيئة] و [المعصية] ، فإن هذا يتناول الكفر والفسوق والعصيان، كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك ". قلت: ثم أي؟ قال: " ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ". قلت: ثم أي؟ قال: " ثم أن تزاني بحليلة جارك "، فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 68: 71] . فهذا الوعيد بتمامه على الثلاثة، ولكل عمل قسط منه؛ فلو أشرك ولم يقتل ولم يزن، كان عذابه دون ذلك. ولو زنى وقتل ولم يشرك، كان له من هذا

العذاب نصيب، كما في قوله: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] . ولم يذكر: [أبدا] . وقد قيل: إن لفظ [التأبيد] لم يجئ إلا مع الكفر، وقال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} [الفرقان: 27: 29] . فلا ريب أن هذا يتناول الكافر الذي لم يؤمن بالرسول. وسبب نزول الآية كان في ذلك، فإن الظلم المطلق يتناول ذلك، ويتناول ما دونه بحسبه. فمن خالَّ مخلوقًا في خلاف أمر الله ورسوله، كان له من هذا الوعيد نصيب، كما قال تعالى: {الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] ، وقال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة: 166] . قال الفضيل بن عياض: حدثنا الليث، عن مجاهد: هي المودات التي كانت بينهم لغير الله. فإن المخالة تحاب وتواد؛ ولهذا قال: " المرء على دين خليله "، فإن المتحابين يحب أحدهما ما يحب الآخر بحسب الحب، فإذا اتبع أحدهما صاحبه على محبته ما يبغضه الله ورسوله، نقص من دينهما بحسب ذلك إلى أن ينتهي إلى الشرك الأكبر، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} [البقرة: 165] . والذين قدموا محبة المال الذي كنزوه، والمخلوق الذي اتبعوه، على محبة الله ورسوله، كان فيهم من الظلم والشرك بحسب ذلك، فلهذا ألزمهم محبوبهم، كما في الحديث: " يقول الله تعالى: أليس عدلا مني أن أولي كل رجل منكم ما كان يتولاه في الدنيا ". وقد ثبت في الصحيح: يقول: " ليذهب كل قوم إلى ما كانوا

يعبدون؛ فمن كان يعبد الشمس الشمس، ومن كان يعبد القمر القمر، ومن كان يعبد الطواغيت الطواغيت، ويمثل للنصارى المسيح، ولليهود عزير. فيتبع كل قوم ما كانوا يعبدون، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها "، كما سيأتي هذا الحديث إن شاء الله فهؤلاء أهل الشرك الأكبر. وأما عبيد المال الذين كنزوه، وعبيد الرجال الذين أطاعوهم في معاصي الله، فأولئك يعذبون عذابًا دون عذاب أولئك المشركين، إما في عرصات القيامة، وإما في جهنم، ومن أحب شيئًا دون الله عذب به. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] . فالكفر المطلق هو الظلم المطلق؛ ولهذا لا شفيع لأهله يوم القيامة كما نفي الشفاعة في هذه الآية، وفي قوله: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 18، 19] ، وقال: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين} [الشعراء: 94: 102] . وقوله: {إِذْ نُسَوِّيكُم} لم يريدوا به أنهم جعلوهم مساوين لله من كل وجه، فإن هذا لم يقله أحد من بني آدم، ولا نقل عن قوم قط من الكفار أنهم قالوا: إن هذا العالم له خالقان متماثلان، حتى المجوس القائلين [بالأصلين: النور والظلمة] متفقون على أن النور خير يستحق أن يعبد ويحمد، وأن الظلمة شريرة تستحق أن تذم وتلعن، واختلفوا: هل الظلمة محدثة أو قديمة؟ على قولين، وبكل حال لم يجعلوها مثل النور من كل وجه. وكذلك مشركو العرب، كانوا متفقين على أن أربابهم لم تشارك الله في خلق السموات والأرض، بل كانوا مقرين بأن الله وحده خلق السموات والأرض وما بينهما، كما أخبر الله عنهم بذلك في غير آية، كقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا

يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 61: 63] ، وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف: 9: 14] . وهذه الصفات من كلام الله تعالى ليست من تمام جوابهم. وقال تعالى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} الآيات [المؤمنون: 84: 87] ، وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام40، 41] ، وكذلك قوله: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} [النمل: 59: 61] ؟ ! أي: أَإله مع الله فعل هذا؟ وهذا استفهام إنكار، وهم مقرون بأنه لم يفعل هذا إله آخر مع الله. ومن قال من المفسرين: إن المراد: هل مع الله إله آخر؟ فقد غلط؛ فإنهم كانوا يجعلون مع الله آلهة أخرى، كما قال تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ} [الأنعام: 19] وقال تعالى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن شَيْءٍ} [هود: 101] وقال تعالى عنهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] وكانوا معترفين بأن آلهتهم لم تشارك الله في خلق السموات والأرض، ولا خلق شيء، بل كانوا يتخذونهم شفعاء

ووسائط كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ} [يونس: 18] . وقال عن صاحب يس: {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22] {أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ} [يس: 23] . وقال تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} [الأنعام: 51] . وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4] . وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} [سبأ: 22] {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] فنفي عما سواه كل ما يتعلق به المشركون فنفي أن يكون لغيره ملك أو قسط من الملك أو يكون عونا لله ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب كما قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] . وقال تعالى عن الملائكة: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] . وقال: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} [النجم: 26] . فهذه [الشفاعة] التي يظنها المشركون، هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن. وأما ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكون. فأخبر: " أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولا. فإذا سجد وحمد ربه بمحامد يفتحها عليه، يقال له: أي محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعط واشفع تشفع. فيقول: أي رب أمتي فيحد له حدًا فيدخلهم الجنة. وكذلك في الثانية وكذلك في الثالثة وقال له أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه ". فتلك [الشفاعة] هي لأهل الإخلاص بإذن الله

ليست لمن أشرك بالله ولا تكون إلا بإذن الله. وحقيقته أن الله هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص والتوحيد فيغفر لهم بواسطة دعاء الشافع الذي أذن له أن يشفع ليكرمه بذلك وينال به المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون صلى الله عليه وسلم كما كان في الدنيا يستسقي لهم ويدعو لهم، وتلك شفاعة منه لهم فكان الله يجيب دعاءه وشفاعته. وإذا كان كذلك [فالظلم ثلاثة أنواع] : فالظلم الذي هو شرك لا شفاعة فيه. وظلم الناس بعضهم بعضًا لا بد فيه من إعطاء المظلوم حقه، لا يسقط حق المظلوم لا بشفاعة ولا غيرها ولكن قد يعطى المظلوم من الظالم كما قد يغفر لظالم نفسه بالشفاعة. فالظالم المطلق ما له من شفيع مطاع وأما الموحد فلم يكن ظالماً مطلقا بل هو موحد مع ظلمه لنفسه. وهذا إنما نفعه في الحقيقة إخلاصه لله فبه صار من أهل الشفاعة. ومقصود القرآن ينفي الشفاعة نفي الشرك وهو: أن أحدًا لا يعبد إلا الله ولا يدعو غيره ولا يسأل غيره ولا يتوكل على غيره لا في شفاعة ولا غيرها، فليس له أن يتوكل على أحد في أن يرزقه وإن كان الله يأتيه برزقه بأسباب. كذلك ليس له أن يتوكل على غير الله في أن يغفر له ويرحمه في الآخرة وإن كان الله يغفر له ويرحمه بأسباب من شفاعة وغيرها فالشفاعة التي نفاها القرآن مطلقًا، ما كان فيها شرك وتلك منتفية مطلقًا، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع وتلك قد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص فهي من التوحيد , ومستحقها أهل التوحيد. وأما الظلم المقيد فقد يختص بظلم الإنسان نفسه وظلم الناس بعضهم بعضا كقول آدم عليه السلام وحواء: {ربنا ظلمنا أنفسنا} [الأعراف: 23] وقول موسى {رب إني ظلمت نفسي} [القصصك 16] ، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إذا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أو ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] . لكن قول آدم وموسى إخبار عن واقع لا عموم فيه وذلك قد عرف ولله الحمد أنه ليس كفرًا

وأما قوله {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم} [آل عمران: 135] . فهو نكرة في سياق الشرط يعم كل ما فيه ظلم الإنسان نفسه وهو إذا أشرك ثم تاب تاب الله عليه. وقد تقدم أن ظلم الإنسان لنفسه يدخل فيه كل ذنب كبير أو صغير مع الإطلاق وقال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} [فاطر: 32] فهذا ظلم لنفسه مقرون بغيره فلا يدخل فيه الشرك الأكبر وفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه لما أنزلت هذه الآية {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] . شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما هو الشرك ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح إن الشرك لظلم عظيم ". والذين شق ذلك عليهم ظنوا أن الظلم المشروط هو ظلم العبد نفسه وأنه لا يكون الأمن والاهتداء إلا لمن يظلم نفسه فشق ذلك عليهم فبين النبي صلى الله عليه وسلم لهم ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله تعالى وحينئذ فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم ومن لم يلبس إيمانه به كان من أهل الأمن والاهتداء كما كان من أهل الاصطفاء في قوله ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا إلى قوله جنات عدن يدخلونها وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلم نفسه إذا لم يتب كما قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة 7: 8] وقال تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] وقد سأل أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءا فقال: " يا أبا بكر ألست تنصب ألست تحزن ألست تصيبك اللأواء

فذلك ما تجزون به ". فبين أن المؤمن الذي إذا تاب دخل الجنة قد يجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب التي تصيبه كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح تقومها تارة وتميلها أخرى ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تزال ثابتة على أصلها حتى يكون انجعافها مرة واحدة ". وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ". وفي حديث سعد بن أبي وقاص: " قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاء قال: الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه وإن كان في دينه رقة خفف عنه ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة ". رواه أحمد والترمذي غيرهما وقال: "المرض حطة يحط الخطايا عن صاحبه كما تحط الشجرة اليابسة ورقها". والأحاديث في هذا الباب كثيرة فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة كان له الأمن التام والاهتداء التام ومن لم يسلم من ظلمه نفسه كان له الأمن والاهتداء مطلقا بمعنى أنه لابد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى. وقد هداه إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه نفسه وليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنما هو الشرك" إن من لم

يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام لاهتداء التام؛ فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف لم يحصل لهم الأمن التام ولا الاهتداء التام الذي يكونون به مهتدين إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، من غير عذاب يحصل لهم بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط ومعهم أصل نعمة الله عليهم ولابد لهم من دخول الجنة. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما هو الشرك" إن أراد به الشرك الأكبر فمقصوده إن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة وهو مهتد إلى ذلك وإن كان مراده جنس الشرك فيقال ظلم العبد نفسه كبخله لحب المال ببعض الواجب هو شرك أصغر وحبه ما يبغضه الله حتى يكون يقدم هواه على محبة الله شرك أصغر ونحو ذلك فهذا صاحبه قد فاته من الأمن والاهتداء بحسبه ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الظلم بهذا الاعتبار. فصل من هذا الباب لفظ [الصلاح] و [الفساد] : فإذا أطلق الصلاح تناول جميع الخير وكذلك الفساد يتناول جميع الشر كما تقدم في اسم الصالح وكذلك اسم المصلح والمفسد قال تعالى في قصة موسى: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص: 19] {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142] . وقال تعالى: {وَإذا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] . والضمير عائد على المنافقين في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] وهذا مطلق يتناول من كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن سيكون بعدهم، ولهذا قال سلمان الفارسي: إنه عنى بهذه الآية قوما لم يكونوا خلقوا حين نزولها وكذا قال السدي عن أشياخه:

الفساد الكفر والمعاصي. وعن مجاهد: ترك امتثال الأوامر واجتناب النواهي. والقولان معناهما واحد. وعن ابن عباس: الكفر. وهذا معنى قول من قال: النفاق الذي صافوا به الكفار وأطلعوهم على أسرار المؤمنين. وعن أبي العالية ومقاتل: العمل بالمعاصي. وهذا أيضًا عام كالأولين. وقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] فسر بإنكار ما أقروا به أي: إنا إنما نفعل ما أمرنا به الرسول. وفسر: بأن الذي نفعله صلاح ونقصد به الصلاح وكلا القولين يروى عن ابن عباس وكلاهما حق فإنهم يقولون هذا وهذا , يقولون: الأول لمن لم يطلع على بواطنهم. ويقولون: الثاني لأنفسهم ولمن اطلع على بواطنهم. لكن الثاني يتناول الأول، فإن من جملة أفعالهم إسرار خلاف ما يظهرون وهم يرون هذا صلاحًا قال مجاهد: أرادوا أن مصافاة الكفار صلاح لا فساد. وعن السدي: إن فعلنا هذا هو الصلاح وتصديق محمد فساد , وقيل: أرادوا أن هذا صلاح في الدنيا فإن الدولة إن كانت للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد أمنوا بمتابعته وإن كانت للكفار، فقد أمنوهم بمصافاتهم. ولأجل القولين قيل في قوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] أي لا يشعرون أن ما فعلوه فساد لا صلاح. وقيل: لا يشعرون أن الله يطلع نبيه على فسادهم. والقول الأول يتناول الثاني، فهو المراد كما يدل عليه لفظ الآية. وقال تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196] وقال: {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81] وقول يوسف {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] . وقد يقرن أحدهما بما هو أخص منه كقوله: {وَإذا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة: 205] قيل: بالكفر وقيل: بالظلم، وكلاهما صحيح وقال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص: 83] وقد تقدم قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ

أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4] . وقال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] وقتل النفس الأول من جملة الفساد لكن الحق في القتل لولي المقتول وفي الردة والمحاربة والزنا، الحق فيها لعموم الناس، ولهذا يقال: هو حق لله ولهذا لا يعفي عن هذا كما يعفي عن الأول لأن فساده عام قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أو يُصَلَّبُواْ أو تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] الآية. قيل: سبب نزول هذه الآية العرنيون الذين ارتدوا وقتلوا وأخذوا المال. وقيل: سببه ناس معاهدون نقضوا العهد وحاربوا. وقيل: المشركون، فقد قرن بالمرتدين المحاربين وناقضي العهد المحاربين وبالمشركين المحاربين. وجمهور السلف والخلف على أنها تتناول قطاع الطريق من المسلمين والآية تتناول ذلك كله، ولهذا كان من تاب قبل القدرة عليه من جميع هؤلاء فإنه يسقط عنه حق الله تعالى. وكذلك قرن [الصلاح والإصلاح بالإيمان] في مواضع كثيرة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الكهف: 107] . {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام: 48] . ومعلوم أن الإيمان أفضل الإصلاح وأفضل العمل الصالح كما جاء في الحديث الصحيح أنه " قيل: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ". وقال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] . وقال: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 60] . وقال: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] . وقال في القذف: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 5] . وقال في

السارق: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39] . وقال: {وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} [النساء: 16] . ولهذا شرط الفقهاء في أحد قوليهم في قبول شهادة القاذف أن يصلح وقدروا ذلك بسنة كما فعل عمر بصبيغ بن عسل لما أجله سنة , وبذلك أخذ أحمد في توبة الداعي إلى البدعة أنه يؤجل سنة كما أجل عمر صبيغ بن عسل. فصل فإن قيل: ما ذكر من تنوع دلالة اللفظ بالإطلاق والتقييد في كلام الله ورسوله وكلام كل أحد، بين ظاهر لا يمكن دفعه، لكن نقول: دلالة لفظ الإيمان على الأعمال مجاز، فقوله صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " [مجاز] . وقوله: " الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ". . . إلى آخره، حقيقة. وهذا عمدة المرجئة والجهمية والكرامية وكل من لم يدخل الأعمال في اسم الإيمان. ونحن نجيب بجوابين: أحدهما: كلام عام في لفظ [الحقيقة والمجاز] . والثاني: ما يختص بهذا الموضع. فبتقدير أن يكون أحدهما مجازًا، ما هو الحقيقة من ذلك من المجاز؟ هل الحقيقة هو المطلق أو المقيد أو كلاهما حقيقة حتى يعرف أن لفظ الإيمان إذا أطلق على مإذا يحمل؟ . فيقال أولًا: تقسيم الألفاظ الدالة على معانيها إلى [حقيقة ومجاز] وتقسيم دلالتها أو المعاني المدلول عليها إن استعمل لفظ الحقيقة والمجاز في المدلول أو في الدلالة، فإن هذا كله قد يقع في كلام المتأخرين. ولكن المشهور أن الحقيقة والمجاز من عوارض الألفاظ وبكل حال فهذا التقسيم هو اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة لم يتكلم به أحد من

الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم كمالك والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي بل ولا تكلم به أئمة اللغة والنحو كالخليل وسيبويه وأبي عمرو بن العلاء ونحوهم. وأول من عرف أنه تكلم بلفظ [المجاز] أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه. ولكن لم يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة. وإنما عنى بمجاز الآية ما يعبر به عن الآية، ولهذا قال من قال من الأصوليين - كأبي الحسين البصري وأمثاله - إنما تعرف الحقيقة من المجاز بطرق منها: نص أهل اللغة على ذلك بأن يقولوا: هذا حقيقة وهذا مجاز , فقد تكلم بلا علم , فإنه ظن أن أهل اللغة قالوا: هذا ولم يقل ذلك أحد من أهل اللغة ولا من سلف الأمة وعلمائها. وإنما هذا اصطلاح حادث والغالب أنه كان من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين فإنه لم يوجد هذا في كلام أحد من أهل الفقه والأصول والتفسير والحديث ونحوهم من السلف. وهذا الشافعي هو أول من جرد الكلام في [أصول الفقه] لم يقسم هذا التقسيم ولا تكلم بلفظ [الحقيقة والمجاز] . وكذلك محمد بن الحسن له في المسائل المبنية على العربية كلام معروف في [الجامع الكبير] وغيره، ولم يتكلم بلفظ الحقيقة والمجاز. وكذلك سائر الأئمة لم يوجد لفظ المجاز في كلام أحد منهم إلا في كلام أحمد بن حنبل، فإنه قال في كتاب الرد على الجهمية في قوله: [إنا , ونحن] ونحو ذلك في القرآن: هذا من مجاز اللغة يقول الرجل: إنا سنعطيك. إنا سنفعل، فذكر أن هذا مجاز اللغة. وبهذا احتج على مذهبه من أصحابه من قال: إن في [القرآن] مجازًا كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي الخطاب وغيرهم. وآخرون من أصحابه منعوا أن يكون في القرآن مجاز كأبي الحسن الخرزي. وأبي عبد الله بن حامد. وأبي الفضل التميمي بن أبي الحسن التميمي وكذلك منع أن يكون في القرآن مجاز محمد بن خويز منداد وغيره من المالكية ومنع منه داود بن علي وابنه أبو بكر ومنذر بن سعيد البلوطي وصنف فيه مصنفا. وحكى بعض الناس عن أحمد في ذلك روايتين. وأما سائر الأئمة فلم يقل أحد منهم ولا من قدماء أصحاب أحمد: إن في القرآن مجازًا لا مالك ولا

الشافعي، ولا أبو حنيفة فإن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز. إنما اشتهر في المائة الرابعة وظهرت أوائله في المائة الثالثة وما علمته موجودا في المائة الثانية اللهم إلا أن يكون في أواخرها والذين أنكروا أن يكون أحمد وغيره نطقوا بهذا التقسيم. قالوا: إن معنى قول أحمد: من مجاز اللغة. أي: مما يجوز في اللغة أن يقول الواحد العظيم الذي له أعوان: نحن فعلنا كذا ونفعل كذا ونحو ذلك. قالوا: ولم يرد أحمد بذلك أن اللفظ استعمل في غير ما وضع له. وقد أنكر طائفة أن يكون في اللغة مجاز لا في القرآن ولا غيره كأبي إسحاق الإسفراييني. وقال المنازعون له: النزاع معه لفظي فإنه إذا سلم أن في اللغة لفظًا مستعملاً في غير ما وضع له لا يدل على معناه إلا بقرينة، فهذا هو المجاز وإن لم يسمه مجازًا. فيقول من ينصره: إن الذين قسموا اللفظ: حقيقة ومجازًا قالوا: [الحقيقة] هو اللفظ المستعمل فيما وضع له. [والمجاز] هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له كلفظ الأسد والحمار إذا أريد بهما البهيمة أو أريد بهما الشجاع والبليد. وهذا التقسيم والتحديد يستلزم أن يكون اللفظ قد وضع أولًا لمعنى ثم بعد ذلك قد يستعمل في موضوعه وقد يستعمل في غير موضوعه، ولهذا كان المشهور عند أهل التقسيم أن كل مجاز فلا بد له من حقيقة وليس لكل حقيقة مجاز؟ فاعترض عليهم بعض متأخريهم وقال: اللفظ الموضوع قبل الاستعمال لا حقيقة ولا مجاز فإذا استعمل في غير موضوعه فهو مجاز لا حقيقة له. وهذا كله إنما يصح لو علم أن الألفاظ العربية وضعت أولًا لمعان ثم بعد ذلك استعملت فيها، فيكون لها وضع متقدم على الاستعمال. وهذا إنما صح على قول من يجعل اللغات اصطلاحية فيدعي أن قوما من العقلاء اجتمعوا واصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا وهذا بكذا ويجعل هذا عاما في جميع اللغات. وهذا القول لا نعرف أحدا من المسلمين قاله قبل أبي هاشم بن الجبائي، فإنه وأبا الحسن الأشعري كلاهما قرأ على أبي علي الجبائي لكن الأشعري رجع عن مذهب المعتزلة وخالفهم في القدر والوعيد وفي الأسماء والأحكام وفي

صفات الله تعالى وبين من تناقضهم وفساد قولهم ما هو معروف عنه. فتنازع الأشعري وأبو هاشم في مبدأ اللغات، فقال أبو هاشم: هي اصطلاحية وقال الأشعري: هي توقيفية. ثم خاض الناس بعدهما في هذه المسألة، فقال آخرون: بعضها توقيفي وبعضها اصطلاحي وقال فريق رابع بالوقف. المقصود هنا أنه لا يمكن أحدا أن ينقل عن العرب بل ولا عن أمة من الأمم أنه اجتمع جماعة فوضعوا جميع هذه الأسماء الموجودة في اللغة ثم استعملوها بعد الوضع وإنما المعروف المنقول بالتواتر استعمال هذه الألفاظ فيما عنوه بها من المعاني فإن ادعى مدع أنه يعلم وضعا يتقدم ذلك فهو مبطل فإن هذا لم ينقله أحد من الناس. ولا يقال: نحن نعلم ذلك بالدليل، فإنه إن لم يكن اصطلاح متقدم لم يمكن الاستعمال. قيل: ليس الأمر كذلك، بل نحن نجد أن الله يلهم الحيوان من الأصوات ما به يعرف بعضها مراد بعض وقد سمي ذلك منطقا وقولا في قول سليمان: {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} [النمل: 16] . وفي قوله: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] وفي قوله: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10] . وكذلك الآدميون، فالمولود إذا ظهر منه التمييز سمع أبويه أو من يربيه ينطق باللفظ ويشير إلى المعنى فصار يفهم أن ذلك اللفظ يستعمل في ذلك المعنى أي: أراد المتكلم به ذلك المعنى ثم هذا يسمع لفظًا بعد لفظ حتى يعرف لغة القوم الذين نشأ بينهم من غير أن يكونوا قد اصطلحوا معه على وضع متقدم، بل ولا أوقفوه على معاني الأسماء وإن كان أحيانا قد يسأل عن مسمى بعض الأشياء فيوقف عليها كما يترجم للرجل اللغة التي لا يعرفها فيوقف على معاني ألفاظها وإن باشر أهلها مدة علم ذلك بدون توقيف من أحدهم. نعم قد يضع الناس الاسم لما يحدث مما لم يكن من قبلهم يعرفه فيسميه كما يولد لأحدهم ولد فيسميه اسما إما منقولا وإما مرتجلا وقد يكون المسمى

واحدا لم يصطلح مع غيره وقد يستوون فيما يسمونه. وكذلك قد يحدث للرجل آلة من صناعة أو يصنف كتابا أو يبني مدينة ونحو ذلك فيسمي ذلك باسم لأنه ليس من الأجناس المعروفة حتى يكون له اسم في اللغة العامة. وقد قال الله: {الرَّحْمَنُ} [الرحمن: 1] {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 2] {خَلَقَ الْإِنسَانَ} [الرحمن: 3] {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 4] . و {قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] . وقال: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: 2] {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3] . فهو سبحانه يلهم الإنسان المنطق كما يلهم غيره. وهو سبحانه إذا كان قد علم آدم الأسماء كلها وعرض المسميات على الملائكة كما أخبر بذلك في كتابه فنحن نعلم أنه لم يعلم آدم جميع اللغات التي يتكلم بها جميع الناس إلى يوم القيامة وأن تلك اللغات اتصلت إلى أولاده فلا يتكلمون إلا بها فإن دعوى هذا كذب ظاهر فإن آدم عليه السلام إنما ينقل عنه بنوه وقد أغرق الله عام الطوفان جميع ذريته إلا من في السفينة وأهل السفينة انقطعت ذريتهم إلا أولاد نوح ولم يكونوا يتكلمون بجميع ما تكلمت به الأمم بعدهم. فإن [اللغة الواحدة] كالفارسية والعربية والرومية والتركية فيها من الاختلاف والأنواع ما لا يحصيه إلا الله , والعرب أنفسهم لكل قوم لغات لا يفهمها غيرهم فكيف يتصور أن ينقل هذا جميعه عن أولئك الذين كانوا في السفينة وأولئك جميعهم لم يكن لهم نسل وإنما النسل لنوح وجميع الناس من أولاده وهم ثلاثة: سام وحام ويافث كما قال الله تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين} . فلم يجعل باقيا إلا ذريته وكما روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم: [أن أولاده ثلاثة] . رواه أحمد وغيره. ومعلوم أن الثلاثة لا يمكن أن ينطقوا بهذا كله

ويمتنع نقل ذلك عنهم، فإن الذين يعرفون هذه اللغة لا يعرفون هذه , وإذا كان الناقل ثلاثة، فهم قد علموا أولًادهم , وأولادهم علموا أولادهم , ولو كان كذلك لاتصلت. ونحن نجد بني الأب الواحد يتكلم كل قبيلة منهم بلغة لا تعرفها الأخرى والأب واحد , لا يقال: إنه علم أحد ابنيه لغة وابنه الآخر لغة، فإن الأب قد لا يكون له إلا ابنان واللغات في أولاده أضعاف ذلك. والذي أجرى الله عليه عادة بني آدم أنهم إنما يعلمون أولادهم لغتهم التي يخاطبونهم بها، أو يخاطبهم بها غيرهم فأما لغات لم يخلق الله من يتكلم بها فلا يعلمونها أولادهم. وأيضًا فإنه يوجد بنو آدم يتكلمون بألفاظ ما سمعوها قط من غيرهم. والعلماء من المفسرين وغيرهم لهم في الأسماء التي علمها الله آدم قولان معروفان عن السلف. أحدهما: أنه إنما علمه أسماء من يعقل واحتجوا بقوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ} [البقرة: 31] . قالوا: وهذا الضمير لا يكون إلا لمن يعقل , وما لا يعقل يقال فيها: عرضها. ولهذا قال أبو العالية: علمه أسماء الملائكة لأنه لم يكن حينئذ من يعقل إلا الملائكة، ولا كان إبليس قد انفصل عن الملائكة ولا كان له ذرية. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: علمه أسماء ذريته وهذا يناسب الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن آدم سأل ربه أن يريه صور الأنبياء من ذريته، فرآهم فرأى فيهم من يبص. فقال: يا رب من هذا؟ قال: ابنك داود ". فيكون قد أراه صور ذريته أو بعضهم وأسماءهم وهذه أسماء أعلام لا أجناس. والثاني: أن الله علمه أسماء كل شيء وهذا هو قول الأكثرين كابن عباس وأصحابه، قال ابن عباس: علمه حتى الفسوة والفسية والقصعة والقصيعة

أراد أسماء الأعراض والأعيان مكبرها ومصغرها. والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث الشفاعة: " إن الناس يقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وعلمك أسماء كل شيء ". وأيضًا قوله: {الأَسْمَاء كُلَّهَا} [البقرة: 31] لفظ عام مؤكد، فلا يجوز تخصيصه بالدعوى. وقوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ} [البقرة: 31] ، لأنه اجتمع من يعقل ومن لا يعقل فغلب من يعقل. كما قال: {فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45] . قال عكرمة: علمه أسماء الأجناس دون أنواعها كقولك: إنسان وجن وملك وطائر. وقال مقاتل وابن السائب وابن قتيبة: علمه أسماء ما خلق في الأرض من الدواب والهوام والطير. ومما يدل على أن هذه اللغات ليست متلقاة عن آدم، أن أكثر اللغات ناقصة عن اللغة العربية ليس عندهم أسماء خاصة للأولاد والبيوت والأصوات وغير ذلك مما يضاف إلى الحيوان، بل إنما ستعملون في ذلك الإضافة. فلو كان آدم عليه السلام علمها الجميع لعلمها متناسبة , وأيضًا فكل أمة ليس لها كتاب ليس في لغتها أيام الأسبوع , وإنما يوجد في لغتها اسم اليوم والشهر والسنة؛ لأن ذلك عرف بالحس والعقل، فوضعت له الأمم الأسماء، لأن التعبير يتبع التصور. وأما الأسبوع فلم يعرف إلا بالسمع , لم يعرف أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش إلا بأخبار الأنبياء الذين شرع لهم أن يجتمعوا في الأسبوع يوما يعبدون الله فيه ويحفظون به الأسبوع الأول الذي بدأ الله فيه خلق هذا العالم، ففي لغة العرب والعبرانيين , ومن تلقى عنهم , أيام الأسبوع، بخلاف الترك ونحوهم، فإنه ليس في لغتهم أيام الأسبوع لأنهم لم يعرفوا ذلك فلم يعبروا عنه. فعلم أن الله ألهم النوع الإنساني أن يعبر عما يريده ويتصوره بلفظه وأن أول من علم ذلك أبوهم آدم

وهم علموا كما علم وإن اختلفت اللغات. قد أوحى الله إلى موسى بالعبرانية وإلى محمد بالعربية، والجميع كلام الله , وقد بين الله بذلك ما أراد من خلقه وأمره , وإن كانت هذه اللغة ليست الأخرى , مع أن العبرانية من أقرب اللغات إلى العربية حتى إنها أقرب إليها من لغة بعض العجم إلى بعض. فبالجملة نحن ليس غرضنا إقامة الدليل على عدم ذلك، بل يكفينا أن يقال: هذا غير معلوم وجوده بل الإلهام كاف في النطق باللغات من غير مواضعة متقدمة، وإذا سمى هذا توقيفًا، فليسم توقيفا وحينئذ فمن ادعى وضعا متقدما على استعمال جميع الأجناس، فقد قال ما لا علم له به. وإنما المعلوم بلا ريب هو الاستعمال. ثم هؤلاء يقولون تتميز الحقيقة من المجاز بالاكتفاء باللفظ فإذا دل اللفظ بمجرده فهو حقيقة وإذا لم يدل إلا مع القرينة فهو مجاز وهذا أمر متعلق باستعمال اللفظ في المعنى لا بوضع متقدم. ثم يقال ثانيًا: هذا التقسيم لا حقيقة له وليس لمن فرق بينهما حد صحيح يميز به بين هذا وهذا فعلم أن هذا التقسيم باطل وهو تقسيم من لم يتصور ما يقول بل يتكلم بلا علم فهم مبتدعة في الشرع مخالفون للعقل وذلك أنهم قالوا: الحقيقة اللفظ المستعمل فيما وضع له والمجاز هو المستعمل في غير ما وضع له احتاجوا إلى إثبات الوضع السابق على الاستعمال وهذا يتعذر ثم يقسمون الحقيقة إلى لغوية وعرفية وأكثرهم يقسمها إلى ثلاث لغوية وشرعية وعرفية. فالحقيقة العرفية هي ما صار اللفظ دالاً فيها على المعنى بالعرف لا باللغة، وذلك المعنى يكون تارة أعم من اللغوي وتارة أخص وتارة يكون مباينًا له لكن بينهما علاقة استعمل لأجلها. فالأول مثل لفظ الرقبة والرأس ونحوهما كان يستعمل في العضو المخصوص ثم صار يستعمل في جميع البدن. والثاني مثل لفظ الدابة ونحوها كان يستعمل في كل ما دب ثم صار يستعمل في عرف بعض الناس في ذوات الأربع وفي عرف بعض الناس في الفرس وفي عرف بعضهم في الحمار. والثالث مثل لفظ الغائط والظعينة والراوية والمزادة

فان الغائط في اللغة هو المكان المنخفض من الأرض فلما كانوا ينتابونه لقضاء حوائجهم سموا ما يخرج من الإنسان باسم محله والظعينة اسم الدابة ثم سموا المرأة التي تركبها باسمها ونظائر ذلك والمقصود أن هذه الحقيقة العرفية لم تصر حقيقة لجماعة تواطئوا على نقلها ولكن تكلم بها بعض الناس وأراد بها ذلك المعنى العرفي ثم شاع الاستعمال فصارت حقيقة عرفية بهذا الاستعمال؛ ولهذا زاد من زاد منهم في حد الحقيقة في اللغة التي بها التخاطب ثم هم يعلمون ويقولون: إنه قد يغلب الاستعمال على بعض الألفاظ، فيصير المعنى العرفي أشهر فيه ولا يدل عند الإطلاق إلا عليه، فتصير الحقيقة العرفية ناسخة للحقيقة اللغوية واللفظ مستعمل في هذا الاستعمال الحادث للعرفي وهو حقيقة من غير أن يكون لما استعمل فيه ذلك تقدم وضع فعلم أن تفسير الحقيقة بهذا لا يصح وإن قالوا نعني بما وضع له ما استعملت فيه أولًا، فيقال: من أين يعلم أن هذه الألفاظ التي كانت العرب تتخاطب بها عند نزول القرآن وقبله لم تستعمل قبل ذلك في معنى شيء آخر وإذا لم يعلموا هذا النفي فلا يعلم أنها حقيقة وهذا خلاف ما اتفقوا عليه وأيضًا فيلزم من هذا أن لا يقطع بشيء من الألفاظ أنه حقيقة وهذا لا يقوله عاقل. ثم هؤلاء الذين يقولون هذا نجد أحدهم يأتي إلى ألفاظ لم يعلم أنها استعملت إلا مقيدة فينطق بها مجردة عن جميع القيود ثم يدعي أن ذلك هو حقيقتها من غير أن يعلم أنها نطق بها مجردة ولا وضعت مجردة مثل أن يقول: حقيقة العين هو العضو المبصر ثم سميت به عين الشمس والعين النابعة وعين الذهب للمشابهة لكن أكثرهم يقولون إن هذا من باب المشترك لا من باب الحقيقة والمجاز فيمثل بغيره مثل لفظ الرأس يقولون: هو حقيقة في رأس الإنسان ثم قالوا: رأس الدرب لاوله ورأس العين لمنبعها ورأس القوم لسيدهم ورأس الأمر لأوله ورأس الشهر ورأس الحول وأمثال ذلك على طريق المجاز وهم لا يجدون قط أن لفظ الرأس استعمل مجردا بل يجدون أنه استعمل بالقيود في رأس الإنسان كقوله

تعالى: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلى الْكَعْبَينِ} [المائدة: 6] ونحوه. وهذا القيد يمنع أن تدخل فيه تلك المعاني فإذا قيل رأس العين ورأس الدرب ورأس الناس ورأس الأمر فهذا المقيد غير ذاك المقيد الدال ومجموع اللفظ الدال هنا غير مجموع اللفظ الدال هناك لكن اشتركا في بعض اللفظ كاشتراك كل الأسماء المعرفة في لام التعريف ولو قدر أن الناطق باللغة نطق بلفظ رأس الإنسان. أولاً: لأن الإنسان يتصور رأسه قبل غيره والتعبير أولًا هو عما يتصور أولاً فالنطق بهذا المضاف أولاً لا يمنع أن ينطق به مضافًا إلى غيره. ثانيًا: ولا يكون هذا من المجاز كما في سائر المضافات فإذا قيل: ابن آدم أولاً لم يكن قولنا ابن الفرس وابن الحمار مجازًا وكذلك إذا قيل بنت الإنسان لم يكن قولنا بنت الفرس مجازًا وكذلك إذا قيل: رأس الإنسان أولًا لم يكن قولنا: رأس الفرس مجازًا وكذلك في سائر المضافات إذا قيل: يده أو رجله فإذا قيل هو حقيقة فيما أضيف إلى الحيوان قيل ليس جعل هذا هو الحقيقة بأولى من أن يجعل ما أضيف إلى الإنسان رأس ثم قد يضاف إلى ما لا يتصوره أكثر الناس من الحيوانات الصغار التي لم تخطر ببال عامة الناطقين باللغة فإذا قيل: إنه حقيقة في هذا فلمإذا لا يكون حقيقة في رأس الجبل والطريق والعين وكذلك سائر ما يضاف إلى الإنسان من أعضائه وأولًاده ومساكنه يضاف مثله إلى غيره ويضاف ذلك إلى الجمادات فيقال رأس الجبل ورأس العين وخطم الجبل أي أنفه وفم الوادي وبطن الوادي وظهر الجبل وبطن الأرض وظهرها ويستعمل مع الألف وهو لفظ الظاهر والباطن في أمور كثيرة والمعنى في الجميع أن الظاهر لما لما ظهر فتبين والباطن لما بطن فخفي وسمى ظهر الإنسان ظهرًا لظهوره وبطن الإنسان بطنا لبطونه. فإذا قيل: إن هذا حقيقة وذاك مجاز لم يكن هذا أولى من العكس وأيضًا من الأسماء ما تكلم به أهل اللغة مفردًا كلفظ الإنسان ونحوه ثم قد يستعمل مقيدًا بالإضافة كقولهم إنسان العين وإبرة الذراع ونحو ذلك وبتقدير أن

يكون في اللغة حقيقة ومجاز فقد ادعى بعضهم أن هذا من المجاز؛ وهو غلط فان المجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولاً وهنا لم يستعمل اللفظ بل ركب مع لفظ آخر فصار وضعا آخر بالإضافة. فلو استعمل مضافًا في معنى ثم استعمل بتلك الإضافة في غيره كان مجازًا بل إذا كان بعلبك وحضرموت، ونحوهما مما يركب تركيب مزج بعد أن كان الأصل فيه الإضافة، لا يقال إنه مجاز فما لم ينطق به إلا مضافًا أولى أن لا يكون مجازًا وأما من فرق بين الحقيقة والمجاز بأن الحقيقة ما يفيد المعنى مجردًا عن القرائن والمجاز ما لا يفيد ذلك المعنى إلا مع قرينه أو قال الحقيقة ما يفيده اللفظ المطلق والمجاز ما لا يفيد إلا مع التقييد أو قال الحقيقة هي المعنى الذي يسبق إلى الذهن، عند الإطلاق والمجاز ما لا يسبق إلى الذهن، أو قال المجاز ما صح نفيه والحقيقة ما لا يصح نفيها، فإنه يقال: ما تعني بالتجريد عن القرائن والاقتران بالقرائن إن عنى بذلك القرائن اللفظية مثل كون الاسم يستعمل مقرونًا بالإضافة أو لام التعريف ويقيد بكونه فاعلًا ومفعولًا ومبتدأً وخبرًا، فلا يوجد قسط في الكلام المؤلف اسم إلا مقيدًا، وكذلك الفعل إن عنى بتقييده أنه لابد له من فاعل وقد يقيد بالمفعول به وظرفي الزمان والمكان والمفعول له ومعه والحال فالفعل لا يستعمل قط إلا مقيدًا، وأما الحرف فأبلغ فإن الحرف أُتي به لمعنى في غيره ففي الجملة لا يوجد قط في كلام تام اسم ولا فعل ولا حرف إلا مقيدًا بقيود تزيل عنه الإطلاق فإن كانت القرينة مما يمنع الإطلاق عن كل قيد فليس في الكلام الذي يتكلم به جميع الناس لفظ مطلق عن كل قيد سواء كانت الجملة اسمية أو فعلية. ولهذا كان لفظ [الكلام] و [الكلمة] في لغة العرب بل وفي لغة غيرهم لا تستعمل الا في المقيد وهو الجملة التامة اسمية كانت أو فعلية، أو ندائية ان قيل انها قسم ثالث. فأما مجرد الاسم أو الفعل أو الحرف الذي جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل فهذا لا يسمى في كلام العرب قط كلمة وانما تسمية هذا كلمة اصطلاح نحوى

كما سموا بعض الألفاظ فعلا وقسموه إلى فعل ماض ومضارع وأمر والعرب لم تسم قط اللفظ فعلا بل النحاة اصطلحوا على هذا فسموا اللفظ باسم مدلوله فاللفظ الدال على حدوث فعل في زمن ماض سموه فعلا ماضيا وكذلك سائرها. وكذلك حيث وجد في الكتاب والسنة بل وفي كلام العرب نظمه ونثره لفظ كلمة فانما يراد به المفيد التى تسميها النحاة جملة تامة كقوله تعالى وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم ان يقولون الا كذبا وقوله تعالى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40] ، وقوله تعالى: {تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] ، وقوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 28] ، وقوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شىء ما خلا الله باطل"

وقوله: " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم "، وقوله: " ان الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت يكتب الله بها سخطه إلى يوم القيامة "، وقوله: " لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلته منذ اليوم لوزنتهن سبحان الله عدد خلقه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله رضا نفسه سبحان الله مداد كلماته "، وإذا كان كل اسم أو فعل أو حرف يوجد في الكلام فإنه مقيد لا مطلق لم يجز أن يقال للفظ الحقيقة ما دل مع الإطلاق والتجرد عن كل قرينة تقارنه. فان قيل: أريد بعض القرائن دون بعض قيل له أذكر الفصل بين القرينة التى يكون معها حقيقة والقرينة التى يكون معها مجاز ولن تجد إلى ذلك سبيلا تقدر به على تقسيم صحيح معقول. ومما يدل على ذلك أن الناس اختلفوا في [العام] إذا خص هل يكون استعماله فيما بقى حقيقة أو مجازا وكذلك لفظ [الأمر] إذا أريد به الندب، هل يكون حقيقة أو مجازا وفي ذلك قولان لأكثر الطوائف: لأصحاب أحمد قولان، ولأصحاب الشافعى قولان، ولأصحاب مالك قولان. ومن الناس من ظن أن هذا الخلاف يطرد في التخصيص المتصل كالصفة، والشرط والغاية والبدل، وجعل يحكى في ذلك أقوال من يفصل كما يوجد في كلام طائفة من المصنفين في أصول الفقه وهذا مما يعرف أن أحدا قاله فجعل اللفظ العام المقيد في الصفات والغايات والغايات والشروط مجازا؛ بل لما أطلق بعض المصنفين أن اللفظ العام إذا خص يصير مجازا ظن هذا الناقل أنه عنى التخصيص المتصل وأولئك لم يكن في اصطلاحهم عام مخصوص الا إذا خص

بمنفصل وأما المتصل فلا يسمون اللفظ عاما مخصوصا البتة فانه لم يدل الا متصلا والاتصال منعه العموم وهذا اصطلاح كثير من الأصوليين وهو الصواب لا يقال لما قيد بالشرط والصفة ونحوهما أنه داخل فيما خص من العموم ولا في العام المخصوص لكن يقيد فيقال: تخصيص متصل وهذا المقيد لا يدخل في التخصيص المطلق. وبالجملة فيقال: إذا كان هذا مجازا فيكون تقييد الفعل المطلق بالمفعول به وبظرف الزمان والمكان مجازا وكذلك بالحال وكذلك كل ما قيد بقيد فيلزم أن يكون الكلام كله مجازا فأين الحقيقة؟ فان قيل: يفرق بين القرائن المتصلة والمنفصلة فما كان مع القرينة المتصلة فهو حقيقة، وما كان مع المنفصلة كان مجازا؛ قيل: تعنى بالمتصل ما كان في اللفظ أو ما كان موجودا حين الخطاب فان عنيت الأول لزم أن يكون ما علم من حال المتكلم أو المستمع أولا قرينة منفصلة فما استعمل بلام التعريف لما يعرفانه كما يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند المسلمين رسول الله أو قال الصديق، وهو عندهم أبو بكر وإذا قال الرجل لصاحبه: اذهب إلى الأمير أو القاضى أو الوالى يريد ما يعرفانه أنه يكون مجازا وكذلك الضمير يعود إلى معلوم غير مذكور كقوله: {إنا أنزلناه} [القدر: 1] ، وقوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] ، وأمثال ذلك، أن يكون هذا مجازا وهذا لا يقوله أحد. و [أيضا] فإذا قال لشجاع: هذا الأسد فعل اليوم كذا، ولبليد: هذا الحمار قال اليوم كذا، أو لعالم أو جواد: هذا البحر جرى منه اليوم كذا، أن يكون حقيقة لأن قوله هذا قرينة لفظية، فلا يبقى قط مجازا. وإن قال: المتصل أعم من ذلك وهو ما كان موجودا حين الخطاب قيل له فهذا أشد عليك من الأول فان كل متكلم بالمجاز لابد أن يقترن به حال الخطاب ما يبين مراده والا لم يجز التكلم به. فان قيل: أنا أجوز تأخير البيان عن مورد الخطاب إلى وقت الحاجة قيل: أكثر الناس لا يجوزون أن يتكلم بلفظ يدل على معنى وهو لا يريد ذلك المعنى الا

إذا بين وانما يجوزون تأخير بيان ما لم يدل اللفظ عليه كالمجملات. ثم نقول: إذا جوزت تأخير البيان فالبيان قد يحصل بجملة تامة وبأفعال من الرسول وبغير ذلك ولا يكون البيان المتأخر الا مستقلا بنفسه لا يكون مما يجب اقترانه بغيره فان جعلت هذا مجازا لزم أن يكون ما يحتاج في العمل إلى بيان مجازا، كقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103] . ثم يقال: هب إن هذا جائز عقلا لكن ليس واقعا في الشريعة أصلا وجميع ما يذكر من ذلك باطل كما قد بسط في موضعه فان الذين قالوا: الظاهر الذي لم يرد به ما يدل عليه ظاهره قد يؤخر بيانه احتجوا بقوله: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} [البقرة: 67] . وادعوا أنها كانت معينة وأخر بيان التعيين. وهذا خلاف ما استفاض عن السلف من الصحابة والتابعين لهم باحسان من أنهم أمروا ببقرة مطلقة فلو أخذوا بقرة من البقر فذبحوها، أجزأ عنهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم. والآية نكرة في سياق الاثبات، فهي مطلقة والقرآن يدل سياقه على أن الله ذمهم على السؤال بما هى ولو كان المأمور به معينا لما كانوا ملومين ثم إن مثل هذا لم يقع قط في أمر الله ورسوله أن يأمر عباده بشىء معين ويبهمه عليهم مرة بعد مرة ولا يذكره بصفات تختص به ابتداء. واحتجوا بأن الله أخر بيان لفظ الصلاة والزكاة والحج وان هذه الالفاظ لها معان في اللغة بخلاف الشرع وهذا غلط فان الله انما أمرهم بالصلاة بعد أن عرفوا المأمور به وكذلك الصيام، وكذلك الحج، ولم يؤخر الله قط بيان شىء من هذه المأمورات ولبسط هذه المسألة موضع آخر. وأما قول من يقول ان الحقيقة ما يسبق إلى الذهن عند الاطلاق فمن أفسد الأقوال فانه يقال إذا كان اللفظ لم ينطق به الا مقيدا فانه يسبق إلى الذهن في كل موضع منه ما دل عليه ذلك الموضع واما إذا اطلق فهو لا يستعمل في الكلام مطلقا قط فلم يبق له حال اطلاق محض حتى يقال ان الذهن يسبق اليه أم لا.

و [أيضا] فأى ذهن فإن العربى الذي يفهم كلام العرب يسبق إلى ذهنه من اللفظ ما لا يسبق إلى ذهن النبطى الذي صار يستعمل الألفاظ في غير معانيها ومن هنا غلط كثير من الناس فانهم قد تعودوا ما اعتادوه اما من خطاب عامتهم واما من خطاب علمائهم باستعمال اللفظ في معنى فإذا سمعوه في القرآن والحديث ظنوا أنه مستعمل في ذلك المعنى فيحملون كلام الله ورسوله على لغتهم النبطية وعادتهم الحادثة وهذا مما دخل به الغلط على طوائف بل الواجب أن تعرف اللغة والعادة والعرف الذي نزل في القرآن والسنة وما كان الصحابة يفهمون من الرسول عند سماع تلك الألفاظ فبتلك اللغة والعادة والعرف خاطبهم الله ورسوله لا بما حدث بعد ذلك. وأيضا فقد بينا في غير هذا الموضع أن الله ورسوله لم يدع شيئا من القرآن والحديث الا بين معناه للمخاطبين ولم يحوجهم إلى شىء آخر كما قد بسطنا القول فيه في غير هذا الموضع فقد تبين أن ما يدعيه هؤلاء من اللفظ المطلق من جميع القيود لا يوجد الا مقدرا في الأذهان لا موجودا في الكلام المستعمل كما أن ما يدعيه المنطقيون من المعنى المطلق من جميع القيود لا يوجد الا مقدرا في الذهن لا يوجد في الخارج شىء موجود خارج عن كل قيد ولهذا كان ما يدعونه من تقسيم العلم إلى تصور وتصديق وان التصور هو تصور المعنى الساذج الخإلى عن كل قيد لا يوجد وكذلك ما يدعونه من البسائط التى تتركب منها الأنواع وأنها أمور مطلقة عن كل قيد لا توجد وما يدعونه من أن واجب الوجود هو وجود مطلق عن كل أمر ثبوتى لا يوجد. فهذه الصفات المطلقات عن جميع القيود ينبغى معرفتها لمن ينظر في هذه العلوم فانه بسبب ظن وجودها ضل طوائف في العقليات والسمعيات بل إذا قال العلماء مطلق ومقيد انما يعنون به مطلقا عن ذلك القيد ومقيد بذلك القيد كما يقولون الرقبة مطلقة في آية كفارة اليمين ومقيدة في آية القتل أى مطلقة عن قيد الإيمان، والا فقد قيل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] ، فقيدت بأنها رقبة واحدة وأنها موجودة وأنها تقبل التحرير والذين يقولون بالمطلق المحض يقولون هو

الذي لا يتصف بوحدة ولا كثرة ولا وجود ولا عدم ولا غير ذلك بل هو الحقيقة من حيث هى هى كما يذكره الرازى تلقيا له عن ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة وقد بسطنا الكلام في هذا الاطلاق والتقيد والكليات والجزئيات في مواضع غير هذا وبينا من غلط هؤلاء في ذلك ما ليس هذا موضعه. وإنما المقصود هنا الاطلاق اللفظى وهو أن يتكلم باللفظ مطلقا عن كل قيد وهذا لا وجود له وحينئذ فلا يتكلم أحد الا بكلام مؤلف مقيد مرتبط بعضه ببعض فتكون تلك قيود ممتنعة الاطلاق فتبين أنه ليس لمن فرق بين الحقيقة والمجاز فرق معقول يمكن به التمييز بين نوعين فعلم أن هذا التقسيم باطل وحينئذ فكل لفظ موجود في كتاب الله ورسوله فانه مقيد بما يبين معناه فليس في شىء من ذلك مجاز بل كله حقيقة ولهذا لما ادعى كثير من المتأخرين أن في القرآن مجازا وذكروا ما يشهد لهم رد عليهم المنازعون جميع ما ذكروه. فمن اشهر ما ذكروه قوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} [الكهف: 77] . قالوا: والجدار ليس بحيوان، والارادة انما تكون للحيوان فاستعمالها في ميل الجدار مجاز فقيل لهم لفظ الارادة قد استعمل في الميل الذي يكون معه شعور وهو ميل الحى وفي الميل الذي لا شعور فيه وهو ميل الجماد وهو من مشهور اللغة يقال هذا السقف يريد أن يقع وهذه الأرض تريد أن تحرث وهذا الزرع يريد أن يسقى وهذا الثمر يريد أن يقطف وهذا الثوب يريد أن يغسل وأمثال ذلك. واللفظ إذا استعمل في معنيين فصاعدا فاما أن يجعل حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر أو حقيقة فيما يختص به كل منهما فيكون مشتركا اشتراكا لفظيا أو حقيقة في القدر المشترك بينهما وهى الأسماء المتواطئة وهى الأسماء العامة كلها وعلى الأول يلزم المجاز وعلى الثاني يلزم الاشتراك وكلاهما خلاف الأصل فوجب أن يجعل من المتواطئة وبهذا يعرف عموم الأسماء العامة كلها والا فلو قال قائل هو في ميل الجماد حقيقة وفي ميل

الحيوان مجاز لم يكن بين الدعويين فرق الا كثرة الاستعمال في ميل الحيوان لكن يستعمل مقيدا بما يبين أنه أريد به ميل الحيوان وهنا استعمل مقيدا بما يبين أنه أريد به ميل الجماد والقدر المشترك بين مسميات الأسماء المتواطئة أمر كلى عام لا يوجد كليا عاما الا في الذهن وهو مورد التقسيم بين الأنواع لكن ذلك المعنى العام الكلي كان أهل اللغة لا يحتاجون إلى التعبير عنه لأنهم إنما يحتاجون إلى ما يوجد في الخارج وإلى ما يوجد في القلوب في العادة وما لا يكون في الخارج إلا مضافا إلى غيره لا يوجد في الذهن مجردا بخلاف لفظ الإنسان والفرس فانه لما كان يوجد في الخارج غير مضاف تعودت الأذهان تصور مسمى الإنسان ومسمى الفرس بخلاف تصور مسمى الإرادة ومسمى العلم ومسمى القدرة ومسمى الوجود المطلق العام فان هذا لا يوجد له في اللغة لفظ مطلق يدل عليه بل لا يوجد لفظ الارادة الا مقيدا بالمريد ولا لفظ العلم الا مقيدا بالعالم ولا لفظ القدرة الا مقيدا بالقادر بل وهكذا سائر الأعراض لما لم توجد الا في محالها مقيدة بها لم يكن لها في اللغة لفظ الا كذلك. فلا يوجد في اللغة لفظ السواد والبياض والطول والقصر إلا مقيدا بالأسود والأبيض والطويل والقصير ونحو ذلك؛ لا مجردا عن كل قيد وإنما يوجد مجردا في كلام المصنفين في اللغة، لأنهم فهموا من كلام أهل اللغة ما يريدون به من القدر المشترك، ومنه قوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112] ، فإن من الناس من يقول: الذوق حقيقة في الذوق بالفم واللباس بما يلبس على البدن، وانما استعير هذا وهذا وليس كذلك بل قال الخليل الذوق في لغة العرب هو وجود طعم الشىء والاستعمال يدل على ذلك قال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} [السجدة: 21] ، وقال: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] ، وقال: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} [الطلاق: 9] ، وقال: {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 106] ، {فَذُوقُوا

عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 39] ، {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان: 56] ، {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ: 24، 25] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسولا " وفي بعض الأدعية " أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك ". فلفظ [الذوق] يستعمل في كل ما يحس به ويجد ألمه أو لذته فدعوى المدعى اختصاص لفظ الذوق بما يكون بالفم تحكم منه، لكن ذاك مقيد فيقال: ذقت الطعام وذقت هذا الشراب؛ فيكون معه من القيود ما يدل على أنه ذوق بالفم وإذا كان الذوق مستعملا فيما يحسه الانسان بباطنه أو بظاهره حتى الماء الحميم يقال: ذاقه فالشراب إذا كان باردا أو حارا يقال: ذقت حره وبرده. وأما لفظ [اللباس] فهو مستعمل في كل ما يغشى الانسان ويلتبس به، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ: 11] . وقال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] . وقال: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] . ومنه يقال لبس الحق بالباطل إذا خلطه به حتى غشيه فلم يتميز فالجوع الذي يشمل ألمه جميع الجائع نفسه وبدنه وكذلك الخوف الذي يلبس البدن فلو قيل: فأذاقها الله الجوع والخوف. لم يدل ذلك على أنه شامل لجميع أجزاء الجائع بخلاف ما إذا قيل: لباس الجوع والخوف ولو قال فألبسهم لم يكن فيه ما يدل على أنهم ذاقوا ما يؤلمهم الا بالعقل من حيث أنه يعرف أن الجائع الخائف يألم بخلاف لفظ ذوق الجوع والخوف فان هذا اللفظ يدل على الاحساس بالمؤلم وإذا أضيف إلى الملذ: دل على الاحساس به، كقوله صلى الله عليه وسلم: " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ". فان قيل: فلم لم يصف نعيم الجنة بالذوق قيل لأن الذوق يدل على جنس الاحساس ويقال: ذاق الطعام لمن وجد طعمه وان لم يأكله وأهل الجنة

نعيمهم كامل تام لا يقتصر فيه على الذوق، بل استعمل لفظ الذوق في النفي كما قال عن أهل النار: {لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} [النبأ: 24] ؛ أى لا يحصل لهم من ذلك ولا ذوق. وقال عن أهل الجنة: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان: 56] . وكذلك ما ادعوا أنه مجاز في القرآن كلفظ المكر والاستهزاء والسخرية المضاف إلى الله وزعموا أنه مسمى باسم ما يقابله على طريق المجاز وليس كذلك بل مسميات هذه الأسماء إذا فعلت بمن لا يستحق العقوبة كانت ظلما له وأما إذا فعلت بمن فعلها بالمجنى عليه عقوبة له بمثل فعله كانت عدلا كما قال تعالى كذلك كدنا ليوسف فكاد له كما كادت اخوته لما قال له أبوه لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيدا وقال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15، 16] ، وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًاوَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} [النمل: 50، 51] ، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79] ، ولهذا كان الاستهزاء بهم فعلا يستحق هذا الاسم كما روى عن ابن عباس أنه يفتح لهم باب من الجنة وهم في النار فيسرعون اليه فيغلق ثم يفتح لهم باب آخر فيسرعون اليه فيغلق فيضحك منهم المؤمنون؛ قال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين: 34: 36] . وعن الحسن البصرى إذا كان يوم القيامة خمدت النار لهم كما تخمد الاهالة من القدر فيمشون فيخسف بهم وعن مقاتل إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب فيبقون في الظلمة فيقال لهم ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا وقال بعضهم استهزاؤه استدراجه لهم وقيل ايقاع استهزائهم ورد خداعهم ومكرهم عليهم وقيل:

انه يظهر لهم في الدنيا خلاف ما أبطن في الآخرة وقيل هو تجهيلهم وتخطئتهم فيما فعلوه وهذا كله حق وهو استهزاء بهم حقيقة. ومن الأمثلة المشهورة لمن يثبت المجاز في القرآن: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، قالوا المراد به أهلها فحذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه فقيل لهم لفظ القرية والمدينة والنهر والميزاب وأمثال هذه الأمور التى فيها الحال والمحال كلاهما داخل في الاسم ثم قد يعود الحكم على الحال وهو السكان وتارة على المحل وهو المكان وكذلك في النهر يقال حفرت النهر وهو المحل وجرى النهر وهو الماء ووضعت الميزاب وهو المحل وجرى الميزاب وهو الماء وكذلك القرية، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} [النحل: 112] ، وقوله: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 4، 5] ، وقال في آية أخرى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ} [الأعراف: 97] . فجعل القرى هم السكان. وقال: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد: 13] . وهم السكان. وكذلك قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف: 59] . وقال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259] . فهذا المكان لا السكان لكن لابد أن يلحظ أنه كان مسكونا فلا يسمى قرية إلا إذا كان قد عمر للسكنى مأخوذ من القرى وهو الجمع ومنه قولهم: قريت الماء في الحوض إذا جمعته فيه.

ونظير ذلك لفظ [الإنسان] يتناول الجسد والروح ثم الاحكام تتناول هذا تارة وهذا تارة لتلازمهما؛ فكذلك القرية إذا عذب أهلها خربت وإذا خربت كان عذابا لأهلها فما يصيب أحدهما من الشر ينال الآخر كما ينال البدن والروح ما يصيب أحدهما. فقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] مثل قوله: {قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} [النحل: 112] . فاللفظ هنا يراد به السكان من غير اضمار ولا حذف فهذا بتقدير أن يكون في اللغة مجاز فلا مجاز في القرآن بل وتقسيم اللغة إلى حقيقة ومجاز تقسيم مبتدع محدث لم ينطق به السلف والخلف فيه على قولين وليس النزاع فيه لفظيا بل يقال نفس هذا التقسيم باطل لا يتميز هذا عن هذا ولهذا كان كل ما يذكرونه من الفروق تبين أنها فروق باطلة وكلما ذكر بعضهم فرقا أبطله الثاني كما يدعى المنطقيون أن الصفات القائمة بالموصوفات تنقسم اللازمة لها إلى داخل في ماهيتها الثابتة في الخارج وإلى خارج عنها لازم للماهية ولازم خارج للوجود وذكروا ثلاثة فروق كلها باطلة لأن هذا التقسيم باطل لا حقيقة له بل ما يجعلونه داخلا يمكن جعله خارجا وبالعكس كما قد بسط في موضعه. وقولهم: اللفظ إن دل بلا قرينة فهو حقيقة وان لم يدل الا معها فهو مجاز قد تبين بطلانه وأنه ليس في الالفاظ الدالة ما يدل مجردا عن جميع القرائن ولا فيها ما يحتاج إلى جميع القرائن وأشهر أمثلة المجاز لفظ الأسد والحمار والبحر ونحو ذلك مما يقولون أنه استعير للشجاع والبليد والجواد وهذه لا تستعمل الا مؤلفة مركبة مقيدة بقيود لفظية كما تستعمل الحقيقة كقول أبي بكر الصديق عن أبي قتادة لما طلب غيره سلب القتيل لاها الله إذا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله وصف له بالقوة للجهاد في سبيله وقد عينه

تعيينا أزال اللبس وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن خالدا سيف من سيوف الله سله الله على المشركين " وأمثال ذلك. وإن قال القائل: القرائن اللفظية موضوعة ودلالتها على المعنى حقيقة لكن القرائن الحالية مجاز قيل اللفظ لا يستعمل قط الا مقيدا بقيود لفظية موضوعة والحال حال المتكلم والمستمع لابد من اعتباره في جميع الكلام فانه إذا عرف المتكلم فهم من معنى كلامه ما لا يفهم إذا لم يعرف لأنه بذلك يعرف عادته في خطابه واللفظ انما يدل إذا عرف لغة المتكلم التى بها يتكلم وهى عادته وعرفه التى يعتادها في خطابه ودلالة اللفظ على المعنى دلالة قصدية ارادية اختيارية فالمتكلم يريد دلالة اللفظ على المعنى فإذا اعتاد أن يعبر باللفظ عن المعنى كانت تلك لغته ولهذا كل من كان له عناية بألفاظ الرسول ومراده بها: عرف عادته في خطابه، وتبين له من مراده ما لا يتبين لغيره. ولهذا ينبغى أن يقصد إذا ذكر لفظ من القرآن والحديث ان يذكر نظائر ذلك اللفظ مإذا عنى بها الله ورسوله فيعرف بذلك لغة القرآن والحديث وسنة الله ورسوله التى يخاطب بها عباده وهى العادة المعروفة من كلامه ثم إذا كان لذلك نظائر في كلام غيره وكانت النظائر كثيرة عرف أن تلك العادة واللغة مشتركة عامة لا يختص بها هو صلى الله عليه وسلم بل هى لغة قومه ولا يجوز أن يحمل كلامه على عادات حدثت بعده في الخطاب لم تكن معروفة في خطابه وخطاب أصحابه كما يفعله كثير من الناس وقد لا يعرفون انتفاء ذلك في زمانه ولهذا كان استعمال القياس في اللغة وان جاز في الاستعمال فانه لا يجوز في الاستدلال فانه قد يجوز بلانسان أن يستعمل هو اللفظ في نظير المعنى الذي استعملوه فيه مع بيان ذلك على ما فيه من النزاع لكن لا يجوز أن يعمد إلى ألفاظ قد عرف استعمالها في معان فيحملها على غير تلك المعانى ويقول انهم

أرادوا تلك بالقياس على تلك بل هذا تبديل وتحريف فإذا قال: " الجار أحق بسقبه " فالجار هو الجار ليس هو الشريك فان هذا لا يعرف في لغتهم لكن ليس في اللفظ ما يقتضى انه يستحق الشفعة لكن يدل على ان البيع له اولى. وأما الخمر فقد ثبت بالنصوص الكثيرة والنقول الصحيحة انها كانت اسما لكل مسكر لم يسم النبيذ خمرا بالقياس وكذلك النباش كانوا يسمونه سارقا؛ كما قالت عائشة سارق موتانا كسارق احيائنا واللائط عندهم كان أغلظ من الزانى بالمرأة. ولابد في تفسير القرآن والحديث من أن يعرف ما يدل على مراد الله ورسوله من الألفاظ، وكيف يفهم كلامة فمعرفة العربية التى خوطبنا بها مما يعين على أن نفقة مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة الالفاظ على المعانى؛ فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون أنه دال عليه ولا يكون الأمر كذلك ويجعلون هذة الدلالة حقيقة، وهذه مجازا كما أخطأ المرجئة في اسم الإيمان جعلوا لفظ الإيمان حقيقة في مجرد التصديق وتناولة للأعمال مجازا. فيقال: إن لم يصح التقسيم إلى حقيقة ومجازا فلا حاجة إلى هذا وإن صح فهذا لا ينفعكم بل هو عليكم لا لكم لأن الحقيقة هى اللفظ الذي يدل باطلاقه بلا قرينة والمجاز انما يدل بقرينة وقد تبين ان لفظ الايمان حيث اطلق في الكتاب والسنة دخلت فيه الأعمال، وإنما يدعى خروجها منه عند التقييد؛ وهذا يدل على أن الحقيقة قوله: " الإيمان بضع وسبعون شعبة ". وأما حديث جبريل فإن كان أراد بالإيمان ما ذكر مع الإسلام فهو كذلك وهذا هو المعنى الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم قطعا. كما أنه لما ذكر الإحسان أراد الإحسان مع الإيمان والإسلام لم يرد أن الإحسان مجرد عن إيمان وإسلام. ولو قدر أنه أريد بلفظ الإيمان مجرد التصديق فلم يقع ذلك إلا مع قرينة فيلزم أن يكون مجازا وهذا معلوم بالضرورة لا يمكننا المنازعة فيه بعد تدبر

القرآن والحديث بخلاف كون لفظ الايمان في اللغة مرادفا للتصديق ودعوى أن الشارع لم يغيره ولم ينقله بل أراد به ما كان يريده أهل اللغة بلا تخصيص ولا تقييد فان هاتين المقدمتين لا يمكن الجزم بواحدة منهما فلا يعارض اليقين كيف وقد عرف فساد كل واحدة من المقدمتين وأنها من أفسد الكلام. وأيضا فليس لفظ الإيمان في دلالته على الأعمال المأمور بها بدون لفظ الصلاة والصيام والزكاة والحج في دلالته على الصلاة الشرعية والصيام الشرعى والحج الشرعى سواء قيل إن الشارع نقله أو أراد الحكم دون الاسم أو أراد الاسم وتصرف فيه تصرف أهل العرف أو خاطب بالاسم مقيدا لا مطلقا. فإن قيل: الصلاة والحج ونحوهما لو ترك بعضها بطلت بخلاف الإيمان فإنه لا يبطل عند الصحابة وأهل السنة والجماعة بمجرد الذنب قيل أن إريد بالبطلان أنه لا تبرأ الذمة منها كلها فكذلك الايمان الواجب إذا ترك منه شيئا لم تبرأ الذمه منه كله وان أريد به وجوب الاعادة فهذا ليس على الإطلاق فإن في الحج واجبات إذا تركها لم يعد، بل تجبر بدم وكذلك في الصلاة عند أكثر العلماء إذا تركها سهوا أو مطلقا وجبت الإعادة فإنما تجب إذا أمكنت الإعادة وإلا فما تعذرت إعادته يبقى مطالبا به كالجمعة ونحوها. وإن أريد بذلك أنه لا يثاب على ما فعله فليس كذلك بل قد بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المسىء في صلاته أنه إذا لم يتمها يثاب على ما فعل ولا يكون بمنزلة من لم يصل وفي عدة أحاديث أن الفرائض تكمل يوم القيامة من النوافل فإذا كانت الفرائض مجبورة بثواب النوافل دل على أنه يعتدله بما فعل منها فكذلك الايمان إذا ترك منه شيئا كان عليه فعله ان كان محرما تاب منه وان كان واجبا فعله فإذا لم يفعله لم تبرأ ذمته منه وأثيب على ما فعله كسائر العبادات وقد دلت النصوص على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان. وقد عدلت المرجئة في هذا الأصل عن بيان الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم باحسان واعتمدوا على رأيهم وعلى ما تأولوه بفهمهم اللغة،

وهذه طريقة أهل البدع ولهذا كان الإمام أحمد يقول: أكثر ما يخطىء الناس من جهة التأويل والقياس. ولهذا تجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم ومعقولهم وما تأولوه من اللغة ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين فلا يعتمدون لا على السنة ولا على إجماع السلف وآثارهم وإنما يعتمدون على العقل واللغة وتجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديث وآثار السلف وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التى وضعتها رؤوسهم وهذه طريقة الملاحدة أيضا إنما يأخذون ما في كتب الفلسفة وكتب الأدب واللغة؛ وأما كتب القرآن والحديث والآثار فلا يلتقون اليها. هؤلاء يعرضون عن نصوص الأنبياء إذ هى عندهم لا تفيد العلم وأولئك يتأولون القرآن برأيهم وفهمهم بلا آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقد ذكرنا كلام أحمد وغيره في انكار هذا وجعله طريقة أهل البدع. وإذا تدبرت حججهم وجدت دعاوى لا يقوم عليها دليل والقاضى أبو بكر الباقلاني نصر قول جهم في مسألة الإيمان متابعة لأبي الحسن الأشعرى وكذلك أكثر أصحابه فأما أبو العباس القلانسى وأبو على الثقفي، وأبو عبد الله بن مجاهد شيخ القاضى أبي بكر وصاحب أبي الحسن فإنهم نصروا مذهب السلف وابن كلاب نفسه والحسين بن الفضل البجلي ونحوهما كانوا يقولون: هو التصديق والقول جميعا موافقة لمن قاله من فقهاء الكوفيين كحماد بن أبي سليمان، ومن اتبعه مثل أبي حنيفة وغيره. فصل وأبو الحسن الأشعري نصر قول جهم في الإيمان مع أنه نصر المشهور عن أهل السنة من أنه يستثني في الإيمان فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله ; لأنه نصر مذهب أهل السنة في أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة ولا يخلدون في النار

وتقبل فيهم الشفاعة ونحو ذلك، وهو دائما ينصر - في المسائل التي فيها النزاع بين أهل الحديث وغيرهم - قول أهل الحديث لكنه لم يكن خبيرا بمآخذهم فينصره على ما يراه هو من الأصول التي تلقاها عن غيرهم ; فيقع في ذلك من التناقض ما ينكره هؤلاء وهؤلاء , كما فعل في مسألة الإيمان ونصر فيها قول جهم مع نصره للاستثناء ; ولهذا خالفه كثير من أصحابه في الاستثناء كما سنذكر مأخذه في ذلك واتبعه أكثر أصحابه على نصر قول جهم في ذلك. ومن لم يقف إلا على كتب الكلام ولم يعرف ما قاله السلف وأئمة السنة في هذا الباب ; فيظن أن ما ذكروه هو قول أهل السنة ; وهو قول لم يقله أحد من أئمة السنة بل قد كفر أحمد بن حنبل ووكيع وغيرهما من قال بقول جهم في الإيمان الذي نصره أبو الحسن. وهو عندهم شر من قول المرجئة ; ولهذا صار من يعظم الشافعي من الزيدية والمعتزلة ونحوهم يطعن في كثير ممن ينتسب إليه يقولون: الشافعي لم يكن فيلسوفا ولا مرجئا وهؤلاء فلاسفة أشعرية مرجئة وغرضهم ذم الإرجاء ونحن نذكر عمدتهم لكونه مشهورا عند كثير من المتأخرين المنتسبين إلى السنة. قال القاضي أبو بكر في [التمهيد] : فإن قالوا: فخبرونا ما الإيمان عندكم؟ قيل: الإيمان هو التصديق بالله وهو العلم , والتصديق يوجد بالقلب فإن قال: فما الدليل على ما قلتم؟ قيل: إجماع أهل اللغة قاطبة على أن الإيمان قبل نزول القرآن وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم هو التصديق لا يعرفون في اللغة إيمانا غير ذلك ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا} [يوسف: 17] أي بمصدق لنا. ومنه قولهم: فلان يؤمن بالشفاعة وفلان لا يؤمن بعذاب القبر أي: لا يصدق بذلك. فوجب أن الإيمان في الشريعة هو الإيمان المعروف في اللغة ; لأن الله ما غير اللسان العربي ولا قلبه ولو فعل ذلك لتواترت الأخبار بفعله وتوفرت دواعي الأمة على نقله ولغلب إظهاره على كتمانه , وفي علمنا بأنه لم يفعل ذلك بل إقرار أسماء الأشياء والتخاطب بأسره على ما كان دليل على أن الإيمان في الشريعة هو الإيمان اللغوي ومما يبين ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا

مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] . فأخبر أنه أنزل القرآن بلغة العرب وسمى الأسماء بمسمياتهم ولا وجه للعدول بهذه الآيات عن ظواهرها بغير حجة لا سيما مع القول بالعموم وحصول التوقيف على أن القرآن نزل بلغتهم ; فدل على ما قلناه من أن الإيمان ما وصفناه دون ما سواه من سائر الطاعات من النوافل والمفروضات , هذا لفظه. وهذا عمدة من نصر قول الجهمية في مسألة الإيمان وللجمهور من أهل السنة وغيرهم عن هذا أجوبة. أحدها: قول من ينازعه في أن الإيمان في اللغة مرادف للتصديق ويقول هو بمعنى الإقرار وغيره. والثاني: قول من يقول: وإن كان في اللغة هو التصديق ; فالتصديق يكون بالقلب واللسان وسائر الجوارح كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ". والثالث: أن يقال: ليس هو مطلق التصديق بل هو تصديق خاص مقيد بقيود اتصل اللفظ بها وليس هذا نقلا للفظ ولا تغييرا له فإن الله لم يأمرنا بإيمان مطلق بل بإيمان خاص وصفه وبينه. والرابع: أن يقال: وإن كان هو التصديق ; فالتصديق التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح فإن هذه لوازم الإيمان التام , وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم , ونقول: إن هذه اللوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة وتخرج عنه أخرى.

والخامس: قول من يقول: إن اللفظ باقٍ على معناه في اللغة، ولكن الشارع زاد فيه أحكامًا. والسادس: قول من يقول: إن الشارع استعمله في معناه المجازي، فهو حقيقة شرعية، مجاز لغوي. السابع: قول من يقول: إنه منقول. فهذه سبعة أقوال: الأول: قول من ينازع في أن معناه في اللغة التصديق، ويقول: ليس هو التصديق، بل بمعنى الإقرار وغيره. قوله: إجماع أهل اللغة قاطبة على أن الإيمان قبل نزول القرآن هو التصديق. فيقال له: من نقل هذا الإجماع؟ ومن أين يعلم هذا الإجماع؟ وفي أي كتاب ذكر هذا الإجماع؟ الثاني: أن يقال: أتعني بأهل اللغة: نقلتها، كأبي عمرو، والأصمعي، والخليل، ونحوهم، أو المتكلمين بها؟ فإن عنيت الأول؛ فهؤلاء لا ينقلون كل ما كان قبل الإسلام بإسناد، وإنما ينقلون ما سمعوه من العرب في زمانهم، وما سمعوه في دواوين الشعر وكلام العرب وغير ذلك بالإسناد. ولا نعلم فيما نقلوه لفظ الإيمان، فضلًا عن أن يكونوا أجمعوا عليه، وإن عنيت المتكلمين بهذا اللفظ قبل الإسلام، فهؤلاء لم نشهدهم، ولا نقل لنا أحد عنهم ذلك. الثالث: أنه لا يعرف عن هؤلاء جميعهم أنهم قالوا: الإيمان في اللغة هو التصديق، بل ولا عن بعضهم، وإن قدر أنه قاله واحد أو اثنان؛ فليس هذا إجماعًا. الرابع: أن يقال: هؤلاء لا ينقلون عن العرب أنهم قالوا: معنى هذا اللفظ كذا وكذا، وإنما ينقلون الكلام المسموع من العرب، وأنه يفهم منه كذا وكذا، وحينئذ فلو قدر أنهم نقلوا كلامًا عن العرب يفهم منه أن الإيمان هو التصديق، لم يكن ذلك أبلغ من نقل المسلمين كافة للقرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان مع ذلك قد يظن بعضهم أنه أريد به معنى ولم يرده؛ فظن هؤلاء ذلك فيما ينقلونه عن العرب أولى.

الخامس: أنه لو قدر أنهم قالوا هذا، فهم آحاد لا يثبت بنقلهم التواتر، والتواتر من شرطه استواء الطرفين والواسطة، وأين التواتر الموجود عن العرب قاطبة قبل نزول القرآن؟ إنهم كانوا لا يعرفون للإيمان معنى غير التصديق. فإن قيل: هذا يقدح في العلم باللغة قبل نزول القرآن، قيل: فليكن، ونحن لا حاجة بنا مع بيان الرسول لما بعثه الله به من القرآن أن نعرف اللغة قبل نزول القرآن، والقرآن نزل بلغة قريش، والذين خوطبوا به كانوا عربًا، وقد فهموا ما أريد به وهم الصحابة، ثم الصحابة بلغوا لفظ القرآن ومعناه إلى التابعين حتى انتهى إلينا، فلم يبق بنا حاجة إلى أن تتواتر عندنا تلك اللغة من غير طريق تواتر القرآن، لكن لما تواتر القرآن لفظًا ومعنى، وعرفنا أنه نزل بلغتهم، عرفنا أنه كان في لغتهم لفظ السماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، ونحو ذلك على ما هو معناها في القرآن. وإلا فلو كلفنا نقلًا متواترًا لآحاد هذه الألفاظ من غير القرآن، لتعذر علينا ذلك في جميع الألفاظ، لا سيما إذا كان المطلوب أن جميع العرب كانت تريد باللفظ هذا المعنى، فإن هذا يتعذر العلم به والعلم بمعاني القرآن ليس موقوفًا على شيء من ذلك، بل الصحابة بلغوا معاني القرآن، كما بلغوا لفظه. ولو قدرنا أن قومًا سمعوا كلامًا أعجميًا، وترجموه لنا بلغتهم، لم نحتج إلى معرفة اللغة التي خوطبوا بها أولاً. السادس: أنه لم يذكر شاهدًا من كلام العرب على ما ادعاه عليهم، وإنما استدل من غير القرآن بقول الناس: فلان يؤمن بالشفاعة، وفلان يؤمن بالجنة والنار، وفلان يؤمن بعذاب القبر. وفلان لا يؤمن بذلك، ومعلوم أن هذا ليس من ألفاظ العرب قبل نزول القرآن، بل هو مما تكلم الناس به بعد عصر الصحابة، لما صار من الناس أهل البدع يكذبون بالشفاعة وعذاب القبر ومرادهم بذلك هو مرادهم بقوله: فلان يؤمن بالجنة والنار، وفلان لا يؤمن بذلك. والقائل لذلك وإن كان تصديق القلب داخلًا في مراده، فليس مراده ذلك وحده، بل مراده التصديق بالقلب واللسان، فإن مجرد تصديق القلب بدون اللسان لا يعلم حتى يخبر به عنه.

السابع: أن يقال: من قال ذلك، فليس مراده التصديق بما يرجى ويخاف بدون خوف ولا رجاء، بل يصدق بعذاب القبر ويخافه، ويصدق بالشفاعة ويرجوها. وإلا فلو صدق بأنه يعذب في قبره، ولم يكن في قلبه خوف من ذلك أصلًا. لم يسموه مؤمنًا به، كما أنهم لا يسمون مؤمنًا بالجنة والنار إلا من رجا الجنة وخاف النار، دون المعرض عن ذلك بالكلية مع علمه بأنه حق. كما لا يسمون إبليس مؤمنا بالله، وإن كان مصدقًا بوجوده وربوبيته، ولا يسمون فرعون مؤمنًا، وإن كان عالمًا بأن الله بعث موسى، وأنه هو الذي أنزل الآيات، وقد استيقنت بها أنفسهم مع جحدهم لها بألسنتهم. ولا يسمون اليهود مؤمنين بالقرآن والرسول، وإن كانوا يعرفون أنه حق، كما يعرفون أبناءهم. فلا يوجد قط في كلام العرب أن من علم وجود شيء مما يخاف ويرجى، ويجب حبه وتعظيمه، وهو مع ذلك لا يحبه ولا يعظمه، ولا يخافه ولا يرجوه، بل يجحد به ويكذب به بلسانه، أنهم يقولون: هو مؤمن، بل ولو عرفه بقلبه وكذب به بلسانه، لم يقولوا: هو مصدق به. ولو صدق به مع العمل بخلاف مقتضاه، لم يقولوا: هو مؤمن به. فلا يوجد في كلام العرب شاهد واحد يدل على ما ادعوه. وقوله: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا} [يوسف: 17] قد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع، فإن هذا استدلال بالقرآن، وليس في الآية ما يدل على أن المصدق مرادف للمؤمن، فإن صحة هذا المعنى بأحد اللفظين لا يدل على أنه مرادف للآخر، كما بسطناه في موضعه. الوجه الثامن: قوله: لا يعرفون في اللغة إيمانًا غير ذلك. من أين له هذا النفي الذي لا تمكن الإحاطه به؟ بل هو قول بلا علم. التاسع: قول من يقول: أصل الإيمان مأخوذ من الأمن، كما ستأتي أقوالهم إن شاء الله. وقد نقلوا في اللغة الإيمان بغير هذا المعنى. كما قاله الشيخ أبو البيان في قول.

الوجه العاشر: أنه لو فرض أن الإيمان في اللغة التصديق، فمعلوم أن الإيمان ليس هو التصديق بكل شيء، بل بشيء مخصوص، وهو ما أخبر به الرسول، صلى الله عليه وسلم، وحينئذ فيكون الإيمان في كلام الشارع أخص من الإيمان في اللغة، ومعلوم أن الخاص ينضم إليه قيود لا توجد في جميع العام كالحيوان إذا أخذ بعض أنواعه وهو الإنسان كان فيه المعنى العام ومعنى اختص به، وذلك المجموع ليس هو المعنى العام. فالتصديق الذي هو الإيمان، أدنى أحواله أن يكون نوعًا من التصديق العام، فلا يكون مطابقًا له في العموم والخصوص من غير تغيير اللسان ولا قلبه، بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفًا من العام والخاص كالإنسان الموصوف بأنه حيوان وأنه ناطق. الوجه الحادي عشر: أن القرآن ليس فيه ذكر إيمان مطلق غير مفسر، بل لفظ الإيمان فيه إما مقيد، وإما مطلق مفسر. فالمقيد كقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] ، وقوله: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} [يونس: 83] ، والمطلق المفسر كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية [الأنفال: 2] ، وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] ونحو ذلك. وقوله: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65] وأمثال هذه الآيات. وكل إيمان مطلق في القرآن فقد يبين فيه أنه لا يكون الرجل مؤمنا إلا بالعمل مع التصديق، فقد بين في القرآن أن الإيمان لابد فيه من عمل مع التصديق، كما ذكر مثل ذلك في اسم الصلاة والزكاة والصيام والحج. فإن قيل: تلك الأسماء باقية، ولكن ضم إلى المسمى إعمالًا في الحكم لا في الاسم، كما يقوله القاضي أبو يعلي وغيره، قيل: إن كان هذا صحيحًا قيل مثله في الإيمان. وقد أورد هذا السؤال لبعضهم، ثم لم يجب عنه بجواب صحيح، بل زعم أن القرآن لم يذكر فيه ذلك. وليس كذلك، بل القرآن والسنة مملوآن

بما يدل على أن الرجل لا يثبت له حكم الإيمان إلا بالعمل مع التصديق. وهذا في القرآن أكثر بكثير من معنى الصلاة والزكاة، فإن تلك إنما فسرتها السنة، والإيمان بين معناه الكتاب والسنة، وإجماع السلف. الثاني عشر: أنه إذا قيل: إن الشارع خاطب الناس بلغة العرب، فإنما خاطبهم بلغتهم المعروفة، وقد جرى عرفهم أن الاسم يكون مطلقًا وعامًا، ثم يدخل فيه قيد أخص من معناه، كما يقولون: ذهب إلى القاضي والوالي والأمير، ويريدون شخصًا معينًا يعرفونه دلت عليه اللام مع معرفتهم به. وهذا الاسم في اللغة اسم جنس لا يدل على خصوص شخص، وأمثال ذلك. فكذلك الإيمان والصلاة والزكاة، إنما خاطبهم بهذه الأسماء بلام التعريف، وقد عرفهم قبل ذلك أن المراد الإيمان الذي صفته كذا وكذا، والدعاء الذي صفته كذا وكذا. فبتقدير أن يكون في لغتهم التصديق، فإنه قد يبين أني لا أكتفي بتصديق القلب واللسان، فضلًا عن تصديق القلب وحده، بل لابد أن يعمل بموجب ذلك التصديق، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] وفي قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تؤمنون حتى تكونوا كذا "، وفي قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] ، وفي قوله: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء} [المائدة: 81] ، ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة، كقوله عليه السلام: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ". وقوله: " لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه ". وأمثال ذلك. فقد بين لهم أن التصديق الذي لا يكون الرجل مؤمنًا إلا به، هو أن يكون تصديقًا على هذا الوجه، وهذا بين في القرآن والسنة من غير تغيير للغة ولا نقل لها.

الثالث عشر: أن يقال: بل نقل وغير. قوله: لو فعل لتواتر. قيل: نعم. وقد تواتر أنه أراد بالصلاة والزكاة والصيام والحج معانيها المعروفه، وأراد بالإيمان ما بينه بكتابه وسنة رسوله من أن العبد لا يكون مؤمنا إلا به، كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 2] ، وهذا متواتر في القرآن والسنن ومتواتر أيضًا أنه لم يكن يحكم لأحد بحكم الإيمان إلا أن يؤدي الفرائض. ومتواتر عنه أنه أخبر أنه: من مات مؤمنًا دخل الجنة ولم يعذب، وأن الفساق لا يستحقون ذلك، بل هم معرضون للعذاب. فقد تواتر عنه من معاني اسم الإيمان وأحكامه ما لم يتواتر عنه في غيره، فأي تواتر أبلغ من هذا؟ ! وقد توفرت الدواعي على نقل ذلك وإظهاره، ولله الحمد. ولا يقدر أحد أن ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلًا يناقض هذا. لكن أخبر أنه يخرج منها من كان معه شيء من الإيمان. ولم يقل: إن المؤمن يدخلها، ولا قال: إن الفساق مؤمنون. لكن أدخلهم في مسمى الإيمان في مواضع، كما أدخل المنافقين في اسم الإيمان في مواضع مع القيود. وأما الاسم المطلق الذي وعد أهله بالجنة، فلم يدخل فيه لا هؤلاء ولا هؤلاء. الوجه الرابع عشر: قوله: ولا وجه للعدول بالآيات التي تدل على أنه عربي عن ظاهرها، فيقال له: الآيات التي فسرت المؤمن، وسلبت الإيمان عمن لم يعمل؛ أصرح وأبين وأكثر من هذه الآيات. ثم إذا دلت على أنه عربي، فما ذكر لا يخرجه عن كونه عربيًا؛ ولهذا لما خاطبهم بلفظ الصلاة والحج وغير ذلك، لم يقولوا: هذا ليس بعربي. بل خاطبهم باسم المنافقين، وقد ذكر أهل اللغة أن هذا الاسم لم يكن يعرف في الجاهلية، ولم يقولوا: إنه ليس بعربي، لأن المنافق مشتق من نفق إذا خرج، فإذا كان اللفظ مشتقًا من لغتهم وقد تصرف فيه المتكلم به كما جرت عادتهم في لغتهم، لم يخرج ذلك عن كونه عربيًا. الوجه الخامس عشر: أنه لو فرض أن هذه الألفاظ ليست عربية، فليس تخصيص عموم هذه الألفاظ بأعظم من إخراج لفظ الإيمان عما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف، فإن النصوص التي تنفي الإيمان عمن لا يحب الله ورسوله، ولا يخاف الله ولا يتقيه ولا يعمل شيئًا من الواجب، ولا يترك شيئًا من المحرم،

كثيرة صريحة، فإذا قدر أنها عارضها آية، كان تخصيص اللفظ القليل العام أولي من رد النصوص الكثيرة الصريحة. السادس عشر: أن هؤلاء واقفة في ألفاظ العموم لا يقولون بعمومها والسلف يقولون: الرسول وقفنا على معاني الإيمان وبينه لنا. وعلمنا مراده منه بالاضطرار، وعلمنا من مراده علمًا ضروريًا أن من قيل: إنه صدق. ولم يتكلم بلسانه بالإيمان مع قدرته على ذلك، ولا صلى ولا صام، ولا أحب الله ورسوله ولا خاف الله، بل كان مبغضًا للرسول، معاديًا له يقاتله، أن هذا ليس بمؤمن. كما قد علمنا أن الكفار من المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يعلمون أنه رسول الله وفعلوا ذلك معه، كانوا عنده كفارًا لا مؤمنين، فهذا معلوم عندنا بالاضطرار أكثر من علمنا بأن القرآن كله ليس فيه لفظ غير عربي. فلو قدر التعارض، لكان تقديم ذلك العلم الضروري أولى. فإن قالوا: من علم أن الرسول كفره، علم انتفاء التصديق من قلبه. قيل لهم: هذه مكابرة، إن أرادوا أنهم كانوا شاكِّين مرتابين. وأما إن عني التصديق الذي لم يحصل معه عمل، فهو ناقص كالمعدوم، فهذا صحيح. ثم إنما يثبت، إذا ثبت أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، وذاك إنما يثبت بعد تسليم هذه المقدمات التي منها هذا، فلا تثبت الدعوى بالدعوي مع كفر صاحبها. ثم يقال: قد علمنا بالاضطرار أن اليهود وغيرهم كانوا يعرفون أن محمدًا رسول الله، وكان يحكم بكفرهم. فقد علمنا من دينه ضرورة أنه يكفر الشخص مع ثبوت التصديق بنبوته في القلب، إذا لم يعمل بهذا التصديق، بحيث يحبه ويعظمه، ويسلم لما جاء به. ومما يعارضون به أن يقال: هذا الذي ذكرتموه، إن كان صحيحًا، فهو أدل على قول المرجئة، بل على قول الكرَّامِية منه على قولكم، وذلك أن الإيمان إذا

كان هو التصديق كما ذكرتم، فالتصديق نوع من أنواع الكلام، فاستعمال لفظ الكلام والقول ونحو ذلك في المعنى واللفظ، بل في اللفظ الدال على المعنى أكثر في اللغة من استعماله في المعنى المجرد عن اللفظ، بل لا يوجد قط إطلاق اسم الكلام ولا أنواعه: كالخبر أو التصديق والتكذيب والأمر والنهي على مجرد المعنى من غير شيء يقترن به من عبارة ولا إشارة ولا غيرهما، وإنما يستعمل مقيدًا. وإذا كان الله إنما أنزل القرآن بلغة العرب، فهي لا تعرف التصديق والتكذيب وغيرهما من الأقوال إلا ما كان معنى ولفظًا، أو لفظًا يدل على معنى؛ ولهذا لم يجعل الله أحدًا مصدقًا للرسل بمجرد العلم والتصديق الذي في قلوبهم حتى يصدقوهم بألسنتهم، ولا يوجد في كلام العرب أن يقال: فلان صدق فلانًا أو كذبه، إذا كان يعلم بقلبه أنه صادق أو كاذب ولم يتكلم بذلك، كما لا يقال: أمره أو نهاه، إذا قام بقلبه طلب مجرد عما يقترن به من لفظ أو إشارة أو نحوهما. ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ". وقال: " إن الله يحدث من أمره ما شاء، وإن مما أحدث ألاّ تكلِّموا في الصلاة " اتفق العلماء على أنه إذا تكلم في الصلاة عامدًا لغير مصلحتها، بطلت صلاته. واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلم بذلك، فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام. وأيضًا، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله تجاوز لأمتى عما حَدَّثَتْ به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به " فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم، ففرق بين حديث النفس وبين الكلام، وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به، والمراد حتى ينطق به اللسان باتفاق العلماء، فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة؛ لأن الشارع كما قرر إنما خاطبنا بلغة العرب.

وأيضًا، ففي السنن أن معاذًا قال له: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: " وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حَصَائِدُ ألسنتهم " فبين أن الكلام إنما هو ما يكون باللسان. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ". وفي الصحيحين عنه أنه قال: " كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم " وقد قال الله تعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} [الكهف: 4، 5] ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أفضل الكلام بعد القرآن أربع كلمات، وهن في القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ". رواه مسلم. وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] ومثل هذا كثير. وفي الجملة، حيث ذكر الله في كتابه عن أحد من الخلق من الأنبياء، أو أتباعهم أو مكذبيهم أنهم قالوا ويقولون، وذلك قولهم وأمثال ذلك، فإنما يعني به المعنى مع اللفظ، فهذا اللفظ وما تصرف منه من فعل ماض ومضارع وأمر، ومصدر واسم فاعل من لفظ القول والكلام ونحوهما، إنما يعرف في القرآن والسنة وسائر كلام العرب إذا كان لفظًا ومعنى، وكذلك أنواعه، كالتصديق والتكذيب والأمر والنهي وغير ذلك، وهذا مما لا يمكن أحدًا جحده، فإنه أكثر من أن يحصى. ولم يكن في مسمى الكلام نزاع بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وتابعيهم، لا من أهل السنة، ولا من أهل

البدعة، بل أول من عرف في الإسلام أنه جعل مسمى الكلام المعنى فقط، هو عبد الله بن سعيد بن كُلاب، وهو متأخر في زمن محنة أحمد بن حنبل وقد أنكر ذلك عليه علماء السنة، وعلماء البدعة، فيمتنع أن يكون الكلام الذي هو أظهر صفات بني آدم كما قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 23] . ولفظه لا تحصى وجوهه كثرة - لم يعرفه أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم حتى جاء من قال فيه قولًا لم يسبقه إليه أحد من المسلمين، ولا غيرهم. فإن قالوا: فقد قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ} [المجادلة: 8] ، وقال: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] ونحو ذلك. قيل: إن كان المراد أنهم قالوه بألسنتهم سرًا، فلا حجة فيه، وهذا هو الذي ذكره المفسرون. قالوا: كانوا يقولون: سلام عليك، فإذا خرجوا يقولون في أنفسهم، أي يقول بعضهم لبعض: لو كان نبيًا عذبنا بقولنا له ما نقول. وإن قدر أنه أريد بذلك أنهم قالوه في قلوبهم، فهذا قول مقيد بالنفس، مثل قوله: " عما حدثت به أنفسها "؛ ولهذا قالوا: لولا يعذبنا الله بما نقول فأطلقوا لفظ القول هنا، والمراد به ما قالوه بألسنتهم؛ لأنه النجوى والتحية التي نهوا عنها كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8] ، مع أن الأول هو الذي عليه أكثر المفسرين، وعليه تدل نظائره؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ". ليس المراد أنه لا يتكلم به بلسانه، بل المراد أنه ذكر الله بلسانه. وكذلك قوله: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: 205] هو الذكر باللسان، والذي يقيد بالنفس لفظ الحديث يقال: حديث النفس، ولم

يوجد عنهم أنهم قالوا: كلام النفس وقول النفس؛ كما قالوا: حديث النفس؛ ولهذا يعبر بلفظ الحديث عن الأحلام التي ترى في المنام، كقول يعقوب عليه السلام: {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف: 6] ، وقول يوسف: {وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف: 101] ، وتلك في النفس، لا تكون باللسان؛ فلفظ الحديث قد يقيد بما في النفس، بخلاف لفظ الكلام فإنه لم يعرف أنه أريد به ما في النفس فقط. وأما قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13] ، فالمراد به القول الذي تارة يسر به فلا يسمعه الإنسان، وتارة يجهر به فيسمعونه كما يقال: أسر القراءة وجهر بها، وصلاة السر وصلاة الجهر؛ ولهذا لم يقل: قولوه بألسنتكم أو بقلوبكم، وما في النفس لا يتصور الجهر به، وإنما يجهر بما في اللسان، وقوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} من باب التنبيه. يقول: إنه يعلم ما في الصدور فكيف لا يعلم القول، كما قال في الآية الأخرى: {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7] فنبه بذلك على أنه يعلم الجهر، ويدل على ذلك أنه قال: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فلو أراد بالقول ما في النفس لكونه ذكر علمه بذات الصدور، لم يكن قد ذكر علمه بالنوع الآخر وهو الجهر. وإن قيل: نبه، قيل: بل نبه على القسمين. وقوله تعالى: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا} [آل عمران: 41] ، قد ذكر هذا في قوله: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10] ، وهناك لم يستثن شيئًا، والقصة واحدة، وهذا يدل على أن الاستثناء منقطع، والمعنى، آيتك ألا تكلم الناس، لكن ترمز لهم رمزًا، كنظائره في القرآن، وقوله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} [مريم: 11] هو الرمز، ولو قدر أن الرمز استثناء متصل لكان قد دخل في الكلام المقيد بالإستثناء، كما في قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} [الشورى: 51] .

ولا يلزم من ذلك أن يدخل في لفظ الكلام المطلق، فليس في لغة القوم أصلًا ما يدل على أن ما في النفس يتناوله لفظ الكلام والقول المطلق، فضلًا عن التصديق والتكذيب، فعلم أن من لم يصدق بلسانه مع القدرة لا يسمى في لغة القوم مؤمنًا، كما اتفق على ذلك سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. وقول عمر رضي الله عنه: زورت في نفسي مقالة أردت أن أقولها، حجة عليهم. قال أبو عبيد: التزوير إصلاح الكلام وتهيئته، قال: وقال أبو زيد: المُزَوَّر من الكلام والمزوَّق واحد، وهو المصلح الحسن، وقال غيره: زورت في نفسي مقالة، أي: هيأتها لأقولها. فلفظها يدل على أنه قدر في نفسه ما يريد أن يقوله ولم يقله، فعلم أنه لا يكون قولًا إلا إذا قيل باللسان، وقبل ذلك لم يكن قولًا، لكن كان مقدرًا في النفس يراد أن يقال، كما يقدر الإنسان في نفسه أنه يحج وأنه يصلي، وأنه يسافر، إلى غير ذلك، فيكون لما يريده من القول والعمل صورة ذهنية مقدرة في النفس، ولكن لا يسمى قولًا وعملًا إلا إذا وجد في الخارج، كما أنه لا يكون حاجًا ومصليًا إلا إذا وجدت هذه الأفعال في الخارج؛ ولهذا كان ما يهم به المرء من الأقوال المحرمة والأفعال المحرمة لا تكتب عليه حتى يقوله، ويفعله، وما هم به من القول الحسن، والعمل الحسن إنما يكتب له به حسنة واحدة، فإذا صار قولًا وفعلًا كتب له به عشر حسنات إلى سبعمائة، وعوقب عليه إذا قال أو فعل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله تجاوز لأمتي عما حدّثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل ". وأما البيت الذي يحكى عن الأخطل أنه قال: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلاً فمن الناس من أنكر أن يكون هذا من شعره، وقالوا: إنهم فتشوا دواوينه فلم يجدوه، وهذا يروى عن محمد بن الخشاب، وقال بعضهم: لفظه: إن البيان لفي الفؤاد.

ولو احتج مُحتج في مسألة بحديث أخرجاه في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم لقالوا: هذا خبر واحد، ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول، وهذا البيت لم يثبت نقله عن قائله بإسناد صحيح لا واحد ولا أكثر من واحد، ولا تلقاه أهل العربية بالقبول، فكيف يثبت به أدنى شيء من اللغة، فضلًا عن مسمى الكلام. ثم يقال: مسمى الكلام والقول ونحوهما ليس هو مما يحتاج فيه إلى قول شاعر، فإن هذا مما تكلم به الأولون والآخرون من أهل اللغة، وعرفوا معناه في لغتهم، كما عرفوا مسمى الرأس واليد والرجل. وأيضًا، فالناطقون باللغة يحتج باستعمالهم للألفاظ في معانيها، لا بما يذكرونه من الحدود، فإن أهل اللغة الناطقين لا يقول أحد منهم: إن الرأس كذا، واليد كذا، والكلام كذا، واللون كذا، بل ينطقون بهذه الألفاظ دالة على معانيها، فتعرف لغتهم من استعمالهم. فعلم أن الأخطل لم يرد بهذا أن يذكر مسمى الكلام ولا أحد من الشعراء يقصد ذلك البتة، وإنما أراد: إن كان قال ذلك ما فسره به المفسرون للشعر، أي: أصل الكلام من الفؤاد، وهو المعنى، فإذا قال الإنسان بلسانه ما ليس في قلبه فلا تثق به، وهذا كالأقوال التي ذكرها الله عن المنافقين، ذكر أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم؛ ولهذا قال: لا يعجبنك من أثير لفظه ... حتى يكون مع الكلام أصيلا إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا نهاه أن يعجب بقوله الظاهر حتى يعلم ما في قلبه من الأصل؛ ولهذا قال: حتى يكون مع الكلام أصيلًا. وقوله: مع الكلام: دليل على أن اللفظ الظاهر قد سماه كلامًا، وإن لم يعلم قيام معناه بقلب صاحبه، وهذا حجة عليهم، فقد اشتمل شعره على هذا وهذا، بل قوله: [مع الكلام] مطلق. وقوله: إن الكلام لفي الفؤاد. أراد به أصله ومعناه المقصود به، واللسان دليل على ذلك.

وبالجملة، فمن احتاج إلى أن يعرف مسمى الكلام في لغة العرب، والفرس، والروم، والترك، وسائر أجناس بني آدم بقول شاعر، فإنه من أبعد الناس عن معرفة طرق العلم. ثم هو من المولًِّدين، وليس من الشعراء القدماء، وهو نصراني كافر مُثَلِّث، واسمه الأخطل، والخَطَل فساد في الكلام، وهو نصراني والنصارى قد أخطؤوا في مسمى الكلام، فجعلوا المسيح القائم بنفسه هو نفس كلمة الله. فتبين أنه إن كان الإيمان في اللغة هو التصديق، والقرآن إنما أراد به مجرد التصديق الذي هو قول، ولم يُسَمِّ العمل تصديقًا، فليس الصواب إلا قول المرجئة: إنه اللفظ والمعنى. أو قول الكَرَّامية: إنه قول باللسان فقط، فإن تسمية قول اللسان قولًا أشهر في اللغة من تسمية معنى في القلب قولًا، كقوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11] ، وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] وأمثال ذلك، بخلاف ما في النفس، فإنه إنما يسمى حديثا. والكرامية يقولون: المنافق مؤمن وهو مُخَلَّد في النار؛ لأنه آمن ظاهرًا لا باطنًا، وإنما يدخل الجنة من آمن ظاهرًا وباطنًا. قالوا: والدليل على شمول الإيمان له أنه يدخل في الأحكام الدينية المعلقة باسم الإيمان كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ويخاطب في الظاهر بالجمعة، والطهارة، وغير ذلك مما خوطب به الذين آمنوا. وأما من صدق بقلبه ولم يتكلم بلسانه، فإنه لا يعلق به شيء من أحكام الإيمان، لافي الدنيا ولا في الآخرة، ولا يدخل في خطاب الله لعباده بقوله:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} [البقرة: 104] ، فعلم قول الكرامية في الإيمان وإن كان باطلًا مبتدعًا لم يسبقهم إليه أحد، فقول الجهمية أبطل منه، وأولئك أقرب إلى الاستدلال باللغة والقرآن والعقل من الجهمية. والكرامية توافق المرجئة والجهمية في أن إيمان الناس كلهم سواء ولا يستثنون في الإيمان، بل يقولون: هو مؤمن حقًا لمن أظهر الإيمان، وإذا كان منافقًا فهو مخلد في النار عندهم، فإنه إنما يدخل الجنة من آمن باطنًا وظاهرًا، ومن حكي عنهم أنهم يقولون: المنافق يدخل الجنة، فقد كذب عليهم، بل يقولون: المنافق مؤمن لأن الإيمان هو القول الظاهر، كما يسميه غيرهم مسلمًا؛ إذ الإسلام: هو الاستسلام الظاهر، ولا ريب أن قول الجهمية أفسد من قولهم من وجوه متعددة، شرعًا ولغة وعقلا. وإذا قيل: قول الكرَّامية قول خارج عن إجماع المسلمين، قيل: وقول جهم في الإيمان قول خارج عن إجماع المسلمين قبله، بل السلف كفروا من يقول بقول جهم في الإيمان. وقد احتج الناس على فساد قول الكرامية بحجج صحيحة، والحجج من جنسها على فساد قول الجهمية أكثر، مثل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] ، قالوا: فقد نفى الله الإيمان عن المنافقين. فنقول: هذا حق، فإن المنافق ليس بمؤمن، وقد ضل من سماه مؤمنا، وكذلك من قام بقلبه علم وتصديق وهو يجحد الرسول ويعاديه، كاليهود وغيرهم، سماهم الله كفارًا لم يسمهم مؤمنين قط ولا دخلوا في شيء من أحكام الإيمان، بخلاف المنافق فإنه يدخل في أحكام الإيمان الظاهرة في الدنيا، بل قد نفى الله الإيمان عمن قال بلسانه وقلبه إذا لم يعمل، كما قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 14، 15] ، فنفى الإيمان عمن سوى

هؤلاء. وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور: 47] ، والتولي هو: التولي عن الطاعة كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 16] . وقال تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة: 31، 32] ، وقد قال تعالى: {لا يَصْلاهَا إِلاَّ الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 15، 16] ، وكذلك قال موسى وهارون: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48] . فعلم أن التولي ليس هو التكذيب، بل هو التولي عن الطاعة، فإن الناس عليهم أن يصدقوا الرسول فيما أخبر، ويطيعوه فيما أمر. وضد التصديق التكذيب، وضد الطاعة التولي؛ فلهذا قال: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة 31: 32] ، وقد قال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور: 47] ، فنفى الإيمان عمن تولى عن العمل، وإن كان قد أتى بالقول، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] ، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] . ففي القرآن والسنة من نفى الإيمان عمن لم يأت بالعمل مواضع كثيرة، كما نفى فيها الإيمان عن المنافق. وأما العالم بقلبه مع المعاداة والمخالفة الظاهرة، فهذا لم يسم قط مؤمنًا، وعند الجهمية إذا كان العلم في قلبه فهو مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان النبيين، ولو قال وعمل ماذا عسى أن يقول ويعمل؟ ولا يتصور عندهم أن ينتفى عنه الإيمان إلا إذا زال ذلك العلم من قلبه. ثم أكثر المتأخرين الذين نصروا قول جهم يقولون بالإستثناء في الإيمان، ويقولون: الإيمان في الشرع هو ما يوافي به العبد ربه، وإن كان في اللغة أعم من ذلك، فجعلوا في مسألة الإستثناء مسمى الإيمان ما ادعوا أنه مسماه في الشرع، وعدلوا عن اللغة، فهلا فعلوا هذا في الأعمال. ودلالة الشرع على أن

الأعمال الواجبة من تمام الإيمان لا تحصى كثرة، بخلاف دلالته على أنه لا يسمى إيمانا؛ إلا ما مات الرجل عليه فإنه ليس في الشرع ما يدل على هذا، وهو قول محدث لم يقله أحد من السلف، لكن هؤلاء ظنوا أن الذين استثنوا في الإيمان من السلف كان هذا مأخذهم؛ لأن هؤلاء وأمثالهم لم يكونوا خبيرين بكلام السلف، بل ينصرون ما يظهر من أقوالهم بما تلقوه عن المتكلمين من الجهمية ونحوهم من أهل البدع، فيبقى الظاهر قول السلف، والباطن قول الجهمية الذين هم أفسد الناس مقالة في الإيمان. وسنذكر إن شاء الله أقوال السلف في الاستثناء في الإيمان ولهذا لما صار يظهر لبعض أتباع أبي الحسن فساد قول جهم في الإيمان، خالفه كثير منهم، فمنهم من اتبع السلف. قال أبو القاسم الأنصاري شيخ الشهرستاني في [شرح الإرشاد] لأبي المعالي، بعد أن ذكر قول أصحابه قال: وذهب أهل الأثر إلى أن الإيمان جميع الطاعات، فَرْضِها ونَفْلِها، وعبروا عنه بأنه إتيان ما أمر الله به فرضًا ونفلاً، والانتهاء عما نهى عنه تحريمًا وأدبًا. قال: وبهذا كان يقول أبو علي الثقفي من متقدمي أصحابنا، وأبو العباس القلانسي. وقد مال إلى هذا المذهب أبو عبد الله بن مجاهد قال: وهذا قول مالك بن أنس إمام دار الهجرة، ومعظم أئمة السلف رضوان الله عليهم أجمعين. وكانوا يقولون: الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان. ومنهم من يقول بقول المرجئة: إنه التصديق بالقلب واللسان. ومنهم من قال: إذا ترك التصديق باللسان عنادًا كان كافرًا بالشرع، وإن كان في قلبه التصديق والعلم. وكذلك قال أبو إسحاق الإسفرائيني. قال الأنصاري: رأيت في تصانيفه أن المؤمن إنما يكون مؤمنًا حقًا إذا حقق إيمانه بالأعمال الصالحة، كما أن العالم إنما يكون عالمًا حقًا إذا عمل بما علم، واستشهد بقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا

تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال 2: 4] وقال أيضًا أبو إسحاق: حقيقة الإيمان في اللغة: التصديق، ولا يتحقق ذلك إلا بالمعرفة والائتمار، وتقوم الإشارة والإنقياد مقام العبارة. وقال أيضًا أبو إسحاق في كتاب [الأسماء والصفات] : اتفقوا على أن ما يستحق به المكلف اسم الإيمان في الشريعة أوصاف كثيرة، وعقائد مختلفة، وإن اختلفوا فيها على تفصيل ذكروه، واختلفوا في إضافة ما لا يدخل في جملة التصديق إليه لصحة الاسم، فمنها ترك قتل الرسول، وترك إيذائه، وترك تعظيم الأصنام، فهذا من التروك، ومن الأفعال نصرة الرسول والذب عنه، وقالوا: إن جميعه يضاف إلى التصديق شرعًا، وقال آخرون: إنه من الكبائر، لا يخرج المرء بالمخالفة فيه عن الإيمان. قلت: وهذان القولان ليسا قول جهم، لكن من قال ذلك فقد اعترف بأنه ليس مجرد تصديق القلب، وليس هو شيئًا واحدًا، وقال: إن الشرع تصرف فيه، وهذا يهدم أصلهم؛ ولهذا كان حُذَّاق هؤلاء، كجَهّمٍ، والصالحي، وأبي الحسن، والقاضي أبي بكر، على أنه لا يزول عنه اسم الإيمان إلا بزوال العلم من قلبه. قال أبو المعالي: [باب في ذكر الأسماء والأحكام] : اعلم أن غرضنا في هذا الباب يستدعى تقديم ذكر حقيقة الإيمان. قال: وهذا مما تباينت فيه مذاهب الإسلاميين، ثم ذكر قول الخوارج، والمعتزلة، والكَرَّامية، ثم قال: وأما مذاهب أصحابنا، فصار أهل التحقيق من أصحاب الحديث والنظار منهم إلى أن الإيمان هو التصديق، وبه قال شيخنا أبو الحسن رحمة الله عليه واختلف رأيه في معنى التصديق؛ وقال مرة: المعرفة بوجوده وقدمه وإلهيته، وقال مرة: التصديق: قول في النفس، غير أنه يتضمن المعرفة، ولا يصح أن يوجد دونها، وهذا مقتضاه، فإن التصديق والتكذيب والصدق والكذب بالأقوال أجدر فالتصديق إذًا قول في النفس يعبر عنه باللسان، فتوصف العبادة بأنها تصديق؛

لأنها عبارة عن التصديق. وقال بعض أصحابنا: التصديق لا يتحقق إلا بالقول والمعرفة جميعاً، فإذا اجتمعا كانا تصديقاً واحداً. ومنهم من اكتفى بترك العناد، فلم يجعل الإقرار أحد ركني الإيمان، فيقول: الإيمان هو التصديق بالقلب، وأوجب ترك العناد بالشرع، وعلى هذا الأصل يجوز أن يعرف الكافر الله، وإنما يكفر بالعناد لا لأنه ترك ما هو الأهم في الإيمان. وعلى هذا الأصل يقال: إن اليهود كانوا عالمين بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم كفروا عناداً وبغياً وحسداً، قال: وعلى قول شيخنا أبي الحسن: كل من حكمنا بكفره فنقول: إنه لا يعرف الله أصلاً ولا عرف رسوله ولا دينه، قال أبو القاسم الأنصاري تلميذه: كأن المعنى: لا حكم لإيمانه ولا لمعرفته شرعاً. قلت: وليس الأمر على هذا القول كما قاله الأنصاري هذا، ولكن على قولهم: المعاند كافر شرعاً، فيجعل الكفر تارة بانتفاء الإيمان الذي في القلب وتارة بالعناد، ويجعل هذا كافراً في الشرع، وإن كان معه حقيقة الإيمان الذي هو التصديق، ويلزمه أن يكون كافراً في الشرع، مع أن معه الإيمان الذي هو مثل إيمان الأنبياء والملائكة. والحذاق في هذا المذهب، كأبي الحسن، والقاضي ومن قبلهم من أتباع جهم، عرفوا أن هذا تناقض يفسد الأصل فقالوا: لا يكون أحد كافراً إلا إذا ذهب ما في قلبه من التصديق والتزموا أن كل من حكم الشرع بكفره، فإنه ليس في قلبه شيء من معرفة الله ولا معرفة رسوله؛ ولهذا أنكر هذا عليهم جماهير العقلاء، وقالوا: هذا مكابرة وسَفسَطَة. وقد احتجوا على قولهم بقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} الآية [المجادلة: 22] قالوا: ومفهوم هذا، إن من لم يعمل بمقتضاه لم يكتب في قلوبهم الإيمان.

قالوا: فإن قيل: معناه لا يؤمنون إيماناً مجزئاً معتداً به، أو يكون المعنى: لا يؤدون حقوق الإيمان، ولا يعملون بمقتضاه، قلنا: هذا عام لا يخصص إلا بدليل. فيقال لهم: هذه الآية فيها نفي الإيمان عمن يواد المحادين لله ورسوله، وفيها أن من لا يواد المحادين لله ورسوله فإن الله كتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، وهذا يدل على مذهب السلف أنه لابد في الإيمان من محبة القلب لله ولرسوله، ومن بغض من يحاد الله ورسوله، ثم لم تدل الآية على أن العلم الذي في قلوبهم بأن محمداً رسول الله يرتفع لا يبقى منه شيء، والإيمان الذي كتب في القلب ليس هو مجرد العلم والتصديق، بل هو تصديق القلب وعمل القلب؛ ولهذا قال: {وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] فقد وعدهم بالجنة. وقد اتفق الجميع على أن الوعد بالجنة لا يكون إلا مع الإتيان بالمأمور به وترك المحظور، فعلم أن هؤلاء الذين كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه، قد أدوا الواجبات التي بها يستحقون ما وعد الله به الأبرار المتقين، ودل هذا على أن الفساق لم يدخلوا في هذا الوعد، ودلت هذه الآية على أنه لا يوجد مؤمن يواد الكفار، ومعلوم أن خلقاً كثيراً من الناس يعرف من نفسه أن التصديق في قلبه لم يكذب الرسول، وهو مع هذا يواد بعض الكفار، فالسلف يقولون: ترك الواجبات الظاهرة دليل على إنتفاء الإيمان الواجب من القلب، لكن قد يكون ذلك بزوال عمل القلب الذي هو حب الله ورسوله وخشية الله، ونحو ذلك لا يستلزم أن لا يكون في القلب من التصديق شيء، وعند هؤلاء كل من نفى الشرع إيمانه دل على أنه ليس في قلبه شيء من التصديق أصلاً، وهذا سفسطة عند جماهير العقلاء. وكذلك حكى ابن فُورَك عن أبي الحسن الأشعري قال: الإيمان هو اعتقاد صدق المخبر فيما يخبر به اعتقاداً هو علم، ومنه اعتقاد ليس بعلم، والإيمان بالله وهو اعتقاد صدقه إنما يصح إذا كان عالماً بصدقه في إخباره، وإنما يكون كذلك إذا كان

عالماً بأنه يتكلم والعلم بأنه متكلم بعد العلم بأنه حي، والعلم بأنه حي بعد العلم بأنه فاعل، والعلم بأنه فاعل بعد العلم بالفعل، وهو كون العالم فعلاً له، وقال: وكذلك يتضمن العلم بكونه قادراً وله قدرة وعالماً وله علم، ومريداً وله إرادة، وسائر ما لا يصح العلم بالله إلا بعد العلم به من شرائط الإيمان. قلت: هذا مما اختلف فيه قول الأشعري، وهو أن الجهل ببعض الصفات، هل يكون جهلاً بالموصوف، أم لا؟ على قولين، والصحيح الذي عليه الجمهور وهو آخر قوليه، أنه لا يستلزم الجهل بالموصوف، وجعل إثبات الصفات من الإيمان، مما خالف فيه الأشعري جهماً فإن جهماً غال في نفي الصفات، بل وفي نفي الأسماء. قال أبو الحسن: ثم السمع ورد بضم شرائط أخر إليه، وهو ألا يقترن به ما يدل على كفر من يأتيه فعلاً وتركاً، وهو أن الشرع أمره بترك العبادة والسجود للصنم، فلو أتى به دل على كفره، وكذلك من قتل نبياً واستخف به، دل على كفره، وكذلك لو ترك تعظيم المصحف أو الكعبة دل على كفره، قال: وأحد ما استدللنا به على كفره ما منع الشرع، أن يقرن بالإيمان أو أوجب ضمه إلى الإيمان لو وجد دلنا ذلك على أن التصديق الذي هو الإيمان مفقود من قلبه، وكذلك كل ما كفر به المخالف من طريق التأويل فإنما كفرناه به لدلالته على فقد ما هو إيمان من قلبه؛ لاستحالة أن يقضي السمع بكفر من معه الإيمان والتصديق بقلبه. فيقال: لا ريب أن الشارع لا يقضي بكفر من معه الإيمان بقلبه، لكن دعواكم أن الإيمان هو التصديق وإن تجرد عن جميع أعمال القلب غلط؛ ولهذا قالوا: أعمال التصديق والمعرفة من قلبه، ألا ترى أن الشريعة حكمت بكفره، والشريعة لا تحكم بكفر المؤمن المصدق؛ ولهذا نقول: إن كفر إبليس لعنه الله كان أشد من كفر كل كافر، وأنه لم يعرف الله بصفاته قطعاً، ولا آمن به إيماناً حقيقياً باطناً وإن وجد منه القول والعبادة، وكذلك اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من الكفرة لم يوجد في قلوبهم حقيقة الإيمان المعتد به في حال حكمنا

لهم بالكفر. قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء} [لمائدة: 18] ، وقوله: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 56] ، فجعل الله هذه الأمور شرطاً في ثبوت حكم الإيمان، فثبت أن الإيمان المعرفة بشرائط لا يكون معتداً به دونها. فيقال: إن قلتم: إنه ضم إلى معرفة القلب شروطاً في ثبوت الحكم أو الاسم، لم يكن هذا قول جهم، بل يكون هذا قول من جعل الإيمان كالصلاة، والحج هو وإن كان في اللغة بمعنى القصد والدعاء، لكن الشارع ضم إليه أموراً إما في الحكم وإما في الحكم والاسم، وهذا القول قد سلم صاحبه أن حكم الإيمان المذكور في الكتاب والسنة لا يثبت بمجرد تصديق القلب، بل لابد من تلك الشرائط، وعلى هذا فلا يمكنه جعل الفاسق مؤمناً إلا بدليل يدل على ذلك، لا بمجرد قوله: إن معه تصديق القلب، ومن جعل الإيمان هو تصديق القلب يقول: كل كافر في النار ليس معهم من التصديق بالله شيء، لا مع إبليس ولا مع غيره، وقد قال الله تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر: 47، 48] وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71] ، فقد اعترفوا بأن الرسل أتتهم وتلت عليهم آيات ربهم وأنذرتهم لقاء يومهم هذا، فقد عرفوا الله ورسوله واليوم الآخر وهم في الآخرة كفار. وقال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} [الملك: 8، 9] ، فقد كذبوا بوجوده وكذبوا بتنزيله، وأما في الآخرة فعرفوا الجميع، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام: 30] ، وقال تعالى: {وَجَاءتْ

سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد} [ق: 19: 22] ، إلَى آيات أخر كثيرة تدل على أن الكفار في الآخرة يعرفون ربهم فإن كان مجرد المعرفة إيماناً كانوا مؤمنين في الآخرة. فإن قالوا: الإيمان في الآخرة لا ينفع، وإنما الثواب على الإيمان في الدنيا. قيل: هذا صحيح، لكن إذا لم يكن الإيمان إلا مجرد العلم، فهذه الحقيقة لا تختلف، فإن لم يكن العمل من الإيمان، فالعارف في الآخرة لم يفته شيء من الإيمان، لكن أكثر ما يدعونه أنه حين مات لم يكن في قلبه من التصديق بالرب شيء، ونصوص القرآن في غير موضع تدل على أن الكفار كانوا في الدنيا مصدقين بالرب، حتى فرعون الذي أظهر التكذيب كان في باطنه مصدقاً، قال تعالي: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] ، وكما قال موسى لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ} [الإسراء: 102] ، ومع هذا لم يكن مؤمناً؛ بل قال موسى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: 88] قال الله: {قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] ، ولما قال فرعون: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90] . قال الله: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] فوصفه بالمعصية، ولم يصفه بعدم العلم في الباطن كما قال: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] ، وكما قال عن إبليس: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ} [ص: 73، 74] ، فلم يصفه إلا بالإباء والاستكبار ومعارضته الأمر، لم يصفه بعدم العلم، وقد أخبر الله عن الكفار في غير موضع أنهم كانوا معترفين بالصانع في مثل قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87] . ثم يقال لهم: إذا قلتم هوالتصديق بالقلب، أو باللسان، أو بهما، فهل هو التصديق المجمل؟ أو لابد فيه من التفصيل؟ فلو صدق أن محمداً رسول الله

ولم يعرف صفات الحق، هل يكون مؤمنا أم لا؟ فإن جعلوه مؤمناً، قيل: فإذا بلغه ذلك فكذب به، لم يكن مؤمنا باتفاق المسلمين، فصار بعض الإيمان أكمل من بعض، وإن قالوا: لا يكون مؤمناً، لزمهم أن لا يكون أحد مؤمناً حتى يعرف تفصيل كل ما أخبر به الرسول، ومعلوم أن أكثر الأمة لا يعرفون ذلك وعندهم الإيمان لا يتفاضل إلا بالدوام فقط. قال أبو المعالي: فإن قال القائل: أصلكم يلزمكم أن يكون إيمان المنهمك في فسقه كإيمان النبي صلىالله عليه وسلم. قلنا: الذي يفضل إيمانه على إيمان من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله إياه من مُخَامَرَة الشُّكُوك واخْتِلاج الرَّيَب. والتصديق عَرَض من الأعراض لا يبقى وهو متوال للنبي صلى الله عليه وسلم ثابت لغيره في بعض الأوقات، وزائل عنه في أوقات الفترات، فيثبت للنبي صلى الله عليه وسلم أعداد من التصديق، ولا يثبت لغيره إلا بعضها، فيكون إيمانه لذلك أكثر وأفضل، قال: ولو وصف الإيمان بالزيادة والنقصان، وأريد به ذلك، كان مستقيماً. قلت: فهذا هو الذي يفضل به النبي غيره في الإيمان عندهم، ومعلوم أن هذا في غاية الفساد من وجوه كثيرة، كما قد بسط في مواضع أخرى. فصْل قال الذين نصروا مذهب جهم في الإيمان من المتأخرين كالقاضي أبي بكر وهذا لفظه فإن قال قائل: وما الإسلام عندكم؟ قيل له: الإسلام: الإنقياد والاستسلام، فكل طاعة انقاد العبد بها لربه واستسلم فيها لأمره فهي إسلام، والإيمان: خصلة من خصال الإسلام، وكل إيمان إسلام، وليس كل إسلام إيمانًا،

فإن قال: فلم قلتم: أن معنى الإسلام ما وصفتم؟ قيل: لأجل قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] ، فنفى عنهم الإيمان وأثبت لهم الإسلام، وإنما أراد بما أثبته الإنقياد والاستسلام، ومنه: {وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} [النساء: 90] ، وكل من استسلم لشيء فقد أسلم، وإن كان أكثر ما يستعمل ذلك في المستسلم لله ولنبيه. قلت: وهذا الذي ذكروه مع بطلانه ومخالفته للكتاب والسنة هو تناقض، فإنهم جعلوا الإيمان خصلة من خصال الإسلام، فالطاعات كلها إسلام وليس فيها إيمان إلا التصديق، والمرجئة وإن قالوا: إن الإيمان يتضمن الإسلام فهم يقولون: الإيمان هو تصديق القلب واللسان، وأما الجهمية فيجعلونه تصديق القلب، فلا تكون الشهادتان، ولا الصلاة، ولا الزكاة، ولا غيرهن من الإيمان، وقد تقدم ما بينه الله ورسوله، من أن الإسلام داخل في الإيمان، فلا يكون الرجل مؤمناً حتى يكون مسلماً، كما أن الإيمان داخل في الإحسان، فلا يكون محسناً حتى يكون مؤمناً. وأما التناقض، فإنهم إذا قالوا: الإيمان خَصْلة من خِصَال الإسلام، كان من أتى بالإيمان إنما أتى بخصلة من خصال الإسلام، لا بالإسلام الواجب جميعه، فلا يكون مسلماً حتى يأتي بالإسلام كله، كما لا يكون عندهم مؤمناً، حتى يأتي بالإيمان كله، وإلا فمن أتى ببعض الإيمان عندهم لا يكون مؤمناً، ولا فيه شيء من الإيمان، فكذلك يجب أن يقولوا في الإسلام، وقد قالوا: كل إيمان إسلام، وليس كل إسلام إيماناً، وهذا إن أرادوا به أن كل إيمان هو الإسلام الذي أمر الله به، ناقض قولهم: إن الإيمان خصلة من خصاله، فجعلوا الإيمان بعضه ولم يجعلوه إياه، وإن قالوا: كل إيمان فهو إسلام، أي: هو طاعة لله، وهو جزء من الإسلام الواجب، وهذا مرادهم. قيل لهم: فعلى هذا يكون الإسلام متعدداً بتعدد الطاعات، وتكون الشهادتان وحدهما إسلاماً، والصلاة وحدها إسلاماً، والزكاة إسلاماً، بل كل درهم تعطيه للفقير إسلاماً، وكل سجدة إسلاماً، وكل يوم تصومه إسلاماً، وكل تسبيحة تسبحها في الصلاة أو غيرها إسلاماً.

ثم المسلم إن كان لا يكون مسلماً إلا بفعل كل ما سميتموه إسلاماً، لزم أن يكون الفساق ليسوا مسلمين مع كونهم مؤمنين، فجعلتم المؤمنين الكاملي الإيمان عندكم ليسوا مسلمين وهذا شر من قول الكَرَّامية، ويلزم أن الفساق من أهل القبلة ليسوا مسلمين، وهذا شر من قول الخوارج والمعتزلة وغيرهم، بل وأن يكون مَنْ ترك التطوعات ليس مسلماً، إذ كانت التطوعات طاعة لله، إن جعلتم كل طاعة فرضاً أو نفلاً إسلاماً. ثم هذا خلاف ما احتججتم به من قوله للأعراب: {لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] . فأثبت لهم الإسلام دون الإيمان، وأيضاً فإخراجكم الفساق من اسم الإسلام إن أخرجتموهم، أعظم شناعة من إخراجهم من اسم الإيمان، فوقعتم في أعظم ما عبتموه على المعتزلة، فإن الكتاب والسنة تنفي عنهم اسم الإيمان أعظم مما تنفي اسم الإسلام، واسم الإيمان في الكتاب والسنة أعظم. وإن قلتم: بل كل من فعل طاعة سمى مسلمًا، لزم أن يكون من فعل طاعة من الطاعات ولم يتكلم بالشهادتين مسلماً، ومن صدق بقلبه ولم يتكلم بلسانه أن يكون مسلماً عندكم، لأن الإيمان عندكم إسلام، فمن أتى به فقد أتى بالإسلام، فيكون مسلماً عندكم من تكلم بالشهادتين ولا أتى بشيء من الأعمال. واحتجاجكم بقوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] ، قلتم: نفي عنهم الإيمان وأثبت لهم الإسلام. فيقال: هذه الآية حجة عليكم؛ لأنه لما أثبت لهم الإسلام مع انتفاء الإيمان، دل ذلك على أن الإيمان ليس بجزء من الإسلام، إذ لو كان بعضه لما كانوا مسلمين إن لم يأتوا به، وإن قلتم: أردنا بقولنا: أثبت لهم الإسلام أي إسلاماً ما، فإن كل طاعة من الإسلام إسلام عندنا، لزمكم ما تقدم، من أن يكون صوم يوم إسلاماً، وصدقة درهم إسلاماً، وأمثال ذلك.

وهم يقولون: كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، قالوا: هذا من حيث الإطلاق، وإلا فالتفصيل ما ذكرناه من أن الإيمان خصلة من خصال الإسلام والدين، وليس هو جميع الإسلام والدين، فإن الإسلام هو الاستسلام لله بفعل كل طاعة وقعت موافقة للأمر. والإيمان أعظم خصلة من خصال الإسلام، واسم الإسلام شامل لكل طاعة انقاد بها العبد لله، من إيمان، وتصديق، وفرض سواه، ونفل، غير أنه لا يصلح التقرب بفعل ما عدا الإيمان من الطاعات دون تقديم فعل الإيمان. قالوا: والدين مأخوذ من التدين، وهو قريب من الإسلام في المعنى. فيقال لهم: إذا كان هذا قولكم، فقولكم: كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، يناقض هذا؛ فإن المسلم هو المطيع لله، ولا تصح الطاعة من أحد إلا مع الإيمان، فيمتنع أن يكون أحد فعل شيئاً من الإسلام إلا وهو مؤمن، ولو كان ذلك أدنى الطاعات، فيجب أن يكون كل مسلم مؤمنا، سواء أريد بالإسلام فعل جميع الطاعات، أو فعل واحدة منها، وذلك لا يصح كله إلا مع الإيمان، وحينئذ فالآية حجة عليكم لا لكم. ثم قولكم: كل مؤمن مسلم، إن كنتم تريدون بالإيمان تصديق القلب فقط، فيلزم أن يكون الرجل مسلماً ولو لم يتكلم بالشهادتين ولا أتى بشيء من الأعمال المأمور بها، وهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام، بل عامة اليهود والنصارى يعلمون أن الرجل لا يكون مسلماً حتى يأتي بالشهادتين أو ما يقوم مقامهما، وقولكم: كل مؤمن مسلم، لا يريدون أنه أتى بالشهادتين ولا بشيء من المباني الخمس، بل أتى بما هو طاعة وتلك طاعة باطنة، وليس هذا هو المسلم المعروف في الكتاب والسنة، ولا عند الأئمة الأولين والآخرين، ثم استدللتم بالآية، والأعراب إنما أتوا بإسلام ظاهر نطقوا فيه بالشهادتين، سواء كانوا صادقين أو كاذبين، فأثبت الله لهم الإسلام دون الإيمان، فيظن من لا يعرف حقيقة الأمر أن هذا هو قول السلف الذي دل عليه الكتاب والسنة من أن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، وبينهما من التباين أعظم مما بين قول السلف.

وقول المعتزلة في الإيمان والإسلام، فإن قول المعتزلة في الإيمان والإسلام أقرب من قول الجهمية بكثير، ولكن قولهم في تخليد أهل القبلة أبعد عن قول السلف من قول الجهمية. فالمتأخرون الذين نصروا قول جهم في مسألة الإيمان يظهرون قول السلف في هذا وفي الاستثناء، وفي انتفاء الإيمان الذي في القلب حيث نفاه القرآن ونحو ذلك. وذلك كله موافق للسلف في مجرد اللفظ، وإلا فقولهم في غاية المباينة لقول السلف، ليس في الأقوال أبعد عن السلف منه، وقول المعتزلة والخوارج والكَرَّامية في اسم الإيمان، والإسلام أقرب إلى قول السلف من قول الجهمية، لكن المعتزلة والخوارج يقولون بتخليد العصاة، وهذا أبعد عن قول السلف من كل قول، فهم أقرب في الاسم وأبعد في الحكم، والجهمية وإن كانوا في قولهم بأن الفساق لا يخلدون أقرب في الحكم إلى السلف، فقولهم في مسمى الإسلام والإيمان وحقيقتهما أبعد من كل قول عن الكتاب والسنة، وفيه من مناقضة العقل والشرع واللغة ما لا يوجد مثله لغيرهم. فصْل ومما يدل من القرآن على أن الإيمان المطلق مستلزم للأعمال قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] ، فنفى الإيمان عن غير هؤلاء، فمن كان إذا ذكر بالقرآن لا يفعل ما فرضه الله عليه من السجود لم يكن من المؤمنين، وسجود الصلوات الخمس فرض باتفاق المسلمين، وأما سجود التلاوة ففيه نزاع، وقد يحتج بهذه الآية من يوجبه، لكن ليس هذا موضع بسط هذه المسألة، فهذه الآية مثل قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [الحجرات: 15] ، وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] ، وقوله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] ، ومن ذلك قوله تعالى: {عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ لاَ

يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 43: 45] . وهذه الآية مثل قوله {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] ، وقوله: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء} [المائدة: 81] ، بين سبحانه أن الإيمان له لوازم وله أضداد موجودة تستلزم ثبوت لوازمه وانتفاء أضداده ومن أضداده موادة من حاد الله ورسوله، ومن أضداده استئذانه في ترك الجهاد، ثم صرح بأن استئذانه إنما يصدر من الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ودل قوله: {وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [التوبة: 44] على أن المتقين هم المؤمنون. ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " وقوله: " لا يؤمن من لا يأمن جاره بَوَائِقَه " وقوله: " لا تؤمنوا حتى تحابوا " وقوله: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " وقوله: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه " وقوله: " من غَشَّنَا فليس مِنَّا ومن حَمَل علينا السِّلاحَ فليس منا ". فصْل وأما إذا قُيِّدَ الإيمان، فقرن بالإسلام أو بالعمل الصالح، فإنه قد يراد به ما في القلب من الإيمان باتفاق الناس، وهل يراد به أيضًا المعطوف عليه، ويكون

من باب عطف الخاص على العام، أو لا يكون حين الاقتران داخلاً في مسماه؟ بل يكون لازماً له، على مذهب أهل السنة، أو لا يكون بعضاً ولا لازماً، هذا فيه ثلاثة أقوال للناس، كما سيأتي إن شاء الله، وهذا موجود في عامة الأسماء يتنوع مسماها بالإطلاق والتقييد، مثال ذلك اسم المعروف والمنكر إذا أطلق كما في قوله تعالى: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} [الأعراف: 157] ، وقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 110] ، وقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة: 71] ، يدخل في المعروف كل خير، وفي المنكر كل شر. ثم قد يقرن بما هو أخص منه كقوله: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] ، فغاير بين المعروف وبين الصدقة والإصلاح بين الناس كما غاير بين اسم الإيمان والعمل، واسم الإيمان والإسلام وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء} [العنكبوت: 45] ، غاير بينهما وقد دخلت الفحشاء في المنكر في قوله: {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} ثم ذكر مع المنكر اثنين في قوله: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] ، جعل البغي هنا مغايراً لهما، وقد دخل في المنكر في ذينك الموضعين. ومن هذا الباب لفظ [العبادة] فإذا أمر بعبادة الله مطلقاً دخل في عبادته كل ما أمر الله به، فالتوكل عليه مما أمر به والاستعانة به مما أمر به، فيدخل ذلك في مثل قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، وفي قوله: {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] ، وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} [الزمر: 2] ، {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي} [الزمر: 14] ، وقوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64] ثم قد يقرن بها اسم آخر، كما في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}

[الفاتحة: 5] ، وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] ، وقول نوح: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح: 3] ، وكذلك إذا أفرد اسم [طاعة الله] دخل في طاعته كل ما أمر به وكانت طاعة الرسول داخلة في طاعته، وكذا اسم [التقوى] إذا أفرد دخل فيه فعل كل مأمور به وترك كل محظور، قال طَلْقُ بن حبيب: التقوى: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو رحمة الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عذاب الله، وهذا كما في قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 54، 55] . وقد يقرن بها اسم آخر، كقوله: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2، 3] ، وقوله: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] ، وقوله: {وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1] ، وقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] ، وقوله: {اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] ، وقوله: {اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] ، وأمثال ذلك. فقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] ، مثل قوله: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] ، وقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] ، فعطف قولهم على الإيمان، كما عطف القول السديد على التقوى، ومعلوم أن التقوى إذا أطلقت دخل فيها القول السديد، وكذلك الإيمان إذا أطلق دخل فيه السمع والطاعة لله وللرسول، وكذلك قوله: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، وإذا أطلق الإيمان بالله في حق أمة محمد دخل فيه الإيمان بالرسول، وكذلك قوله: {كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} ، وإذا أطلق الإيمان بالله دخل فيه الإيمان بهذه التوابع، وكذلك قوله: {والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} [البقرة: 4] ، وقوله: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} الآية [البقرة: 136] .

وإذا قيل: {فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ} [الأعراف: 185] ، دخل في الإيمان برسوله الإيمان بجميع الكتب والرسل والنبيين، وكذلك إذا قيل: {وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} [الحديد: 28] ، وإذا قيل: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] ، دخل في الإيمان بالله ورسوله الإيمان بذلك كله، والإنفاق يدخل في قوله في الآية الأخرى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} كما يدخل القول السديد في مثل قوله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} [النساء: 131] . وكذلك لفظ [البر] إذا أطلق تناول جميع ما أمر الله به كما في قوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الإنفطار: 13، 14] ، وقوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة: 189] وقوله: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] ، فالبر إذا أطلق كان مسماه مسمى التقوى، والتقوى إذا أطلقت كان مسماها مسمى البر، ثم قد يجمع بينهما كما في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] . وكذلك لفظ [الإثم] إذا أطلق دخل فيه كل ذنب، وقد يقرن بالعدوان، كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، وكذلك لفظ [الذنوب] إذا أطلق دخل فيه ترك كل واجب وفعل كل محرم، كما في قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] ، ثم قد يقرن بغيره كما في قوله: {ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران: 147] ، وكذلك لفظ الهدى إذا أطلق تناول العلم الذي بعث الله به رسوله والعمل به جميعاً، فيدخل فيه كل ما أمر الله به، كما في قوله: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [الفاتحة: 6] ، والمراد طلب العلم بالحق والعمل به جميعاً، وكذلك قوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ، والمراد

به أنهم يعلمون ما فيه ويعملون به؛ ولهذا صاروا مفلحين، وكذلك قول أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43] ، وإنما هداهم؛ بأن ألهمهم العلم النافع، والعمل الصالح. ثم قد يقرن الهدى إما بالاجتباء كما في قوله: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87] ، وكما في قوله: {شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ} [النحل: 121] ، {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [الشورى: 13] ، وكذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [الصف: 9] ، والهدى هنا هو الإيمان ودين الحق هو الإسلام، وإذا أطلق الهدى كان كالإيمان المطلق يدخل فيه هذا وهذا. ولفظ الضلال إذا أطلق تناول من ضل عن الهدى، سواء كان عمداً أو جهلاً، ولزم أن يكون معذباً كقوله: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات: 69، 70] ، وقوله: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 67، 68] ، وقوله: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123] ثم قد يقرن بالغي والغضب، كما في قوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2] ، وفي قوله: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، وقوله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47] . وكذلك لفظ [الغي] إذا أطلق تناول كل معصية لله كما في قوله عن الشيطان: {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39، 40] ، وقد يقرن بالضلال كما في قوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} وكذلك اسم الفقير إذا أطلق دخل فيه المسكين، وإذا أطلق لفظ المسكين تناول الفقير، وإذا قرن بينهما فأحدهما غير الآخر، فالأول كقوله: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} [البقرة: 271] ، وقوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] ، والثاني كقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]

وهذه الأسماء التي تختلف دلالتها بالإطلاق والتقييد والتجريد والاقتران، تارة يكونان إذا أفرد أحدهما أعم من الآخر، كاسم [الإيمان] و [المعروف] مع العمل ومع الصدق، وك [المنكر] مع الفحشاء ومع البغي ونحو ذلك. وتارة يكونان متساويين في العموم والخصوص، كلفظ [الإيمان] ، و [البر] ، و [التقوى] ، ولفظ [الفقير] ، و [المسكين] . فأيها أطلق تناول ما يتناوله الآخر، وكذلك لفظ [التلاوة] ، فإنها إذا أطلقت في مثل قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} [البقرة: 121] ، تناولت العمل به كما فسره بذلك الصحابة والتابعون مثل ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم، قالوا: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} يتبعونه حق اتباعه، فيحلون حلاله ويحرمون حرامه، ويعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه، وقيل: هو من التلاوة بمعنى الاتباع، كقوله: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} [الشمس: 2] ، وهذا يدخل فيه من لم يقرأه، بل من تمام قراءته أن يفهم معناه ويعمل به، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن: عثمان ابن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما أنهم كانوا إذا تَعَلَّموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً. وقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} [البقرة: 121] قد فسر بالقرآن وفسر بالتوراة، وروى محمد بن نصر بإسناده الثابت عن ابن عباس: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} قال: يتبعونه حق اتباعه. وروي أيضاً عن ابن عباس: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} قال: يحلون حلاله، ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه، وعن قتادة: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} قال: أولئك أصحاب محمد آمنوا بكتاب الله وصدقوا به، أحلوا حلاله وحرموا حرامه، وعملوا بما فيه، ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول: إن حق تلاوته: أن يحل حلاله ويحرم حرامه، وأن نقرأه كما أنزل الله، ولا نحرفه عن مواضعه، وعن الحسن: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} قال: يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه،

ويَكِلُون ما أشكل عليهم إلى عالمه، وعن مجاهد: يتبعونه حق اتباعه، وفي رواية: يعملون به حق عمله. ثم قد يقرن بالتلاوة غيرها كقوله: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45] . قال أحمد بن حنبل وغيره: تلاوة الكتاب: العمل بطاعة الله كلها، ثم خص الصلاة بالذكر، كما في قوله: {وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} [الأعراف: 170] ، وقوله: {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] . وكذلك لفظ " اتباع ما أنزل الله " يتناول جميع الطاعات كقوله: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} [الأعراف: 3] ، وقوله: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه: 123] ، وقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] ، وقد يقرن به غيره كقوله {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155] ، وقوله: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 106] ، وقوله: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109] . وكذلك لفظ [الأبرار] إذا أطلق دخل فيه كل تقي من السابقين والمقتصدين، وإذا قرن بالمقربين كان أخص، قال تعالى في الأول: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الإنفطار: 13، 14] ، وقال في الثاني: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 18: 22] ، وهذا باب واسع يطول استقصاؤه. ومن أنفع الأمور في معرفة دلالة الألفاظ مطلقاً وخصوصاً ألفاظُ الكتاب والسنة، وبه تزول شبهات كثيرة كثر فيها نزاع الناس، من جملتها [مسألة الإيمان والإسلام] ، فإن النزاع في مسماهما أول اختلاف وقع، افترقت الأمة لأجله وصاروا مختلفين في الكتاب والسنة، وكَفَّر بعضهم بعضاً، وقاتل بعضهم بعضاً كما قد بسطنا هذا في مواضع أخر إذ المقصود هنا بيان شرح كلام الله ورسوله

على وجه يبين أن الهدى كله مأخوذ من كلامالله ورسوله بإقامة الدلائل الدالة، لا بذكر الأقوال التي تقبل بلا دليل وترد بلا دليل، أو يكون المقصود بها نصر غير الله والرسول، فإن الواجب أن يقصد معرفة ما جاء به الرسول واتباعه بالأدلة الدالة على ما بينه الله ورسوله. ومن هذا الباب أقوال السلف وأئمة السنة في [تفسير الإيمان] ، فتارة يقولون: هو قول وعمل. وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية. وتارة يقولون قول وعمل ونية واتباع السنة. وتارة يقولون: قول باللسان، واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وكل هذا صحيح. فإذا قالوا: قول وعمل؛ فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان جميعاً، وهذا هو المفهوم من لفظ القول والكلام، ونحو ذلك إذا أطلق. والناس لهم في مسمى الكلام و [القول] عند الإطلاق أربعة أقوال، فالذي عليه السلف والفقهاء والجمهور أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعاً، كما يتناول لفظ الإنسان للروح والبدن جميعاً. وقيل: بل مسماه هواللفظ، المعنى ليس جزء مُسَمَّاه، بل هو مدلول مسماه، وهذا قول كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم وطائفة من المنتسبين إلى السنة، وهو قول النحاة؛ لأن صناعتهم متعلقة بالألفاظ. وقيل: بل مسماه هو المعنى وإطلاق الكلام على اللفظ مجاز لأنه دال عليه، وهذا قول ابن كُلاَّب ومن اتبعه، وقيل: بل هو مشترك بين اللفظ والمعنى، وهو قول بعض المتأخرين من الكُلابية، ولهم قول ثالث يروى عن أبي الحسن أنه مجاز في كلام الله حقيقة في كلام الآدميين؛ لأن حروف الآدميين تقوم بهم، فلا يكون الكلام قائماً بغير المتكلم، بخلاف الكلام القرآني، فإنه لا يقوم عنده بالله، فيمتنع أن يكون كلامه، ولبسط هذا موضع آخر. والمقصود هنا أن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل، أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، ومن أراد الاعتقاد رأي أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال: قول

وعمل ونية، قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك، ومن زاد اتباع السنة فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة، وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال والأعمال، ولكن كان مقصودهم الرد على المرجئة الذين جعلوه قولاً فقط، فقالوا: بل هو قول وعمل، والذين جعلوه أربعة أقسام فسروا مرادهم، كما سئل سَهْل بن عبد الله التَّسْتُرِي عن الإيمان ما هو؟ فقال: قول وعمل ونية وسنة؛ لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كُفْر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة. فصْل وعطف الشيء على الشيء في القرآن وسائر الكلام يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم الذي ذكر لهما، والمغايرة على مراتب؛ أعلاها أن يكونا متباينين ليس أحدهما هو الآخر ولا جزأه، ولا يعرف لزومه له كقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الفرقان: 59] ونحو ذلك، وقوله: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] ، وقوله: {وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 3، 4] ، وهذا هو الغالب، ويليه أن يكون بينهما لزوم كقوله: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ} [البقرة: 42] ، وقوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] ، وقوله: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 136] ، فإن من كفر بالله فقد كفر بهذا كله، فالمعطوف لازم للمعطوف عليه، وفي الآية التي قبلها المعطوف عليه لازم، فإنه من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى فقد اتبع غير سبيل المؤمنين. وفي الثاني نزاع، وقوله: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ} [البقرة: 42] هما متلازمان، فإن من لبس الحق بالباطل؛ فجعله ملبوساً به، خفي من الحق بقدر ما

ظهر من الباطل، فصار ملبوساً، ومن كتم الحق احتاج أن يقيم موضعهباطلا فيلبس الحق بالباطل؛ ولهذا كان كل من كتم من أهل الكتاب ما أنزل الله فلابد أن يظهر باطلاً. وهكذا أهل البدع لا تجد أحداً ترك بعض السنة التي يجب التصديق بها والعمل إلا وقع في بدعة، ولا تجد صاحب بدعة إلا ترك شيئًا من السنة، كما جاء في الحديث: " ما ابتدع قوم بدعة إلا تركوا من السنة مثلها " رواه الإمام أحمد. وقد قال تعالى: {فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء} [المائدة: 14] ، فلما تركوا حظا مما ذكروا به اعْتَاضُوا بغيره فوقعت بينهم العداوة والبغضاء، وقال تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] أي: عن الذكر الذي أنزله الرحمن، وقال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123، 124] ، وقال: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] ، فأمر باتباع ما أنزل، ونهى عما يضاد ذلك وهو اتباع أولياء من دونه، فمن لم يتبع أحدهما اتبع الآخر؛ ولهذا قال: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] . قال العلماء: من لم يكن متبعاً سبيلهم كان متبعًا غير سبيلهم، فاستدلوا بذلك على أن اتباع سبيلهم واجب، فليس لأحد أن يخرج عما أجمعوا عليه. وكذلك من لم يفعل المأمور، فعل بعض المحظور، ومن فعل المحظور، لم يفعل جميع المأمور، فلا يمكن الإنسان أن يفعل جميع ما أمر به مع فعله لبعضما حظر، ولا يمكنه ترك كل ما حظر مع تركه لبعض ما أمر، فإن ترك ما حظر من جملة ما أمر به فهو مأمور، ومن المحظور ترك المأمور، فكل ما شغله عن الواجب فهو محرم، وكل ما لا يمكن فعل الواجب إلا به فعليه فعله؛ ولهذا كان لفظ [الأمر] إذا أطلق يتناول النهي، وإذا قيد بالنهي كان النهي نظير ما تقدم،

فإذا قال تعالى عن الملائكة: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6] ، دخل في ذلك أنه إذا نهاهم عن شيء اجتنبوه، وأما قوله: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] ، فقد قيل: لا يتعدون ما أمروا به، وقيل: يفعلونه في وقته، لا يقدمونه ولا يؤخرونه. وقد يقال: هو لم يقل: ولا يفعلون إلا ما يؤمرون، بل هذا دل عليه قوله: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] ، وقد قيل: لا يعصون ما أمرهم به في الماضي، ويفعلون ما يؤمرون في المستقبل. وقد يقال: هذه الآية خبر عما سيكون، ليس ما أمروا به هنا ماضياً بل الجميع مستقبل، فإنه قال: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] ، وما يتقي به إنما يكون مستقبلاً، وقد يقال: ترك المأمور تارة يكون لمعصية الآمر وتارة يكون لعجزه، فإذا كان قادراً مريداً، لزم وجود المأمور المقدور، فقوله: {لا يَعْصُونَ} لا يمتنعون عن الطاعة، وقوله: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي: هم قادرون على ذلك لا يعجزون عن شيء منه بل يفعلونه كله، فيلزم وجود كل ما أمروا به، وقد يكون في ضمن ذلك أنهم لا يفعلون إلا المأمور به، كما يقول القائل: أنا أفعل ما أمرت به، أي: أفعله ولا أتعداه إلى زيادة ولا نقصان. وأيضاً، فقوله: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} إن كان نهاهم عن فعل آخر كان ذلك من أمره، وإن كان لم ينههم لم يكونوا مذمومين بفعل ما لم ينهوا عنه. والمقصود أن لفظ الأمر إذا أطلق تناول النهي، ومنه قوله: {أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ} [النساء: 59] ، أي: أصحاب الأمر، ومن كان صاحب الأمر كان صاحب النهي، ووجبت طاعته في هذا وهذا، فالنهي داخل في الأمر، وقال موسى للخضر: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 69، 70] ، وهذا نهى له عن السؤال حتى يحدث له منه ذكراً، ولما خرق السفينة قال له موسى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف: 71] ، فسأله قبل إحداث الذكر، وقال في الغلام: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا} [الكهف: 74] ، فسأله قبل إحداث الذكر، وقال في الجدار: {لَوْ شِئْتَ

لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] ، وهذا سؤال من جهة المعنى، فإن السؤال والطلب قد يكون بصيغة الشرط كما تقول: لو نزلت عندنا لأكرمناك، وإن بتَ الليلة عندنا أحسنتَ إلينا، ومنه قول آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] ، وقول نوح: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47] ومثله كثير؛ ولهذا قال موسى: {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي} [الكهف: 76] ، فدل على أنه سأله الثلاث قبل أن يحدث له الذكر، وهذا معصية لنهيه وقد دخل في قوله: {وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69] ، فدل على أن عاصي النهي عاص الأمر، ومنه قوله تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54] ، وقد دخل النهي في الأمر، ومنه قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] ، وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] ، فإن نهيه داخل في ذلك. وقد تنازع الفقهاء في قول الرجل لامرأته: إذا عصيت أمري فأنت طالق، إذا نهاها فعصته هل يكون ذلك داخلاً في أمره؟ على قولين: قيل: لا يدخل؛ لأن حقيقة النهي غير حقيقة الأمر، وقيل: يدخل؛ لأن ذلك يفهم منه في العرف معصية الأمر والنهي، وهذا هو الصواب؛ لأن ما ذكر في العرف هو حقيقة في اللغة والشرع، فإن الأمر المطلق من كل متكلم إذا قيل: أطع أمر فلان، أو فلان يطيع أمر فلان، أو لا يعصى أمره، فإنه يدخل فيه النهي؛ لأن الناهي آمر بترك المنهي عنه؛ فلهذا قال سبحانه: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42] ، ولم يقل: لا تكتموا الحق، فلم ينه عن كل منهما لتلازمها، وليست هذه [واو] الجمع التي يسميها الكوفيون [واو الصرف] كما قد يظنه بعضهم، فإنه كان يكون المعني: لا تجمعوا بينهما فيكون أحدهما وحده غير منهي عنه. وأيضًا، فتلك إنما تجيء إذا ظهر الفرق كقوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142] ، وقوله: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ} [الشورى: 34، 35] .

ومِنْ عطف الملزوم قوله تعالى: {أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59] ، فإنهم إذا أطاعواالرسول فقد أطاعوا الله، كما قال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} [النساء: 80] ، وإذا أطاع الله من بلغته رسالة محمد، فإنه لابد أن يطيع الرسول، فإنه لا طاعة لله إلا بطاعته. والثالث: عطف بعض الشيء عليه، كقوله: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] ، وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] ، وقوله: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] ، وقوله: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا} [الأحزاب: 27] . والرابع: عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين، كقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى: 1: 4] . وقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 3، 4] ، وقد جاء في الشعر ما ذكر أنه عطف لاختلاف اللفظ فقط كقوله: وألفى قولها كذبًا ومينا ومن الناس من يدعي أن مثل هذا جاء في كتاب الله، كما يذكرونه في قوله: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] ، وهذا غلط، مثل هذا لا يجيء في القرآن ولا في كلام فصيح، وغاية ما يذكر الناس اختلاف معنى اللفظ، كما ادعى بعضهم أن من هذا قوله: ألا حبذا هند وأرض بها هند ... وهند أتى من دونها النَّأْيُ والبعد

فزعموا أنهما بمعنى واحد. واستشهدوا بذلك على ما ادعوه من أن الشِّرْعَة هي المنهاج، فقال المخالفون لهم: النأي أعم من البعد، فإن النأي كلما قل بعده أو كثر، كأنه مثل المفارقة، والبعد إنما يستعمل فيما كثرت مسافة مفارقته، وقد قال تعالى {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام: 26] ، وهم مذمومون على مجانبته والتنحي عنه، سواء كانوا قريبين أو بعيدين، وليس كلهم كان بعيداً عنه، لاسيما عند من يقول: نزلت في أبي طالب، وقد قال النابغة: والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد والمراد به ما يحفر حول الخيمة لينزل فيه الماء ولا يدخل الخيمة، أي صار كالحوض فهو مجانب للخيمة ليس بعيداً منها. فصْل فإذا تبين هذا، فلفظ [الإيمان] إذا أطلق في القرآن والسنة يراد به ما يراد بلفظ [البر] وبلفظ [التقوى] وبلفظ [الدين] كما تقدم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن " الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " فكان كل ما يحبه الله يدخل في اسم الإيمان، وكذلك لفظ [البر] يدخل فيه جميع ذلك إذا أطلق، وكذلك لفظ [التقوى] وكذلك [الدين] ، أو [دين الإسلام] وكذلك روى أنهم سألوا عن الإيمان فأنزل الله هذه الآية: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} الآية [البقرة: 177] ، وقد فسر البر بالإيمان، وفُسِّر بالتقوى، وفسر بالعمل الذي يقرب إلى الله والجميع حق، وقد روي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر البر بالإيمان. قال محمد بن نصر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن يزيد المقري والملائي قالا: حدثنا المسعودي، عن القاسم قال: جاء رجل إلى أبي ذَرٍّ فسأله عن الإيمان، فقرأ: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} إلى آخر الآية،

فقال الرجل: ليس عن البر سألتك. فقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فقرأ عليه الذي قرأت عليك، فقال له الذي قلتَ لي. فلما أبي أن يرضى قال له: " إن المؤمن الذي إذا عمل الحسنة سَرَّتْهُ ورَجَا ثوابها، وإذا عمل السَّيِّئَة ساءته، وخاف عِقَابَها ". وقال: حدثنا إسحاق، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن عبد الكريم الجَزَرِي، عن مجاهد؛ أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقرأ عليه: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} إلى آخر الآية، وروى بإسناده عن عِكْرِمَة قال: سئل الحسن بن علي بن أبي طالب مقبله من الشام عن الإيمان فقرأ: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} ، وروى ابن بطة بإسناده عن مبارك بن حسان قال: قلت لسالم الأفطس: رجل أطاع الله فلم يعصه، ورجل عصى الله فلم يطعه، فصار المطيع إلى الله فأدخله الجنة، وصار العاصي إلى الله فأدخله النار، هل يتفاضلان في الإيمان؟ قال: لا. قال: فذكرت ذلك لعطاء فقال: سلهم: الإيمان طيب أو خبيث؟ فإن الله قال: {لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37] ، فَسألتهم فلم يجيبوني، فقال بعضهم: إن الإيمان يبطن ليس معه عمل، فذكرت ذلك لعطاء فقال: سبحان الله! أما يقرؤون الآية التي في البقرة:

{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} قال: ثم وصف الله على هذا الاسم ما لزمه من العمل فقال: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} إلي قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] ، فقال: سلهم: هل دخل هذا العمل في هذا الاسم؟ وقال: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء: 19] ، فألزم الاسم العمل، والعمل الاسم. والمقصود هنا أنه لم يثبت المدح إلا على إيمان معه العمل، لا على إيمان خال عن عمل، فإذا عرف أن الذم والعقاب واقع في ترك العمل كان بعد ذلك نزاعهم لا فائدة فيه، بل يكون نزاعاً لفظيًا مع أنهم مخطئون في اللفظ، مخالفون للكتاب والسنة، وإن قالوا: إنه لا يضره ترك العمل فهذا كفر صريح، وبعض الناس يحكى هذا عنهم، وأنهم يقولون: إن الله فرض على العباد فرائض، ولم يرد منهم أن يعملوها، ولا يضرهم تركها، وهذا قد يكون قول الغالية الذين يقولون: لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد، لكن ما علمت معيناً أحكى عنه هذا القول، وإنما الناس يحكونه في الكتب ولا يُعَيِّنُون قائله، وقد يكون قول من لا خَلاقَ له؛ فإن كثيراً من الفساق والمنافقين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب أو مع التوحيد، وبعض كلام الرادين على المرجئة وصفهم بهذا. ويدل على ذلك قوله تعالى في آخر الآية: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] . فقوله: {صَدَقُوا} أي: في قولهم: آمنوا، كقوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} إلي قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 14، 15] ، أي: هم الصادقون في قولهم: آمنا بالله، بخلاف الكاذبين الذين قال الله فيهم: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] ، وقال تعالى:

{إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 8: 10] . وفي {يكذبون} قراءتان مشهورتان، فإنهم كذبوا في قولهم: آمنا بالله واليوم الآخر، وكذبوا الرسول في الباطن وإن صدقوه في الظاهر، وقال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1: 3] ، فبين أنه لابد أن يفتن الناس أي: يمتحنهم ويبتليهم ويختبرهم. يقال: فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتميزه مما اختلط به، ومنه قول موسى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: 155] ، أي: محنتك واختبارك وابتلاؤك، كما ابتليت عبادك بالحسنات والسيئات ليتبين الصبار الشكور من غيره، وابتليتهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ليتبين المؤمن من الكافر، والصادق من الكاذب، والمنافق من المخلص، فتجعل ذلك سبباً لضلالة قوم وهدي آخرين. والقرآن فيه كثير من هذا يصف المؤمنين بالصدق، والمنافقين بالكذب؛ لأن الطائفتين قالتا بألسنتهما: آمنا، فمن حقق قوله بعمله فهو مؤمن صادق ومن قال بلسانه ما ليس في قلبه فهو كاذب منافق، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 166، 167] ، فلما قال في آية البر: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] دل على أن المراد: صدقوا في قولهم: آمنا؛ فإن هذا هو القول الذي أمروا به وكانوا يقولونه. ولم يؤمروا أن يلفظوا بألسنتهم ويقولوا: نحن أبْرَارٌ أو بَرَرَةٌ؛ بل إذا قال الرجل: أنا بر فهذا مُزَكٍّ لنفسه؛

ولهذا كانت زينب بنت جَحْش اسمها بَرَّة فقيل: تُزَكِّى نفسها، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب، بخلاف إنشاء الإيمان بقولهم: [آمنا] فإن هذا قد فرض عليهم أن يقولوه، قال تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 136] ، وكذلك في أول آل عمران: {قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ} [آل عمران: 84] . وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285] ، فقوله: {لاَ نُفَرِّقُ} دليل على أنهم قالوا: آمنا ولا نفرق؛ ولهذا قال: {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} فجمعوا بين قولهم: آمنا وبين قولهم: سمعنا وأطعنا، وقد قال في آية البر: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فجعل الأبرار هم المتقين عند الإطلاق والتجريد، وقد ميز بينهما عند الاقتران والتقييد في قوله: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ، ودلت هذه الآية على أن مسمى الإيمان ومسمى البر ومسمى التقوى عند الإطلاق واحد، فالمؤمنون هم المتقون وهم الأبرار. ولهذا جاء في أحاديث الشفاعة الصحيحة: " يخرج من النار من في قلبه مِثْقَال ذَرَّةٍ من إيمان "، وفي بعضها: " مثقال ذرة من خير "، وهذا مطابق لقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8] ، وذلك الذي هو مثقال ذرة من خير هو مثقال ذرة من إيمان، وهؤلاء المؤمنون الأبرار الأتقياء هم أهل السعادة المطلقة، وهم أهل الجنة الذين وعدوا بدخولها بلا عذاب، وهؤلاء الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من غَشَّنَا فليس مِنَّا، ومن حَمَل علينا السِّلاحَ فليس منا " فإنه ليس من هؤلاء، بل من أهل الذنوب المعرضين للوعيد أسوة أمثالهم.

فصْل: وهذا النوع من نمط " أسماء الله، وأسماء كتابه، وأسماء رسوله، وأسماء دينه " قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] ، وقال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} [الأعراف: 18] ، وقال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 23، 24] ، فأسماؤه كلها متفقة في الدلالة على نفسه المقدسة، ثم كل اسم يدل على معنى من صفاته، ليس هو المعنى الذي دل عليه الاسم الآخر، فالعزيز يدل على نفسه مع عزته، والخالق يدل على نفسه مع خلقه، والرحيم يدل على نفسه مع رحمته، ونفسه تستلزم جميع صفاته، فصار كل اسم يدل على ذاته والصفة المختصة به بطريق المطابقة، وعلى أحدهما بطريق التضمن، وعلى الصفة الأخرى بطريق اللزوم. وهكذا أسماء كتابه: القرآن، والفرقان، والكتاب، والهدى، والبيان، والشفاء، والنور، ونحو ذلك هي بهذه المنزلة، وكذلك أسماء رسوله: محمد، وأحمد، والماحِي، والحاشر، والمُقَفِّي، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملْحَمَة، كل اسم يدل على صفة من صفاته الممدوحة غير الصفة الأخرى، وهكذا ما يثنى ذكره من القصص في القرآن كقصة موسى وغيرها، ليس المقصود بها أن تكون سَمَرًا، بل المقصود بها أن تكون عبراً كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111] ، فالذي وقع شيء واحد وله صفات، فيعبر عنه بعبارات متنوعة، كل عبارة تدل على صفة من الصفات التي يعتبر بها المعتبرون، وليس هذا من التكرير في شيء.

وهكذا أسماء دينه، الذي أمر الله به ورسوله يسمى إيماناً، وبراً، وتقوى، وخيراً، وديناً، وعملاً صالحاً، وصراطاً مستقيماً، ونحو ذلك، وهو في نفسه واحد، لكن كل اسم يدل على صفة ليست هي الصفة التي يدل عليها الآخر، وتكون تلك الصفة هي الأصل في اللفظ، والباقي كان تابعاً لها لازماً لها، ثم صارت دالة عليه بالتضمن، فإن الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب، ولابد فيه من شيئين: تصديق بالقلب، وإقراره ومعرفته. ويقال لهذا: قول القلب، قال الجنيد بن محمد: التوحيد: قول القلب. والتوكل: عمل القلب، فلابد فيه من قول القلب، وعمله، ثم قول البدن وعمله، ولابد فيه من عمل القلب، مثل حب الله ورسوله، وخشية الله، وحب ما يحبه الله ورسوله، وبغض ما يبغضه الله ورسوله، وإخلاص العمل لله وحده، وتوكل القلب على الله وحده، وغير ذلك من أعمال القلوب التي أوجبها الله ورسوله وجعلها من الإيمان. ثم القلب هو الأصل، فإذا كان فيه معرفة وإرادة سَرَى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " ألا وإن في الجَسَدِ مُضْغَةً إذا صَلَحت صَلَح لها سائر الجسد، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ لها سائر الجسد، إلا وهي القلب " وقال أبو هريرة: القلب مَلِكٌ والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خَبُثَ الملك خبثت جنوده، وقول أبي هريرة تقريب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم أحسن بياناً، فإن الملك وإن كان صالحاً فالجند لهم اختيار، قد يعصون به ملكهم وبالعكس، فيكون فيهم صلاح مع فساده، أو فساد مع صلاحه، بخلاف القلب؛ فإن الجسد تابع له لا يخرج عن إرادته قط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد " فإذا كان القلب صالحاً بما فيه من الإيمان علماً وعملاً قلبياً، لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أئمة أهل الحديث:

قول وعمل، قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر، والظاهر تابع للباطن لازم له، متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد؛ ولهذا قال: من قال من الصحابه عن المصلي العابث: لو خَشَع قَلْبُ هذا لخشعت جوارحه. فلابد في إيمان القلب من حب الله ورسوله وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} [البقرة: 165] ، فوصف الذين آمنوا بأنهم أشد حباً لله من المشركين لأندادهم. وفي الآية قولان: قيل: يحبونهم كحب المؤمنين الله، والذين آمنوا أشد حباً لله منهم لأوثانهم. وقيل: يحبونهم كما يحبون اللهّّ، والذين آمنوا أشد حباً لله منهم، وهذا هو الصواب، والأول قول متناقض وهو باطل، فإن المشركين لا يحبون الأنداد مثل محبة المؤمنين لله، وتستلزم الإرادة، والإرادة التامة مع القدرة تستلزم الفعل، فيمتنع أن يكون الإنسان محباً لله ورسوله، مريداً لما يحبه الله ورسوله إرادة جازمة، مع قدرته على ذلك وهو لا يفعله، فإذا لم يتكلم الإنسان بالإيمان مع قدرته، دل على أنه ليس في قلبه الإيمان الواجب الذي فرضه الله عليه. ومن هنا يظهر خطأ قول جَهْم بن صَفْوان ومن اتبعه، حيث ظنوا أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، لم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان، وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمناً كامل الإيمان بقلبه، وهو مع هذا يسب الله ورسوله، ويعادي الله ورسوله، ويعادي أولياء الله، ويوالي أعداء الله، ويقتل الأنبياء، ويهدم المساجد، ويهين المصاحف، ويكرم الكفار غاية الكرامة، ويهين المؤمنين

غاية الإهانة، قالوا: وهذه كلها معاص لا تنافي الإيمان الذي في قلبه، بل يفعل هذا وهو في الباطن عند الله مؤمن قالوا: وإنما ثبت له في الدنيا أحكام الكفار؛ لأن هذه الأقوال أمارة على الكفر ليحكم بالظاهر كما يحكم بالإقرار والشهود، وإن كان في الباطن قد يكون بخلاف ما أقر به وبخلاف ما شهد به الشهود، فإذا أورد عليهم الكتاب والسنة والإجماع على أن الواحد من هؤلاء كافر في نفس الأمر معذب في الآخرة، قالوا: فهذا دليل على انتفاء التصديق والعلم من قلبه، فالكفر عندهم شيء واحد وهو الجهل، والإيمان شيء واحد وهو العلم، أو تكذيب القلب وتصديقه، فإنهم متنازعون: هل تصديق القلب شيء غير العلم أو هو هو؟ وهذا القول، مع أنه أفسد قول قيل في الإيمان، فقد ذهب إليه كثير من أهل الكلام المرجئة. وقد كفَّر السلف كوَكِيع بن الجراح، وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وغيرهم من يقول بهذا القول. وقالوا: إبليس كافر بنص القرآن، وإنما كفره باستكباره وامتناعه عن السجود لآدم، لا لكونه كذب خبراً. وكذلك فرعون وقومه، قال الله تعالى فيهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] ، وقال موسى عليه السلام لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ} بعد قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 101، 102] . فموسى وهو الصادق المصدوق يقول: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ} . فدل على أن فرعون كان عالماً بأن الله أنزل الآيات وهو من أكبر خلق الله عناداً وبغيًا لفساد إرادته وقصده لا لعدم علمه. قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4] ، وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} ، وكذلك اليهود الذين قال الله فيهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} [البقرة: 146] .

وكذلك كثير من المشركين الذين قال الله فيهم: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] . فَهَؤلاء غلطوا في أصلين: أحدهما: ظنهم أن الإيمان مجرد تصديق وعلم فقط، ليس معه عمل، وحال، وحركة، وإرادة، ومحبة، وخشية في القلب، وهذا من أعظم غلط المرجئة مطلقًا، فإن [أعمال القلوب] التي يسميها بعض الصوفية أحوالاً ومقامات أو منازل السائرين إلى الله أو مقامات العارفين أو غير ذلك، كل ما فيها مما فرضه الله ورسوله فهو من الإيمان الواجب، وفيها ما أحبه ولم يفرضه، فهو من الإيمان المستحب، فالأول لابد لكل مؤمن منه، ومن اقتصر عليه فهو من الأبرار أصحاب اليمين، ومن فعله وفعل الثاني كان من المقربين السابقين، وذلك مثل حب الله ورسوله، بل أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، بل أن يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب إليه من أهله وماله، ومثل خشية الله وحده دون خشية المخلوقين، ورجاء الله وحده دون رجاء المخلوقين، والتوكل علي الله وحده دون المخلوقين، والإنابة إليهمع خشيته، كما قال تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} [ق: 32، 33] ، ومثل الحب في الله والبغض في الله والموالاة لله والمعاداة لله. والثاني: ظنهم أن كل من حكم الشارع بأنه كافر مُخَلَّد في النار، فإنما ذاك؛ لأنه لم يكن في قلبه شيء من العلم والتصديق. وهذا أمر خالفوا به الحس والعقل والشرع، وما أجمع عليه طوائف بني آدم السَّلِيمِي الفطرة وجماهير النظار، فإن الإنسان قد يعرف أن الحق مع غيره، ومع هذا يجحد ذلك لحسده إياه، أو لطلب علوه عليه، أو لهوي النفس، يحمله ذلك الهوى على أن يعتدى عليه، ويرد ما يقول بكل طريق، وهو في قلبه يعلم أن الحق معه، وعامة من كذب الرسل علموا أن الحق معهم وأنهم صادقون، لكن إما لحسدهم وإما لإرادتهم العلو والرياسة، وإما لحبهم دينهم الذي كانوا عليه وما يحصل لهم به من الأغراض كأموال ورياسة وصداقة أقوام وغير ذلك، فيرون في اتباع الرسل

ترك الأهواء المحبوبة إليهم أو حصول أمور مكروهة إليهم، فيكذبونهم ويعادونهم فيكونون من أكفر الناس كإبليس وفرعون، مع علمهم بأنهم على الباطل، والرسل على الحق. ولهذا لا يذكر الكفار حجة صحيحة تقدح في صدق الرسل، إنما يعتمدون على مخالفة أهوائهم، كقولهم لنوح {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111] ، ومعلوم أن اتباع الأرذلين له لا يقدح في صدقه، لكن كرهوا مشاركة أولئك، كما طلب المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم إبعاد الضعفاء، كسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وخَبَّاب بن الأرَتّ، وعمار بن ياسر، وبلال ونحوهم، وكان ذلك بمكة قبل أن يكون في الصحابة أهل الصُّفَّة، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 52، 53] . ومثل قول فرعون: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47] ، وقول فرعون: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء: 18، 19] ، ومثل قول مشركي العرب: {إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} قال الله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا} [القصص: 57] ، ومثل قول قوم شعيب له: {أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء} [هود: 87] ومثل قول عامة المشركين: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] . وهذه الأمور وأمثالها ليست حججا تقدح في صدق الرسل، بل تبين أنها تخالف إرادتهم وأهواءهم وعاداتهم. فلذلك لم يتبعوهم، وهؤلاء كلهم كفار، بل أبو طالب وغيره كانوا يحبون النبي صلىالله عليه وسلم ويحبون علو كلمته، وليس عندهم حسد له، وكانوا يعلمون صدقه، ولكن كانوا يعلمون أن في متابعته فراق دين آبائهم وذم قريش لهم، فما احتملت نفوسهم ترك تلك العادة واحتمال هذا

الذم، فلم يتركوا الإيمان لعدم العلم بصدق الإيمان به، بل لهوى النفس، فكيف يقال: إن كل كافر إنما كفر لعدم علمه بالله؟ ولم يكف الجهمية أن جعلوا كل كافر جاهلاً بالحق حتى قالوا: هو لا يعرف أن الله موجود حق، والكفر عندهم ليس هو الجهل بأي حق كان، بل الجهل بهذا الحق المعين، ونحن والناس كلهم يرون خلقاً من الكفار يعرفون في الباطن أن دين الإسلام حق، ويذكرون ما يمنعهم من الإيمان، إما معاداة أهلهم، وإما مال يحصل لهم من جهتهم يقطعونه عنهم، وإما خوفهم إذا آمنوا ألا يكون لهم حرمة عند المسلمين كحرمتهم في دينهم، وأمثال ذلك من أغراضهم التي يبينون أنها المانعة لهم من الإيمان، مع علمهم بأن دين الإسلام حق، ودينهم باطل. وهذا موجود في جميع الأمور التي هي حق، يوجد من يعرف بقلبه أنها حق وهو في الظاهر يجحد ذلك، ويعادي أهله لظنه أن ذلك يجلب له منفعه ويدفع عنه مضرة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ} [المائدة: 51: 53] . والمفسرون متفقون على أنها نزلت بسبب قوم ممن كان يظهر الإسلام وفي قلبه مرض، خاف أن يغلب أهل الإسلام فيوالي الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم للخوف الذي في قلوبهم، لا لاعتقادهم أن محمداً كاذب، واليهود والنصارى صادقون. وأشهر النقول في ذلك أن عبادة بن الصامت قال: يا رسول الله، إن لي موالي من اليهود وإني أبرأ إلى الله من ولاية يهود، فقال عبد الله بن أبيّ: لكني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية يهود فنزلت هذه الآية. والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب، وقول اللسان، والأعمال ليست منه، كان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها، ولم يكن قولهم مثل قول

جهم، فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمناً إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه. وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم، لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا فإنها لازمة لها، ولكن هؤلاء لهم حجج شرعية بسببها اشتبه الأمر عليهم، فإنهم رأوا أن اللّّه قد فرق في كتابه بين الإيمان والعمل، فقال في غير موضع: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الكهف: 30] ورأوا أن الله خاطب الإنسان بالإيمان قبل وجود الأعمال فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] . وقالوا: لو أن رجلاً آمن بالله ورسوله ضَحْوَةً ومات قبل أن يجب عليه شيء من الأعمال مات مؤمناً، وكان من أهل الجنة، فدل على أن الأعمال ليست من الإيمان. وقالوا: نحن نسلم أن الإيمان يزيد، بمعنى أنه كان كلما أنزل الله آية وجب التصديق بها، فانضم هذا التصديق إلى التصديق الذي كان قبله، لكن بعد كمال ما أنزل الله ما بقى الإيمان يتفاضل عندهم، بل إيمان الناس كلهم سواء، إيمان السابقين الأولين كأبي بكر وعمر، وإيمان أفجر الناس كالحجاج وأبي مسلم الخراساني وغيرهما. والمرجئة، المتكلمون منهم والفقهاء منهم، يقولون: إن الأعمال قد تسمى إيماناً مجازاً؛ لأن العمل ثمرة الإيمان ومقتضاه؛ ولأنها دليل عليه، ويقولون: قوله: " الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شُعْبَة أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إمَاطَةُ الأذَى عن الطريق " مجاز. والمرجئة ثلاثة أصناف: الذين يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة، كما قد ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالهم في كتابه، وذكر فرقاً كثيرة يطول ذكرهم، لكن ذكرنا جمل أقوالهم، ومنهم من لا يدخلها في الإيمان كجهم ومن اتبعه كالصالحي، وهذا الذي نصره هو وأكثر أصحابه.

والقول الثاني: من يقول: هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يعرف لأحد قبل الكَرَّامية. والثالث: تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم، وهؤلاء غلطوا من وجوه: أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثل في حق العباد، وأن الإيمان الذي يجب على شخص يجب مثله على كل شخص، وليس الأمر كذلك فإن اتباع الأنبياء المتقدمين أوجب الله عليهم من الإيمان ما لم يوجبه على أمة محمد، وأوجب على أمة محمد من الإيمان ما لم يوجبه على غيرهم، والإيمان الذي كان يجب قبل نزول جميع القرآن، ليس هو مثل الإيمان الذي يجب بعد نزول القرآن، والإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به الرسول مفصلاً ليس مثل الإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به مجملاً، فإنه لابد في الإيمان من تصديق الرسول في كل ما أخبر، لكن من صدق الرسول ومات عقب ذلك لم يجب عليه من الإيمان غير ذلك. وأما من بلغه القرآن والأحاديث وما فيهما من الأخبار والأوامر المفصلة فيجب عليه من التصديق المفصل بخبر خبر، وأمر أمر ما لا يجب على من لم يجب عليه إلا الإيمان المجمل؛ لموته قبل أن يبلغه شيء آخر. وأيضاً لو قدر أنه عاش، فلا يجب على كل واحد من العامة أن يعرف كل ما أمر به الرسول، وكل ما نهى عنه وكل ما أخبر به، بل إنما عليه أن يعرف ما يجب عليه هو وما يحرم عليه، فمن لا مال له لا يجب عليه أن يعرف أمره المفصل في الزكاة، ومن لا استطاعة له على الحج ليس عليه أن يعرف أمره المفصل بالمناسك، ومن لم يتزوج ليس عليه أن يعرف ما وجب للزوجة، فصار يجب من الإيمان تصديقاً وعملاً على أشخاص ما لا يجب على آخرين. وبهذا يظهر الجواب عن قولهم: خوطبوا بالإيمان قبل الأعمال. فنقول: إن قلتم: إنهم خوطبوا به قبل أن تجب تلك الأعمال، فقبل وجوبها لم تكن من

الإيمان، وكانوا مؤمنين الإيمان الواجب عليهم قبل أن يفرض عليهم ما خوطبوا بفرضه، فلما نزل إن لم يقروا بوجوبه لم يكونوا مؤمنين؛ ولهذا قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران: 97] ؛ولهذا لم يجئ ذكر الحج في أكثر الأحاديث التي فيها ذكر الإسلام والإيمان، كحديث وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْس، وحديث الرجل النجدي الذي يقال له: ضِمَام بن ثَعْلَبة وغيرهما، وإنما جاء ذكر الحج في حديث ابن عمر وجبريل، وذلك لأن الحج آخر ما فرض من الخمس، فكان قبل فرضه لا يدخل في الإيمان والإسلام، فلما فرض أدخله النبي صلىالله عليه وسلم في الإيمان إذا أفرد، وأدخله في الإسلام إذا قرن بالإيمان وإذا أفرد، وسنذكر إن شاء الله متى فرض الحج؟ وكذلك قولهم: من آمن ومات قبل وجوب العمل عليه مات مؤمناً، فصحيح؛ لأنه أتى بالإيمان الواجب عليه، والعمل لم يكن وجب عليه بعد، فهذا مما يجب أن يعرف، فإنه تزول به شبهة حصلت للطائفتين. فإذا قيل: الأعمال الواجبة من الإيمان، فالإيمان الواجب متنوع ليس شيئًا واحداً في حق جميع الناس. وأهل السنة والحديث يقولون: جميع الأعمال الحسنة واجبها ومستحبها من الإيمان، أي: من الإيمان الكامل بالمستحبات، ليست من الإيمان الواجب. ويفرق بين الإيمان الواجب وبين الإيمان الكامل بالمستحبات، كما يقول الفقهاء: الغُسْل ينقسم إلى مجزئ وكامل، فالمجزئ: ما أتى فيه بالواجبات فقط، والكامل: ما أتى فيه بالمستحبات. ولفظ الكمال قد يراد به الكمال الواجب، وقد يراد به الكمال المستحب. وأما قولهم: إن الله فرق بين الإيمان والعمل في مواضع. فهذا صحيح. وقد بينا أن الإيمان إذا أطلق أدخل الله ورسوله فيه الأعمال المأمور بها. وقد يقرن به الأعمال. وذكرنا نظائر لذلك كثيرة. وذلك لأن أصل الإيمان هو ما في القلب. والأعمال الظاهرة لازمة لذلك. لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب، فصار الإيمان متناولاً للملزوم واللازم وإن كان أصله

ما في القلب، وحيث عطفت عليه الأعمال، فإنه أريد أنه لا يكتفي بإيمان القلب بل لابد معه من الأعمال الصالحة. ثم للناس في مثل هذا قولان: منهم من يقول: المعطوف دخل في المعطوف عليه أولاً، ثم ذكر باسمه الخاص تخصيصاً له، لئلا يظن أنه لم يدخل في الأول، وقالوا: هذا في كل ما عطف فيه خاص على عام، كقوله: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] ، وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] ، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} [محمد: 2] ، فخص الإيمان بما نزل على محمد بعد قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} وهذه نزلت في الصحابة وغيرهم من المؤمنين، وقوله: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] ، وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5] ، والصلاة والزكاة من العبادة، فقوله: {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} كقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5] . فإنه قصد أولاً: أن تكون العبادة لله وحده لا لغيره، ثم أمر بالصلاة والزكاة ليعلم أنهما عبادتان واجبتان، فلا يكتفي بمطلق العبادة الخالصة دونهما، وكذلك يذكر الإيمان أولاً؛ لأنه الأصل الذي لابد منه، ثم يذكر العمل الصالح فإنه أيضاً من تمام الدين لابد منه، فلا يظن الظان اكتفاء بمجرد إيمان ليس معه العمل الصالح، وكذلك قوله: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1: 5] . وقد قيل: إن هؤلاء هم أهل الكتاب الذين آمنوا بما أنزل عليه وما أنزل على من قبله، كابن سلام ونحوه، وأن هؤلاء نوع غير النوع المتقدم الذين يؤمنون بالغيب، وقد قيل: هؤلاء جميع المتقدمين الذين آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله، وهؤلاء هم الذين يؤمنون بالغيب وهم صنف واحد، وإنما

عطفوا لتغاير الصفتين كقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى} [الأعلى: 1: 5] ، فهو سبحانه واحد وعطف بعض صفاته على بعض، وكذلك قوله: {الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ} ، وهي صلاة العصر. والصفات إذا كانت معارف كانت للتوضيح، وتضمنت المدح أو الذم. تقول: هذا الرجل هو الذي فعل كذا، وهو الذي فعل كذا، وهو الذي فعل كذا تعدد محاسنه؛ ولهذا مع الاتباع قد يعطفونها وينصبون، أو يرفعون، وهذا القول هو الصواب؛ فإن المؤمنين بالغيب إن لم يؤمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله لم يكونوا على هدى من ربهم ولا مفلحين ولا متقين، وكذلك الذين آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله إن لم يكونوا من الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقهم الله ينفقون، لم يكونوا على هدى من ربهم، ولم يكونوا مفلحين، ولم يكونوا متقين، فدل على أن الجميع صفة المهتدين المتقين الذين اهتدوا بالكتاب المنزل إلى محمد، فقد عطفت هذه الصفة على تلك مع أنها داخلة فيها، لكن المقصود صفة إيمانهم، وأنهم يؤمنون بجميع ما أنزل الله على أنبيائه، لا يفرقون بين أحد منهم، وإلا فإذا لم يذكر إلا الإيمان بالغيب، فقد يقول: من يؤمن ببعض ويكفر ببعض، نحن نؤمن بالغيب. ولما كانت سورة البقرة سَنَام القرآن، ويقال: إنها أول سورة نزلت بالمدينة، افتتحها الله بأربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين وبضع عشرة آية في صفة المنافقين، فإنه من حين هاجر النبي صلىالله عليه وسلم صار الناس ثلاثة أصناف: إما مؤمن، وإما كافر مظهر للكفر، وإما منافق، بخلاف ما كانوا وهو بمكة، فإنه لم يكن هناك منافق؛ ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره: لم يكن من المهاجرين منافق، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار؛ فإن مكة كانت للكفار مستولين عليها. فلا يؤمن ويهاجر إلا من هو مؤمن ليس هناك داع يدعو إلى النفاق، والمدينة آمن بها أهل الشوكة، فصار للمؤمنين بها عز ومنعة بالأنصار. فمن لم يظهر الإيمان آذوه، فاحتاج المنافقون إلى إظهار الإيمان، مع أن قلوبهم لم

تؤمن، والله تعالى افتتح البقرة ووسط البقرة وختم البقرة بالإيمان بجميع ما جاءت به الأنبياء، فقال في أولها ما تقدم، وقال في وسطها: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} الآية [البقرة: 136، 137] ، وقال في آخرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} والآية الأخرى [البقرة: 285] . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الآيتان من آخر سورة البقرة: من قرأ بهما في ليلة كفتاه " والآية الوسطى قد ثبت في [الصحيح] أنه كان يقرأ بها في ركعتي الفجر: وب {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية [آل عمران: 64] ، تارة. وب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تارة. فيقرأ بما فيه ذكر الإيمان والإسلام، أو بما فيه ذكر التوحيد والإخلاص. فعلى قول هؤلاء يقال: الأعمال الصالحة المعطوفة على الإيمان دخلت في الإيمان، وعطف عليه عطف الخاص على العام، إما لذكره خصوصاً بعد عموم، وإما لكونه إذا عطف كان دليلاً على أنه لم يدخل في العام. وقيل: بل الأعمال في الأصل ليست من الإيمان، فإن أصل الإيمان هو ما في القلب،

ولكن هي لازمة له، فمن لم يفعلها كان إيمانه منتفياً؛ لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم لكن صارت بعرف الشارع داخلة في اسم الإيمان إذا أطلق، كما تقدم في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا عطفت عليه ذكرت، لئلا يظن الظان أن مجرد إيمانه بدون الأعمال الصالحة اللازمة للإيمان يوجب الوعد، فكان ذكرها تخصيصاً وتنصيصاً ليعلم أن الثواب الموعود به في الآخرة وهو الجنة بلا عذاب لا يكون إلا لمن آمن وعمل صالحاً، لا يكون لمن ادعى الإيمان ولم يعمل، وقد بين سبحانه في غير موضع أن الصادق في قوله: آمنت، لابد أن يقوم بالواجب، وحصر الإيمان في هؤلاء يدل على انتفائه عمن سواهم. وللجهمية هنا سؤال ذكره أبو الحسن في كتاب [الموجز] وهو أن القرآن نفي الإيمان عن غير هؤلاء، كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] ، ولم يقل: إن هذه الأعمال من الإيمان، قالوا: فنحن نقول: من لم يعمل هذه الأعمال لم يكن مؤمناً، لأن انتفاءها دليل على انتفاء العلم من قلبه. والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب، فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان، وهذا هو المطلوب، وبعد هذا فكونها لازمة أو جزءًا، نزاع لفظي. الثاني: أن نصوصاً صرحت بأنها جزء، كقوله: " الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة " الثالث: أنكم إن قلتم بأن من انتفى عنه هذه الأمور فهو كافر خال من كل إيمان، كان قولكم قول الخوارج، وأنتم في طرف، والخوارج في طرف؛ فكيف توافقونهم؟ ومن هذه الأمور: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج، والجهاد، والإجابة إلى حكم الله ورسوله، وغير ذلك مما لا تكفرون تاركه، وإن كفرتموه كان قولكم قول الخوارج.

الرابع: أن قول القائل: إن انتفاء بعض هذه الأعمال يستلزم ألا يكون في قلب الإنسان شيء من التصديق بأن الرب حق، قول يعلم فساده بالاضطرار. الخامس: أن هذا إذا ثبت في هذه ثبت في سائر الواجبات، فيرتفع النزاع المعنوي. فَصْل الوجه الثاني: من غلط المرجئة: ظنهم أن ما في القلب من الإيمان ليس إلا التصديق فقط، دون أعمال القلوب؛ كما تقدم عن جهمية المرجئة. الثالث: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاماً بدون شيء من الأعمال؛ ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه، بمنزلة السبب مع المسبب ولا يجعلونها لازمة له. والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة، ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر؛ ولهذا صاروا يقدرون مسائل يمتنع وقوعها لعدم تحقق الارتباط الذي بين البدن والقلب مثل أن يقولوا: رجل في قلبه من الإيمان مثل ما في قلب أبي بكر وعمر، وهو لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم رمضان، ويزني بأمه وأخته، ويشرب الخمر نهار رمضان، يقولون: هذا مؤمن تام الإيمان، فيبقى سائر المؤمنين ينكرون ذلك غاية الإنكار. قال أحمد بن حنبل: حدثنا خَلَف بن حَيَّان، حدثنا مَعْقِل بن عبيد الله

العبسي قال: قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء، فنفر منه أصحابنا نفوراً شديداً، منهم ميمون بن مِهْران، وعبد الكريم بن مالك، فإنه عاهد الله ألاّ يؤويه وإياه سقف بيت إلا المسجد، قال معقل: فحججت فدخلت على عطاء بن أبي رَبَاح في نفر من أصحابي وهو يقرأ {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} [يوسف: 110] قلت: إن لنا حاجة فأخلنا، ففعل، فأخبرته أن قومًا قبلنا قد أحدثوا وتكلموا وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، فقال: أو ليس الله تعالى يقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] ، فالصلاة والزكاة من الدين، قال: فقلت: إنهم يقولون: ليس في الإيمان زيادة، فقال: أوليس قد قال الله فيما أنزل: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] هذا الإيمان. فقلت: إنهم انتحلوك، وبلغني أن ابن ذَرٍّ دخل عليك في أصحاب له، فعرضوا عليك قولهم فقبلته، فقلت هذا الأمر، فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو، مرتين أو ثلاثًا ثم قال: قدمت المدينة فجلست إلى نافع فقلت: يا أبا عبد الله، إن لي إليك حاجة، فقال: سر أم علانية؟ فقلت: لا، بل سر. قال: رب سر لا خير فيه، فقلت: ليس من ذلك، فلما صلينا العصر قام وأخذ بثوبي، ثم خرج من الخوخة ولم ينتظر القاص، فقال: حاجتك؟ قال: فقلت: أخلني هذا. فقال: تنح، قال: فذكرت له قولهم. فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " أمرت أن أضربهم بالسيف حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله عَصَمُوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحَقِّها وحسابهم على اللّّه " قال: قلت: إنهم يقولون: نحن نقر بأن الصلاة فرض ولا نصلي، وبأن الخمر حرام ونشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن ننكح. فنثر يده من يدي وقال: من فعل هذا فهو كافر. قال مَعْقِل: فلقيت الزهري فأخبرته بقولهم. فقال: سبحان الله! وقد أخذ الناس في هذه الخصومات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " قال معقل: فلقيت الحكم

ابن عتبة فقلت له: إن عبد الكريم وميموناً بلغهما أنه دخل عليك ناس من المرجئة، فعرضوا بقولهم عليك فقبلت قولهم، قال: فقبل ذلك على ميمون، وعبد الكريم؟ ! لقد دخل علي اثنا عشر رجلاً وأنا مريض، فقالوا: يا أبا محمد، بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل بأمة سوداء، أو حبشية، فقال: يا رسول الله، على رقبة مؤمنة، أفترى هذه مؤمنة؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ ". فقالت: نعم. قال: " وتشهدين أن محمداً رسول الله؟ ". قالت: نعم، قال: " وتشهدين أن الجنة حق والنار حق ". قالت: نعم، قال: " وتشهدين أن الله يبعثك من بعد الموت؟ ". قالت: نعم، قال: " فأعتقها فإنها مؤمنة "، فخرجوا وهم ينتحلون ذلك. قال معقل: ثم جلست إلى ميمون بن مِهْران، فقلت: يا أبا أيوب، لو قرأت لنا سورة ففسرتها، قال: فقرأ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} حتى إذا بلغ: {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 1: 21] قال: ذاكم جبريل، والخيبة لمن يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل، ورواه حنبل عن أحمد، ورواه أيضاً عن ابن أبي مُلَيْكَة قال: لقد أتى علي بُرْهَة من الدهر وما أراني أدرك قومًا يقول أحدهم: إني مؤمن مستكمل الإيمان، ثم ما رضي حتى قال: إيماني على إيمان جبريل وميكائيل، وما زال بهم الشيطان حتى قال أحدهم: إني مؤمن وإن نكح أخته وأمه وبنته، والله لقد أدركت كذا وكذا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ما مات أحد منهم إلا وهو يخشى النفاق على نفسه، وقد ذكر هذا المعنى عنه البخاري في صحيحه، قال: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إيمانه كإيمان جبريل. وروى البغوي عن عبد الله بن محمد عن ابن مجاهد قال: كنت عند عطاء بن أبي رَبَاح، فجاء ابنه يعقوب فقال: يا أبتاه، إن أصحاباً لي يزعمون أن إيمانهم كإيمان جبريل، فقال: يا بني، ليس إيمان من أطاع الله كإيمان من عصى الله.

قلت: قوله عن المرجئة: إنهم يقولون: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، قد يكون قول بعضهم، فإنهم كلهم يقولون: ليستا من الإيمان، وأما من الدين فقد حكى عن بعضهم أنه يقول: ليستا من الدين، ولا نفرق بين الإيمان والدين، ومنهم من يقول: بل هما من الدين ويفرق بين اسم الإيمان واسم الدين، وهذا هو المعروف من أقوالهم التي يقولونها عن أنفسهم. ولم أر أنا في كتاب أحد منهم أنه قال: الأعمال ليست من الدين، بل يقولون: ليست من الإيمان، وكذلك حكى أبو عبيد عمن ناظره منهم، فإن أبا عبيد وغيره يحتجون بأن الأعمال من الدين، فذكر قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] أنها نزلت في حجة الوداع. قال أبو عبيد: فأخبر أنه إنما كمل الدين الآن في آخر الإسلام في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وزعم هؤلاء أنه كان كاملاً قبل ذلك بعشرين سنة من أول ما نزل عليه الوحي بمكة حين دعا الناس إلى الإقرار، حتى قال: لقد اضطر بعضهم حين أدخلت عليه هذه الحجة. . . إلى أن قال: إن الإيمان ليس بجميع الدين، ولكن الدين ثلاثة أجزاء: الإيمان جزء، والفرائض جزء، والنوافل جزء. قلت: هذا الذي قاله هذا هو مذهب القوم، قال أبو عبيد: وهذا غير ما نطق به الكتاب، ألا تسمع إلى قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] ، وقال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] ، وقال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3] فأخبر أن الإسلام هو الدين برمته، وزعم هؤلاء أنه ثلث الدين. قلت: إنما قالوا: إن الإيمان ثلث، ولم يقولوا: إن الإيمان ثلث الدين، لكنهم فرقوا بين مسمى الإيمان ومسمى الدين، وسنذكر إن شاء الله تعالى الكلام في مسمى هذا ومسمى هذا. فقد يحكى عن بعضهم أنه يقول: ليستا من الدين ولا يفرق بين اسم الإيمان والدين، ومنهم من يقول: بل كلاهما من الدين، ويفرق بين اسم الإيمان واسم الدين، والشافعي رضي الله عنه كان معظمًا لعطاء بن أبي رباح، ويقول: ليس في التابعين أتبع للحديث منه، وكذلك أبو حنيفة قال: ما رأيت مثل عطاء، وقد

أخذ الشافعي هذه الحجة عن عطاء. فروى ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي: حدثنا أبي، حدثنا ميمون، حدثنا أبو عثمان بن الشافعي، سمعت أبي يقول ليلة للحميدي: ما يحتج عليهم يعني أهل الإرجاء بآية أَحَجُّ من قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] . وقال الشافعي رضي الله عنه في كتاب [الأم] في [باب النية في الصلاة] : يحتج بألا تجزئ صلاة إلا بنية بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات " ثم قال: وكان الإجماع من الصحابة، والتابعين من بعدهم، ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر. وقال حنبل: حدثنا الحميدي قال: وأخبرت أن ناساً يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئًا حتى يموت، ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقراً بالفرائض واستقبال القبلة، فقلت: هذا الكفر الصُّرَاح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية. وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله، ورد على أمره وعلى الرسول ما جاء به عن الله. قلت: وأما احتجاجهم بقوله للأمة: " اعتقها فإنها مؤمنة " فهو من حججهم المشهورة، وبه احتج ابن كُلاَّب، وكان يقول: الإيمان هو التصديق والقول جميعاً، فكان قوله أقرب من قول جهم وأتباعه، وهذا لا حجة فيه؛ لأن الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الآخرة، فإن المنافقين الذين قالوا: {آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] هم في الظاهر مؤمنون يصلون مع الناس، ويصومون ويحجون ويغزون، والمسلمون يناكحونهم ويوارثونهم

كما كان المنافقون في عهد رسول الله صلىالله عليه وسلم، ولم يحكم النبي صلىالله عليه وسلم في المنافقين بحكم الكفار المظهرين للكفر، لا في مناكحتهم ولا موارثتهم ولا نحو ذلك، بل لما مات عبد الله بن أبيّ بن سَلُول وهو من أشهر الناس بالنفاق ورثه ابنه عبد الله وهو من خيار المؤمنين، وكذلك سائر من كان يموت منهم يرثه ورثته المؤمنون، وإذا مات لأحدهم وارث ورثوه مع المسلمين. وقد تنازع الفقهاء في المنافق الزنديق الذي يكتم زندقته، هل يَرِث ويُورَث؟ على قولين، والصحيح: أنه يرث ويُورَث وإن علم في الباطن أنه منافق، كما كان الصحابة على عهد النبي صلىالله عليه وسلم؛ لأن الميراث مبناه على الموالاة الظاهرة، لا على المحبة التي في القلوب، فإنه لو علق بذلك لم تمكن معرفته، والحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها، وهو ما أظهره من موالاة المسلمين فقول النبي صلىالله عليه وسلم: " لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم " لم يدخل فيه المنافقون وإن كانوا في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، بل كانوا يُورَثون ويَرِثون، وكذلك كانوا في الحقوق والحدود كسائر المسلمين، وقد أخبر الله عنهم أنهم يصلون ويزكون ومع هذا لم يقبل ذلك منهم فقال: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54] ، وقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 142] . وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يَرْقُب الشمسَ حتى إذا كانت بين قَرْنَي شيطان قام فَنَقَرَ أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً "، وكانوا يخرجون مع النبي صلىالله عليه وسلم في المغازي، كما خرج ابن أُبَي في غزوة بني المُصْطَلقَ، وقال فيها: {لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون: 8] .

وفي الصحيحين عن زيد بن أرقم قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيها شدة، فقال عبد الله بن أُبَيّ لأصحابه: لا تنفقوا على مَنْ عند رسول الله حتى ينفضُّوا من حوله، وقال: {لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأرسل إلى عبد الله بن أبي، فسأله فاجتهد يمينه ما فعل، وقالوا: كذب زيد يا رسول الله، فوقع في نفسي مما قالوا شدة، حتى أنزل الله تصديقي في {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ} ، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم، فَلَوَّوْا رؤوسهم. وفي غزوة تبوك استنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم كما استنفر غيرهم، فخرج بعضهم معه وبعضهم تخلفوا، وكان في الذين خرجوا معه من هَمَّ بقتله في الطريق، هموا بحل حزام ناقته ليقع في واد هناك، فجاءه الوحي، فأسَرَّ إلى حذيفة أسماءهم، ولذلك يقال: هو صاحب السر الذي لا يعلمه غيره، كما ثبت ذلك في الصحيح. ومع هذا ففي الظاهر تجري عليهم أحكام أهل الإيمان. وبهذا يظهر الجواب عن شبهات كثيرة تورد في هذا المقام، فإن كثيراً من المتأخرين ما بقى في المظهرين للإسلام عندهم إلا عدل أو فاسق، وأعرضوا عن حكم المنافقين، والمنافقون ما زالوا ولا يزالون إلى يوم القيامة، والنفاق شعب كثيرة، وقد كان الصحابة يخافون النفاق على أنفسهم. ففي الصحيحين عن النبي صلىالله عليه وسلم قال: " آية المنافق ثلاث: إذا حَدَّثَ كذب، وإذا وَعَدَ أخْلَف، وإذا ائْتُمِنَ خان "، وفي لفظ مسلم: " وإن صام وصلَّى وزَعَم أنه مسلم " وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه قال: " أربع من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه شُعْبَة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يَدَعَها: إذا حَدَّث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غَدَرَ، وإذا خاصم فَجَرَ ". وكان النبي صلى الله عليه وسلم أولاً يصلي عليهم ويستغفر لهم، حتى نهاه الله عن ذلك فقال: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ} [التوبة: 84] ، وقال:

{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] ، فلم يكن يصلى عليهم ولا يستغفر لهم، ولكن دماؤهمْ وأموالهم معصومة لا يستحل منهم ما يستحله من الكفار الذين لا يظهرون أنهم مؤمنون، بل يظهرون الكفر دون الإيمان، فإنه صلىالله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها عَصَمُوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على اللّّه "، ولما قال لأسامة ابن زيد: " أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ " قال: إنما قالها تَعَوُّذاً. قال: " هَلاَّ شَقَقْتَ عن قلبه؟ " وقال: " إني لم أومر أن أنقِّبَ عن قلوب الناس، ولا أشُقَّ بطونهم " وكان إذا استؤذن في قتل رجل يقول: " أليس يصلي، أليس يتشهد؟ " فإذا قيل له: إنه منافق. قال: " ذاك ". فكان حكمه صلىالله عليه وسلم في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم، لا يستحل منها شيئًا إلا بأمر ظاهر، مع أنه كان يعلم نفاق كثير منهم، وفيهم من لم يكن يعلم نفاقه، قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101] ، وكان من مات منهم صلي عليه المسلمون الذين لا يعلمون أنه منافق، ومن علم أنه منافق لم يُصَلِّ عليه، وكان عمر إذا مات ميت لم يصل عليه حتى يصلى عليه حذيفة؛ لأن حذيفة كان قد علم أعيانهم، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] فأمر بامتحانهن هنا وقال: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} . والله تعالى لما أمر في الكفارة بعتق رقبة مؤمنة، لم يكن على الناس ألا يعتقوا إلا من يعلموا أن الإيمان في قلبه، فإن هذا كما لو قيل لهم: اقتلوا إلا من

علمتم أن الإيمان في قلبه. وهم لم يؤمروا أن ينقبوا عن قلوب الناس ولا يشقوا بطونهم، فإذا رأوا رجلاً يظهر الإيمان جاز لهم عتقه، وصاحب الجارية لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل هي مؤمنة؟ إنما أراد الإيمان الظاهر الذي يفرق به بين المسلم والكافر، وكذلك من عليه نذر، لم يلزمه أن يعتق إلا من علم أن الإيمان في قلبه، فإنه لا يعلم ذلك مطلقاً، بل ولا أحد من الخلق يعلم ذلك مطلقاً. وهذا رسول الله صلىالله عليه وسلم أعلم الخلق، والله يقول له: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} . فأولئك إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحكم فيهم كحكمه في سائر المؤمنين، ولو حضرت جنازة أحدهم صلى عليها، ولم يكن منهياً عن الصلاة إلا على من علم نفاقه، وإلا لزم أن ينقب عن قلوب الناس ويعلم سرائرهم، وهذا لا يقدر عليه بشر. ولهذا لما كشفهم الله بسورة براءة بقوله: {منهم} ، {منهم} صار يعرف نفاق ناس منهم لم يكن يعرف نفاقهم قبل ذلك، فإن الله وصفهم بصفات علمها الناس منهم، وما كان الناس يجزمون بأنها مستلزمة لنفاقهم، وإن كان بعضهم يظن ذلك وبعضهم يعلمه، فلم يكن نفاقهم معلوماً عند الجماعة، بخلاف حالهم لما نزل القرآن؛ ولهذا لما نزلت سورة براءة كتموا النفاق وما بقى يمكنهم من إظهاره أحياناً ما كان يمكنهم قبل ذلك، وأنزل الله تعالى: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 60: 62] ، فلما توعدوا بالقتل إذا أظهروا النفاق، كتموه. ولهذا تنازع الفقهاء في استتابة الزنديق. فقيل: يستتاب. واستدل من قال ذلك بالمنافقين الذين كان النبي صلىالله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويكل أمرهم إلى الله. فيقال

له: هذا كان في أول الأمر، وبعد هذا أنزل الله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} فعلموا أنهم إن أظهروه كما كانوا يظهرونه قتلوا، فكتموه. والزنديق: هو المنافق، وإنما يقتله من يقتله إذا ظهر منه أنه يكتم النفاق، قالوا: ولا تعلم توبته؛ لأن غاية ما عنده أنه يظهر ما كان يظهر، وقد كان يظهر الإيمان وهو منافق، ولو قبلت توبة الزنادقة لم يكن سبيل إلى تقتيلهم، والقرآن قد توعدهم بالتقتيل. والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن تلك الأمة بالإيمان الظاهر الذي علقت به الأحكام الظاهرة، وإلا فقد ثبت عنه أن سعداً لما شهد لرجل أنه مؤمن قال: " أو مسلم " وكان يظهر من الإيمان ما تظهره الأَمَة وزيادة، فيجب أن يفرق بين أحكام المؤمنين الظاهرة التي يحكم فيها الناس في الدنيا، وبين حكمهم في الآخرة بالثواب والعقاب؛ فالمؤمن المستحق للجنة لابد أن يكون مؤمناً في الباطن باتفاق جميع أهل القبلة، حتى الكَرَّامية الذين يسمون المنافق مؤمناً ويقولون: الإيمان هو الكلمة، يقولون: إنه لا ينفع في الآخرة إلا الإيمان الباطن. وقد حكى بعضهم عنهم أنهم يجعلون المنافقين من أهل الجنة، وهو غلط عليهم، إنما نازعوا في الاسم لا في الحكم بسبب شبهة المرجئة؛ في أن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل؛ ولهذا أكثر ما اشترط الفقهاء في الرَّقَبَةِ التي تجزئ في الكفارة العمل الظاهر، فتنازعوا: هل يجزئ الصغير؟ على قولين معروفين للسلف، هما روايتان عن أحمد، فقيل: لا يجزئ عتقه؛ لأن الإيمان قول وعمل، والصغير لم يؤمن بنفسه إنما إيمانه تَبَعٌ لأبويه في أحكام الدنيا، ولم يشترط أحد أن يعلم أنه مؤمن في الباطن، وقيل: بل يجزئ عتقه؛ لأن العتق من الأحكام الظاهرة وهو تبع لأبويه، فكما أنه يرث منهما ويصلي عليه، ولا يصلي إلا على مؤمن، فإنه يعتق. وكذلك المنافقون الذين لم يظهروا نفاقهم، يصلى عليهم إذا ماتوا، ويدفنون في مقابر المسلمين من عهد النبي صلىالله عليه وسلم، والمقبرة التي كانت للمسلمين في حياته

وحياة خلفائه وأصحابه يدفن فيها كل من أظهر الإيمان وإن كان منافقاً في الباطن، ولم يكن للمنافقين مقبرة يتميزون بها عن المسلمين في شيء من ديار الإسلام، كما تكون لليهود والنصارى مقبرة يتميزون بها، ومن دفن في مقابر المسلمين صلى عليه المسلمون، والصلاة لا تجوز على من علم نفاقه بنص القرآن، فعلم أن ذلك بناء على الإيمان الظاهر، واللّّه يتولى السرائر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عليهم ويستغفر لهم حتى نهى عن ذلك، وعلل ذلك بالكفر، فكان ذلك دليلا على أن كل من لم يعلم أنه كافر بالباطن جازت الصلاة عليه والاستغفار له، وإن كانت فيه بدعة، وإن كان له ذنوب. وإذا ترك الإمام، أو أهل العلم والدين الصلاة على بعض المتظاهرين ببدعة أو فجور زجراً عنها، لم يكن ذلك محرماً للصلاة عليه والاستغفار له، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم فيمن كان يمتنع عن الصلاة عليه وهو الغَالُّ وقاتل نفسه والمَدِين الذي لا وفاء له: " صلوا على صاحبكم ". وروى أنه كان يستغفر للرجل في الباطن وإن كان في الظاهر يدع ذلك زجرًا عن مثل مذهبه، كما روى في حديث مُحَلِّم بن جَثَّامة. وليس في الكتاب والسنة المظهرون للإسلام إلا قسمان: مؤمن أو منافق، فالمنافق في الدرك الأسفل من النار، والآخر مؤمن، ثم قد يكون ناقص الإيمان فلا يتناوله الاسم المطلق، وقد يكون تام الإيمان، وهذا يأتي الكلام عليه إن شاء الله في مسألة الإسلام والإيمان، وأسماء الفساق من أهل الملة، لكن المقصود هنا أنه لا يجعل أحد بمجرد ذنب يذنبه ولا ببدعة ابتدعها ولو دعا الناس إليها كافراً في الباطن، إلا إذا كان منافقاً. فأما من كان في قلبه الإيمان بالرسول وما جاء به وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع، فهذا ليس بكافر أصلاً، والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمة وتكفيراً لها، ولم يكن في الصحابة من يكفرهم لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموافيهم

بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع. وكذلك سائر الثنتين وسبعين فرقة، من كان منهم منافقاً فهو كافر في الباطن، ومن لم يكن منافقاً، بل كان مؤمنا بالله ورسوله في الباطن، لم يكن كافراً في الباطن، وإن أخطأ في التأويل كائناً ما كان خطؤه؛ وقد يكون في بعضهم شعبة من شعب النفاق ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار. ومن قال: إن الثنتين وسبعين فرقة كل واحد منهم يكفر كفراً ينقل عن الملة، فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة، فليس فيهم من كفر كل واحد من الثنتين وسبعين فرقة، وإنما يكفر بعضهم بعضاً ببعض المقالات، كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع. وإنما قال الأئمة بكفر هذا؛ لأن هذا فرض ما لا يقع، فيمتنع أن يكون الرجل لا يفعل شيئًا مما أمر به من الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويفعل ما يقدر عليه من المحرمات، مثل الصلاة بلا وضوء وإلى غير القبلة، ونكاح الأمهات، وهو مع ذلك مؤمن في الباطن، بل لا يفعل ذلك إلا لعدم الإيمان الذي في قلبه؛ ولهذا كان أصحاب أبي حنيفة يكفرون أنواعاً ممن يقول كذا وكذا؛ لما فيه من الاستخفاف، ويجعلونه مرتداً ببعض هذه الأنواع مع النزاع اللفظي الذي بين أصحابه وبين الجمهور في العمل: هل هو داخل في اسم الإيمان أم لا؟ ولهذا فرض متأخرو الفقهاء مسألة يمتنع وقوعها وهي: أن الرجل إذا كان مقراً بوجوب الصلاة فدعى إليها وامتنع، واستتيب ثلاثا مع تهديده بالقتل فلم يصل حتى قتل، هل يموت كافراً أو فاسقًا؟ على قولين. وهذا الفرض باطل، فإنه يمتنع في الفطرة أن يكون الرجل يعتقد أن الله فرضها عليه، وأنه يعاقبه على تركها ويصبر على القتل، ولا يسجد لله سجدة من غير عذر له في ذلك، هذا لا يفعله بشر قط، بل ولا يضرب أحد ممن يقر بوجوب الصلاة إلا صلى، لا ينتهي الأمر به إلى القتل، وسبب ذلك: أن القتل

ضرر عظيم لا يصبر عليه الإنسان إلا لأمر عظيم، مثل لزومه لدين يعتقد أنه إن فارقه هلك فيصبر عليه حتى يقتل، وسواء كان الدين حقاً أو باطلاً، أما مع اعتقاده أن الفعل يجب عليه باطناً وظاهراً، فلا يكون فعل الصلاة أصعب عليه من احتمال القتل قط. ونظير هذا لو قيل: إن رجلاً من أهل السنة قيل له: تَرَضَّ عن أبي بكر وعمر فامتنع عن ذلك حتى قتل مع محبته لهما واعتقاده فضلهما، ومع عدم الأعذار المانعة من الترضي عنهما، فهذا لا يقع قط. وكذلك لو قيل: إن رجلاً يشهد أن محمداً رسول الله باطنا وظاهراً وقد طلب منه ذلك، وليس هناك رهبة ولا رغبة يمتنع لأجلها، فامتنع منها حتى قتل، فهذا يمتنع أن يكون في الباطن يشهد أن محمداً رسول الله؛ ولهذا كان القول الظاهر من الإيمان الذي لا نجاة للعبد إلا به عند عامة السلف والخلف من الأولين والآخرين إلا الجهمية جَهْماً ومن وافقه فإنه إذا قدر أنه معذور لكونه أخرس، أو لكونه خائفاً من قوم إنأظهر الإسلام آذوه ونحو ذلك، فهذا يمكن ألا يتكلم مع إيمان في قلبه، كالمكره على كلمة الكفر، قال الله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] وَهذه الآية مما يدل على فساد قول جهم ومن اتبعه، فإنه جعل كل من تكلم بالكفر من أهل وعيد الكفار، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان. فإن قيل: فقد قال تعالى: {وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} قيل: وهذا موافق لأولها فإنه من كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدراً، وإلا ناقض أول الآية آخرها، ولو كان المراد بمن كفر هو الشارح صدره، وذلك يكون بلا إكراه، لم يستثن المكره فقط، بل كان يجب أن يستثنى المكره وغير المكره إذا لم يشرح صدره، وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعاً فقد شرح بها صدراً وهي كفر،

وقد دل على ذلك قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} [التوبة: 64: 66] . فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم: إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب، وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه منعه أن يتكلم بهذا الكلام. والقرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه، كقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} إلي قوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 47: 51] فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم سمعوا وأطاعوا، فبين أن هذا من لوازم الإيمان. فصْل فإن قيل: فإذا كان الإيمان المطلق يتناول جميع ما أمر الله به ورسوله، فمتى ذهب بعض ذلك بطل الإيمان فيلزم تكفير أهل الذنوب كما تقوله الخوارج، أو تخليدهم في النار وسلبهم اسم الإيمان بالكلية كما تقوله المعتزلة، وكلا هذين القولين شر من قول المرجئة، فإن المرجئة منهم جماعة من العلماء والعباد المذكورين عند الأمة بخير، وأما الخوارج والمعتزلة فأهل السنة والجماعة من جميع الطوائف مطبقون على ذمهم.

قيل: أولا: ينبغي أن يعرف أن القول الذي لم يوافق الخوارج والمعتزلة عليه أحد من أهل السنة هو القول بتخليد أهل الكبائر في النار، فإن هذا القول من البدع المشهورة، وقد اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين على أنه لا يخلد في النار أحد ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، واتفقوا أيضاً على أن نبينا صلى الله عليه وسلم يشفع فيمن يأذن الله له بالشفاعة فيه من أهل الكبائر من أمته، ففي الصحيحين عنه أنه قال: " لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة "، وهذه الأحاديث مذكورة في مواضعها. وقد نقل بعض الناس عن الصحابة في ذلك خلافاً، كما روى ابن عباس: أن القاتل لا توبة له، وهذا غلط على الصحابة، فإنه لم يقل أحد منهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشفع لأهل الكبائر ولا قال: إنهم يخلدون في النار، ولكن ابن عباس في إحدى الروايتين عنه قال: إن القاتل لا توبة له، وعن أحمد بن حنبل في قبول توبة القاتل روايتان أيضاً، والنزاع في التوبة غير النزاع في التخليد، وذلك أن القتل يتعلق به حق آدمي؛ فلهذا حصل فيه النزاع. وأما قول القائل: إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله، فهذا ممنوع. وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله لم يبق منه شيء ثم قالت الخوارج والمعتزلة: هو مجموع ما أمر الله به ورسوله، وهوالإيمان المطلق كما قاله أهل الحديث؛ قالوا: فإذا ذهب شيء منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء فيخلد في النار. وقالت المرجئة على اختلاف فرقهم: لا تذهب الكبائر وترك الواجبات الظاهرة شيئًا من الإيمان؛ إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء فيكون شيئًا واحداً يستوى فيه البر والفاجر. ونصوص الرسول وأصحابه تدل على ذهاب بعضه وبقاء بعضه، كقوله: " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ". ولهذا كان أهل السنة والحديث على أنه يتفاضل، وجمهورهم يقولون: يزيد وينقص، ومنهم من يقول: يزيد، ولا يقول: ينقص، كما روي عن مالك في إحدى الروايتين، ومنهم من يقول: يتفاضل، كعبد الله بن المبارك، وقد ثبت لفظ الزيادة والنقصان منه عن الصحابة، ولم

يعرف فيه مخالف من الصحابة، فروى الناس من وجوه كثيرة مشهورة، عن حماد بن سلمة، عن أبي جعفر، عن جده عُمَيْر بن حَبِيب الخَطْمِيّ وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الإيمان يزيد وينقص، قيل له: وما زيادته وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا فتلك نقصانه، وروى إسماعيل بن عَيَّاش عن جَرِير بن عثمان، عن الحارث بن محمد عن أبي الدرداء قال: الإيمان يزيد وينقص. وقال أحمد بن حنبل: حدثنا يزيد، حدثنا جرير بن عثمان قال: سمعت أشياخنا أو بعض أشياخنا أن أبا الدرداء قال: إن من فِقْه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد الإيمان أم ينقص؟ وأن من فقه الرجل أن يعلم: نزغات الشيطان أنى تأتيه. وروى إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الله بن ربيعة الحَضْرَمِيّ، عن أبي هريرة قال: الإيمان يزيد وينقص. وقال أحمد بن حنبل: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن طلحة، عن زُبَيْدٍ، عن ذَرٍّ قال: كان عمر بن الخطاب يقول لأصحابه: هلموا نَزْدَدْ إيماناً، فيذكرون الله عز وجل وقال أبو عبيد في [الغريب] في حديث على: إن الإيمان يبدو لمُظَةً في القلب، كلما ازداد الإيمان ازدادت اللُّمظَة، يروي ذلك عن عثمان بن عبد الله عن عمرو ابن هند الجملي عن علي قال الأصمعي: اللُّمْظَة: مثل النكتة أو نحوها. وقال أحمد بن حنبل: حدثنا وَكِيعٌ، عن شَرِيك، عن هلال، عن عبد الله بن عُكَيْم قال: سمعت ابن مسعود يقول في دعائه: اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً. وروي سفيان الثوري، عن جامع بن شداد، عن الأسود بن هلال قال: كان معاذ

بن جبل يقول لرجل: اجلس بنا نؤمن نذكر الله تعالى. وروى أبو اليَمَان: حدثنا صفوان عن شُرَيْح ابن عبيد، أن عبد الله بن رواحة كان يأخذ بيد الرجل من أصحابه فيقول: قم بنا نؤمن ساعة، فنحن في مجلس ذكر وهذه الزيادة أثبتها الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن كله. وصح عن عمار بن ياسر أنه قال: ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان: الإنصاف من نفسه، والإنفاق من الإقتار، وبذل السلام للعالم، ذكره البخاري في صحيحه. وقال جُنْدُب بن عبد الله وابن عمر وغيرهما: تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً. والآثار في هذا كثيرة، رواها المصنفون في هذا الباب عن الصحابة والتابعين في كتب كثيرة معروفة. قال مالك بن دينار: الإيمان يبدو في القلب ضعيفاً ضئيلاً كالبَقْلَة، فإن صاحبه تعاهده فسقاه بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة، وأماط عنه الدَّغَل وما يضعفه ويُوهِنه، أوشك أن ينمو أو يزداد، ويصير له أصل وفروع، وثمرة وظل إلى ما لا يتناهى حتى يصير أمثال الجبال، وإن صاحبه أهمله ولم يتعاهده جاءه عَنْزٌ فنتفتها، أو صبي فذهب بها، وأكثر عليها الدَّغَل فأضعفها أو أهلكها أو أيبسها، كذلك الإيمان. وقال خَيْثَمة بن عبد الرحمن: الإيمان يَسْمَنْ في الخِصْب، ويَهْزِل في الْجَدْب، فخِصْبُه العمل الصالح، وجَدْبُه الذنوب والمعاصي، وقيل لبعض السلف: يزداد الإيمان وينقص، قال: نعم يزداد حتى يصير أمثال الجبال، وينقص حتى يصير أمثال الهباء.

وفي حديث حذيفة الصحيح: " حتى يقال للرجل: ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان "، وفي حديثه الآخر الصحيح " تعرض الفتن على القلوب كالحَصِير عوداً عوداً، فأي قلب أشْرِبها، نُكِتَتْ فيه نُكْتَة سوداء، وأي قلب أنْكَرَها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود: مُرْبَادّا، كالْكُوز مُجَخِّياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب هواه ". وفي حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب كفاية، فإنه من أعظم الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه؛ لأنه وصفهم بقوة الإيمان وزيادته في تلك الخصال التي تدل على قوة إيمانهم، وتوكلهم على الله في أمورهم كلها. وروى أبو نُعَيْم من طريق الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله اليزنيّ، عن أبي رافع أنه سمع رجلاً حَدَّثَه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: " أتحب أن أخبرك بصريح الإيمان؟ " قال: نعم. قال: " إذا أسأت أو ظلمت أحداً، عَبْدَكَ أو أمَتَكَ أو أحداً من الناس، حَزِنْتَ وساءك ذلك، وإذا تصدقتَ أو أحسنتَ استبشرتَ وسَرَّكَ ذلك "، ورواه بعضهم عن يزيد، عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأله عن زيادة الإيمان في القلب ونقصانه فذكر نحوه. وقال البزار: حدثنا محمد بن أبي الحسن البصري، ثنا هانئ بن المتوكل، ثنا عبد الله بن سليمان، عن إسحاق، عن أنس مرفوعاً: " ثلاث من كُنَّ فيه استوجب الثواب واستكمل الإيمان: خُلُق يعيش به في الناس، وورَع يحجزه عن معصية الله، وحِلْم يرد به جهل الجاهل، أربع من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا " فالخصال الأولى تدل على زيادة الإيمان وقوته، والأربعة الأخر تدل على ضعفه ونقصانه. وقال أبو يعلي الموصلي: ثنا عبد الله القواريري، ويحيى بن سعيد قالا: ثنا

يزيد بن زريع، ويحيى بن سعيد قالا: حدثنا عوف، حدثني عقبة بن عبد الله المزني قال يزيد في حديثه في مسجد البصرة: حدثني رجل قد سماه، ونسى عوف اسمه قال: كنت بالمدينة في مسجد فيه عمر بن الخطاب، فقال لبعض جلسائه: كيف سمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الإسلام؟ فقال: سمعته يقول: " الإسلام بدأ جَذَعاً، ثم ثَنِيًا؛ ثم رباعيا، ثم سَدِيساً؛ ثم بازلاً " فقال عمر: فما بعد البُزُول إلا النقصان، كذا ذكره أبو يعلى في [مسند عمر] وفي [مسند] هذا الصحابي المبهم ذكره أولى. قال أبو سليمان: من أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليلة. والزيادة قد نطق بها القرآن في عدة آيات، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] ، وهذه زيادة، إذا تليت عليهم الآيات أي: وقت تليت ليس هو تصديقهم بها عند النزول، وهذا أمر يجده المؤمن إذا تليت عليه الآيات، زاد في قلبه بفهم القرآن ومعرفة معانيه من علم الإيمان ما لم يكن، حتى كأنه لم يسمع الآية إلا حينئذ، ويحصل في قلبه من الرغبة في الخير والرهبة من الشر ما لم يكن، فزاد علمه بالله ومحبته لطاعته، وهذه زيادة الإيمان، وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] ، فهذه الزيادة عند تخويفهم بالعدو لم تكن عند آية نزلت فازدادوا يقيناً وتوكلاً على الله، وثباتاً على الجهاد وتوحيداً بألا يخافوا المخلوق، بل يخافون الخالق وحده، وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124، 125] . وهذه

الزيادة ليست مجرد التصديق بأن الله أنزلها، بل زادتهم إيماناً بحسب مقتضاها، فإن كانت أمراً بالجهاد أو غيره ازدادوا رغبة، وإن كانت نهياً عن شيء انتهوا عنه فكرهوا؛ ولهذا قال: {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} والاستبشار غير مجرد التصديق، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} [الرعد: 36] ، والفرح بذلك من زيادة الإيمان، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 5] ، وقال تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 4، 5] ، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31] ، وقال: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] ، وهذه نزلت لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الحديبية، فجعل السكينة موجبة لزيادة الإيمان. والسكينة طمأنينة في القلب غير علم القلب وتصديقه؛ ولهذا قال يوم حُنَيْنٍ: {ثُمَّ أَنَزلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26] ، وقال تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 40] ، ولم يكن قد نزل يوم حنين قرآن ولا يوم الغار، وإنما أنزل سكينته وطمأنينته من خوف العدو، فلما أنزل السكينة في قلوبهم، مرجعهم من الحديبية، ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، دل على أن الإيمان المزيد حال للقلب وصفة له، وعمل مثل طمأنينته وسكونه ويقينه، واليقين قد يكون بالعمل والطمأنينة، كما يكون بالعلم، والريب المنافي لليقين يكون ريباً في العلم، وريباً في طمأنينة القلب؛ ولهذا جاء في الدعاء المأثور: " اللهم اقسم لنا من خَشْيَتِك ما تَحُول به بيننا وبين مَعَاصِيكَ، ومن طاعتك ما تُبَلِّغُنَا به جَنّتَكَ، ومن اليقين ما تُهَوِّنُ به علينا مصائب الدنيا ". وفي حديث الصديق الذي رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه

قال: " سَلُوا اللهَ العافية واليقين، فما أعطى أحد بعد اليقين شيئًا خيراً من العافية، فسلوهما الله تعالى "، فاليقين عند المصائب بعد العلم بأن الله قدرها سكينة القلب وطمأنينته وتسليمه، وهذا من تمام الإيمان بالقدر خيره وشره، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] ، قال عَلْقَمَة: ويروي عن ابن مسعود: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضي ويسلم، وقوله تعالى: {يَهْدِ قَلْبَهُ} هداه لقلبه هو زيادة في إيمانه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] ، وقال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] . ولفظ [الإيمان] أكثر ما يذكر في القرآن مقيداً، فلا يكون ذلك اللفظ متناولا لجميع ما أمر الله به، بل يجعل موجباً للوازمه وتمام ما أمر به، وحينئذ يتناوله الاسم المطلق قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الحديد: 7: 9] ، وقال تعالى في آخر السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الحديد: 28] . وقد قال بعض المفسرين في الآية الأولى: إنها خطاب لقريش، وفي الثانية: إنها خطاب لليهود والنصارى، وليس كذلك؛ فإن الله لم يقل قط للكفار: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ثم قال بعد ذلك: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ} [الحديد: 29] ، وهذه السورة مدنية باتفاق، لم يخاطب بها المشركين بمكة، وقد قال: {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الحديد:8] وهذا لا يخاطب به كافر، وكفار مكة لم يكن أخذ

ميثاقهم، وإنما أخذ ميثاق المؤمنين ببيعتهم له؛ فإن كل من كان مسلماً مهاجراً، كان يبايع النبي صلى الله عليه وسلم كما بايعه الأنصار ليلة العَقَبَة، وإنما دعاهم إلى تحقيق الإيمان وتكميله بأداء ما يجب من تمامه باطناً وظاهراً، كما نسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم في كل صلاة، وإن كان قد هدى المؤمنين للإقرار بما جاء به الرسول جملة، لكن الهداية المفصلة في جميع ما يقولونه ويفعلونه في جميع أمورهم لم تحصل، وجميع هذه الهداية الخاصة المفصلة هي من الإيمان المأمور به. وبذلك يخرجهم الله من الظلمات إلى النور. فصْل: وزيادة الإيمان الذي أمر الله به، والذي يكون من عباده المؤمنين، يعرف من وجوه: أحدها: الإجمال والتفصيل فيما أمروا به، فإنه وإن وجب على جميع الخلق الإيمان بالله ورسوله، ووجب على كل أمة التزام ما يأمر به رسولهم مجملاً، فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله، ولا يجب على كل عبد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول، ما يجب على من بلغه غيره، فمن عرف القرآن والسنن ومعانيها، لزمه من الإيمان المفصل بذلك ما لا يلزم غيره، ولو آمن الرجل بالله وبالرسول باطناً وظاهراً، ثم مات قبل أن يعرف شرائع الدين، مات مؤمناً بما وجب عليه من الإيمان، وليس ما وجب عليه ولا ما وقع عنه مثل إيمان من عرف الشرائع فآمن بها وعمل بها، بل إيمان هذا أكمل وجوباً ووقوعاً، فإن ما وجب عليه من الإيمان أكمل، وما وقع منه أكمل. وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] أي: في التشريع بالأمر والنهي، ليس المراد أن كل واحد من الأمة وجب عليه ما يجب على سائر الأمة، وأنه فعل ذلك، بل في الصحيحين عن النبي صلىالله عليه وسلم، أنه وصف النساء بأنهن ناقصات عقل ودين، وجعل نقصان عقلها، أن شهادة امرأتين، شهادة رجل واحد، ونقصان دينها أنها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي، وهذا النقصان ليس

هو نقص مما أمرت به، فلا تعاقب على هذا النقصان، لكن من أمر بالصلاة والصوم ففعله، كان دينه كاملاً بالنسبة إلى هذه الناقصة الدين. الوجه الثاني: الإجمال والتفصيل فيما وقع منهم، فمن آمن بما جاء به الرسول مطلقاً فلم يكذبه قط، لكن أعرض عن معرفة أمره، ونهيه، وخبره، وطلب العلم الواجب عليه؛ فلم يعلم الواجب عليه، ولم يعمله، بل اتبع هواه، وآخر طلب علم ما أمر به فعمل به، وآخر طلب علمه، فعلمه، وآمن به ولم يعمل به وإن اشتركوا في الوجوب، لكن من طلب علم التفصيل وعمل به فإيمانه أكمل به، فهؤلاء ممن عرف ما يجب عليه والتزمه، وأقر به، لكنه لم يعمل بذلك كله، وهذا المقر بما جاء به الرسول، المعترف بذنبه الخائف من عقوبة ربه على ترك العمل، أكمل إيماناً ممن لم يطلب معرفة ما أمر به الرسول ولا عمل بذلك، ولا هو خائف أن يعاقب، بل هو في غفلة عن تفصيل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنه مقر بنبوته باطناً وظاهراً. فكلما علم القلب ما أخبر به الرسول فصدقه، وما أمر به فالتزمه، كان ذلك زيادة في إيمانه على من لم يحصل له ذلك، وإن كان معه التزام عام وإقرار عام. وكذلك من عرف أسماء الله ومعانيها فآمن بها، كان إيمانه أكمل ممن لم يعرف تلك الأسماء، بل آمن بها إيماناً مجملاً، أو عرف بعضها، وكلما ازداد الإنسان معرفة بأسماء الله وصفاته وآياته، كان إيمانه به أكمل. الثالث: أن العلم والتصديق نفسه، يكون بعضه أقوى من بعض، وأثبت وأبعد عن الشك والرِّيب. وهذا أمر يشهده كل أحد من نفسه، كما أن الحس الظاهر بالشيء الواحد، مثل رؤية الناس للهلال، وإن اشتركوا فيها فبعضهم تكون رؤيته أتم من بعض، وكذلك سماع الصوت الواحد، وشم الرائحة الواحدة، وذوق النوع الواحد من الطعام، فكذلك معرفة القلب وتصديقه يتفاضل أعظم من ذلك من وجوه متعددة. والمعاني التي يؤمن بها من معاني أسماء الرب وكلامه، يتفاضل الناس في معرفتها، أعظم من تفاضلهم في معرفة غيرها.

الرابع: أن التصديق المستلزم لعمل القلب، أكمل من التصديق الذي لا يستلزم عمله فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، وإذا كان شخصان يعلمان أن الله حق، ورسوله حق، والجنة حق، والنار حق، وهذا علمه أوجب له محبة الله، وخشيته، والرغبة في الجنة، والهرب من النار والآخر علمه لم يوجب ذلك، فعلم الأول أكمل؛ فإن قوة المسبب دل على قوة السبب، وهذه الأمور نشأت عن العلم، فالعلم بالمحبوب يستلزم طلبه، والعلم بالمخوف يستلزم الهرب منه، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ليس المخبَرُ كالمعاين " فإن موسى لما أخبره ربه أن قومه عبدوا العجل، لم يلق الألواح، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها؛ وليس ذلك لشك موسى في خبر الله، لكن المخبر وإن جزم بصدق المخبر، فقد لا يتصور المخبر به في نفسه، كما يتصوره إذا عاينه، بل يكون قلبه مشغولاً عن تصور المخبر به، وإن كان مصدقاً به، ومعلوم أنه عند المعاينة يحصل له من تصور المخبر به ما لم يكن عند الخبر، فهذا التصديق أكمل من ذلك التصديق. الخامس: أن أعمال القلوب، مثل محبة الله ورسوله، وخشية الله تعالى ورجائه، ونحو ذلك، هي كلها من الإيمان، كما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفاق السلف، وهذه يتفاضل الناس فيها تفاضلاً عظيماً. السادس: أن الأعمال الظاهرة مع الباطنة هي أيضاً من الإيمان، والناس يتفاضلون فيها. السابع: ذكر الإنسان بقلبه ما أمره الله به واستحضاره لذلك، بحيث لا يكون غافلاً عنه، أكمل ممن صدق به وغفل عنه، فإن الغفلة تضاد كمال العلم والتصديق والذكر، والاستحضار يكمل العلم واليقين؛ ولهذا قال عمر بن

حبيب من الصحابة: إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضَيَّعْنا فتلك نقصانه وهو كذلك. وكان معاذ بن جبل يقول لأصحابه: اجلسوا بنا ساعة نؤمن، قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف: 28] ، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] ، وقال تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} [الأعلى: 10، 11] ثم كلما تذكر الإنسان ما عرفه قبل ذلك، وعمل به، حصل له معرفة شيء آخر لم يكن عرفه قبل ذلك وعرف من معاني أسماء الله وآياته ما لم يكن عرفه قبل ذلك، كما في الأثر: " من عَمِل بما عَلِم وَرَّثَهُ الله علم ما لم يَعْلَمْ ". وهذا أمر يجده في نفسه كل مؤمن. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " مثل الذي يَذْكُر ربه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت "، قال تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] ، وذلك أنها تزيدهم علم ما لم يكونوا قبل ذلك علموه، وتزيدهم عملاً بذلك العلم، وتزيدهم تذكراً لما كانوا نسوه، وعملاً بتلك التذكرة، وكذلك ما يشاهده العباد من الآيات في الآفاق، وفي أنفسهم قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] أي: أن القرآن حق، ثم قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] ، فإن الله شهيد في القرآن بما أخبر به، فآمن به المؤمن ثم أراهم في الآفاق وفي أنفسهم من الآيات، ما يدل على مثل ما أخبر به في القرآن، فبينت لهم هذه الآيات، أن القرآن حق مع ما كان قد حصل لهم قبل ذلك. وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} [ق: 6: 8] ، فالآيات المخلوقة والمتلوة، فيها تبصرة، وفيها تذكرة: تبصرة من العمى، وتذكرة من الغفلة، فيبصر من لم يكن عرف حتى يعرف، ويذكر من عرف ونسى، والإنسان يقرأ السورة مرات، حتى سورة

الفاتحة، ويظهر له في أثناء الحال من معانيها ما لم يكن خطر له قبل ذلك، حتى كأنها تلك الساعة نزلت، فيؤمن بتلك المعاني ويزداد علمه وعمله، وهذا موجود في كل من قرأ القرآن بتدبر، بخلاف من قرأه مع الغفلة عنه، ثم كلما فعل شيئًا مما أمر به، استحضر أنه أمر به فصدق الأمر، فحصل له في تلك الساعة من التصديق في قلبه ما كان غافلاً عنه، وإن لم يكن مكذباً منكراً. الوجه الثامن: أن الإنسان قد يكون مكذبًا ومنكراً لأمور لا يعلم أن الرسول أخبر بها، وأمر بها، ولو علم ذلك لم يكذب ولم ينكر، بل قلبه جازم بأنه لا يخبر إلا بصدق ولا يأمر إلا بحق، ثم يسمع الآية أو الحديث، أو يتدبر ذلك، أو يفسر له معناه، أو يظهر له ذلك بوجه من الوجوه، فيصدق بما كان مكذبًا به، ويعرف ما كان منكراً، وهذا تصديق جديد، وإيمان جديد ازداد به إيمانه، ولم يكن قبل ذلك كافراً بل جاهلاً، وهذا وإن أشبه المجمل والمفصل لكون قلبه سليما عن تكذيب وتصديق لشيء من التفاصيل، وعن معرفة وإنكار لشيء من ذلك، فيأتيه التفصيل بعد الإجمال على قلب ساذج، وأما كثير من الناس، بل من أهل العلوم والعبادات، فيقوم بقلوبهم من التفصيل أمور كثيرة تخالف ما جاء به الرسول وهم لا يعرفون أنها تخالف، فإذا عرفوا رجعوا، وكل من ابتدع في الدين قولاً أخطأ فيه، أو عمل عملاً أخطأ فيه، وهو مؤمن بالرسول، أو عرف ما قاله وآمن به، لم يعدل عنه، هو من هذا الباب، وكل مبتدع قصده متابعة الرسول فهو من هذا الباب، فمن علم ما جاء به الرسول، وعمل به، أكمل ممن أخطأ ذلك، ومن علم الصواب بعد الخطأ وعمل به، فهو أكمل ممن لم يكن كذلك. فصْل وقد أثبت الله في القرآن إسلامًا بلا إيمان في قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات: 14] . وقد ثبت في الصحيحين،

عن سعد بن أبي وقاص، قال: أعطى النبي صلى الله عليه وسلم رهطاً وفي رواية قسم قسماً وترك فيهم من لم يعطه، وهو أعجبهم إلى، فقلت: يا رسول الله، مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أو مسلمًا ". أقولها ثلاثا، ويرددها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، ثم قال: " إني لأعطي الرجل، وغيره أحب إلي منه، مخافة أن يَكُبَّهُ الله على وجهه في النار "، وفي رواية: فضرب بين عنقي وكتفي، وقال: " أقتال أي سعد؟ ! ". فهذا الإسلام الذي نفى الله عن أهله دخول الإيمان في قلوبهم، هل هو إسلام يثابون عليه؟ أم هو من جنس إسلام المنافقين؟ فيه قولان مشهوران للسلف والخلف: أحدهما: أنه إسلام يثابون عليه، ويخرجهم من الكفر والنفاق. وهذا مروي عن الحسن، وابن سيرين، وإبراهيم النَّخَعِي، وأبي جعفر الباقر، وهو قول حماد بن زيد، وأحمد بن حنبل، وسهل بن عبد الله التَّسْتُرِي، وأبي طالب المكي، وكثير من أهل الحديث والسنة والحقائق. قال أحمد بن حنبل: حدثنا مُؤَمَّل بن إسحاق عن عمار بن زيد قال: سمعت هشاماً يقول: كان الحسن ومحمد يقولان: مسلم، ويهابان: مؤمن، وقال أحمد بن حنبل: حدثنا أبو سلمة الخُزَاعِي، قال: قال مالك، وشريك، وأبو بكر بن عياش، وعبد العزيز ابن أبي سلمة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد: الإيمان: المعرفة والإقرار والعمل، إلا أن حماد بن زيد يفرق بين الإسلام والإيمان، يجعل الإيمان خاصاً، والإسلام عاماً. والقول الثاني: أن هذا الإسلام هو الاستسلام خوف السبي والقتل، مثل إسلام المنافقين، قالوا: وهؤلاء كفار، فإن الإيمان لم يدخل في قلوبهم، ومن لم يدخل الإيمان في قلبه فهو كافر. وهذا اختيار البخاري، ومحمد بن نصر المروزي، والسلف مختلفون في ذلك.

قال محمد بن نصر: حدثنا إسحاق، أنبأنا جَرِير، عن مُغِيرة، قال: أتيت إبراهيم النَّخَعِي، فقلت: إن رجلاً خاصمني يقال له: سعيد العَنْبَرِيّ، فقال إبراهيم: ليس بالعنبري ولكنه زُبٍيْدِيّ. قوله: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] فقال: هو الاستسلام، فقال إبراهيم: لا، هو الإسلام. وقال: حدثنا محمد بن يحيي، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان عن مجاهد: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} ، قال: استسلمنا خوف السبي والقتل، ولكن هذا منقطع، سفيان لم يدرك مجاهداً، والذين قالوا: إن هذا الإسلام هو كإسلام المنافقين، لا يثابون عليه، قالوا: لأن الله نفى عنهم الإيمان، ومن نفى عنه الإيمان فهو كافر، وقال هؤلاء: الإسلام هو الإيمان، وكل مسلم مؤمن، وكل مؤمن مسلم، ومن جعل الفساق مسلمين غير مؤمنين، لزمه ألاّ يجعلهم داخلين في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] ، وفي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] وأمثال ذلك، فإنهم إنما دعوا باسم الإيمان، لا باسم الإسلام، فمن لم يكن مؤمناً لم يدخل في ذلك. وجواب هذا أن يقال: الذين قالوا من السلف: إنهم خرجوا من الإيمان إلى الإسلام، لم يقولوا: إنه لم يبق معهم من الإيمان شيء، بل هذا قول الخوارج، والمعتزلة. وأهل السنة الذين قالوا هذا يقولون: الفساق يخرجون من النار بالشفاعة، وإن معهم إيماناً يخرجون به من النار. لكن لا يطلق عليهم اسم الإيمان، لأن الإيمان المطلق هو الذي يستحق صاحبه الثواب، ودخول الجنة، وهؤلاء ليسوا من أهله، وهم يدخلون في الخطاب بالإيمان؛ لأن الخطاب بذلك هو لمن دخل في الإيمان وإن لم يستكمله، فإنه إنما خوطب ليفعل تمام الإيمان، فكيف يكون قد أتمه قبل الخطاب؟ ! وإلا كنا قد تبينا أن هذا المأمور من الإيمان قبل الخطاب، وإنما صار من الإيمان بعد أن أمروا به، فالخطاب ب {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا} ، غير قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ

لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [الحجرات: 15] ونظائرها، فإن الخطاب ب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أولاً: يدخل فيه من أظهر الإيمان، وإن كان منافقاً في الباطن يدخل فيه في الظاهر، فكيف لا يدخل فيه من لم يكن منافقاً، وإن لم يكن من المؤمنين حقاً. وحقيقته أن من لم يكن من المؤمنين حقاً، يقال فيه: إنه مسلم، ومعه إيمان يمنعه الخلود في النار، وهذا متفق عليه بين أهل السنة، لكن هل يطلق عليه اسم الإيمان؟ هذا هو الذي تنازعوا فيه. فقيل: يقال: مسلم، ولا يقال: مؤمن. وقيل: بل يقال: مؤمن. والتحقيق أن يقال: إنه مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، ولا يعطي اسم الإيمان المطلق، فإن الكتاب والسنة نفيا عنه الاسم المطلق، واسم الإيمان يتناوله فيما أمر الله به ورسوله؛ لأن ذلك إيجاب عليه وتحريم عليه، وهو لازم له كما يلزمه غيره، وإنما الكلام في اسم المدح المطلق، وعلى هذا فالخطاب بالإيمان يدخل فيه ثلاث طوائف: يدخل فيه المؤمن حقاً. ويدخل فيه المنافق في أحكامه الظاهرة، وإن كانوا في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، وهو في الباطن ينفي عنه الإسلام والإيمان، وفي الظاهر يثبت له الإسلام والإيمان الظاهر. ويدخل فيه الذين أسلموا وإن لم تدخل حقيقة الإيمان في قلوبهم، لكن معهم جزء من الإيمان والإسلام يثابون عليه. ثم قد يكونون مفرطين فيما فرض عليهم، وليس معهم من الكبائر ما يعاقبون عليه كأهل الكبائر، لكن يعاقبون على ترك المفروضات، وهؤلاء كالأعراب المذكورين في الآية وغيرهم، فإنهم قالوا: آمنا، من غير قيام منهم بما أمروا به باطناً وظاهراً. فلا دخلت حقيقة الإيمان في قلوبهم، ولا جاهدوا في سبيل الله، وقد كان دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد وقد يكونون من أهل الكبائر المعرضين للوعيد، كالذين يصلون ويزكون ويجاهدون، ويأتون الكبائر، وهؤلاء لا يخرجون من الإسلام، بل هم مسلمون ولكن بينهم نزاع لفظي: هل يقال: إنهم مؤمنون، كما سنذكره إن شاء الله؟

وأما الخوارج والمعتزلة، فيخرجونهم من اسم الإيمان والإسلام؛ فإن الإيمان والإسلام عندهم واحد، فإذا خرجوا عندهم من الإيمان خرجوا من الإسلام، لكن الخوارج تقول: هم كفار، والمعتزلة تقول: لا مسلمون ولا كفار، ينزلونهم منزلة بين المنزلتين، والدليل على أن الإسلام المذكور في الآية هو إسلام يثابون عليه وأنهم ليسوا منافقين، أنه قال: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ثم قال: {وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات: 14] ، فدل على أنهم إذا أطاعوا الله ورسوله مع هذا الإسلام، آجرهم الله على الطاعة، والمنافق عمله حابط في الآخرة. وأيضاً، فإنه وصفهم بخلاف صفات المنافقين، فإن المنافقين وصفهم بكفر في قلوبهم، وإنهم يبطنون خلاف ما يظهرون، كما قال تعالي: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً} الآيات [البقرة: 8: 10] ، وقال: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] ، فالمنافقون يصفهم في القرآن بالكذب، وأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وبأن في قلوبهم من الكفر ما يعاقبون عليه، وهؤلاء لم يصفهم بشيء من ذلك، لكن لما ادعوا الإيمان قال للرسول: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} . ونفى الإيمان المطلق لا يستلزم أن يكونوا منافقين، كما في قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] ثم قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2: 4] ، ومعلوم أنه ليس من لم يكن كذلك، يكون منافقاً من

أهل الدرك الأسفل من النار، بل لا يكون قد أتى بالإيمان الواجب، فنفى عنه كما ينفي سائر الأسماء عمن ترك بعض ما يجب عليه، فكذلك الأعراب لم يأتوا بالإيمان الواجب، فنفى عنهم لذلك وإن كانوا مسلمين، معهم من الإيمان ما يثابون عليه. وهذا حال أكثر الداخلين في الإسلام ابتداء، بل حال أكثر من لم يعرف حقائق الإيمان، فإن الرجل إذا قوتل حتى أسلم، كما كان الكفار يقاتلون حتى يسلموا، أو أسلم بعد الأسْرِ، أو سمع بالإسلام فجاء فأسلم، فإنه مسلم ملتزم طاعة الرسول، ولم تدخل إلى قلبه المعرفة بحقائق الإيمان، فإن هذا إنما يحصل لمن تيسرت له أسباب ذلك، إما بفهم القرآن وإما بمباشرة أهل الإيمان والاقتداء بما يصدر عنهم من الأقوال والأعمال، وإما بهداية خاصة من الله يهديه بها. والإنسان قد يظهر له من محاسن الإسلام ما يدعوه إلى الدخول فيه، وإن كان قد ولد عليه وتربى بين أهله فإنه يحبه، فقد ظهر له بعض محاسنه وبعض مساوئ الكفار. وكثير من هؤلاء قد يرتاب إذا سمع الشبه القادحة فيه، ولا يجاهد في سبيل الله، فليس هو داخلاً في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات: 15] ، وليس هو منافقاً في الباطن مضمراً للكفر، فلا هو من المؤمنين حقاً ولا هو من المنافقين، ولا هو أيضاً من أصحاب الكبائر، بل يأتي بالطاعات الظاهرة ولا يأتي بحقائق الإيمان التي يكون بها من المؤمنين حقاً، فهذا معه إيمان وليس هو من المؤمنين حقاً، ويثاب على ما فعل من الطاعات؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} ؛ولهذا قال: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17] يعني: في قولكم: {آمنا} . يقول: إن كنتم صادقين فالله يمن عليكم أن هداكم للإيمان، وهذا يقتضي أنهم قد يكونون صادقين في قولهم: {آمنا} . ثم صدقهم، إما أن يراد به اتصافهم بأنهم آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون. وإما أن يراد به أنهم لم يكونوا كالمنافقين، بل معهم

إيمان وإن لم يكن لهم أن يدعوا مطلق الإيمان، وهذا أشبه والله أعلم لأن النسوة الممتحنات قال فيهن: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] ، ولا يمكن نفي الرِّيبِ عنهن في المستقبل، ولأن الله إنما كذب المنافقين ولم يكذب غيرهم، وهؤلاء لم يكذبهم ولكن قال: {لَّمْ تُؤْمِنُوا} كما قال: " لا يؤمن أحدُكُمْ حتى يحب لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه "، وقوله: " لا يزني الزاني حين يزني وهومؤمن "، و " لا يؤمن من لا يأمن جاره بَوَائِقَهُ " وهؤلاء ليسوا منافقين. وسياق الآية يدل على أن الله ذمهم؛ لكونهم مَنُّوا بإسلامهم لجهلهم وجفائهم، وأظهروا ما في أنفسهم مع علم الله به، فإن الله تعالى قال: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الحجرات: 16] ، فلو لم يكن في قلوبهم شيء من الدين لم يكونوا يعلمون الله بدينهم، فإن الإسلام الظاهر يعرفه كل أحد، ودخلت الباء في قوله: {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} لأنه ضُمِّن معنى: يخبرون ويحدثون، كأنه قال: أتخبرونه وتحدثونه بدينكم وهو يعلم ما في السموات وما في الأرض. وسياق الآية يدل على أن الذي أخبروا به الله هو ما ذكره الله عنهم من قولهم: {آمنا} فإنهم أخبروا عما في قلوبهم. وقد ذكر المفسرون أنه لما نزلت هاتان الآيتان أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحلفون أنهم مؤمنون صادقون، فنزل قوله تعالى: {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} [الحجرات: 16] ، وهذا يدل على أنهم كانوا صادقين أولاً في دخولهم في الدين؛ لأنه لم يتجدد لهم بعد نزول الآية جهاد حتى يدخلوا به في الآية، إنما هوكلام قالوه، وهو سبحانه قال: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] ، ولفظ: {لما} ينفي به ما يقرب حصوله ويحصل غالباً كقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ} [آل عمران: 142] ، وقد قال السُّدِّيّ: نزلت هذه الآية في أعراب مُزَيْنَة وجُهيْنَة وأسْلَمَ، وأشْجَع وغِفَار، وهم الذين ذكرهم الله في سورة الفتح وكانوا يقولون: آمنا بالله؛ ليأمنوا على أنفسهم، فلما استنفروا إلى الحُدَيْبِيَةِ تخلّفوا، فنزلت فيهم هذه الآية.

وعن مقاتل: كانت منازلهم بين مكة والمدينة، وكانوا إذا مرت بهم سَرِيَّةٌ من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا؛ ليأمنوا على دمائهم وأموالهم، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية استنفرهم، فلم ينفروا معه. وقال مجاهد: نزلت في أعراب بني أسد بن خُزَيْمة، ووصف غيره حالهم فقال: قدموا المدينة في سنة مُجْدِبَةٍ، فأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارهم، وكانوا يمنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: أتيناك بالأثقال والعيال، فنزلت فيهم هذه الآية. وقد قال قتادة في قوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17] قال: منوا على النبي صلى الله عليه وسلم حين جاؤوا فقالوا: إنا أسلمنا بغير قتال، لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، فقال الله لنبيه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} . وقال مُقاتِل بن حَيَّان: هم أعراب بني أسد بن خزيمة، قالوا: يا رسول الله، أتيناك بغير قتال، وتركنا العشائر والأموال، وكل قبيلة من العرب قاتلتك حتى دخلوا كرها في الإسلام، فلنا بذلك عليك حق، فأنزل الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فله بذلك المن عليكم، وفيهم أنزل الله: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ، ويقال: من الكبائر التي ختمت بنار، كل موجبة من ركبها ومات عليها لم يتب منها. وهذا كله يبين أنهم لم يكونوا كفاراً في الباطن، ولا كانوا قد دخلوا فيما يجب من الإيمان، وسورة الحجرات قد ذكرت هذه الأصناف، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4] ، ولم يصفهم بكفر ولا نفاق، لكن هؤلاء يخشى عليهم الكفر والنفاق؛ ولهذا ارتد بعضهم لأنهم لم يخالط الإيمان بشاشة قلوبهم، وقال بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية [الحجرات: 6] وهذه الآية نزلت في الوليد بن عُقْبَة، وكان قد كذب فيما أخبر.

قال المفسرون: نزلت هذه الآية في الوليد بن عقبة، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المُصْطَلِق ليقبض صدقاتهم، وقد كانت بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فسار بعض الطريق ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنهم منعوا الصدقة وأرادوا قتلي، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إليهم، فنزلت هذه الآية. وهذه القصة معروفة من وجوه كثيرة، ثم قال تعالى في تمامها: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] ، وقال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} الآية [الحجرات: 9] ، ثم نهاهم عن أن يسخر بعضهم ببعض، وعن اللَّمْزِ والتَّنَابُزِ بالألقاب وقال: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات: 11] ، وقد قيل: معناه: لا تسميه فاسقاً ولا كافراً بعد إيمانه، وهذا ضعيف، بل المراد: بئس الاسم أن تكونوا فساقا بعد إيمانكم، كما قال تعالى في الذي كذب: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} فسماه فاسقاً. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سِبَابُ المسلم فُسُوقٌ وقتاله كُفْر "، يقول: فإذا ساببتم المسلم وسخرتم منه ولمزتموه، استحققتم أن تسموا فساقاً، وقد قال في آية القَذْف: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] . يقول: فإذا أتيتم بهذه الأمور التي تستحقون بها أن تسموا فساقاً كنتم قد استحققتم اسم الفسوق بعد الإيمان، وإلا فهم في تنابزهم ما كانوا يقولون: فاسق، كافر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وبعضهم يُلَقِّب بعضاً. وقد قال طائفة من المفسرين في هذه الآية: لا تسميه بعد الإسلام بدينه قبل الإسلام، كقوله لليهودي إذا أسلم: يا يهودي، وهذا مروي عن ابن عباس وطائفة من التابعين، كالحسن، وسعيد بن جُبَيْر، وعطاء الخراساني، والقُرَظِيّ. وقال عِكْرِمَة: هو قول الرجل: يا كافر، يا منافق. وقال عبد الرحمن بن زيد: هو تسمية الرجل بالأعمال، كقوله: يا زاني، يا سارق، يا فاسق. وفي تفسير العَوْفِيّ عن ابن عباس قال: هو تعيير التائب بسيئات كان قد عملها، ومعلوم أن اسم

الكفر، واليهودية، والزاني، والسارق وغير ذلك من السيئات ليست هي اسم الفاسق، فعلم أن قوله: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ} لم يرد به تسمية المسبوب باسم الفاسق، فإن تسميته كافرًا أعظم، بل إن الساب يصير فاسقًا لقوله: " سِبَابُ المسلم فُسُوق وقتاله كُفْر " ثم قال: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] ، فجعلهم ظالمين إذا لم يتوبوا من ذلك وإن كانوا يدخلون في اسم المؤمنين، ثم ذكر النهي عن الغيبة، ثم ذكر النهي عن التفاخر بالأحساب، وقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، ثم ذكر قول الأعراب: {آمنا} . فالسورة تنهى عن هذه المعاصى والذنوب التي فيها تَعَدٍّ على الرسول وعلى المؤمنين، فالأعراب المذكورون فيها من جنس المنافقين. وأهل السباب والفسوق والمنادين من وراء الحجرات وأمثالهم، ليسوا من المنافقين؛ ولهذا قال المفسرون: إنهم الذين استنفروا عام الحديبية، وأولئك وإن كانوا من أهل الكبائر فلم يكونوا في الباطن كفاراً منافقين. قال ابن إسحاق: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم العمرة عمرة الحديبية استنفر من حول المدينة من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه خوفاً من قومه أن يعرضوا له بحرب أو بصد، فتثاقل عنه كثير منهم، فهم الذين عني الله بقوله: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} [الفتح: 11] أي: ادع الله أن يغفر لنا تخلفنا عنك {يّقٍولٍونّ بٌأّلًسٌنّتٌهٌم مَّا لّيًسّ فٌي قٍلٍوبٌهٌمً} أي: ما يبالون، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، وهذا حال الفاسق الذي لا يبالي بالذنب، والمنافقون قال فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [المنافقون: 5، 6] ، ولم يقل مثل هذا في هؤلاء الأعراب. بل الآية دليل على أنهم لو صدقوا في طلب الاستغفار نفعهم استغفار الرسول لهم ثم قال: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 16] ، فوعدهم الله بالثواب على طاعة الداعي إلى الجهاد، وتوعدهم بالتولي عن طاعته.

وهذا كخطاب أمثالهم من أهل الذنوب والكبائر، بخلاف من هو كافر في الباطن، فإنه لا يستحق الثواب بمجرد طاعة الأمر حتى يؤمن أولاً، ووعيده ليس على مجرد توليه عن الطاعة في الجهاد، فإن كفره أعظم من هذا. فهذا كله يدل على أن هؤلاء من فساق الملة، فإن الفسق يكون تارة بترك الفرائض، وتارة بفعل المحرمات، وهؤلاء لما تركوا ما فرض الله عليهم من الجهاد وحصل عندهم نوع من الريب الذي أضعف إيمانهم، لم يكونوا من الصادقين الذين وصفهم، وإن كانوا صادقين في أنهم في الباطن متدينون بدين الإسلام. وقول المفسرين: لم يكونوا مؤمنين، نفى لما نفاه الله عنهم من الإيمان كما نفاه عن الزاني، والسارق، والشارب، وعمن لا يأمن جاره بَوَائِقَه، وعمن لا يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه، وعمن لا يجيب إلى حكم الله ورسوله، وأمثال هؤلاء. وقد يحتج على ذلك بقوله: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات: 11] كما قال: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر "، فذم من استبدل اسم الفسوق بعد الإيمان؛ فدل على أن الفاسق لا يسمى مؤمناً، فدل ذلك على أن هؤلاء الأعراب من جنس أهل الكبائر لا من جنس المنافقين. وأما ما نقل من أنهم أسلموا خوف القتل والسبي، فهكذا كان إسلام غير المهاجرين والأنصار، أسلموا رغبة ورهبة، كإسلام الطلقاء من قريش بعد أن قهرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وإسلام المؤلفة قلوبهم من هؤلاء ومن أهل نَجْد وليس كل من أسلم لرغبة أو رهبة كان من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفلمن النار، بل يدخلون في الإسلام والطاعة وليس في قلوبهم تكذيب ومعاداة للرسول، ولا استنارت قلوبهم بنور الإيمان ولا استبصروا فيه، وهؤلاء قد يحسن إسلام أحدهم فيصير من المؤمنين كأكثر الطُّلَقَاء، وقد يبقى من فساق الملة، ومنهم من يصير منافقاً مرتاباً إذا قال له منكر ونكير: " ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم، فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلتهَ "

وقد تقدم قول من قال: إنهم أسلموا بغير قتال، فهؤلاء كانوا أحسن إسلاماً من غيرهم، وأن الله إنما ذمهم لكونهم منوا بالإسلام وأنزل فيهم: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وإنهم من جنس أهل الكبائر. وأيضًا، قوله: {وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] و {لما} إنما ينفي بها ما ينتظر ويكون حصوله مترقباً، كقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142] ، وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} [البقرة: 214] ، فقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} يدل على أن دخول الإيمان منتظر منهم، فإن الذي يدخل في الإسلام ابتداء لا يكون قد حصل في قلبه الإيمان، لكنه يحصل فيما بعد كما في الحديث: " كان الرجل يسلم أول النهار رَغْبَةً في الدنيا، فلا يجيء آخر النهار إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس "؛ ولهذا كان عامة الذين أسلموا رغبة ورهبة دخل الإيمان في قلوبهم بعد ذلك، وقوله: {وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} أمر لهم بأن يقولوا ذلك، والمنافق لا يؤمر بشيء، ثم قال: {وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات: 14] والمنافق لا تنفعه طاعة الله ورسوله حتى يؤمن أولاً. وهذه الآية مما احتج بها أحمد بن حنبل وغيره، على أنه يستثنى في الإيمان دون الإسلام، وأن أصحاب الكبائر يخرجون من الإيمان إلى الإسلام. قال الميموني: سألت أحمد بن حنبل عن رأيه في: أنا مؤمن إن شاء الله؟ فقال: أقول: مؤمن إن شاء اللّّه، وأقول: مسلم ولا أستثني، قال: قلت لأحمد: تفرق بين الإسلام والإيمان؟ فقال لي: نعم، فقلت له: بأي شيء تحتج؟ قال لي: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] ، وذكر أشياء. وقال الشَّالَنْجِيّ: سألت أحمد عمن قال: أنا مؤمن عند نفسي من طريق الأحكام والمواريث، ولا أعلم ما أنا عند اللّّه؟ قال: ليس بمرجئ.

وقال أبو أيوب سليمان بن داود الهاشمي: الاستثناء جائز، ومن قال: أنا مؤمن حقاً، ولم يقل: عند الله، ولم يستثن، فذلك عندي جائز وليس بمرجئ، وبه قال أبو خَيْثَمَة وابن أبي شيبة، وذكر الشالنجي أنه سأل أحمد بن حنبل عن المُصِرِّ على الكبائر يطلبها بجهده، أي: يطلب الذنب بجهده، إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصوم؛ هل يكون مصراً من كانت هذه حاله؟ قال: هو مصر مثل قوله: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " يخرج من الإيمان، ويقع في الإسلام، ومن نحو قوله: " ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن " ومن نحو قول ابن عباس في قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] ، فقلت له: ما هذا الكفر؟ قال: كفر لا ينقل عن الملة، مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه. وقال ابن أبي شيبة: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " لا يكون مستكمل الإيمان، يكون ناقصاً من إيمانه. قال الشالنجي: وسألت أحمد عن الإيمان والإسلام. فقال: الإيمان قول وعمل، والإسلام إقرار، قال: وبه قال أبو خيثمة. وقال ابن أبي شيبة: لا يكون إسلام إلا بإيمان، ولا إيمان إلا بإسلام، وإذا كان على المخاطبة فقال: قد قبلت الإيمان، فهو داخل في الإسلام، وإذا قال: قد قبلت الإسلام فهو داخل في الإيمان. وقال محمد بن نصر المروزي: وحكي غير هؤلاء أنه سأل أحمد بن حنبل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " فقال: من أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن فهو مسلم، ولا أسميه مؤمنا، ومن أتى دون ذلك، يريد دون الكبائر، أسميه مؤمناً ناقص الإيمان. قلت: أحمد بن حنبل كان يقول تارة بهذا الفرق، وتارة كان يذكر الاختلاف ويتوقف، وهو المتأخر عنه، قال أبو بكر الأثرم في [السنة] : سمعت أبا عبد الله يسأل عن الاستثناء في الإيمان: ما تقول فيه؟ فقال: أما أنا فلا أعيبه، أي من الناس من يعيبه. قال أبو عبد الله: إذا كان يقول: إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، فاستثنى مخافة واحتياطاً، ليس كما يقولون على الشك، إنما يستثنى

للعمل. قال أبو عبد الله: قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] أي: أن هذا استثناء بغير شك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في أهل القبور: " وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون " أي: لم يكن يشك في هذا، وقد استثناه وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: " وعليها نُبْعَثُ إن شاء الله ": يعني: من القبر، وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله " قال: هذا كله تقوية للاستثناء في الإيمان. قلت لأبي عبد الله: وكأنك لا ترى بأساً ألا يستثنى. فقال: إذا كان ممن يقول الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فهو أسهل عندي، ثم قال أبو عبد الله: إن قوماً تضعف قلوبهم عن الاستثناء، كالتعجب منهم، وسمعت أبا عبد اللّّه وقيل له: شَبَابَة أي شيء تقول فيه؟ فقال: شبابة كان يدعى الإرجاء، قال: وحكى عن شبابة قول أخبث من هذه الأقاويل، ما سمعت عن أحد بمثله، قال أبو عبد الله: قال شبابة: إذا قال فقد عمل بلسانه كما يقولون، فإذا قال فقد عمل بجارحته، أي: بلسانه حين تكلم به، ثم قال أبو عبد الله: هذا قول خبيث، ما سمعت أحداً يقول به ولا بلغني، قيل لأبي عبد الله: كنت كتبت عن شبابة شيئًا؟ فقال: نعم، كنت كتبت عنه قديمًا يسيراً قبل أن نعلم أنه يقول بهذا، قلت لأبي عبد الله: كتبت عنه بعد؟ قال: لا ولا حرف. قيل لأبي عبد الله: يزعمون أن سفيان كان يذهب إلى الاستثناء في الإيمان. فقال: هذا

مذهب سفيان، المعروف به الاستثناء، قلت لأبي عبد الله: من يرويه عن سفيان؟ فقال: كل من حكى عن سفيان في هذا حكاية كان يستثنى، قال: وقال وَكِيع عن سفيان: الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث؟ ولا ندري ما هم عند الله. قلت لأبي عبد اللّّه: فأنت بأي شيء تقول؟ فقال: نحن نذهب إلى الاستثناء. قلت لأبي عبد الله: فأما إذا قال: أنا مسلم فلا يستثنى؟ فقال: نعم، لا يستثنى إذا قال: أنا مسلم، قلت لأبي عبد اللّّه: أقول: هذا مسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده "، وأنا أعلم أنه لا يسلم الناس منه، فذكر حديث مَعْمَر عن الزهري، فنرى أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل، قال أبو عبد اللّّه: حدثناه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، قيل لأبي عبد الله: فنقول: الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: حديث النبي صلى الله عليه وسلم يدل على ذلك، فذكر قوله: " أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال كذا، أخرجوا من كان في قلبه مثقال كذا " فهو يدل على ذلك وذكر عند أبي عبد الله عيسى الأحمر، وقوله في الإرجاء فقال: نعم، وذلك خبيث القول، وقال أبو عبد الله: حدثنا مُؤَمَّل، حدثنا حماد بن زيد، سمعت هشاماً يقول: كان الحسن ومحمد يقولان: مسلم. ويهابان: مؤمن. قلت لأبي عبد اللّّه: رواه غير سُوَيْد؟ قال: ما علمت بذلك، وسمعت أبا عبد اللّّه يقول: الإيمان قول وعمل. قلت لأبي عبد اللّّه: فالحديث الذي يروى: " أعتقها فإنها مؤمنة " قال: ليس كل أحد يقول: إنها مؤمنة، يقولون: أعتقها. قال: ومالك سمعه من هذا الشيخ هلال بن علي لا يقول: " فإنها مؤمنة " وقد

قال بعضهم بأنها مؤمنة، فهي حين تقر بذاك فحكمها حكم المؤمنة، وهذا معناه. قلت لأبي عبد اللّّه: تفرق بين الإيمان والإسلام؟ فقال: قد اختلف الناس فيه، وكان حماد بن زيد زعموا يفرق بين الإيمان والإسلام، قيل له: من المرجئة؟ قال: الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل. قلت: فأحمد بن حنبل لم يرد قط أنه سلب جميع الإيمان فلم يبق معه منه شيء، كما تقوله الخوارج والمعتزلة، فإنه قد صرح في غير موضع بأن أهل الكبائر معهم إيمان يخرجون به من النار، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان "، وليس هذا قوله ولا قول أحد من أئمة أهل السنة، بل كلهم متفقون على أن الفُسَّاق الذين ليسوا منافقين معهم شيء من الإيمان يخرجون به من النار، هو الفارق بينهم وبين الكفار والمنافقين، لكن إذا كان معه بعض الإيمان لم يلزم أن يدخل في الاسم المطلق الممدوح، وصاحب الشرع قد نفى الاسم عن هؤلاء فقال: " لا يرني الزاني حين يزني وهو مؤمن "، وقال: " لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه " وقال: " لا يؤمن من لا يأمن جاره بَوَائِقَه " وأقسم على ذلك مرات وقال: " المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم " والمعتزلة ينفون عنه اسم الإيمان بالكلية، واسم الإسلام أيضاً ويقولون: ليس معه شيء من الإيمان والإسلام، ويقولون: ننزله منزلة بين منزلتين، فهم يقولون: إنه يخلد في النار لا يخرج منها بالشفاعة، وهذا هو الذي أنكر عليهم،

وإلا لو نفوا مطلق الاسم وأثبتوا معه شيئًا من الإيمان يخرج به من النار لم يكونوا مبتدعة، وكل أهل السنة متفقون على أنه قد سلب كمال الإيمان الواجب، فزال بعض إيمانه الواجب، لكنه من أهل الوعيد، وإنما ينازع في ذلك من يقول: الإيمان لا يتبعض من الجهمية والمرجئة، فيقولون: إنه كامل الإيمان، فالذي ينفى إطلاق الاسم يقول: الاسم المطلق مقرون بالمدح واستحقاق الثواب، كقولنا: مُتَّقٍ، وبَرٌّ، وعلى الصراط المستقيم، فإذا كان الفاسق لا تطلق عليه هذه الأسماء، فكذلك اسم الإيمان، وأما دخوله في الخطاب، فلأن المخاطب باسم الإيمان كل من معه شيء منه؛ لأنه أمر لهم، فمعاصيهم لا تسقط عنهم الأمر. وأما ما ذكره أحمد في الإسلام، فاتبع فيه الزهري حيث قال: فكانوا يرون الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، في حديث سعد بن أبي وقاص، وهذا على وجهين، فإنه قد يراد به الكلمة بتوابعها من الأعمال الظاهرة، وهذا هو الإسلام الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: " الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ". وقد يراد به الكلمة فقط من غير فعل الواجبات الظاهرة، وليس هذا هو الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام. لكن قد يقال: إسلام الأعراب كان من هذا، فيقال: الأعراب وغيرهم كانوا إذا أسلموا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ألزموا بالأعمال الظاهرة: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ولم يكن أحد يترك بمجرد الكلمة، بل كان من أظهر المعصية يعاقب عليها. وأحمد إن كان أراد في هذه الرواية أن الإسلام هو الشهادتان فقط، فكل من قالها فهو مسلم، فهذه إحدى الروايات عنه، والرواية الأخرى: لا يكون مسلماً حتى يأتي بها ويصلي، فإذا لم يصل كان كافراً. والثالثة: أنه كافر بترك الزكاة أيضاً. والرابعة: أنه يكفر بترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها دون ما إذا لم يقاتله، وعنه أنه لو قال: أنا أؤديها ولا أدفعها إلى الإمام، لم يكن للإمام أن يقتله، وكذلك عنه رواية أنه يكفر

بترك الصيام والحج، وإذا عزم أنه لا يحج أبداً. ومعلوم أنه على القول بكفر تارك المباني يمتنع أن يكون الإسلام مجرد الكلمة، بل المراد أنه إذا أتى بالكلمة دخل في الإسلام، وهذا صحيح، فإنه يشهد له بالإسلام ولا يشهد له بالإيمان الذي في القلب، ولا يستثنى في هذا الإسلام، لأنه أمر مشهور، لكن الإسلام الذي هو أداء الخمس كما أمر به يقبل الاستثناء، فالإسلام الذي لا يستثنى فيه الشهادتان باللسان فقط فإنها لا تزيد ولا تنقص فلا استثناء فيها. وقد صار الناس في مسمى الإسلام على ثلاثة أقوال: قيل: هو الإيمان، وهما اسمان لمسمى واحد. وقيل: هو الكلمة، وهذان القولان لهما وجه سنذكره، لكن التحقيق ابتداء هو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإسلام والإيمان، ففسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة، فليس لنا إذا جمعنا بين الإسلام والإيمان أن نجيب بغير ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم، وأما إذا أفرد اسم الإيمان فإنه يتضمن الإسلام، وإذا أفرد الإسلام، فقد يكون مع الإسلام مؤمناً بلا نزاع، وهذا هو الواجب، وهل يكون مسلماً ولا يقال له: مؤمن؟ قد تقدم الكلام فيه. وكذلك هل يستلزم الإسلام للإيمان؟ هذا فيه النزاع المذكور وسنبينه، والوعد الذي في القرآن بالجنة وبالنجاة من العذاب، إنما هو معلق باسم الإيمان وأما اسم الإسلام مجرداً فما علق به في القرآن دخول الجنة، لكنه فرضه وأخبر أنه دينه الذي لا يقبل من أحد سواه. وبالإسلام بعث الله جميع النبيين، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] ، وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] ، وقال نوح: {يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 71، 72] ، وقد أخبر أنه لم ينج من العذاب إلا المؤمنين فقال: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 40] ، وقال: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن

يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36] وقال نوح: {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ} [هود: 29] . وكذلك أخبر عن إبراهيم أن دينه الإسلام فقال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 130: 132] ، وقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125] ، وبمجموع هذين الوصفين علق السعادة فقال: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112] ، كما علقه بالإيمان باليوم الآخر والعمل الصالح في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62] . وهذا يدل على أن الإسلام الذي هو إخلاص الدين لله، مع الإحسان وهو العمل الصالح الذي أمر الله به، هو والإيمان المقرون بالعمل الصالح متلازمان، فإن الوعد على الوصفين وعد واحد وهو الثواب، وانتفاء العقاب، فإن انتفاء الخوف علة تقتضي انتفاء ما يخافه؛ ولهذا قال: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} لم يقل: لا يخافون، فهم لا خوف عليهم وإن كانوا يخافون الله، ونفى عنهم أن يحزنوا؛ لأن الحزن إنما يكون على ماض، فهم لا يحزنون بحال لا في القبر ولا في عَرَصَات القيامة، بخلاف الخوف فإنه قد يحصل لهم قبل دخول الجنة ولا خوف عليهم في الباطن، كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63] . وأما الإسلام المطلق المجرد، فليس في كتاب الله تعليق دخول الجنة به، كما في كتاب الله تعليق دخول الجنة بالإيمان المطلق المجرد، كقوله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ

وَرُسُلِهِ} [الحديد: 12] ، وقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] . وقد وصف الخليل ومن اتبعه بالإيمان كقوله: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26] ، ووصفه بذلك فقال: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 81: 83] ، ووصفه بأعلى طبقات الإيمان، وهو أفضل البرية بعد محمد صلى الله عليه وسلم. والخليل إنما دعا بالرزق للمؤمنين خاصة فقال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 126] ، وقال: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 128] {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} [يونس: 84] بعد قوله: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83] ، وقال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 87] ، وقد ذكرنا البشرى المطلقة للمسلمين في قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] . وقد وصف الله السحرة بالإسلام والإيمان معاً، فقالوا: {آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 121، 122] ، وقالوا: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا} [الأعراف: 126] ، وقالوا: {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 51] وقالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126] ، ووصف الله أنبياء بني إسرائيل بالإسلام في قوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ} [المائدة: 44] ، والأنبياء كلهم مؤمنون، ووصف الحواريين بالإيمان والإسلام فقال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] و {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] .

وحقيقة الفرق: أن الإسلام دين. والدين مصدر دان يدين ديناً: إذا خضع وذل، و [دين الإسلام] الذي ارتضاه الله وبعث به رسله هو الاستسلام لله وحده، فأصله في القلب هو الخضوع لله وحده بعبادته وحده دون ما سواه. فمن عبده، وعبد معه إلهاً آخر، لم يكن مسلماً، ومن لم يعبده بل استكبر عن عبادته لم يكن مسلماً، والإسلام هو الاستسلام لله، وهو الخضوع له، والعبودية له، هكذا قال أهل اللغة: أسلم الرجل إذا استسلم، فالإسلام في الأصل من باب العمل، عمل القلب والجوارح. وأما الإيمان فأصله تصديق وإقرار ومعرفة، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب، والأصل فيه التصديق، والعمل تابع له؛ فلهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بإيمان القلب وبخضوعه، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وفسر الإسلام باستسلام مخصوص، هو المباني الخمس. وهكذا في سائر كلامه صلى الله عليه وسلم يفسر الإيمان بذلك النوع ويفسر الإسلام بهذا، وذلك النوع أعلى؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الإسلام علانية، والإيمان في القلب " فإن الأعمال الظاهرة يراها الناس، وأما ما في القلب من تصديق ومعرفة وحب وخشية ورجاء فهذا باطن، لكن له لوازم قد تدل عليه، واللازم لا يدل إلا إذا كان ملزومًا؛ فلهذا كان من لوازمه ما يفعله المؤمن والمنافق، فلا يدل. . [بياض بالأصل] ففي حديث عبد الله بن عمرو وأبي هريرة جميعاً أن النبي صلىالله عليه وسلم قال: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمِنَهُ الناس على دمائهم وأموالهم "، ففسر المسلم بأمر ظاهر وهو سلامة الناس منه؛ وفسر المؤمن بأمر باطن، وهو أن يأمنوه على دمائهم وأموالهم وهذه الصفة أعلى من تلك، فإن من كان مأمونًا سلم الناس منه، وليس كل من سلموا منه يكون مأمونًا. فقد يترك أذاهم وهم لا يأمنون إليه، خوفًا أن يكون ترك أذاهم لرغبة ورهبة؛ لا لإيمان في قلبه.

وفي حديث عبيد بن عمير عن عمرو بن عَبَسَة عن النبي صلىالله عليه وسلم؛ أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما الإسلام؟ قال: " إطعام الطعام، ولينُ الكلام " قال: فما الإيمان؟ قال: " السَّمَاحَة والصبر " فإطعام الطعام عمل ظاهر يفعله الإنسان لمقاصد متعددة، وكذلك لين الكلام، وأما السماحة والصبر فخُلُقَانِ في النفس، قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17] ، وهذا أعلى من ذاك، وهو أن يكون صباراً شكوراً فيه سماحة بالرحمة للإنسان وصبر على المكاره، وهذا ضد الذي خُلِقَ هَلُوعاً إذا مسه الشر جَزُوعاً، وإذا مسه الخير منوعا، فإن ذاك ليس فيه سماحة عند النعمة، ولا صبر عند المصيبة. وتمام الحديث: فأي الإسلام أفضل؟ قال: " من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده " قال: يا رسول اللّّه، أي المؤمنين أكمل إيماناً؟ قال: " أحسنهم خُلُقاً " قال: يا رسول اللّّه، أي القتل أشرف؟ قال: " من أرِيقَ دَمُهُ، وعُقِرَ جَوَادُهُ " قال: يا رسول الله، فأي الجهاد أفضل؟ قال: " الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّّه ". قال: يا رسول الله، فأي الصدقة أفضل؟ قال: " جُهْدِ المُقِلِّ ". قال: يا رسول الله، فأي الصلاة أفضل؟ قال: " طول القُنُوت ". قال: يا رسول الله، فأي الهجرة أفضل؟ قال: " من هَجَرَ السُّوءَ ". وهذا محفوظ عن عبيد بن عمير، تارة يروى مرسلاً، وتارة يروى مسنداً، وفي رواية: أي الساعات أفضل؟ قال: " جَوْفَ الليل الغَابِر " وقوله: " أفضل الإيمان السماحة والصبر " يروى من وجه آخر عن جابر عن النبي صلىالله عليه وسلم. وهكذا في سائر الأحاديث، إنما يفسر الإسلام بالاستسلام لله بالقلب مع

الأعمال الظاهرة، كما في الحديث المعروف الذي رواه أحمد عن بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده؛ أنه قال: والله يا رسول الله، ما أتيتك حتى حلفت عدد أصابعي هذه ألا آتيك، فبالذي بعثك بالحق ما بعثك به؟ قال: " الإسلام ". قال: وما الإسلام؟ قال: " أن تسلم قلبك لله وأن توجه وجهك إلى الله، وأن تصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، أخوان نصيران، لا يقبل الله من عبد أشرك بعد إسلامه ". وفي رواية قال: " أن تقول: أسلمت وجهي لله وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وكل مسلم على مسلم مُحَرَّم " وفي لفظ تقول: " أسلمت نفسي لله، وخليت وجهي إليه ". وروى محمد بن نصر من حديث خالد بن معدان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن للإسلام صُوًى ومناراً كمنار الطريق، من ذلك أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتسلم على بني آدم إذا لقيتهم، فإن ردوا عليك، ردت عليك وعليهم الملائكة، وإن لم يردوا عليك ردت عليك الملائكة ولعنتهم إن سَكَتَّ عنهم، وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت عليهم، فمن انتقص منهن شيئًا فهو سهم في الإسلام تركه، ومن تركهن فقد نَبَذَ الإسلام وراء ظهره ". وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} [البقرة: 208] قال مجاهد وقتادة: نزلت في المسلمين يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام كلها، وهذا لا ينافي قول من قال: نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب أو فيمن لم يسلم؛ لأن هؤلاء كلهم مأمورون أيضًا بذلك، والجمهور يقولون: {فٌي السٌَلًم} أي: في الإسلام. وقالت طائفة: هو الطاعة، وكلاهما مأثور عن ابن عباس، وكلاهما حق، فإن الإسلام هو الطاعة كما تقدم أنه من باب الأعمال.

وأما قوله: {كَآفَّةً} فقد قيل: المراد ادخلوا كلكم. وقيل: المراد به ادخلوا في الإسلام جميعه، وهذا هو الصحيح، فإن الإنسان لا يؤمر بعمل غيره، وإنما يؤمر بما يقدر عليه، وقوله: {ادْخُلُوا} خطاب لهم كلهم فقوله: {كَآفَّةً} إن أريد به مجتمعين لزم أن يترك الإنسان الإسلام حتى يسلم غيره فلا يكون الإسلام مأموراً به إلا بشرط موافقة الغير له كالجمعة، وهذا لا يقوله مسلم، وإن أريد بكافة: أي: ادخلوا جميعكم، فكل أوامر القرآن كقوله: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحديد: 7] ، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النور: 56] كلها من هذا الباب، وما قيل فيها كافة، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً} [التوبة: 36] أي: قاتلوهم كلهم لا تدعوا مشركاً حتى تقاتلوه، فإنها أنزلت بعد نبذ العهود، ليس المراد: قاتلوهم مجتمعين أو جميعكم، فإن هذا لا يجب، بل يقاتلون بحسب المصلحة، والجهاد فرض على الكفاية، فإذا كانت فرائض الأعيان لم يؤكد المأمورين فيها بكافة، فكيف يؤكد بذلك في فروض الكفاية؟ ! وإنما المقصود تعميم المقاتلين. وقوله: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً} [التوبة: 36] فيه احتمالان. والمقصود أن اللّّه أمر بالدخول في جميع الإسلام كما دل عليه هذا الحديث، فكل ما كان من الإسلام وجب الدخول فيه، فإن كان واجباً على الأعيان لزمه فعله، وإن كان واجباً على الكفاية اعتقد وجوبه، وعزم عليه إذا تعين، أو أخذ بالفضل ففعله، وإن كان مستحباً اعتقد حسنه وأحب فعله، وفي حديث جرير: أن رجلاً قال: يا رسول الله، صِفْ لي الإسلام. قال: " تشهد أن لا إله إلا الله، وتُقِرُّ بما جاء من عند الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت " قال: أقررت، في قصة طويلة فيها: أنه وقع في أخَاقِيقَ جُرْذَان، وأنه قتل وكان جائعا، وملكان يَدُسَّان في شِدْقِه من ثمار الجنة، فقوله: " وتقر بما جاء من عند الله ". هو الإقرار بأن محمداً رسول الله فإنه هو الذي جاء بذلك.

وفي الحديث الذي يرويه أبو سليمان الداراني: حديث الوفد الذين قالوا: نحن المؤمنون، قال: " فما علامة إيمانكم؟ " قالوا: خمس عشرة خَصْلة: خمس أمرتنا رسلك أن نعمل بهن، وخمس أمرتنا رسلك أننؤمن بهن، وخمس تَخَلَّقْنَا بها في الجاهلية، ونحن عليها في الإسلام إلا أن تكره منها شيئًا. قال: " فما الخمس التي أمرتكم رسلي أن تعملوا بها؟ " قالوا: أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان، ونحج البيت. قال: " وما الخمس التي أمرتكم أن تؤمنوا بها؟ " قالوا: أمرتنا أن نؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، قال: " وما الخمس التي تخلقتم بها في الجاهلية، وثَبَتُّمْ عليها في الإسلام؟ " قالوا: الصبر عند البَلاء، والشكر عند الرَّخَاء والرِّضَي بِمُرِّ القضاء، والصدق في مواطن اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " علماء حكماء، كادوا من صِدْقِهم أن يكونوا أنبياء ". فقال صلىالله عليه وسلم: " وأنا أزيدكم خمسًا فتتم لكم عشرون خصلة: إن كنتم كما تقولون، فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا في شيء أنتم عنه غداً تزولون وعنه منتقلون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون، وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون، وفيه تخلدون ". فقد فرقوا بين الخمس التي يعمل بها فجعلوها الإسلام، والخمس التي يؤمن بها فجعلوها الإيمان، وجميع الأحاديث المأثورة عن النبي صلىالله عليه وسلم تدل على مثل هذا. وفي الحديث الذي رواه أحمد، من حديث أيوب، عن أبي قِلابة، عن رجل

من أهل الشام عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " أسْلِمْ تَسْلَمْ " قال: وما الإسلام؟ قال: " أن تُسْلِم قلبك لله، ويَسْلَم المسلمون من لسانك ويدك " قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: " الإيمان " قال: وما الإيمان؟ قال: " أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت " قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال: " الهجرة " قال: وما الهجرة؟ قال: " أن تهجر السوء " قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: " الجهاد " قال: وما الجهاد؟ قال: " أن تجاهد الكفار إذا لقيتهم ولا تُغَلُّ ولا تَجْبنُ " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثم عملان هما أفضل الأعمال إلا من عمل بمثلهما " قالها ثلاثاً " حجة مبرورة؛ أو عمرة " وقوله: " هما أفضل الأعمال " أي بعد الجهاد؛ لقوله: " ثم عملان "، ففي هذا الحديث جعل الإيمان خصوصاً في الإسلام، والإسلام أعم منه، كما جعل الهجرة خصوصًا في الإيمان والإيمان أعم منه، وجعل الجهاد خصوصًا من الهجرة والهجرة أعم منه. فالإسلام أن تعبد الله وحده لا شريك له مخلصًا له الدين. وهذا دين الله الذي لا يقبل من أحد دينًا غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين، ولا تكون عبادته مع إرسال الرسل إلينا إلا بما أمرت به رسله، لا بما يضاد ذلك؛ فإن ضد ذلك معصية، وقد ختم الله الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم فلا يكون مسلماً إلا من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وهذه الكلمة بها يدخل الإنسان في الإسلام. فمن قال: الإسلام الكلمة وأراد هذا، فقد صدق، ثم لابد من التزام ما أمر به الرسول من الأعمال الظاهرة، كالمباني الخمس، ومن ترك من ذلك شيئًا نقص إسلامه بقدر ما نقص من ذلك، كما في الحديث: " من انتقص منهن شيئًا فهو سَهْمٌ من الإسلام تَرَكَهُ ". وهذه الأعمال إذا عملها الإنسان مخلصاً لله تعالى فإنه يثيبه عليها، ولا يكون ذلك إلا مع إقراره بقلبه أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فيكون معه من الإيمان هذا الإقرار، وهذا الإقرار لا يستلزم أن يكون صاحبه معه من اليقين ما لا يقبل الرَّيْب، ولا أن يكون مجاهداً ولا سائر ما يتميز به المؤمن عن المسلم الذي ليس بمؤمن، وخلق كثير من المسلمين

باطناً وظاهراً معهم هذا الإسلام بلوازمه من الإيمان، ولم يصلوا إلى اليقين والجهاد، فهؤلاء يثابون على إسلامهم وإقرارهم بالرسول مجملاً، وقد لا يعرفون أنه جاء بكتاب، وقد لا يعرفون أنه جاءه ملك، ولا أنه أخبر بكذا، وإذا لم يبلغهم أن الرسول أخبر بذلك لم يكن عليهم الإقرار المفصل به، لكن لابد من الإقرار بأنه رسول الله، وأنه صادق في كل ما يخبر به عن الله. ثم الإيمان الذي يمتاز به فيه تفصيل، وفيه طمأنينة ويقين، فهذا متميز بصفته وقدره في الكمية والكيفية، فإن أولئك معهم من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وتفصيل المعاد والقدر ما لا يعرفه هؤلاء. وأيضاً، ففي قلوبهم من اليقين والثبات ولزوم التصديق لقلوبهم ما ليس مع هؤلاء، وأولئك هم المؤمنون حقاً، وكل مؤمن لابد أن يكون مسلماً، فإن الإيمان يستلزم الأعمال، وليس كل مسلم مؤمناً هذا الإيمان المطلق؛ لأن الاستسلام لله والعمل له لا يتوقف على هذا الإيمان الخاص، وهذا الفرق يجده الإنسان من نفسه ويعرفه من غيره، فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل، ولكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم إنما يحصل شيئًا فشيئًا إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون لا إلى اليقين ولا إلى الجهاد، ولو شُكِّكوا لشَكُّوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، وليسوا كفاراً ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الرَّيْبَ، ولا عندهم من قوة الحب لله ولرسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يورد عليهم شبهات توجب ريبهم، فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب، وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق. وكذلك إذا تعين عليهم الجهاد ولم يجاهدوا، كانوا من أهل الوعيد؛ ولهذا لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم عامة أهلها، فلما جاءت المحنة والابتلاء نافق من نافق. فلو مات هؤلاء قبل الامتحان لماتوا على الإسلام ودخلوا الجنة، ولم يكونوا

من المؤمنين حقاً الذين ابتلوا فظهر صدقهم، قال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1: 3] ، وقال تعالى: {مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] ، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11] ؛ ولهَذا ذم اللَّه المنافقين بأنهم دخلوا في الإيمان ثم خرجوا منه بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 1، 3] ، وقال في الآية الأخرى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} إلى قوله: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} [التوبة: 64: 66] ، فقد أمره أن يقول لهم: قد كفرتم بعد إيمانكم. وقول من يقول عن مثل هذه الآيات: إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولاً بقلوبهم، لا يصح؛ لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر، فلا يقال: قد كفرتم بعد إيمانكم، فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، وإن أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان، فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم، وهم مع خواصهم مازالوا هكذا، بل لما نافقوا وحذروا أن تنزل سورة تبين ما في قلوبهم من النفاق، وتكلموا بالاستهزاء، صاروا كافرين بعد إيمانهم، ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن

يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [التوبة: 73، 74] فهنا قال: {وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} . فهذا الإسلام قد يكون من جنس إسلام الأعراب فيكون قوله: {بعد إيمانكم} و {بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} سواء، وقد يكونون ما زالوا منافقين، فلم يكن لهم حال كان معهم فيها من الإيمان شيء، لكونهم أظهروا الكفر والردة؛ ولهذا دعاهم إلى التوبة فقال: {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا} بعد التوبة عن التوبة {يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} وهذا إنما هو لمن أظهر الكفر، فيجاهده الرسول بإقامة الحد والعقوبة؛ ولهذا ذكر هذا في سياق قوله: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} ؛ ولهذا قال في تمامها: {وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [التوبة: 47] وهؤلاء الصنف الذين كفروا بعد إسلامهم غير الذين كفروا بعد إيمانهم فإن هؤلاء حلفوا بالله ما قالوا، وقد قالوا كلمة الكفر التي كفروا بها بعد إسلامهم وهَمُّوا بما لم ينالوا، وهو يدل على أنهم سعوا في ذلك، فلم يصلوا إلى مقصودهم؛ فإنه لم يقل: هموا بما لم يفعلوا، لكن {بٌمّا لّمً يّنّالٍوا} فصدر منهم قول وفعل، قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] فاعترفوا واعتذروا؛ ولهذا قيل: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} [التوبة: 66] فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفراً، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبين أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم، ولكن لم يظنوه كفراً، وكان كفراً كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه، وهكذا قال غير واحد من السلف في صفة المنافقين، الذين ضرب لهم المثل في سورة البقرة: أنهم أبصروا ثم عموا، وعرفوا ثم أنكروا، وآمنوا ثم كفروا. وكذلك قال قتادة ومجاهد: ضرب المثل لإقبالهم على المؤمنين، وسماعهم ما جاء به الرسول، وذهاب نورهم، قال: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ

يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [البقرة: 17، 18] إلى ما كانوا عليه. وأما قول من قال: المراد بالنور: ما حصل في الدنيا من حقن دمائهم وأموالهم، فإذا ماتوا سلبوا ذلك الضوء كما سلب صاحب النار ضوءه، فلفظ الآية يدل على خلاف ذلك، فإنه قال: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} ويوم القيامة يكونون في العذاب كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} الآية [الحديد: 13، 14] ، وقد قال غير واحد من السلف: إن المنافق يعطي يوم القيامة نوراً ثم يطفأ؛ ولهذا قال تعالى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا} [التحريم: 8] . قال المفسرون: إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يطفأ، سألوا الله أن يتم لهم نورهم ويبلغهم به الجنة. قال ابن عباس: ليس أحد من المسلمين إلا يعطي نوراً يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، وأما المؤمن فيشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق، فهو يقول: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} ، وهو كما قال: فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وهو ثابت من وجوه أخر عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه مسلم من حديث جابر، وهو معروف من حديث ابن مسعود وهو أطولها ومن حديث أبي موسى في الحديث الطويل الذي يذكر فيه أنه ينادى يوم القيامة: " لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، وهذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله

في صورته التي يعرفون، فيقول أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه ". وفي رواية: " فيكشف عن ساقه ". وفي رواية فيقول: " هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها، فيقولون: نعم. فيكشف عن ساقه، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد نفاقاً ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خَرَّ على قفاه. فتبقى ظهورهم مثل صَيَاصِي البقر فيرفعون رؤوسهم فإذا نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ويطفأ نور المنافقين فيقولون: ذرونا نقتبس من نوركم ". فبين أن المنافقين يحشرون مع المؤمنين في الظاهر، كما كانوا معهم في الدنيا ثم وقت الحقيقة، هؤلاء يسجدون لربهم، وأولئك لا يتمكنون من السجود، فإنهم لم يسجدوا في الدنيا له، بل قصدوا الرياء للناس، والجزاء في الآخرة هو من جنس العمل في الدنيا، فلهذا أعطوا نوراً ثم طفئ؛ لأنهم في الدنيا دخلوا في الإيمان، ثم خرجوا منه؛ ولهذا ضرب الله لهم المثل بذلك، وهذا المثل، هو لمن كان فيهم آمن ثم كفر، وهؤلاء الذين يعطون في الآخرة نوراً ثم يطفأ. ولهذا قال: {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] إلى الإسلام في الباطن. وقال قتادة ومقاتل: لا يرجعون عن ضلالهم. وقال السدي: لا يرجعون إلى الإسلام، يعني في الباطن، وإلا فهم يظهرونه، وهذا المثل إنما يكون في الدنيا، وهذا المثل مضروب لبعضهم وهم الذين آمنوا ثم كفروا. وأما الذين لم يزالوا منافقين فضرب لهم المثل الآخر، وهو قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} [البقرة: 19] ، وهذا أصح القولين، فإن المفسرين اختلفوا: هل المثلان مضروبان لهم كلهم، أو هذا المثل لبعضهم؟ على قولين. والثاني هو الصواب؛ لأنه قال: {أَوْ كَصَيِّبٍ} وإنما يثبت بها أحد الأمرين، فدل ذلك على أنهم مثلهم هذا وهذا، فإنهم لا يخرجون عن المثلين بل بعضهم يشبه هذا وبعضهم يشبه هذا، ولو كانوا كلهم يشبهون المثلين لم يذكر [أو] بل يذكر الواو العاطفة. وقول من قال: [أو] هاهنا للتخيير كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين ليس بشيء، لأن التخيير يكون في الأمر والطلب لا يكون في الخبر،

وكذلك قول من قال: {أّوً} بمعنى الواو أو لتشكيك المخاطبين، أو الإبهام عليهم ليس بشيء، فإن الله يريد بالأمثال البيان والتفهيم، لا يريد التشكيك والإبهام. والمقصود تفهيم المؤمنين حالهم، ويدل على ذلك أنه قال في المثل الأول: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} وقال في الثاني: {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 19، 20] فبين في المثل الثاني أنهم يسمعون ويبصرون ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم، وفي الأول كانوا يبصرون ثم صاروا في ظلمات لا يبصرون، صم بكم عمي. وفي الثاني إذا أضاء لهم البرق مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، فلهم حالان: حال ضياء، وحال ظلام، والأولون بقوا في الظلمة. فالأول حال من كان في ضوء فصار في ظلمة، والثاني حال من لم يستقر لا في ضوء ولا في ظلمة، بل تختلف عليه الأحوال التي توجب مقامه واسترابته. يبين هذا أنه سبحانه ضرب للكفار أيضاً مثلين بحرف [أو] فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 39، 40] . فالأول مثل الكفر الذي يحسب صاحبه أنه على حق وهو على باطل، كمن زين له سوء عمله فرآه حسنا، فإنه لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم؛ فلهذا مثل بسراب بقيعة، والثاني مثل الكفر الذي لا يعتقد صاحبه شيئاً، بل هو في ظلمات بعضها فوق بعض، من عظم جهله لم يكن معه اعتقاد أنه على حق، بل لم يزل جاهلاً ضالاً في ظلمات متراكمة. وأيضاً، فقد يكون المنافق والكافر تارة متصفاً بهذا الوصف وتارة متصفًا بهذا الوصف، فيكون التقسيم في المثلين لتنوع الأشخاص ولتنوع أحوالهم، وبكل حال فليس ما ضرب له

هذا المثل هو مماثل لما ضرب له هذا المثل؛ لاختلاف المثلين صورة ومعنى؛ ولهذا لم يضرب للإيمان إلا مثل واحد، لأن الحق واحد فضرب مثله بالنور، وأولئك ضرب لهم المثل بضوء لا حقيقة له، كالسراب بالقيعة أو بالظلمات المتراكمة، وكذلك المنافق يضرب له المثل بمن أبصر ثم عمى، أو هو مضطرب يسمع ويبصر ما لا ينتفع به. فتبين أن من المنافقين من كان آمن ثم كفر باطناً، وهذا مما استفاض به النقل عند أهل العلم بالحديث والتفسير والسير، أنه كان رجال قد آمنوا ثم نافقوا، وكان يجري ذلك لأسباب: منها: أمر القبلة، لما حولت ارتد عن الإيمان لأجل ذلك طائفة، وكانت محنة امتحن الله بها الناس، قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} [البقرة: 143] قال: أي: إذا حولت، والمعنى: أن الكعبة هي القبلة التي كان في علمنا أن نجعلها قبلتكم؛ فإن الكعبة ومسجدها وحرمها أفضل بكثير من بيت المقدس وهي البيت العتيق، وقبلة إبراهيم وغيره من الأنبياء، ولم يأمر الله قط أحداً أن يصلي إلى بيت المقدس، لا موسى ولا عيسى ولا غيرهما؛ فلم نكن لنجعلها لك قبلة دائمة، ولكن جعلناها أولاً قبلة لنمتحن بتحويلك عنها الناس، فيتبين من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، فكان في شرعها هذه الحكمة. وكذلك أيضاً لما انهزم المسلمون يوم أحد وشُجَّ وجه النبي صلىالله عليه وسلم وكسرت رَبََِاعِيَتُهُ، ارتد طائفة نافقوا، قال تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 139: 141] ، وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 166، 167] فقوله: {وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ} ظاهر فيمن أحدث

نفاقاً وهو يتناول من لم ينافق قبل، ومن نافق ثم جدد نفاقاً ثانياً، وقوله: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} يبين أنهم لم يكونوا قبل ذلك أقرب منهم بل إما أن يتساويا، وإما أن يكونوا للإيمان أقرب، وكذلك كان، فإن ابن أبيّ لما انخزل عن النبي صلىالله عليه وسلم يوم أحد، انخزل معه ثلث الناس، قيل: كانوا نحو ثلاثمائة، وهؤلاء لم يكونوا قبل ذلك كلهم منافقين في الباطن؛ إذ لم يكن لهم داع إلى النفاق. فإن ابن أبي كان مظهراً لطاعة النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به؛ وكان كل يوم جمعة يقوم خطيباً في المسجد يأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن ما في قلبه يظهر إلا لقليل من الناس إن ظهر، وكان معظماً في قومه، كانوا قد عزموا على أن يتوجوه ويجعلوه مثل الملك عليهم، فلما جاءت النبوة بطل ذلك، فحمله الحسد على النفاق، وإلا فلم يكن له قبل ذلك دين يدعو إليه؛ وإنما كان هذا في اليهود، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بدينه وقد أظهر الله حسنه ونوره، مالت إليه القلوب لا سيما لما نصره الله يوم بدر، ونصره على يهود بني قينقاع، صار معه الدين والدنيا، فكان المقتضى للإيمان في عامة الأنصار قائماً، وكان كثير منهم يعظم ابن أبي تعظيماً كثيراً ويواليه، ولم يكن ابن أبي أظهر مخالفة توجب الامتياز، فلما انخزل يوم أحد وقال: يدع رأيي ورأيه، ويأخذ برأي الصبيان أو كما قال انخزل معه خلق كثير، منهم من لم ينافق قبل ذلك. وفي الجملة، ففي الأخبار عمن نافق بعد إيمانه ما يطول ذكره هنا، فأولئك كانوا مسلمين، وكان معهم إيمان، هو الضوء الذي ضرب الله به المثل، فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق ماتوا على هذا الإسلام الذي يثابون عليه، ولم يكونوا من المؤمنين حقاً الذين امتحنوا فثبتوا على الإيمان، ولا من المنافقين حقاً الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة، وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم، إذا ابتلوا بالمحن التي يتضعضع فيها أهل الإيمان، ينقص إيمانهم كثيراً وينافق أكثرهم أو كثير منهم. ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالباً، وقد رأينا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة. وإذا كانت العافية، أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين، وهم مؤمنون بالرسول باطناً وظاهراً لكن إيماناً لا يثبت على المحنة.

ولهذا يكثر في هؤلاء ترك الفرائض وانتهاك المحارم. وهؤلاء من الذين قالوا: {آمنا} فقيل لهم: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] أي: الإيمان المطلق، الذي أهله هم المؤمنون حقًا، فإن هذا هو الإيمان إذا أطلق في كتاب الله تعالى كما دل عليه الكتاب والسنة؛ ولهذا قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] ، فلم يحصل لهم ريب عند المحن التي تقلقل الإيمان في القلوب، والريب يكون في علم القلب وفي عمل القلب، بخلاف الشك فإنه لا يكون إلا في العلم؛ ولهذا لا يوصف باليقين إلا من اطمأن قلبه علماً وعملاً، وإلا فإذا كان عالماً بالحق، ولكن المصيبة أو الخوف أورثه جزعًا عظيماً، لم يكن صاحب يقين قال تعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 11] . وكثيراً ما تعرض للمؤمن شعبة من شعب النفاق، ثم يتوب الله عليه، وقد يرد على قلبه بعض ما يوجب النفاق، ويدفعه الله عنه. والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان، وبوساوس الكفر التي يضيق بها صدره، كما قالت الصحابة: يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لئن يَخرَّ من السماء إلى الأرض، أحب إليه من أن يتكلم به. فقال: " ذاك صريح الإيمان "، وفي رواية: ما يتعاظم أن يتكلم به. قال: " الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة " أي: حصول هذا الوسواس، مع هذه الكراهة العظيمة له، ودفعه عن القلب، هو من

صريح الإيمان، كالمجاهد الذي جاءه العدو، فدافعه حتى غلبه، فهذا أعظم الجهاد، والصريح الخالص، كاللبن الصريح. وإنما صار صريحاً، لما كرهوا تلك الوساوس الشيطانية، ودفعوها فخلص الإيمان فصار صريحاً. ولابد لعامة الخلق من هذه الوساوس، فمن الناس من يجيبها فصير كافراً أو منافقاً، ومنهم من قد غمر قلبه الشهوات والذنوب فلا يحس بها إلا إذا طلب الدين، فإما أن يصير مؤمناً وإما أن يصير منافقاً؛ ولهذا يعرض للناس من الوساوس في الصلاة ما لا يعرض لهم إذا لم يصلوا؛ لأن الشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه والتقرب إليه والاتصال به؛ فلهذا يعرض للمصلين ما لا يعرض لغيرهم، ويعرض لخاصة أهل العلم والدين أكثر مما يعرض للعامة؛ ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم؛ لأنه لم يسلك شرع الله ومنهاجه، بل هو مقبل على هواه في غفلة عن ذكر ربه، وهذا مطلوب الشيطان، بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة؛ فإنه عدوهم يطلب صدهم عن الله، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6] ؛ ولهذا أمر قارئ القرآن أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فإن قراءة القرآن على الوجه المأمور به تورث القلب الإيمان العظيم، وتزيده يقيناً وطمأنينة وشفاء، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: 82] ، وقال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138] ، وقال تعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ، وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124] . وهذا مما يجده كل مؤمن من نفسه، فالشيطان يريد بوساوسه أن يشغل القلب عن الانتفاع بالقرآن، فأمر الله القارئ، إذا قرأ القرآن، أن يستعيذ منه، قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ

هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 98: 100] ، فإن المستعيذ بالله مستجير به، لاجئ إليه، مستغيث به من الشيطان، فالعائذ بغيره مستجير به؛ فإذا عاذ العبد بربه كان مستجيراً به متوكلاً عليه فيعيذه الله من الشيطان ويجيره منه، ولذلك قال الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34: 36] . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ". فأمر سبحانه بالاستعاذة عند طلب العبد الخير؛ لئلاً يعوقه الشيطان عنه، وعندما يعرض عليه من الشر ليدفعه عنه عند إرادة العبد للحسنات، وعند ما يأمره الشيطان بالسيئات؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزال الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته "، فأمر بالاستعاذة عندما يطلب الشيطان أن يوقعه في شر أو يمنعه من خير، كما يفعل العدو مع عدوه. وكلما كان الإنسان أعظم رغبة في العلم والعبادة، وأقدر على ذلك من غيره بحيث تكون قوته على ذلك أقوى، ورغبته وإرادته في ذلك أتم، كان ما يحصل له إن سلمه الله من الشيطان أعظم، وكان ما يفتتن به إن تمكن منه الشيطان أعظم؛ ولهذا قال الشعبي: كل أمة علماؤها شرارها، إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم. وأهل السنة في الإسلام، كأهل الإسلام في الملل، وذلك أن كل أمة غير المسلمين فهم ضالون، وإنما يضلهم علماؤهم؛ فعلماؤهم شرارهم، والمسلمون على هدى، وإنما يتبين الهدى بعلمائهم، فعلماؤهم خيارهم، وكذلك أهل السنة، أئمتهم خيار الأمة، وأئمة أهل البدع أضر على الأمة من أهل الذنوب، ولهذا أمر النبي صلىالله عليه وسلم بقتل الخوارج، ونهى عن قتال الولاة

الظلمة؛ وأولئك لهمنهمة في العلم والعبادة، فصار يعرض لهم من الوساوس التي تضلهم وهم يظنونها هدي، فيطيعونها ما لا يعرض لغيرهم، ومن سلم من ذلك منهم كان من أئمة المتقين مصابيح الهدى، وينابيع العلم؛ كما قال ابن مسعود لأصحابه: كونوا ينابيع العلم، مصابيح الحكمة، سُرُج الليل، جُدَد القلوب، أحْلاس البيوت، خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء، وتخفون على أهل الأرض. فصْل ومما ينبغي أن يعلم: أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث، إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم؛ ولهذا قال الفقهاء: [الأسماء ثلاثة أنواع] نوع يعرف حده بالشرع؛ كالصلاة والزكاة. ونوع يعرف حده باللغة؛ كالشمس والقمر. ونوع يعرف حده بالعرف كلفظ القبض، ولفظ المعروف في قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ، ونحو ذلك. وروي عن ابن عباس أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادعي علمه فهو كاذب. فاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك، قد بين الرسول صلى الله عليه وسلم ما يراد بها في كلام الله ورسوله، وكذلك لفظ الخمر وغيرها، ومن هناك يعرف معناها، فلو أراد أحد أن يفسرها بغير ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه، وأما الكلام في اشتقاقها ووجه دلالتها، فذاك من جنس علم البيان. وتعليل الأحكام، هو زيادة في العلم، وبيان حكمة ألفاظ القرآن؛ لكن معرفة المراد بها لا يتوقف على هذا. واسم الإيمان والإسلام والنفاق والكفر، هي أعظم من هذا كله، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد بين المراد بهذه الألفاظ بياناً لا يحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق

وشواهد استعمال العرب ونحو ذلك؛ فلهذا يجب الرجوع في مسميات هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله، فإنه شافٍ كافٍ، بل معاني هذه الأسماء معلومة من حيث الجملة للخاصة والعامة، بل كل من تأمل ما تقوله الخوارج والمرجئة في معنى الإيمان، علم بالاضطرار أنه مخالف للرسول، ويعلم بالاضطرار أن طاعة الله ورسوله من تمام الإيمان، وأنه لم يكن يجعل كل من أذنب ذنباً كافراً، ويعلم أنه لو قدر أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك، ونقر بألسنتنا بالشهادتين، إلا أنا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه، فلا نصلي ولا نصوم ولا نحج، ولا نصدق الحديث، ولا نؤدي الأمانة، ولا نفي بالعهد، ولا نصل الرحم، ولا نفعل شيئًا من الخير الذي أمرت به، ونشرب الخمر؛ وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر، ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك، ونأخذ أموالهم، بل نقتلك أيضاً ونقاتلك مع أعدائك، هل كان يتوهم عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملو الإيمان، وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة، ويرجى لكم ألاّ يدخل أحد منكم النار، بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به، ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك. وكذلك كل مسلم يعلم أن شارب الخمر والزاني والقاذف والسارق، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يجعلهم مرتدين يجب قتلهم، بل القرآن والنقل المتواتر عنه يبين أن هؤلاء لهم عقوبات غير عقوبة المرتد عن الإسلام، كما ذكر الله في القرآن جلد القاذف والزاني، وقطع السارق، وهذا متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كانوا مرتدين لقتلهم. فكلا القولين مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم. وأهل البدع إنما دخل عليهم الداخل؛ لأنهم أعرضوا عن هذه الطريق، وصاروا يبنون دين الإسلام على مقدمات يظنون صحتها، إما في دلالة الألفاظ، وإما في المعاني المعقولة. ولا يتأملون بيان الله ورسوله، وكل مقدمات تخالف بيان الله ورسوله، فإنها تكون ضلالا؛ ولهذا تكلم أحمد في رسالته المعروفة في الرد على من يتمسك بما يظهر له من القرآن من غير استدلال ببيان الرسول

والصحابة والتابعين، وكذلك ذكر في رسالته إلى أبي عبد الرحمن الجرجاني في الرد على المرجئة، وهذه طريقة سائر أئمة المسلمين، لا يعدلون عن بيان الرسول إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ومن عدل عن سبيلهم وقع في البدع التي مضمونها أنه يقول على الله ورسوله ما لا يعلم، أو غير الحق، وهذا مما حرمه الله ورسوله، وقال تعالى في الشيطان: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 16] ، وقال تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [الأعراف: 169] وهذا من تفسير القرآن بالرأي الذي جاء فيه الحديث: " من قال في القرآن برأيه فلْيَتَبَوَّأْ مقعده من النار ". مثال ذلك أن المرجئة لما عدلوا عن معرفة كلام الله ورسوله، أخذوا يتكلمون في مسمى الإيمان والإسلام وغيرهما بطرق ابتدعوها، مثل أن يقولوا: الإيمان في اللغة: هو التصديق. والرسول إنما خاطب الناس بلغة العرب لم يغيرها، فيكون مراده بالإيمان التصديق؛ ثم قالوا: والتصديق إنما يكون بالقلب واللسان، أو بالقلب، فالأعمال ليست من الإيمان، ثم عمدتهم في أن الإيمان هو التصديق قوله: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا} [يوسف: 17] أي: بمصدِّق لنا. فيقال لهم: اسم الإيمان قد تكرر ذكره في القرآن والحديث أكثر من ذكر سائر الألفاظ، وهو أصل الدين، وبه يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويفرق بين السعداء والأشقياء، ومن يوالي ومن يعادي، والدين كله تابع لهذا، وكل مسلم محتاج إلى معرفة ذلك، أفيجوز أن يكون الرسول قد أهمل بيان هذا كله، ووكله إلى هاتين المقدمتين؟ ومعلوم أن الشاهد الذي استشهدوا به على أن

الإيمان هو التصديق أنه من القرآن. ونقل معنى الإيمان متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من تواتر لفظ الكلمة، فإن الإيمان يحتاج إلى معرفة جميع الأمة فينقلونه، بخلاف كلمة من سورة. فأكثر المؤمنين لم يكونوا يحفظون هذه السورة، فلا يجوز أن يجعل بيان أصل الدين مبنياً على مثل هذه المقدمات؛ ولهذا كثر النزاع والاضطراب بين الذين عدلوا عن صراط الله المستقيم، وسلكوا السبل، وصاروا من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، ومن الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات، فهذا كلام عام مطلق. ثم يقال: هاتان المقدمتان كلاهما ممنوعة، فمن الذي قال: إن لفظ الإيمان مرادف للفظ التصديق؟ وهب أن المعنى يصح إذا استعمل في هذا الموضع، فلم قلت: إنه يوجب الترادف؟ ولو قلت: ما أنت بمسلم لنا، ما أنت بمؤمن لنا، صح المعنى، لكن لم قلت: إن هذا هو المراد بلفظ مؤمن؟ وإذا قال الله: {أَقيمُوا الصَّلاةَ} ، ولو قال القائل: أتموا الصلاة، ولازموا الصلاة، التزموا الصلاة، افعلوا الصلاة، كان المعنى صحيحاً، لكن لا يدل هذا على معنى: أقيموا، فكون اللفظ يرادف اللفظ، يراد دلالته على ذلك. ثم يقال: ليس هو مرادفاً له، وذلك من وجوه: أحدها: أن يقال للمخبر إذا صدقته: صدقه، ولا يقال: آمنه وآمن به. بل يقال: آمن له، كما قال: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26] وقال: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} [يونس: 83] ، وقال فرعون: {آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طه: 71] ، وقالوا لنوح {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111] ، وقال تعالى: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] ، {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47] وقال: {وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} [الدخان: 21] فإن قيل: فقد يقال: ما أنت بمصدق لنا. قيل: اللام تدخل على ما يتعدى بنفسه إذا ضعف عمله، إما بتأخيره أو بكونه اسم فاعل أو مصدراً، أو باجتماعهما، فيقال: فلان يعبد الله ويخافه ويتقيه، ثم إذا ذكر باسم الفاعل

قيل: هو عابد لربه متق لربه، خائف لربه، وكذلك تقول فلان يَرْهَب الله، ثم تقول: هو راهب لربه، وإذا ذكرت الفعل وأخرته، تقويه باللام، كقوله: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154] ، وقد قال: {فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل: 51] فعداه بنفسه، وهناك ذكر اللام، فإن هنا قوله: {فَإيَّايَ} من قوله: [فلى] . وقوله هنالك: {لِرَبِّهِمْ} أتم من قوله: [ربهم] ، فإن الضمير المنفصل المنصوب، أكمل من ضمير الجر بالياء، وهناك اسم ظاهر، فتقويته باللام أولى وأتم من تجريده، ومن هذا قوله: {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] ، ويقال: عبرت رؤياه، وكذلك قوله: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء: 55] ، وإنما يقال: غظته، لا يقال: غظت له، ومثله كثير، فيقول القائل: ما أنت بمصدق لنا، أدخل فيه اللام، لكونه اسم فاعل، وإلا فإنما يقال: صدقته، لا يقال: صدقت له، ولو ذكروا الفعل، لقالوا: ما صدقتنا، وهذا بخلاف لفظ الإيمان، فإنه تعدى إلى الضمير باللام دائماً، لا يقال: آمنته قط، وإنما يقال: آمنت له، كما يقال: أقررت له. فكان تفسيره بلفظ الإقرار أقرب من تفسيره بلفظ التصديق، مع أن بينهما فرقاً. الثاني: أنه ليس مرادفاً للفظ التصديق في المعنى، فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال: كذبت. فمن قال: السماء فوقنا، قيل له: صدق، كما يقال: كذب، وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن غائب، لم يوجد في الكلام أن من أخبر عن مشاهدة، كقوله: طلعت الشمس، وغربت، أنه يقال: آمناه. كما يقال: صدقناه؛ ولهذا المحدثون والشهود ونحوهم، يقال: صدقناهم، وما يقال: آمنا لهم، فإن الإيمان مشتق من الأمن. فإنما يستعمل في خبر يؤتمن عليه المخبر؛ كالأمر الغائب الذي يؤتمن عليه المخبر؛ ولهذا لم يوجد قط في القرآن وغيره لفظ [آمن له] ، إلا في هذا النوع؛ والاثنان إذا اشتركا في معرفة الشيء، يقال: صدق أحدهما صاحبه، ولا يقال: آمن له، لأنه لم يكن غائباً عنه ائتمنه عليه؛ ولهذا قال: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26] ، {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون: 47] ، {آمَنتُمْ لَهُ} [طه: 71] ،

{يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبه: 61] ، فيصدقهم فيما أخبروا به. مما غاب عنه وهو مأمون عنده على ذلك، فاللفظ متضمن معنى التصديق ومعنى الائتمان والأمانة، كما يدل عليه الاستعمال والاشتقاق، ولهذا قالوا: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا} [يوسف: 17] أي: لا تقر بخبرنا ولا تثق به، ولا تطمئن إليه ولو كنا صادقين؛ لأنهم لم يكونوا عنده ممن يؤتمن على ذلك. فلو صدقوا لم يأمن لهم. الثالث: أن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب كلفظ التصديق، فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له: صدقت أو كذبت، ويقال: صدقناه أو كذبناه، ولا يقال لكل مخبر: آمنا له أو كذبناه، ولا يقال: أنت مؤمن له أو مكذب له، بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر. يقال: هو مؤمن أو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق لكن لا أتبعك، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك ولا أوافقك، لكان كفره أعظم، فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط، علم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً ويكون مخالفة ومعاداة وامتناعاً بلا تكذيب، فلا بد أن يكون الإيمان تصديقاً مع موافقة وموالاة وانقياد لا يكفي مجرد التصديق، فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان، كما كان الامتناع من الانقياد مع التصديق جزء مسمى الكفر، فيجب أن يكون كل مؤمن مسلماً منقاداً للأمر، وهذا هو العمل. فإن قيل: فالرسول صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان بما يؤمن به. قيل: فالرسول ذكر ما يؤمن به لم يذكر ما يؤمن له، وهو نفسه يجب أن يؤمن به ويؤمن له، فالإيمان به من حيث ثبوته غيب عنا أخبرنا به، وليس كل غيب آمنا به علينا أن نطيعه، وأما ما يجب من الإيمان له فهو الذي يوجب طاعته، والرسول يجب الإيمان به وله، فينبغي أن يعرف هذا، وأيضاً فإن طاعته طاعة لله، وطاعة الله من تمام الإيمان به

الرابع: أن من الناس من يقول: الإيمان أصله في اللغة من الأمن الذي هو ضد الخوف فآمن أي: صار داخلاً في الأمن وأنشدوا. . . وأما المقدمة الثانية، فيقال: إنه إذا فرض أنه مرادف للتصديق فقولهم: إن التصديق لا يكون إلا بالقلب أو اللسان؛ عنه جوابان: أحدهما: المنع، بل الأفعال تسمى تصديقاً، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ذلك ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ". وكذلك قال أهل اللغة وطوائف من السلف والخلف. قال الجوهري: والصدّيق مثال الفسّيق: الدائم التصديق. ويكون الذي يصدق قوله بالعمل. وقال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، وهذا مشهور عن الحسن يروى عنه من غير وجه، كما رواه عباس الدوري: حدثنا حجاج، حدثنا أبو عبيدة الناجي عن الحسن قال: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال. من قال حسناً وعمل غير صالح رد الله عليه قوله، ومن قال حسناً وعمل صالحاً رفعه العمل؛ ذلك بأن الله يقول: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] ورواه ابن بطة من الوجهين. وقوله: " ليس الإيمان بالتمني " يعني: الكلام، وقوله: [بالتحلي] يعني: أن يصير حلية ظاهرة له، فيظهره من غير حقيقة من قلبه، ومعناه: ليس هو ما يظهر من القول ولا من الحلية الظاهرة، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، فالعمل يصدق أن في القلب إيماناً وإذا لم يكن عمل، كذب أن في قلبه إيماناً؛ لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر. وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم. وقد روى محمد بن نصر المروزي بإسناده، أن عبد الملك بن مروان كتب إلى سعيد بن جبير يسأله عن هذه المسائل. فأجابه عنها: سألت عن الإيمان،

فالإيمان هو التصديق، أن يصدق العبد بالله وملائكته وما أنزل الله من كتاب، وما أرسل من رسول، وباليوم الآخر. وسألت عن التصديق، والتصديق: أن يعمل العبد بما صدق به من القرآن، وما ضعف عن شيء منه وفرط فيه عرف أنه ذنب، واستغفر الله وتاب منه ولم يصر عليه، فذلك هو التصديق. وتسأل عن الدين، فالدين هو العبادة، فإنك لن تجد رجلاً من أهل الدين ترك عبادة أهل دين، ثم لا يدخل في دين آخر إلا صار لا دين له. وتسأل عن العبادة، والعبادة هي الطاعة، ذلك أنه من أطاع الله فيما أمره به وفيما نهاه عنه، فقد آثر عبادة الله، ومن أطاع الشيطان في دينه وعمله، فقد عبد الشيطان، ألا ترى أن الله قال للذين فرطوا: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60] ، وإنما كانت عبادتهم الشيطان أنهم أطاعوه في دينهم. وقال أسد بن موسى: حدثنا الوليد بن مسلم الأوزاعي، حدثنا حسان بن عطية قال: الإيمان في كتاب الله صار إلى العمل، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية [الأنفال: 2] . ثم صيرهم إلى العمل فقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال: 3] . قال: وسمعت الأوزاعي يقول: قال تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] ، والإيمان بالله باللسان، والتصديق به العمل. وقال مَعْمَر عن الزهري: كنا نقول: الإسلام بالإقرار، والإيمان بالعمل، والإيمان قول وعمل قرينان، لا ينفع أحدهما إلا بالآخر، وما من أحد إلا يوزن قوله وعمله؛ فإن كان عمله أوزن من قوله صعد إلى الله؛ وإن كان كلامه أوزن من عمله لم يصعد إلى الله، ورواه أبو عمرو الطلمنكي بإسناده المعروف. وقال معاوية بن عمرو: عن أبي إسحاق الفَزَارِيّ، عن الأوزاعي قال: لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة.

وكان من مضى من سلفنا، لا يفرقون بين الإيمان والعمل، العمل من الإيمان والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم يجمع كما يجمع هذه الأديان اسمها ويصدقه العمل. فمن آمن بلسانه، وعرف بقلبه، وصدق بعمله، فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها. ومن قال بلسانه، ولم يعرف بقلبه، ولم يصدق بعمله كان في الآخرة من الخاسرين. وهذا معروف عن غير واحد من السلف والخلف، أنهم يجعلون العمل مصدقاً للقول، ورووا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه معاذ بن أسد: حدثنا الفضيل بن عياض، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان. فقال: " الإيمان: الإقرار والتصديق بالعمل "، ثم تلا {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] . قلت: حديث أبي ذر هذا مروي من غير وجه، فإن كان هذا اللفظ هو لفظ الرسول، فلا كلام، وإن كانوا رووه بالمعنى، دل على أنه من المعروف في لغتهم أنه يقال: صدق قوله بعمله، وكذلك قال شيخ الإسلام الهروي: الإيمان تصديق كله. وكذلك الجواب الثاني: أنه إذا كان أصله التصديق، فهو تصديقمخصوص، كما أن الصلاة دعاء مخصوص، والحج قصد مخصوص، والصيام إمساك مخصوص، وهذا التصديق له لوازم صارت لوازمه داخلة في مسماه عند الإطلاق، فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، ويبقى النزاع لفظيًا: هل الإيمان دال على العمل بالتضمن أو باللزوم؟

ومما ينبغي أن يعرف: أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي، وإلا فالقائلون بأن الإيمان قول من الفقهاء كحماد بن أبي سليمان وهو أول من قال ذلك، ومن اتبعه من أهل الكوفة وغيرهم متفقون مع جميع علماء السنة على أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد، وإن قالوا: إن إيمانهم كامل كإيمان جبريل، فهم يقولون: إن الإيمان بدون العمل المفروض، ومع فعل المحرمات، يكون صاحبه مستحقاً للذم والعقاب، كما تقوله الجماعة. ويقولون أيضًا بأن من أهل الكبائر من يدخل النار كما تقوله الجماعة، والذين ينفون عن الفاسق اسم الإيمان من أهل السنة متفقون على أنه لا يخلد في النار. فليس بين فقهاء الملة نزاع في أصحاب الذنوب إذا كانوا مقرين باطناً وظاهراً بما جاء به الرسول، وما تواتر عنه أنهم من أهل الوعيد، وأنه يدخل النار منهم من أخبر الله ورسوله بدخوله إليها، ولا يخلد منهم فيها أحد، ولا يكونون مرتدين مباحي الدماء، ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار، كالخوارج، والمعتزلة. وقول غلاة المرجئة الذين يقولون: ما نعلم أن أحداً منهم يدخل النار، بل نقف في هذا كله. وحكى عن بعض غلاة المرجئة الجزم بالنفي العام. ويقال للخوارج: الذي نفى عن السارق والزاني والشارب وغيرهم الإيمان، هو لم يجعلهم مرتدين عن الإسلام، بل عاقب هذا بالجلد وهذا بالقطع، ولم يقتل أحداً إلا الزاني المحصن، ولم يقتله قتل المرتد، فإن المرتد يقتل بالسيف بعد الاستتابة، وهذا يرجم بالحجارة بلا استتابة، فدل ذلك على أنه وإن نفي عنهم الإيمان، فليسوا عنده مرتدين عن الإسلام مع ظهور ذنوبهم، وليسوا كالمنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فأولئك لم يعاقبهم إلا على ذنب ظاهر. وبسبب الكلام في [مسألة الإيمان] تنازع الناس، هل في اللغة أسماء شرعية نقلها الشارع عن مسماها في اللغة، أو أنها باقية في الشرع على ما كانت عليه في اللغة، لكن الشارع زاد في أحكامها لا في معنى الأسماء؟ ، وهكذا قالوا في اسم الصلاة والزكاة والصيام والحج إنها باقية في كلام الشارع على معناها اللغوي

لكن زاد في أحكامها. ومقصودهم أن الإيمان هو مجرد التصديق وذلك يحصل بالقلب واللسان. وذهبت طائفة ثالثة إلى أن الشارع تصرف فيها تصرف أهل العرف. فهي بالنسبة إلى اللغة مجاز، وبالنسبة إلى عرف الشارع حقيقة. والتحقيق أن الشارع لم ينقلها ولم يغيرها، ولكن استعملها مقيدة لا مطلقة، كما يستعمل نظائرها، كقوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، فذكر حجا خاصاً، وهو حج البيت، وكذلك قوله: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} [البقرة: 158] فلم يكن لفظ الحج متناولاً لكل قصد، بل لقصد مخصوص دل عليه اللفظ نفسه من غير تغيير اللغة، والشاعر إذا قال: وأشهد من عوف حلولاً كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا كان متكلماً باللغة، وقد قيد لفظه بحج سب الزبرقان المزعفرا، ومعلوم أن ذلك الحج المخصوص دلت عليه الإضافة، فكذلك الحج المخصوص الذي أمر الله به دلت عليه الإضافة أو التعريف باللام؛ فإذا قيل: الحج فرض عليك، كانت لام العهد تبين أنه حج البيت. وكذلك [الزكاة] هي اسم لما تزكو به النفس، وزكاة النفس زيادة خيرها وذهاب شرها والإحسان إلى الناس من أعظم ما تزكو به النفس، كما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103] . وكذلك ترك الفواحش مما تزكو به، قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: 21] وأصل زكاتها بالتوحيد وإخلاص الدين لله، قال تعالى: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6، 7] وهي عند المفسرين التوحيد. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مقدار الواجب، وسماها الزكاة المفروضة، فصار لفظ الزكاة إذا عرف باللام ينصرف إليها لأجل العهد، ومن الأسماء ما يكون أهل العرف نقلوه وينسبون ذلك إلى الشارع، مثل لفظ [التيمم] ، فإن الله تعالى قال: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [المائدة: 6] ، فلفظ

التيمم استعمل في معناه المعروف في اللغة، فإنه أمر بتيمم الصعيد، ثم أمر بمسح الوجوه والأيدي منه، فصار لفظ التيمم في عرف الفقهاء يدخل فيه هذا المسح، وليس هو لغة الشارع، بل الشارع فرق بين تيمم الصعيد وبين المسح الذي يكون بعده، ولفظ الإيمان أمر به مقيداً بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وكذلك لفظ الإسلام بالاستسلام لله رب العالمين، وكذلك لفظ الكفر مقيداً، ولكن لفظ [النفاق] قد قيل: إنه لم تكن العرب تكلمت به، لكنه مأخوذ من كلامهم، فإن نفق يشبه خرج، ومنه: نفقت الدابة إذا ماتت، ومنه: نَافِقَاءُ اليِرْبُوع، والنفق في الأرض قال تعالى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ} [الأنعام: 35] ، فالمنافق هو الذي خرج من الإيمان باطناً بعد دخوله فيه ظاهراً، وقيد النفاق بأنه نفاق من الإيمان. ومن الناس من يسمى من خرج عن طاعة الملك منافقاً عليه، لكن النفاق الذي في القرآن هو النفاق على الرسول. فخطاب الله ورسوله للناس بهذه الأسماء كخطاب الناس بغيرها، وهو خطاب مقيد خاص لا مطلق يحتمل أنواعاً. وقد بين الرسول تلك الخصائص، والاسم دل عليها، فلا يقال: إنها منقولة، ولا أنه زيد في الحكم دون الاسم، بل الاسم إنما استعمل على وجه يختص بمراد الشارع، لم يستعمل مطلقاً، وهو إنما قال: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} [البقرة: 110] ، بعد أن عرَّفهم الصلاة المأمور بها، فكان التعريف منصرفاً إلى الصلاة التي يعرفونها لم يرد لفظ الصلاة وهم لا يعرفون معناه؛ ولهذا كل من قال في لفظ الصلاة: إنه عام للمعني اللغوي، أو إنه مجمل لتردده بين المعنى اللغوي والشرعي ونحو ذلك؛ فأقوالهم ضعيفة، فإن هذا اللفظ إنما ورد خبراً أو أمراً، فالخبر كقوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9، 10] وسورة [اقْرأ] من أول ما نزل من القرآن، وكان بعض الكفار إما أبو جهل أو غيره قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقال: لئن رأيته يصلي لأطأن عنقه. فلما رآه ساجداً رأى من الهول ما أوجب نكوصه على عقبيه، فإذا قيل: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى} فقد علمت تلك الصلاة الواقعة بلا إجمال في اللفظ ولا عموم.

ثم إنه لما فرضت الصلوات الخمس ليلة المعراج أقام النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات بمواقيتها صبيحة ذلك اليوم، وكان جبرائيل يؤم النبي صلى الله عليه وسلم. والمسلمون يأتمون بالنبي صلى الله عليه وسلم. فإذا قيل لهم: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} عرفوا أنها تلك الصلاة، وقيل: إنه قبل ذلك كانت له صلاتان طرفي النهار، فكانت أيضاً معروفة، فلم يخاطبوا باسم من هذه الأسماء إلا ومسماه معلوم عندهم. فلا إجمال في ذلك، ولا يتناول كل ما يسمى حجاً ودعاءً وصوماً، فإن هذا إنما يكون إذا كان اللفظ مطلقاً، وذلك لم يرد. وكذلك الإيمان والإسلام وقد كان معنى ذلك عندهم من أظهر الأمور، وإنما سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وهم يسمعون وقال: " هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم "؛ ليبين لهم كمال هذه الأسماء وحقائقها التي ينبغي أن تقصد لئلا يقتصروا على أدنى مسمياتها، وهذا كما في الحديث الصحيح أنه قال: " ليس المسكين هذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس إلحافاً ". فهم كانوا يعرفون المسكين وأنه المحتاج، وكان ذلك مشهوراً عندهم فيمن يظهر حاجته بالسؤال، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يظهر حاجته بالسؤال والناس يعطونه، تزول مسكنته بإعطاء الناس له، والسؤال له بمنزلة الحرفة، وهو وإن كان مسكيناً يستحق من الزكاة إذا لم يعط من غيرها كفايته، فهو إذا وجد من يعطيه كفايته لم يبق مسكيناً، وإنما المسكين المحتاج الذي لا يسأل ولا يعرف فيعطى. فهذا هو الذي يجب أن يقدم في العطاء، فإنه مسكين قطعاً، وذاك مسكنته تندفع بعطاء من يسأله، وكذلك قوله: [الإسلام هو الخمس] ، يريد أن هذا كله واجب داخل في الإسلام، فليس للإنسان أن يكتفي بالإقرار بالشهادتين، وكذلك الإيمان يجب أن يكون على هذا الوجه المفصل، لا يكتفي فيه بالإيمان المجمل؛ ولهذا وصف الإسلام بهذا.

وقد اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر، وأما الأعمال الأربعة فاختلفوا في تكفير تاركها، ونحن إذا قلنا: أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بالذنب، فإنما نريد به المعاصي كالزنا والشرب، وأما هذه المباني ففي تكفير تاركها نزاع مشهور. وعن أحمد في ذلك نزاع، وإحدي الروايات عنه: أنه يكفر من ترك واحدة منها، وهو اختيار أبي بكر وطائفة من أصحاب مالك كابن حبيب. وعنه رواية ثانية: لا يكفر إلا بترك الصلاة والزكاة فقط، ورواية ثالثة: لا يكفر إلا بترك الصلاة، والزكاة إذا قاتل الإمام عليها. ورابعة: لا يكفر إلا بترك الصلاة. وخامسة: لا يكفر بترك شيء منهن، وهذه أقوال معروفة للسلف. قال الحكم بن عتيبة: من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر، ومن ترك الزكاة متعمداً فقد كفر. ومن ترك الحج متعمداً فقد كفر. ومن ترك صوم رمضان متعمداً فقد كفر. وقال سعيد بن جُبَيْر: من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر بالله. ومن ترك الزكاة متعمداً فقد كفر بالله. ومن ترك صوم رمضان متعمداً فقد كفر بالله. وقال الضحاك: لا ترفع الصلاة إلا بالزكاة، وقال عبد الله بن مسعود: من أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فلا صلاة له. رواهن أسد بن موسى. وقال عبد الله بن عمرو: من شرب الخمر ممسياً أصبح مشركاً، ومن شربه مصبحاً أمسى مشركاً. فقيل لإبراهيم النَّخَعِي: كيف ذلك؟ قال: لأنه يترك الصلاة. قال أبو عبد الله الأخنس في كتابه: من شرب المسكر فقد تعرض لترك الصلاة، ومن ترك الصلاة فقد خرج من الإيمان. ومما يوضح ذلك أن جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، كان في آخر الأمر بعد فرض الحج، والحج إنما فرض سنة تسع أو عشر. وقد اتفق الناس على أنه لم يفرض قبل ست من الهجرة، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر الناس بالإيمان. ولم يبين لهم معناه إلى ذلك الوقت، بل كانوا يعرفون أصل معناه وهذه المسائل لبسطها موضع آخر.

والمقصود هنا أن من نفى عنه الرسول اسم الإيمان أو الإسلام فلابد أن يكون قد ترك بعض الواجبات فيه وإن بقى بعضها؛ ولهذا كان الصحابة والسلف يقولون: إنه يكون في العبد إيمان ونفاق، قال أبو داود السجستاني: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا وَكِيع، عن الأْعمش، عن شقيق، عن أبي المِقْدَام، عن أبي يحيى قال: سئل حذيفة عن المنافق. قال: الذي يعرف الإسلام ولا يعمل به. وقال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن حذيفة قال: القلوب أربعة: قلب أغْلَف، فذلك قلب الكافر، وقلب مُصْفَح، وذلك قلب المنافق، وقلب أجرد فيه سراج يُزْهِر، فذلك قلب المؤمن، وقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل شجرة يمدها ماء طيب، ومثل النفاق مثل قُرْحَة يمدها قَيْحٌ ودم، فأيهما غَلَب عليه غَلَب. وقد روى مرفوعاً، وهو في [المسند] مرفوعاً. وهذا الذي قاله حذيفة يدل عليه قوله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} [آل عمران: 167] ، فقد كان قبل ذلك فيهم نفاق مغلوب، فلما كان يوم أحد غلب نفاقهم فصاروا إلى الكفر أقرب. وروى عبد الله بن المبارك عن عوف بن أبي جميلة، عن عبد الله بن عمرو بن هند، عن علي بن أبي طالب قال: إن الإيمان يبدو لُمْظَةً بيضاء في القلب، فكلما ازداد العبد إيماناً ازداد القلب بياضًا، حتى إذا استكمل الإيمان ابيض القلب كله. وإن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب، فكلما ازداد العبد نفاقاً ازداد القلب سواداً، حتى إذا استكمل العبد النفاق اسود القلب، وايم الله لو شققتم عن قلب المؤمن لوجدتموه أبيض. ولو شققتم عن قلب المنافق والكافر لوجدتموه أسود. وقال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل.

رواه أحمد وغيره. وهذا كثير في كلام السلف، يبينون أن القلب قد يكون فيهإيمان ونفاق، والكتاب والسنة يدلان على ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر شعب الإيمان، وذكر شعب النفاق وقال: " من كانت فيه شعبة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها " وتلك الشعبة قد يكون معها كثير من شعب الإيمان؛ ولهذا قال: " ويخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان " فعلم أن من كان معه من الإيمان أقل القليل لم يخلد في النار، وأن من كان معه كثير من النفاق، فهو يعذب في النار على قدر ما معه من ذلك، ثم يخرج من النار. وعلى هذا فقوله للأعراب {لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] نفي حقيقة دخول الإيمان في قلوبهم، وذلك لا يمنع أن يكون معهم شعبة منه، كما نفاه عن الزاني والسارق، ومن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومن لا يأمن جاره بوائقه وغير ذلك، كما تقدم ذكره، فإن في القرآن والحديث ممن نفى عنه الإيمان لترك بعض الواجبات شيء كثير. وحينئذ فنقول: من قال من السلف: أسلمنا، أي: استسلمنا خوف السيف، وقول من قال: هو الإسلام، الجميع صحيح، فإن هذا إنما أراد الدخول في الإسلام، والإسلام الظاهر يدخل فيه المنافقون، فيدخل فيه من كان في قلبه إيمان ونفاق، وقد علم أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، بخلاف المنافق المحض الذي قلبه كله أسود، فهذا هو الذي يكون في الدرك الأسفل من النار؛ ولهذا كان الصحابة يخشون النفاق على أنفسهم، ولم يخافوا التكذيب لله ورسوله، فإن المؤمن يعلم من نفسه أنه لا يكذب الله ورسوله يقيناً، وهذا مستند من قال: أنا مؤمن حقاً، فإنه أراد بذلك ما يعلمه من نفسه من التصديق الجازم، ولكن الإيمان ليس مجرد التصديق؛ بل لابد من أعمال قلبية تستلزم أعمالاً ظاهرة كما تقدم، فحب الله ورسوله من الإيمان، وحب ما أمر الله به، وبغض ما نهى عنه، هذا من أخص الأمور بالإيمان؛ ولهذا ذكر

النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث أن: " من سَرَّتْهُ حَسَنَتُه وساءته سَيِّئَتُهُ فهو مؤمن " فهذا يحب الحسنة ويفرح بها، ويبغض السيئة ويسوؤه فعلها وإن فعلها بشهوة غالبة، وهذا الحب والبغض من خصائص الإيمان. ومعلوم أن الزاني حين يزني إنما يزني لحب نفسه لذلك الفعل، فلو قام بقلبه خشية الله التي تقهر الشهوة أو حب الله الذي يغلبها، لم يَزْنِ؛ ولهذا قال تعالى عن يوسف عليه السلام: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] فمن كان مخلصًا لله حق الإخلاص لم يزن وإنما يزني لخلوه عن ذلك، وهذا هو الإيمان الذي ينزع منه لم ينزع منه نفس التصديق؛ ولهذا قيل: هو مسلم وليس بمؤمن، فإن المسلم المستحق للثواب لابد أن يكون مصدقاً، وإلا كان منافقاً، لكن ليس كل من صدق قام بقلبه من الأحوال الإيمانية الواجبة مثل كمال محبة الله ورسوله، ومثل خشية الله والإخلاص له في الأعمال والتوكل عليه، بل يكون الرجل مصدقاً بما جاء به الرسول، وهو مع ذلك يرائى بأعماله، ويكون أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله، وقد خوطب بهذا المؤمنون في آخر الأمر في سورة براءة فقيل لهم: {إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] ومعلوم أن كثيراً من المسلمين أو أكثرهم بهذه الصفة. وقد ثبت أنه لا يكون الرجل مؤمناً حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإنما المؤمن من لم يَرْتَبْ، وجاهد بماله ونفسه في سبيل الله، فمن لم تقم بقلبه الأحوال الواجبة في الإيمان، فهو الذي نفى عنه الرسول الإيمان وإن كان معه التصديق، والتصديق من الإيمان، ولابد أن يكون مع التصديق شيء من حب الله وخشية الله وإلا فالتصديق الذي لا يكون معه شيء من ذلك ليس

إيماناً البتة، بل هو كتصديق فرعون واليهود وإبليس، وهذا هو الذي أنكره السلف على الجهمية، قال الحميدي: سمعت وكيعاً يقول: أهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل. والمرجئة يقولون: الإيمان قول. والجهمية يقولون: الإيمان المعرفة. وفي رواية أخرى عنه: وهذا كفر. قال محمد بن عمر الكُلاَّبي: سمعت وكيعاً يقول: الجهمية شر من القَدَرِيَّة، قال: وقال وكيع: المرجئة: الذين يقولون: الإقرار يجزئ عن العمل، ومن قال هذا فقد هلك، ومن قال: النية تجزئ عن العمل، فهو كفر، وهو قول جهم، وكذلك قال أحمد بن حنبل. ولهذا كان القول: إن الإيمان قول وعمل، عند أهل السنة من شعائر السنة، وحكى غير واحد الإجماع على ذلك، وقد ذكرنا عن الشافعي رضي الله عنه ما ذكره من الإجماع على ذلك قوله في [الأم] : وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون: إن الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر، وذكر ابن أبي حاتم في [مناقبه] : سمعت حَرْمَلَةَ يقول: اجتمع حفص الفرد ومصلان الأباضي عند الشافعي في دار الجَرَوِيّ فتناظرا معه في الإيمان فاحتج مصلان في الزيادة والنقصان وخالفه حفص الفرد، فحمى الشافعي وتقلد المسألة على أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، فطحن حفصًا الفرد، وقطعه. وروى أبو عمرو الطلمنكي بإسناده المعروف عن موسى بن هارون الحمال قال: أملي علينا إسحاق بن راهويه أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، لا شك أن ذلك كما وصفنا، وإنما عقلنا هذا بالروايات الصحيحة والآثار العامة المحكمة، وآحاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين، وهلم جرا على ذلك، وكذلك بعد التابعين من أهل العلم على شيء واحد لا يختلفون فيه، وكذلك في عهد الأوزاعي بالشام، وسفيان الثوري بالعراق، ومالك ابن أنس بالحجاز، ومعمر باليمن، على ما فسرنا وبينا، أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. وقال إسحاق: من ترك الصلاة متعمداً حتى ذهب وقت الظهر إلى المغرب،

والمغرب إلى نصف الليل، فإنه كافر بالله العظيم، يستتاب ثلاثة أيام، فإن لم يرجع وقال: تركها لا يكون كفراً، ضربت عنقه يعني تاركها. وقال ذلك وأما إذا صلى وقال ذلك، فهذه مسألة اجتهاد، قال: واتبعهم على ما وصفنا من بعدهم من عصرنا هذا أهل العلم، إلا من باين الجماعة واتبع الأهواء المختلفة، فأولئك قوم لا يعبأ الله بهم لما باينوا الجماعة. قال أبو عبيد القاسم بن سلام الإمام وله كتاب مصنف في الإيمان، قال: هذه تسمية من كان يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. من أهل مكة: عبيد بن عمير الليثي، عطاء بن أبي رباح، مجاهد بن جبر، ابن أبي مليكة، عمرو بن دينار، ابن أبي نجيح، عبيد الله بن عمر، عبد الله بن عمرو بن عثمان، عبد الملك بن جريح، نافع بن جبير، داود بن عبد الرحمن العطار، عبد الله بن رجاء. ومن أهل المدينة: محمد بن شهاب الزهري، ربيعة بن أبي عبد الرحمن، أبو حازم الأعرج، سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، يحيى بن سعيد الأنصاري، هشام ابن عروة بن الزبير، عبد الله بن عمر العمري، مالك بن أنس، محمد بن أبي ذئب، سليمان بن بلال، عبد العزيز بن عبد الله يعني الماجَشُون عبد العزيز بن أبي حازم. ومن أهل اليمن: طاوس اليماني، وهب بن مُنَبِّه، مَعْمَر بن راشد، عبد الرزاق بن همام. ومن أهل مصر والشام: مكحول، الأوزاعي، سعيد بن عبد العزيز، الوليد بن مسلم، يونس ابن يزيد الأَيْلِيّ، يزيد بن أبي حبيب، يزيد بن شُرَيْح، سعيد بن أبي أيوب، الليث بن سعد، عبد الله بن أبي جعفر، معاوية بن أبي صالح، حَيْوَةبن شُرَيْح، عبد الله بن وهب. ومن سكن العواصم وغيرها من الجزيرة: ميمون بن مِهْرَان، يحيى بن عبد الكريم، مَعْقِل بن عبيد الله، عبيد الله بن عمرو الرَّقِّيّ، عبد الملك بن مالك، المعافي بن عمران، محمد بن سلمة الحرَّاني، أبو إسحاق الفَزَارِي، مَخْلَد بن الحسين، علي بن بَكَّار، يوسف ابن أسباط، عطاء بن مسلم، محمد بن كثير، الهيثم بن جميل. ومن أهل كوفة: علقمة، الأسود بن يزيد، أبو وائل، وسعيد

بن جبير، الربيع بن خُثَيْم، عامرالشَّعْبِي، إبراهيم النَّخَعِيّ، الحكم بن عُتَيْبَة، طلحة بن مُصَرِّف، منصور ابن المعتمر، سلمة بن كُهَيْل، مغيرة الضَّبِّيّ، عطاء بن السائب، إسماعيل بن أبي خالد، أبو حيان، يحيى بن سعيد، سليمان بن مهران الأعمش، يزيد بن أبي زياد، سفيان بن سعيد الثوري، سفيان بن عيينة، الفضيل بن عياض، أبو المقدام، ثابت بن العجلان، ابن شُبْرُمَة، ابن أبي ليلى، زهير، شريك بن عبد الله، الحسن بن صالح، حفص بن غياث، أبو بكر بن عياش، أبو الأحوص، وكيع بن الجراح، عبد الله بن نمير، أبو أسامة، عبد الله بن إدريس، زيد بن الحباب، الحسين بن علي الجعفي، محمد بن بشر العبدي، يحيى بن آدم ومحمد ويعلى وعمرو بنو عُبَيْد. ومن أهل البصرة: الحسن بن أبي الحسن، محمد بن سيرين، قتادة بن دِعَامة، بكر ابن عبد الله المزَنيّ، أيوب السِّخْتِيَانيّ، يونس بن عبيد، عبد الله بن عون، سليمان التيمي، هشام بن حسان الدَّسْتُوَائي، شعبة بن الحجاج، حماد بن سلمة، حماد بن زيد، أبو الأشهب، يزيد بن إبراهيم، أبو عَوَانة، وُهَيْب بن خالد، عبد الوارث بن سعيد، مُعْتَمِر ابن سليمان التيمي، يحيى بن سعيد القَطَّان، عبد الرحمن بن مهدي، بشر بن المفَضَّل، يزيد بن زُرَيْع، المؤَمَّل بن إسماعيل، خالد بن الحارث، معاذ بن معاذ، أبو عبد الرحمن المقري. ومن أهل واسط: هُشَيْم بن بشير، خالد بن عبد الله، على بن عاصم، يزيد بن هارون، صالح بن عمر بن علي بن عاصم. ومن أهل المشرق: الضحاك بن مُزَاحِم، أبو جمرة، نصر بن عمران، عبد الله بن المبارك، النضر بن شُمَيل، جرير بن عبد الحميد الضَّبِّيّ. قال أبو عبيد: هؤلاء جميعاً يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وهو قول أهل السنة المعمول به عندنا. قلت: ذكر من الكوفيين من قال ذلك أكثر مما ذكر من غيرهم، لأن الإرجاء في أهل الكوفة كان أولاً فيهم أكثر، وكان أول من قاله حماد بن أبي سليمان، فاحتاج علماؤها أن يظهروا إنكار ذلك. فكثر منهم من قال ذلك؛ كما أن

التجهم وتعطيل الصفات لما كان ابتداء حدوثه من خراسان، كثر من علماء خراسان ذلك الوقت من الإنكار على الجهمية ما لم يوجد قط لمن لم تكن هذه البدعة في بلده ولا سمع بها. كما جاء في حديث: " إن لله عند كل بِدْعَة يُكَادُ بها الإسلام وأهله، من يتكلم بعلامات الإسلام؛ فاغتنموا تلك المجالس، فإن الرحمة تنزل على أهلها " أو كما قال. وإذا كان من قول السلف: إن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق، فكذلك في قولهم: إنه يكون فيه إيمان وكفر، ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] قالوا: كفروا كفراً لا ينقل عن الملة، وقد اتبعهم على ذلك أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة. قال الإمام محمد بن نصر المروزي في كتاب [الصلاة] : اختلف الناس في تفسير حديث جبرائيل هذا، فقال طائفة من أصحابنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الإيمان أن تؤمن بالله " وما ذكر معه كلام جامع مختصر له غَوْرٌ وقد وهمت المرجئة في تفسيره فتأولوه على غير تأويله قلة معرفة منهم بلسان العرب، وغور كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي قد أعطى جوامع الكلم وفواتحه، واختصر له الحديث اختصاراً. أما قوله: " الإيمان أن تؤمن بالله " فأن توحده وتصدق به بالقلب واللسان وتخضع له ولأمره بإعطاء العزم للأداء لما أمر، مجانباً للاستنكاف والاستكبار والمعاندة، فإذا فعلت ذلك لزمت محابه واجتنبت مساخطه، وأما قوله: [وملائكته] فأن تؤمن بمن سمى الله لك منهم في كتابه، وتؤمن بأن لله ملائكة سواهم، لا يعرف أسماءهم وعددهم إلا الذي خلقهم. وأما قوله: [وكتبه] فأن تؤمن بما سمى الله من كتبه في كتابه من التوراة والإنجيل والزبور خاصة، وتؤمن بأن لله سوى ذلك كتباً أنزلها على أنبيائه لا يعرف أسماءها وعددها إلا الذي أنزلها. وتؤمن بالفرقان، وإيمانك به غير إيمانك بسائر الكتب. إيمانك بغيره من الكتب إقرارُك به بالقلب واللسان، وإيمانك بالفرقان إقرارُك به واتباعك ما فيه.

وأما قوله: " ورسله " فأن تؤمن بما سمى الله في كتابه من رسله، وتؤمن بأن لله سواهم رسلاً وأنبياء لا يعلم أسماءهم إلا الذي أرسلهم، وتؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وإيمانك به غير إيمانك بسائر الرسل. إيمانك بسائر الرسل إقرارك بهم، وإيمانك بمحمد إقرارك به وتصديقك إياه دائباً على ما جاء به، فإذا اتبعت ما جاء به أديت الفرائض وأحللت الحلال وحرمت الحرام، ووقفت عند الشبهات، وسارعت في الخيرات. وأما قوله: " واليوم الآخر " فأن تؤمن بالبعث بعد الموت والحساب والميزان، والثواب والعقاب، والجنة والنار، وبكل ما وصف الله به يوم القيامة. وأما قوله: " وتؤمن بالقدر خيره وشره " فأن تؤمن بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولا تقل: لو كان كذا لم يكن كذا، ولولا كذا وكذا لم يكن كذا وكذا، قال: فهذا هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. فصْل ومما يسأل عنه: أنه إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من هذه الخمس، فلماذا قال: الإسلام هذه الخمس، وقد أجاب بعض الناس بأن هذه أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيام العبد بها يتم إسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال قيد القياده. والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقاً، الذي يجب لله عبادة محضة على الأعيان. فيجب على كل من كان قادراً عليه ليعبد الله بها مخلصاً له الدين. وهذه هي الخمس، وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب لمصالح، فلا يعم وجوبها جميع الناس، بل إما أن يكون فرضاً على الكفاية،

كالجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما يتبع ذلك من إمارة، وحكم، وفتيا، وإقراء، وتحديث، وغير ذلك. وإما أن يجب بسبب حق للآدميين يختص به من وجب له وعليه. وقد يسقط بإسقاطه، وإذا حصلت المصلحة أو الإبراء، إما بإبرائه وإما بحصول المصلحة، فحقوق العباد مثل قضاء الديون ورد الغصوب، والعَوَارِي والودائع، والإنصاف من المظالم من الدماء والأموال والأعراض، إنما هي حقوق الآدميين. وإذا أبرئوا منها سقطت. وتجب على شخص دون شخص في حال دون حال، لم تجب عبادة محضة لله على كل عبد قادر؛ ولهذا يشترك فيها المسلمون واليهود والنصارى، بخلاف الخمسة فإنها من خصائص المسلمين. وكذلك ما يجب من صلة الأرحام، وحقوق الزوجة، والأولاد والجيران والشركاء، والفقراء، وما يجب من أداء الشهادة، والفتيا، والقضاء، والإمارة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، كل ذلك يجب بأسباب عارضة على بعض الناس دون بعض لجلب منافع ودفع مضار، لو حصلت بدون فعل الإنسان لم تجب، فما كان مشتركاً فهو واجب على الكفاية، وما كان مختصاً فإنما يجب على زيد دون عمرو، لا يشترك الناس في وجوب عمل بعينه على كل أحد قادر سوى الخمس، فإن زوجة زيد وأقاربه ليست زوجة عمرو وأقاربه فليس الواجب على هذا مثل الواجب على هذا، بخلاف صوم رمضان، وحج البيت، والصلوات الخمس، والزكاة؛ فإن الزكاة وإن كانت حقاً مالياً فإنها واجبة لله، والأصناف الثمانية مصارفها؛ ولهذا وجبت فيها النية، ولم يجز أن يفعلها الغير عنه بلا إذنه، ولم تطلب من الكفار. وحقوق العباد لا يشترط لها النية، ولو أداها غيره عنه بغير إذنه برئت ذمته، ويطالب بها الكفار، وما يجب حقاً لله تعالى كالكفارات هو بسبب من العبد، وفيها شوب العقوبات، فإن الواجب لله ثلاثة أنواع: عبادة محضة كالصلوات، وعقوبات محضة كالحدود، وما يشبهها كالكفارات، وكذلك كفارات الحج، وما يجب بالنذر فإن ذلك يجب بسبب فعل من العبد، وهو واجب في ذمته. وأما الزكاة فإنها تجب حقا لله في ماله؛ ولهذا يقال:

ليس في المال حق سوى الزكاة، أي ليس فيه حق يجب بسبب المال سوى الزكاة، وإلا ففيه واجبات بغير سبب المال، كما تجب النفقات للأقارب، والزوجة، والرقيق والبهائم، ويجب حمل العاقلة، ويجب قضاء الديون، ويجب الإعطاء في النائبة، ويجب إطعام الجائع وكسوة العاري فرضاً على الكفاية، إلى غير ذلك من الواجبات المالية، لكن بسبب عارض، والمال شرط وجوبها، كالاستطاعة في الحج، فإن البدن سبب الوجوب والاستطاعة شرط، والمال في الزكاة هو السبب والوجوب معه، حتى لو لم يكن في بلده من يستحقها حملها إلى بلد أخرى، وهي حق وجب لله تعالى؛ ولهذا قال من قال من الفقهاء: إن التكليف شرط فيها، فلا تجب على الصغير والمجنون، وأما عامة الصحابة والجمهور، كمالك والشافعي وأحمد، فأوجبوها في مال الصغير والمجنون؛ لأن مالهما من جنس مال غيرهما ووليهما يقوم مقامهما، بخلاف بدنهما، فإنه إنما يتصرف بعقلهما، وعقلهما ناقص. وصار هذا كما يجب العشر في أرضهما مع أنه إنما يستحقه الثمانية، وكذلك إيجاب الكفارة في مالهما، والصلاة والصيام. إنما تسقط لعجز العقل عن الإيجاب، لا سيما إذا انضم إلى عجز البدن كالصغير. وهذا المعنى منتف في المال فإن الولي قام مقامهما في الفهم كما يقوم مقامهما في جميع ما يجب في المال، وأما بدنهما فلا يجب عليهما فيه شيء. فصْل قال محمد بن نصر: واستدلوا على أن الإيمان هو ما ذكره بالآيات التي تلوناها عند ذكر تسمية الله الصلاة وسائر الطاعات إيمانًا، واستدلوا أيضاً بما قص الله من إباء إبليس حين عصى ربه في سجدة واحدة أمر

أن يسجدها لآدم فأباها. فهل جحد إبليس ربه وهو يقول: {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: 39] ويقول: {رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر: 36] إيمانًا منه بالبعث، وإيماناً بنفاذ قدرته في إنظاره إياه إلى يوم يبعثون؟ وهل جحد أحدًا من أنبيائه أو أنكر شيئًا من سلطانه وهو يحلف بعزته؟ وهل كان كفره إلا بترك سجدة واحدة أمر بها فأباها؟ قال: واستدلوا أيضاً بما قص الله علينا من نبأ ابني آدم {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} إلى قوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 27: 30] ، قالوا: وهل جحد ربه؟ وكيف يجحده وهو يقرب القربان؟ . قالوا: قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] ، ولم يقل: إذا ذكروا بها أقروا بها فقط، وقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121] يعني: يتبعونه حق اتباعه؟ فإن قيل: فهل مع ما ذكرت من سنة ثابتة، تبين أن العمل داخل في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله؟ قيل: نعم، عامة السنن والآثار تنطق بذلك، منها حديث وفد عبد القيس، وذكر حديث شعبة وقرَّة بن خالد عن أبي جَمْرَة عن ابن عباس، كما تقدم، ولفظه: " آمركم بالإيمان بالله وحده "، ثم قال: " هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟ "، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا خمس ما غنمتم ". وذكر أحاديث كثيرة توجب دخول الأعمال في الإيمان مثل قوله في حديث. . . لما سئل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقرأ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ

وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ثم قال أبو عبد الله محمد بن نصر: اختلف أصحابنا في تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ". فقالت طائفة منهم: إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم إزالة اسم الإيمان عنه من غير أن يخرجه من الإسلام، ولا يزيل عنه اسمه، وفرقوا بين الإيمان والإسلام، وقالوا: إذا زنى فليس بمؤمن وهو مسلم، واحتجوا لتفريقهم بين الإسلام والإيمان بقوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} الآية [الحجرات: 14] فقالوا: الإيمان خاص يثبت الاسم به بالعمل مع التوحيد، والإسلام عام يثبت الاسم بالتوحيد والخروج من ملل الكفر واحتجوا بحديث سعد بن أبي وقاص، وذكره عن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً فقلت: يا رسول الله، أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلانا وهو مؤمن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أو مسلم " أعادها ثلاثاً والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أو مسلم "، ثم قال: " إني لأعطي رجالاً وأمنع آخرين وهم أحب إلى منهم، مخافة أن يُكَبُّوا على وجوههم في النار " قال الزهري: فنرى أن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل. قال محمد بن نصر: واحتجوا بإنكار عبد الله بن مسعود على من شهد لنفسه بالإيمان فقال: أنا مؤمن، من غير استثناء، وكذلك أصحابه من بعده، وجُلّ علماء الكوفة على ذلك. واحتجوا بحديث أبي هريرة: " يخرج منه الإيمان، فإن

رجع رجع إليه "، وبما أشبه ذلك من الأخبار، وبما روي عن الحسن ومحمد بن سيرين أنهما كانا يقولان: مسلم، ويهابان: مؤمن، واحتجوا بقول أبي جعفر الذي حدثناه إسحاق بن إبراهيم، أنبأنا وهب بن جرير بن حازم، حدثني أبي، عن فضيل بن بشار، عن أبي جعفر محمد ابن علي؛ أنه سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "، فقال أبو جعفر: هذا الإسلام ودور دارة واسعة، وهذا الإيمان ودور دارة صغيرة في وسط الكبيرة، فإذا زنى أو سرق خرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلا الكفر بالله، واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص "، حدثنا بذلك يحيى بن يحيى، حدثنا ابن لهيعة، عن شريح بن هانئ، عن عقبة بن عامر الجهني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أسلم الناس، وآمن عمرو بن العاص ". وذكر عن حماد بن زيد أنه كان يفرق بين الإيمان والإسلام، فجعل الإيمان خاصاً والإسلام عاماً، قال: فلنا في هؤلاء أسوة وبهم قدوة، مع ما يثبت ذلك من النظر، وذلك أن اللّّه جعل اسم المؤمن اسم ثناء وتزكية ومدحة، أوجب عليه الجنة، فقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 43، 44] ، وقال: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ

فَضْلاً كَبِيرًا} [الأحزاب: 47] ، وقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] ، وقال: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} [الحديد: 12] وقال: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} [البقرة: 257] وقال: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 9] . قال: ثم أوجب الله النار على الكبائر، فدل بذلك على أن اسم الإيمان زائل عمن أتى كبيرة. قالوا: ولم نجده أوجب الجنة باسم الإسلام، فثبت أن اسم الإسلام له ثابت على حاله، واسم الإيمان زائل عنه. فإن قيل لهم في قولهم هذا: ليس الإيمان ضد الكفر، قالوا: الكفر ضد لأصل الإيمان، لأن للإيمان أصلاً وفروعاً، فلا يثبت الكفر حتى يزول أصل الإيمان الذي هو ضد الكفر، فإن قيل لهم: فالذين زعمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم أزال عنهم اسم الإيمان، هل فيهم من الإيمان شيء؟ قالوا: نعم أصله ثابت، ولولا ذلك لكفروا، ألم تسمع إلى ابن مسعود أنكر على الذي شهد أنه مؤمن ثم قال: لكنا نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله يخبرك أنه قد آمن من جهة أنه صدق، وأنه لا يستحق اسم المؤمن إذا كان يعلم أنه مقصر، لأنه لا يستحق هذا الاسم عنده إلا من أدى ما وجب عليه وانتهى عما حرم عليه من الموجبات للنار التي هي الكبائر. قالوا: فلما أبان الله أن هذا الاسم يستحقه من قد استحق الجنة، وأن الله قد أوجب الجنة عليه، وعلمنا أنا قد آمنا وصدقنا؛ لأنه لا يخرج من التصديق إلا بالتكذيب، ولسنا بشاكين ولا مكذبين، وعلمنا أنا عاصون له مستوجبون للعذاب وهو ضد الثواب الذي حكم الله به للمؤمنين على اسم الإيمان علمنا أنا قد آمنا وأمسكنا عن الاسم الذي أثبت الله عليه الحكم في الجنة وهو من الله اسم ثناء وتزكية، وقد نهانا الله أن نزكي أنفسنا، وأمرنا بالخوف على أنفسنا، وأوجب لنا العذاب بعصياننا، فعلمنا أنا لسنا بمستحقين بأن نتسمى مؤمنين؛ إذ

أوجب الله على اسم الإيمان الثناء والتزكية والرأفة والرحمة والمغفرة والجنة، وأوجب على الكبائر النار، وهذان حكمان متضادان. فإن قيل: فكيف أمسكتم عن اسم الإيمان أن تسموا به، وأنتم تزعمون أن أصل الإيمان في قلوبكم وهو التصديق بأن الله حق، وما قاله صدق؟ قالوا: إن الله ورسوله وجماهير المسلمين سموا الأشياء بما غلب عليها من الأسماء، فسموا الزاني فاسقاً، والقاذف فاسقاً وشارب الخمر فاسقاً، ولم يسموا واحداً من هؤلاء متقياً ولا ورعاً، وقد أجمع المسلمون أن فيه أصل التقوى والورع، وذلك أنه يتقي أن يكفر أو يشرك بالله شيئا، وكذلك يتقي الله أن يترك الغسل من الجنابة أوالصلاة، ويتقي أن يأتي أمه، فهو في جميع ذلك متق، وقد أجمعالمسلمون من الموافقين والمخالفين أنهم لا يسمونه متقياً ولا ورعاً إذا كان يأتي بالفجور، فلما أجمعوا أن أصل التقي والورع ثابت فيه، وأنه قد يزيد فيه فرعاً بعد الأصل كتورعه عن إتيان المحارم، ثم لا يسمونه متقياً ولا ورعاً مع إتيانه بعض الكبائر، بل سموه فاسقاً وفاجراً مع علمهم أنه قد أتى ببعض التقى والورع، فمنعهم من ذلك أن اسم التقي اسم ثناء وتزكية، وأن الله قد أوجب عليه المغفرة والجنة. قالوا: فلذلك لا نسميه مؤمناً ونسميه فاسقاً زانياً، وإن كان في قلبه أصل اسم الإيمان؛ لأن الإيمان اسم أثنى الله به على المؤمنين وزكاهم به وأوجب عليه الجنة، فمن ثم قلنا: مسلم، ولم نقل: مؤمن، قالوا: ولو كان أحد من المسلمين الموحدين يستحق ألا يكون في قلبه إيمان ولا إسلام، لكان أحق الناس بذلك أهل النار الذين دخلوها، فلما وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن الله يقول: " أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان "، ثبت أن شر المسلمين في قلبه إيمان، ولما وجدنا الأمة تحكم عليه بالأحكام التي ألزمها الله للمسلمين ولا يكفرونهم، ولا يشهدون لهم بالجنة، ثبت أنهم مسلمون؛ إذ أجمعوا أن يمضوا عليهم أحكام المسلمين، وأنهم لا يستحقون أن يسموا مؤمنين؛ إذ كان الإسلام

يثبت للملة التي يخرج بها الإنسان من جميع الملل، فتزول عنه أسماء الملل إلا اسم الإسلام، وتثبت أحكام الإسلام عليه، وتزول عنه أحكام جميع الملل. فإن قال لهم قائل: لِمَ لَمْ تقولوا: كافر إن شاء الله، تريدون به كمال الكفر، كما قلتم: مؤمنون إن شاء الله تريدون به كمال الإيمان؟ قالوا: لأن الكافر منكر للحق، والمؤمن أصل إيمانه الإقرار، والإنكار لا أول له ولا آخر فتنتظر به الحقائق، والإيمان أصله التصديق، والإقرار ينتظر به حقائق الأداء لما أقر، والتحقيق لما صدق، ومثل ذلك كمثل رجلين عليهما حق لرجل، فسأل أحدهما حقه، فقال: ليس لك عندي حق، فأنكر وجحد فلم يبق له منزلة يحقق بها ما قال إذا جحد وأنكر، وسأل الآخر حقه فقال: نعم لك علي كذا وكذا، فليس إقراره بالذي يصل إليه بذلك حقه دون أن يوفيه، فهو منتظر له أن يحقق ما قال بالأداء ويصدق إقراره بالوفاء، ولو أقر ثم لم يؤد إليه حقه كان كمن جحده في المعنى إذ استويا في الترك للأداء، فتحقيق ما قال أن يؤدي إليه حقه، فإن أدى جزءاً منه حقق بعض ما قال ووفى ببعض ما أقر به. وكلما أدى جزءًا ازداد تحقيقاً لما أقر به، وعلى المؤمن الأداء أبداً بما أقر به حتى يموت. فمن ثم قلنا: مؤمن إن شاء الله، ولم نقل: كافر إن شاء اللّّه. قال محمد بن نصر: وقالت طائفة أخرى من أصحاب الحديث بمثل مقالة هؤلاء، إلا أنهم سموه مسلماً لخروجه من ملل الكفر ولإقراره بالله وبما قال، ولم يسموه مؤمناً، وزعموا أنهم مع تسميتهم إياه بالإسلام كافر، لا كافر بالله، ولكن كافر من طريق العمل، وقالوا: كفر لا ينقل عن الملة، وقالوا: محال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " والكفر ضد الإيمان، فلا يزول عنه اسم الإيمان إلا واسم الكفر لازم له؛ لأن الكفر ضد الإيمان، إلا أن الكفر كفران: كفر هو جحد بالله وبما قال فذاك ضده الإقرار بالله والتصديق به وبما قال، وكفر هو عمل فهو ضد الإيمان الذي هو عمل، ألا ترى إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه ". قالوا: فإذا لم يؤمن فقد كفر، ولا يجوز غير ذلك إلا أنه كفر من جهة العمل؛ إذ لم يؤمن من جهة

العمل؛ لأنه لا يضيع ما فرض عليه ويرتكب الكبائر إلا من قلة خوفه، وإنما يقل خوفه من قلة تعظيمه لله ووعيده، فقد ترك من الإيمان التعظيم الذي صدر عنه الخوف والورع، فأقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يؤمن إذا لم يأمن جاره بوائقه. ثم قد روى جماعة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر "، وأنه قال: " إذا قال المسلم لأخيه: يا كافر، فلم يكن كذلك باء بالكفر ". فقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم بقتاله أخاه كافراً، وبقوله له: يا كافر، كافراً، وهذه الكلمة دون الزنا، والسرقة، وشرب الخمر. قالوا: فأما قول من احتج علينا فزعم أنا إذا سميناه كافراً لزمنا أن يحكم عليه بحكم الكافرين بالله، فنستتيبه ونبطل الحدود عنه؛ لأنه إذا كفر فقد زالت عنه أحكام المؤمنين وحدودهم، وفي ذلك إسقاط الحدود وأحكام المؤمنين على كل من أتى كبيرة، فإنا لم نذهب في ذلك إلى حيث ذهبوا ولكنا نقول: للإيمان أصل وفرع، وضد الإيمان الكفر في كل معنى، فأصل الإيمان الإقرار والتصديق، وفرعه إكمال العمل بالقلب والبدن، فضد الإقرار والتصديق الذي هو أصل الإيمان: الكفر بالله وبما قال، وترك التصديق به وله، وضد الإيمان الذي هو عمل، وليس هو إقرار، كفر ليس بكفر بالله ينقل عن الملة، ولكن كفر تضييع العمل، كما كان العمل إيماناً، وليس هو الإيمان الذي هو إقرار بالله، فلما كان من ترك الإيمان الذي هو إقرار بالله كافراً، يستتاب، ومن ترك الإيمان الذي هو عمل مثل الزكاة والحج والصوم، أو ترك الورع عن شرب الخمر والزنا، قد زال عنه بعض الإيمان، ولا يجب أن يستتاب عندنا ولا عند من خالفنا من أهل السنة وأهل البدع ممن قال: إن الإيمان تصديق وعمل، إلا الخوارج وحدها، فكذلك لا يجب بقولنا: كافر من جهة تضييع العمل أن يستتاب، ولا تزول عنه الحدود، كما لم يكن

بزوال الإيمان الذي هو عمل استتابة، ولا إزالة الحدود والأحكام عنه؛ إذ لم يزل أصل الإيمان عنه فكذلك لا يجب علينا استتابته وإزالة الحدود والأحكام عنه بإثباتنا له اسم الكفر من قبل العمل؛ إذ لم يأت بأصل الكفر الذي هو جحد بالله أو بما قال. قالوا: ولما كان العلم بالله إيماناً، والجهل به كفراً، وكان العمل بالفرائض إيماناً، والجهل بها قبل نزولها ليس بكفر؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقروا بالله أول ما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم إليهم، ولم يعلموا الفرائض التي افترضت عليهم بعد ذلك، فلم يكن جهلهم بذلك كفراً، ثم أنزل الله عليهم الفرائض، فكان إقرارهم بها والقيام بها إيماناً، وإنما يكفر من جحدها لتكذيبه خبر الله، ولو لم يأت خبر من الله، ما كان بجهلها كافراً، وبعد مجيء الخبر، من لم يسمع بالخبر من المسلمين، لم يكن بجهلها كافراً، والجهل بالله في كل حال كفر قبل الخبر وبعد الخبر. قالوا: فمن ثم قلنا: إن ترك التصديق بالله كفر، وإن ترك الفرائض مع تصديق الله أنه قد أوجبها كفر، ليس بكفر بالله، إنما هو كفر من جهة ترك الحق كما يقول القائل: كفرتني حقي ونعمتي، يريد: ضيعت حقي وضيعت شكر نعمتي، قالوا: ولنا في هذا قدوة بمن روى عنهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين؛ إذ جعلوا للكفر فروعاً دون أصله، لا ينقل صاحبه عن ملة الإسلام، كما أثبتوا للإيمان من جهة العمل فروعاً للأصل لا ينقل تركه عن ملة الإسلام، من ذلك قول ابن عباس في قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] قال محمد بن نصر: حدثنا ابن يحيى، حدثنا سفيان بن عيينة، عن هشام يعني ابن عروة عن حجير، عن طاوس، عن ابن عباس: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ليس بالكفر الذي يذهبون إليه.

حدثنا محمد بن يحيى ومحمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قول: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: هي به كفر، قال ابن طاوس: وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله. حدثنا إسحاق، أنبأنا وكيع عن سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عنأبيه، عن ابن عباس قال: هو به كفر، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبه أنبأنا وكيع، عن سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: قلت لابن عباس: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ} فهو كافر. قال: هو به كفر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله. حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عبد الرزاق، عن سفيان، عن رجل، عن طاوس، عن ابن عباس قال: كفر لا ينقل عن الملة. حدثنا إسحاق، أنبأنا وكيع، عن سفيان، عن سعيد المكي، عن طاوس قال: ليس بكفر ينقل عن الملة. حدثنا إسحاق، أنبأنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. قال محمد بن نصر: قالوا: وقد صدق عطاء، قد يسمي الكافر ظالماً ويسمى العاصي من المسلمين ظالماً، فظلم ينقل عن ملة الإسلام، وظلم لا ينقل قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ٍ} [الأنعام: 82] ، وقال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ، وذكر حديث ابن مسعود المتفق عليه قال: لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} ، شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،

وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس بذلك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} إنما هو الشرك ". حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا الحجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، أن عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه، فدخل ذات يوم فقرأ، فأتى على هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} إلى آخر الآية، فانتعل وأخذ رداءه، ثم أتى إلى أبي بن كعب فقال: يا أبا المنذر، أتيت قبل على هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} وقد نرى أنا نظلم ونفعل. فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا ليس بذلك، يقول الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} إنما ذلك الشرك. قال محمد بن نصر: وكذلك الفسق فسقان: فسق ينقل عن الملة، وفسق لا ينقل عن الملة، فيسمى الكافر فاسقًا، والفاسق من المسلمين فاسقا، ذكر الله إبليس فقال: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] ، وكان ذلك الفسق منه كفراً، وقال الله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} يريد الكفار، دل على ذلك قوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20] ، وسمى الفاسق من المسلمين فاسقاً ولم يخرجه من الإسلام، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ، وقال تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] فقالت العلماء في تفسير الفسوق هاهنا: هي المعاصي. قالوا: فلما كان الظلم ظلمين والفسق فسقين، كذلك الكفر كفران: أحدهما ينقل عن الملة، والآخر لا ينقل عن الملة، وكذلك الشرك [شركان] : شرك في التوحيد ينقل عن الملة، وشرك في العمل لا ينقل عن الملة وهو الرياء، قال

تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] يريد بذلك المراءاة بالأعمال الصالحة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الطيرة شرك ". قال محمد بن نصر: فهذان مذهبان هما في الجملة، محكيان عن أحمد بن حنبل في موافقيه من أصحاب الحديث، حكى الشالنجي إسماعيل بن سعيد: أنه سأل أحمد بن حنبل عن المصر على الكبائر يطلبها بجهده، إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصيام، هل يكون مصراً من كانت هذه حاله؟ قال: هو مصر، مثل قوله: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " يخرج من الإيمان ويقع في الإسلام، ومن نحو قوله: " لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن "، ومن نحو قول ابن عباس في قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] ، فقلت له: ما هذا الكفر؟ فقال: كفر لا ينقل عن الملة، مثل الإيمان بعضه دون بعض، وكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه. وقال ابن أبي شيبة: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ": لا يكون مستكمل الإيمان، يكون ناقصاً من إيمانه، قال: وسألت أحمد ابن حنبل عن الإسلام والإيمان، فقال: الإيمان قول وعمل، والإسلام إقرار، قال: وبه قال أبو خيثمة، وقال ابن أبي شيبة: لا يكون الإسلام إلا بإيمان، ولا إيمان إلا بإسلام. قلت: وقد تقدم تمام الكلام بتلازمهما وإن كان مسمى أحدهما ليس هو مسمى الآخر، وقد حكي غير واحد إجماع أهل السنة والحديث على أن الإيمان قول وعمل. قال أبو عمر ابن عبد البر في [التمهيد] : أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان إلا ما ذكر عن أبي حنيفة وأصحابه،

فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعة لا تسمى إيماناً، قالوا: إنما الإيمان التصديق والإقرار، ومنهم من زاد المعرفة وذكر ما احتجوا به. . . إلى أن قال: وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر منهم مالك بن أنس، والليث بن سعد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وداود بن علي، والطبري، ومن سلك سبيلهم، فقالوا: الإيمان قول وعمل، قول باللسان وهو الإقرار، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، مع الإخلاص بالنية الصادقة. قالوا: وكل ما يطاع الله عز وجل به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان، والإيمان يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي، وأهل الذنوب عندهم مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم، وإنما صاروا ناقصي الإيمان بارتكابهم الكبائر. ألا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " الحديث، يريد: مستكمل الإيمان، ولم يرد به نفي جميع الإيمان عن فاعل ذلك، بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر، إذا صلوا إلى القبلة وانتحلوا دعوة الإسلام، من قراباتهم المؤمنين الذين ليسوا بتلك الأحوال، واحتج على ذلك، ثم قال: وأكثر أصحاب مالك على أن الإيمان والإسلام شيء واحد. قال: وأما قول المعتزلة، فالإيمان عندهم جماع الطاعات، ومن قصر منها عن شيء فهو فاسق، لا مؤمن ولا كافر، وهؤلاء هم المتحققون بالاعتزال أصحاب المنزلة بين المنزلتين. . . . إلى أن قال: وعلى أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وعليه جماعة أهل الآثار، والفقهاء من أهل الفتيا في الأمصار. وروى ابن القاسم عن مالك: أن الإيمان يزيد وتوقف في نقصانه. وروي عنه عبد الرزاق، ومعن بن عيسى، وابن نافع: أنه يزيد وينقص، وعلى هذا مذهب الجماعة من أهل الحديث، والحمد لله. ثم ذكر حجج المرجئة، ثم حجج أهل السنة، ورد على الخوارج التكفير بالحدود المذكورة للعصاة في الزنا والسرقة، ونحو ذلك، وبالموارثة وبحديث

عبادة: " من أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة "، وقال: الإيمان مراتب بعضها فوق بعض، فليس ناقص الإيمان ككامل الإيمان. قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] ، أي حقاً. ولذلك قال: {هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 4] وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " المؤمن من أمنه الناس، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " يعني: حقاً ومن هذا قوله: " أكمل المؤمنين إيماناً ". ومعلوم أن هذا لا يكون أكمل حتى يكون غيره أنقص. وقوله: " أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله "، وقوله: " لا إيمان لمن لا أمانة له " يدل على أن بعض الإيمان أوثق وأكمل من بعض، وذكر الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: " من أحب لله وأبغض لله " الحديث. وكذلك ذكر أبو عمرو الطلمنكي إجماع أهل السنة على أن الإيمان قول وعمل ونية وإصابة السنة. وقال أبو طالب المكي: مباني الإسلام الخمسة؛ يعني: الشهادتين، والصلوات الخمس، والزكاة، وصيام شهر رمضان، والحج. قال: وأركان الإيمان سبعة؛ يعني الخمسة المذكورة في حديث جبرائيل، والإيمان بالقدر، والإيمان بالجنة والنار، وكلاهما قد رويت في حديث جبريل، كما سنذكر إن شاء الله تعالى. قال: والإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته، والإيمان بكتب الله وأنبيائه، والإيمان بالملائكة والشياطين، يعني والله أعلم: الإيمان بالفرق بينهما، فإن من الناس من يجعلهما جنساً واحداً، لكن تختلف باختلاف الأعمال، كما

يختلف الإنسان البر والفاجر، والإيمان بالجنة والنار، وأنهما قد خلقتا قبل آدم. والإيمان بالبعث بعد الموت، والإيمان بجميع أقدار الله خيرها وشرها وحلوها ومرها، أنها من الله قضاء وقدراً ومشيئة وحكما، وأن ذلك عدل منه وحكمة بالغة، استأثر بعلم غيبها ومعنى حقائقها. قال: وقد قال قائلون: إن الإيمان هو الإسلام، وهذا قد أذهب التفاوت والمقامات، وهذا يقرب من مذهب المرجئة. وقال آخرون: إنالإسلام غير الإيمان، وهؤلاء قد أدخلوا التضاد والتغاير، وهذا قريب من قول الأباضية، فهذه مسألة مشكلة تحتاج إلى شرح وتفصيل، فمثل الإسلام من الإيمان، كمثل الشهادتين أحدهما من الأخرى في المعنى والحكم، فشهادة الرسول غير شهادة الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان، وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كشيء واحد، كذلك الإيمان والإسلام أحدهما مرتبط بالآخر، فهما كشيء واحد، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، إذ لا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه، ولا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه، من حيث اشترط الله للأعمال الصالحة الإيمان، واشترط للإيمان الأعمال الصالحة، فقال في تحقيق ذلك: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94] ، وقال في تحقيق الإيمان بالعمل: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه: 75] ، فمن كان ظاهره أعمال الإسلام ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب فهو منافق نفاقاً ينقل عن الملة، ومن كان عقده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام، فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد، ومن كان مؤمناً بالغيب مما أخبرت به الرسل عن الله عاملاً بما أمر الله، فهو مؤمن مسلم، ولولا أنه كذلك لكان المؤمن يجوز ألاّ يسمى مسلما، ولجاز أن المسلم لا يسمى مؤمناً بالله. وقد أجمع أهل القبلة على أن كل مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن بالله وملائكته وكتبه، قال: ومثل الإيمان في الأعمال كمثل القلب في الجسم لا ينفك أحدهما عن الآخر، لا يكون ذو جسم حي لا قلب له، ولا ذو قلب بغير جسم، فهما شيئان منفردان، وهما في الحكم والمعنى منفصلان، ومثلهما أيضًا

مثل حبة لها ظاهر وباطن وهي واحدة، لا يقال: حبتان لتفاوت صفتهما. فكذلك أعمال الإسلام من الإسلام هو ظاهر الإيمان، وهو من أعمال الجوارح، والإيمان باطن الإسلام وهو من أعمال القلوب. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الإسلام علانية، والإيمان في القلب " وفي لفظ: " الإيمان سر " فالإسلام أعمال الإيمان، والإيمان عقود الإسلام، فلا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بعقد. ومثل ذلك مثل العمل الظاهر والباطن، أحدهما مرتبط بصاحبه من أعمال القلوب وعمل الجوارح، ومثله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات " أي: لا عمل إلا بعقد وقصد؛ لأن [إنما] تحقيق للشيء ونفي لما سواه، فأثبت بذلك عمل الجوارح من المعاملات، وعمل القلوب من النيات، فمثل العمل من الإيمان كمثل الشفتين من اللسان لا يصح الكلام إلا بهما؛ لأن الشفتين تجمع الحروف، واللسان يظهر الكلام، وفي سقوط أحدهما بطلان الكلام، وكذلك في سقوط العمل ذهاب الإيمان؛ ولذلك حين عدد الله نعمه على الإنسان بالكلام ذكر الشفتين مع اللسان في قوله: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد: 8، 9] بمعنى: ألم نجعله ناظراً متكلما، فعبر عن الكلام باللسان والشفتين لأنهما مكان له وذكر الشفتين؛ لأن الكلام الذي جرت به النعمة لا يتم إلا بهما. ومثل الإيمان والإسلام أيضاً كفسطاط قائم في الأرض له ظاهر وأطناب، وله عمود في باطنه، فالفسطاط مثل الإسلام له أركان من أعمال العلانية والجوارح، وهي الأطناب التي تمسك أرجاء الفسطاط، والعمود الذي في وسط الفسطاط مثله كالإيمان لا قوام للفسطاط إلا به. فقد احتاج الفسطاط إليها، إذ لا قوام له ولا قوة إلا بهما، كذلك الإسلام في أعمال الجوارح لا قوام له إلا بالإيمان، والإيمان من أعمال القلوب لا نفع له إلا بالإسلام، وهو صالح الأعمال.

وأيضاً، فإن الله قد جعل ضد الإسلام والإيمان واحداً، فلولا أنهما كشيء واحد في الحكم والمعني ما كان ضدهما واحداً فقال: {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 86] ، وقال: {أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 80] فجعلَ ضدهما الكفر. قال: وعلى مثل هذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، والإسلام من صنف واحد، فقال في حديث ابن عمر: " بني الإسلام على خمس "، وقال في حديث ابن عباس عن وفد عبد القيس أنهم سألوه عن الإيمان فذكر هذه الأوصاف، فدل بذلك على أنه لا إيمان باطن إلا بإسلام ظاهر، ولا إسلام ظاهر علانية إلا بإيمان سر، وأن الإيمان والعمل قرينان، لا ينفع أحدهما بدون صاحبه. قال: فأما تفرقة النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل بين الإيمان والإسلام، فإن ذلك تفصيل أعمال القلوب وعقودها على ما توجب هذه المعاني، التي وصفناها أن تكون عقوداً من تفصيل أعمال الجوارح، مما يوجب الأفعال الظاهرة التي وصفها أن تكون علانية، لا أن ذلك يفرق بين الإسلام والإيمان في المعنى باختلاف وتضاد، ليس فيه دليل أنهما مختلفان في الحكم، قال: ويجتمعان في عبد واحد مسلم مؤمن، فيكون ما ذكره من عقود القلب وصف قلبه، وما ذكره من العلانية وصف جسمه. قال: وأيضاً، فإن الأمة مجتمعة أن العبد لو آمن بجميع ما ذكره من عقود القلب في حديث جبريل من وصف الإيمان ولم يعمل بما ذكره من وصف الإسلام أنه لا يسمى مؤمناً، وأنه إن عمل بجميع ما وصف به الإسلام ثم لم يعتقد ما وصفه من الإيمان أنه لا يكون مسلماً، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة. قلت: كأنه أراد بذلك إجماع الصحابة ومن اتبعهم، أو أنه لا يسمى مؤمناً في الأحكام، وأنه لا يكون مسلماً إذا أنكر بعض هذه الأركان، أو علم أن الرسول أخبر بها ولم يصدقه، أو أنه لم ير خلاف أهل الأهواء خلافاً، وإلا فأبو طالب كان عارفا بأقوالهم، وهذا والله أعلم مراده، فإنه عقد الفصل الثالث

والثلاثين] في بيان تفصيل الإسلام والإيمان، وشرح عقود معاملة القلب من مذهب أهل الجماعة، وهذا الذي قاله أجود مما قاله كثير من الناس، لكن ينازع في شيئين: أحدهما: أن المسلم المستحق للثواب لابد أن يكون معه الإيمان الواجب المفصل المذكور في حديث جبريل. والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يطلق مؤمناً دون مسلم، في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أو مسلم " لكونه ليس من خواص المؤمنين وأفاضلهم، كأنه يقول: لكونه ليس من السابقين المقربين، بل من المقتصدين الأبرار، فهذان مما تنازع فيهما جمهور العلماء، ويقولون: لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الرجل: " أو مسلم " لكونه لم يكن من خواص المؤمنين وأفاضلهم كالسابقين المقربين، فإن هذا لو كان كذلك لكان ينفي الإيمان المطلق عن الأبرار المقتصدين المتقين، الموعودين بالجنة بلا عذاب إذا كانوا من أصحاب اليمين، ولم يكونوا من السابقين والمقربين، وليس الأمر كذلك، بل كل من أصحاب اليمين مع السابقين المقربين، كلهم مؤمنون موعودون بالجنة بلا عذاب، وكل من كان كذلك فهو مؤمن باتفاق المسلمين من أهل السنة وأهل البدع، ولو جاز أن ينفي الإيمان عن شخص لكون غيره أفضل منه إيماناً نفى الإيمان عن أكثر أولياء الله المتقين، بل وعن كثير من الأنبياء، وهذا في غاية الفساد، وهذا من جنس قول من يقول: نفى الاسم لنفي كماله المستحب. وقد ذكرنا أن مثل هذا لا يوجد في كلام الله ورسوله، بل هذا الحديث خص من قيل فيه: مسلم وليس بمؤمن، فلابد أن يكون ناقصاً عن درجة الأبرار المقتصدين أهل الجنة، ويكون إيمانه ناقصاً عن إيمان هؤلاء كلهم، فلا يكون قد أتى بالإيمان الذي أمر به هؤلاء كله، ثم إن كان قادراً على ذلك الإيمان وترك الواجب، كان مستحقاً للذم، وإن قدر أنه لا يقدر على ذلك الإيمان الذي اتصف به هؤلاء، كان عاجزاً عن مثل إيمانهم، ولا يكون هذا وجب عليه، فهو وإن دخل الجنة لا يكون كمن قدر أنه آمن إيماناً مجملاً، ومات قبل أن يعلم تفصيل الإيمان وقبل أن يتحقق به ويعمل بشيء منه، فهو يدخل الجنة، لكن لا يكون مثل أولئك.

لكن قد يقال: الأبرار أهل اليمين هم أيضاً على درجات، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير " وقد قال الله تعالى: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} الآية [النساء: 95] ، فدرجة المؤمن القوي في الجنة أعلى، وإن كان كل منهما كمل ما وجب عليه، وقد يريد أبو طالب وغيره بقولهم: ليس هذا من خواص المؤمنين هذا المعنى؛ أي: ليس إيمانه كإيمان من حقق خاصة الإيمان، سواء كان من الأبرار أو من المقربين، وإن لم يكن ترك واجباً لعجزه عنه، أو لكونه لم يؤمر به، فلا يكون مذمومًا، ولا يمدح مدح أولئك، ولا يلزم أن يكون من أولئك المقربين. فيقال: وهذا أيضاً لا ينفي عنه الإيمان، فيقال: هو مسلم لا مؤمن، كما يقال: ليس بعالم ولا مفت، ولا من أهل الاجتهاد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ". وهذا كثير، فليس كل ما فضل به الفاضل يكون مقدوراً لمن دونه، فكذلك من حقائق الإيمان ما لا يقدر عليه كثير من الناس، بل ولا أكثرهم، فهؤلاء يدخلون الجنة، وإن لم يكونوا ممن تحققوا بحقائق الإيمان التي فضل الله بها غيرهم، ولا تركوا واجباً عليهم وإن كان واجباً على غيرهم؛ ولهذا كان من الإيمان ما هو من المواهب والفضل من الله فإنه من جنس العلم، والإسلام الظاهر من جنس العمل، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد: 17] ، وقال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76] ، وقال: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] .

ومثل هذه السكينة قد لا تكون مقدورة، ولكن الله يجعل ذلك في قلبه، فضلاً منه وجزاء على عمل سابق، كما قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [النساء: 66: 68] ، كما قال: {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28] ، وكما قال: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} [المجادلة: 22] ؛ ولهذا قيل: من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم، وهذا الجنس غير مقدور للعباد، وإن كان ما يقدرون عليه من الأعمال الظاهرة والباطنة هو أيضاً بفضل الله وإعانته وإقداره لهم، لكن الأمور قسمان: منه ما جنسه مقدور لهم لإعانة الله لهم، كالقيام والقعود، ومنه ما جنسه غير مقدور لهم، إذا قيل: إن الله يعطي من أطاعه قوة في قلبه وبدنه يكون بها قادراً على ما لا يقدر عليه غيره، فهذا أيضاً حق وهو من جنس هذا المعنى، قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ} [الأنفال: 12] ، وقد قال: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ} [الأنفال: 45] ، فأمرهم بالثبات وهذا الثبات، يوحى إلى الملائكة أنهم يفعلونه بالمؤمنين. والمقصود أنه قد يكون من الإيمان ما يؤمر به بعض الناس ويذم على تركه، ولا يذم عليه بعض الناس ممن لا يقدر عليه، ويفضل الله ذاك بهذا الإيمان، وإن لم يكن المفضول ترك واجباً، فيقال: وكذلك في الأعمال الظاهرة يؤمر القادر على الفعل بما لا يؤمر به العاجز عنه، ويؤمر بعض الناس بما لا يؤمر به غيره، لكن الأعمال الظاهرة قد يعطي الإنسان مثل أجر العامل إذا كان يؤمن بها ويريدها جهده، ولكن بدنه عاجز كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " إن بالمدينة لرجالاً ما سِرْتُم مَسِيرًا ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم " قالو: وهم بالمدينة؟ قال: " وهم بالمدينة حبسهم العذر "، وكما قال تعالي: {لاَّ يَسْتَوِي

الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} [النساء: 95] فاستثنى أولى الضرر. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا ". وفي حديث أبي كَبْشَة الأنماري: " هما في الأجر سواء، وهما في الوزر سواء "، رواه الترمذي وصححه ولفظه: " إنما الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله علماً ومالاً فهو يتقي في ذلك المال ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته، فوزرهما سواء ". ولفظ ابن ماجه: " مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالا وعلماً فهو يعمل بعلمه في ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالا فهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل ". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يتخبط في ماله ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤته علماً ولا مالا وهو يقول: لو كان لي مثل مال هذا عملت مثل الذي يعمل، فهما في الوزر سواء ".

كالشخصين إذا تماثلا في إيمان القلوب معرفة وتصديقاً، وحباً وقوة وحالاً ومقاماً، فقد يتماثلان، وإن كان لأحدهما من أعمال البدن ما يعجز عنه بدن الآخر، كما جاء في الأثر: " إن المؤمن قوته في قلبه، وضعفه في جسمه، والمنافق قوته في جسمه، وضعفه في قلبه "؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " ليس الشديد ذو الصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب "، وقد قال: " رأيت كأني أنزع على قَلِيبٍ، فأخذها ابن أبي قُحَافة، فنزع ذَنُوباً أو ذنوبين، وفي نَزْعِه ضعف، والله يغفر له، فأخذها ابن الخطاب فاستحالت في يده غَرْباً، فلم أر عبقريًا يَفْري فَرْيَه، حتى صَدَرَ الناس بعطن "، فذكر أن أبا بكر أضعف، وسواء أراد قصر مدته أو أراد ضعفه عن مثل قوة عمر، فلا ريب أن أبا بكر أقوى إيماناً من عمر، وعمر أقوي عملاً منه، كما قال ابن مسعود: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر. وقوة الإيمان أقوى وأكمل من قوة العمل، وصاحب الإيمان يكتب له أجر عمل غيره، وما فعله عمر في سيرته مكتوب مثله لأبي بكر فإنه هو الذي استخلفه. وفي المسند من وجهين عن النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي وزن بالأمة فرجح، ثم وزن أبو بكر بالأمة فرجح، ثم وزن عمر بالأمة فرجح، وكان في حياة النبي صلىالله عليه وسلم وبعد موته يحصل لعمر بسبب أبي بكر من الإيمان والعلم ما لم يكن عنده، فهو قد دعاه إلى ما فعله من خير وأعانه عليه بجهده، والمعين على الفعل إذا كان يريده إرادة جازمة كان كفاعله، كما ثبت في الحديث الصحيح عن

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من جَهَّز غازياً فقد غزاً، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا "، وقال: " من دل على خير فله مثل أجر فاعله "، وقال: " من فطر صائماً فله مثل أجره ". وقد روى الترمذي: " من عزى مصاباً فله مثل أجره " وهذا وغيره مما يبين أن الشخصين قد يتماثلان في الأعمال الظاهرة، بل يتفاضلان ويكون المفضول فيها أفضل عند الله من الآخر؛ لأنه أفضل في الإيمان الذي في القلب، وأما إذا تفاضلا في إيمان القلوب فلا يكون المفضول فيها أفضل عند الله البتة، وإن كان المفضول لم يهبه الله من الإيمان ما وهبه للفاضل، ولا أعطى قلبه من الأسباب التي بها ينال ذلك الإيمان الفاضل ما أعطى المفضول؛ ولهذا فضل الله بعض النبيين على بعض، وإن كان الفاضل أقل عملاً من المفضول، كما فضل الله نبينا صلى الله عليه وسلم ومدة نبوته بضع وعشرون سنة على نوح وقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وفضل أمة محمد، وقد عملوا من صلاة العصر إلى المغرب، على من عمل من أول النهار إلى صلاة الظهر، وعلى من عمل من صلاة الظهر إلى العصر، فأعطى الله أمة محمد أجرين، وأعطى كلا من أولئك أجرًا أجرًا؛ لأن الإيمان الذي في قلوبهم كان أكمل وأفضل، وكان أولئك أكثر عملاً، وهؤلاء أعظم أجراً، وهو فضله يؤتيه من يشاء بالأسباب التي تفضل بها عليهم وخصهم بها. وهكذا سائر من يفضله الله تعالى فإنه يفضله بالأسباب التي يستحق بها التفضيل بالجزاء، كما يخص أحد الشخصين بقوة ينال بها العلم، وبقوة ينال بها اليقين والصبر والتوكل والإخلاص، وغير ذلك مما يفضله الله به، وإنما فضله في الجزاء بما فضل به من الإيمان، كما قال تعالى: {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ} [آل عمران: 72، 73] ، وقال في الآية الأخرى: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] ، وقال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] ، وقال: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء} [الفتح: 14] وقد بين في مواضع أسباب المغفرة وأسباب العذاب، وكذلك يرزق من يشاء بغير حساب، وقد عرف أنه قد يخص من يشاء بأسباب الرزق. وإذا كان من الإيمان ما يعجز عنه كثير من الناس، ويختص الله به من يشاء، فذلك مما يفضلهم الله به، وذلك الإيمان ينفي عن غيرهم، لكن لا على وجه الذم بل على وجه التفضيل، فإن الذم إنما يكون على ترك مأمور أو فعل محظور. لكن على ما ذكره أبو طالب، يقال: فمثل هؤلاء مسلمون لا مؤمنون باعتبار، ويقال: إنهم مؤمنون باعتبار آخر، وعلى هذا ينفي الإيمان عمن فاته الكمال المستحب، بل الكمال الذي يفضل به على من فاته، وإن كان غير مقدور للعباد بل ينفي عنه الكمال الذي وجب على غيره، وإن لم يكن في حقه لا واجباً ولا مستحباً، لكن هذا لا يعرف في كلام الشارع، ولم يعرف في كلامه إلا أن نفي الإيمان يقتضي الذم حيث كان، فلا ينفي إلا عمن له ذنب، فتبين أن قوله: " أو مسلم " توقف في أداء الواجبات الباطنة والظاهرة كما قال جماهير الناس. ثم طائفة يقولون: قد يكون منافقاً ليس معه شيء من الإيمان، وهم الذين يقولون: الأعراب المذكورون منافقون ليس معهم من الإيمان شيء، وهذا هو القول الذي نصره طائفة، كمحمد بن نصر، والأكثرون يقولون: بل هؤلاء لم يكونوا من المنافقين الذين لا يقبل منهم شيء من أعمالهم، وإن كان فيهم شعبة نفاق، بل كان معهم تصديق يقبل معه منهم ما عملوه لله؛ ولهذا جعلهم مسلمين؛ ولهذا قال: {أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17] ، كما قالوا مثل ذلك في الزاني والسارق وغيرهما ممن نفى عنه الإيمان، مع أن معه التصديق. وهذا أصح الأقوال الثلاثة فيهم.

وأبو طالب جعل من كان مذموماً، لترك واجب، من المؤلفة قلوبهم الذين لم يعطوا شيئًا، وجعل ذلك الشخص مؤمناً غيره أفضل منه، وأما الأكثرون فيقولون: إثبات الإسلام لهم دون الإيمان كإثباته لذلك الشخص كان مسلماً لا مؤمنًا كلاهما مذموم، لا لمجرد أن غيره أفضل منه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً " ولم يسلب عمن دونه الإيمان، وقال تعالى: {ِلا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] . فأثبت الإيمان للفاضل والمفضول، وهذا متفق عليه بين المسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر "، وقال لسعد ابن معاذ لما حكم في بني قريظة: " لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبعة أرْقٍعَة "، وكان يقول لمن يرسله في جيش أو سرية: " إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك ". وهذه الأحاديث الثلاثة في الصحيح، وفي حديث سليمان عليه السلام: " وأسألك حكمًا يوافق حكمك ". فهذه النصوص وغيرها تدل على ما اتفق عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان: أن أحد الشخصين قد يخصه الله باجتهاد يحصل له به من العلم ما يعجز عنه غيره فيكون له أجران، وذلك الآخر عاجز له أجر ولا إثم عليه، وذلك العلم الذي خص به هذا، والعمل به باطناً، وظاهراً زيادة في إيمانه، وهو إيمان

يجب عليه، لأنه قادر عليه، وغيره عاجز عنه فلا يجب. فهذا قد فضل بإيمان واجب عليه وليس بواجب على من عجز عنه. وهذا حال جميع الأمة فيما تنازعت فيه من المسائل الخبرية والعملية، إذا خص أحدهما بمعرفة الحق في نفس الأمر مع اجتهاد الآخر وعجزه، كلاهما محمود مثاب مؤمن، وذلك خصه الله من الإيمان الذي وجب عليه بما فضله به على هذا. وذلك المخطئ لا يستحق ذماً ولا عقاباً، وإن كان ذاك لو فعل ما فعل ذم وعوقب، كما خص الله أمة نبينا بشريعة فضلها به، ولو تركنا مما أمرنا به فيها شيئًا، لكان ذلك سبباً للذم والعقاب، والأنبياء قبلنا لا يذمون بترك ذلك، لكن محمد صلى الله عليه وسلم فضله الله على الأنبياء، وفضل أمته على الأمم من غير ذم لأحد من الأنبياء، ولا لمن اتبعهم من الأمم. وأيضاً، فإذا كان الإنسان لا يجب عليه شيء من الإيمان إلا ما يقدر عليه، وهو إذا فعل ذلك كان مستحقاً لما وعد الله به من الجنة، فلو كان مثل هذا يسمى مسلماً ولا يسمى مؤمناً، لوجب أن يكون من أهل الوعد بالجنة من يسمى مسلماً لامؤمناً كالأعراب، وكالشخص الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: " أو مسلم " وكسائر من نفى عنه الإيمان مع أنه مسلم، كالزاني، والشارب، والسارق، ومن لا يأمن جاره بوائقه، ومن لا يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه، وغير هؤلاء، وليس الأمر كذلك. فإن الله لم يعلق وعد الجنة إلا باسم الإيمان، لم يعلقه باسم الإسلام مع إيجابه الإسلام، وإخباره أنه دينه الذي ارتضاه، وأنه لا يقبل ديناً غيره، ومع هذا فما قال: إن الجنة أعدت للمسلمين، ولا قال: وعد الله المسلمين بالجنة، بل إنما ذكر ذلك باسم الإيمان، كقوله: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التوبة: 72] ، فهو يعلقها باسم الإيمان المطلق، أو المقيد بالعمل الصالح، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البينة: 7، 8] ، وقوله: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} [البقرة:

25] ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 277] ، وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} [النساء: 173] ، وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [النساء: 175] ، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} [النساء: 57] ، وفي الآية الأخرى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً} [النساء: 122] ، وقال: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 57] ، وقال: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 9] ، وقال: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام: 48] ، وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 42] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة. فالوعد بالجنة، والرحمة في الآخرة، وبالسلامة من العذاب، علق باسم الإيمان المطلق، والمقيد بالعمل الصالح، ونحو ذلك، وهذا كما تقدم أن المطلق يدخل فيه فعل ما أمر الله به ورسوله، ولم يعلق باسم الإسلام. فلو كان من أتى من الإيمان بما يقدر عليه وعجز عن معرفة تفاصيله قد يسمى مسلماً لا مؤمنًا، لكان من أهل الجنة، وكانت الجنة يستحقها من يسمى مسلماً وإن لم يسم مؤمناً، وليس الأمر كذلك، بل الجنة لم تعلق إلا باسم الإيمان، وهذا أيضاً مما استدل به من قال: إنه ليس كل مسلم من المؤمنين الموعودين بالجنة؛ إذ لو كان الأمر كذلك لكان وعد الجنة معلقاً باسم الإسلام، كما علق باسم الإيمان وكما علق باسم التقوى واسم البر، في مثل قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر: 54] ، وقوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13] ، وباسم أولياء اللّّه، كقوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ

يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62: 64] ، فلما لم يجر اسم الإسلام هذا المجرى، علم أن مسماه ليس ملازماً لمسمى الإيمان كما يلازمه اسم البر والتقوى وأولياء الله، وأن اسم الإسلام يتناول من هو من أهل الوعيد، وإن كان الله يثيبه على طاعته، مثل أن يكون في قلبه إيمان، ونفاق يستحق به العذاب، فهذا يعاقبه الله ولا يخلده في النار؛ لأن في قلبه مثقال ذرة أو أكثر من مثقال ذرة من إيمان. وهكذا سائر أهل الكبائر إيمانهم ناقص، وإذا كان في قلب أحدهم شعبة نفاق عوقب بها إذا لم يعف الله عنه، ولم يخلد في النار، فهؤلاء مسلمون وليسوا مؤمنين ومعهم إيمان. لكن معهم أيضاً ما يخالف الإيمان من النفاق، فلم تكن تسميتهم مؤمنين بأولى من تسميتهم منافقين، لا سيما إن كانوا للكفر أقرب منهم للإيمان، وهؤلاء يدخلون في اسم الإيمان في أحكام الدنيا، كما يدخل المنافق المحض وأولى؛ لأن هؤلاء معهم إيمان يدخلون به في خطاب الله ب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} ، لأن ذلك أمر لهم بما ينفعهم ونهى لهم عما يضرهم، وهم محتاجون إلى ذلك، ثم إن الإيمان الذي معهم إن اقتضى شمول لفظ الخطاب لهم فلا كلام، وإلا فليسوا بأسوأ حالاً من المنافق المحض، وذلك المنافق يخاطب بهذه الأعمال وتنفعه في الدنيا ويحشر بها مع المؤمنين يوم القيامة، ويتميز بها عن سائر الملل يوم القيامة كما تميز عنهم بها في الدنيا، لكن وقت الحقيقة يضرب {بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 13: 15] ، وقد قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 145، 146] .

فإذا عمل العبد صالحاً لله، فهذا هوالإسلام الذي هو دين الله، ويكونمعه من الإيمان ما يحشر به مع المؤمنين يوم القيامة، ثم إن كان معه من الذنوب ما يعذب به عذب وأخرج من النار، إذا كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان وإن كان معه نفاق؛ ولهذا قال تعالى في هؤلاء: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146] ، فلم يقل: إنهم مؤمنون بمجرد هذا؛ إذ لم يذكر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، بل هم معهم، وإنما ذكر العمل الصالح وإخلاصه لله، وقال: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} فيكون لهم حكمهم. وقد بين تفاضل المؤمنين في مواضع أخر، وأنه من أتى بالإيمان الواجب استحق الثواب، ومن كان فيه شعبة نفاق وأتى بالكبائر، فذاك من أهل الوعيد، وإيمانه ينفعه الله به، ويخرجه به من النار ولو أنه مثقال حبة خردل لكن لا يستحق به الاسم المطلق المعلق به وعد الجنة بلا عذاب. وتمام هذا أن الناس قد يكون فيهم من معه شعبة من شعب الإيمان، وشعبة من شعب الكفر أو النفاق، ويسمى مسلماً، كما نص عليه أحمد. وتمام هذا أن الإنسان قد يكون فيه شعبة من شعب الإيمان، وشعبة من شعب النفاق، وقد يكون مسلماً وفيه كفر دون الكفر الذي ينقل عن الإسلام بالكلية، كما قال الصحابة ابن عباس وغيره: كفر دون كفر. وهذا قول عامة السلف، وهو الذي نص عليه أحمد وغيره ممن قال في السارق، والشارب، ونحوهم ممن قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه ليس بمؤمن " أنه يقال لهم: مسلمون لا مؤمنون، واستدلوا بالقرآن والسنة على نفي اسم الإيمان مع إثبات اسم الإسلام، وبأن الرجل قد يكون مسلماً ومعه كفر لا ينقل عن الملة، بل كفر دون كفر، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] قالوا: كفر لا ينقل عن الملة، وكفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم.

وهذا أيضاً مما استشهد به البخاري في صحيحه فإن كتاب [الإيمان] الذي افتتح به [الصحيح] قرر مذهب أهل السنة والجماعة، وضمنه الرد على المرجئة، فإنه كان من القائمين بنصر السنة والجماعة مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان. وقد اتفق العلماء على أن اسم المسلمين في الظاهر يجري على المنافقين؛ لأنهم استسلموا ظاهراً، وأتوا بما أتوا به من الأعمال الظاهرة بالصلاة الظاهرة، والزكاة الظاهرة، والحج الظاهر، والجهاد الظاهر، كما كان النبي يجري عليهم أحكام الإسلام الظاهر، واتفقوا على أنه من لم يكن معه شيء من الإيمان فهو كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] وفيها قراءتان: دَرْك ودَرَك قال أبو الحسين بن فارس: الجنة درجات والنار دركات، قال الضحاك: الدرج: إذا كان بعضها فوق بعض. والدرك: إذا كان بعضها أسفل من بعض، فصار المظهرون للإسلام بعضهم في أعلى درجة في الجنة وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال في الحديث الصحيح: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة " وقوله صلى الله عليه وسلم: " وأرجو أن أكون " مثل قوله: " إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بحدوده " ولا ريب أنه أخشى الأمة لله، وأعلمهم بحدوده. وكذلك قوله: " اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً "، وقوله: " إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل

الجنة " وأمثال هذه النصوص، وكان يستدل به أحمد وغيره على الاستثناء في الإيمان، كما نذكره في موضعه. والمقصود أن خير المؤمنين في أعلى درجات الجنة، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، وإن كانوا في الدنيا مسلمين ظاهراً تجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة، فمن كان فيه إيمان ونفاق يسمى مسلماً؛ إذ ليس هو دون المنافق المحض، وإذا كان نفاقه أغلب لم يستحق اسم الإيمان، بل اسم المنافق أحق به، فإن ما فيه بياض وسواد، سواده أكثر من بياضه، هو باسم الأسود أحق منه باسم الأبيض، كما قال تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} [آل عمران: 167] ، وأما إذا كان إيمانه أغلب ومعه نفاق يستحق به الوعيد، لم يكن أيضاً من المؤمنين الموعودين بالجنة، وهذا حجة لما ذكره محمد بن نصر عن أحمد، ولم أره أنا فيما بلغني من كلام أحمد ولا ذكره الخلال ونحوه. وقال محمد بن نصر: وحكى غير هؤلاء عن أحمد أنه قال: من أتى هذه الأربعة: الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والنُّهْبَة التي يرفع الناس فيها أبصارهم إليه، أو مثلهن أو فوقهن، فهو مسلم ولا أسميه مؤمنًا، ومن أتى دون الكبائر نسميه مؤمناً ناقص الإيمان، فإن صاحب هذا القول يقول: لما نفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان، نفيته عنه كما نفاه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم والرسول لم ينفه إلا عن صاحب كبيرة، وإلا فالمؤمن الذي يفعل الصغيرة هي مكفرة عنه بفعله للحسنات واجتنابه للكبائر، لكنه ناقص الإيمان عمن اجتنب الصغائر، فما أتى بالإيمان الواجب، ولكن خلطه بسيئات كفرت عنه بغيرها، ونقصت بذلك درجته عمن لم يأت بذلك. وأما الذين نفى عنهم الرسول الإيمان، فننفيه كما نفاه الرسول، وأولئك وإن كان معهم التصديق وأصل الإيمان فقد تركوا منه ما استحقوا لأجله سلب الإيمان، وقد يجتمع في العبد نفاق وإيمان، وكفر وإيمان، فالإيمان المطلق عند هؤلاء ما كان صاحبه مستحقاً للوعد بالجنة. وطوائف أهل الأهواء من الخوارج، والمعتزلة، والجهمية، والمرجئة، كَرَّاميهم، وغير كرَّاميهم يقولون: إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق، ومنهم من يدعي

الإجماع على ذلك، وقد ذكر أبو الحسن في بعض كتبه الإجماع على ذلك، ومن هنا غلطوا فيه وخالفوا فيه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع مخالفة صريح المعقول، بل الخوارج والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد، وقالوا: لا يجتمع في الشخص الواحد طاعة يستحق بها الثواب، ومعصية يستحق بها العقاب، ولا يكون الشخص الواحد محموداً من وجه مذمومًا من وجه، ولا محبوباً مدعواً من وجه مسخوطاً ملعوناً من وجه، ولا يتصور أن الشخص الواحد يدخل الجنة والنار جميعاً عندهم؛ بل من دخل إحداهما لم يدخل الأخرى عندهم؛ ولهذا أنكروا خروج أحد من النار أو الشفاعة في أحد من أهل النار. وحكى عن غالية المرجئة أنهم وافقوهم على هذا الأصل، لكن هؤلاء قالوا: إن أهل الكبائر يدخلون الجنة ولا يدخلون النار مقابلة لأولئك. وأما أهل السنة والجماعة والصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وسائر طوائف المسلمين من أهل الحديث والفقهاء وأهل الكلام من مرجئة الفقهاء والكَرَّامية والكُلاَّبية والأشعرية، والشيعة مرجئهم وغير مرجئهم فيقولون: إن الشخص الواحد قد يعذبه الله بالنار ثم يدخله الجنة كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة، وهذا الشخص الذي له سيئات عذب بها، وله حسنات دخل بها الجنة، وله معصية وطاعة باتفاق، فإن هؤلاء الطوائف لم يتنازعوا في حكمه، لكن تنازعوا في اسمه. فقالت المرجئة جهميتهم وغير جهميتهم هو مؤمن كامل الإيمان. وأهل السنة والجماعة على أنه مؤمن ناقص الإيمان، ولولا ذلك لما عذب، كما أنه ناقص البر والتقوى باتفاق المسلمين، وهل يطلق عليه اسم مؤمن؟ هذا فيه القولان، والصحيح التفصيل. فإذا سئل عن أحكام الدنيا كعتقه في الكفارة، قيل: هو مؤمن وكذلك إذا سئل عن دخوله في خطاب المؤمنين. وأما إذا سئل عن حكمه في الآخرة، قيل: ليس هذا النوع من المؤمنين الموعودين بالجنة، بل معه إيمان يمنعه الخلود في النار ويدخل به الجنة بعد أن

يعذب في النار إن لم يغفر الله له ذنوبه؛ ولهذا قال من قال: هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته أو مؤمن ناقص الإيمان. والذين لا يسمونه مؤمناً من أهل السنة ومن المعتزلة يقولون: اسم الفسوق ينافي اسم الإيمان لقوله: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات: 11] ، وقوله: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا} [السجدة: 18] ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ". وعلى هذا الأصل فبعض الناس يكون معه شعبة من شعب الكفر، ومعه إيمان أيضاً، وعلى هذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في تسمية كثير من الذنوب كفراً، مع أن صاحبها قد يكون معه أكثر من مثقال ذرة من إيمان فلا يخلد في النار. كقوله: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر "، وقوله: " لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض " وهذا مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من غير وجه، فإنه أمر في حجة الوداع أن ينادى به في الناس، فقد سمى من يضرب بعضهم رقاب بعض بلا حق كفاراً، وسمى هذا الفعل كفراً، ومع هذا فقد قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 9، 10] ، فبين أن هؤلاء لم يخرجوا من الإيمان بالكلية، ولكن فيهم ما هو كفر وهي هذه الخصلة، كما قال بعض الصحابة: كفر دون كفر. وكذلك قوله: " من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما " فقد سماه أخاه حين القول، وقد أخبر أن أحدهما باء بها، فلو خرج أحدهما عن الإسلام بالكلية لم يكن أخاه، بل فيه كفر.

وكذلك قوله في الحديث الصحيح: " ليس من رجل ادَّعى لغير أبيه، وهو يَعْلَمُه، إلا كَفَر "، وفي حديث آخر: " كَفَر بالله من تَبَرَّأ من نَسَبٍ وإن دَقَّ "، وكان من القرآن الذي نسخ لفظه: " لا ترغبوا عن آبائكم فإن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم "، فإن حق الوالدين مقرون بحق الله في مثل قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] ، وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] ، فالوالد أصله الذي منه خلق، والولد من كسبه. كما قال: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 2] ، فالجحد لهما شعبة من شعب الكفر، فإنه جحد لما منه خلقه ربه، فقد جحد خلق الرب إياه، وقد كان في لغة من قبلنا يسمى الرب أباً، فكان فيه كفر بالله من هذا الوجه، ولكن ليس هذا كمن جحد الخالق بالكلية، وسنتكلم إن شاء الله على سائر الأحاديث. والمقصود هنا ذكر أصل جامع تنبني عليه معرفة النصوص، ورد ما تنازع فيه الناس إلى الكتاب والسنة، فإن الناس كثر نزاعهم في مواضع في مسمى الإيمان والإسلام لكثرة ذكرهما، وكثرة كلام الناس فيهما، والاسم كلما كثر التكلم فيه، فتكلم به مطلقاً ومقيداً بقيد، ومقيد بقيد آخر في موضع آخر. كان هذا سبباً لاشتباه بعض معناه، ثم كلما كثر سماعه كثر من يشتبه عليه ذلك. ومن أسباب ذلك أن يسمع بعض الناس بعض موارده ولا يسمع بعضه، ويكون ما سمعه مقيداً بقيد أوجبه اختصاصه بمعنى، فيظن معناه في سائر موارده كذلك، فمن اتبع علمه حتى عرف مواقع الاستعمال عامة، وعلم مأخذ الشبه أعطى كل ذي حق حقه، وعلم أن خير الكلام كلام الله، وأنه لا بيان أتم من بيانه، وأن ما أجمع عليه المسلمون من دينهم الذي يحتاجون إليه أضعاف أضعاف ما تنازعوا فيه.

فالمسلمون سنيهم وبدعيهم متفقون على وجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومتفقون على وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، ومتفقون على أن من أطاع الله ورسوله فإنه يدخل الجنة، ولا يعذب، وعلى أن من لم يؤمن بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فهو كافر، وأمثال هذه الأمور التي هي أصول الدين وقواعد الإيمان التي اتفق عليها المنتسبون إلى الإسلام والإيمان، فتنازعهم بعد هذا في بعض أحكام الوعيد أو بعض معاني بعض الأسماء أمر خفيف بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه، مع أن المخالفين للحق البين من الكتاب والسنة هم عند جمهور الأمة معروفون بالبدعة، مشهود عليهم بالضلالة، ليس لهم في الأمة لسان صدق ولا قبول عام؛ كالخوارج والروافض والقدرية ونحوهم، وإنما تنازع أهل العلم والسنة في أمور دقيقة تخفى على أكثر الناس؛ ولكن يجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله والرد إلى الله ورسوله في مسألة [الإسلام، والإيمان] يوجب أن كلا من الاسمين وإن كان مسماه واجباً لا يستحق أحد الجنة إلا بأن يكون مؤمناً، مسلماً، فالحق في ذلك ما بينه النبي في حديث جبريل، فجعل الدين وأهله ثلاث طبقات: أولها: الإسلام، وأوسطها: الإيمان، وأعلاها: الإحسان، ومن وصل إلى العليافقد وصل إلى التي تليها، فالمحسن مؤمن والمؤمن مسلم؛ وأما المسلم فلا يجب أن يكون مؤمناً. وهكذا جاء القرآن، فجعل الأمة على هذه الأصناف الثلاثة، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32] ، فالمسلم الذي لم يقم بواجب الإيمان هو الظالم لنفسه، والمقتصد هو المؤمن المطلق الذي أدى الواجب وترك المحرم، والسابق بالخيرات هو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه. وقد ذكر الله سبحانه تقسيم الناس في المعاد إلى هذه الثلاثة في سورة [الواقعة] و [المطففين] و [هل أتى] وذكر الكفار أيضاً وأما هنا فجعل التقسيم للمصطفين من عباده.

وقال أبو سليمان الخطابي: ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة، فأما الزهري فقال: الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، واحتج بالآية. وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد. فاحتج بقوله: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 36، 35] ، قال الخطابي: وقد تكلم رجلان من أهل العلم، وصار كل واحد منهما إلى قول واحد من هذين ورد الآخر منهما على المتقدم، وصنف عليه كتاباً يبلغ عدد أوراقه المائتين. قال الخطابي: والصحيح من ذلك: أن يقيد الكلام في هذا، ولا يطلق؛ وذلك أن المسلم قد يكون مؤمناً في بعض الأحوال ولا يكون مؤمناً في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات، واعتدل القول فيها، ولم يختلف شيء منها. قلت: الرجلان اللذان أشار إليهما الخطابي، أظن أحدهما وهو السابق محمد بن نصر، فإنه الذي علمته بسط الكلام في أن الإسلام والإيمان شيء واحد من أهل السنة والحديث، وما علمت لغيره قبله بسطاً في هذا. والآخر الذي رد عليه أظنه. . لكن لم أقف على رده، والذي اختاره الخطابي هو قول من فرق بينهما، كأبي جعفر، وحماد ابن زيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وهو قول أحمد بن حنبل وغيره، ولا علمت أحداً من المتقدمين خالف هؤلاء، فجعل نفس الإسلام نفس الإيمان؛ ولهذا كان عامة أهل السنة على هذا الذي قاله هؤلاء كما ذكره الخطابي. وكذلك ذكر أبو القاسم التيمي الأصبهاني وابنه محمد شارح [مسلم] وغيرهما، أن المختار عند أهل السنة أنه لا يطلق على السارق والزاني اسم مؤمن، كما دل عليه النص، وقد ذكر الخطابي: في [شرح البخاري] كلاماً يقتضي تلازمهما مع افتراق اسميهما، وذكره البغوي في [شرح السنة] فقال: قد

جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد، وليس كذلك؛ لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل الجملة هي كلها شيء واحد وجماعها الدين؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم " والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإسلام والإيمان جميعاً، يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] ، وقوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3] ، وقوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] ، فبين أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام، ولا يكون الدين في محل الرضى والقبول إلا بانضمام التصديق إلى العمل. قلت: تفريق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل وإن اقتضى أن الأعلى هو الإحسان، والإحسان يتضمن الإيمان، والإيمان يتضمن الإسلام، فلا يدل على العكس، ولو قدر أنه دل على التلازم فهو صريح بأن مسمى هذا ليس مسمى هذا، لكن التحقيق أن الدلالة تختلف بالتجريد والاقتران كما قد بيناه، ومن فهم هذا انحلت عنه إشكالات كثيرة في كثير من المواضع حاد عنها طوائف [مسألة الإيمان] وغيرها وما ذكره من أن الدين لا يكون في محل الرضى والقبول إلا بانضمام التصديق إلى العمل، يدل على أنه لابد مع العمل من الإيمان، فهذا يدل على وجوب الإيمان مطلقاً، لكن لا يدل على أن العمل الذي هو الدين، ليس اسمه إسلاماً، وإذا كان الإيمان شرطاً في قبوله لم يلزم أن يكون ملازما له، ولو كان ملازماً له لم يلزم أن يكون جزء مسماه. وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: قوله صلى الله عليه وسلم: " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله " إلى آخره، و " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله " إلى آخره. قال: هذا بيان لأصل الإيمان، وهوالتصديق الباطن وبيان لأصل الإسلام، وهو الاستسلام والانقياد الظاهر. وحكم الإسلام في الظاهر يثبت بالشهادتين،

وإنما أضاف إليهما الأربع لكونها أظهر شعائر الإسلام ومعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه، وتركه لها يشعر بحل قيد انقياده وانحلاله. ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث، وسائر الطاعات لكونها ثمرات التصديق الباطن، الذي هو أصل الإيمان، مقومات ومتممات وحافظات له؛ ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصوم، وإعطاء الخمس من المغنم؛ ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو ترك فريضة، لأن اسم الشيء الكامل يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهراً إلا بقيد؛ ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ". واسم الإسلام يتناول أيضاً ما هو [أصل الإيمان] وهو التصديق، ويتناول [أصل الطاعات] فإن ذلك كله استسلام. قال: فخرج مما ذكرناه وحققناه أن الإسلام والإيمان يجتمعان ويفترقان؛ وأن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً. قال: فهذا تحقيق واف بالتوفيق بين متفرقات النصوص الواردة في الإيمان والإسلام، التي طالما غلط فيها الخائضون، وما حققناه من ذلك موافق لمذاهب جماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم. فيقال: هذا الذي ذكره رحمه الله فيه من الموافقة لما قد بين من أقوال الأئمة، وما دل عليه الكتاب والسنة ما يظهر به أن الجمهور يقولون: كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، وقوله: إن الحديث ذكر فيه أصل الإيمان وأصل الإسلام، قد يورد عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب عن الإيمان والإسلام بما هو من جنس الجواب بالحد عن المحدود، فيكون ما ذكره مطابقاً لهما لا لأصلهما فقط، فالإيمان هو الإيمان بما ذكره باطناً وظاهراً، لكن ما ذكره من الإيمان تضمن الإسلام، كما أن الإحسان تضمن الإيمان. وقول القائل: أصل الاستسلام هو الإسلام الظاهر، فالإسلام هو الاستسلام لله والانقياد له ظاهراً وباطناً، فهذا هو دين الإسلام الذي ارتضاه الله كما دلت

عليه نصوص الكتاب والسنة، ومن أسلم بظاهره دون باطنه فهو منافق يقبل ظاهره، فإنه لم يؤمر أن يشق عن قلوب الناس، وأيضاً فإذا كان الإسلام يتناول التصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان، فيلزم أن يكون كل مسلم مؤمناً، وهو خلاف ما نقل عن الجمهور، ولكن لابد في الإسلام من تصديق يحصل به أصل الإيمان، وإلا لم يثب عليه، فيكون حينئذ مسلماً مؤمناً، فلابد أن يتبين المسلم الذي ليس بمؤمن ودخوله في الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم "، وقوله: " الإسلام هو الأركان الخمسة " لا يعني به من أداها بلا إخلاص لله بل مع النفاق، بل المراد من فعلها كما أمر بها باطناً وظاهراً، وذكر الخمس أنها هي الإسلام لأنها هي العبادات المحضة التي تجب لله تعالى على كل عبد مطيق لها، وما سواها إما واجب على الكفاية لمصلحة إذا حصلت سقط الوجوب، وإما من حقوق الناس بعضهم على بعض وإن كان فيها قربة ونحو ذلك، وتلك تابعة لهذه، كما قال: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " و " أفضل الإسلام أن تُطعِم الطعام، وتُقرِئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " ونحو ذلك: فهذه الخمس هي الأركان والمباني كما في الإيمان. وقول القائل: الطاعات ثمرات التصديق الباطن، يراد به شيئان: يراد به أنها لوازم له، فمتي وجد الإيمان الباطن وجدت، وهذا مذهب السلف وأهل السنة، ويراد به أن الإيمان الباطن قد يكون سببًا، وقد يكون الإيمان الباطن تامًا كاملاً وهي لم توجد، وهذا قول المرجئة من الجهمية وغيرهم، وقد ذكرنا فيما تقدم أنهم غلطوا في ثلاثة أوجه: أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تامًا بدون العمل الذي في القلب تصديق بلا عمل للقلب، كمحبة الله وخشيته وخوفه، والتوكل عليه والشوق إلى لقائه.

والثاني: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تامًا بدون العمل الظاهر، وهذا يقول به جميع المرجئة. والثالث: قولهم: كل من كفره الشارع فإنما كفره لانتفاء تصديق القلب بالرب تبارك وتعالى، وكثير من المتأخرين لا يميزون بين مذاهب السلف وأقوال المرجئة والجهمية؛ لاختلاط هذا بهذا في كلام كثير منهم، ممن هو في باطنه يرى رأي الجهمية والمرجئة في الإيمان، وهو معظم للسلف وأهل الحديث فيظن أنه يجمع بينهما، أو يجمع بين كلام أمثاله وكلام السلف. قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي: وقالت طائفة ثالثة وهم الجمهور الأعظم من أهل السنة والجماعة، وأصحاب الحديث: الإيمان الذي دعا الله العباد إليه وافترضه عليهم هو الإسلام الذي جعله دينًا وارتضاه لعباده ودعاهم إليه، وهو ضد الكفر الذي سخطه فقال: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] ، وقال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3] ، وقال: {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} [الأنعام: 125] ، وقال: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [الزمر: 22] ، فمدح الله الإسلام بمثل ما مدح به الإيمان، وجعله اسم ثناء وتزكية، فأخبر أن من أسلم فهو على نور من ربه وهدى، وأخبر أنه دينه الذي ارتضاه، وما ارتضاه فقد أحبه وامتدحه، ألا ترى أن أنبياء الله ورسله رغبوا فيه إليه وسألوه إياه، فقال إبراهيم وإسماعيل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 128] ، وقال يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] ، وقال: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132] ، وقال: {وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ} [آل عمران: 20] ، وقال في موضع آخر: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ} [البقرة: 136، 137] فحكم الله بأن من أسلم فقد اهتدى، ومن آمن فقد اهتدى، فسوى بينهما.

قال: وقد ذكرنا تمام الحجة في أن الإسلام هو الإيمان، وأنهما لا يفترقان ولا يتباينان في موضع غير هذا، فكرهنا إعادته في هذا الموضع كراهة التطويل والتكرير، غير أنا سنذكر من الحجة ما لم نذكره في غير هذا الموضع، ونبين خطأ تأويلهم، والحجج التي احتجوا بها من الكتاب والأخبار على التفرقة بين الإسلام والإيمان. قلت: مقصود محمد بن نصر المروزي رحمه الله: أن المسلم الممدوح هو المؤمن الممدوح، وأن المذموم ناقص الإسلام والإيمان، وأن كل مؤمن فهو مسلم، وكل مسلم فلابد أن يكون معه إيمان، وهذا صحيح، وهو متفق عليه، ومقصوده أيضًا أن من أطلق عليه الإسلام أطلق عليه الإيمان، وهذا فيه نزاع لفظي، ومقصوده أن مسمى أحدهما هو مسمى الآخر، وهذا لا يعرف عن أحد من السلف. وإن قيل: هما متلازمان، فالمتلازمان لا يجب أن يكون مسمى هذا هو مسمى هذا، وهو لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام المشهورين أنه قال: مسمى الإسلام هو مسمى الإيمان كما نصر، بل ولا عرفت أنا أحدًا قال ذلك من السلف، ولكن المشهور عن الجماعة من السلف والخلف أن المؤمن المستحق لوعد الله هو المسلم المستحق لوعد الله، فكل مسلم مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وهذا متفق على معناه بين السلف والخلف بل وبين فرق الأمة كلهم يقولون: إن المؤمن الذي وعد بالجنة لابد أن يكون مسلمًا، والمسلم الذي وعد بالجنة لابد أن يكون مؤمناً، وكل من يدخل الجنة بلا عذاب من الأولين والآخرين فهو مؤمن مسلم. ثم إن أهل السنة يقولون: الذين يخرجون من النار ويدخلون الجنة معهم بعض ذلك، وإنما النزاع في إطلاق الاسم، فالنقول متواترة عن السلف بأن الإيمان قول وعمل، ولم ينقل عنهم شيء من ذلك في الإسلام، ولكن لما كان الجمهور الأعظم يقولون: إن الإسلام هو الدين كله، ليس هو الكلمة فقط خلاف ظاهر ما نقل عن الزهري، فكانوا يقولون: إن الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك من الأفعال المأمور بها هي من الإسلام كما هي من الإيمان،

ظن أنهم يجعلونها شيئًا واحدًا، وليس كذلك، فإن الإيمان مستلزم للإسلام باتفاقهم، وليس إذا كان الإسلام داخلاً فيه يلزم أن يكون هو إياه، وأما الإسلام فليس معه دليل على أنه يستلزم الإيمان عند الإطلاق، ولكن هل يستلزم الإيمان الواجب أو كمال الإيمان؟ فيه نزاع، وليس معه دليل على أنه مستلزم للإيمان ولكن الأنبياء الذين وصفهم الله بالإسلام كلهم كانوا مؤمنين، وقد وصفهم الله بالإيمان ولو لم يذكر ذاك عنهم فنحن نعلم قطعًا أن الأنبياء كلهم مؤمنون. وكذلك السابقون الأولون كانوا مسلمين مؤمنين، ولو قدر أن الإسلام يستلزم الإيمان الواجب، فغاية ما يقال: إنهما متلازمان، فكل مسلم مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وهذا صحيح إذا أريد أن كل مسلم يدخل الجنة معه الإيمان الواجب، وهو متفق عليه إذا أريد أن كل مسلم يثاب على عبادته، فلابد أن يكون معه أصل الإيمان فما من مسلم إلا وهو مؤمن، وإن لم يكن هو الإيمان الذي نفاه النبي صلى الله عليه وسلم، عمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وعمن يفعل الكبائر، وعن الأعراب وغيرهم، فإذا قيل: إن الإسلام والإيمان التام متلازمان لم يلزم أن يكون أحدهما هو الآخر، كالروح والبدن، فلا يوجد عندنا روح إلا مع البدن، ولا يوجد بدن حي إلا مع الروح، وليس أحدهما الآخر، فالإيمان كالروح، فإنه قائم بالروح ومتصل بالبدن، والإسلام كالبدن، ولا يكون البدن حيًا إلا مع الروح، بمعنى أنهما متلازمان، لا أن مسمى أحدهما هو مسمى الآخر، وإسلام المنافقين كبدن الميت جسد بلا روح، فما من بدن حي إلا وفيه روح، ولكن الأرواح متنوعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف " وليس كل من صلى ببدنه يكون قلبه منورًا بذكر الله والخشوع وفهم القرآن وإن كانت صلاته يثاب عليها ويسقط عنه الفرض في أحكام الدنيا فهكذا الإسلام الظاهر بمنزلة الصلاة الظاهرة، والإيمان بمنزلة ما يكون في القلب حين الصلاة من المعرفة بالله

والخشوع وتدبر القرآن، فكل من خشع قلبه خشعت جوارحه، ولا ينعكس؛ ولهذا قيل: إياكم وخشوع النفاق، وهو أن يكون الجسد خاشعًا والقلب ليس بخاشع، فإذا صلح القلب صلح الجسد كله، وليس إذا كان الجسد في عبادة يكون القلب قائمًا بحقائقها. والناس في [الإيمان] و [الإسلام] على ثلاث مراتب: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، فالمسلم ظاهرًا وباطنًا إذا كان ظالمًا لنفسه، فلابد أن يكون معه إيمان، ولكن لم يأت بالواجب ولا ينعكس، وكذلك في الآخر. وسيأتي إن شاء الله. والآيات التي احتج بها محمد بن نصر تدل على وجوب الإسلام، وأنه دين الله، وأن الله يحبه ويرضاه، وأنه ليس له دين غيره، وهذا كله حق، لكن ليس في هذا ما يدل على أنه هو الإيمان، بل ولا يدل على أن بمجرد الإسلام يكون الرجل من أهل الجنة، كما ذكره في حجة القول الأول، فإن الله وعد المؤمنين بالجنة في غير آية، ولم يذكر هذا الوعد باسم الإسلام. وحينئذ، فمدحه وإيجابه ومحبة الله له تدل على دخوله في الإيمان، وأنه بعض منه، وهذا متفق عليه بين أهل السنة، كلهم يقولون: كل مؤمن مسلم، وكل من أتى بالإيمان الواجب فقد أتى بالإسلام الواجب، لكن النزاع في العكس، وهذا كما أن الصلاة يحبها الله ويأمر بها، ويوجبها ويثنى عليها وعلى أهلها في غير موضع، ثم لم يدل ذلك على أن مسمى الصلاة مسمى الإيمان، بل الصلاة تدخل في الإيمان، فكل مؤمن مصل، ولا يلزم أن يكون كل من صلى وأتى الكبائر مؤمنا. وجميع ما ذكره من الحجة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن فيها التفريق بين مسمى الإيمان والإسلام إذا ذكرا جميعًا، كما في حديث جبريل وغيره، وفيها أيضًا أن اسم الإيمان إذا أطلق دخل فيه الإسلام. قال أبو عبد الله بن حامد في كتابه المصنف في [أصول الدين] قد ذكرنا أن الإيمان قول وعمل، فأما الإسلام فكلام أحمد يحتمل روايتين: إحداهما: أنه كالإيمان. والثانية: أنه قول بلا عمل. وهو نصه في رواية

إسماعيل بن سعيد، قال: والصحيح أن المذهب رواية واحدة أنه قول وعمل، ويحتمل قوله: إن الإسلام قول يريد به: أنه لا يجب فيه ما يجب في الإيمان من العمل المشروط فيه؛ لأن الصلاة ليست من شرطه، إذ النص عنه أنه لا يكفر بتركه الصلاة. قال: وقد قضينا أن الإسلام والإيمان اسمان لمعنيين، وذكرنا اختلاف الفقهاء، وقد ذكر قبل ذلك أن الإسلام والإيمان اسمان لمعنيين مختلفين، وبه قال مالك، وشريك، وحماد ابن زيد، بالتفرقة بين الإسلام والإيمان، قال: وقال أصحاب الشافعي، وأصحاب أبي حنيفة: إنهما اسمان معناهما واحد. قال: ويفيد هذا أن الإيمان قد تنتفي عنه تسميته مع بقاء الإسلام عليه، وهو بإتيان الكبائر التي ذكرت في الخبر، فيخرج عن تسمية الإيمان، إلا أنه مسلم، فإذا تاب من ذلك عاد إلى ما كان عليه من الإيمان، ولا تنتفي عنه تسمية الإيمان بارتكاب الصغائر من الذنوب، بل الاسم باق عليه، ثم ذكر أدلة ذلك، ولكن ما ذكره فيه أدلة كثيرة على من يقول: الإسلام مجرد الكلمة، فإن الأدلة الكثيرة تدل على أن الأعمال من الإسلام، بل النصوص كلها تدل على ذلك، فمن قال: إن الأعمال الظاهرة المأمور بها ليست من الإسلام، فقوله باطل، بخلاف التصديق الذي في القلب، فإن هذا ليس في النصوص ما يدل على أنه من الإسلام، بل هو من الإيمان، وإنما الإسلام الدين، كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسلم وجهه وقلبه لله، فإخلاص الدين لله إسلام، وهذا غير التصديق، ذاك من جنس عمل القلب، وهذا من جنس علم القلب. وأحمد بن حنبل، وإن كان قد قال في هذا الموضع: إن الإسلام هو الكلمة، فقد قال في موضع آخر: إن الأعمال من الإسلام، وهو اتبع هنا الزهري رحمه الله، فإن كان مراد من قال ذلك: إنه بالكلمة يدخل في الإسلام ولم يأت بتمام الإسلام، فهذا قريب، وإن كان مراده أنه أتى بجميع الإسلام وإن لم يعمل فهذا غلط قطعًا، بل قد أنكر أحمد هذا الجواب، وهو قول من قال: يطلق عليه الإسلام وإن لم يعمل، متابعة لحديث جبريل، فكان ينبغي أن يذكر قول أحمد جميعه.

قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن الإسلام والإيمان فقال: الإيمان قول وعمل، والإسلام الإقرار. وقال: وسألت أحمد عمن قال في الذي قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم إذ سأله عن الإسلام، فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ فقال: نعم. فقال قائل: وإن لم يفعل الذي قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو مسلم أيضًا؟ فقال: هذا معاند للحديث. فقد جعل أحمد من جعله مسلمًا إذا لم يأت بالخمس معاندًا للحديث، مع قوله: إن الإسلام الإقرار، فدل ذلك على أن ذاك أول الدخول في الإسلام، وأنه لا يكون قائمًا بالإسلام الواجب حتى يأتي بالخمس، وإطلاق الاسم مشروط بها، فإنه ذم من لم يتبع حديث جبريل. وأيضًا، فهو في أكثر أجوبته يكفر من لم يأت بالصلاة، بل وبغيرها من المباني، والكافر لا يكون مسلمًا باتفاق المسلمين، فعلم أنه لم يرد أن الإسلام هو مجرد القول بلا عمل، وإن قدر أنه أراد ذلك، فهذا يكون أنه لا يكفر بترك شيء من المباني الأربعة، وأكثر الروايات عنه بخلاف ذلك، والذين لا يكفرون من ترك هذه المباني يجعلونها من الإسلام؛ كالشافعي ومالك، وأبي حنيفة، وغيرهم، فكيف لا يجعلها أحمد من الإسلام؟ ! وقوله في دخولها في الإسلام أقوى من قول غيره، وقد روي عنه أنه جعل حديث سعد معارضًا لحديث عمر، ورجح حديث سعد. قال الحسن بن علي: سألت أحمد بن حنبل عن الإيمان أوكد أو الإسلام؟ قال: جاء حديث عمر هذا، وحديث سعد أحب إلى، كأنه فهم أن حديث عمر يدل على أن الأعمال هي مسمى الإسلام، فيكون مسماه أفضل. وحديث سعد يدل على أن مسمى الإيمان أفضل، ولكن حديث عمر لم يذكر الإسلام إلا

الأعمال الظاهرة فقط، وهذه لا تكون إيمانًا إلا مع الإيمان الذي في القلب بالله وملائكته وكتبه ورسله، فيكون حينئذ بعض الإيمان، فيكون مسمى الإيمان أفضل كما دل عليه حديث سعد، فلا منافاة بين الحديثين. وأما تفريق أحمد بين الإسلام والإيمان، فكان يقوله تارة، وتارة يحكى الخلاف ولا يجزم به. وكان إذا قرن بينهما تارة يقول: الإسلام الكلمة، وتارة لا يقول ذلك، وكذلك التكفير بترك المباني، كان تارة يكفر بها حتى يغضب، وتارة لا يكفر بها. قال الميموني: قلت: يا أبا عبد الله، تفرق بين الإسلام والإيمان؟ قال: نعم. قلت: بأي شيء تحتج؟ قال: عامة الأحاديث تدل على هذا، ثم قال: " لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن "، وقال الله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] . قال: وحماد بن زيد يفرق بين الإسلام والإيمان. قال: وحدثنا أبو سلمة الخزاعي قال: قال مالك وشريك، وذكر قولهم وقول حماد بن زيد: فرق بين الإسلام والإيمان. قال أحمد: قال لي رجل: لو لم يجئنا في الإيمان إلا هذا لكان حسنًا. قلت لأبي عبد الله: فتذهب إلى ظاهر الكتاب مع السنن؟ قال: نعم. قلت: فإذا كانت المرجئة يقولون: إن الإسلام هو القول. قال: هم يصيرون هذا كله واحدًا، ويجعلونه مسلمًا ومؤمنًا شيئًا واحدًا علي إيمان جبريل ومستكمل الإيمان. قلت: فمن هاهنا حجتنا عليهم؟ قال: نعم، فقد ذكر عنه الفرق مطلقًا واحتجاجه بالنصوص. وقال صالح بن أحمد: سئل أبي عن الإسلام والإيمان، قال: قال ابن أبي ذئب: الإسلام: القول، والإيمان: العمل. قيل له: ما تقول أنت؟ قال: الإسلام غير الإيمان، وذكر حديث سعد، وقول النبي صلى الله عليه وسلم. فهو في هذا الحديث لم يختر قول من قال: الإسلام: القول، بل أجاب بأن الإسلام غير الإيمان، كما دل عليه الحديث الصحيح مع القرآن.

وقال حنبل: حدثنا أبو عبد الله بحديث بريدة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " الحديث، قال: وسمعت أبا عبد الله يقول في هذا الحديث: حجة على من قال: الإيمان قول. فمن قال: أنا مؤمن فقد خالف قوله: من المؤمنين والمسلمين. فبين المؤمن من المسلم، ورد على من قال: أنا مؤمن مستكمل الإيمان، وقوله: " وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " وهو يعلم أنه ميت، يشد قول من قال: أنا مؤمن إن شاء الله بالاستثناء في هذا الموضع. وقال أبو الحارث: سألت أبا عبد الله قلت: قوله: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " قال: قد تأولوه، فأما عطاء فقال: يتنحى عنه الإيمان، وقال طاوس: إذا فعل ذلك زال عنه الإيمان. وروي عن الحسن قال: إن رجع راجعه الإيمان، وقد قيل: يخرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرج من الإسلام، وروى هذه المسألة صالح، فإن مسائل أبي الحارث يرويها صالح أيضًا، وصالح سأل أباه عن هذه القصة فقال فيها: هكذا يروي عن أبي جعفر قال: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " قال: يخرج من الإيمان إلى الإسلام، فالإيمان مقصور في الإسلام، فإذا زنى خرج من الإيمان إلى الإسلام. قال الزهري يعني لما روى حديث سعد: " أو مسلم ": فنرى أن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل. قال أحمد: وهو حديث متأول، والله أعلم. فقد ذكر أقوال التابعين ولم يرجح شيئًا، وذلك والله أعلم لأن جميع ما قالوه حق، وهو يوافق على ذلك كله، كما قد ذكر في مواضع أخر أنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام، ونحو ذلك. وأحمد وأمثاله من السلف لا يريدون بلفظ التأويل صرف اللفظ عن ظاهره، بل التأويل عندهم مثل التفسير، وبيان ما

يؤول إليه اللفظ، كقول عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: " سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي " يتأول القرآن، وإلا فما ذكره التابعون لا يخالف ظاهر الحديث بل يوافقه، وقول أحمد يتأوله، أي يفسر معناه، وإن كان ذلك يوافق ظاهره لئلا يظن مبتدع أن معناه: أنه صار كافرًا لا إيمان معه بحال، كما تقوله الخوارج، فإن الحديث لا يدل على هذا، والذي نفى عن هؤلاء الإيمان كان يجعلهم مسلمين لا يجعلهم مؤمنين. قال المروزي: قيل لأبي عبد الله: نقول: نحن المؤمنون؟ فقال: نقول: نحن المسلمون. قلت لأبي عبد الله: نقول: إنا مؤمنون. قال: ولكن نقول: إنا مسلمون، وهذا لأن من أصله الاستثناء في الإيمان؛ لأنه لا يعلم أنه مؤد لجميع ما أمره الله به، فهو مثل قوله: أنا بر، أنا تقي، أنا ولي الله، كما يذكر في موضعه، وهذا لا يمنع ترك الاستثناء إذا أراد: أني مصدق، فإنه يجزم بما في قلبه من التصديق، ولا يجزم بأنه ممتثل لكل ما أمر به، وكما يجزم بأنه يحب الله ورسوله، فإنه يبغض الكفر، ونحو ذلك مما يعلم أنه في قلبه، وكذلك إذا أراد بأنه مؤمن في الظاهر، فلا يمنع أن يجزم بما هو معلوم له، وإنما يكره ما كرهه سائر العلماء من قول المرجئة؛ إذ يقولون: الإيمان شيء متماثل في جميع أهله، مثل كون كل إنسان له رأس، فيقول أحدهم: أنا مؤمن حقًا، وأنا مؤمن عند الله، ونحو ذلك، كما يقول الإنسان: لي رأس حقًا، وأنا لي رأس في علم الله حقًا، فمن جزم به على هذا الوجه، فقد أخرج الأعمال الباطنة والظاهرة عنه، وهذا منكر من القول وزور عند الصحابة والتابعين، ومن اتبعهم من سائر المسلمين، وللناس في مسألة الاستثناء كلام يذكر في موضعه. والمقصود هنا: أن هنا قولين متطرفين؛ قول من يقول: الإسلام مجرد الكلمة، والأعمال الظاهرة ليست داخلة في مسمى

الإسلام، وقول من يقول: مسمى الإسلام والإيمان واحد، وكلاهما قول ضعيف مخالف لحديث جبريل، وسائر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. ولهذا لما نصر محمد بن نصر المروزي القول الثاني، لم يكن معه حجة على صحته، ولكن احتج بما يبطل به القول الأول، فاحتج بقوله في قصة الأعراب: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17] ، قال: فدل ذلك على أن الإسلام هو الإيمان، فيقال: بل يدل على نقيض ذلك؛ لأن القوم لم يقولوا: أسلمنا، بل قالوا: آمنا، والله أمرهم أن يقولوا: أسلمنا، ثم ذكر تسميتهم بالإسلام فقال: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في قولكم: {آمّنَّا} ولو كان الإسلام هو الإيمان لم يحتج أن يقول: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ، فإنهم صادقون في قولهم: {أَسْلَمنا} مع أنهم لم يقولوا، ولكن الله قال: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} أي يمنون عليك ما فعلوه من الإسلام، فالله تعالى سمى فعلهم إسلامًا، وليس في ذلك ما يدل على أنهم سموه إسلامًا، وإنما قالوا: آمنا، ثم أخبر أن المنة تقع بالهداية إلى الإيمان، فأما الإسلام الذي لا إيمان معه، فكان الناس يفعلونه خوفًا من السيف، فلا منة لهم بفعله وإذا لم يمن الله عليهم بالإيمان كان ذلك كإسلام المنافقين فلا يقبله الله منهم، فأما إذا كانوا صادقين في قولهم: آمنا، فالله هو المان عليهم بهذا الإيمان وما يدخل فيه من الإسلام، وهو سبحانه نفي عنهم الإيمان أولاً وهنا علق منة الله به على صدقهم فدل على جواز صدقهم. وقد قيل: إنهم صاروا صادقين بعد ذلك، ويقال: المعلق بشرط لا يستلزم وجود ذلك الشرط، ويقال: لأنه كان معهم إيمان ما. لكن ما هو الإيمان الذي وصفه ثانيًا؟ بل معهم شعبة من الإيمان. قال محمد بن نصر: وقال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية [البينة: 5] ، وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] ، فسمى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة دينًا قيمًا، وسمى الدين إسلامًا، فمن لم يؤد الزكاة فقد ترك من الدين القيم الذي أخبر الله أنه عنده الدين وهو الإسلام بعضًا. قال:

وقد جاء معينا هذه الطائفة التي فرقت بين الإسلام والإيمان على أن الإيمان قول وعمل، وأن الصلاة والزكاة من الإيمان، وقد سماهما الله دينًا، وأخبر أن الدين عنده الإسلام فقد سمى الله الإسلام بما سمى به الإيمان، وسمى الإيمان بما سمي به الإسلام، وبمثل ذلك جاءت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم. فمن زعم أن الإسلام هو الإقرار وأن العمل ليس منه فقد خالف الكتاب والسنة، ولا فرق بينه وبين المرجئة إذ زعمت أن الإيمان إقرار بلا عمل. فيقال: أما قوله: إن الله جعل الصلاة والزكاة من الدين، والدين عنده هو الإسلام، فهذا كلام حسن موافق لحديث جبريل، ورده على من جعل العمل خارجًا من الإسلام كلام حسن، وأما قوله: إن الله سمى الإيمان بما سمى به الإسلام وسمى الإسلام بما سمى به الإيمان فليس كذلك، فإن الله إنما قال: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 91] ولم يقل قط: إن الدين عند الله الإيمان، ولكن هذا الدين من الإيمان، وليس إذا كان منه يكون هو إياه، فإن الإيمان أصله معرفة القلب وتصديقه، وقوله، والعمل تابع لهذا العلم والتصديق ملازم له، ولا يكون العبد مؤمنًا إلا بهما، وأما الإسلام فهو عمل محض مع قول. والعلم والتصديق ليس جزء مسماه، لكن يلزمه جنس التصديق فلا يكون عمل إلا بعلم، لكن لا يستلزم الإيمان المفصل الذي بينه الله ورسوله، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] ، وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] . وسائر النصوص التي تنفي الإيمان عمن لم يتصف بما ذكره، فإن كثيرًا من المسلمين مسلم باطنًا وظاهرًا، ومعه تصديق مجمل، ولم يتصف بهذا الإيمان، والله تعالى قال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] ، وقال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3] ولم يقل: ومن يبتغ غير الإسلام علمًا ومعرفة وتصديقًا وإيمانًا، ولا قال: رضيت لكم الإسلام تصديقًا وعلمًا، فإن

الإسلام من جنس الدين والعمل والطاعة والانقياد والخضوع، فمن ابتغى غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه، والإيمان طمأنينة ويقين، أصله علم وتصديق ومعرفة والدين تابع له، يقال: آمنت بالله وأسلمت لله. قال موسى: {يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} [يونس: 48] . فلو كان مسماهما واحدًا كان هذا تكريرًا، وكذلك قوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35] ، كما قال: والصادقين والصابرين والخاشعين، فالمؤمن متصف بهذا كله، لكن هذه الأسماء لا تطابق الإيمان في العموم والخصوص، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم لك أسلمت وبك آمنت، وعليك توكلت وإليك أنبت، وبك خاصمت وإليك حاكمت " كما ثبت في الصحيحين أنه كان يقول ذلك إذا قام من الليل، وثبت في صحيح مسلم وغيره أنه كان يقول في سجوده: " اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت " وفي الركوع يقول: " لك ركعت، ولك أسلمت، وبك آمنت "، ولما بين النبي صلى الله عليه وسلم خاصة كل منهما قال: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس علي دمائهم وأموالهم "، ومعلوم أن السلامة من ظلم الإنسان غير كونه مأمونًا على الدم والمال، فإن هذا أعلى، والمأمون يسلم الناس من ظلمه وليس من سلموا من ظلمه يكون مأمونًا عندهم. قال محمد بن نصر: فمن زعم أن الإسلام هو الإقرار، وأن العمل ليس منه، فقد خالف الكتاب والسنة، وهذا صحيح؛ فإن النصوص كلها تدل على أن الأعمال من الإسلام، قال: ولا فرق بينه وبين المرجئة؛ إذ زعمت أن الإيمان إقرار بلا عمل. فيقال: بل بينهما فرق، وذلك أن هؤلاء الذين قالوه من أهل السنة كالزهري ومن وافقه يقولون: الأعمال داخلة في الإيمان، والإسلام عندهم جزء من الإيمان والإيمان عندهم أكمل، وهذا موافق للكتاب والسنة. ويقولون:

الناس يتفاضلون في الإيمان وهذا موافق للكتاب والسنة، والمرجئة يقولون: الإيمان بعض الإسلام والإسلام أفضل، ويقولون: إيمان الناس متساو فإيمان الصحابة وأفجر الناس سواء، ويقولون: لا يكون مع أحد بعض الإيمان دون بعض، وهذا مخالف للكتاب والسنة. وقد أجاب أحمد عن هذا السؤال كما قاله في إحدى روايتيه: إن الإسلام هو الكلمة قال الزهري: فإنه تارة يوافق من قال ذلك، وتارة لا يوافقه، بل يذكر ما دل عليه الكتاب والسنة من أن الإسلام غير الإيمان، فلما أجاب بقول الزهري قال له الميموني: قلت: يا أبا عبد الله، تفرق بين الإسلام والإيمان؟ قال: نعم، قلت: بأي شيء تحتج؟ قال: عامة الأحاديث تدل على هذا، ثم قال: " لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ". وقال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] قلت له: فتذهب إلى ظاهر الكتاب مع السنن؟ قال: نعم، قلت: فإذا كانت المرجئة تقول: إن الإسلام هو القول، قال: هم يصيرون هذا كله واحدًا ويجعلونه مسلمًا، ومؤمنًا شيئًا واحدًا على إيمان جبريل، ومستكمل الإيمان، قلت: فمن هاهنا حجتنا عليهم؟ قال: نعم. فقد أجاب أحمد بأنهم يجعلون الفاسق مؤمنًا مستكمل الإيمان على إيمان جبريل. وأما قوله: يجعلونه مسلمًا ومؤمنًا شيئًا واحدًا، فهذا قول من يقول: الدين والإيمان شيء واحد، فالإسلام هو الدين، فيجعلون الإسلام والإيمان شيئًا واحدًا، وهذا القول قول المرجئة فيما يذكره كثير من الأئمة، كالشافعي وأبي عبيد وغيرهما، ومع هؤلاء يناظرون، فالمعروف من كلام المرجئة، الفرق بين لفظ الدين والإيمان، والفرق بين الإسلام والإيمان، ويقولون: الإسلام بعضه إيمان وبعضه أعمال، والأعمال منها فرض ونفل، ولكن كلام السلف كان فيما يظهر لهم ويصل إليهم من كلام أهل البدع كما تجدهم في الجهمية، إما يحكون عنهم أن الله في كل مكان، وهذا قول طائفة منهم كالنجارية، وهو قول عوامهم وعبادهم، وأما جمهور نظارهم من الجهمية، والمعتزلة، والضِّرَارية، وغيرهم،

فإنما يقولون: هو لا داخل العالم ولا خارجه، ولا هو فوق العالم. وكذلك كلامهم في القدرية، يحكون عنهم إنكار العلم والكتابة، وهؤلاء هم القدرية الذين قال ابن عمر فيهم: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، وهم الذين كانوا يقولون: إن الله أمر العباد ونهاهم، وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، ولا من يدخل الجنة ممن يدخل النار حتى فعلوا ذلك، فعلمه بعد ما فعلوه؛ ولهذا قالوا: الأمر أنف، أي: مستأنف، يقال: روض أنف إذا كانت وافرة لم ترع قبل ذلك، يعني: أنه مستأنف العلم بالسعيد والشقي، ويبتدأ ذلك من غير أن يكون قد تقدم بذلك علم ولا كتاب، فلا يكون العمل على ما قد قدر فيحتذى به حذو القدر، بل هو أمر مستأنف مبتدأ، والواحد من الناس إذا أراد أن يعمل عملاً قدر في نفسه ما يريد عمله، ثم عمله كما قدر في نفسه، وربما أظهر ما قدره في الخارج بصورته، ويسمى هذا التقدير الذي في النفس خلقًا، ومنه قول الشاعر. ولأنت تفري ما خلقت وبع ... ض الناس يخلق ثم لا يفرى يقول: إذا قدرت أمرًا أمضيته وأنفذته، بخلاف غيرك فإنه عاجز عن إمضاء ما يقدره، وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] وهو سبحانه يعلم قبل أن يخلق الأشياء كل ما سيكون، وهو يخلق بمشيئته فهو يعلمه ويريده، وعلمه وإرادته قائم بنفسه، وقد يتكلم به ويخبر به كما في قوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85] ، وقال: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه: 129] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171: 173] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [هود: 110] ، وهو سبحانه كتب ما يقدره فيما يكتبه فيه، كما قال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}

[الحج: 70] قال ابن عباس: إن الله خلق الخلق وعلم ما هم عاملون ثم قال لعلمه: كن كتابًا، فكان كتابًا، ثم أنزل تصديق ذلك في قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] ، وقال: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] ، وقال: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] ، وقال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] ، فالملائكة قد علمت ما يفعل بنوا آدم من الفساد وسفك الدماء، فكيف لا يعلمه الله، سواء علموه بإعلام الله، فيكون هو أعلم بما علمهم إياه، كما قاله أكثر المفسرين أو قالوه بالقياس على من كان قبلهم، كما قاله طائفة منهم، أو بغير ذلك، والله أعلم بما سيكون من مخلوقاته الذين لا علم لهم إلا ما علمهم، وما أوحاه إلى أنبيائه وغيرهم مما سيكون هو أعلم به منهم، فإنهم لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. وأيضًا، فإنه قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} قبل أن يأمرهم بالسجود لآدم، وقبل أن يمتنع إبليس، وقبل أن ينهى آدم عن أكله من الشجرة، وقبل أن يأكل منها ويكون أكله سبب إهباطه إلى الأرض، فقد علم الله سبحانه أنه سيستخلفه مع أمره له ولإبليس بما يعلم أنهما يخالفانه فيه، ويكون الخلاف سبب أمره لهما بالإهباط إلى الأرض والاستخلاف في الأرض. وهذا يبين أنه علم ما سيكون منهما من مخالفة الأمر، فإن إبليس امتنع من السجود لآدم، وأبغضه فصار عدوه، فوسوس له حتى يأكل من الشجرة فيذنب آدم أيضًا فإنه قد تألى أنه ليغوينهم أجمعين، وقد سأل الإنظار إلى يوم يبعثون فهو حريص على إغواء آدم وذريته بكل ما أمكنه، لكن آدم تلقى من ربه كلمات فتاب عليه واجتباه ربه وهداه بتوبته، فصار لبني آدم سبيل إلى نجاتهم وسعادتهم

مما يوقعهم الشيطان فيه بالإغواء، وهو التوبة، قال تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 73] وقدر الله قد أحاط بهذا كله قبل أن يكون، وإبليس أصر على الذنب، واحتج بالقدر، وسأل الإنظار ليهلك غيره، وآدم تاب وأناب، وقال هو وزوجته: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] ، فتاب الله عليه فاجتباه وهداه، وأنزله إلى الأرض ليعمل فيها بطاعته، فيرفع الله بذلك درجته، ويكون دخوله الجنة بعد هذا أكمل مما كان، فمن أذنب من أولاد آدم فاقتدى بأبيه آدم في التوبة كان سعيدًا، وإذا تاب وآمن وعمل صالحًا بدل الله سيئاته حسنات، وكان بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة، كسائر أولياء الله المتقين، ومن اتبع منهم إبليس فأصر على الذنب، واحتج بالقدر، وأراد أن يغوى غيره كان من الذين قال فيهم: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85] . والمقصود هنا ذكر القدر، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء "، وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصَيْن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذِّكْرِ كل شيء، ثم خلق السموات والأرض "، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه أخبر: " أن الله قد علم أهل الجنة من أهل النار، وما يعمله العباد قبل أن يعملوه ". وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود: " إن الله يبعث ملكًا بعد خلق الجسد وقبل نفخ الروح فيه، فيكتب أجله ورزقه وعمله، وشقي أو سعيد ". وهذه الأحاديث تأتي إن شاء الله في مواضعها، فهذا القدر هو الذي أنكره القدرية الذين كانوا في أواخر زمن الصحابة. وقد روي أن أول من ابتدعه بالعراق رجل من أهل البصرة يقال له: سيسويه من أبناء المجوس، وتلقاه عنه مَعْبَد الجُهنِيّ، ويقال: أول ما حدث في الحجاز لما احترقت الكعبة، فقال رجل: احترقت بقدر الله تعالى فقال آخر: لم يقدر الله هذا. ولم يكن على عهد

الخلفاء الراشدين أحد ينكر القدر، فلما ابتدع هؤلاء التكذيب بالقدر رده عليهم من بقى من الصحابة، كعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وواثِلَة بن الأسْقَع، وكان أكثره بالبصرة والشام، وقليل منه بالحجاز، فأكثر كلام السلف في ذم هؤلاء القدرية؛ ولهذا قال وَكِيع بن الجرَّاح: القدرية يقولون: الأمر مستقبل، وأن الله لم يقدر الكتابة والأعمال، والمرجئة يقولون: القول يجزئ من العمل، والجهمية يقولون: المعرفة تجزئ من القول والعمل. قال وكيع: وهو كله كفر ورواه ابن. . . ولكن لما اشتهر الكلام في القدر، ودخل فيه كثير من أهل النظر والعباد، صار جمهور القدرية يقرون بتقدم العلم، وإنما ينكرون عموم المشيئة والخلق. وعن عمرو بن عبيد في إنكار الكتاب المتقدم روايتان. وقول أولئك كفرهم عليه مالك، والشافعي، وأحمد وغيرهم. وأما هؤلاء فهم مبتدعون ضالون، لكنهم ليسوا بمنزلة أولئك، وفي هؤلاء خلق كثير من العلماء والعباد كتب عنهم العلم. وأخرج البخاري ومسلم لجماعة منهم، لكن من كان داعية إليه لم يخرجوا له. وهذا مذهب فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره: أن من كان داعية إلى بدعة فإنه يستحق العقوبة لدفع ضرره عن الناس، وإن كان في الباطن مجتهدًا، وأقل عقوبته أن يهجر، فلا يكون له مرتبة في الدين لا يؤخذ عنه العلم ولا يستقضى، ولا تقبل شهادته، ونحو ذلك. ومذهب مالك قريب من هذا؛ ولهذا لم يخرج أهل الصحيح لمن كان داعية، ولكن رووا هم وسائر أهل العلم عن كثير ممن كان يرى في الباطن رأى القدرية، والمرجئة والخوارج، والشيعة. وقال أحمد: لو تركنا الرواية عن القدرية لتركنا أكثر أهل البصرة، وهذا لأن مسألة خلق أفعال العباد، وإرادة الكائنات مسألة مشكلة. وكما أن القدرية من المعتزلة وغيرهم أخطؤوا فيها، فقد أخطأ فيها كثير ممن رد عليهم أو أكثرهم، فإنهم سلكوا في الرد عليهم مسلك جَهْمِ بن صَفْوَان، وأتباعه، فنفوا حكمة الله في خلقه وأمره، ونفوا رحمته بعباده، ونفوا ما جعله من الأسباب خلقًا وأمرًا،

وجحدوا من الحقائق الموجودة في مخلوقاته وشرائعه ما صار ذلك سببًا لنفور أكثر العقلاء الذين فهموا قولهم عما يظنونه السنة، إذ كانوا يزعمون أن قول أهل السنة في القدر هو القول الذي ابتدعه جهم، وهذا لبسطه موضع آخر. وإنما المقصود هنا أن السلف في ردهم على المرجئة والجهمية والقدرية وغيرهم، يردون من أقوالهم ما يبلغهم عنهم وما سمعوه من بعضهم. وقد يكون ذلك قول طائفة منهم، وقد يكون نقلاً مغيرًا. فلهذا ردوا على المرجئة الذين يجعلون الدين والإيمان واحدًا، ويقولون هو القول. وأيضًا، فلم يكن حدث في زمنهم من المرجئة من يقول: الإيمان هو مجرد القول بلا تصديق ولا معرفةفي القلب. فإن هذا إنما أحدثه ابن كُرَّام، وهذا هو الذي انفرد به ابن كرام. وأما سائر ما قاله، فأقوال قيلت قبله، ولهذا لم يذكر الأشعري، ولا غيره ممن يحكى مقالات الناس عنه قولاً انفرد به إلا هذا. وأما سائر أقواله فيحكونها عن ناس قبله ولا يذكرونه، ولم يكن ابن كرام في زمن أحمد بن حنبل، وغيره من الأئمة؛ فلهذا يحكون إجماع الناس على خلاف هذا القول، كما ذكر ذلك أبو عبد الله أحمد بن حنبل وأبو ثور وغيرهما. وكان قول المرجئة قبله: إن الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب، وقول جهم: إنه تصديق القلب، فلما قال ابن كرام: إنه مجرد قول اللسان صارت أقوال المرجئة ثلاثة، لكن أحمد كان أعلم بمقالات الناس من غيره، فكان يعرف قول الجهمية في الإيمان، وأما أبو ثور، فلم يكن يعرفه، ولا يعرف إلا مرجئة الفقهاء، فلهذا حكى الإجماع على خلاف قول الجهمية والكرامية. قال أبو ثور في رده على المرجئة كما روى ذلك أبو القاسم الطبري اللالكائي وغيره عن إدريس بن عبد الكريم قال: سأل رجل من أهل خُرَاسَان أبا ثور عن الإيمان وما هو، أيزيد وينقص؟ وقول هو أو قول وعمل؟ أو تصديق وعمل؟ فأجابه أبو ثور بهذا فقال: سألت رحمك الله وعفا عنا وعنك عن الإيمان ما هو، يزيد وينقص؟ وقول هو أو قول وعمل أو تصديق وعمل؟ فأخبرك بقول الطوائف واختلافهم.

اعلم يرحمنا الله وإياك أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، وذلك أنه ليس بين أهل العلم خلاف في رجل لو قال: أشهد أن الله عز وجل واحد، وأن ما جاءت به الرسل حق، وأقر بجميع الشرائع، ثم قال: ما عقد قلبي على شيء من هذا، ولا أصدق به أنه ليس بمسلم، ولو قال: المسيح هو الله وجحد أمر الإسلام، ثم قال: لم يعقد قلبي على شيء من ذلك أنه كافر بإظهار ذلك وليس بمؤمن، فلما لم يكن بالإقرار إذا لم يكن معه التصديق مؤمنًا، ولا بالتصديق إذا لم يكن معه الإقرار مؤمنًا، حتى يكون مصدقًا بقلبه مقرًا بلسانه، فإذا كان تصديقًا بالقلب وإقرارًا باللسان، كان عندهم مؤمنًا، وعند بعضهم لا يكون مؤمنًا حتى يكون مع التصديق عمل، فيكون بهذه الأشياء إذا اجتمعت مؤمنًا، فلما نفوا أن يكون الإيمان بشيء واحد، وقالوا: يكون بشيئين في قول بعضهم، وثلاثة أشياء في قول غيرهم. لم يكن مؤمنًا إلا بما أجمعوا عليه من هذه الثلاثة الأشياء، وذلك أنه إذا جاء بهذه الثلاثة الأشياء، فكلهم يشهد أنه مؤمن، فقلنا بما أجمعوا عليه من التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح. فأما الطائفة التي ذهبت إلى أن العمل ليس من الإيمان، فيقال لهم: ماذا أراد الله من العباد إذ قال لهم: أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، الإقرار بذلك أو الإقرار والعمل؟ فإن قالت: إن الله أراد الإقرار ولم يرد العمل، فقد كفرت عند أهل العلم من قال: إن الله لم يرد من العباد أن يصلوا ولا يؤتوا الزكاة؟ وإن قالت: أراد منهم الإقرار قيل: فإذا كان أراد منهم الأمرين جميعًا لم زعمتم أنه يكون مؤمنًا بأحدهما دون الآخر، وقد أرادهما جميعًا؟ أرأيتم لو أن رجلاً قال: أعمل جميع ما أمر به الله ولا أقر به، أيكون مؤمنًا؟ فإن قالوا: لا. قيل لهم: فإن قال: أقر بجميع ما أمر الله به، ولا أعمل به، أيكون مؤمنًا؟ فإن قالوا: نعم. قيل: ما الفرق؟ فقد زعمتم أن الله أراد الأمرين جميعًا، فإن جاز أن يكون بأحدهما مؤمنًا إذا ترك الآخر، جاز أن يكون بالآخر إذا عمل به ولم يقر مؤمنًا، لا فرق بين ذلك. فإن احتج فقال: لو أن رجلاً أسلم فأقر بجميع ما

جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أيكون مؤمنًا بهذا الإقرار قبل أن يجيء وقت عمل؟ قيل له: إنما يطلق له الاسم بتصديقه أن العمل عليه بقوله أن يعمله في وقته إذا جاء، وليس عليه في هذا الوقت الإقرار بجميع ما يكون به مؤمنًا، ولو قال: أقر ولا أعمل لم يطلق عليه اسم الإيمان. قلت يعني الإمام أبو ثور رحمه الله: إنه لا يكون مؤمنًا إلا إذا التزم بالعمل مع الإقرار، وإلا فلو أقر ولم يلتزم العمل لم يكن مؤمنًا. وهذا الاحتجاج الذي ذكره أبو ثور هو دليل على وجوب الأمرين: الإقرار والعمل، وهو يدل على أن كلا منهما من الدين، وأنه لا يكون مطيعًا لله، ولا مستحقًا للثواب ولا ممدوحًا عند الله ورسوله إلا بالأمرين جميعًا، وهو حجة على من يجعل الأعمال خارجة عن الدين والإيمان جميعًا. وأما من يقول: إنها من الدين، ويقول: إن الفاسق مؤمن حيث أخذ ببعض الدين وهو الإيمان عندهم، وترك بعضه؛ فهذا يحتج عليه بشيء آخر، لكن أبو ثور وغيره من علماء السنة عامة احتجاجهم مع هذا الصنف، وأحمد كان أوسع علمًا بالأقوال والحجج من أبي ثور. ولهذا إنما حكى الإجماع على خلاف قول الكرامية، ثم إنه تورع في النطق على عادته، ولم يجزم بنفي الخلاف؛ لكن قال: لا أحسب أحدًا يقول هذا، وهذا في رسالته إلى أبي عبد الرحيم الجوزجاني، ذكرها الخلال في كتاب [السنة] ، وهو أجمع كتاب يذكر فيه أقوال أحمد في مسائل الأصول الدينية، وإن كان له أقوال زائدة على ما فيه، كما أن كتابه في العلم أجمع كتاب يذكر فيه أقوال أحمد في الأصول الفقهية. قال المروزي: رأيت أبا عبد الرحيم الجوزجاني عند أبي عبد الله، وقد كان ذكره أبو عبد الله فقال: كان أبوه مرجئًا، أو قال: صاحب رأي. وأما أبو عبد الرحيم فأثنى عليه، وقد كان كتب إلى أبي عبد الله من خراسان يسأله عن الإيمان وذكر الرسالة من طريقين عن أبي عبد الرحيم، وجواب أحمد: بسم الله الرحمن الرحيم. أحسن الله إلينا وإليك في الأمور كلها، وسلمنا وإياك من كل شر برحمته، أتاني كتابك تذكرما تذكر من احتجاج من احتج من

المرجئة. واعلم رحمك الله أن الخصومة في الدين ليست من طريق أهل السنة، وأن تأويل من تأول القرآن بلا سنة تدل على معنى ما أراد الله منه، أو أثر عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرف ذلك بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أوعن أصحابه، فهم شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وشهدوا تنزيله، وما قصه الله له في القرآن، وماعني به، وما أراد به أخاص هو أم عام، فأما من تأوله على ظاهره بلا دلالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة، فهذا تأويل أهل البدع؛ لأن الآية قد تكون خاصة ويكون حكمها حكمًا عامًا، ويكون ظاهرهاعلى العموم، وإنما قصدت لشيء بعينه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعبر عن كتاب الله وما أراد، وأصحابه أعلم بذلك منا، لمشاهدتهم الأمر وما أريد بذلك، فقد تكون الآية خاصة، أي معناها مثل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11] وظاهرها على العموم، أي من وقع عليه اسم ولد فله ما فرض الله، فجاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يرث مسلم كافرًا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس بالثبت إلا أنه عن أصحابه أنهم لم يورثوا قاتلاً، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعبر عن الكتاب أن الآية إنما قصدت للمسلم لا للكافر، ومن حملها على ظاهرها لزمه أن يورث من وقع عليه اسم الولد كافرًا كان أو قاتلا، وكذلك أحكام الوارث من الأبوين وغير ذلك مع آي كثير يطول بها الكتاب، وإنما استعملت الأمة السنة من النبي صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه، إلا من دفع ذلك من أهل البدع والخوارج وما يشبههم، فقد رأيت إلى ما خرجوا. قلت: لفظ المجمل والمطلق والعام كان في اصطلاح الأئمة، كالشافعي وأحمد، وأبي عبيد وإسحاق وغيرهم سواء، لا يريدون بالمجمل ما لا يفهم منه، كما فسره به بعض المتأخرين وأخطأ في ذلك، بل المجمل ما لا يكفي وحده في العمل به وإن كان ظاهره حقًا، كما في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103] ، فهذه الآية ظاهرها ومعناها مفهوم،

ليست مما لا يفهم المراد به، بل نفس ما دلت عليه لا يكفي وحده في العمل فإن المأمور به صدقة تكون مطهرة مزكية لهم، وهذا إنما يعرف ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال أحمد يحذر المتكلم في الفقه هذين الأصلين: المجمل والقياس. وقال: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس، يريد بذلك ألا يحكم بما يدل عليه العام والمطلق قبل النظر فيما يخصه ويقيده، ولا يعمل بالقياس قبل النظر في دلالة النصوص هل تدفعه، فإن أكثر خطأ الناس تمسكهم بما يظنونه من دلالة اللفظ والقياس، فالأمور الظنية لا يعمل بها حتى يبحث عن المعارض بحثًا يطمئن القلب إليه، وإلا أخطأ من لم يفعل ذلك. وهذا هو الواقع في المتمسكين بالظواهر والأقيسة؛ ولهذا جعل الاحتجاج بالظواهر مع الإعراض عن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه طريق أهل البدع، وله في ذلك مصنف كبير. وكذلك التمسك بالأقيسة مع الإعراض عن النصوص والآثار طريق أهل البدع؛ ولهذا كان كل قول ابتدعه هؤلاء قولاً فاسدًا، وإنما الصواب من أقوالهم ما وافقوا فيه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} [النساء: 11] سماه عامًا وهو مطلق في الأحوال، يعمها على طريق البدل، كما يعم قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] جميع الرقاب، لا يعمها كما يعم لفظ الولد للأولاد، ومن أخذ بهذا لم يأخذ بما دل عليه ظاهر لفظ القرآن، بل أخذ بما ظهر له مما سكت عنه القرآن، فكان الظهور لسكوت القرآن عنه، لا لدلالة القرآن على أنه ظاهر، فكانوا متمسكين بظاهر من القول لا بظاهر القول، وعمدتهم عدم العلم بالنصوص التي فيها علم بما قيد، وإلا فكل ما بينه القرآن وأظهره فهو حق، بخلاف ما يظهر للإنسان لمعنى آخر غير نفس القرآن يسمى ظاهر القرآن. كاستدلالات أهل البدع من المرجئة والجهمية والخوارج والشيعة. قال أحمد: وأما من زعم أن الإيمان الإقرار، فما يقول في المعرفة؟ هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟ وهل يحتاج أن يكون مصدقًا بما عرف؟ فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فلقد زعم أنه من شيئين، وإن زعم أنه يحتاج أن

يكون مقرًا ومصدقًا بما عرف فهو من ثلاثة أشياء، وإن جحد وقال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق، فقد قال قولاً عظيمًا، ولا أحسب أحدًا يدفع المعرفة والتصديق وكذلك العمل مع هذه الأشياء. قلت: أحمد وأبو ثور وغيرهما من الأئمة كانوا قد عرفوا أصل قول المرجئة، وهو: أن الإيمان لا يذهب بعضه ويبقى بعضه، فلا يكون إلا شيئًا واحدًا فلا يكون ذا عدد؛ اثنين أو ثلاثة، فإنه إذا كان له عدد، أمكن ذهاب بعضه وبقاء بعضه، بل لا يكون إلا شيئًا واحدًا، ولهذا قالت الجهمية: إنه شيء واحد في القلب. وقالت الكرامية: إنه شيء واحد على اللسان، كل ذلك فرارًا من تبعض الإيمان وتعدده، فلهذا صاروا يناظرونهم بما يدل على أنه ليس شيئًا واحدًا، كما قلتم، فأبو ثور احتج بما اجتمع عليه الفقهاء المرجئة، من أنه تصديق وعمل، ولم يكن بلغه قول متكلميهم وجهميتهم، أو لم يعد خلافهم خلافًا، وأحمد ذكر أنه لابد من المعرفة والتصديق مع الإقرار، وقال: إن من جحد المعرفة والتصديق فقد قال قولاً عظيمًا، فإن فساد هذا القول معلوم من دين الإسلام؛ ولهذا لم يذهب إليه أحد قبل الكرامية، مع أن الكرامية لا تنكر وجوب المعرفة والتصديق، ولكن تقول: لا يدخل في اسم الإيمان حذرًا من تبعضه وتعدده؛ لأنهم رأوا أنه لا يمكن أن يذهب بعضه ويبقى بعضه، بل ذلك يقتضي أن يجتمع في القلب إيمان وكبر، واعتقدوا الإجماع على نفي ذلك، كما ذكر هذا الإجماع الأشعري وغيره. وهذه الشبهة التي أوقعتهم مع علم كثير منهم وعبادته وحسن إسلامه وإيمانه؛ ولهذا دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين؛ ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحدًا من مرجئة الفقهاء بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا من بدع العقائد، فإن كثيرًا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببًا لخطأ عظيم

في العقائد والأعمال، فلهذا عظم القول في ذم الإرجاء، حتى قال إبراهيم النَّخَعِيّ: لفتنتهم يعني المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة. وقال الزهري: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء، وقال الأوزاعي: كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان: ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء، وقال شريك القاضي وذكر المرجئة فقال: هم أخبث قوم، حسبك بالرافضة خبثًا، ولكن المرجئة يكذبون على الله. وقال سفيان الثوري: تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابِرِيّ وقال قتادة: إنما حدث الإرجاء بعد فتنة فرقة ابن الأشعث. وسئل مَيْمُون بن مِهْرَان عن كلام المرجئة، فقال: أنا أكبر من ذلك، وقال سعيد بن جبير لذر الهمداني: ألا تستحي من رأى أنت أكبر منه؟ ! وقال أيوب السِّخْتِيَاني: أنا أكبر من دين المرجئة، إن أول من تكلم في الإرجاء رجل من أهل المدينة من بني هاشم يقال له: الحسن. وقال زاذان: أتينا الحسن بن محمد فقلنا: ما هذا الكتاب الذي وضعت؟ وكان هو الذي أخرج كتاب المرجئة، فقال لي: يا أبا عمر، لوددت أني كنت مت قبل أن أخرج هذا الكتاب أو أضع هذا الكتاب، فإن الخطأ في اسم الإيمان ليس كالخطأ في اسم محدث ولا كالخطأ في غيره من الأسماء، إذ كانت أحكام الدنيا والآخرة متعلقة باسم الإيمان والإسلام والكفر والنفاق. وأحمد رضي الله عنه فرق بين المعرفة التي في القلب وبين التصديق الذي في القلب، فإن تصديق اللسان هو الإقرار، وقد ذكر ثلاثة أشياء، وهذا يحتمل شيئين: يحتمل أن يفرق بين تصديق القلب ومعرفته، وهذا قول ابن كلاب والقلانسي، والأشعري وأصحابه يفرقون بين معرفة القلب وبين تصديق القلب، فإن تصديق القلب قوله. وقول القلب عندهم ليس هو العلم، بل نوعًا آخر؛ ولهذا قال أحمد: هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟ وهل يحتاج إلى أن

يكون مصدقا بما عرف؟ فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد زعم أنه من شيئين، وإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقرًا ومصدقًا بما عرف فهو من ثلاثة أشياء، فإن جحد وقال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق، فقد أتى عظيمًا ولا أحسب امرءًا يدفع المعرفة والتصديق. والذين قالوا: الإيمان هو الإقرار. فالإقرار باللسان يتضمن التصديق باللسان. والمرجئة لم تختلف أن الإقرار باللسان فيه التصديق، فعلم أنه أراد تصديق القلب ومعرفته مع الإقرار باللسان، إلا أن يقال: أراد تصديق القلب واللسان جميعًا مع المعرفة والإقرار، ومراده بالإقرار الالتزام لا التصديق، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] ، فالميثاق المأخوذ على أنهم يؤمنون به وينصرونه، وقد أمروا بهذا، وليس هذا الإقرار تصديقًا، فإن الله تعالى لم يخبرهم بخبر، بل أوجب عليهم إذا جاءهم ذلك الرسول أن يؤمنوا به وينصروه. فصدقوا بهذا الإقرار والتزموه، فهذا هو إقرارهم. والإنسان قد يقر للرسول، بمعنى: أنه يلتزم ما يأمر به مع غير معرفة، ومن غير تصديق له بأنه رسول الله، لكن لم يقل أحد من المرجئة: إن هذا الإقرار يكون إيمانًا، بل لابد عندهم من الإقرار الخبري وهو أنه يقر له بأنه رسول الله كما يقر المقر بما يقر به من الحقوق، ولفظ الإقرار يتناول الالتزام والتصديق، ولابد منهما، وقد يراد بالإقرار مجرد التصديق بدون التزام الطاعة، والمرجئة تارة يجعلون هذا هو الإيمان وتارة يجعلون الإيمان التصديق والالتزام معًا، هذا هو الإقرار الذي يقوله فقهاء المرجئة: إنه إيمان، وإلا لو قال: أنا أطيعه ولا أصدق أنه رسول الله، أو أصدقه ولا ألتزم طاعته، لم يكن مسلمًا ولا مؤمنًا عندهم. وأحمد قال: لابد مع هذا الإقرار أن يكون مصدقًا، وأن يكون عارفًا، وأن يكون مصدقًا بما عرف. وفي رواية أخرى: مصدقًا بما أقر، وهذا يقتضي أنه

لابد من تصديق باطن، ويحتمل أن يكون لفظ التصديق عنده يتضمن القول والعمل جميعًا، كما قد ذكرنا شواهده أنه يقال: صدق بالقول والعمل. فيكون تصديق القلب عنده يتضمن أنه مع معرفة قلبه أنه رسول الله قد خضع له وانقاد، فصدقه بقول قلبه وعمل قلبه محبة وتعظيمًا، وإلا فمجرد معرفة قلبه أنه رسول الله مع الإعراض عن الانقياد له ولما جاء به إما حسدًا وإما كبرًا، وإما لمحبة دينه الذي يخالفه وإما لغير ذلك، فلا يكون إيمانًا، ولابد في الإيمان من علم القلب وعمله، فأراد أحمد بالتصديق أنه مع المعرفة به صار القلب مصدقًا له، تابعًا له، محبا له، معظمًا له، فإن هذا لابد منه، ومن دفع هذا عن أن يكون من الإيمان، فهو من جنس من دفع المعرفة من أن تكون من الإيمان، وهذا أشبه بأنيحمل عليه كلام أحمد؛ لأن وجوب انقياد القلب مع معرفته ظاهر ثابت بدلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، بل ذلك معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، ومن نازع من الجهمية في أن انقياد القلب من الإيمان فهو كمن نازع من الكرامية في أن معرفة القلب من الإيمان فكان حمل كلام أحمد على هذا هو المناسب لكلامه في هذا المقام. وأيضًا، فإن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالي عن الانقياد الذي يجعل قول القلب أمر دقيق، وأكثر العقلاء ينكرونه، وبتقدير صحته لا يجب على كل أحد أن يوجب شيئين لا يتصور الفرق بينهما، وأكثر الناس لايتصورون الفرق بين معرفة القلب وتصديقه، ويقولون: إن ما قاله ابن كلاب، والأشعري من الفرق، كلام باطل لا حقيقة له، وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق، وعمدتهم من الحجة إنما هو خبر الكاذب، قالوا: ففي قلبه خبر بخلاف علمه، فدل على الفرق. فقال لهم الناس: ذاك بتقدير خبر وعلم ليس هو علمًا حقيقيًا ولا خبرًا حقيقيًا، ولما أثبتوه من قول القلب المخالف للعلم والإرادة، إنما يعود إلى تقدير علوم وإرادات لا إلى جنس آخر يخالفها. ولهذا قالوا: إن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بقلبه خبر بخلاف علمه، وإنما يمكنه أن يقول ذلك بلسانه، وأما أنه يقوم بقلبه خبر بخلاف ما يعلمه، فهذا

غير ممكن، وهذا مما استدلوا به على أن الرب تعالى لا يتصور قيام الكذببذاته؛ لأنه بكل شيء عليم، ويمتنع قيام معنى يضاد العلم بذات العالم، والخبر النفساني الكاذب يضاد العلم. فيقال لهم: الخبر النفساني لو كان خلافًا للعلم لجاز وجود العلم مع ضده كما يقولون مثل ذلك في مواضع كثيرة، وهي من أقوى الحجج التي يحتج بها القاضي أبو بكر وموافقوه في مسألة العقل وغيرها، كالقاضي أبي يعلى، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي بن شاذان، وأبي الطيب، وأبي الوليد الباجي، وأبي الخطاب، وابن عَقِيل وغيرهم، فيقولون: العقل نوع من العلم، فإنه ليس بضد له، فإن لم يكن نوعًا منه كان خلافًا له، ولو كان خلافًا لجاز وجوده مع ضد العقل، وهذه الحجة وإن كانت ضعيفة كما ضعفها الجمهور، وأبو المعالي الجويني ممن ضعفها فإن ما كان مستلزمًا لغيره لم يكن ضدا له، إذ قد اجتمعا، وليس هو من نوعه، بل هو خلاف له على هذا الاصطلاح الذي يقسمون فيه كل اثنين إلى أن يكونا مثلين، أو خلافين أو ضدين، فالملزوم كالإرادة مع العلم أو كالعلم مع الحياة، ونحو ذلك ليس ضدًا ولا مثلاً، بل هو خلاف، ومع هذا فلا يجوز وجوده مع ضد اللازم، فإن ضد اللازم ينافيه، ووجود الملزوم بدون اللازم محال، كوجود الإرادة بدون العلم، والعلم بدون الحياة، فهذان خلافان عندهم، ولا يجوز وجود أحدهما مع ضد الآخر. كذلك العلم هو مستلزم للعقل، فكل عالم عاقل، والعقل شرط في العلم، فليس مثلاً له ولا ضدًا ولا نوعًا منه، ومع هذا لا يجوز وجوده مع ضد العقل، لكن هذه الحجة تقال لهم في العلم مع كلام النفس الذي هو الخبر، فإنه ليس ضدًا ولا مثلاً، بل خلافًا، فيجوز وجود العلم مع ضد الخبر الصادق وهو الكاذب، فبطلت تلك الحجة على امتناع الكذب النفساني من العالم، وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه عسر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صادق وبين تصديق قلبه تصديقًا مجردًا عن انقياد وغيره من أعمال القلب بأنه صادق.

ثم احتج الإمام أحمد على أن الأعمال من الإيمان بحجج كثيرة، فقال: وقد سأل وفد عبد القيس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا خمسًا من المغنم "، فجعل ذلك كله من الإيمان. قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الحياء شعبة من الإيمان "، وقال: " أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلُقًا "، وقال: " إن البَذَاذَة من الإيمان ". وقال: " الإيمان بضع وستون شعبة، فأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأرفعها قول لا إله إلا الله " مع أشياء كثيرة، منها: " أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان "، وما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة المنافق: " ثلاث من كن فيه فهو منافق " مع حجج كثيرة. وما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في تارك الصلاة وعن أصحابه من بعده، ثم ما وصف الله تعالى في كتابه من زيادة الإيمان في غير موضع، مثل قوله: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] ، وقال: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31] ، وقال: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] ، وقال تعالى: {فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124] ، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي

سبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] ، وقال تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] ، وقال تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] ، وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] . قال أحمد: ويلزمه أن يقول: هو مؤمن بإقراره، وإن أقر بالزكاة في الجملة ولم يجد في كل مائتي درهم خمسة، أنه مؤمن، فيلزمه أن يقول: إذا أقر ثم شد الزُّنَّار في وسطه وصلى للصليب وأتى الكنائس والبيعَ وعمل الكبائر كلها إلا أنه في ذلك مقر بالله؛ فيلزمه أن يكون عنده مؤمنًا، وهذه الأشياء من أشنع ما يلزمهم. قلت: هذا الذي ذكره الإمام أحمد من أحسن ما احتج الناس به عليهم، جمع في ذلك جملاً يقول غيره بعضها، وهذا الإلزام لا محيد لهم عنه. ولهذا لما عرف متكلمهم مثل جَهْم ومن وافقه أنه لازم التزموه، وقالوا: لو فعل ما فعل من الأفعال الظاهرة لم يكن بذلك كافرًا في الباطن، لكن يكون دليلاً على الكفر في أحكام الدنيا، فإذا احتج عليهم بنصوص تقتضي أنه يكون كافرًا في الآخرة. قالوا: فهذه النصوص تدل على أنه في الباطن ليس معه من معرفة الله شيء، فإنها عندهم شيء واحد، فخالفوا صريح المعقول وصريح الشرع. وهذا القول مع فساده عقلاً وشرعًا، ومع كونه عند التحقيق لا يثبت إيمانًا، فإنهم جعلوا الإيمان شيئًا واحدًا لا حقيقة له. كما قالت الجهمية ومن وافقهم مثل ذلك في وحدة الرب: إنه ذات بلا صفات، وقالوا بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، وما يقوله ابن كلاب من وحدة الكلام وغيره من الصفات. فقولهم في الرب وصفاته وكلامه والإيمان به يرجع إلى تعطيل محض، وهذا قد وقع فيه طوائف كثيرة من المتأخرين المنتسبين إلى السنة والفقه والحديث المتبعين للأئمة الأربعة، المتعصبين للجهمية والمعتزلة بل وللمرجئة أيضًا، لكن لعدم معرفتهم بالحقائق التي نشأت منها البدع يجمعون بين الضدين، ولكن من

رحمة الله بعباده المسلمين أن الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدق، مثل الأئمة الأربعة وغيرهم؛ كمالك، والثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وكالشافعي وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، كانوا ينكرون على أهل الكلام من الجهمية قولهم في القرآن والإيمان وصفات الرب، وكانوا متفقين على ما كان عليه السلف من أن الله يرى في الآخرة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الإيمان لابد فيه من تصديق القلب واللسان، فلو شتم الله ورسوله كان كافرًا باطنًا وظاهرًا عندهم كلهم، ومن كان موافقًا لقول جهم في الإيمان بسبب انتصار أبي الحسن لقوله في الإيمان، يبقى تارة يقول بقول السلف والأئمة، وتارة يقول بقول المتكلمين الموافقين لجهم، حتى في مسألة سب الله ورسوله رأيت طائفة من الحنبليين، والشافعيين والمالكيين، إذا تكلموا بكلام الأئمة قالوا: إن هذا كفر باطنًا وظاهرًا. وإذا تكلموا بكلام أولئك قالوا: هذا كفر في الظاهر، وهو في الباطن يجوز أن يكون مؤمنًا تام الإيمان، فإن الإيمان عندهم لا يتبعض، ولهذا لما عرف القاضي عياض هذا من قول بعض أصحابه أنكره، ونصر قول مالك وأهل السنة، وأحسن في ذلك. وقد ذكرت بعض ما يتعلق بهذا في كتاب [الصارم المسلول على شاتم الرسول] ، وكذلك تجدهم في مسائل الإيمان يذكرون أقوال الأئمة والسلف، ويبحثون بحثًا يناسب قول الجهمية؛ لأن البحث أخذوه من كتب أهل الكلام الذين نصروا قول جهم في مسائل الإيمان. والرازي لما صنف [مناقب الشافعي] ذكر قوله في الإيمان. وقول الشافعي قول الصحابة والتابعين، وقد ذكر الشافعي أنه إجماع من الصحابة والتابعين. ومن لقيه استشكل قول الشافعي جدًا؛ لأنه كان قد انعقد في نفسه شبهة أهل البدع في الإيمان؛ من الخوارج والمعتزلة والجهمية والكراميةوسائر المرجئة،

وهو أن الشيء المركب إذا زال بعض أجزائه لزم زواله كله، لكن هو لم يذكر إلا ظاهر شبهتهم. والجواب عما ذكروه هو سهل، فإنه يسلم له أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت، لكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء. والشافعي مع الصحابة والتابعين وسائر السلف يقولون: إن الذنب يقدح في كمال الإيمان، ولهذا نفى الشارع الإيمان عن هؤلاء، فذلك المجموع الذي هو الإيمان لم يبق مجموعًا مع الذنوب، لكن يقولون بقى بعضه؛ إما أصله وإما أكثره وإما غير ذلك، فيعود الكلام إلى أنه يذهب بعضه ويبقى بعضه. ولهذا كانت المرجئة تنفر من لفظ النقص أعظم من نفورها من لفظ الزيادة؛ لأنه إذا نقص لزم ذهابه كله عندهم إن كان متبعضًا متعددًا عند من يقول بذلك، وهم الخوارج والمعتزلة. وأما الجهمية فهو واحد عندهم لا يقبل التعدد، فيثبتون واحدًا لا حقيقة له، كما قالوا مثل ذلك في وحدانية الرب ووحدانية صفاته عند من أثبتها منهم. ومن العجب أن الأصل الذي أوقعهم في هذا، اعتقادهم أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الإيمان وبعض الكفر، أو ما هو إيمان وما هو كفر، واعتقدوا أن هذا متفق عليه بين المسلمين كما ذكر ذلك أبو الحسن وغيره، فلأجل اعتقادهم هذا الإجماع وقعوا فيما هو مخالف للإجماع الحقيقي، إجماعالسلف الذي ذكره غير واحد من الأئمة بل وصرح غير واحد منهم بكفر من قال بقول جهم في الإيمان. ولهذا نظائر متعددة، يقول الإنسان قولاً مخالفًا للنص والإجماع القديم حقيقة، ويكون معتقدا أنه متمسك بالنص والإجماع. وهذا إذا كان مبلغ علمه واجتهاده، فالله يثيبه على ما أطاع الله فيه من اجتهاده، ويغفر له ما عجز عن معرفته من الصواب الباطن، وهم لما توهموا أن الإيمان الواجب على جميع الناس نوع واحد، صار بعضهم يظن أن ذلك النوع من حيث هو لا يقبل التفاضل.

فقال لي مرة بعضهم: الإيمان من حيث هو إيمان لا يقبل الزيادة والنقصان. فقلت له: قولك من حيث هو، كما تقول: الإنسان من حيث هو إنسان، والحيوان من حيث هو حيوان، والوجود من حيث هو وجود، والسواد من حيث هو سواد، وأمثال ذلك لا يقبل الزيادة والنقصان والصفات، فتثبت لهذه المسميات وجودًا مطلقًا مجردًا عن جميع القيود والصفات وهذا لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه، كما يقدر موجودًا لا قديمًا ولا حادثًا ولا قائمًا بنفسه ولا بغيره، ويقدر إنسانًا لا موجودًا ولا معدومًا، ويقول: الماهية من حيث هي هي لا توصف بوجود ولا عدم، والماهية من حيث هي هي شيء يقدره الذهن، وذلك موجود في الذهن لا في الخارج، وأما تقدير شيء لا يكون في الذهن ولا في الخارج فممتنع، وهذا التقدير لا يكون إلا في الذهن كسائر تقدير الأمور الممتنعة، مثل تقدير صدور العالم عن صانعين ونحو ذلك، فإن هذه المقدرات في الذهن. فهكذا تقدير إيمان لا يتصف به مؤمن، بل هو مجرد عن كل قيد. وتقدير إنسان لا يكون موجودا ولا معدومًا، بل ما ثم إيمان إلا مع المؤمنين، ولا ثم إنسانية إلا ما اتصف بها الإنسان، فكل إنسان له إنسانية تخصه، وكل مؤمن له إيمان يخصه، فإنسانية زيد تشبه إنسانية عمرو، ليست هي هي. وإذا اشتركوا في نوع الإنسانية فمعنى ذلك أنهما يشتبهان فيما يوجد في الخارج، ويشتركان في أمر كلي مطلق يكون في الذهن. وكذلك إذا قيل: إيمان زيد مثل إيمان عمرو، فإيمان كل واحد يخصه، فلو قدر أن الإيمان يتماثل لكان لكل مؤمن إيمان يخصه، وذلك الإيمان مختص معين ليس هو الإيمان من حيث هو هو، بل هو إيمان معين، وذلك الإيمان يقبل الزيادة، والذين ينفون التفاضل في هذه الأمور يتصورون في أنفسهم إيمانًا مطلقًا أو إنسانًا مطلقًا، أو وجودًا مطلقا مجردًا عن جميع الصفات المعينة له ثم يظنون أن هذا هو الإيمان الموجود في الناس. وذلك لا يقبل التفاضل ولا يقبل في نفسه التعدد، إذ هو تصور معين قائم في نفس متصوره. ولهذا يظن

ثير من هؤلاء أن الأمور المشتركة في شيء واحد هي واحدة بالشخص والعين، حتى انتهى الأمر بطائفة من علمائهم علمًا وعبادة إلى أن جعلوا الوجود كذلك، فتصوروا أن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود، وتصوروا هذا في أنفسهم، فظنوه في الخارج كما هو في أنفسهم، ثم ظنوا أنه الله، فجعلوا الرب هو هذا الوجود الذي لا يوجد قط إلا في نفس متصوره، ولا يكون في الخارج. وهكذا كثير من الفلاسفة تصوروا أعدادًا مجردة وحقائق مجردة ويسمونها المثل الأفلاطونية، وزمانًا مجردًا عن الحركة والمتحرك، وبعدًا مجردًا عن الأجسام وصفاتها ثم ظنوا وجود ذلك في الخارج، وهؤلاء كلهم اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان، وهؤلاء قد يجعلون الواحد اثنين والاثنين واحدًا، فتارة يجيئون إلي الأمور المتعددة المتفاضلة في الخارج فيجعلونها واحدة أو متماثلة، وتارة يجيئون إلى ما في الخارج من الحيوان والمكان والزمان فيجعلون الواحد اثنين، والمتفلسفة والجهمية وقعوا في هذا وهذا، فجاؤوا إلى صفات الرب التي هي أنه عالم وقادر، فجعلوا هذه الصفة هي عين الأخري وجعلوا الصفة هي الموصوف. وهكذا القائلون بأن الإيمان شيء واحد وأنه متماثل في بني آدم، غلطوا في كونه واحدًا وفي كونه متماثلاً كما غلطوا في أمثال ذلك من مسائل [التوحيد] و [الصفات] و [القرآن] ونحو ذلك، فكان غلط جهم وأتباعه في الإيمان كغلطهم في صفات الرب الذي يؤمن به المؤمنون، وفي كلامه وصفاته سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا. وكذلك السواد والبياض يقبل الاشتداد والضعف، بل عامة الصفات التي يتصف بها الموصوفون تقبل التفاضل؛ ولهذا كان العقل يقبل التفاضل، والإيجاب والتحريم يقبل التفاضل، فيكون إيجاب أقوى من إيجاب، وتحريم أقوى من تحريم، وكذلك المعرفة التي في القلوب تقبل التفاضل على الصحيح عند أهل السنة، وفي هذا كله نزاع، فطائفة من المنتسبين إلى السنة تنكر التفاضل

في هذا كله كما يختار ذلك القاضي أبو بكر وابن عقيل، وغيرهما. وقد حكى عن أحمد في التفاضل في المعرفة روايتان. وإنكار التفاضل في هذه الصفات هو من جنس أصل قول المرجئة، ولكن يقوله من يخالف المرجئة، وهؤلاء يقولون: التفاضل إنما هو في الأعمال، وأما الإيمان الذي في القلوب فلا يتفاضل، وليس الأمر كما قالوه، بل جميع ذلك يتفاضل، وقد يقولون: إن أعمال القلب تتفاضل، بخلاف معارف القلب، وليس الأمر كذلك، بل إيمان القلوب يتفاضل من جهة ما وجب علي هذا، ومن جهة ما وجب على هذا، فلا يستوون في الوجوب، وأمة محمد وإن وجب عليهم جميعهم الإيمان بعد استقرار الشرع، فوجوب الإيمان بالشيء المعين موقوف على أن يبلغ العبد إن كان خبرًا، وعلى أن يحتاج إلى العمل به إن كان أمرًا، وعلى العلم به إن كان علمًا، وإلا فلا يجب على كل مسلم أن يعرف كل خبر وكل أمر في الكتاب والسنة، ويعرف معناه ويعلمه، فإن هذا لا يقدر عليه أحد. فالوجوب يتنوع بتنوع الناس فيه، ثم قدرهم في أداء الواجب متفاوتة، ثم نفس المعرفة تختلف بالإجمال والتفصيل، والقوة والضعف، ودوام الحضور، ومع الغفلة، فليست المفصلة المستحضرة الثابتة التي يثبت الله صاحبها بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، كالمجملة التي غفل عنها، وإذا حصل له ما يريبه فيها وذكرها في قلبه، ثم رغب إلى الله في كشف الريب، ثم أحوال القلوب وأعمالها مثل محبة الله ورسوله وخشية الله، والتوكل عليه، والصبر على حكمه، والشكر له والإنابة إليه، وإخلاص العمل له مما يتفاضل الناس فيها تفاضلاً لا يعرف قدره إلا الله عز وجل ومن أنكر تفاضلهم في هذا فهو إما جاهل لم يتصوره، وإما معاند. قال الإمام أحمد: فإن زعموا أنهم لا يقبلون زيادة الإيمان، من أجل أنهم لا يدرون ما زيادته، وأنها غير محدودة، فما يقولون في أنبياء الله وكتبه ورسله؟ هل يقرون بهم في الجملة؟ ويزعمون أنه من الإيمان، فإذا قالوا: نعم، قيل لهم:

هل تحدونهم وتعرفون عددهم؟ أليس إنما يصيرون في ذلك إلى الإقرار بهم في الجملة، ثم يكفون عن عددهم؟ فكذلك زيادة الإيمان. وبين أحمد أن كونهم لم يعرفوا منتهى زيادته، لا يمنعهم من الإقرار بها في الجملة، كما أنهم يؤمنون بالأنبياء والكتب وهم لا يعرفون عدد الكتب والرسل. وهذا الذي ذكره أحمد، وذكره محمد بن نصر، وغيرهما، يبين أنهم لم يعلموا عدد الكتب والرسل، وأن حديث أبي ذر في ذلك لم يثبت عندهم. وأما قول من سوى بين الإسلام والإيمان وقال: إن الله سمى الإيمان بما سمى به الإسلام، وسمى الإسلام بما سمى به الإيمان، فليس كذلك، فإن الله ورسوله قد فسر الإيمان بأنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وبين أيضًا أن العمل بما أمر به يدخل في الإيمان، ولم يسم الله الإيمان بملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت إسلامًا، بل إنما سمى الإسلام الاستسلام له بقلبه وقصده وإخلاص الدين والعمل بما أمر به؛ كالصلاة والزكاة خالصًا لوجهه، فهذا هو الذي سماه الله إسلاماً وجعله دينًا، وقال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] ، ولم يدخل فيما خص به الإيمان، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، بل ولا أعمال القلوب، مثل حب الله ورسوله ونحو ذلك، فإن هذه جعلها من الإيمان، والمسلم المؤمن يتصف بها، وليس إذا اتصف بها المسلم المؤمن يلزم أن تكون من الإسلام، بل هي من الإيمان، والإسلام فرض، والإيمان فرض، والإسلام داخل فيه، فمن أتى بالإيمان الذي أمر به، فلابد أن يكون قد أتى بالإسلام المتناول لجميع الأعمال الواجبة، ومن أتى بما يسمى إسلامًا لم يلزم أن يكون قد أتى بالإيمان إلا بدليل منفصل، كما علم أن من أثنى الله عليه بالإسلام من الأنبياء وأتباعهم إلى الحواريين كلهم كانوا مؤمنين كما كانوا مسلمين، كما قال الحواريون: {آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] ، وقال: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] ؛ ولهذا أمرنا الله بهذا وبهذا في خطاب واحد، كما قال: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا

ُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 136، 137] ، وقال في الآية الأخرى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] . وهذا يقتضي أن كل من دان بغير دين الإسلام فعمله مردود، وهو خاسر في الآخرة، فيقتضي وجوب دين الإسلام وبطلان ما سواه، لا يقتضي أن مسمي الدين هو مسمى الإيمان، بل أمرنا أن نقول: {آمَنَّا بِاللهِ} ، وأمرنا أن نقول: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} فأمرنا باثنين فكيف نجعلهما واحدًا؟ ! وإذا جعلوا الإسلام والإيمان شيئًا واحدًا، فإما أن يقولوا: اللفظ مترادف، فيكون هذا تكريرًا محضًا ثم مدلول هذا اللفظ عين مدلول هذا اللفظ، وإما أن يقولوا: بل أحد اللفظين يدل على صفة غير الصفة الأخرى، كما في أسماء الله وأسماء كتابه، لكن هذا لا يقتضي الأمر بهما جميعًا، ولكن يقتضي أن يذكر تارة بهذا الوصف، وتارة بهذا الوصف، فلا يقول قائل: قد فرض الله عليك الصلوات الخمس، والصلاة المكتوبة، وهذا هو هذا، والعطف بالصفات يكون إذا قصد بيان الصفات لما فيها من المدح أو الذم، كقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1: 3] لا يقال: صل لربك الأعلى، ولربك الذي خلق فسوى. وقال محمد بن نصر المروزي رحمه الله: فقد بين الله في كتابه وسنة رسوله أن الإسلام والإيمان لا يفترقان، فمن صدق بالله فقد آمن به، ومن آمن بالله فقد خضع له، وقد أسلم له، ومن صام وصلى وقام بفرائض الله وانتهى عما نهى الله عنه، فقد استكمل الإيمان والإسلام المفترض عليه، ومن ترك من ذلك شيئًا فلن يزول عنه اسم الإيمان ولا الإسلام، إلا أنه أنقص من غيره في الإسلام والإيمان من غير نقصان من الإقرار بأن الله حق، وما قال حق لا باطل

وصدق لا كذب، ولكن ينقص من الإيمان الذي هو تعظيم لله وخضوع للهيبة والجلال والطاعة للمصدق به، وهو الله، فمن ذلك يكون النقصان لا من إقرارهم بأن الله حق، وما قال صدق. فيقال: ما ذكره يدل على أن من أتى بالإيمان الواجب فقد أتى بالإسلام، وهذا حق، ولكن ليس فيه ما يدل عن أن من أتى بالإسلام الواجب فقد أتى بالإيمان، فقوله: من آمن بالله فقد خضع له وقد استسلم له حق، لكن أي شيء في هذا يدل على أن من أسلم لله وخضع له، فقد آمن به وبملائكته وبكتبه ورسله والبعث بعد الموت؟ وقوله: إن الله ورسوله قد بين أن الإسلام والإيمان لا يفترقان، إن أراد أن الله أوجبهما جميعًا ونهى عن التفريق بينهما، فهذا حق، وإن أراد أن الله جعل مسمي هذا مسمى هذا، فنصوص الكتاب والسنة تخالف ذلك، وما ذكر قط نصًا واحدًا يدل على اتفاق المسلمين. وكذلك قوله: من فعل ما أمر به وانتهى عما نهى عنه فقد استكمل الإيمان والإسلام، فهذا صحيح إذا فعل ما أمر به باطنًا وظاهرًا، ويكون قد استكمل الإيمان والإسلام الواجب عليه، ولا يلزم أن يكون إيمانه وإسلامه مساويًا للإيمان والإسلام الذي فعله أولو العزم من الرسل؛ كالخليل إبراهيم، ومحمد خاتم النبيين عليهما الصلاة والسلام، بل كان معه من الإيمان والإسلام ما لا يقدر عليه غيره ممن ليس كذلك ولم يؤمر به. وقوله: من ترك من ذلك شيئًا فلن يزول عنه اسم الإسلام والإيمان إلا أنه أنقص من غيره في ذلك. فيقال: إن أريد بذلك أنه بقي معه شيء من الإسلام والإيمان، فهذا حق كما دلت عليه النصوص، خلافًا للخوارج والمعتزلة، وإن أراد أنه يطلق عليه بلا تقييد مؤمن ومسلم في سياق الثناء والوعد بالجنة، فهذا خلاف الكتاب والسنة، ولو كان كذلك لدخلوا في قوله: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التوبة: 72] وأمثال ذلك مما وعدوا فيه بالجنة بلا عذاب.

أيضًا، فصاحب الشرع قد نفى عنهم الاسم في غير موضع، بل قال: " قتال المؤمن كفر "، وقال: " لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض ". وإذا احتج بقوله: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] ونحو ذلك قيل: كل هؤلاء إنما سموا به مع التقييد بأنهم فعلوا هذه الأمور؛ ليذكر ما يؤمرون به هم وما يؤمر به غيرهم. وكذلك قوله: لا يكون النقصان من إقرارهم بأن الله حق وما قاله صدق، فيقال: بل النقصان يكون في الإيمان الذي في القلوب من معرفتهم ومن علمهم فلا تكون معرفتهم وتصديقهم بالله وأسمائه وصفاته، وما قاله من أمر ونهي، ووعد ووعيد، كمعرفة غيرهم وتصديقه، لا من جهة الإجمال والتفصيل، ولا من جهة القوة والضعف، ولا من جهة الذكر والغفلة، وهذه الأمور كلها داخلة في الإيمان بالله وبما أرسل به رسوله، وكيف يكون الإيمان بالله وأسمائه وصفاته متماثلاً في القلوب؟ ! أم كيف يكون الإيمان بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه غفور رحيم، عزيز حكيم، شديد العقاب، ليس هو من الإيمان به؟ ! فلا يمكن مسلمًا أن يقول: إن الإيمان بذلك ليس من الإيمان به ولا يدعي تماثل الناس فيه. وأما ما ذكره من أن الإسلام ينقص كما ينقص الإيمان، فهذا أيضًا حق كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فإن من نقص من الصلاة والزكاة أو الصوم أو الحج شيئًا، فقد نقص من إسلامه بحسب ذلك. ومن قال: إن الإسلام هو الكلمة فقط، وأراد بذلك أنه لا يزيد ولا ينقص، فقوله خطأ. ورد الذين جعلوا الإسلام والإيمان سواء إنما يتوجه إلى هؤلاء، فإن قولهم في الإسلام يشبه قول المرجئة في الإيمان. ولهذا صار الناس في الإيمان والإسلام على ثلاثة أقوال: فالمرجئة يقولون: الإسلام أفضل؛ فإنه يدخل فيه الإيمان. وآخرون يقولون: الإيمان والإسلام

سواء، وهم المعتزلة والخوارج، وطائفة من أهل الحديث والسنة وحكاه محمد بن نصر عن جمهورهم، وليس كذلك، والقول الثالث: أن الإيمان أكمل وأفضل، وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة في غير موضع، وهو المأثور عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان. ثم هؤلاء منهم من يقول: الإسلام مجرد القول. والأعمال ليست من الإسلام، والصحيح أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة كلها، وأحمد إنما منع الاستثناء فيه على قول الزهري: هو الكلمة. هكذا نقل الأثرم، والميموني وغيرهما عنه، وأما على جوابه الآخر الذي لم يختر فيه قول من قال: الإسلام الكلمة، فيستثنى في الإسلام كما يستثنى في الإيمان، فإن الإنسان لا يجزم بأنه قد فعل كل ما أمر به من الإسلام، وإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده "، و " بني الإسلام على خمس "، فجزمه بأنه فعل الخمس بلا نقص كما أمر كجزمه بإيمانه، فقد قال تعالى: {ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} [البقرة: 208] أي الإسلام كافة، أي في جميع شرائع الإسلام. وتعليل أحمد وغيره من السلف ما ذكروه في اسم الإيمان يجيء في اسم الإسلام، فإذا أريد بالإسلام الكلمة فلا استثناء فيه، كما نص عليه أحمد وغيره، وإذا أريد به من فعل الواجبات الظاهرة كلها، فالاستثناء فيه كالاستثناء في الإيمان، ولما كان كل من أتى بالشهادتين صار مسلمًا متميزًا عن اليهود والنصارى، تجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على المسلمين، كان هذا مما يجزم به بلا استثناء فيه؛ فلهذا قال الزهري: الإسلام الكلمة، وعلى ذلك وافقه أحمد وغيره، وحين وافقه لم يرد أن الإسلام الواجب هو الكلمة وحدها، فإن الزهري أجل من أن يخفى عليه ذلك؛ ولهذا أحمد لم يجب بهذا في جوابه الثاني خوفًا من أن يظن أن الإسلام ليس هو إلا الكلمة، ولهذا لما قال الأثرم لأحمد: فإذا قال: أنا مسلم

لا يستثني؟ قال نعم: لايستثنى إذا قال: أنا مسلم، فقلت له أقول: هذا مسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " وأنا أعلم أنه لا يسلم الناس منه، فذكر حديث مَعْمَر عن الزهري قال: فنري أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل. فبين أحمد أن الإسلام إذا كان هو الكلمة فلا استثناء فيها، فحيث كان هو المفهوم من لفظ الإسلام فلا استثناء فيه، ولو أريد بالإيمان هذا، كما يراد ذلك في مثل قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ، فإنما أريد من أظهر الإسلام، فإن الإيمان الذي علقت به أحكام الدنيا، هو الإيمان الظاهر وهو الإسلام، فالمسمى واحد في الأحكام الظاهرة؛ ولهذا لما ذكر الأثرم لأحمد احتجاج المرجئة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " اعتقها فإنها مؤمنة " أجابه بأن المراد حكمها في الدنيا حكم المؤمنة، لم يرد أنها مؤمنة عند الله تستحق دخول الجنة بلا نار إذا لقيته بمجرد هذا الإقرار، وهذا هو المؤمن المطلق في كتاب الله، وهو الموعود بالجنة بلا نار إذا مات على إيمانه؛ ولهذا كان ابن مسعود وغيره من السلف يلزمون من شهد لنفسه بالإيمان أن يشهد لها بالجنة، يعنون إذا مات على ذلك، فإنه قد عرف أن الجنة لا يدخلها إلا من مات مؤمنًا. فإذا قال الإنسان: أنا مؤمن قطعًا، وأنا مؤمن عند الله. قيل له: فاقطع بأنك تدخل الجنة بلا عذاب إذا مت على هذا الحال، فإن الله أخبر أن المؤمنينفي الجنة. وأنكر أحمد ابن حنبل حديث ابن عَمِيرة أن عبد الله رجع عن الاستثناء؛ فإن ابن مسعود لما قيل له: إن قومًا يقولون: إنا مؤمنون، فقال: أفلا سألتوهم أفي الجنة هم؟ وفي رواية: أفلا قالوا: نحن أهل الجنة، وفي رواية قيل له: إن هذا يزعم أنه مؤمن، قال: فاسألوه أفي الجنة هو أو في النار؟ فسألوه فقال: الله أعلم، فقال له عبد الله: فهلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية؟ من قال: أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال: أنا عالم فهو جاهل، ومن قال: هو في الجنة فهو في النار، يروى عن عمر بن الخطاب من وجوه مرسلاً من حديث قتادة ونعيم ابن أبي هند وغيرهما.

والسؤال الذي تورده المرجئة على ابن مسعود ويقولون: إن يزيد بن عميرة ورده عليه حتى رجع، جعل هذا أن الإنسان يعلم حاله الآن، وما يدري ماذا يموت عليه؛ ولهذا السؤال صار طائفة كثيرة يقولون: المؤمن هو من سبق في علم الله أنه يختم له بالإيمان، والكافر من سبق في علم الله أنه كافر، وأنه لا اعتبار بما كان قبل ذلك، وعلى هذا يجعلون الاستثناء، وهذا أحد قولي الناس من أصحاب أحمد وغيرهم وهو قول أبي الحسن وأصحابه. ولكن أحمد وغيره من السلف لم يكن هذا مقصودهم، وإنما مقصودهم أن الإيمان المطلق يتضمن فعل المأمورات، فقوله: أنا مؤمن، كقوله: أنا ولي الله، وأنا مؤمن تقي، وأنا من الأبرار، ونحو ذلك. وابن مسعود رضي الله عنه لم يكن يخفى عليه أن الجنة لا تكون إلا لمن مات مؤمنًا، وأن الإنسان لا يعلم على ماذا يموت فإن ابن مسعود أجل قدرًا من هذا، وإنما أراد: سلوه هل هو في الجنة إن مات على هذه الحال؟ كأنه قال: سلوه أيكون من أهل الجنة على هذه الحال؟ فلما قال: الله ورسوله أعلم، قال: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية؟ يقول: هذا التوقف يدل على أنك لا تشهد لنفسك بفعل الواجبات وترك المحرمات. فإنه من شهد لنفسه بذلك شهد لنفسه أنه من أهل الجنة إن مات على ذلك؛ ولهذا صار الذين لا يرون الاستثناء لأجل الحال الحاضر، بل للموافاة، لا يقطعون بأن الله يقبل توبة تائب، كما لا يقطعون بأن الله تعالى يعاقب مذنبًا، فإنهم لو قطعوا بقبول توبته، لزمهم أن يقطعوا له بالجنة، وهم لا يقطعون لأحد من أهل القبلة لا بجنة ولا نار، إلا من قطع له النص. وإذا قيل: الجنة هي لمن أتى بالتوبة النصوح من جميع السيئات. قالوا: ولو مات على هذه التوبة لم يقطع له بالجنة، وهم لا يستثنون في الأحوال، بل يجزمون بأن المؤمن مؤمن تام الإيمان، ولكن عندهم الإيمان عند الله هو ما يوافي به، فمن قطعوا له بأنه مات مؤمنًا لا ذنب له قطعوا له بالجنة، فلهذا لا يقطعون بقبول التوبة لئلا يلزمهم أن يقطعوا بالجنة، وأما أئمة السلف فإنما لم يقطعوا

الجنة لأنهم لا يقطعون بأنه فعل المأمور وترك المحظور، ولا أنه أتى بالتوبة النصوح، وإلا فهم يقطعون بأن من تاب توبة نصوحًا، قبل الله توبته. وجماع الأمر: أن الاسم الواحد ينفى ويثبت بحسب الأحكام المتعلقة به، فلا يجب إذا أثبت أو نفى في حكم أن يكون كذلك في سائر الأحكام، وهذا فيكلام العرب وسائر الأمم؛ لأن المعنى مفهوم. مثال ذلك: المنافقون قد يجعلون من المؤمنين في موضع، وفي موضع آخر يقال: ما هم منهم، قال الله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب: 18، 19] ، فهنالك جعل هؤلاء المنافقين الخائفين من العدو، الناكلين عن الجهاد، الناهين لغيرهم، الذامين للمؤمنين منهم، وقال في آية أخرى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة: 56، 57] ، وهؤلاء ذنبهم أخف، فإنهم لم يؤذوا المؤمنين لا بنهي ولا سلق بألسنة حداد، ولكن حلفوا بالله أنهم من المؤمنين في الباطن بقلوبهم، وإلا فقد علم المؤمنون أنهم منهم في الظاهر، فكذبهم الله وقال: {وَمَا هُم مِّنكُمْ} وهناك قال: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ} . فالخطاب لمن كان في الظاهر مسلمًا مؤمنًا وليس مؤمنًا، بأن منكم من هو بهذه الصفة، وليس مؤمنًا بل أحبط الله عمله، فهو منكم في الظاهر لا الباطن. ولهذا لما استؤذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل بعض المنافقين قال: " لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه "؛ فإنهم من أصحابه في الظاهر عند من لا يعرف حقائق الأمور، وأصحابه الذين هم أصحابه ليس فيهم نفاق كالذين علموا سنته

الناس وبلغوها إليهم وقاتلوا المرتدين بعد موته، والذين بايعوه تحت الشجرة وأهل بدر وغيرهم، بل الذين كانوا منافقين غمرتهم الناس. وكذلك الأنساب، مثل كون الإنسان أبًا لآخر أو أخاه، يثبت في بعض الأحكام دون بعض، فإنه قد ثبت في الصحيحين أنه لما اختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص وعبد ابن زَمْعَة بن الأسود، في ابن وليدة زمعة، وكان عتبة بن أبي وقاص قد فجر بها في الجاهلية وولدت منه ولدًا، فقال عتبة لأخيه سعد: إذا قدمت مكة فانظر ابن وليدة زمعة فإنه ابني، فاختصم فيه هو وعبد بن زمعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال سعد: يا رسول الله، ابن أخي عتبة عهد إلىَّ أخي عتبة فيه إذا قدمت مكة انظر إلى ابن وليدة زمعة فإنه ابني، ألا ترى يا رسول الله شبهه بعتبة؟ فقال عبد: يا رسول الله، أخي وابن وليدة أبي؛ ولد على فراش أبي، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم شبهًا بينًا بعتبة فقال: " هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة " لما رأى من شبهه البين بعتبة. فقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم ابن زمعة لأنه ولد على فراشه، وجعله أخًا لولده بقوله: " فهو لك يا عبد بن زمعة "، وقد صارت سودة أخته يرثها وترثه؛ لأنه ابن أبيها زمعة ولد على فراشه، ومع هذا فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحتجب منه لما رأى من شبهه البين بعتبة، فإنه قام فيه دليلان متعارضان: الفراش والشبه، والنسب في الظاهر لصاحب الفراش أقوى، ولأنها أمر ظاهر مباح والفجور أمر باطن لا يعلم ويجب ستره لا إظهاره، كما قال: " للعاهر الحجر " كما يقال: بِفيِكَ الكَثْكَث وبفيك الأثْلَب، أي: عليك أن تسكت عن إظهار الفجور، فإن الله يبغض ذلك، ولما كان احتجابها منه ممكنًا من غير ضرر، أمَرها بالاحتجاب لما ظهر من الدلالة على أنه ليس أخاها في الباطن. فتبين أن الاسم الواحد ينفى في حكم ويثبت في حكم، فهو أخ في الميراث وليس بأخ في المحرمية، وكذلك ولد الزنا عند بعض العلماء، وابن الملاعنة

ند اجيع إلا من شذ، ليس بولد في الميراث ونحوه، وهو ولد في تحريم النكاح والمحرمية. ولفظ النكاح وغيره في الأمر، يتناول الكامل، وهو العقد والوطء كما في قوله: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء} [النساء: 3] ، وقوله: {حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، وفي النهي يعم الناقص والكامل، فينهى عن العقد مفردًا وإن لم يكن وطء كقوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء} [النساء: 22] ؛وهذا لأن الآمر مقصوده تحصيل المصلحة، وتحصيل المصلحة إنما يكون بالدخول كما لو قال: اشتر لي طعامًا، فالمقصود ما يحصل إلا بالشراء والقبض، والناهي مقصوده دفع المفسدة، فيدخل كل جزء منه؛ لأن وجوده مفسدة وكذلك النسب والميراث معلق بالكامل منه، والتحريم معلق بأدنى سبب حتى الرضاع. وكذلك كل ما يكون له مبتدأ وكمال، ينفى تارة باعتبار انتفاء كماله، ويثبت تارة باعتبار ثبوت مبدئه، فلفظ الرجال يعم الذكور وإن كانوا صغارًا في مثل قوله: {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 176] ، ولا يعم الصغار في مثل قوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75] ، فإن باب الهجرة والجهاد عمل يعمله القادرون عليه، فلو اقتصر على ذكر المستضعفين من الرجال لظن أن الولدان غير داخلين؛ لأنهم ليسوا من أهله وهم ضعفاء، فذكرهم بالاسم الخاص ليبين عذرهم في ترك الهجرة ووجوب الجهاد، وكذلك الإيمان له مبدأ وكمال، وظاهر وباطن، فإذا علقت به الأحكام الدنيوية من الحقوق والحدود كحقن الدم والمال والمواريث، والعقوبات الدنيوية، علقت بظاهره لا يمكن غير ذلك، إذ تعليق ذلك بالباطن متعذر، وإن قدر أحيانًا فهو متعسر علما وقدرة، فلا يعلم ذلك علمًا يثبت به في الظاهر، ولا يمكن عقوبة من يعلم ذلك منه في الباطن.

بهذين المثلين كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتنع من عقوبة المنافقين، فإن فيهم من لم يكن يعرفهم كما أخبر الله بذلك، والذين كان يعرفهم لو عاقب بعضهم لغضب له قومه، ولقال الناس: إن محمدًا يقتل أصحابه، فكان يحصل بسبب ذلكنفور عن الإسلام، إذ لم يكن الذنب ظاهرًا، يشترك الناس في معرفته، ولما هم بعقوبة من يتخلف عن الصلاة، منعه من في البيوت من النساء والذرية، وأما مبدؤه فيتعلق به خطاب الأمر والنهي، فإذا قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائد: 6] ونحو ذلك، فهو أمر في الظاهر لكل من أظهره، وهو خطاب في الباطن لكل من عرف من نفسه أنه مصدق للرسول، وإن كان عاصيًا، وإن كان لم يقم بالواجبات الباطنة، والظاهرة، وذلك أنه إن كان لفظ: {الَّذِينَ آمَنُواْ} يتناولهم فلا كلام، وإن كان لم يتناولهم فذاك لذنوبهم، فلا تكون ذنوبهم مانعة من أمرهم بالحسنات التي إن فعلوها كانت سبب رحمتهم، وإن تركوها كان أمرهم بها، وعقوبتهم عليها عقوبة على ترك الإيمان، والكافر يجب عليه أيضًا، لكن لا يصح منه حتى يؤمن، وكذلك المنافق المحض لا يصح منه في الباطن حتى يؤمن. وأما من كان معه أول الإيمان، فهذا يصح منه؛ لأن معه إقراره في الباطن بوجوب ما أوجبه الرسول، وتحريم ما حرمه، وهذا سبب الصحة، وأما كماله فيتعلق به خطاب الوعد بالجنة والنصرة والسلامة من النار، فإن هذا الوعد إنما هو لمن فعل المأمور وترك المحظور، ومن فعل بعضا وترك بعضًا، فيثاب على ما فعله، ويعاقب على ما تركه، فلا يدخل هذا في اسم المؤمن المستحق للحمد والثناء، دون الذم والعقاب، ومن نفى عنه الرسول الإيمان، فنفى الإيمان في هذا الحكم؛ لأنه ذكر ذلك على سبيل الوعيد. والوعيد إنما يكون بنفي ما يقتضي الثواب، ويدفع العقاب؛ ولهذا ما في الكتاب والسنة من نفي الإيمان عن أصحاب الذنوب، فإنما هو في خطاب الوعيد والذم، لا في خطاب الأمر والنهي، ولا في أحكام الدنيا.

وواسم الإسلام والإيمان والإحسان هي أسماء ممدوحة مرغوب فيها لحسن العاقبة لأهلها، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن العاقبة الحسنة لمن اتصف بها على الوجه الذي بينه ولهذا كان من نفى عنهم الإيمان أو الإيمان والإسلام جميعًا ولم يجعلهم كفارا، إنما نفى ذلك في أحكام الآخرة، وهو الثواب، لم ينفه في أحكام الدنيا، لكن المعتزلة ظنت أنه إذا انتفى الاسم انتفت جميع أجزائه، فلم يجعلوا معهم شيئًا من الإيمان والإسلام، فجعلوهم مخلدين في النار، وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف، ولو لم يكن معهم شيء من الإيمان والإسلام، لم يثبت في حقهم شيء من أحكام المؤمنين والمسلمين، لكن كانوا كالمنافقين، وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع التفريق بين المنافق الذي يكذب الرسول في الباطن، وبين المؤمن المذنب، فالمعتزلة سووا بين أهل الذنوب وبين المنافقين في أحكام الدنيا والآخرة في نفي الإسلام والإيمان عنهم، بل قد يثبتونه للمنافق ظاهرًا، وينفونه عن المذنب باطنًا وظاهرًا. فإن قيل: فإذا كان كل مؤمن مسلمًا، وليس كل مسلم مؤمنًا الإيمان الكامل كما دل عليه حديث جبريل وغيره من الأحاديث مع القرآن، وكما ذكر ذلك عمن ذكر عنه من السلف؛ لأن الإسلام الطاعات الظاهرة، وهو الاستسلام والانقياد؛ لأن الإسلام في الأصل هو الاستسلام والانقياد، وهذا هو الانقياد والطاعة، والإيمان فيه معنى التصديق والطمأنينة، وهذا قدر زائد، فما تقولون فيمن فعل ما أمره الله وترك ما نهى الله عنه مخلصًا لله تعالى ظاهرًا وباطنًا؟ أليس هذا مسلمًا باطنًا وظاهرًا، وهو من أهل الجنة، وإذا كان كذلك فالجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة، فهذا يجب أن يكون مؤمنًا. قلنا: قد ذكرنا غير مرة، أنه لابد أن يكون معه الإيمان الذي وجب عليه. إذ لو لم يؤد الواجب لكان معرضًا للوعيد، لكن قد يكون من الإيمان ما لا يجب عليه إما لكونه لم يخاطب به، أو لكونه كان عاجزًا عنه، وهذا أولى؛ لأن الإيمان الموصوف في حديث جبريل والإسلام، لم يكونا واجبين في أول الإسلام، بل ولا أوجبا على من تقدم قبلنا من الأمم اتباع الأنبياء أهل الجنة، مع

نهم مؤمنون مسلمون، ومع أن الإسلام دين الله الذي لا يقبل دينًا غيره، وهو دين الله في الأولين والآخرين، لأن الإسلام عبادة الله وحده لا شريك له بما أمر فقد تتنوع أوامره في الشريعة الواحدة، فضلاً عن الشرائع، فيصير في الإسلام بعض الإيمان بما يخرج عنه في وقت آخر، كالصلاة إلى الصخرة، كان من الإسلام حين كان الله أمر به، ثم خرج من الإسلام لما نهى الله عنه. ومعلوم أن الخمس المذكورة في حديث جبريل، لم تجب في أول الأمر، بل الصيام والحج وفرائض الزكاة، إنما وجبت بالمدينة، والصلوات الخمس إنما وجبت ليلة المعراج، وكثير من الأحاديث ليس فيها ذكر الحج لتأخر وجوبه إلى سنة تسع أو عشرعلى أصح القولين، ولما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم كان من اتبعه وآمن بما جاء به مؤمنًا مسلمًا، وإذا مات كان من أهل الجنة ثم إنه بعد هذا زاد [الإيمان، والإسلام] حتى قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، وكذلك الإيمان، فإن هذا الإيمان المفصل الذي ذكره في حديث جبريل، لم يكن مأمورًا به في أول الأمر لما أنزل الله سورة العلق والمدثر، بل إنما جاء هذا في السور المدنية، كالبقرة، والنساء، وإذا كان كذلك لم يلزم أن يكون هذا الإيمان المفصل واجبًا، على من تقدم قبلنا. وإذا كان كذلك، فقد يكون الرجل مسلمًا يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا، ومعه الإيمان الذي فرض عليه، وهو من أهل الجنة وليس معه هذا الإيمان المذكور في حديث جبريل، لكن هذا يقال: معه ما أمر به من الإيمان والإسلام، وقد يكون مسلمًا يعبد الله كما أمر، ولا يعبد غيره ويخافه، ويرجوه، ولكن لم يخلص إلى قلبه أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ولا أن يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب إليه من جميع أهله وماله، وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يخاف الله لا يخاف غيره، وألا يتوكل إلا على الله، وهذه كلها من الإيمان الواجب، وليست من لوازم الإسلام، فإن الإسلام هو الاستسلام وهو يتضمن الخضوع لله وحده، والانقياد له، والعبودية لله وحده، وهذا قد يتضمن خوفه ورجاءه، وأما طمأنينة القلب بمحبته وحده، وأن يكون أحب إليه مما سواهما، وبالتوكل عليه وحده، وبأن

يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه، فهذه من حقائق الإيمان التي تختص به، فمن لم يتصف بها، لم يكن من المؤمنين حقًا وإن كان مسلمًا، وكذلك وجل قلبه إذا ذكر الله، وكذلك زيادة الإيمان إذا تليت عليه آياته. فإن قيل: ففوات هذا الإيمان من الذنوب أم لا؟ قيل: إذا لم يبلغ الإنسان الخطاب الموجب لذلك، لا يكون تركه من الذنوب، وأما إن بلغه الخطاب الموجب لذلك فلم يعمل به كان تركه من الذنوب إذا كان قادرًا على ذلك، وكثير من الناس أو أكثرهم ليس عندهم هذه التفاصيل التي تدخل في الإيمان، مع أنهم قادمون بالطاعة الواجبة في الإسلام، وإذا وقعت منهم ذنوب تابوا واستغفروا منها، وحقائق الإيمان التي في القلوب لا يعرفون وجوبها، بل ولا أنها من الإيمان بل كثير ممن يعرفها منهم، يظن أنها من النوافل المستحبة إن صدق بوجوبها. فالإسلام يتناول من أظهر الإسلام وليس معه شيء من الإيمان، وهو المنافق المحض، ويتناول من أظهر الإسلام مع التصديق المجمل في الباطن، ولكن لم يفعل الواجب كله لا من هذا ولا هذا، وهم الفساق يكون في أحدهم شعبة نفاق، ويتناول من أتى بالإسلام الواجب وما يلزمه من الإيمان، ولم يأت بتمام الإيمان الواجب، وهؤلاء ليسوا فساقًا، تاركون فريضة ظاهرة، ولا مرتكبون محرمًا ظاهرًا، لكن تركوا من حقائق الإيمان الواجبة علمًا وعملاً بالقلب يتبعه بعض الجوارح ما كانوا به مذمومين. وهذا هو النفاق الذي كان يخافه السلف على نفوسهم، فإن صاحبه قد يكون فيه شعبة نفاق، وبعد هذا ما ميز الله به المقربين على الأبرار أصحاب اليمين من إيمان وتوابعه، وذلك قد يكون من باب المستحبات، وقد يكون أيضًا مما فضل به المؤمن إيمان وإسلام مما وجب عليه، ولم يجب علي غيره؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان " وفي

الحديث الآخر: " ليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل "، فإن مراده أنه لم يبق بعد هذا الإنكار ما يدخل في الإيمان حتى يفعله المؤمن، بل الإنكار بالقلب آخر حدود الإيمان، ليس مراده أن من لم ينكر ذلك لم يكن معه من الإيمان حبة خردل؛ ولهذا قال: " ليس وراء ذلك "، فجعل المؤمنين ثلاث طبقات، وكل منهم فعل الإيمان الذي يجب عليه، لكن الأول لما كان أقدرهم، كان الذي يجب عليه أكمل مما يجب على الثاني، وكان ما يجب على الثاني أكمل مما يجب على الآخر، وعلم بذلك أن الناس يتفاضلون في الإيمان الواجب عليهم بحسب استطاعتهم مع بلوغ الخطاب إليهم كلهم. فصل وأما الاستثناء في الإيمان بقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، فالناس فيه على ثلاثة أقوال: منهم من يوجبه. ومنهم من يحرمه. ومنهم من يجوز الأمرين باعتبارين، وهذا أصح الأقوال. فالذين يحرمونه هم المرجئة والجهمية ونحوهم، ممن يجعل الإيمان شيئًا واحدًا يعلمه الإنسان من نفسه، كالتصديق بالرب ونحو ذلك مما في قلبه، فيقول أحدهم: أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين، وكما أعلم أني قرأت الفاتحة، وكما أعلم أني أحب رسول الله، وأني أبغض اليهود والنصارى، فقولي: أنا مؤمن، كقولي: أنا مسلم، وكقولي: تكلمت بالشهادتين، وقرأت الفاتحة، وكقولي: أنا أبغض اليهود والنصارى، ونحو ذلك من الأمور الحاضرة التي أنا أعلمها وأقطع بها، وكما أنه لا يجوز أن يقال: أنا قرأت الفاتحة إن شاء الله، كذلك لا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لكن إذا كان يشك في ذلك فيقول: فعلته إن شاء الله، قالوا: فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه وسموهم الشكاكة. والذين أوجبوا الاستثناء لهم مأخذان:

أحدهما: أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمنًا وكافرًا، باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به. قالوا: والإيمان الذي يتعقبه الكفر، فيموت صاحبه كافرًا، ليس بإيمان، كالصلاة التي يفسدها صاحبها قبل الكمال، وكالصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، وصاحب هذا هو عند الله كافر لعلمه بما يموت عليه، وكذلك قالوا في الكفر، وهذا المأخذ مأخذ كثير من المتأخرين من الكلابية وغيرهم ممن يريد أن ينصر ما اشتهر عن أهل السنة والحديث، من قولهم: أنا مؤمن إن شاء الله، ويريد مع ذلك أن الإيمان لا يتفاضل، ولا يشك الإنسان في الموجود منه، وإنما يشك في المستقبل، وانضم إلى ذلك أنهم يقولون: محبة الله ورضاه وسخطه وبغضه قديم، ثم هل ذلك هو الإرادة أم صفات أخر؟ لهم في ذلك قولان: وأكثر قدمائهم يقولون: إن الرضى والسخط والغضب ونحوذلك، صفات ليست هي الإرادة، كما أن السمع والبصر ليس هو العلم، وكذلك الولاية والعداوة. هذه كلها صفات قديمة أزلية عند أبى محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب ومن اتبعه من المتكلمين، ومن أتباع المذاهب من الحنبلية والشافعية والمالكية وغيرهم. قالوا: والله يحب في أزله من كان كافرًا إذا علم أنه يموت مؤمنًا. فالصحابة ما زالوا محبوبين لله وإن كانوا قد عبدوا الأصنام مدة من الدهر، وإبليس ما زال الله يبغضه وإن كان لم يكفر بعد. وهذا على أحد القولين لهم، فالرضى والسخط يرجع إلى الإرادة، والإرادة تطابق العلم. فالمعنى: ما زال الله يريد أن يثيب هؤلاء بعد إيمانهم، ويعاقب إبليس بعد كفره، وهذا معنى صحيح، فإن الله يريد أن يخلق كل ما علم أن سيخلقه، وعلى قول من يثبتها صفات أخر، يقول هو أيضًا حبه تابع لمن يريد أن يثيبه، فكل من أراد إثابته فهو يحبه وكل من أراد عقوبته فإنه يبغضه، وهذا تابع للعلم. وهؤلاء عندهم لا يرضى عن أحد بعد أن كان ساخطًا عليه، ولا يفرح بتوبة عبد بعد أن تاب عليه، بل ما زال يفرح بتوبته. والفرح عندهم إما الإرادة وإما الرضى، والمعنى ما زال يريد إثابته أو يرضى عما يريد إثابته.

وكذلك لا يغضب عندهم يوم القيامة دون ما قبله، بل غضبه قديم، إما بمعنى الإرادة، وإما بمعنى آخر. فهؤلاء يقولون: إذا علم أن الإنسان يموت كافرا، لم يزل مريدًا لعقوبته، فذاك الإيمان الذي كان معه باطل لا فائدة فيه، بل وجوده كعدمه. فليس هذا بمؤمن أصلاً، وإذا علم أنه يموت مؤمنًا، لم يزل مريدًا لإثابته، وذاك الكفر الذي فعله وجوده كعدمه. فلم يكن هذا كافرًا عندهم أصلا. فهؤلاء يستثنون في الإيمان بناء على هذا المأخذ، وكذلك بعض محققيهم يستثنون في الكفر، مثل أبي منصور الماتريدي، فإن ما ذكروه مطرد فيهما. ولكن جماهير الأئمة على أنه لا يستثنى في الكفر، والاستثناء فيه بدعة لم يعرف عن أحد من السلف، ولكن هو لازم لهم. والذين فرقوا من هؤلاء قالوا: نستثنى في الإيمان رغبة إلى الله في أن يثبتنا عليه إلى الموت، والكفر لا يرغب فيه أحد. لكن يقال: إذا كان قولك: مؤمن، كقولك: في الجنة، فأنت تقول عن الكافر: هو كافر. ولا تقول: هو في النار، إلا معلقًا بموته على الكفر، فدل على أنه كافر في الحال قطعًا. وإن جاز أن يصير مؤمنًا، كذلك المؤمن. وسواء أخبر عن نفسه أو عن غيره. فلو قيل عن يهودي أو نصراني: هذا كافر، قال: إن شاء الله، إذا لم يعلم أنه يموت كافرًا، وعند هؤلاء لا يعلم أحد أحدًا مؤمنًا إلا إذا علم أنه يموت عليه، وهذا القول قاله كثير من أهل الكلام أصحاب ابن كلاب، ووافقهم على ذلك كثير من أتباع الأئمة، لكن ليس هذا قول أحد من السلف، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا كان أحد من السلف الذين يستثنون في الإيمان، يعللون بهذا، لا أحمد ولا من قبله. ومأخذ هذا القول، طرده طائفة ممن كانوا في الأصل يستثنون في الإيمان اتباعًا للسلف، وكانوا قد أخذوا الاستثناء عن السلف، وكان أهل الشام شديدين على المرجئة، وكان محمد بن يوسف الفريابي صاحب الثوري مرابطًا بعسقلان لما كانت معمورة، وكانت من خيار ثغور المسلمين، ولهذا كان فيها فضائل لفضيلة

الرباط في سبيل الله، وكانوا يستثنون في الإيمان اتباعًا للسلف، واستثنوا أيضًا في الأعمال الصالحة، كقول الرجل: صليت إن شاء الله ونحو ذلك، بمعنى القبول، لما في ذلك من الآثار عن السلف. ثم صار كثير من هؤلاء بآخرة يستثنون في كل شيء، فيقول: هذا ثوبي إن شاء الله، وهذا حبل إن شاء الله، فإذا قيل لأحدهم: هذا لا شك فيه، قال: نعم، لا شك فيه، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره، فيريدون بقولهم: إن شاء الله جواز تغييره في المستقبل، وإن كان في الحال لا شك فيه، كأن الحقيقة عندهم التي لا يستثنى فيها ما لم تتبدل، كما يقوله أولئك في الإيمان: إن الإيمان ما علم الله أنه لا يتبدل حتى يموت صاحبه عليه. لكن هذا القول قاله قوم من أهل العلم والدين باجتهاد ونظر، وهؤلاء الذين يستثنون في كل شيء تلقوا ذلك عن بعض أتباع شيخهم، وشيخهم الذي ينتسبون إليه يقال له: أبو عمرو عثمان بن مرزوق، لم يكن ممن يرى هذا الاستثناء، بل كان في الاستثناء على طريقة من كان قبله؛ ولكن أحدث ذلك بعض أصحابه بعده، وكان شيخهم منتسبًا إلى الإمام أحمد، وهو من أتباع عبد الوهاب بن الشيخ أبي الفرج المقدسي، وأبو الفرج من تلامذة القاضي أبي يعلى. وهؤلاء كلهم وإن كانوا منتسبين إلى الإمام أحمد فهم يوافقون ابن كلاب على أصله الذي كان أحمد ينكره على الكلابية، وأمر بهجر الحارث المحاسبي من أجله، كما وافقه على أصله طائفة من أصحاب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، كأبي المعالي الجويني، وأبي الوليد الباجي، وأبي منصور الماتريدي وغيرهم، وقول هؤلاء في مسائل متعددة من مسائل الصفات، وما يتعلق بها كمسألة القرآن. هل هو سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته؟ أم القرآن لازم لذاته وقولهم في [الاستثناء] مبني على ذلك الأصل. وكذلك بناه الأشعري وأتباعه عليه؛ لأن هؤلاء كلهم كلابية، يقولون: إن الله لم يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا يرضى ولا يغضب على أحد بعد إيمانه وكفره ولا يفرح بتوبة التائب بعد توبته. ولهذا وافقوا السلف على أن القرآن

كلام الله غير مخلوق. ثم قالوا: إنه قديم لم يتكلم به بمشيئته وقدرته. ثم اختلفوا بعد هذا في القديم، أهو معنى واحد؟ أم حروف قديمة مع تعاقبها؟ كما بسطت أقوالهم وأقوال غيرهم في مواضع أخر. وهذه الطائفة المتأخرة تنكر أن يقال: قطعًا في شيء من الأشياء، مع غلوهم في الاستثناء، حتى صار هذا اللفظ منكرًا عندهم، وإن قطعوا بالمعنى فيجزمون بأن محمدًا رسول الله، وأن الله ربهم ولا يقولون: قطعًا. وقد اجتمع بي طائفة منهم، فأنكرت عليهم ذلك، وامتنعت من فعل مطلوبهم حتى يقولوا: قطعًا، وأحضروا لي كتابًا فيه أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقول الرجل: قطعًا وهي أحاديث موضوعة مختلقة، قد افتراها بعض المتأخرين. والمقصود هنا أن الاستثناء في الإيمان لما علل بمثل تلك العلة، طرد أقوام تلك العلة في الأشياء التي لا يجوز الاستثناء فيها بإجماع المسلمين، بناء على أن الأشياء الموجودة الآن إذا كانت في علم الله تتبدل أحوالها؛ فيستثنى في صفاتها الموجودة في الحال، ويقال: هذا صغير إن شاء الله؛ لأن الله قد يجعله كبيرًا ويقال: هذا مجنون إن شاء الله؛ لأن الله قد يجعله عاقلاً، ويقال للمرتد: هذا كافر إن شاء الله لإمكان أن يتوب، وهؤلاء الذين استثنوا في الإيمان بناء على هذا المأخذ، ظنوا هذا قول السلف. وهؤلاء وأمثالهم من أهل الكلام، ينصرون ما ظهر من دين الإسلام، كما ينصر ذلك المعتزلة والجهمية وغيرهم من المتكلمين، فينصرون إثبات الصانع والنبوة والمعاد ونحو ذلك. وينصرون مع ذلك ما ظهر من مذاهب أهل السنة والجماعة، كما ينصر ذلك الكلابية والكرامية والأشعرية ونحوهم، ينصرون أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يُرى في الآخرة وأن أهل القبلة لا يكفرون بالذنب ولا يخلدون في النار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم له شفاعة في أهل الكبائر وأن فتنة القبر حق وعذاب القبر حق، وحوض نبينا صلى الله عليه وسلم في الآخرة حق، وأمثال ذلك من الأقوال التي شاع أنها من أصول أهل السنة والجماعة، كما ينصرون خلافة الخلفاء الأربعة، وفضيلة أبي بكر وعمر ونحو ذلك.

وكثير من أهل الكلام في كثير مما ينصره لا يكون عارفًا بحقيقة دين الإسلام في ذلك، ولا ما جاءت به السنة، ولا ما كان عليه السلف. فينصر ما ظهر من قولهم، بغير المآخذ التي كانت مآخذهم في الحقيقة بل بمآخذ أخر قد تلقوها عن غيرهم من أهل البدع، فيقع في كلام هؤلاء من التناقض والاضطراب والخطأ ما ذم به السلف مثل هذا الكلام وأهله، فإن كلامهم في ذم مثل هذا الكلام كثير. والكلام المذموم هو المخالف للكتاب والسنة، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل وكذب، فهو مخالف للشرع والعقل، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} [الأنعام: 115] . فهؤلاء لما اشتهر عندهم عن أهل السنة أنهم يستثنون في الإيمان، ورأوا أن هذا لا يمكن إلا إذا جعل الإيمان هو ما يموت العبد عليه، وهو ما يوافي به العبد ربه، ظنوا أن الإيمان عند السلف هو هذا، فصاروا يحكون هذا عن السلف، وهذا القول لم يقل به أحد من السلف، ولكن هؤلاء حكوه عنهم بحسب ظنهم لما رأوا أن قولهم لا يتوجه إلاّ على هذا الأصل، وهم يدعون أن ما نصروه من أصل جهم في الإيمان، هو قول المحققين والنظار من أصحاب الحديث. ومثل هذا يوجد كثيرًا في مذاهب السلف التي خالفها بعض النظار، وأظهر حجته في ذلك ولم يعرف حقيقة قول السلف، فيقول من عرف حجة هؤلاء دون السلف، أو من يعظمهم، لما يراه من تميزهم عليه: هذا قول المحققين. وقال المحققون: ويكون ذلك من الأقوال الباطلة، المخالفة للعقل مع الشرع، وهذا كثيرًا ما يوجد في كلام بعض المبتدعين وبعض الملحدين، ومن آتاه الله علمًا وإيمانًا، علم أنه لا يكون عند المتأخرين من التحقيق، إلا ما هو دون تحقيق السلف لا في العلم ولا في العمل، ومن كان له خبرة بالنظريات والعقليات، وبالعمليات، علم أن مذهب الصحابة دائمًا أرجح من قول من بعدهم، وأنه لا يبتدع أحد قولاً في الإسلام إلا كان خطأ، وكان الصواب قد سبق إليه من قبله. قال أبو القاسم الأنصاري، فيما حكاه عن أبي إسحاق الإسفرائيني، لما ذكر قول أبي الحسن وأصحابه في الإيمان، وصحح أنه تصديق القلب قال: ومن

أصحابنا من قال بالموافاة، وشرط في الإيمان الحقيقي أن يوافي ربه به، ويختم عليه. ومنهم من لم يجعل ذلك شرطًا فيه في الحال. قال الأنصاري: لما ذكر أن معظم أئمة السلف، كانوا يقولون: الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، قال: الأكثرون من هؤلاء على القول بالموافاة، ومن قال بالموافاة، فإنما يقوله فيمن لم يرد الخبر بأنه من أهل الجنة، وأما من ورد الخبر بأنه من أهل الجنة، فإنه يقطع على إيمانه، كالعشرة من الصحابة. ثم قال: والذي اختاره المحققون: أن الإيمان هو التصديق، وقد ذكرنا اختلاف أقوالهم في الموافاة، وأن ذلك هل هو شرط في صحة الإيمان وحقيقته في الحال، وكونه معتدًا عند الله به وفي حكمه، فمن قال: إن ذلك شرط فيه، يستثنون في الإطلاق في الحال، لا أنهم يشكون في حقيقة التوحيد والمعرفة، لكنهم يقولون: لا يدري أي الإيمان الذي نحن موصوفون به في الحال، هل هو معتد به عند الله؟ على معنى أنا ننتفع به في العاقبة، ونجتني من ثماره. فإذا قيل لهم: أمؤمنون أنتم حقًا، أو تقولون إن شاء الله؟ أو تقولون نرجو؟ فيقولون: نحن مؤمنون إن شاء الله، يعنون بهذا الاستثناء، تفويض الأمر في العاقبة إلى الله سبحانه وتعالى وإنما يكون الإيمان إيمانًا معتدًا به في حكم الله، إذا كان ذلك علم الفوز وآية النجاة، وإذا كان صاحبه والعياذ بالله في حكم الله من الأشقياء، يكون إيمانه الذي تحلى به في الحال عارية، قال: ولا فرق عند الصائرين إلى هذا المذهب، بين أن يقول: أنا مؤمن من أهل الجنة قطعًا، وبين أن يقول: أنا مؤمن حقًا. قلت: هذا إنما يجيء على قول من يجعل الإيمان متناولاً لأداء الواجبات وترك المحرمات، فمن مات على هذا كان من أهل الجنة، وأما على قول الجهمية والمرجئة، وهو القول الذي نصره هؤلاء الذين نصروا قول جهم، فإنه يموت على الإيمان قطعًا، ويكون كامل الإيمان عندهم، وهو مع هذا عندهم من أهل

الكبائر الذين يدخلون النار، فلا يلزم إذا وافي بالإيمان، أن يكون من أهل الجنة. وهذا اللازم لقولهم يدل على فساده؛ لأن الله وعد المؤمنين بالجنة، وكذلك قالوا: لا سيما والله سبحانه وتعالى يقول: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} الآية [التوبة: 72] . قال: فهؤلاء يعني القائلين بالموافاة جعلوا الثبات على هذا التصديق، والإيمان الذي وصفناه إلى العاقبة والوفاء به في المآل شرطًا في الإيمان شرعًا، لا لغة، ولا عقلاً. قال: وهذا مذهب سلف أصحاب الحديث والأكثرين، قال: وهو اختيار الإمام أبي بكر بن فُورَك، وكان الإمام محمد بن إسحاق ابن خزيمة يغلو فيه، وكان يقول: من قال: أنا مؤمن حقًا فهو مبتدع. وأما مذهب سلف أصحاب الحديث؛ كابن مسعود وأصحابه، والثوري وابن عيينة، وأكثر علماء الكوفة، ويحيى بن سعيد القطان فيما يرويه عن علماء أهل البصرة، وأحمد ابن حنبل وغيره من أئمة السنة، فكانوا يستثنون في الإيمان. وهذا متواتر عنهم، لكن ليس في هؤلاء من قال: أنا أستثنى لأجل الموافاة، وأن الإيمان إنما هو اسم لما يوافي به العبد ربه، بل صرح أئمة هؤلاء بأن الاستثناء إنما هو لأن الإيمان يتضمن فعل الواجبات، فلا يشهدون لأنفسهم بذلك، كما لا يشهدون لها بالبر والتقوى، فإن ذلك مما لا يعلمونه وهو تزكية لأنفسهم بلا علم، كما سنذكر أقوالهم إن شاء الله في ذلك. وأما الموافاة، فما علمت أحدًا من السلف علل بها الاستثناء، ولكن كثير من المتأخرين يعلل بها، من أصحاب الحديث من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم، كما يعلل بها نظارهم كأبي الحسن الأشعري وأكثر أصحابه، لكن ليس هذا قول سلف أصحاب الحديث. ثم قال: إن قال قائل: إذا قلتم: إن الإيمان المأمور به في الشريعة، هو ما وصفتموه بشرائطه، وليس ذلك متلقى من اللغة، فكيف يستقيم قولكم: إن الإيمان لغوي؟ قلنا: الإيمان هو التصديق لغة وشرعًا، غير أن الشرع ضم إلى

التصديق أو صافًا وشرائط، مجموعها يصير مجزيًا مقبولاً، كما قلنا في الصلاة والصوم والحج ونحوها، والصلاة في اللغة: هي الدعاء، غير أن الشرع ضم إليها شرائط. فيقال: هذا يناقض ما ذكروه في مسمى الإيمان، فإنهم لما زعموا أنه في اللغة التصديق، والشرع لم يغيره، أو ردوا على أنفسهم. فإن قيل: أليس الصلاة والحج والزكاة معدولة عن اللغة، مستعملة في غير مذهب أهلها. قلنا: قد اختلف العلماء في ذلك، والصحيح أنها مقررة على استعمال أهل اللغة، ومبقاة على مقتضياتها، وليست منقولة إلا أنها زيد فيها أمور. فلو سلمنا للخصم كون هذه الألفاظ منقولة، أو محمولة على وجه من المجاز بدليل مقطوع به، فعليه إقامة الدليل على وجود ذلك في الإيمان. فإنه لا يجب إزالة ظواهر القرآن بسبب إزالة ظاهر منها. فيقال: أنتم في الإيمان جعلتم الشرع زاد فيه وجعلتموه كالصلاة والزكاة، مع أنه لا يمكن أحدًا أن يذكر شيئًا من الشرع دليلاً على أن الإيمان لا يسمى به، إلا الموافاة به وبتقدير ذلك، فمعلوم أن دلالة الشرع على ضم الأعمال إليه أكثر وأشهر، فكيف لم تدخل الأعمال في مسماه شرعًا؟ وقوله: لابد من دليل مقطوع به عنه جوابان: أحدهما: النقض بالموافاة، فإنه لا يقطع فيه. الثاني: لا نسلم، بل نحن نقطع بأن حب الله ورسوله وخشية الله ونحو ذلك، داخل في مسمى الإيمان في كلام الله ورسوله أعظم مما نقطع ببعض أفعال الصلاة والصوم والحج، كمسائل النزاع، ثم أبو الحسن، وابن فُورَك وغيرهما من القائلين بالموافاة، هم لا يجعلون الشرع ضم إليه شيئًا، بل عندهم كل من سلبه الشرع اسم الإيمان، فقد فُقِدَ من قلبه التصديق. قال: ومن أصحابنا لم يجعل الموافاة على الإيمان شرطًا في كونه إيمانًاحقيقيًا في الحال، وإن جعل ذلك شرطًا في استحقاق الثواب عليه، وهذا مذهب المعتزلة

والكرامية، وهو اختيار أبي إسحاق الإسفرائيني، وكلام القاضي يدل عليه، قال: وهو اختيار شيخنا أبي المعالي، فإنه قال: الإيمان ثابت في الحال قطعًا لا شك فيه، ولكن الإيمان الذي هو علم الفوز وآية النجاة إيمان الموافاة، فاعتنى السلف به وقرنوه بالاستثناء، ولم يقصدوا الشك في الإيمان الناجز. قال: ومن صار إلى هذا يقول: الإيمان صفة يشتق منها اسم المؤمن، وهو المعرفة والتصديق، كما أن العالم مشتق من العلم، فإذا عرفت ذلك من نفسي قطعت به كما قطعت بأني عالم وعارف ومصدق، فإن ورد في المستقبل ما يزيله، خرج إذ ذاك عن استحقاق هذا الوصف، ولا يقال: تبينا أنه لم يكن إيمانًا مأمورًا به، بل كان إيمانًا مجزيًا، فتغير وبطل، وليس كذلك قوله: أنا من أهل الجنة، فإن ذلك مغيب عنه، وهو مرجو. قال: ومن صار إلى القول الأول يتمسك بأشياء. منها أن يقال: الإيمان عبادة العمر، وهو كطاعة واحدة فيتوقف صحة أولها على سلامة آخرها. كما نقول في الصلاة والصيام والحج. قالوا: ولا شك أنه لا يسمى في الحال وليًا، ولا سعيدًا، ولا مرضيًا عند الله. وكذلك الكافر لا يسمى في الحال عدوًا لله، ولا شقيًا، إلا على معنى أنه تجري عليه أحكام الأعداء في الحال لإظهاره من نفسه علامتهم. قلت: هذا الذي قالوه، إنه لا شك فيه، هو قول ابن كلاب والأشعري وأصحابه، ومن وافقهم من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم. وأما أكثر الناس فيقولون: بل هو إذا كان كافرًا فهو عدو لله، ثم إذا آمن واتقى صار وليًا لله، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ

فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الممتحنة: 1: 7] وكذلك كان، فإن هؤلاء أهل مكة الذين كانوا يعادون الله ورسوله قبل الفتح، آمن أكثرهم، وصاروا من أولياء الله ورسوله، وابن كلاب وأتباعه بنوا ذلك على أن الولاية صفة قديمة لذات الله، وهي الإرادة والمحبة والرضا ونحو ذلك. فمعناها: إرادة إثابته بعد الموت، وهذا المعنى تابع لعلم الله، فمن علم أنه يموت مؤمنًا، لم يزل وليًا لله، لأنه لم يزل الله مريدًا لإدخاله الجنة، وكذلك العداوة. وأما الجمهور فيقولون: الولاية والعداوة وإن تضمنت محبة الله ورضاه وبغضه وسخطه، فهو سبحانه يرضى عن الإنسان ويحبه، بعد أن يؤمن ويعمل صالحًا، وإنما يسخط عليه ويغضب، بعد أن يكفر، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد: 28] ، فأخبر أن الأعمال أسخطته، وكذلك قال: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] قال المفسرون: أغضبونا، وكذلك قال الله تعالى: {وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] ، وفي الحديث الصحيح الذي في البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقول الله تعالى: " من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تَقَرَّبَ إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله

تَرَدُّدِي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه ". فأخبر أنه: لا يزال يتقرب إليه بالنوافل حتى يحبه، ثم قال: فإذا أحببته: كنت كذا، وكذا. وهذا يبين أن حبه لعبده إنما يكون بعد أن يأتي بمحابه، والقرآن قد دل على مثل ذلك، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران: 31] ، فقوله: {يُحْبِبْكُمُ} جواب الأمر في قوله: {فَاتَّبِعُونِي} وهو بمنزلة الجزاء مع الشرط، ولهذا جزم، وهذا ثواب عملهم، وهو اتباع الرسول، فأثابهم على ذلك بأن أحبهم، وجزاء الشرط وثواب العمل، ومسبب السبب لا يكون إلا بعده، لا قبله، وهذا كقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ، وقوله تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31] ، وقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب: 70، 71] ، ومثل هذا كثير، وكذلك قوله: {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4] ، وقوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 2: 4] ، وكانوا قد سألوه: لو علمنا أي العمل أحب إلى الله لعملناه. وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر: 10] ، فهذا يدل على أن حبه

ومقته، جزاء لعملهم وأنه يحبهم إذا التقوا وقاتلوا؛ ولهذا رغبهم في العمل بذلك، كما يرغبهم بسائر ما يعدهم به، وجزاء العمل بعد العمل، وكذلك قوله: {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} فإنه سبحانه يمقتهم إذ يدعون إلى الإيمان فيكفرون، ومثل هذا قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18] ، فقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ} ، بين أنه رضي عنهم هذا الوقت، فإن حرف [إذ] ظرف لما مضى من الزمان، فعلم أنه ذاك الوقت رضي عنهم بسبب ذلك العمل، وأثابهم عليه، والمسبب لا يكون قبل سببه، والموقت بوقت لا يكون قبل وقته، وإذا كان راضيا عنهم من جهة، فهذا الرضى الخاص الحاصل بالبيعة لم يكن إلا حينئذ، كما ثبت في الصحيح أنه يقول لأهل الجنة: " يا أهل الجنة، هل رضيتم؟ فيقولون: يا ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم ما هو أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا ربنا وأي شيءٍ أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا "، وهذا يدل على أنه في ذلك الوقت حصل لهم هذا الرضوان، الذي لا يتعقبه سخط أبدًا، ودل على أن غيره من الرضوان قد يتعقبه سخط. وفي الصحيحين في حديث الشفاعة يقول كل من الرسل: " إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله "، وفي الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال: " لَلَّهُ أشد فرحًا بتوبة عبده، من رجل أضل راحلته بأرض دَوِّيَّةٍ مُهْلِكَةٍ، عليها طعامه وشرابه، فطلبها فلم يجدها، فاضطجع ينتظر الموت فلما استيقظ، إذا دابته عليها طعامه وشرابه " وفي رواية " كيف تجدون فرحه بها؟ " قالوا: عظيمًا يا رسول الله، قال: " لله أشد فرحًا بتوبة عبده من هذا براحلته "، وكذلك ضحكه إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة، وضحكه إلى الذي يدخل الجنة آخر الناس، ويقول: أتسخر بي وأنت رب العالمين، فيقول: " لا، ولكني على ما أشاء قادر "، وكل هذا في الصحيح.

في دعاء القنوت: " تَوَلَّنِي فيمن تَوَلَّيْتَ "، والقديم لا يتصور طلبه، وقد قال تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196] ، وقال: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19] ، فهذا التولي لهم، جزاء صلاحهم وتقواهم ومسبب عنه، فلا يكون متقدمًا عليه، وإن كان إنما صاروا صالحين ومتقين بمشيئته وقدرته وفضله وإحسانه، لكن تعلق بكونهم متقين وصالحين، فدل على أن هذا التولي هو بعد ذلك مثل كونه مع المتقين والصالحين بنصره وتأييده، ليس ذلك قبل كونهم متقين وصالحين، وهكذا الرحمة، قال صلى الله عليه وسلم: " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء "، قال الترمذي: حديث صحيح، وكذلك قوله: {وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] علق الرضا به تعليق الجزاء بالشرط والمسبب بالسبب، والجزاء إنما يكون بعد الشرط، وكذلك قوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] . يدل على أنه يشاء ذلك فيما بعد. وكذلك قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] ، ف [إذا] ظرف لما يستقبل من الزمان. فدل على أنه إذا أراد كونه، قال له: كن، فيكون. وكذلك قوله: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة: 105] ، فبين فيه أنه سيرى ذلك في المستقبل إذا عملوه

والمأخذ الثاني في الاستثناء، أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك المحرمات كلها، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين، القائمين بفعل جميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، وشهادته لنفسه بما لا يعلم، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة، لكان ينبغي له أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال، ولا أحد يشهد لنفسه بالجنة؛ فشهادته لنفسه بالإيمان كشهادته لنفسه بالجنة إذا مات على هذه الحال، وهذا مأخذ عامة السلف، الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. قال الخلال في [كتاب السنة] : حدثنا سليمان بن الأشعث يعني: أبا داود السجستاني قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل، قال له رجل: قيل لي: أمؤمن أنت؟ قلت: نعم، هل على في ذلك شيء؟ هل الناس إلا مؤمن وكافر؟ فغضب أحمد، وقال: هذا كلام الإرجاء قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ} [التوبة: 106] مَنْ هؤلاء، ثم قال أحمد: أليس الإيمان قولاً وعملاً؟ قال له الرجل: بلى. قال: فجئنا بالقول؟ قال: نعم. قال: فجئنا بالعمل؟ قال: لا. قال: فكيف تعيب أن يقول: إن شاء الله ويستثنى؟ قال أبو داود: أخبرني أحمد بن أبي شُرَيْح: أن أحمد بن حنبل، كتب إليه في هذه المسألة، أن الإيمان قول وعمل، فجئنا بالقول ولم نجئ بالعمل، فنحن نستثنى في العمل. وذكر الخلال هذا الجواب من رواية الفضل بن زياد، وقال: زاد الفضل: سمعت أبا عبد الله يقول: كان سليمان بن حرب، يحمل هذا علي التقبل، يقول: نحن نعمل ولا ندري يتقبل منا أم لا؟ قلت: والقبول متعلق بفعله كما أمر. فكل من اتقى الله في عمله، ففعله كما أمر، فقد تقبل منه، لكن هو لا يجزم بالقبول، لعدم جزمه بكمال الفعل، كما

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] ، قالت عائشة: يا رسول الله، أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف؟ فقال: لا يا بنت الصديق، بل هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف ألا يتقبل منه " وروى الخلال، عن أبي طالب قال: سمعت أبا عبد الله يقول: لا نجد بدًا من الاستثناء؛ لأنهم إذا قالوا: مؤمن، فقد جاء بالقول. فإنما الاستثناء بالعمل لا بالقول. وعن إسحاق بن إبراهيم قال: سمعت أبا عبد الله يقول: أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، والعمل الفعل، فقد جئنا بالقول، ونخشى أن نكون فرطنا في العمل، فيعجبني أن يستثنى في الإيمان بقول: أنا مؤمن إن شاء الله، قال: وسمعت أبا عبد الله وسئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم " وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " الاستثناء هاهنا على أي شىء يقع؟ قال: على البقاع، لا يدري أيدفن في الموضع الذي سلم عليه أم في غيره. وعن الميموني أنه سأل أبا عبد الله عن قوله ورأيه في: مؤمن إن شاء الله. قال: أقول: مؤمن إن شاء الله، ومؤمن أرجو، لأنه لا يدري، كيف البراءة للأعمال على ما افترض عليه أم لا. ومثل هذا كثير في كلام أحمد وأمثاله، وهذا مطابق لما تقدم من أن المؤمن المطلق هو القائم بالواجبات، المستحق للجنة إذا مات على ذلك، وأن المفرط بترك المأمور أو فعل المحظور لا يطلق عليه أنه مؤمن، وأن المؤمن المطلق هو البر التقي ولي الله، فإذا قال: أنا مؤمن قطعًا، كان كقوله: أنا بر، تقي، ولي الله قطعًا. وقد كان أحمد وغيره من السلف مع هذا يكرهون سؤال الرجل لغيره: أمؤمن أنت؟ ويكرهون الجواب؛ لأن هذه بدعة أحدثها المرجئة ليحتجوا بها لقولهم،

فإن الرجل يعلم من نفسه أنه ليس بكافر، بل يجد قلبه مصدقًا بما جاء به الرسول، فيقول: أنا مؤمن، فيثبت أن الإيمان هو التصديق، لأنك تجزم بأنك مؤمن، ولا تجزم بأنك فعلت كل ما أمرت به، فلما علم السلفمقصدهم، صاروا يكرهون الجواب، أو يفصلون في الجواب، وهذا لأن لفظ [الإيمان] فيه إطلاق وتقييد، فكانوا يجيبون بالإيمان المقيد، الذي لا يستلزم أنه شاهد فيه لنفسه بالكمال؛ ولهذا كان الصحيح أن يجوز أن يقال: أنا مؤمن بلا استثناء إذا أراد ذلك، لكن ينبغي أن يقرن كلامه بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق الكامل؛ ولهذا كان أحمد يكره أن يجيب على المطلق بلا استثناء يقدمه. وقال المروزي: قيل لأبي عبد الله: نقول: نحن المؤمنون؟ فقال: نقول: نحن المسلمون، وقال أيضًا قلت لأبي عبد الله: نقول: إنا مؤمنون؟ قال: ولكن نقول: إنا مسلمون، ومع هذا فلم ينكر على من ترك الاستثناء إذا لم يكن قصده قصد المرجئة أن الإيمان مجرد القول، بل يكره تركه لما يعلم أن في قلبه إيمانًا، وإن كان لا يجزم بكمال إيمانه. قال الخلال: أخبرني أحمد بن أصرم المزني، أن أبا عبد الله قيل له: إذا سألني الرجل فقال: أمؤمن أنت؟ قال: سؤالك إياي بدعة، لا يشك في إيمانه، أو قال: لا نشك في إيماننا. قال المزني: وحفظي أن أبا عبد الله قال: أقول كما قال طاوس: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله. وقال الخلال: أخبرني حرب بن إسماعيل، وأبو داود، قال أبو داود: سمعت أحمد: قال: سمعت سفيان يعني: ابن عيينة يقول: إذا سئل: أمؤمن أنت؟ لم يجبه، ويقول سؤالك إياي بدعة، ولا أشك في إيماني، وقال: إن قال: إن شاء الله، فليس يكره، ولا يداخل الشك، فقد أخبر عن أحمد أنه قال: لا نشك في إيماننا، وأن السائل لا يشك في إيمان المسؤول، وهذا أبلغ، وهو إنما يجزم، بأنه مقر مصدق بما جاء به الرسول، لا يجزم بأنه قائم بالواجبات. فعلم أن أحمد وغيره من السلف، كانوا يجزمون ولا يشكون في وجود ما في القلب، من الإيمان في هذه الحال، ويجعلون الاستثناء عائدًا إلى الإيمان المطلق

المتضمن فعل المأمور، ويحتجون أيضًا بجواز الاستثناء فيما لا يشك فيه، وهذا [مأخذ ثان] وإن كنا لا نشك فيما في قلوبنا من الإيمان، فالاستثناء فيما يعلم وجوده قد جاءت به السنة، لما فيه من الحكمة. وعن محمد بن الحسن بن هارون قال: سألت أبا عبد الله عن الاستثناء في الإيمان فقال: نعم، الاستثناء على غير معنى شك، مخافة واحتياطًا للعمل، وقد استثنى ابن مسعود وغيره، وهو مذهب الثوري، قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ} [الفتح: 27] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " إني لأرجو أن أكون أتقاكم لله ". وقال في الميت: " وعليه تبعث إن شاء الله " فقد بين أحمد أنه يستثنى مخافة واحتياطًا للعمل، فإنه يخاف ألا يكون قد كمل المأمور به، فيحتاط بالاستثناء، وقال على غير معنى شك، يعني من غير شك مما يعلمه الإنسان من نفسه، وإلا فهو يشك في تكميل العمل الذي خاف ألا يكون كمله، فيخاف من نقصه، ولا يشك في أصله. قال الخلال: وأخبرني محمد بن أبي هارون: أن حُبَيْش بن سِنْدِي، حدثهم في هذه المسألة، قال أبو عبد الله: قول النبي صلى الله عليه وسلم حين وقف على المقابر فقال: " وإنا إن شاء الله بكم لاحقون "، وقد نعيت إليه نفسه، وعلم أنه صائر إلى الموت، وفي قصة صاحب القبر " وعليه حييت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله "، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إني اختبأت دعوتي، وهي نائلة إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئًا " وفي مسألة الرجل النبي صلى الله عليه وسلم: أحدنا يصبح جنبًا، يصوم؟ فقال: " إني أفعل ذلك ثم أصوم "، فقال: إنك لست مثلنا، أنت قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: " والله أني لأرجو أن أكون أخشاكم لله " وهذا كثير، وأشباهه على اليقين.

قال: ودخل عليه شيخ فسأله عن الإيمان، فقال له: قول وعمل، يزيد وينقص، فقال له: أقول: مؤمن إن شاء الله، قال: نعم. فقال له: إنهم يقولون لي: إنك شاك، قال: بئس ما قالوا، ثم خرج، فقال: ردوه، فقال: أليس يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص؟ قال: نعم، قال: هؤلاء يستثنون. قال له: كيف يا أبا عبد الله؟ قال: قل لهم: زعمتم أن الإيمان قول وعمل، فالقول قد أتيتم به، والعمل لم تأتوا به، فهذا الاستثناء لهذا العمل، قيل له: يستثنى في الإيمان؟ قال: نعم، أقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أستثنى على اليقين لا على الشك، ثم قال: قال الله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ} ، فقد أخبر الله تعالى أنهم داخلون المسجد الحرام. فقد بين أحمد في كلامه أنه يستثنى مع تيقنه بما هو الآن موجود فيه، يقوله بلسانه وقلبه، لا يشك في ذلك، ويستثنى لكون العمل من الإيمان، وهو لا يتيقن أنه أكمله بل يشك في ذلك، فنفى الشك وأثبت اليقين، فيما يتيقنه من نفسه، وأثبت الشك فيما لا يعلم وجوده، وبين أن الاستثناء مستحب لهذا الثاني الذي لا يعلم هل أتى به أم لا، وهو جائز أيضًا لما يتيقنه، فلو استثني لنفس الموجود في قلبه جاز، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: " والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله " وهذا أمر موجود في الحال ليس بمستقبل، وهو كونه أخشانا، فإنه لا يرجو أن يصير أخشانا لله، بل هو يرجو أن يكون حين هذا القول أخشانا لله. كما يرجو المؤمن إذا عمل عملاً أن يكون الله تقبله منه ويخاف ألا يكون تقبله منه، كما قال تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه " والقبول هو أمر حاضر أو ماض وهو يرجوه ويخافه، وذلك أن ماله عاقبة مستقبلة محمودة أو مذمومة، والإنسان يجوز وجوده وعدمه. يقال: إنه يرجوه وأنه يخافه. فتعلق الرجاء والخوف بالحاضر والماضى؛ لأن عاقبته المطلوبة

والمكروهة مستقبلة. فهو يرجو أن يكون الله تقبل عمله فيثيبه عليه فيرحمه في المستقبل. ويخاف ألا يكون تقبله فيحرم ثوابه، كما يخاف أن يكون الله قد سخط عليه في معصيته فيعاقبه عليها. وإذا كان الإنسان يسعى فيما يطلبه كتاجر أو بريد أرسله في حاجته يقضيها في بعض الأوقات، فإذا مضى ذلك الوقت يقول: أرجو أن يكون فلان قد قضى ذلك الأمر، وقضاؤه ماض، لكن ما يحصل لهذا من الفرح والسرور وغير ذلك من مقاصده مستقبل، ويقول الإنسان في الوقت الذي جرت عادة الحاج بدخولهم إلى مكة: أرجو أن يكونوا دخلوا، ويقول في سرية بعثت إلى الكفار: نرجو أن يكون الله قد نصر المؤمنين وغنمهم، ويقال في نيل مصر عند وقت ارتفاعه: نرجو أن يكون قد صعد النيل، كما يقول الحاضر في مصر مثل هذا الوقت: نرجو أن يكون النيل في هذا العام نيلاً مرتفعًا، ويقال لمن له أرض يحب أن تمطر، إذا مطرت بعض النواحي: أرجو أن يكون المطر عامًا، وأرجو أن تكون قد مطرت الأرض الفلانية، وذلك لأن المرجو هو ما يفرح بوجوده ويسره، فالمكروه ما يتألم بوجوده. وهذا يتعلق بالعلم، والعلم بذلك مستقبل، فإذا علم أن المسلمين انتصروا، والحاج قد دخلوا، أو المطر قد نزل، فرح بذلك وحصل به مقاصد أخر له، وإذا كان الأمر بخلاف ذلك لم يحصل ذلك المحبوب المطلوب، فيقول: أرجو وأخاف؛ لأن المحبوب والمكروه ما يتألم بوجوده. وهذا متعلق بالعلم بذلك وهو مستقبل، وكذلك المطلوب بالإيمان من السعادة والنجاة، هو أمر مستقبل، فيستثنى في الحاضر بذلك؛ لأن المطلوب به مستقبل، ثم كل مطلوب مستقبل، تعلق بمشيئة الله وإن جزم بوجوده؛ لأنه لا يكون مستقبل إلا بمشيئة الله. فقولنا: يكون هذا إن شاء الله، حق، فإنه لا يكون إلا إن شاء الله والشك واللفظ ليس فيه إلا التعليق، وليس من ضرورة التعليق الشك بل هذا بحسب علم المتكلم، فتارة يكون شاكًا وتارة لا يكون شاكًا، فلما كان الشك يصحبها كثيرًا لعدم علم الإنسان بالعواقب، ظن الظان أن الشك داخل في معناها،

وليس كذلك، فقوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ} [الفتح: 27] لا يتصور فيه شك من الله، بل ولا من رسوله المخاطب والمؤمنين؛ ولهذا قال ثعلب: هذا استثناء من الله وقد علمه، والخلق يستثنون فيما لا يعلمون. وقال أبو عبيدة وابن قتيبة: إنَّ إنْ بمعنى إذ، أي: إذ شاء الله، ومقصوده بهذا تحقيق الفعل ب [إن] كما يتحقق مع إذ. وإلا ف [إذا] ظرف توقيت، و [إن] حرف تعليق. فإن قيل: فالعرب تقول: إذا احمر البُسْر فأتني، ولا تقول: إن احمر البسر. قيل: لأن المقصود هنا توقيت الإتيان بحين احمراره، فأتوا بالظرف المحقق، ولفظ [إن] لا يدل على توقيت، بل هي تعليق محض تقتضي ارتباط الفعل الثاني بالأول، ونظير ما نحن فيه أن يقولوا: البسر يحمر ويطيب إن شاء الله، وهذا حق، فهذا نظير ذلك. فإن قيل: فطائفة من الناس فروا من هذا المعنى وجعلوا الاستثناء لأمر مشكوك فيه، فقال الزجاج: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} أي: أمركم الله به، وقيل: الاستثناء يعود إلى الأمن والخوف، أي: لتدخلنه آمنين، فأما الدخول فلا شك فيه. وقيل: لتدخلن جميعكم أو بعضكم؛ لأنه علم أن بعضهم يموت. فالاستثناء لأنهم لم يدخلوا جميعهم. قيل: كل هذه الأقوال وقع أصحابها فيما فروا منه مع خروجهم عن مدلول القرآن، فحرفوه تحريفًا لم ينتفعوا به. فإن قول من قال: أي: أمركم الله به، هو سبحانه قد علم، هل يأمرهم أو لا يأمرهم، فعلمه بأنه سيأمرهم بدخوله كعلمه بأن سيدخلوا، فعلقوا الاستثناء بما لم يدل عليه اللفظ، وعلم الله متعلق بالمظهر والمضمر جميعًا، وكذلك أمنهم وخوفهم، هو يعلم أنهم يدخلون آمنين أو خائفين، وقد أخبر أنهم يدخلون آمنين مع علمه بأنهم يدخلون آمنين، فكلاهما لم يكن فيه شك عند الله، بل ولا عند رسوله، وقول من قال: جميعهم أو بعضهم، يقال: المعلق بالمشيئة دخول من أريد باللفظ، فإن كان أراد الجميع، فالجميع لابد أن يدخلوه، وإن أريد الأكثر، كان دخولهم هو المعلق بالمشيئة، وما لم يرد لا يجوز

أن يعلق ب [إن] وإنما علق ب [إن] ما سيكون، وكان هذا وعدًا مجزومًا به، ولهذا لما قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية: ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به؟ قال: " بلى، قلت لك: إنك تأتيه هذا العام؟ " قال: لا، قال: " فإنك آتيه ومطوف به ". فإن قيل: لِمَ لَمْ يعلق غير هذا من مواعيد القرآن؟ قيل: لأن هذه الآية نزلت بعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الحُدَيْبِيَةِ، وكانوا قد اعتمروا ذلك العام، واجتهدوا في الدخول، فصدهم المشركون، فرجعوا وبهم من الألم ما لا يعلمه إلا الله، فكانوا منتظرين لتحقيق هذا الوعد ذلك العام، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم وعدهم وعدًا مطلقًا، وقد روى أنه رأى في المنام قائلاً يقول: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ} [الفتح: 27] فأصبح فحدث الناس برؤياه، وأمرهم بالخروج إلى العمرة فلم تحصل لهم العمرة ذلك العام، فنزلت هذه الآية، واعدة لهم بما وعدهم به الرسول من الأمر الذي كانوا يظنون حصوله ذلك العام. وكان قوله: {إِن شَاء اللَّهُ} هنا تحقيقًا لدخوله، وأن الله يحقق ذلك لكم، كما يقول الرجل فيما عزم على أن يفعله لا محالة: والله لأفعلن كذا إن شاء الله، لا يقولها لشك في إرادته وعزمه، بل تحقيقًا لعزمه وإرادته، فإنه يخاف إذا لم يقل: إن شاء الله، أن ينقض الله عزمه، ولا يحصل ما طلبه، كما في الصحيحين: أن سليمان عليه السلام قال: والله لأطوفن الليلة على مائة امرأة، كل منهن تأتي بفارس يقاتل في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقل، فلم تحمل منهن إلا امرأة جاءت بشق رجل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون " فهو إذا قال: إن شاء الله لم يكن لشك في طلبه وإرادته، بل لتحقيق الله ذلك له، إذ الأمور لا تحصل إلا بمشيئة الله، فإذا تألى العبد عليه من غير تعليق بمشيئته، لم يحصل مراده، فإنه من يتألى على الله يكذبه؛ ولهذا يروى: " لا أتممت لمقدر أمرًا ".

وقيل لبعضهم: بماذا عرفت ربك؟ قال: بفسخ العزائم ونقض الهمم، وقد قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ} [الكهف: 23، 24] فإن قوله: لأفعلن، فيه معنى الطلب والخبر، وطلبه جازم، وأما كون مطلوبه يقع، فهذا يكون إن شاء الله. وطلبه للفعل يجب أن يكون من الله بحوله وقوته، ففي الطلب عليه أن يطلب من الله، وفي الخبر لا يخبر إلا بما علمه الله، فإذا جزم بلا تعليق، كان كالتألي على الله، فيكذبه الله، فالمسلم في الأمر الذي هو عازم عليه ومريد له وطالب له طلبًا لا تردد فيه يقول: إن شاء الله لتحقيق مطلوبه، وحصول ما أقسم عليه لكونه لا يكون إلا بمشيئة الله لا لتردد في إرادته، والرب تعالى مريد لإنجاز ما وعدهم به إرادة جازمة لا مثنوية فيها، وما شاء فعل، فإنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ليس كالعبد الذي يريد ما لا يكون، ويكون ما لا يريد. فقوله سبحانه: {أَن شَاء اللَّهُ} [الفتح: 27] ، تحقيق أن ما وعدتكم به يكون لا محالة بمشيئتي وإرادتي، فإن ما شئت كان وما لم أشأ لم يكن، فكان الاستثناء هنا لقصد التحقيق، لكونهم لم يحصل لهم مطلوبهم الذي وعدوا به ذلك العام، وأما سائر ما وعدوا به فلم يكن كذلك. ولهذا تنازع الفقهاء فيمن أراد باستثنائه في اليمين هذا المعنى، وهو التحقيق في استثنائه لا التعليق: هل يكون مستثنيًا به، أم تلزمه الكفارة إذا حنث؟ بخلاف من ترددت إرادته فإنه يكون مستثنيًا بلا نزاع، والصحيح أنه يكون في الجميع مستثنيًا، لعموم المشيئة؛ ولأن الرجل وإن كانت إرادته للمحلوف به جازمة، فقد علقه بمشيئة الله، فهو يجزم بإرادته له، لا يجزم بحصول مراده، ولا هو أيضًا مريد له بتقدير ألا يكون، فإن هذا تمييز لا إرادة، فهو إنما التزمه إذا شاء الله، فإذا لم يشأه لم يلتزمه بيمينه، ولا حلف أنه يكون، وإن كانت إرادته له جازمة، فليس كل ما أريد التزم باليمين فلا كفارة عليه. وقد تبين بما ذكرناه أن قول القائل: {أَن يَشَاء اللَّهُ} يكون مع كمال إرادته في حصول المطلوب، وهو يقولها لتحقيق المطلوب لاستعانته بالله في ذلك، لا

لشك في الإرادة، هذا فيما يحلف عليه ويريده، كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} ، فإنه خبر عما أراد الله كونه وهو عالم بأن سيكون، وقد علقه بقوله: {أَن يَشَاء اللَّهُ} فكذلك ما يخبر به الإنسان عن مستقبل أمره مما هو جازم بإرادته وجازم بوقوعه فيقول فيه: إن شاء الله، لتحقيق وقوعه، لا للشك لا في إرادته ولا في العلم بوقوعه. ولهذا يذكر الاستثناء عند كمال الرغبة في المعلق، وقوة إرادة الإنسان له. فتبقى خواطر الخوف تعارض الرجاء، فيقول: إن شاء الله، لتحقيق رجائه مع علمه بأن سيكون، كما يسأل الله ويدعوه في الأمر الذي قد علم أنه يكون، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر قد أخبرهم بمصارع المشركين، ثم هو بعد هذا يدخل إلى العريش يستغيث ربه ويقول: " اللهم انجز لي ما وعدتني "؛ لأن العلم بما يقدره لا ينافي أن يكون قدره بأسباب، والدعاء من أعظم أسبابه، كذلك رجاء رحمة الله وخوف عذابه، من أعظم الأسباب في النجاة من عذابه وحصول رحمته. والاستثناء بالمشيئة يحصل في الخبر المحض، وفي الخبر الذي معه طلب. فالأول إذا حلف على جملة خبرية لا يقصد به حضًا ولا منعًا، بل تصديقًا أو تكذيبًا، كقوله: والله ليكونن كذا إن شاء الله، أو لا يكون كذا. والمستثنى قد يكون عالمًا بأن هذا يكون أو لا يكون، كما في قوله: {لَتَدْخُلُنَّ} ، فإن هذا جواب غير محذوف. والثاني: ما فيه معنى الطلب، كقوله: والله لأفعلن كذا، أو لا أفعله إن شاء الله، فالصيغة صيغة خبر ضمنها الطلب، ولم يقل: والله إني لمريد هذا ولا عازم عليه، بل قال: والله ليكونن. فإذا لم يكن فقد حنث لوقوع الأمر، بخلاف ما حلف عليه فحنث، فإذا قال: إن شاء الله، فإنما حلف عليه بتقدير: أن يشاء الله، لا مطلقًا.

ولهذا ذهب كثير من الفقهاء إلى أنه متى لم يوجد المحلوف عليه حنث، أو متى وجد المحلوف عليه أنه لا يفعله، حنث، سواء كان ناسيًا أو مخطئًا أو جاهلاً، فإنهم لحظوا أن هذا في معنى الخبر، فإذا وجد بخلاف مخبره فقد حنث، وقال الآخرون: بل هذا مقصوده الحض والمنع، كالأمر والنهي، ومتى نهي الإنسان عن شيء ففعله ناسيًا أو مخطئًا لم يكن مخالفًا، فكذلك هذا. قال الأولون: فقد يكون في معنى التصديق والتكذيب، كقوله: والله ليقعن المطر، أو لا يقع، وهذا خبر محض، ليس فيه حض ولا منع، ولو حلف على اعتقاده فكان الأمر بخلاف ما حلف عليه، حنث، وبهذا يظهر الفرق بين الحلف على الماضي والحلف على المستقبل، فإن اليمين على الماضي غير منعقدة، فإذا أخطأ فيها لم يلزمه كفارة، كالغَمُوس، بخلاف المستقبل. وليس عليه أن يستثنى في المستقبل إذا كان فعله، قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7] ، فأمره أن يقسم على ما سيكون، وكذلك قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] ، كما أمره أن يقسم على الحاضر في قوله: {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53] ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده، لينزلن فيكم ابن مريم حَكَمًا عَدْلا وإمامًا مقْسِطًا"، وقال: " والذي نفسي بيده، لا تذهب الدنيا حتي يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيما قَتَل، ولا المقتول فيما قُتِل " وقال: " إذا هلك كسرى أو ليهلك كسرى ثم لا يكون

كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده، لتنفقن كنوزهما في سبيل الله " وكلاهما في الصحيح. فأقسم صلوات الله وسلامه عليه على المستقبل في مواضع كثيرة بلا استثناء، والله سبحانه وتعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات ... العنوان ... الصفحة الفرق بين الإسلام والإيمان ... 7 معنى الإسلام والإيمان إذا اجتمعا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ... 8 حديث: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ... ) " ... 9 الدين ثلاث درجات ما بين الإسلام والإيمان والإحسان من العموم والخصوص، وكذلك الرسالة والنبوة ... 11 اسم الإيمان يذكر تارة غير مقرون بالإسلام ولا بغيره، وتارة يذكر مقرونا. ... 14 إذا ذكر الإيمان مع الإسلام، فالإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان هو ما في القلب، وإذا ذكر مجردا دخل الإسلام والأعمال الصالحة ... 15 اسم الإيمان إذا أطلق في كلام الله ورسوله يتناول فعل الواجبات وترك المحرمات، ومن نفى الله ورسوله عنه الإيمان، فلا بد أن يكون قد ترك أو فعل محرما، وإن ذكر فضل إيمان صاحبها ولم ينف فهي مستحبة، وغلط من قال: إن المنفي هو الكمال المستحب ... 15 تفسير قوله تعالى: {لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون ... } {ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا..} {ومن يتولهم منكم فإنه منهم ... } {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ... } ... 17 إذا كان المؤمن الحق الفاعل للواجبات التارك للمحرمات ... 19

العنوان ... الصفحة حل إشكال آية: {أولئك هم المؤمنون حقا} ... 19 تفسير قوله تعالى: "وجلت قلوبهم" ... 19 تفسير قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ... 20 العقل ومتى يسمى الإنسان عاقلا، ومتذكرا ومهتديا وخائفا ... 23 من فسدت فطرته فسدت قوته العلمية والعملية ... 24 تفسير قوله تعالى: {الذين هم في صلاتهم خاشعون} ... 26 الصلاة إذا فعلت على الوجه المطلوب تنهى عن الفحشاء والمنكر ... 28 تفسير قوله تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان..} ... 29 تفسير حديث: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" ... 30 أحاديث تنازع أهل العلم بالحديث في صحتها ... 31 للعلماء قولان في صحة صلاة من ترك الجماعة وصلى منفردا ... 32 وجوب تحكيم الشرع في كل ما شجر بين الناس ... 34 من أدلة حجية الإجماع قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى} وتوجيه الدلالاة منها وبيان أن الإجماع منه ما هو قطعي الدلالة ومنه ما هو ظني الدلالة ... 35 السنة كالقرآن كلاهما وحي نزله الله ... 36 تفسير أبي نصر المروزي لآية: {وحبب إليكم الإيمان} وتعليق المؤلف عليه ... 38 تفسير حديث: "أصدق الأسماء حارث وهمام" ... 39 المباح يكون بالنية الحسنة خيرا، بالنية السيئة شرا ... 39 تفسير آيات فيما أحل وما حرم من الأطعمة والصيد ... 40

العنوان ... الصفحة هل تكتب جميع أقوال العبد؟ ... 44 المرجئة لا تنازع في أن الإيمان الذي في القلب يدعو إلى فعل الطاعة، وأنها من ثمراته وإنما تنازع في أنه هل يستلزم الطاعة؟ ... 45 لفظ الكفر إذا ذكر مفردا في وعيد الآخرة دخل فيه المنافقون ... 47 قد يقرن الكفر بالنفاق كما يقرن لفظ المشركين بأهل الكتاب، وهل يتناول لفظ المشركين أهل الكتاب إذا أفرد؟ ... 48 فصل في ألفاظ: الصالح، والشهيد والصديق تذكر مفردة فتتناول النبيين وغيرهم ... 50 فصل في لفظ:"المعصية" إذا أطلقت دخل فيها الكفر والفسوق ... 51 الأمر المطلق يقتضي الوجوب ... 52 تفسيرقوله تعالى: {لا يعصينك في معروف} ... 52 لفظ الظلم إذا اطلق يدخل فيه الكفر وسائر الذنوب ... 54 تفسير الأزواج حيثما وردت في القرآن ... 55 معنى الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة ... 56 تفسير {تخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} ... 60 متى يجوز التقليد ومتى يمنع ... 62 مشركو العرب كانوا متفقين على أن أربابهم لم تشارك الله في خلق السماوات والأرض ... 64 تفسير {أإله مع الله} ... 65 الظلم أنواع ثلاثة ... 67 لفظ الصلاح إذا أطلق تناول جميع الخير، والفساد إذا أطلق تناول جميع الشر ... 70 تفسيرقوله تعالى: {إنما نحن مصلحون} ... 71 بحث عام في الحقيقة والمجاز ... 73

العنوان ... الصفحة تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز كان بعد القرون الثلاثة ... 73 إنكار طائفة من العلماء أن يكون في اللغة مجاز لا في القرآن ولافي غيره ... 75 للعلماء والمفسرين في الأسماء التي علمها آدم، قولان معروفان عن السلف ... 78 الحجة على أن هذه اللغات ليست متلقاة عن آدم ... 79 بطلان تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز ... 80 ما يسمى كلاما في الكتاب والسنة وكلام العرب ... 83 هل يجوز تأخير البيان عن مورد الخطاب إلى وقت الحاجة عقلا أو شرعا ... 87 بحث في الإطلاق التقيد والكليات والجزئيات في الأمور العقلية والسمعية ... 88 مما ادعي فيه المجاز في القرآن ألفاظ: الذوق الجوع، الخوف المكر ... الخ ... 91 من الأمثلة المشهورة لمن يثبت المجاز {واسأل القرية} ... 94 الطريق إلى معرفة مقاصد الرسول بكلامه ... 96 خطأ المرجئة في اسم الإيمان حيث جعلوه حقيقة في مجرد التصديق، وتناوله للأعمال مجاز ... 97 عدول المرجئة في تفسيرهم للإيمان عن بيان الكتاب والسنة وأقوال السلف، واعتمادهم على رأيهم ولعى ما تأولوه بفهمهم للغة ... 98 الأشعري وعامة أصحابه نصروا قول جهم في الإيمان، مع نصرهم للمشهور عن أهل السنة من أنه يستثنى في الإيمان، وسبب هذا التناقض ... 99

العنوان ... الصفحة نقل كلام القاضي أبي بكر الباقلاني من "التمهيد" في الإيمان وتعقب المؤلف له ... 100 استعمال لفظ الكلام والقول في المعنى واللفظ ... 109 قول الكرامية في معنى الإيمان وما احتجوا به والرد عليهم ... 116 مخالفة الأشعري وبعض أصحابه وأتباعهم لقول السلف في مسألة الإيمان ... 118 احتجاج الجهمية ومن تبعهم بقوله تعالى: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر} وبيان أنه لا حجة فيها لهم ... 120 اختلف قول الأشعري وغيره في الجهل ببعض الصفات هل يكون جهلا بالموصوف أم لا؟ ... 122 فصل في الذين نصروا قول جهم جعلوا الإيمان خصلة من خصال الإسلام، وبطلان هذا القول وبيان تناقضه ... 125 احتجاج هؤلاء ب {قالت الأعراب آمنا} وبيان أنها حجة عليهم ... 127/187 فصل القرآن يدل على أن الإيمان المطلق مستلزم للأعمال ... 129 فصل: إذا قيد الإيمان فقرن بالإسلام أو بالعمل الصالح فإنه قد يراد به ما في القلب باتفاق الناس وهل يراد به أيضا المعطوف عليه؟ ... 130 عامة الأسماء يتغير مسماها بالإطلاق والتقييد والتجريد والاقتران كلفظ المعروف والمنكر والعبادة والطاعة والتقوى والبر ... الخ ... 131 من أنفع الأمور في معرفة دلالة الألفاظ مطلقا وخصوصا ألفاظ الكتاب والسنة وبه تزول شبهات كثيرة كثر فيها نزاع العلماء ... 136 عبارات السلف في حد الإيمان ومعناها ... 137 عطف الشيء على الشيء في القرآن وسائر الكلام يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم الذي ذكر لهما ... 138

§1/1