الإيضاح والتبيين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين

التويجري، حمود بن عبد الله

تقديم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فقد اطلعت على هذا المؤلف الجليل الموسوم بـ (الإيضاح والتبيين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين) تأليف أخينا وصاحبنا الشيخ العلامة (حمود بن عبد الله التويجري) وسمعته بقراءة مؤلفه من أوله إلى آخره فألفيته عظيم الفوائد، كثير الفرائد، قد اشتمل على بيان جملة كبيرة من الأشياء التي شابه فيها الكثير من المسلمين أعداء الله من اليهود والنصارى والمجوس وسائر المشركين معززًا بالأدلة الواضحة من الكتاب والسنة، موشحًا بالكثير من كلام السلف الصالح وأئمة الإسلام في بيان الحق بدليله وتزييف الباطل وإقامة الحجة عليه، وفي التحقيق أني لا أعلم أنه ألف في منواله مثله مع وضوح العبارة والعناية بالأدلة والعلل المهمة والحكم الشرعية والأضرار الكثيرة الناجمة عن مشابهة المشركين، والاقتداء بهم المفضية إلى نسيان الكثير من السنة وطمس الكثير من أعلام الحق، ولا سيما في هذا العصر الذي قد استحكمت فيه غربة الإسلام وفشت فيه البدع والمنكرات، وقلَّ فيه العلم وغلب فيه الجهل وكثر فيه أنصار الهوى

وقل فيه اتباع الهدى، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأسأل الله أن ينفع المسلمين بهذا الكتاب العظيم، وأن يصلح قلوبهم وأعمالهم وأن يهدي قادتهم وينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل، وأن يضاعف الأجر للمؤلف ويزيده من العلم النافع والعمل الصالح، وأن يكلل جهوده بالصلاح والنجاح، وأن يكثر في المسلمين دعاة الهدى وأنصار الحق، وأن يجعلنا وإياه وسائر إخواننا من هذا الرعيل، إنه على كل شيء قدير وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد سيد ولد آدم وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين. أملاه الفقير إلى عفو ربه (عبد العزيز بن عبد الله بن باز) نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة [سابقًا] غفر الله له ولوالديه ولمشايخه ولسائر المسلمين آمين.

ذكر الأحاديث في اتباع هذه الأمة لسنن من قبلهم من الأمم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي هدى أولياءه إلى صراط مستقيم، ووفقهم لمخالفة أصحاب الجحيم. فضلا منه ونعمة والله ذو الفضل العظيم. أحمده سبحانه على فضله العميم. وأشكره وهو المستحق للحمد والشكر والتعظيم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يهدي من يشاء ويضل من يشاء وهو العزيز الحكيم. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخليله المصطفى الكريم. الذي حذَّر أمته من مشابهة الكفار وأخبر أن هديه مخالف لهديهم الذميم. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم على الدين القويم. وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر عن هذه الأمة أنها تتبع سنن اليهود والنصارى والمجوس، وأكد ذلك بالقسم عليه تحقيقًا لوقوعه والأحاديث في ذلك كثيرة. الأول: منها ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا شبرًا وذراعًا ذراعًا حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى، قال: فمن؟». قال النووي: السنن بفتح السين والنون وهو الطريق. وقال ابن حجر العسقلاني بفتح السين للأكثر، وقال ابن التين: قرأناه بضمها، وقال

المهلب: بالفتح أولى؛ لأنه الذي يستعمل فيه الذراع والشبر وهو الطريق، قال ابن حجر وليس اللفظ الأخير ببعيد من ذلك انتهى. قال عياض الشبر والذراع والطريق ودخول الجحر تمثيل للاقتداء بهم في كل شيء مما نهى الشرع عنه وذمه. وكذا قال النووي. قال وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد وقع ما أخبر به. وقال ابن حجر قد وقع معظم ما أنذر به - صلى الله عليه وسلم - وسيقع بقية ذلك انتهى. الحديث الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعًا بذراع. فقيل: يا رسول الله كفارس والروم، فقال: ومن الناس إلا أولئك؟» رواه البخاري بهذا اللفظ. ورواه ابن ماجه ولفظه: «لتتبعن سنن من كان قبلكم باعًا بباع وذراعًا بذراع وشبرا بشبر حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتم فيه. قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى، قال: فمن إذًا؟!». ورواه الحاكم في مستدركه بنحو رواية ابن ماجه ثم قال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذا اللفظ ووافقه الذهبي في تلخيصه. قال ابن حجر في فتح الباري الأخذ بفتح الألف وسكون الخاء على الأشهر هو السيرة يقال أخذ فلان بأخذ فلان أي سار بسيرته وما أخذ أخذه أي ما فعل فعله وما قصد قصده انتهى. الحديث الثالث: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعًا بذراع وباعًا بباع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا من يا رسول الله اليهود والنصارى، قال: فمن إلا هم؟» رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة وإسناده جيد.

الحديث الرابع: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذارعًا بذارع وباعًا بباع حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه» رواه محمد بن نصر المروزي والبزار بأسانيد جيدة والحاكم في مستدركه وصححه ووافقه الذهبي في تلخيصه. الحديث الخامس: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك» رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب، وقد رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة بنحوه مختصرًا، وإسناده حسن. الحديث السادس: عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتسلكن سنن الذين من قبلكم حذو النعل بالنعل ولتأخذن مثل مأخذهم إن شبرا فشبر وإن ذراعًا فذراع وإن باعًا فباع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتم فيه» رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة. الحديث السابع: عن شداد بن أوس رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من قبلهم حذو القذة بالقذة» رواه أبو داود الطيالسي في مسنده ومحمد بن نصر في كتاب السنة وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة. الحديث الثامن: عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم». رواه

الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده ولفظه: «إنكم ستركبون سنن من كان قبلكم»، ورواه محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة بنحوه وأسانيده كلها جيدة. الحديث التاسع: عن المستورد بن شداد رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تترك هذه الأمة شيئًا من سنن الأولين حتى تأتيه» رواه الطبراني. الحديث العاشر: عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: «لتتبعن أمر من كان قبلكم حذو النعل بالنعل لا تخطئون طريقتهم ولا تخطئكم» رواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة بهذا اللفظ، ورواه الحاكم في مستدركه ولفظه: «لتسلكن طريق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة وحذو النعل بالنعل لا تخطئون طريقتهم ولا تخطئكم» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه، وهذا الأثر له حكم المرفوع لأنه إخبار عن أمر غيبي فلا يقال إلا عن توقيف، وقد قال الله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. وروى ابن جريج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتأخذنَّ كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعًا بذراع وشبرًا بشبر وباعًا بباع حتى لو أن أحدًا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه» قال أبو هريرة رضي الله عنه اقرءوا إن شئتم: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} الآية. قالوا: يا رسول الله كما صنعت فارس والروم؟ قال: «فهل الناس إلا

هم؟» وروى ابن جريج أيضا عن عمر بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما: «ما أشبه الليلة بالبارحة {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم» لا أعلم إلا أنه قال: «والذين نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه». وروى محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة بإسناد جيد عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لم يكن في بني إسرائيل شيء إلا كائن فيكم». وذكر البغوي في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا؟». وروى محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «إن أشبه الناس سمتا وهيئة ببني إسرائيل أنتم تتبعون آثارهم حذو القذة بالقذة لا يكون فيهم شيء إلا كان فيكم مثله». وروى محمد بن نصر أيضًا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «أنتم أشبه الناس ببني إسرائيل والله لا تدعون شيئًا عملوه إلا عملتموه، ولا كان فيهم شيء إلا سيكون فيكم مثله» فقال رجل أيكون فينا مثل قوم لوط؟ فقال: «نعم. ممن أسلم وعرف نسبه»، وروى محمد بن نصر أيضًا عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: «والله ما من شيء كان ممن قبلكم إلا سيكون فيكم». وروى محمد بن نصر أيضًا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «لتركبن سنة من كان قبلكم حلوها ومرّها» وروى محمد بن نصر أيضًا عن همام بن الحارث قال: كنا عند حذيفة رضي الله عنه فذكروا {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} فقال رجل من القوم إنما

تحذير المؤمنين من التشبه بأعداء الله تعالى وذكر ما يترتب على مشابهتهم من الحشر معهم

هذا في بني إسرائيل فقال حذيفة رضي الله عنه: «نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم الحلو ولهم المر كلا والذي نفسي بيده حتى تحذى السنة بالسنة حذو القذة بالقذة». فصل وقد وقع ما أخبر به الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه من اتباع أمته لسنن أعداء الله تعالى حذو القذة بالقذة، ولا سيما في زماننا هذا فإنه لم يبق شيء مما يفعله اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من أعداء الله تعالى إلا ويفعل مثله في كثير من الأقطار الإسلامية، وقد تضمن إخباره - صلى الله عليه وسلم - بذلك تحذير المؤمنين عن سلوك مسالك العصاة المتشبهين بأعداء الله تعالى فإن من تشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم. لما روى البيهقي بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «من بنى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة». قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: وهذا يقتضي أنه جعله كافرًا بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور، أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار وإن كان الأول ظاهر لفظه، فتكون المشاركة في بعض ذلك معصية لأنه لو لم يكن مؤثرًا في استحقاق العقوبة لم يجز جعله جزءًا من المقتضي إذ المباح لا يعاقب عليه وليس الذم على بعض ذلك مشروطًا ببعض؛ لأن أبعاض ما ذكره تقتضي الذم مفردًا انتهى.

تعوذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من بلوغ الزمان الذي يتشبه فيه المسلمون بالأعاجم وتعويذ أصحابه من بلوغه

ويشهد لما قاله عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قول الله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} الآية. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله: وأزواجهم قال أشباههم، وكذا قال ابن عباس والنعمان بن بشير رضي الله عنهم يعني بأزواجهم أشباههم وأمثالهم. وقال قتادة والكلبي كل من عمل مثل عملهم. وقال الراغب الأصفهاني أي أقرانهم المقتدين بهم في أفعالهم. وقال الله تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} قال ابن كثير أي جمع كل شكل إلى نظيره. وروى ابن أبي حاتم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} قال: «الضرباء كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله». وروى ابن أبي حاتم أيضا عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس فقرأ {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} فقال: «تزوجها أن تؤلف كل شيعة إلى شيعتهم». وفي رواية قال: «هما الرجلان يعملان العمل فيدخلان به الجنة أو النار»، وقال مجاهد: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} قال: الأمثال من الناس جمع بينهم، قال ابن كثير وكذا قال الربيع بن خثيم والحسن وقتادة. واختاره ابن جرير وهو الصحيح. فصل وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتعوذ من بلوغ الزمان الذي يشتبه فيه المسلمون بالأعاجم ويعوذ أصحابه من بلوغه.

ففي المسند من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم لا يدركني زمان أو لا تدركوا زمانًا لا يتبع فيه العليم ولا يستحيا فيه من الحليم قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب». وفي مستدرك الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم لا يدركني زمان أو لا أدرك زمان قوم لا يتبعون العليم ولا يستحيون من الحليم قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب». قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. قال المناوي في شرح الجامع الصغير قلوبهم قلوب الأعاجم أي بعيدة من الخلاق مملوءة من الرياء والنفاق، وألسنتهم ألسنة العرب متشدقون متفصحون متفيهقون يتلونون في المذاهب ويروغون كالثعالب. قال الأحنف لأن أبتلى بألف جموح لجوج أحب إلي من أن ابتلى بمتلون. قال والمعنى اللهم لا تحيني ولا أصحابي إلى زمن يكون فيه ذلك انتهى. وهذان الحديثان مطابقان لحال الأكثرين من زماننا فإنهم لا يتبعون العليم ولا يستحيون من الحليم. «إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس». ويطيعون المغوين ويعصون المرشدين، وليس معهم من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ما يحملهم على الحياء. ويمنعهم من تعاطي ما يدنس ويشين عند ذوي الأحلام والنهى. وإنما شبه قلوبهم بقلوب الأعاجم لقلة فقههم في الدين، وانحرافهم عن المرواءات العربية وتخلقهم بأخلاق الأعاجم من طوائف الإفرنج وغيرهم من أعداء الله تعالى وشدة ميلهم إلى مشابهتهم في الزي الظاهر واتباع سننهم حذو القذة بالقذة.

هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - مخلف لهدي المشركين

والمشابهة في الظاهر إنما تنشأ من تقارب القلوب وتشابهها. قال الله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية. وقد عظمت البلوى بداء المشابهة في زماننا وعمت جميع الأقطار الإسلامية ولم ينج منها إلا القليل من الناس. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فصل وقد كان هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخالفًا لهدي المشركين كما في مستدرك الحاكم من حديث ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «هدينا مخالف لهديهم» يعني المشركين. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقد رواه الشافعي في مسنده من حديث ابن جريج عن محمد بن قيس ابن مخرمة مرسلاً. ولفظه: «هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك». وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عدة أوجه أنه كان يأمر بمخالفة أعداء الله تعالى وينهى عن التشبه بهم. فمن ذلك ما في الصحيحين ومسند الإمام أحمد وجامع الترمذي وسنن النسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب».

ومنها ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس». ومنها ما في الصحيحين والمسند والسنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» هذا لفظهم سوى الترمذي ولفظ الترمذي: «غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود» ثم قال: حديث حسن صحيح، وفي لفظ للإمام أحمد «غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى»، وأخرجه ابن حبان في صحيحه بهذا اللفظ، وفي رواية للنسائي: «أن اليهود والنصارى لا تصبغ فخالفوا عليهم فأصبغوا». ومنها ما رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: «يا معشر الأنصار حمروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يتزرون فقال: تسرولوا واتزروا وخالفوا أهل الكتاب». ومنها ما رواه أبو داود والحاكم والبيهقي عن شداد بن أوس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم» قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه، وقد رواه الطبراني في الكبير ولفظه: «صلوا في نعالكم ولا تشبهوا باليهود». ومنها ما رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي ثوبين معصفرين فقال: «إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها»، وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى المسلمين المقيمين ببلاد فارس: «إياكم والتنعم

النهي عن التشبه بالعجم للتحريم

وزي أهل الشرك» ورواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح ولفظه: «ذروا التنعم وزي العجم» ورواه أيضًا في كتاب الزهد بإسناد صحيح، ولفظه: «إياكم وزي الأعاجم ونعيمها». قال ابن عقيل رحمه الله تعالى النهي عن التشبه بالعجم للتحريم. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى التشبه بالكفار منهي عنه بالإجماع. وقال أيضًا إذا نهت الشريعة عن مشابهة الأعاجم دخل في ذلك ما عليه الأعاجم الكفار قديمًا وحديثًا ودخل في ذلك ما عليه الأعاجم المسلمون مما لم يكن عليه السابقون الأولون كما يدخل في مسمى الجاهلية العربية ما كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام وما عاد إليه كثير من العرب في الجاهلية التي كانوا عليها ومن تشبه من العرب بالعجم لحق بهم. فصل وقد ورد التغليظ في التشبه بأعداء الله تعالى كما في المسند وسنن أبي داود وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» صححه ابن حبان. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى إسناده جيد. وقال ابن حجر العسقلاني إسناده حسن. قال شيخ الإسلام وقد احتج الإمام أحمد وغيره بهذا الحديث. قال وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}. وقال الشيخ أيضًا في موضع آخر

من أبغض الناس إلى الله من ابتغى في الإسلام سنة الجاهلية

قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» موجب هذا تحريم التشبه بهم مطلقًا انتهى. وفي جامع الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى». قال ابن مفلح في قوله: ليس منا، هذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم انتهى. وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن عقيل بن مدرك السلمي قال: أوحى الله إلى نبي من أنبياء إسرائيل قل لقومك: لا يأكلوا طعام أعدائي ولا يشربوا شراب أعدائي ولا يتشكلوا شكل أعدائي فيكونوا أعدائي كما هم أعدائي. وروى أبو نعيم في الحلية عن مالك بن دينار قال: أوحى الله إلى نبي من الأنبياء أن قل لقومك لا تدخلوا مداخل أعدائي ولا تطعموا مطاعم أعدائي ولا تلبسوا ملابس أعدائي ولا تركبوا مراكب أعدائي فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي. وروى الخلال عن حذيفة رضي الله عنه أنه أتى بيتًا فرأى شيئا من زي العجم فخرج وقال: من تشبه بقوم فهو منهم. وتقدم ما رواه البيهقي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: من بنى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أبغض الناس إلى الله ثلاثة ملحد في الحرم ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه». قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن أبغض الناس إلى الله هؤلاء الثلاثة وذلك لأن الفساد إما في الدين وإما

في الدنيا فأعظم فساد الدنيا قتل النفوس بغير الحق، ولهذا كان أكبر الكبائر بعد أعظم فساد الدين الذي هو الكفر. وأما فساد الدين فنوعان نوع يتعلق بالعمل، ونوع يتعلق بمحل العمل. فأما المتعلق بالعمل فهو ابتغاء سنة الجاهلية، وأما المتعلق بمحل العمل فالإلحاد في الحرم؛ لأن أعظم محال العمل هو الحرم، وانتهاك حرمة المحل المكاني أعظم من انتهاك حرمة المحل الزماني - إلى أن قال- والمقصود أن من هؤلاء الثلاثة من ابتغى في الإسلام سنة جاهلية فكل من أراد في الإسلام أن يعمل بشيء من سنن الجاهلية دخل في هذا الحديث، والسنة الجاهلية كل عادة كانوا عليها، فإن السنة هي: العادة وهي الطريق التي تتكرر لتتسع لأنواع الناس مما يعدونه عبادة أو لا يعدونه عبادة قال تعالى: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض}، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لتتبعن سنن من كان قبلكم»، والاتباع هو الاقتفاء والاستنان، فمن عمل بشيء من سننهم فقد اتبع سنة جاهلية، وهذا نص عام يوجب تحريم متابعة كل شيء كان من سنن الجاهلية في أعيادهم وغير أعيادهم انتهى. وقال أيضا في الكلام على قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم»، قد يحمل هذا على التشبه المطلق فإنه يوجب الكفر ويقتضي تحريم أبعاض ذلك. وقد يحمل على أنه صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه فإن كان كفرا أو معصية أو شعارا للكفر أو للمعصية كان حكمه كذلك، وبكل حال فهو يقتضي تحريم التشبه بهم بعلة كونه تشبها. والتشبه يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه وهو نادر، ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك إذا كان أصل الفعل مأخوذًا عن ذلك الغير فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضا ولم يأخذه

النتائج السيئة من مشابهة أعداء الله

أحدهما عن صاحبه ففي كون هذا تشبها نظر. لكن قد ينهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه ولما فيه من المخالفة كما أمر بصبغ اللحى وإعفائها وإحفاء الشوارب، مع أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود» دليل على أن التشبه بهم يحصل بغير قصد منا ولا فعل بل بمجرد ترك تغيير ما خلق فينا، وهذا أبلغ من الموافقة الفعلية الاتفاقية وقد روي في هذا الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن التشبه بالأعاجم، وقال: «من تشبه بقوم فهو منهم»، ذكره القاضي أبو يعلى، وبهذا احتج غير واحد من العلماء على كراهة أشياء من زي غير المسلمين. قال محمد بن حرب سئل أحمد عن نعل سندي يخرج فيه فكرهه للرجل والمرأة وقال: إن كان للكنيف والوضوء فلا بأس، وأكره الصرار قال: وهو من زي الأعاجم. وروى الخلال عن أحمد بن إبراهيم الدورقي قال: سألت سعيد بن عامر عن لباس النعال السبتية فقال: زي نبينا أحب إلينا من زي باكهن ملك الهند ولو كان في مسجد المدينة لأخرجوه من المدينة. وقال الشيخ رحمه الله تعالى أيضًا: قد بعث الله عبده ورسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة التي هي سنته وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له، فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين وأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة لأمور: منها أن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال وهذا أمر محسوس فإن اللابس لثياب أهل العلم مثلا يجد من نفسه نوع انضمام إليهم واللابس

لثياب الجند المقاتلة مثلا يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم ويصير طبعه مقتضيا لذلك إلا أن يمنعه من ذلك مانع. ومنها أن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة تتوجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال والانعطاف إلى أهل الهدى والرضوان وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين. وكلما كان القلب أتم حياة وأعرف بالإسلام كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطنًا وظاهرًا أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد. ومنها: أن مشاركتهم في الهدي الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التمييز بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين. إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية. هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحًا محضًا لو تجرد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالهم ومعاصيهم. فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له. وقال الشيخ أيضا مشاركتهم في الهدي الظاهر إن لم تكن ذريعة أو سببًا قريبًا أو بعيدًا إلى نوع ما من الموالاة والمودة فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة مع أنها تدعو إلى نوع ما من المواصلة كما توجبه الطبيعة وتدل عليه العادة. وقال الشيخ أيضًا المشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكل في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي،

ذكر السبب الداعي لجمع هذا الكتاب

وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفرا من غيرهم كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيمانًا من غيرهم ممن جرد الإسلام. والمشاركة في الهدي الظاهر توجب أيضا مناسبة وائتلافا وإن بعد المكان والزمان فهذا أيضا أمر محسوس. قال والمشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة انتهى. وما ذكره رحمه الله تعالى من نتائج التشبه بأعداء الله تعالى وثمراته السيئة كله واقع في زماننا، ولا سيما مواصلة أعداء الله تعالى ومؤاخاتهم وموالاتهم وموادتهم ومحبتهم والاختلاط التام بهم في بعض الأقطار بحيث قد ارتفع فيها التمييز ظاهرًا بين المسلم والكافر فلا يعرف هذا من هذا إلا من كان يعرفهم بأعيانهم، وقد قادت هذه الموافقة والمشابهة كثيرًا من الناس إلى النفاق وكثيرًا منهم إلى الردة والخروج من دين الإسلام عياذًا بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه. فصل ولما كان التشبه بأعداء الله تعالى واتباع سننهم والأخذ بأخذهم من أعظم العوامل في هدم الإسلام ومحو السنن النبوية واطراح المناهج السلفية والمروآت والشيم العربية والاعتياض عن ذلك كله بأدناس المدنية الإفرنجية، أحببت أن أنبه ههنا على أنواع من المشابهة فشت في زماننا وكثر الواقعون فيها وقل المنكرون لها، وكثير مما أذكره قد وقع من أزمان

طويلة وما زال شره يزداد على مر الأوقات حتى عاد الماضي منه شبه لا شيء بالنسبة إلى ما تم في هذه الأزمان. وبعض ما أذكره لم يقع إلا في هذه الأزمان. والقصد من ذلك النصيحة للمسلمين وبيان ما خفي على أكثرهم من أنواع المشابهة وتحذيرهم من شؤم التشبه بأعداء الله تعالى وسوء عاقبته. والله المسئول أن يوفقنا جميعا لاتباع هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن يجنبنا هدي المشركين وأشباههم إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. النوع الأول من المشابهة وهو من أقبحها وأسوأها عاقبة ما ابتلى به الأكثرون من الغلو في القبور وبناء القباب عليها واتخاذ المساجد والسرج عليها وتعظيمها وتعظيم غيرها من الأشجار والأحجار وغيرها بما نهى عنه الشرع المطهر حتى آل الأمر بكثير منها إلى أن اتخذت أوثانا تعبد من دون الله ويفعل عندها من أنواع الشرك مثل ما كان المشركون الأولون يفعلونه عند اللات والعزى ومناة وغيرهن من الطواغي بل أعظم بكثير. وقد وردت أحاديث كثيرة أخبر فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن اتخاذ القبور مساجد من فعل اليهود والنصارى ولعنهم على ذلك وأخبر أنهم شرار الخلق عند الله يوم القيامة وحذر أمته ونهاهم أن يفعلوا كفعلهم، فيلحقهم من غضب الله ولعنته ولعنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما لحق أولئك وهذا من كمال نصحه لأمته وشدة شفقته عليهم صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين.

فمنها ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالت: فلولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا. ومنها ما في الصحيحين أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، وفي رواية لمسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». ومنها ما في الصحيحين أيضًا عن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم قالا: لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، يحذر ما صنعوا. ومنها ما في الصحيحين أيضا عن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة». ومنها ما في المسند وصحيح ابن حبان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد»، وقد أخرج البخاري بعض هذا الحديث في صحيحه.

ومنها ما في المسند أيضا عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: آخر ما تكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب واعلموا أن شرار الناس الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». ومنها ما في صحيح مسلم عن جندب رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليلٌ فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك». ومنها ما في المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». ومنها ما في موطأ مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». ومنها ما في المسند والسنن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج»، قال الترمذي: حديث حسن وصححه ابن حبان، وقد رواه الحاكم في مستدركه وقال: هو حديث متداول فيما بين الأئمة. وقد قابل القبوريون هذه الأحاديث الصحيحة بالتصامم والتعامي

عنها والعمل بخلافها محادة منهم لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - واتباعًا لسنن اليهود والنصارى. وما زال الشيطان يعظم عندهم أمر القبور ويزين لهم الغلو في أصحابها ويأمرهم بالتوسل بهم إلى الله في قضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفان ويوحي إليهم أنهم ينفعون ويضرون ويقربون عابديهم إلى الله زلفى ويشفعون لهم عنده حتى تمكنت وساوس الشيطان ووحيه وتزيينه من قلوبهم ورسخت فيها فصار افتتانهم بالقبور أعظم من افتتان اليهود والنصارى بقبور الأنبياء والصالحين، وما تركوا شيئا مما نهى عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحذر من فعله ولعن فاعله إلا وقد ارتكبوه وشاقوا الله ورسوله، فإنه - صلى الله عليه وسلم - نهاهم أن يتخذوا القبور مساجد كما اتخذها اليهود والنصارى فعاندوه وبنوا عليها المساجد وسموها مشاهد ثم آل الأمر بكثير منهم إلى أن شرعوا للقبور حجا ووضعوا لذلك مناسك وكسوا القبور كما تكسى الكعبة وجعلوا حول بعض الضرائح المعظمة عندهم مطافًا يطوفون فيه على القبر كما يطوف المسلمون بالكعبة وسموا ذلك المطاف حرما يريدون أن يضاهئوا بأوثانهم البيت العتيق الذي جعله الله مثابة للناس وحرما آمنًا. وقد حدثني غير واحد من رآهم يطوفون بالقبور ويتضرعون إلى أصحابها ويسألونهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفان، فما أشبه هؤلاء الضلال بالذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.

وكذلك قد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تجصيص القبور والبناء عليها والكتابة عليها، كما في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد والسنن عن جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه»، زاد الترمذي: «وأن يكتب عليها»، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وفي رواية لأبي داود والنسائي أو يزاد عليه أو يكتب عليه. ورواه ابن ماجه مختصرًا ولفظه: قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب على القبر شيء». ورواه الحاكم في مستدركه ولفظه: قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبنى على القبر أو يجصص أو يقعد عليه ونهى أن يكتب عليه» قال الحاكم على شرط مسلم وقد خرج بإسناده غير الكتابة فإنها لفظة صحيحة غريبة، وقال الذهبي في تلخيصه على شرط مسلم، وخرج منه. وفي رواية للحاكم: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تجصيص القبور والكتاب فيها والبناء عليها والجلوس عليها»، صححه الحاكم ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي سنن ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نهى أن يبنى على القبر». وقد خالف القبوريون هذه الأحاديث جملة وارتكبوا ما نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه من البناء على القبور والزيادة عليها وتجصيصها والكتابة عليها حتى لقد ذكر لنا عن بعض الأوثان أنه قد كتبت عليه الكتابات بماء الذهب، وذكر عن بعضها أنه كتب عليه بماء الذهب قول الله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم}، فجعلوه ندا لله تعالى بالعبادة والتعظيم. وجعلوه

النوع الثاني إطراح الأحكام الشرعية والاعتياض عنها بالقوانين والأنظمة الإفرنجية

ندا للرسول - صلى الله عليه وسلم - بوصفه بما وصف الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كتابه وهذا غاية المحادة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك قد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ السرج على القبور ولعن من أسرجها فأبى القبوريون إلا أن يغالوا في إسراجها. وكذلك قد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور من النساء فأبين إلا أن يزاحمن الرجال في زيارتها وأن يسافرن إلى زيارة الأوثان وحجها من الأماكن البعيدة والقريبة ويطفن حولها تضطرب إلياتهن كاسيات عاريات متبرجات يفتن الحي ويؤذين الميت. وكثير من المنتسبين إلى الإسلام يضعون الخوص على القبور. وبعضهم يضع عليها الأزهار الحسنة تحية للموتى كما يزعمون، وبعضهم يضع عليها الأزهار الصناعية. وبعضهم يضع عليها الرياحين. وبعضهم يصب عليها ماء الورد وأنواع الطيب، وكل هذه الأفعال الذميمة من التقاليد الإفرنجية، ومن تشبه بقوم فهو منهم. فصل النوع الثاني: من المشابهة وهو من أعظمها شرًا وأسوأها عاقبة ما ابتلي به كثيرون من اطّراح الأحكام الشرعية والاعتياض عنها بحكم الطاغوت من القوانين والنظامات الإفرنجية أو الشبيهة بالإفرنجية المخالف كل منها للشريعة المحمدية، وقد قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

وقد انحرف عن الدين بسبب هذه المشابهة فئام من الناس فمستقل من الانحراف ومستكثر. وآل الأمر بكثير منهم إلى الردة والخروج من دين الإسلام بالكلية فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والتحاكم إلى غير الشريعة المحمدية من الضلال البعيد والنفاق الأكبر قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}. ثم نفى تبارك وتعالى الإيمان عمن لم يحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند التنازع ولم يرض بحكمه ويطمئن إليه قلبه ولا يبقى لديه شك إن ما حكم به هو الحق الذي يجب المصير إليه فيذعن لذلك وينقاد له ظاهرًا وباطنا، وأقسم سبحانه وتعالى على هذا النفي بنفسه الكريمة المقدسة فقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. وما أكثر المعرضين عن أحكام الشريعة المحمدية من أهل زماننا ولا سيما أهل الأمصار الذين غلبت عليهم الحرية الإفرنجية، وهان لديهم ما أنزل الله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والحكمة فاعتاضوا عن التحاكم إليهما بالتحاكم إلى القوانين والسياسات والنظامات التي ما أنزل الله بها من سلطان وإنما هي متلقاة عن الدول الكافرة بالله ورسوله أو ممن يتشبه بهم ويحذو حذوهم من الطواغيت الذين ينتسبون إلى الإسلام وهم عنه بمعزل.

إبدال الحدود والتعزيرات بالحبس من اطراح الأحكام الشرعية

وأقبح من فعل المنافقين ما يذكر عن بعض أهل زماننا أنهم قالوا: إن العمل بالشريعة المحمدية يؤخرهم عن اللحاق بأمم الإفرنج وأضرابهم من أعداء الله تعالى. وهذه ردة صريحة والله المسئول أن يقيض لأهلها ولكل من لم يرض بأحكام الشريعة المحمدية من يعاملهم معاملة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لإخوانهم من قبل. فصل ومن اطراح الأحكام الشرعية ما يفعله كثير من المنتسبين إلى الإسلام من إبدال الحدود والتعزيرات بالحبس موافقة للإفرنج وأشباههم من أعداء الله تعالى وهذا مصداق ما في حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتنتقضن عرى الإسلام عروة عروة وكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن نقضًا الحكم وآخرهن الصلاة» رواه الإمام أحمد وابنه عبد الله وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه. فصل النوع الثالث: من المشابهة وهو من أشنعها وأسوأها عاقبة ما ابتلي به بعض المنتسبين إلى الإسلام من تقليد الشيوعيين في ظلم الأغنياء وأخذ أموالهم قهرًا بغير حق بدعوى الاشتراك بين الأغنياء والفقراء في المال. وهذا المذهب الخبيث مأخوذ عن المزدكية من المجوس وأول من أحدثه زرادشت ثم أظهر ذلك مزدك في أيام قباذ ودعا الناس إليه. وقد ذكر الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي عن يحيى بن بشر بن عمير النهاوندي أنه قال: كان أول ملوك المجوس كومرث فجاءهم بدينهم

ثم تتابع مدعو النبوة فيهم حتى اشتهر بها زرادشت وكان مما سنه زرادشت عبادة النار والصلاة إلى الشمس، وكانوا يستحلون فروج الأمهات وقالوا الابن أحرى بتسكين شهوة أمه، وإذا مات الزوج فابنه أولى بالمرأة فإن لم يكن له ابن اكترى رجل من مال الميت ويجيزون للرجل أن يتزوج بمائة وألف وأظهر هذا الأمر مزدك في أيام قباذ وأباح النساء لكل من شاء ونكح نساء قباذ لتقتدي به العامة فيفعلون في النساء مثله فلما بلغ إلى أم أنوشروان قال لقباذ أخرجها إليّ فإنك إن منعتني شهوتي لم يتم إيمانك فهم بإخراجها فجعل أنوشروان يبكي بين يدي مزدك ويقبل رجله بين يدي أبيه قباذ ويسأله أن يهب له أمه فقال قباذ لمزدك ألست تزعم أن المؤمن لا ينبغي أن يرد عن شهوته؟ قال: بلى قال: فلم ترد أنوشروان عن شهوته؟ قال: قد وهبتها له، ثم أطلق للناس في أكل الميتة فلما ولي أنوشروان أمتى المزدكية. وقال القرماني في تاريخه (أخبار الدول وآثار الأول) في الكلام على ملوك الفرس من الساسانية الذي من جملتهم قباذ. قال: وكان قباذ ضعيفًا مهينا في ملكه في أيام ظهر مزدك الزنديق وإليه تضاف المزدكية فادعى النبوة وأمر الناس بالتساوي في الأموال وأن يشتركوا في النساء؛ لأنهم إخوة لأب وأم آدم وحواء ودخل قباذ في دينه فشق ذلك على الناس وعظم عليهم وأجمعوا على خلع قباذ. وانضم إلى مزدك جماعة وقالوا: نحن نقاسم الناس ونرد على الفقراء حقوقهم من الأغنياء فكانوا يدخلون على الرجل في بيته فيغلبونه على أمواله ونسائه، فوثب رجل من الأشراف يعرف بابن ساجور في جماعة من أصحابه على مزدك فقتله فلم تبق ناحية إلا خرج منها خارج فخلعوا قباذ وولوا مكانه أخاه جاماسب بن فيروز ولحق قباذ بالهياطلة فأنجدوه وانتصر على أخيه جاماسب وحبسه واستمر قباذ في

الملك حتى قتل في يد العرب بمدينة الري وكان ملكه إلى أن هلك ثلاثًا وأربعين سنة، ثم ملك بعده ابنه أنوشروان ولما تولى الملك كان صغيرًا فلما استقل بالملك وجلس على السرير قال لخواصه إني عاهدت الله إن صار الملك إلي أن أعيد آل المنذر إلى الحيرة ثانيا وأن أقتل طائفة المزدكية الذين أفسدوا في أموال الناس ونسائهم، وكان مزدك قائمًا إلى جانب السرير فقال: هل تقتل الناس جميعا هذا فساد في الأرض والله قد ولاك لتصلح لا لتفسد. فقال له أنوشروان يا ابن الخبيثة أتذكر وقد سألت أبي قباذ أن يأذن لك في المبيت عند أمي، فأمر لك فمضيت نحو حجرتها فلحقت بك وقبلت رجلك وما زال نتن جواربك في أنفي منذ ذلك اليوم إلى الآن وسألتك حتى وهبتها لي ورجعت؟ فقال: نعم فأمر بقتله فقتل بين يديه وأخرج وأحرقت جثته وأمر بقتل أتباعه فقتل منهم خلقًا كثيرًا وأثبت ملة المجوسية القديمة وكتب بذلك إلى أصحاب الولايات وقوى جنده بالأسلحة والكراع وعمر البلاد وقسم أموال الزنادقة على الفقراء ورد الأموال التي لها أصحاب إلى أصحابها وأجرى الأرزاق للضعيفات اللاتي مات عنهن أزواجهن وأمر أن يزوجهن من مال كسرى وكذلك فعل بالبنات اللاتي لم يوجد لهن أب وأما البنون الذين لم يوجد لهم أب فأضافهم إلى مماليكه ورد المنذر إلى الحيرة وطرد الحارث عنها وكان الحارث مزدكيًا انتهى. وقد ذكر ابن جرير في تاريخه عن المزدكية نحو ما ذكره القرماني. فذكر أنهم قالوا: إن الله إنما جعل الأرزاق في الأرض ليقسمها العباد بينهم بالتآسي ولكن الناس تظالموا فيها، وزعموا أنهم يأخذون للفقراء من الأغنياء. ويردون من المكثرين على المقلين وأن من كان عنده فضل من الأموال

ذكر أصل الاشتراكية ومبدأها في العالم وما فيها من الفوضى والظلم العظيم والفساد العريض

والنساء والأمتعة فليس هو أولى به من غيره فافترص السفلة ذلك واغتنموا وكاتفوا مزدك وأصحابه وشايعوهم فابتلي الناس بهم وقوي أمرهم حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله لا يستطيع الامتناع منهم وحملوا قباذ على تزيين ذلك وتوعدوه بخلعه فلم يلبثوا إلا قليلا حتى صاروا لا يعرف الرجل منهم ولده ولا المولود أباه، ولا يملك الرجل شيئا مما يتسع به وصيروا قباذ في مكان لا يصل إليه أحد سواهم وجعلوا أخا له يقال له جاماسب مكانه وقالوا لقباذ: إنك قد أثمت فيما عملت به فيما مضى وليس يطهرك من ذلك إلا إباحة نسائك وأرادوه أن يدفع إليهم نفسه ويجعلوه قربانا للنار فلما رأى ذلك زرمهر بن سوخرا خرج بمن شايعه من الأشراف باذلا نفسه فقتل من المزدكية ناسًا كثيرًا وأعاد قباذ إلى ملكه وطرح أخاه جاماسب ثم لم تزل المزدكية بعد ذلك يحرشون قباذ على زرمهر حتى قتله ولم يزل قباذ من خيار ملوكهم حتى حمله مزدك على ما حمله عليه فانتثرت الأطراف وفسدت الثغور. وذكر ابن جرير أن كسرى أنوشروان كتب إلى رعيته كتابا يحذرهم فيه مما دعا إليه مزدك ويذكر أنها ملة رجل منافق من أهل فسا يقال له زرادشت بن خركان ابتدعها في المجوسية فتابعه الناس على بدعته تلك وفاق أمره فيها. قال كسرى وكان ممن دعا العامة إليها رجل من أهل مذرية يقال له مزدق بن بامدا وكان مما أمر به الناس وزينه لهم وحثهم عليه التآسي في أموالهم وأهليهم وذكر أن ذلك من البر الذي يرضاه الله ويثيب عليه أحسن الثواب، وأنه لو لم يكن الذي أمرهم به وحثهم عليه من الدين كان مكرمة في الفعال، ورضا في التفاوض فحض بذلك السفلة على العلية واختلط له أجناس اللؤماء بعناصر الكرماء وسهل

السبيل للغصبة إلى الغصب وللظلمة إلى الظلم وللعهار إلى قضاء نهمتهم والوصول إلى الكرائم اللاتي لم يكونوا يطمعون فيهن وشمل الناس بلاء عظيم لم يكن لهم عهد بمثله فنهى الناس كسرى عن السيرة بشيء مما ابتدع زرادشت بن خركان ومزدك بن بامدا وأبطل بدعتهما وقتل بشرًا كثيرًا ثبتوا عليها ولم ينتهوا عما نهاهم عنه منها. وذكر ابن جرير أيضًا أنه لما عقد التاج على رأس كسرى دخل عليه العظماء والأشراف فاجتهدوا في الدعاء له فلما قضوا مقالتهم قام خطيبا فبدأ بذكر نعم الله على خلقه وتوكله بتدبير أمورهم وتقدير الأقوات والمعايش لهم ولم يدع شيئا إلا ذكره في خطبته ثم أعلم الناس ما ابتلوا به من ضياع أمورهم وانمحاء دينهم وفساد حالهم في أولادهم ومعايشهم وأعلمهم أنه ناظر فيما يصلح ذلك ويحسمه وحث الناس على معاونته ثم أمر برءوس المزدكية فضربت أعناقهم وقسمت أموالهم في أهل الحاجة وقتل جماعة كثيرة ممن كان دخل على الناس في أموالهم ورد الأموال إلى أهلها وأمر بكل مولود اختلف فيه أن يلحق بمن هو منهم إذا لم يعرف أبوه وأن يعطى نصيبًا من مال الرجل الذي يسند إليه إذا قبله الرجل وبكل امرأة غلبت على نفسها أن يؤخذ الغالب لها حتى يغرم لها مهرها ويرضي أهلها ثم تخير المرأة بين الإقامة عنده وبين التزويج من غيره إلا أن يكون لها زوج أول فترد إليه وأمر بكل من كان أضر برجل في ماله أو ركب أحدًا بمظلمة أن يؤخذ منه الحق ثم يعاقب الظالم بعد ذلك بقدر جرمه وأمر بعيال ذوي الأحساب الذين مات قيمهم فأنكح بناتهم الأكفاء وجعل جهازهن من بيت المال وأنكح شبابهم من بيوتات الأشراف وساق عنهم وأغناهم وأمرهم بملازمة بابه ليستعان بهم في أعماله وخير نساء والده بين

أن يقمن مع نسائه فيواسين ويصرن في الأجر إلى أمثالهن أو يبتغي لهن أكفاءهن من البعولة انتهى. وقال الشهرستاني في الملل والنحل كان مزدك ينهى الناس عن المخالفة والمباغضة والقتال ولما كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب الناس والأموال أحل النساء وأباح الأموال وجعل الناس شريكة فيها كاشتراكهم في الماء والكلأ والنار انتهى. ومما ذكرنا يعلم أصل الاشتراكية الخبيثة وأنها موروثة عن زرادشت ومزدك واتباعهما من زنادقة المجوس وفجرتهم، ويعلم أيضا رجحان عقل كسرى أنوشروان وعقول أتباعه من الأعاجم الكفار على عقول طغاة الاشتراكيين في زماننا مع كونهم ينتسبون إلى الإسلام وإلى العربية وهم بعيدون كل البعد عنهما. فكسرى مع كفره أعقل وأعدل وأحسن سياسة ونظرًا للرعية من طغاة الاشتراكيين. ويعلم أيضًا ما تشتمل عليه الاشتراكية من الفوضى والظلم العظيم والفساد العريض. ويعلم أيضًا مخالفة هذا المذهب الخبيث للشريعة المحمدية ولجميع شرائع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وقد زعم بعض طغاة الاشتراكيين وزنادقتهم أن الاشتراكية من دين الإسلام فجنوا بهذه الدعوى جنايتين عظيمتين. إحداهما على الإسلام حيث افتروا عليه إثمًا عظيمًا وألصقوا به الظلم الذي حرمه الله على نفسه وجعله محرمًا بين عباده كما في الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن

تكفير من جعل الاشتراكية من الإسلام

الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا» رواه مسلم في صحيحه والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود الطيالسي في مسنده، وقد قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} الآية، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. وقد اتفقت الشرائع السماوية على تحريم الظلم وأجمع المسلمون على ذلك، والنصوص من الكتاب والسنة على تحريم الظلم وأخذ الأموال بغير حق كثيرة جدا وسأذكر طرفًا منها قريبا إن شاء الله تعالى. والقول بأن الاشتراكية من دين الإسلام قول معلوم البطلان بالضرورة من الدين وهو كفر لا شك فيه؛ لأن القائل بذلك قد شرع من الدين ما لم يأذن به الله واستحل ما هو محرم بالنص والإجماع. ومن شرع دينًا لم يأذن به الله فهو طاغوت، ومن استحل محرما مجمعًا على تحريمه فقد كفر. الجناية الثانية: على الأغنياء بأخذ أموالهم بغير حق، وقد قال الله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}. وقال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا}، وقال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ}، وقال تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}.

الوعيد الشديد للظلمة. وتحريم أخذ المال بغير حق وشدة العقوبة على ذلك

وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} الآية». وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الظلم ظلمات يوم القيامة» رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ورواه الإمام أحمد ومسلم والبخاري في الأدب المفرد من حديث جابر رضي الله عنه، ورواه البخاري في الأدب المفرد وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي في تلخيصه. ورواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ورواه الطبراني من حديث الهرماس بن زياد. وفي مستدرك الحاكم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أهل الجور وأعوانهم في النار»، قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وروى أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الجلاوزة والشرط وأعوان الظلمة كلاب النار». وروى الطبراني في الأوسط والصغير عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد له ناصرًا غيري». وروى أبو الشيخ ابن حيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله تبارك وتعالى وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم

في عاجله وآجله ولأنتقمن ممن رآى مظلومًا فقدر أن ينصره فلم يفعل». وروى البخاري في الأدب المفرد من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يكون في آخر أمتي مسخ وقذف وخسف ويبدأ بأهل المظالم». ولقد أحسن الشاعر حيث يقول: إذا ظالم استحسن الظلم مركبًا ... ولج عتوا في قبيح اكتسابه فَكِلْهُ إلى ريب الزمان فإنه ... سيبدي له ما لم يكن في حسابه فكم قد رأينا ظالمًا متجبرًا ... يرى النجم تيهًا تحت ظل ركابه فلما تمادى واستطال بظلمه ... أناخت صروف الحادثات ببابه وعوقب بالظلم الذي كان يقتفى ... وصب عليه الله سوط عذابه وروى ابن حبان في صحيحه عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل لمسلم أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه» قال ذلك لشدة ما حرم الله من مال المسلم على المسلم. وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والبخاري في الأدب المفرد من حديث السائب بن يزيد عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبًا ولا جادًا -وفي رواية- لعبًا ولا جدًا ومن أخذ عصا أخيه فليردها» قال الترمذي: حسن غريب. وإذا كان الأمر هكذا في العصا فكيف بالدور والأرضين والأموال العظيمة من النقود وغيرها. فليبشر الاشتراكيون وأشباههم من الظلمة بغضب الله وأليم عقابه إن لم يتوبوا مما فعلوه ويردوا إلى الناس ما أخذوه منهم بغير حق فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق

لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان»، رواه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وإسناده صحيح على شرط البخاري. وروى الإمام أحمد أيضا ومسلم من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من اقتطع أرضًا ظالمًا لقي الله وهو عليه غضبان». وروى مالك وأحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي أمامة الحارثي رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة»، فقال رجل وإن كان شيئا يسيرًا قال: «وإن كان قضيبا من أراك»، وفي رواية مالك قال: «وإن كان قضيبا من أراك وإن كان قضيبا من أراك وإن كان قضيبًا من أراك». قالها ثلاث مرات، وفي رواية ابن ماجه قال: «وإن كان سواكا من أراك». وروى الإمام أحمد أيضًا والشيخان عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين». وروى الإمام أحمد والشيخان أيضا وأبو داود الطيالسي عن سعيد بن زيد رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه وروى الإمام أحمد أيضا ومسلم وأبو داود الطيالسي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يأخذ أحد شبرًا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة». وروى الإمام أحمد أيضًا والبخاري من حديث عبد الله بن عمر

رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين». وروى الإمام أحمد أيضا والطبراني في الكبير عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي الظلم أعظم؟ وفي رواية أظلم قال: «ذراع من الأرض ينتقصه من حق أخيه فليست حصاة من الأرض أخذها إلا طوقها يوم القيامة إلى قعر الأرض ولا يعلم قعرها إلا الذي خلقها»، قال المنذري والهيثمي إسناد أحمد حسن. وروى الإمام أحمد والطبراني أيضًا وابن حبان في صحيحه عن يعلى بن مرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أيما رجل ظلم شبرًا من الأرض كلفه الله عز وجل أن يحفره حتى يبلغ به سبع أرضين ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضى بين الناس». وفي رواية لأحمد والطبراني قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من أخذ أرضًا بغير حقها كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر». وفي رواية للطبراني في الكبير: «من ظلم من الأرض شبرًا كلف أن يحفره حتى يبلغ الماء ثم يحمله إلى المحشر». وروى أبو يعلى والحاكم في مستدركه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اتقوا المظالم ما استطعتم فإن العبد يجيء يوم القيامة وله من الحسنات ما يرى أنه ينجيه فلا يزال عبد يقوم فيقول يا رب إن فلانا ظلمني مظلمةً فيقول امحوا من حسناته حتى لا يبقى له حسنة». قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وقال أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو ماله فليؤدها إليه قبل أن يأتي إليه يوم القيامة لا يقبل فيه دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه وأعطي صاحبه وإن لم يكن له عمل صالح أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه»، وقد رواه البخاري في صحيحه من طريق ابن أبي ذئب فذكره بنحوه. ورواه الترمذي في جامعه من طريق زيد بن أبي أنيسة عن سعيد المقبري فذكره بنحوه، وقال: هذا حديث حسن صحيح قال: وقد روى مالك بن أنس عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وروى الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «هل تدرون من المفلس؟» قالوا المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع قال: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصيام وصلاة وزكاة ويأتي قد شتم عرض هذا وقذف هذا وأكل مال هذا فيقعد فيقتص هذا من حسناته، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه من الخطايا أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار». قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى الإمام أحمد ومسلم والترمذي أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا

أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا}، وقال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. وفي صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوم النحر فقال: «يا أيها الناس أي يوم هذا؟» قالوا: يوم حرام، قال: «فأي بلد هذا؟» قالوا: بلد حرام. قال: «فأي شهر هذا؟» قالوا: شهر حرام. قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا» فأعادها مرارًا ثم رفع رأسه فقال: «اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟» قال ابن عباس رضي الله عنهما فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته «فليبلغ الشاهد الغائب لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» هذا لفظ البخاري. وفي صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد أيضًا وسنن الدارمي عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وفي صحيح البخاري أيضًا وسنن ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فيها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أي يوم هذا؟» قالوا: يوم النحر، قال: «فأي بلد هذا؟» قالوا: بلد الله الحرام. قال: «فأي شهر هذا؟» قالوا: شهر الله الحرام قال: «هذا يوم الحج الأكبر ودماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة هذا البلد في هذا الشهر في هذا اليوم» ثم قال: هل بلغت؟ قالوا: نعم فطفق النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم اشهد»، هذا لفظ ابن ماجه وإسناده جيد.

وفي سنن ابن ماجه أيضًا بإسناد صحيح عن عمرو بن الأحوص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في حجة الوداع: «يا أيها الناس ألا أي يوم أحرم؟ ثلاث مرات» قالوا: يوم الحج الأكبر. قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» الحديث. وفي آخره: «ألا يا أمتاه هل بلغت؟» ثلاث مرات قالوا: نعم. قال: «اللهم اشهد». ثلاث مرات، وقد رواه الترمذي في جامعه بنحوه مطولاً ومختصرًا، وقال: هذا حديث حسن صحيح. قال: وفي الباب عن أبي بكرة وابن عباس وجابر وحذيم بن عمرو السعدي. قلت: أما حديث أبي بكرة وحديث ابن عباس رضي الله عنهم فقد تقدم ذكرهما، وأما حديث جابر رضي الله عنه فرواه مسلم في صحيحه وأبو داود وابن ماجه والدارمي في سننهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم عرفة: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا». وأما حديث حذيم بن عمرو السعدي رضي الله عنه فرواه النسائي وابن حبان في صحيحه من طريق موسى بن زياد بن حذيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام» الحديث. وقد روى البخاري طرفًا منه في تاريخه الكبير. وروى الدارمي في سننه عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه شهد خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم عرفة في حجة الوداع: «أيها الناس إني والله

لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد يومي هذا بمكاني هذا فرحم الله من سمع مقالتي اليوم فوعاها، فرب حامل فقه ولا فقه له ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، واعلموا أن أموالكم ودماءكم حرام عليكم كحرمة هذا اليوم في هذا الشهر في هذا البلد» الحديث. وفي سنن ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على ناقته المخضرمة بعرفات فقال: «أتدرون أي يوم هذا وأي شهر هذا وأي بلد هذا؟» قالوا: هذا بلد حرام وشهر حرام ويوم حرام. قال: «ألا وإن أموالكم ودماءكم عليكم حرام كحرمة شهركم هذا في بلدكم هذا في يومكم هذا». قال في الزوائد: إسناده صحيح. وفي المسند وصحيح مسلم وجامع الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه». وروى الإمام أحمد أيضًا والبزار والدارقطني واللفظ له عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «حرمة مال المؤمن كحرمة دمه»، ورواه الطبراني في الكبير قال الهيثمي ورجاله رجال الصحيح. وروى الإمام أحمد والطبراني في الأوسط والدارقطني في سننه عن عمرو بن يثربي رضي الله عنه قال: شهدت خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى وكان فيما خطب به أن قال: «لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه» فقلت: يا رسول الله أرأيت لو لقيت غنم ابن عمي فاجتزرت منها شاة هل علي في ذلك شيء؟ قال: «إن لقيتها تحمل شفرة وأزنادًا فلا تمسها».

وفي رواية للدارقطني قال خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ألا ولا يحل لامرئ مسلم من مال أخيه شيء إلا بطيبة نفس منه» الحديث. وروى الإمام أحمد والدارقطني أيضًا عن أبي حرة الرقاشي عن عمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه». وروى الدارقطني أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه» وروى الدارقطني أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته في حجته: «ألا وإن المسلم أخو المسلم لا يحل له دمه ولا شيء من ماله إلا بطيب نفسه ألا هل بلغت؟!» قالوا: نعم. قال: «اللهم اشهد». وقد روى الحاكم في المستدرك نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس في حجة الوداع -فذكر الحديث وفيه: «أن كل مسلم أخو المسلم، المسلمون إخوة ولا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس ولا تظلموا ولا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»، إسناده صحيح. وروى الترمذي من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا إن المسلم أخو المسلم فليس يحل لمسلم من أخيه شيء إلا ما أحل من نفسه» الحديث. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. والأحاديث في تحريم أخذ الأموال بغير حق كثيرة جدًا وفيما ذكرته ههنا كفاية لمن أراد الله هدايته، ومن يضلل الله فلا هادي له.

وكما أن الاشتراكيين قد جنوا على الإسلام وعلى الأغنياء فقد جنوا أيضًا على الفقراء وعلى غيرهم ممن يعطونه من السحت الذي يأخذونه من الأغنياء قهرًا بغير حق ومن نبت لحمه من السحت فالنار أولى به. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أن الله أبى عليّ أن يدخل الجنة لحمًا نبت من سحت فالنار أولى به»، رواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي المستدرك أيضًا من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا كعب بن عجرة إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت فالنار أولى به». وفي المستدرك أيضا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من نبت لحمه من السحت فالنار أولى به». وفي المستدرك أيضًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «من نبت لحمه من السحت فالنار أولى به». وروى أبو نعيم في الحلية من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به». فصل وقد ضم الاشتراكيون إلى الجنايات اللاتي ذكرنا أمرين آخرين عظيمين:

أحدهما: التشبه بالمزدكية من المجوس، ثم بالشيوعيين من بعدهم، ومذهب هؤلاء هو أخبث مذهب طرق العالم. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم» وقد تقدم هذا الحديث والكلام عليه في أول الكتاب فليراجع. وعلى هذا فالحكم في الاشتراكيين كالحكم في المزدكيين والشيوعيين سواء بسواء. الأمر الثاني: الاعتراض على أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وعدم الرضاء بقضائه وقسمته بين عباده. فإن الله تبارك وتعالى فاوت بين الناس في الأرزاق فجعل بعضهم أغنياءً وبعضهم فقراءً كما فاوت بينهم في العقول والأخلاق والعلوم والقوى والألوان والأشكال والأعمار والصحة والأسقام وغير ذلك ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ومن يشكره ممن يكفره. قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ}. وقال تعالى: {وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ}، وقال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً}. وقال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. وقال تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} والآيات في هذا المعنى كثيرة.

النوع الرابع الدعوة إلى القومية العربية

وفي المسند من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا لمن أحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه» قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال: «غشمه وظلمه ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق به فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث»، وقد رواه الحاكم في مستدركه مختصرًا وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي في تلخيصه. وللمفتونين بالاشتراكية شبه يتشبثون بها وقد استوفى الرد عليها ثلاثة من أفاضل العلماء في ثلاث رسائل صدرت من دار الإفتاء بالرياض وقد اكتفيت بما كتبوه إذ لا مزيد على ذلك فجزاهم الله تعالى خير الجزاء ووفقنا وإياهم لنصر الحق وقمع الباطل. فصل النوع الرابع: من التشبه بأهل الجاهلية ما افتتن به بعض المنتسبين إلى الإسلام في زماننا من الدعوة إلى القومية العربية والاعتياض بها عن الأخوة الإسلامية وعن الدعوة إلى سبيل الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة. وهذه دسيسة الإفرنج ومكيدة من مكائدهم أرادوا بها

تفريق شمل المسلمين وإيقاع العداوة والبغضاء بينهم. وأول ما فعلوا ذلك في بلاد الشام منذ أكثر من ستين سنة على أيدي دعاتهم المبشرين ليفصلوا الترك عن العرب، ذكر ذلك بعض المؤرخين، وذكر أنهم عقدوا لذلك مؤتمرًا في باريس منذ أكثر من خمسين سنة، وكثرت بسبب ذلك الجمعيات العربية وتعددت الاتجاهات. قلت: ولم تزل الدعوة إليها تزداد والافتتان بها ينمو من ذلك الحين إلى زماننا هذا. وقد نبه على هذه الدسيسة الإفرنجية صاحب المنار محمد رشيد رضا في كتابه (الخلافة والإمامة العظمى) فقال: ومن وسائل المتفرنجين لإماتة الدين تعارض المانع والمقتضى فاتخذوا لإزالة الموانع وسائل: منها: بث الإلحاد والتعطيل في المدارس الرسمية ولا سيما العسكرية وفي الشعب جميعًا وألفوا لذلك كتبًا ورسائل بأساليب مختلفة. ومنها تربية النابتة الحديثة في المدارس وفي الجيش على العصبية الجنسية وإحلال خيالها محل الوجدان الديني بجعلها في المثل الأعلى للأمة والفخر برجالها المعروفين في التاريخ، وإن كانوا من المفسدين المخربين بدلا من الفخر برجال الإسلام من الخلفاء الراشدين وغيرهم من السلف الصالحين ولهم في ذلك أشعار وأناشيد يتغنى بها التلاميذ والجنود وغيرهم انتهى. وقد زاد الحمق والغرور ببعض أهل الجهل المركب في زماننا فزعموا أن القومية العربية هي روح الإسلام، وأن الدعوة إليها دعوة إلى روح الإسلام.

أحاديث في ذم دعوى الجاهلية والتشديد في ذلك

وهذا خطأ كبير وضلال بعيد وجناية عظيمة على الإسلام حيث ألصقوا به ما يذمه الإسلام وينهى عنه من دعوى الجاهلية والتعزي بعزائها، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. وروى عبد بن حميد والترمذي وابن أبي حاتم والبغوي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوم فتح مكة فقال: «يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها فالناس رجلان رجل برّ تقيٌّ كريمٌ على الله، وفاجرٌ شقيٌّ هينٌ على الله والناس بنو آدم وخلق الله آدم من التراب، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}». وروى أبو داود والترمذي والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي وفاجر شقي أنتم بنو آدم، وآدم من تراب ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن». هذا لفظ أبي داود ولفظ الترمذي قال: «لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخراء بأنفه، إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم وآدم خلق من التراب»، قال الترمذي: هذا حديث حسن وصححه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية.

العبية بضم العين وكسر الباء الموحدة وتشديدها وتشديد الياء قال أهل اللغة: هي الكبر والفخر والنخوة. قلت: ومن الفخر والنخوة الدعوة إلى القومية العربية وغيرها من القوميات والعصبيات. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: أضاف العبية والفخر إلى الجاهلية يذمهما بذلك وذلك يقتضي ذمهما بكونهما مضافين إلى الجاهلية وذلك يقتضي ذم كل الأمور المضافة إلى الجاهلية انتهى. وروى البزار عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان». وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى». وروى الطبراني عن محمد بن حبيب بن خراش العصري عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «المسلمون إخوة لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى». وروى البيهقي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أوسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: «يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى إن

أكرمكم عند الله أتقاكم ألا هل بلغت؟» قالوا: بلى يا رسول الله قال: «فليبلغ الشاهد الغائب». وروى الإمام أحمد وابن جرير والبيهقي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحد كلكم بنو آدم طف الصاع لم تملئوه ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين وتقوى وكفى بالرجل أن يكون بذيًا بخيلاً فاحشًا». قوله: طف الصاع قال ابن الأثير: أي قريب بعضكم من بعض يقال هذا طف المكيال وطفافه، وطفافه أي ما يقرب من ملئه وقيل هو ما علا فوق رأسه ويقال له أيضا طفاف بالضم والمعنى كلكم في الانتساب إلى أب واحد بمنزلة واحدة في النقص والتقاصر عن غاية التمام وشبههم في نقصانهم بالمكيل الذي لم يبلغ أن يملأ المكيال ثم أعلمهم أن التفاضل ليس بالنسب ولكن بالتقوى. وروى مسلم في صحيحه وأبو داود في سننه والبخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد». وروى البخاري في الأدب المفرد وابن ماجه في سننه بإسناد حسن من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم والنياحة».

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: ذم في هذا الحديث من دعا بدعوى الجاهلية وأخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذمًا لمن لم يتركه وهذا كله يقتضي أن ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها. ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم وهذا كقوله تعالى: {ولا تبرجن تبرك الجاهلية الأولى} فإن ذلك ذم للتبرج وذم لحال الجاهلية الأولى وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة ومنه قوله لأبي ذر رضي الله عنه لما عير رجلاً بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية، فإنه ذم لذلك الخلق ولأخلاق الجاهلية التي لم يجئ بها الإسلام، ومنه قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}. فإن إضافة الحمية إلى الجاهلية يقتضي ذمها فما كان من أخلاقهم وأفعالهم فهو كذلك. انتهى. وفي المسند وصحيح ابن حبان من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاث من عمل أهل الجاهلية لا يتركهن أهل الإسلام: النياحة والاستسقاء بالأنواء وكذا»، قلت لسعيد: وما هو؟ قال: دعوى الجاهلية يا آل فلان يا آل فلان. وفي الصحيحين والمسند وجامع الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجر: يا للمهاجرين فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما بال دعوى الجاهلية؟» قالوا:

يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال: «دعوها فإنها منتنة». وفي رواية للبخاري: «فإنها خبيثة» وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده مختصرًا. قال النووي كسع بسين مخففة أي ضرب دبره وعجيزته بيد أو رجل أو سيف وغيره، وقال ابن حجر العسقلاني المشهور فيه أنه ضرب الدبر باليد أو بالرجل. قال ووقع عند الطبراني من وجه آخر عن عمرو بن دينار عن جابر رضي الله عنه أن رجلا من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار برجله وذلك عند أهل اليمن شديد. وقوله: يا للأنصار بفتح اللام وهي للاستغاثة أي أغيثوني وكذا قول الآخر يا للمهاجرين. وقوله دعوها فإنها منتنة أي دعوة الجاهلية وأبعد من قال المراد الكسعة. ومنتنة بضم الميم وسكون النون وكسر المثناة من النتن أي أنها كلمة قبيحة خبيثة. قلت: ونظير هذا ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا كذب العبد تباعد عنه الملك ميلا من نتن ما جاء به»، رواه الترمذي وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن جيد غريب. ونظيره أيضا ما رواه الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فارتفعت ريح منتنة فقال: «أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين». وفي حديث جابر رضي الله عنه الذي تقدم ذكره دليل على أن

الدعوة إلى القومية العربية دعوة منتنة خبيثة؛ لأنها من دعوى الجاهلية. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: هذان الاسمان المهاجرون والأنصار اسمان شرعيان جاء بهما الكتاب والسنة وسماهما الله بهما كما سمانا المسلمين من قبل وفي هذا، وانتساب الرجل إلى المهاجرين والأنصار انتساب حسن محمود عند الله وعند رسوله ليس من المباح الذي يقصد به التعريف فقط كالانتساب إلى القبائل والأمصار ولا من المكروه أو المحرم كالانتساب إلى ما يفضي إلى بدعة أو معصية أخرى ثم مع هذا لما دعا كل منهما طائفته منتصرًا، بها أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وسماها دعوى الجاهلية حتى قيل له إن الداعي بهما إنما هما غلامان لم يصدر ذلك من الجماعة فأمر بمنع الظالم وإعانة المظلوم ليبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المحذور من ذلك إنما هو تعصب الرجل لطائفته مطلقًا فعل أهل الجاهلية. فأما نصرها بالحق من غير عدوان فحسن واجب أو مستحب - إلى أن قال- فإذا كان هذا التداعي في هذه الأسماء وفي هذا الانتساب الذي يحبه الله ورسوله فكيف بالتعصب مطلقًا والتداعي للنسب والإضافة التي هي إما مباحة أو مكروهة؟ إلى أن قال: فقد دلت الأحاديث على أن إضافة الأمر إلى الجاهلية يقتضي ذمه والنهي عنه وذلك يقتضي المنع من كل أمور الجاهلية مطلقًا، انتهى. وفي الصحيحين والمسند والسنن إلا أبا داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس منا من ضرب الخدود أو شق الجيوب أو دعا بدعوى الجاهلية».

وروى الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم» قيل: يا رسول الله! وإن صام وصلى؟! قال: «وإن صام وصلى تداعوا بدعوى الله الذي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله»، هذا لفظ أبي داود الطيالسي وفي رواية أحمد: «وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم». قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، قال محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- الحارث الأشعري له صحبة وله غير هذا الحديث. قلت: وقال الحاكم في مستدركه الحارث الأشعري صحابي معروف سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب يقول: سمعت الدوري يقول: سمعت يحيى ابن معين يقول: الحارث الأشعري له صحبة قال الحاكم: وهذا حديث صحيح، وقال في موضع آخر قد أخرج الشيخان برواة هذا الحديث عن آخرهم والحديث على شرط الأئمة صحيح محفوظ. وأقره الذهبي في تلخيصه. وقال الحاكم في موضع آخر على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى أبو يعلى والحاكم في مستدركه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ومن دعا دعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم» قالوا: يا رسول الله! وإن صام وصلى؟! قال: «وإن صام وصلى» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي بأن في إسناده عبيس بن ميمون وقد ضعفوه قال: والخبر منكر. قلت: والحديث قبله يشهد له ويقويه.

قال ابن الأثير وابن منظور في لسان العرب الجثا جمع جثوة بالضم وهو الشيء المجموع انتهى. وفي هذا الحديث والذي قبله أبلغ تحذير من الدعوة إلى القومية العربية وغيرها من دعوى الجاهلية. وروى الإمام أحمد والبغوي في شرح السنة عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا». وقد رواه البخاري في الأدب المفرد فقال: حدثنا عثمان المؤذن قال: حدثنا عوف عن الحسن عن عتي بن ضمرة قال: رأيت عند أبي رضي الله عنه رجلاً تعزى بعزاء الجاهلية فأعضه أبي ولم يكنه فنظر إليه أصحابه قال: كأنكم أنكرتموه فقال: إني لا أهاب في هذا أحدًا أبدًا إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه ولا تكنوه» إسناده صحيح. ثم رواه أيضا عن عثمان قال: حدثنا المبارك - يعني ابن حسان السلمي- عن حسن عن عتي مثله، وهذا إسناد جيد. قال ابن الأثير وابن منظور في لسان العرب: العزاء والعزوة اسم لدعوى المستغيث وهو أن يقول: يا فلان أو يا للأنصار ويا للمهاجرين. ومنه الحديث الآخر من لم يتعز بعزاء الله فليس منا أي من لم يدع بدعوى الإسلام فيقول: يا للإسلام أو يا للمسلمين أو يا ألله، ومنه حديث عمر: «ستكون للعرب دعوى قبائل فإذا كان كذلك فالسيف السيف حتى يقولوا: يا للمسلمين» انتهى. والهن كناية عن الفرج قال ابن الأثير وابن منظور، وفي الحديث: «من

تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا». أي قولوا له عض أير أبيك انتهى، وفي هذا الحديث أبلغ ذم وتنفير من التداعي بدعوى الجاهلية والتعزي بعزائها. ومن ذلك الدعوة إلى القومية العربية وغيرها من القوميات والعصبيات، فمن دعا إلى شيء من ذلك فينبغي أن يقال له اعضض أير أبيك، ولا كرامة له ولا نعمة عين. وقد روى أبو داود في سننه عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل عصبية وليس منا من مات على عصبية». وروى أبو داود الطيالسي ومسلم والنسائي عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل تحت راية عمية يدعو عصبية أو ينصر عصبية فقتلة جاهلية». وروى الإمام أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتله جاهلية» هذا لفظ مسلم، ولفظ النسائي «ومن قاتل تحت راية عمية يدعو إلى عصبية أو يغضب لعصبية فقتل فقتلة جاهلية»، وفي رواية لمسلم: «ومن قتل تحت راية عمية يغضب للعصبة ويقاتل للعصبة فليس من أمتي». قوله تحت راية عمية. قال ابن الأثير قيل هو فعيلة من العماء الضلالة كالقتال في العصبية والأهواء، وحكى بعضهم فيها ضم العين. وقال النووي هي بضم العين، وكسرها لغتان مشهورتان والميم مكسورة

مشددة والياء مشددة أيضًا قالوا: هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه كذا قاله أحمد بن حنبل والجمهور قال إسحاق بن راهويه هذا كتقاتل القوم للعصبية. قلت: وكذا قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه الذي يقاتل تعصبًا لقومه أو أهل بلده ونحو ذلك. قال: وسمّى الراية عمياء لأنه أمر الأعمى الذي لا يدري وجهه فكذلك قتال العصبية يكون عن غير علم بجواز قتال هذا وجعل قتلة المقتول قتلة جاهلية سواء غضب بقلبه أو دعا بلسانه أو ضرب بيده. وقد فسر ذلك فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل ولا يدري المقتول على أي شيء قتل» فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: «الهرج القاتل والمقتول في النار». قلت: وهذا الحديث يطابق حال أهل الثورات في زماننا. قال الشيخ: ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - سمى الميتة والقتلة ميتة جاهلية وقتلة جاهلية على وجه الذم لها والنهي عنها، وإلا لم يكن قد زجر عن ذلك فعلم أنه كان قد تقرر عند أصحابه أن ما أضيف إلى الجاهلية من ميتة وقتلة ونحو ذلك فهو مذموم منهي عنه وذلك يقتضي ذم كل ما كان من أمور الجاهلية وهو المطلوب انتهى. قال السندي في حاشيته على سنن النسائي وفيه أن من قاتل تعصبًا لا لإظهار دين ولا لإعلاء كلمة الله كان على الباطل انتهى. والعصبية والتعصب المحاماة والمدافعة قاله ابن الأثير وابن منظور.

قال ابن منظور: والعصبية أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم على من يناوئهم ظالمين كانوا أو مظلومين. قلت: وهذا هو غاية المقصود من القومية العربية، فإنها دعوة إلى نصرة العرب بعضهم بعضًا وتألبهم على غيرهم من أجناس بني آدم مسلمين كانوا أو غير مسلمين. وقد روى أبو داود في سننه عن بنت واثلة بن الأسقع أنها سمعت أباها رضي الله عنه يقول: قلت: يا رسول الله ما العصبية؟ قال: «أن تعين قومك على الظلم». ورواه البخاري في الأدب المفرد بنحوه ورواه ابن ماجه ولفظه قالت: سمعت أبي يقول سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال: «لا، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم». ولا يخفى على ذي علم ما تشتمل عليه القومية العربية من الظلم العظيم وهو التفريق بين أجناس المسلمين من العرب وغير العرب وإيقاع العداوة والبغضاء بينهم وقطع الأخوة الإسلامية التي عقدها الله ورسوله بينهم كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}، وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}. وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عدة أوجه في الصحيحين وغيرهما أنه قال: «المسلم أخو المسلم».

أحاديث في التحذير من إفساد ذات البين وأن ذلك يحلق الدين

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي تقدم في ذم الاشتراكية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن كل مسلم أخو المسلم المسلمون إخوة». وتقدم أيضًا حديث حبيب بن خراش العصري وفيه: «المسلمون إخوة». وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا ثم شبك بين أصابعه». وفي الصحيحين أيضًا عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى». وفي رواية لأحمد ومسلم: «المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله»، والأحاديث في عقد الأخوة بين المسلمين كثيرة وليس هذا موضع ذكرها. وإذا علم هذا فالدعاء إلى القومية العربية غايته إفساد ذات البين بين المسلمين من العرب وغير العرب، وفساد ذات البين هي الحالقة التي تحلق الدين كما في الحديث الصحيح عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة» قالوا: بلى قال: «صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة» رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والبخاري في الأدب المفرد

وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح قال: ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين»، حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حرب بن شداد عن يحيى بن أبي كثير عن يعيش بن الوليد أن مولى للزبير حدثه أن الزبير بن العوام رضي الله عنه حدثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم أفشوا السلام بينكم». وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن حرب بن شداد به. ورواه الإمام أحمد من طرق عن يحيى بن أبي كثير به. ورواه البزار قال المنذري والهيثمي: وإسناده جيد. وروى البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تسلموا ولا تسلموا حتى تحابوا أفشوا السلام تحابوا وإياكم والبغضة فإنها هي الحالقة لا أقول لكم تحلق الشعر ولكن تحلق الدين». قال ابن الأثير في النهاية، وابن منظور في لسان العرب الحالقة الخصلة التي من شأنها أن تحلق أي تهلك وتستأصل الدين كما يستأصل الموسى الشعر. وكما أن في القومية العربية إفسادَ ذات البين وحلق الدين ففيها أيضًا موالاة الكفار والمنافقين من العرب وموادتهم واتخاذهم بطانة ووليجة وذلك ينافي الإيمان ويوجب سخط الله تعالى وأليم عقابه. وقد قال الله تعالى:

{لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}. قال البغوي رحمه الله تعالى: أخبر أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكفار، وأن من كان مؤمنا لا يوالي من كفر وإن كان من عشيرته. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى أخبر سبحانه وتعالى أنه لا يوجد مؤمن يواد كافرًا فمن واد الكفار فليس بمؤمن انتهى. وقال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَت لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيهِ مَا اتَّخَذُوهُم أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنهُمْ فَاسِقُونَ}. وهذا إخبار من الله تبارك وتعالى بأن موالاة الكفار تنافي الإيمان بالله ورسوله وكتابه وتوجب سخط الله تعالى وأليم عقابه وفي هذا أبلغ زجر وتحذير عن موالاتهم وموادتهم. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: بين سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان؛ لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم. انتهى. والآيات في الزجر عن موالاة أعداء الله تعالى كثيرة وليس هذا موضع ذكرها. وإنما المقصود ههنا التنبيه على أن القومية العربية تشتمل على مفاسد كثيرة ومن أعظمها شرًا فساد ذات البين وموالاة الكفار والمنافقين. وإذا كانت القومية العربية تشتمل على هذين الأمرين الذميمين مع

النوع الخامس اتخاذ الأعياد المبتدعة

كونها من دعوى الجاهلية فأي خير يرجى منها وإنما هي شر محض فيجب البعد عنها والتحذير منها. وقد استوفى الرد على شبه القوميين أخونا وصاحبنا العلامة المحقق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في رسالته التي سماها: «نقد القومية العربية»، فجزاه الله تعالى خير الجزاء ووفقنا وإياه لنصر الحق وقمع الباطل. فصل النوع الخامس: من مشابهة أعداء الله تعالى ما ابتلي به الأكثرون من اتخاذ أعياد زمانية ومكانية كلها مبتدعة. فأما الزمانية فكثيرة. منها يوم المولد النبوي وليلة المعراج وليلة النصف من شعبان. ومنها ما يجعل لميلاد صالح أو من يظن صلاحه. ومنها ما يجعل لولاية بعض الملوك ويسمى عيد الجلوس وهو مأخوذ من عيد النيروز عند العجم. قال الشيخ محمد السفاريني: قال أصحاب الأوائل أول من اتخذ النوروز حمشيد الملك، وفي زمانه بعث هود على نبينا وعليه الصلاة والسلام وكان الدين قد تغير ولما ملك حمشيد جدَّد الدين وأظهر العدل فسمي اليوم الذي جلس فيه على سرير الملك نيروزا. قال مرتضى الحسيني في تاج العروس: النيروز اسم أول يوم من السنة عند الفرس عند نزول الشمس أول الحمل وعند القبط أول توت كما في المصباح، معرب نوروز أي اليوم الجديد. انتهى.

ومنها ما يجعل لثورة المنازعين للملوك وانتصار بعضهم على بعض وهو مأخوذ من عيد المهرجان عند العجم. قال الشيخ محمد السفاريني أول من اتخذه أفريدون لما ظهر على الضحاك العلواني وكان الضحاك ظالمًا كثير الحيل صاحب مكر وخداع فسمي اليوم الذي ظهر فيه أفريدون وغلب على الضحاك المهرجان. والمهر الوفاء وجان السلطان معناه سلطان الوفاء. انتهى. ومن الأعياد المبتدعة أيضا عيد الجلاء عند الجمهورية المصرية وهو شبيه بعيد المهرجان عند العجم. إلى غير ذلك من الأعياد المبتدعة لأيام السرور والأفراح مما لم يأذن به الله. وأما المكانية فهي ما أحدثه الهمج الرعاع من الاجتماعات عند القبور واعتياد المجيء إليها، إما مطلقًا وإما في أوقات مخصوصة ولا سيما ما يفعله عند القبر المنسوب إلى البدوي بمصر. وعند القبر المنسوب إلى الحسين بكربلاء. وعند قبر الشيخ عبد القادر الجيلاني ببغداد، فكل واحد من هذه القبور الثلاثة قد جعله أشباه الأنعام عيدًا لهم يضاهئون به ما شرعه الله للحنفاء من الاجتماع عند الكعبة وفي عرفات ومزدلفة ومنى في أيام الحج، ويقصد كل واحد من هذه الأوثان الثلاثة ويجتمع عنده من الزوار نحو ما يجتمع في مشاعر الحج. والقبور التي قد افتتن بها الضُّلاَّل واتخذوها أعيادًا أكثر من أن تحصر ولا حاجة إلى ذكرها وتعدادها إذ لا فائدة في ذلك.

نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ قبره عيدا

وإنما المقصود ههنا التحذير من مشابهة المشركين في أعيادهم الزمانية والمكانية. ومنها الاجتماع عند القبور واتخاذها أعيادًا وقصدها بالسفر وشد الرحال. ومن هذا الباب ما يفعله الفئام من الناس من شد الرحال إلى زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - واتخاذه عيدًا يعتادون المجيء إليه والاجتماع عنده في كثير من الأوقات ولا سيما في أيام الحج حتى إن كثيرًا من الجهال يرون أنه لا يتم لأحدهم الحج إلا بزيارة قبر الشريف قبل الحج أو بعده ويتعلقون في ذلك بأحاديث واهية لا تقوم بشيء منها حجة ويعدلون عن النصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن اتخاذ قبره عيدًا كما في سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا ولا تجعلوا قبري عيدًا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» صححه النووي. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: هذا حديث حسن ورواته ثقات مشاهير لكن عبد الله بن نافع الصائغ فيه لين لا يمنع الاحتجاج به قال يحيى بن معين هو ثقة وحسبك بابن معين موثقًا، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم الرازي ليس بالحافظ هو لين تعرف وتنكر. قال الشيخ ومثل هذا يخاف أن يغلط أحيانًا فإذا كان لحديثه شواهد علم أنه محفوظ وهذا له شواهد متعددة. وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: إسناده حسن ورواته كلهم ثقات مشاهير. وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي: هو حديث حسن جيد الإسناد، وله شواهد يرتقي بها إلى درجة الصحة.

قلت: ومن شواهده التي ذكرها شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى وغيره ما رواه سعيد بن منصور في سننه حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تتخذوا بيتي عيدًا ولا بيوتكم قبورًا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني». وقال سعيد أيضًا: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل، قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عن القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال: هلم إلى العشاء؟ فقلت: لا أريده فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إذا دخلت المسجد فسلم عليه ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تتخذوا بيتي عيدًا ولا بيوتكم قبورًا لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم» ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: ورواه القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر هذه الزيادة وهي قوله: ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء. قلت: ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري عن ابن عجلان عن سهيل عن الحسن بن الحسن بن علي قال: رأى قومًا عند القبر فنهاهم وقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا ولا تتخذوا بيوتكم قبورًا وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني». قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: فهذا فيه أنه

أمره أن يسلم عند دخوله المسجد وهو السلام المشروع الذي روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجماعة من السلف كانوا يسلمون عليه إذا دخلوا المسجد وهذا مشروع في كل مسجد. وقال الشيخ في موضع آخر: هذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله وذلك يقتضي ثبوته عنده، هذا لو لم يرو من وجوه مسندة غير هذين فكيف وقد تقدم مسندًا؟ انتهى. وروى ابن أبي شيبة والبخاري في التاريخ الكبير وأبو يعلى الموصلي في مسنده عن علي بن الحسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها فيدعو فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثًا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم». ورواه الحافظ محمد بن عبد الواحد المقدسي في كتابه المختارة، وهو ما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على ما في الصحيحين. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: وهو أعلى مرتبة من تصحيح الحاكم وهو قريب من تصحيح الترمذي وأبي حاتم البستي ونحوهما، فإن الغلط في هذا قليل، ليس هو مثل تصحيح الحاكم. قال الشيخ: فهذا علي بن الحسين زين العابدين وهو من أجل التابعين علمًا ودينًا حتى قال الزهري: ما رأيت هاشميًّا مثله وهو يذكر هذا الحديث بإسناده، ولفظه: «لا تتخذوا بيتي عيدًا فإن تسليمكم يبلغني أينما

النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة

كنتم»، وهذا يقتضي أنه لا مزية للسلام عليه عند بيته كما لا مزية للصلاة عليه عند بيته بل قد نهى عن تخصيص بيته بهذا وهذا. وقال الشيخ في موضع آخر: انظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرب النسب وقرب الدار؛ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا له أضبط؟ انتهى. وفي الصحيحين والمسند والسنن إلا الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومسجد الأقصى» هذا لفظ البخاري. وفي رواية لمسلم: «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد مسجد الكعبة ومسجد ومسجد إيلياء». قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري قوله: «لا تشد الرحال» بضم أوله بلفظ: النفي والمراد النهي عن السفر إلى غيرها. قال الطيبي: هو أبلغ من صريح النهي كأنه قال: لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به وكنى بشد الرحال عن السفر لأنه لازمه وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والمشي في المعنى المذكور. ويدل عليه قوله في بعض طرقه إنما يسافر. انتهى. وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجد الأقصى ومسجدي» هذا لفظ البخاري.

ولفظ مسلم: «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى». ورواه ابن ماجه في سننه من حديث أبي سعيد وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام وإلى المسجد الأقصى وإلى مسجدي هذا». وروى الطبراني في الصغير عن علي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى». وفي الموطأ وسنن النسائي عن بصرة بن أبي بصرة رضي الله عنه أنه قال لأبي هريرة رضي الله عنه، وقد أقبل من الطور: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي والمسجد الأقصى»، وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده والبخاري في التاريخ الكبير من حديث أبي بصرة رضي الله عنه، بنحوه. وروى الإمام أحمد وغيره عن قزعة قال: أتيت ابن عمر رضي الله عنهما فقلت: إني أريد الطور فقال: «لا، إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، ومسجد المدينة والمسجد الأقصى فدع عنك الطور فلا تأته». فتحصل من ألفاظ هذه الأحاديث ثلاث صيغ النفي والنهي والحصر وكل واحد من هذه الصيغ تفيد أنه لا يجوز السفر إلى زيارة شيء

تشديد عمر رضي الله عنه في رفع الأصوات في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

من القبور ولا المساجد والأماكن المعظمة سوى المساجد الثلاثة وباجتماع هذه الصيغ الثلاثة يزداد المنع شدة والله أعلم. وقد أبى الجاهلون والغالون في القبور إلا أن يرتكبوا ما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك بشدهم الرحال إلى قبره واتخاذهم بيته عيدًا يعتادون المجيء إليه والاجتماع عنده ويختلط الرجال بالنساء ويضجون بالأصوات المرتفعة ويسيئون الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}. فنهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن الجهر لرسوله - صلى الله عليه وسلم - كما يجهر بعضهم لبعض وأخبرهم أن ذلك من أسباب حبوط الأعمال الصالحة؛ لأنه خلاف ما أمر الله به من توقيره واحترامه وحسن الأدب معه ثم أثنى تبارك وتعالى على الذين يوقرون رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويستعملون أحسن الآداب معه ووعدهم على ذلك المغفرة والأجر العظيم فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}. وكما أنه لا يجوز الضجيج ورفع الأصوات عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال حياته فكذلك لا يجوز شيء من ذلك حول قبره لأن حرمته ميتا كحرمته حيا صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين. وقد روى البخاري في صحيحه عن السائب بن يزيد قال: كنت قائما في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: اذهب فأتني بهذين فجئته بهما قال: من أنتما -أو من أين أنتما-؟

قالا: من أهل الطائف قال: «لو كنتم من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». وروى النسائي بإسناد صحيح عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال سمع عمر رضي الله عنه صوت رجل في المسجد فقال: «أتدري أين أنت؟». فدل هذا الحديث والذي قبله على أن رفع الأصوات في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المنكرات التي يجب تغييرها. وجاء في حديث ضعيف أن ذلك عام في جميع المساجد فرواه ابن ماجه في سننه عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها في الجمع»، وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا فلبعضه شواهد في الصحيحين وغيرهما تقويه. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في الكلام على حديث عمر رضي الله عنه: قوله لو كنتما يدل على أنه كان تقدم نهيه عن ذلك. وفيه المعذرة لأهل الجهل بالحكم إذا كان مما يخفى مثله، قوله: لأوجعتكما. زاد الإسماعيلي جلدًا ومن هذه الجهة يتبين كون هذا الحديث له حكم الرفع لأن عمر رضي الله عنه لا يتوعدهما بالجلد إلا على مخالفة أمر توقيفي انتهى. وإذا كان هذا قول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لرجلين رفعا أصواتهما في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف يقال في جهال أهل هذه الأزمان

ذكر المنكرات التي يفعلها كثير من الزوار عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -

وغوغائهم الذين يفعلون هذا المنكر كثيرًا في غالب الأوقات ويضمون معه منكرات أخر. منها إساءة الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بكثرة الضجيج حول قبره ورفع الأصوات عنده. ومنها مخالفة السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فإنهم لم يكونوا يشدون الرحال إلى زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكونوا يجتمعون حول قبره للسلام عليه فضلا عن الضجيج عنده ورفع الأصوات ولو كان ذلك خيرًا لسبقوا إليه ولكانوا أحرص عليه من غيرهم. وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: الأفضل للناس اتباع السلف الصالح في كل شيء انتهى. وما أحسن قول الراجز: وكل خير في اتباع من سلف ... وكل شر في ابتداع من خَلَف وقد جاء في وصف الفرقة الناجية من هذه الأمة أنهم من كان على مثل ما عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم رواه الترمذي وغيره من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وحسنه. وروى الإمام أحمد في الزهد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «عليكم بالسمت الأول». وروى محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة عنه رضي الله عنه أنه قال: «إنكم اليوم على الفطرة وإنكم ستحدثون ويحدث لكم فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدي الأول».

وروى الإمام أحمد ومحمد بن نصر المروزي عنه رضي الله عنه أنه قال: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وكل بدعة ضلالة». وروى أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «من كان مستنًا فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا خير هذه الأمة أبرها قلوبًا وأعمقها علمًا واقلها تكلفًا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا على الهدى المستقيم والله رب الكعبة»، وقد روى رزين نحو هذا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ومنها اختلاط الرجال بالنساء وقد قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: «إن اجتماع الرجال والنساء لبدعة» رواه الخلال، واختلاط الرجال بالنساء مما يثير الشهوة ويدعو إلى الفتنة والفساد. ولقد ذكر لنا أن بعض السفهاء هناك يغامزون النساء وربما وقع من بعضهم ما هو أعظم من ذلك وأطم وهو الشرك الأكبر ووسائله. وقد حدثني بعض الثقات أن خدام المسجد النبوي إذا كانت ليلة الجمعة أخرجوا ما يلقيه الغوغاء داخل الشباك الذي حول الحجرة من أواني الطيب والكتب الكثيرة، قال: وقد عرض علي بعض الكتب التي تلقى هناك فإذا هي مشتملة على الشرك الأكبر. فبعضهم يسأل المغفرة والرحمة من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبعضهم يسأل منه أن يهب له الأولاد. وبعضهم يطلب منه تيسير النكاح إذا تعسر عليه. إلى غير ذلك من الأمور التي كانوا يفزعون فيها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -

وينسون الرب الواحد الأحد الصمد المالك المتصرف في خلقه بما يشاء وله الحكمة التامة والحجة البالغة لا معقب لحكمه ولا يُسأل عما يفعل وهم يُسئلون، وقد قال تبارك وتعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا}، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى. وقد عكس المشركون هذا الأمر فزعموا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يملك لهم الضر والرشد والإعطاء والمنع، وهذا عين المحادة لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. وهذه الأمور الشركية التي تفعل عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعند غيره من قبور الصالحين أو من يظن صلاحه هي من ثمرات الغلو الذي حذر منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته كما في المسند وسنني النسائي وابن ماجه ومستدرك الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» هذا لفظ ابن ماجه وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. ومنها التشويش على من حولهم في المسجد من المصلين والتالين للقرآن. وقد روى مالك في الموطأ عن أبي حازم التمار عن البياضي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال: «إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن». وروى أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه عن أبي سعيد

زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تجوز للنساء

الخدري رضي الله عنه قال: اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر، وقال: «ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضًا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة -أو قال في الصلاة-» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقال ابن عبد البر حديث البياضي وأبي سعيد ثابتان صحيحان. وفي المسند من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف وخطب الناس فقال: «أما إن أحدكم إذا قام في الصلاة فإنه يناجي ربه فليعلم أحدكم ما يناجي ربه ولا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة في الصلاة». وإذا كان المصلي منفردًا ومثله التالي للقرآن في غير صلاة منهيًا عن الجهر الذي يحصل منه تشويش على من حوله من المصلين والتالين للقرآن فنهي أهل الاجتماعات المحدثة والضجيج المنكر في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحول قبره يكون بطريق الأولى والله أعلم. ومنها اتخاذ قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدًا ومخالفة نهيه عن ذلك، وقد قال الله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصبيهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}. ومنها زيارة النساء للقبر الشريف وقبري أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وذلك لا يجوز لهن لما رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

قال وفي الباب عن ابن عباس وحسان بن ثابت رضي الله عنهم. قلت: أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فرواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي وأهل السنن أنه رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج». قال الترمذي: حديث حسن وصححه ابن حبان والحاكم. وأما حديث حسان بن ثابت رضي الله عنه فرواه الإمام أحمد والبخاري في التاريخ الكبير وابن ماجه والحاكم من حديث عبد الرحمن بن حسان عن أبيه رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور» قال في الزوائد: إسناد حديث حسان بن ثابت صحيح ورجاله ثقات. وهذه الأحاديث دالة على أن زيارة القبور حرام على النساء بل كبيرة من الكبائر؛ لأن اللعن لا يكون إلا عن كبيرة. سواء في ذلك قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبر غيره ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ينافي هذه الأحاديث أو يخصصها فوجب منع النساء من زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن زيارة غيره من سائر القبور والله أعلم. والمنكرات التي تكون في كثير من الاجتماعات المحدثة عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر مما ذكرته. والله المسئول أن ينصر دنيه ويعلي كلمته وأن يوفق ولاة أمور المسلمين لإنكار المنكرات والأخذ على أيدي السفهاء والسير فيهم بسيرة الخليفة الراشد العادل الذي وضع الله الحق على لسانه وقلبه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بأبي بكر وعمر

وقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والبخاري في تاريخه والحاكم في مستدركه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»، قال الترمذي: هذا حديث حسن وصححه الحاكم ووافقه الذهبي في تلخيصه، وللترمذي والحاكم أيضًا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وفي المسند والسنن من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة»، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وصححه أيضًا ابن حبان والحاكم وقال: ليس له علة ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي رواية للحاكم: «عليكم بما تعرفون من سنة نبيكم والخلفاء الراشدين المهديين وعضوا على نواجذكم بالحق». قال الحاكم: صحيح على شرطهما جميعًا ولا أعرف له علة ووافقه الذهبي في تلخيصه. قال الخطابي في قوله: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين» فيه دليل على أن الواحد من الخلفاء الراشدين إذا قال قولاً وخالفه فيه غيره من الصحابة كان المصير إلى قول الخليفة أولى انتهى. وهذه الاجتماعات عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من محدثات الأمور التي لم تكن في صدر الإسلام فلا ريب أنها داخلة فيما حذر منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته. وكذلك شد الرحال لأجل القبر هو من محدثات الأمور التي لم تكن في صدر الإسلام.

اتفاق الأئمة على أن من نذر أن يأتي المدينة لزيارة القبور لم يوف بنذره

وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يأتي المدينة لزيارة قبور أهل البقيع أو الشهداء أو غيرهم لم يوف بنذره، ومالك والأكثرون قالوا: لا يجوز أن يوفي بنذره فإنه معصية، ولو نذر السفر إلى نفس المسجد للصلاة فيه لم يحرم عليه الوفاء بالإجماع بل يستحب الوفاء وقيل: يجب على قولين للشافعي والوجوب مذهب مالك، وأحمد، ونفي الوجوب مذهب أبي حنيفة. فظهر أن أقوال أئمة المسلمين موافقة لما دلت عليه السنة من الفرق بين السفر إلى المدينة لأجل مسجد الرسول والصلاة فيه والسفر إليها لغير مسجده كالسفر لأجل مسجد قباء أو لزيارة القبور التي فيها. قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقبور من فيها من السابقين الأولين وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين. ونقل الشيخ أيضا ما ذكره القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتابه المبسوط أنه روي عن مالك أنه سئل عمن نذر أن يأتي قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن كان أراد مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليأته وليصل فيه، وإن كان إنما أراد القبر فلا يفعل للحديث الذي جاء: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد». وذكر الشيخ أيضًا عن أبي عبد الله بن بطة وأبي الوفاء بن عقيل وطوائف كثيرين من المتقدمين أنهم قالوا: إن شد الرحال والسفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين. فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولإجماع

الأحاديث في زيارة قبور الأنبياء ضعيفة بالاتفاق

المسلمين، وذكر ذلك أبو عبد الله أحمد بن حنبل من البدع المخالفة للسنة والإجماع. قال الشيخ رحمه الله تعالى: وما ذكر من الأحاديث في زيارة قبور الأنبياء فضعيفة بالاتفاق بل مالك أمام المدينة كره أن يقول الرجل زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا وصلوا علي حيثما كنتم» انتهى. فالواجب على المسلمين عامة وعلى علمائهم وولاة أمورهم خاصة إنكار المنكرات التي تفعل في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعند قبره والإنكار على من يشد الرحال إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من القبور والمساجد والأماكن المعظمة سوى المسجد الحرام ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسجد الأقصى وإنكار غير ذلك من المنكرات الظاهرة بين المسلمين. وكل أحد ينكر على حسب قدرته كما في الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطيع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»، رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم وأهل السنن، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».

ذكر أعياد المسلمين

فصل إذا علم ما ذكرنا فأعياد المسلمين الزمانية منحصرة في سبعة أيام: يوم الجمعة، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، ويوم عرفة، وأيام التشريق، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: «ما هذان اليومان»؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله عز وجل قد أبدلكم بهما خيرًا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى أبو داود أيضًا والترمذي والحاكم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب»، قال الترمذي: حديث صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في "تلخيصه". وروى مالك في الموطأ والشافعي في مسنده من طريق مالك عن ابن شهاب عن عبيد بن السباق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في جمعة من الجمع: «يا معشر المسلمين إن هذا يوم جعله الله عيدًا فاغتسلوا ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه وعليكم بالسواك»، هكذا رواه مالك والشافعي مرسلاً. وقد رواه ابن ماجه والطبراني من حديث صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن عبيد بن السباق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكره بنحوه.

وروى الطبراني أيضًا من طريق مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في جمعة من الجمع: «معاشر المسلمين إن هذا يوم جعله الله لكم عيدًا فاغتسلوا وعليكم بالسواك». وروى الإمام أحمد في مسنده والبخاري في الكنى والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن يوم الجمعة يوم عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده»، قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وروى الإمام أحمد أيضًا وأبو داود الطيالسي وأهل السنن إلا الترمذي عن إياس بن أبي رملة الشامي قال: شهدت معاوية بن أبي سفيان وهو يسأل زيد بن أرقم. قال: أشهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيدين اجتمعا في يوم واحد قال: نعم. قال: فكيف صنع؟ قال: صلى العيد ثم رخص في الجمعة فقال: «من شاء أن يصلي فليصل» ورواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى أبو داود وابن ماجه والحاكم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون»، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي في تلخيصه. ولابن ماجه أيضًا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مثله، وله أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: اجتمع عيدان على عهد رسول الله

- صلى الله عليه وسلم - فصلى بالناس ثم قال: «من شاء أن يأتي الجمعة فليأتها ومن شاء أن يتخلف فليتخلف». وروى الشافعي في مسنده عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قال: اجتمع عيدان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «من أحب أن يجلس من أهل العالية فليجلس في غير حرج». وروى مالك في الموطأ والشافعي في مسنده من طريق مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال: شهدت العيد مع عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاء فصلى ثم انصرف فخطب وقال: «إنه قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان فمن أحب من أهل العالية أن ينتظر الجمعة فلينتظر ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له». وفي سنن النسائي ومستدرك الحاكم عن وهب بن كيسان قال: اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير فأخر الخروج حتى تعالى النهار ثم خرج فخطب فأطال الخطبة ثم نزل فصلى ولم يصل بالناس يوم الجمعة فذكر ذلك لابن عباس رضي الله عنهما، فقال: أصاب السنة، زاد الحاكم فبلغ ابن الزبير فقال: رأيت عمر بن الخطاب إذا اجتمع عيدان صنع مثل هذا. قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه، ورواه أبو داود في سننه من حديث عطاء بن أبي رباح بنحوه. وفي رواية له عن عطاء قال اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير فقال عيدان اجتمعا في يوم واحد فجمعهما جميعًا فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر.

وروى ابن جرير في تفسيره والطبراني في الأوسط عن قبيصة عن ذؤيب قال: قال كعب لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيدًا يجتمعون فيه فقال عمر رضي الله عنه: أي آية يا كعب؟ فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فقال عمر رضي الله عنه: قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه والمكان الذي أنزلت فيه يوم الجمعة ويوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيدٌ. وروى الترمذي في جامعه وابن جرير في تفسيره عن عمار بن أبي عمار قال: قرأ ابن عباس رضي الله عنهما: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}، وعنده يهودي فقال: لو أنزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدًا فقال ابن عباس رضي الله عنهما فإنها نزلت في يوم عيدين في يوم الجمعة ويوم عرفة قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والغرض من سياق حديث عبيد بن السباق وما بعده الدلالة على أن يوم الجمعة عيد من أعياد المسلمين. وأما الأعياد المكانية للمسلمين فهي منحصرة في مواضع الحج ومشاعره المعظمة. فالكعبة والمسجد الحرام عيد للمسلمين، والصفا والمروة وموضع السعي بينهما عيد للحجاج والمعتمرين. وعرفات ومزدلفة ومنى أعياد للحاج في أيام الحج، فمن اتخذ عيدًا مكانيًا سوى هذه الأمكنة أو عيدًا زمانيًا سوى السبعة الأيام التي تقدم ذكرها فقد ابتدع في الدين وتشبه باليهود والنصارى والمشركين، ومن تشبه بقوم فهو منهم وما أكثر المتشبهين بهم في اتخاذ الأعياد المبتدعة من زمانية ومكانية والله المستعان.

النوع السادس حلق اللحى

فصل النوع السادس: من المشابهة وهو من أقبحها ما ابتلي به كثير من المسلمين من حلق اللحى تقليدًا لطوائف الإفرنج وغيرهم من أعداء الله تعالى، ومن الجهال من ينتفها، ومنهم من يقصها، ومنهم من يحلق العارضين ويقص الذقن. وكل ذلك مخالف لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهدي الأنبياء قبله وما كان عليه الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان. وقد ورد الوعيد الشديد على هذه الأفعال الذميمة فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من مثل بالشعر فليس له عند الله خلاق» رواه الطبراني. قال أهل اللغة مثل بالشعر صيره مثلة بأن حلقه من الخدود أو نتفه أو غيّره بالسواد. وحلق اللحى وقصها من سنن الأكاسرة كما روى ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب ما ملخصه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام فكتب كسرى إلى باذام وهو نائبه على اليمن أن ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به فبعث باذام قهرمانه وبعث معه رجلا من الفرس فدخلا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما فكره النظر إليهما وقال: «ويلكما من أمركما بهذا؟» قال: أمرنا ربنا يعنيان كسرى فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي».

النوع السابع إعفاء الشوارب

وروى البيهقي وغيره من طريق ميمون بن مهران عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المجوس فقال: «إنهم يوفون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم» السبال جمع سبلة بالتحريك وهو الشارب. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس». وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب»، هذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم: «خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى». وقد جاء في حديث مرسل أن قص اللحى من أعمال قوم لوط. فروى ابن عساكر في تاريخه عن الحسن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عشر خصال عملها قوم لوط بها أهلكوا وتزيدها أمتي بخلة - ذكر الخصال ومنها: قص اللحية وطول الشارب». إذا علم هذا فمن مثل بلحيته بحلق أو نتف أو قص فقد تشبه بأعداء الله تعالى من المجوس وقوم لوط وطوائف الإفرنج وأشباههم، ومن تشبه بقوم فهو منهم. والكلام في التمثيل باللحى مبسوط في كتابي المسمى: «دلائل الأثر على تحريم التمثيل بالشعر»، فليراجع هناك. فصل النوع السابع: من التشبه بأعداء الله تعالى إعفاء الشوارب وما أكثر الواقعين في هذه المشابهة القبيحة.

النوع الثامن ترك تغيير الشيب

وقد تقدم أن ذلك من سنن الأكاسرة وقومهم المجوس ومن أعمال قوم لوط. وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم». وفي المسند وجامع الترمذي وسنن النسائي عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يأخذ شاربه فليس منا» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه أيضا الحافظ الضياء المقدسي وأخرجه في المختارة. وفي هذا الحديث أبلغ تحذير من توفير الشوارب والكلام فيما يتعلق بالشوارب مبسوط في كتابي المسمى بـ «دلائل الأثر». فصل النوع الثامن: من التشبه بأعداء الله تعالى ترك الشيب في الرأس واللحية أبيض ناصعًا لا يغير ذلك وذلك من فعل اليهود والنصارى. وفي الصحيحين والمسند والسنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» هذا لفظهم سوى الترمذي. ولفظ الترمذي: «غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود» ثم قال الترمذي حديث حسن صحيح. وفي رواية للإمام أحمد: «غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى»، وأخرجه ابن حبان في صحيحه بهذا اللفظ. وفي رواية للنسائي: «أن اليهود والنصارى لا تصبغ فخالفوا عليهم فأصبغوا».

وروى الإمام أحمد من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: «يا معشر الأنصار حمروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب». قال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن. قال: وأخرج الطبراني في الأوسط نحوه من حديث أنس رضي الله عنه. قال: وفي الكبير من حديث عتبة بن عبد رضي الله عنه: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتغيير الشعر مخالفة للأعاجم». قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: قد تبين أن نفس مخالفتهم أمر مقصود للشارع في الجملة، ولهذا كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة يعللون الأمر بالصبغ بعلة المخالفة، قال ابن حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: ما أحب لأحد إلا أن يغير الشيب ولا يتشبه بأهل الكتاب لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «غيروا الشيب ولا تشبهوا بأهل الكتاب»، وقال إسحاق بن إبراهيم: سمعت أبا عبد الله يقول لأبي: يا أبا هاشم اختضب، ولو مرة واحدة فأحب لك أن تختضب ولا تشبه باليهود انتهى. وقد دل حديث أبي أمامة رضي الله عنه على أن تغيير الشيب يكون بالحمرة أو بالصفرة، ويكون أيضًا بالحناء والكتم لما في المسند والسنن عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحسن ما غيرتم به هذا الشيب الحناء والكتم»، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وصححه أيضًا ابن حبان. وفي رواية للنسائي: «أفضل ما غيرتم به الشمط الحناء والكتم». قال النووي: الكتم بفتح الكاف والتاء المثناة من فوق المخففة هذا هو المشهور وهو نبات يصبغ به الشعر يكون بياضه أو حمرته إلى

النوع التاسع تقزيع الرأس

الدهمة. وقال ابن حجر العسقلاني: الكتم نبات باليمن يخرج الصبغ أسود يميل إلى الحمرة وصبغ الحناء أحمر فالصبغ بهما معًا يخرج بين السواد والحمرة انتهى. وفي سنني أبي داود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر على النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل قد خضب بالحناء فقال: «ما أحسن هذا»! قال: فمر آخر قد خضب بالحناء والكتم. فقال: «هذا أحسن من هذا»، قال: فمر آخر قد خضب بالصفرة فقال: «هذا أحسن من هذا كله»، والكلام في هذا وفيما يتعلق بالصبغ بالسواد مبسوط في كتابي المسمى بـ «دلائل الأثر» فليراجع هناك. فصل النوع التاسع: من التشبه بأعداء الله تعالى تقزيع شعر الرأس بحلق جوانبه أو قفاه أو مواضع منه وهو من فعل اليهود والنصارى والمجوس، وكثير من السفهاء في زماننا يجزون شعر الرأس ويتركون في مقدمه قنزعة تشبه عرف الديك، وقد قيل إن هذا من فعل اليهود في زماننا وليس ذلك ببعيد وبالجملة فهذا الفعل القبيح من التمثيل بالشعر وفيه تشويه للخلق. وقد روى أبو داود في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه رأى غلامًا له قرنان أو قصتان فقال: احلقوا هذين أو قصوهما فإن هذا زي اليهود. وفي مسند الإمام أحمد عن صفية بنت أبي عبيد قالت: رأى ابن

عمر رضي الله عنهما صبيًا في رأسه قنازع فقال: أما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تحلق الصبيان القزع. وروى الإمام أحمد أيضًا والشيخان وأهل السنن إلا الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القزع». والقزع أن يحلق رأس الصبي فيترك بعض شعره. وروى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى صبيا قد حلق بعض شعره وترك بعضه فنهاهم عن ذلك، وقال: «احلقوه كله أو اتركوه كله». قال النووي: أجمع العلماء على كراهة القزع قال العلماء والحكمة في كراهته أنه تشويه للخلق، وقيل: لأنه زي اليهود انتهى. وروى الطبراني وغيره عن عمر رضي الله عنه مرفوعًا: «حلق القفا من غير حجامة مجوسية»، قال المروذي: سألت أبا عبد الله -يعني أحمد بن حنبل - عن حلق القفا قال: هو من فعل المجوس ومن تشبه بقوم فهو منهم. قال: وكان أبو عبد الله لا يحلق قفاه إلا في وقت الحجامة. وقال المروذي أيضًا قلت لأبي عبد الله يكره للرجل أن يحلق قفاه أو وجهه قال: أما أنا فلا أحلق قفاي وقد روي فيه حديث مرسل عن قتادة فيه كراهية قال: إن حلق القفا من فعل المجوس ورخص في وقت الحجامة. قال: وسمعت مثنى الأنباري يقول: سألت أبا عبد الله عن حلق القفا قال: لا إلا أن يكون في وقت الحجامة.

النوع العاشر لبس البرنيطة والسترة والبنطلون

وذكر الخلال بإسناده عن الهيثم بن حميد قال: حف القفا من شكل المجوس، وعن المعتمر بن سليمان التيمي قال: كان أبي إذا جز شعره لم يحلق قفاه قيل له: لم؟ قال: كان يكره أن يتشبه بالعجم. ومن أقبح القزع ما يفعله كثير من السفهاء في زماننا من حف جوانب الرأس ومعالجة باقيه بالدهن والمشط حتى يصير على شكل ما يفعله كثير من أمم الكفر والضلال في زماننا وما أكثر المتشبهين بهم في هذا الزي القبيح، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم»، وقد تقدم هذا الحديث في أول الكتاب فليراجع. فصل النوع العاشر: من التشبه بأعداء الله تعالى لبس البرنيطة التي هي من لباس الإفرنج ومن شابههم من أمم الكفر والضلال وتسمى أيضًا القبعة، وقد افتتن بلبسها كثير من المنتسبين إلى الإسلام في كثير من الأقطار الإسلامية ولا سيما البلدان التي فشت فيها الحرية الإفرنجية وانطمست فيها أنوار الشريعة المحمدية. ومن ذلك أيضا الاقتصار على لبس السترة والبنطلون. فالسترة قميص صغير يبلغ أسفله إلى حد السرة أو يزيد عن ذلك قليلا وهو من ملابس الإفرنج، والبنطلون اسم للسراويل الإفرنجية، وقد عظمت البلوى بهذه المشابهة الذميمة في أكثر الأقطار الإسلامية. ومن جمع بين هذا اللباس وبين لبس البرنيطة فوق رأسه فلا فرق

بينه وبين رجال الإفرنج في الشكل الظاهر، وإذا ضم على ذلك حلق اللحية كان أتم للمشابهة الظاهرة. ومن تشبه بقوم فهو منهم كما تقدم في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وتقدم أيضًا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا». وتقدم أيضًا الحديث الذي رواه الإمام أحمد في الزهد عن عقيل بن مدرك قال: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل قل لقومك: «لا يأكلوا طعام أعدائي ولا يشربوا شراب أعدائي ولا يتشكلوا شكل أعدائي فيكونوا أعدائي كما هم أعدائي». وتقدم أيضًا ما رواه أبو نعيم في الحلية عن مالك بن دينار قال: أوحى الله إلى نبي من الأنبياء أن قل لقومك: «لا تدخلوا مداخل أعدائي ولا تطعموا مطاعم أعدائي ولا تلبسوا ملابس أعدائي ولا تركبوا مراكب أعدائي فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي». فإن ادعى المتشبهون بأعداء الله تعالى أنهم إنما يلبسون البرنيطات لتكون وقاية لرءوسهم من حر الشمس ويلبسون البنطلونات والقمص القصار لمباشرة الأعمال. قيل: هذه الدعوى حيلة على استحلال التشبه المحرم والحيل لا تبيح المحرمات، ومن استحل المحرمات بالحيل فقد تشبه باليهود كما في الحديث الذي رواه ابن بطة بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل»، والدليل على تحريم التشبه بأعداء الله تعالى ما تقدم من حديث عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم.

النهي عن لبس ثياب الكفار والتشديد في ذلك

وقد ورد الأمر بمخالفة أهل الكتاب في لباسهم والأمر للوجوب وترك الواجب معصية فروى الإمام أحمد بإسناد حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مشيخة من الأنصار -فذكر الحديث وفيه-: فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يتزرون فقال: «تسرولوا واتزروا وخالفوا أهل الكتاب». وروى الإمام أحمد أيضًا وأبو داود الطيالسي ومسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي ثوبين معصفرين فقال: «إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها». وفي رواية لمسلم قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليَّ ثوبين معصفرين فقال: «أأمك أمرتك بهذا؟» قلت: أغسلهما؟ قال: «بل احرقهما». وفي رواية للنسائي عنه رضي الله عنه أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعليه ثوبان معصفران فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: «اذهب فاطرحهما عنك» قال: أين يا رسول الله؟ قال: «في النار». وهذا الحديث الصحيح صريح في تحريم ثياب الكفار على المسلمين وفيه دليل على المنع من لبس البرنيطات وغيرها من ملابس أعداء الله تعالى كالاقتصار على لبس البنطلونات والقمص القصار وغير ذلك من زي أعداء الله تعالى وملابسهم لوجود علة النهي فيها ... وفي غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وأمره بطرح ثوبيه في النار أبلغ زجر عن مشابهة الكفار في زيهم ولباسهم. وكذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أأمك أمرتك بهذا؟» أبلغ ذم وتنفير من التشبه بأعداء الله تعالى والتزيي بزيهم.

وقد جعل الله سبحانه وتعالى للمسلمين مندوحة عن مزاحمة أعداء الله تعالى في لباسهم والتشبه بهم فمن أراد وقاية لرأسه ففي لباس المسلمين ما يكفيه. ومن أراد ثيابًا للأعمال فكذلك. ومن أراد ثياباً للزينة والجمال فكذلك، ومن رغب عن زي المسلمين ولم يتسع له ما اتسع لهم من الملابس المباحة فلا وسع الله عليه في الدنيا ولا في الآخرة. قال الشيخ أحمد محمد شاكر في الكلام على حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. هذا الحديث يدل بالنص الصريح على حرمة التشبه بالكفار في اللبس وفي الهيئة والمظهر كالحديث الآخر الصحيح: «ومن تشبه بقوم فهو منهم». ولم يختلف أهل العلم منذ الصدر الأول في هذا أعني: في تحريم التشبه بالكفار حتى جئنا في هذه العصور المتأخرة فنبتت في المسلمين نابتة ذليلة مستعبدة هجيراها وديدنها التشبه بالكفار في كل شيء والاستخذاء لهم والاستعباد ثم وجدوا من الملتصقين بالعلم المنتسبين له من يزين لهم أمرهم ويهون عليهم أمر التشبه بالكفار في اللباس والهيئة والمظهر والخلق وكل شيء حتى صرنا في أمة ليس لها من مظهر الإسلام إلا مظهر الصلاة والصيام والحج على ما أدخلوا فيها من بدع بل من ألوان من التشبه بالكفار أيضًا، وأظهر مظهر يريدون أن يضربوه على المسلمين هو غطاء الرأس الذي يسمونه القبعة «البرنيطة» وتعللوا لها بالأعاليل والأباطيل، وأفتاهم بعض الكبراء المنتسبين إلى العلم أن لا بأس بها إذا أريد بها الوقاية من الشمس، وهم يأبون إلا أن يظهروا أنهم لا يريدون بها إلا الوقاية من الإسلام. فيصرح كتابهم ومفكروهم بأن هذا اللباس له أكبر

الأثر في تغيير الرأس الذي تحته ينقله من تفكير عربي ضيق إلى تفكير أفرنجي واسع. ثم أبى الله لهم إلا الخذلان، فتناقضوا ونقضوا ما قالوا من حجة الشمس إذ وجدوا أنهم لم يستطيعوا ضرب هذه الذلة على الأمة فنزعوا غطاء الرأس بمرة تكروا الطربوش وغيره ونسوا أن الشمس ستضرب رءوسهم مباشرة دون واسطة الطربوش ونسوا أنهم دعوا إلى القبعة وأنه لا وقاية لرءوسهم من الشمس إلا بها. ثم كان من بضع سنين أن خرج الجيش الإنجليزي المحتل للبلاد من القاهرة والإسكندرية بمظهره المعروف فما لبثنا أن رأيناهم ألبسوا الجيش المصري والشرطة المصرية قبعات كقبعات الإنجليز فلم تفقد الأمة في العاصمتين وفي داخل البلاد منظر جيش الاحتلال الذي ضرب الذلة على البلاد سبعين سنة فكأنهم لم يصبروا على أن يفقدوا مظهر الذل الذي ألفوه واستساغوه وربوا في أحضانه، وما رأيت مرة هذا المنظر البشع منظر جنودنا في زي أعدائنا وهيئتهم إلا تقززت نفسي وذكرت قول عميرة بن جعل الشاعر الجاهلي يذم قبيلة تغلب: إذا ارتحلوا عن دار ضيم تعاذلوا ... عليهم وردوا وفدهم يستقيلها انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وما ذكره رحمه الله تعالى من تشبه الجيش المصري والشرطة المصرية بالجيش الإنجليزي ليس هو مما انفرد به المصريون بل قد شاركهم فيه كثير من المسلمين والمنتسبين إلى الإسلام فألبسوا جيوشهم وشرطهم مثل لباس الإفرنج ولم يبالوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم»، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وهذا التشبه القبيح والانحراف عن زي المسلمين والتزيي بزي أعداء الله تعالى كله من آثار بطانة السوء كما في الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمر بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصم الله تعالى»، رواه البخاري والنسائي. ولهما أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من وال إلا وله بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر وبطانة لا تألوه خبالا فمن وقي شرها فقد وقي وهو من التي تغلب عليه منهما». هذا لفظ النسائي. وقد رواه الإمام أحمد بنحوه وعنده في آخره: «من وقي شر بطانة السوء فقد وقي - يقولها ثلاثًا - وهو مع الغالبة عليه منهما». وقد رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي والحاكم وفيه قصة لأبي الهيثم بن التيهان رضي الله عنه وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، وقال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى البخاري أيضًا والنسائي عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما بعث من نبي ولا كان بعده من خليفة إلا وله بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر وبطانة لا تألوه خبالا فمن وقي بطانة السوء فقد وقي». هذا لفظ النسائي.

النوع الحادي عشر تبرج النساء

وإذا علم هذا فالواجب على المسلمين كافة أن يبعدوا كل البعد عن مشابهة أعداء الله تعالى والتزيي بزيهم في اللباس وغيره. ويجب على ولاة الأمور أن ينزعوا لباس الإفرنج عن جيوشهم وشرطهم ويلبسوهم لباس المسلمين. وينبغي لهم أن يحترزوا من شر بطانة السوء ممن يأمرهم بالمنكر ويحضهم عليه ويبعدوهم عنهم غاية البعد، والله المسئول أن يوفق ولاة أمور المسلمين لما فيه الخير والصلاح وأن يأخذ بنواصيهم إلى الحق إنه ولي ذلك والقادر عليه. فصل النوع الحادي عشر: من التشبه بأعداء الله تعالى تبرج النساء وخروجهن بالزينة إلى الأسواق وإبداء زينتهن للرجال الأجانب، وأقبح من ذلك سفور كثير منهن بين الرجال الأجانب في الأسواق وغير الأسواق. وأقبح من ذلك وأقبح لبس كثير منهن مثل لبس نساء الإفرنج قمصًا قصارًا لا تستر إلا من أعلى العضدين إلى أسفل الفخذين وباقي البدن بارز للناظرين. وهؤلاء ينطبق عليهن ما رواه الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا».

وما رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرحال ينزلون على أبواب المساجد نساؤهم كاسيات عاريات على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف العنوهن فإنهن ملعونات لو كان وراءكم أمة من الأمم لخدمن نساؤكم نساءهم كما يخدمنكم نساء الأمم قبلكم». ورواه الطبراني وعنده في أوله: «سيكون في أمتي رجال يركبون نساءهم على سروج كأشباه الرحال». ورواه الحاكم في مستدركه ولفظه: «سيكون في آخر هذه الأمة رجال يركبون على المياثر حتى يأتوا أبواب مساجدهم نساؤهم كاسيات عاريات على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف العنوهن فإنهن ملعونات لو كان وراءكم أمة من الأمم لخدمنهم كما خدمكم نساء الأمم قبلكم». فقلت لأبي وما المياثر؟ قال: سروج عظام، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قلت: والقائل لأبيه ما المياثر؟ هو عبد الله بن عياش القتباني أحد رواته. وفي هذين الحديثين علم من أعلام النبوة لأنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر بوجود النساء الكاسيات العاريات في آخر أمته فوقع الأمر طبق ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه. وقد جاءت الأخبار أيضا عن المتبرجات فيما رواه رزين عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كيف بكم إذا فسق فتيانكم وطغى نساؤكم؟».

وما رواه البخاري في تاريخه عن ابن عباس الحميري عن أبيه رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كيف بكم إذا فسق نساؤكم؟». وقد نهى الله تبارك وتعالى عن التبرج فقال جل ذكره: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}، وقال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الآية، وقال تعالى: {الْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} الآية. والتبرج هو إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال الأجانب. وهو على مراتب أقبحه ما تفعله نساء الإفرنج ومن يتشبه بهن من نساء المسلمين والمنتسبين إلى الإسلام من إبراز كثير من أجسادهن بحضرة الرجال الأجانب. وقد روى أبو نعيم في الحلية من طريق وكيع حدثنا سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «المختلعات والمتبرجات هن المنافقات». وروى الحافظ أبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. وروى البيهقي في سننه عن ابن أبي أذينة الصدفي مرسلاً. وعن سليمان بن يسار مرسلاً: «شر نسائكم المتبرجات المتخيلات وهن المنافقات لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم».

اعتراف بعض عقلاء الإفرنج بما في سفور النساء وتبرجهن من المفاسد والمضرات وحضه المسلمين على لزوم ما يأمر به الإسلام من التستر وإخفاء الزينة

والكلام في ذم التبرج مبسوط في كتابي المسمي: «بالصارم المشهور على أهل التبرج والسفور»، فليراجع هناك. وقد اعترف بعض عقلاء الإفرنج بما في سفور النساء وتبرجهن من المفاسد والمضرات. قال محمد رشيد رضا حدثني الأمير شكيب أرسلان في جنيف سويسرة عن طلعت باشا التركي أن عظيم الألمان لما زار الأستانة في أثناء الحرب ورأى النساء التركيات سافرات متبرجات عزله على ذلك وذكر له ما فيه من المفاسد الأدبية والمضار الاقتصادية التي تئن منها أوربا وتعجز عن تلافيها وقال له: إن لكم وقاية من ذلك كله ألا وهو الدين الإسلامي أفتزيلونها بأيدكم؟! قلت: وهذا الألماني أعقل من كثير من المنتسبين إلى الإسلام، وقد ذكرت في «الصارم المشهور» عن بعض عقلاء الإيطاليين نحو ذلك فليراجع. فصل النوع الثاني عشر: من التشبه بأعداء الله تعالى ما يفعله كثير من النساء من فرق شعر الرأس من جانبه وجمعه من ناحية القفا كما تفعله نساء الإفرنج، وقد جاء وصفهن بذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة»، وفي قوله أيضا على رءوسهن كأسنمة البخت العجاف، وقد فسر بعض العلماء قوله: «مميلات مائلات» بأنهن يمتشطن المشطة الميلاء وهي مشطة البغايا ويمشطن غيرهن تلك

النوع الثالث عشر تعقيد الخرق في رءوس البنات كأنها الزهر

المشطة، وهذه المشطة هي مشطة نساء الإفرنج ومن يحذو حذوهن من المتبرجات الكاسيات العاريات. فصل النوع الثالث عشر: من التشبه بأعداء الله تعالى تعقيد الخرق في رءوس البنات كأنها الزهر وهو من أفعال الإفرنج في زماننا وقد فشا ذلك في المسلمين تقليدًا منهم لأعداء الله تعالى واتباعًا لسننهم الذميمة. فصل النوع الرابع عشر: من التشبه بأعداء الله تعالى ما افتتن به كثير من النساء من لبس ملابس نساء الإفرنج وهي أنواع كثيرة. منها ما يبلغ إلى الركبتين ومنها ما هو فوق ذلك. فصل النوع الخامس عشر: من التشبه بأعداء الله تعالى اتخاذ الأواني كالصحاف والكئوس والملاعق، وغيرها من الذهب والفضة. والأكل والشرب فيها. فصل والنوع السادس عشر: لبس الرجال خواتم الذهب وتحليهم بساعات الذهب والفضة.

النوع السابع عشر لبس الرجال ثياب الحرير والديباج وجلوسهم عليه

فصل والنوع السابع عشر: لبس الرجال ثياب الحرير والديباج وجلوسهم عليه. وقد فشت هذه المنكرات في زماننا ولا سيما في الكبراء والمترفين. والدليل على أن هذه الأفعال من التشبه المذموم ما في الصحيحين والمسند والسنن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنهم كانوا عند حذيفة رضي الله عنه فاستسقى فسقاه مجوسي فلما وضع القدح في يده رماه به وقال لولا أني نهيته غير مرة ولا مرتين كأنه يقول لم أفعل هذا، ولكني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة» هذا لفظ البخاري في كتاب الأطعمة. ورواه في كتاب الأشربة من وجه آخر عن ابن أبي ليلى قال: كان حذيفة بالمدائن فاستسقى فأتاه دهقان بقدح فضة فرماه به فقال: إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته وإن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نهانا عن الحرير والديباج والشرب في آنية الذهب والفضة وقال: هي لهم في الدنيا وهي لكم في الآخرة». ورواه أيضا في كتاب اللباس بنحوه، وقال فيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الذهب والفضة والحرير والديباج هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة». وقد رواه الدارقطني في سننه ولفظه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: نزلت مع حذيفة على دهقان فأتانا بطعام فطعمنا فدعا حذيفة بشراب فأتاه بشراب في إناء من فضة فأخذ الإناء فضرب به وجهه فساء بالذي صنع به فقال: هل تدرون لم صنعت هذا؟ قلنا: لا قال: نزلنا به في العام

النهي عن الأكل والشرب وآنية الذهب والفضة

الماضي فأتاني بشراب فيه فأخبرته أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نهانا أن نأكل في آنية الذهب والفضة وأن نشرب فيهما ولا نلبس الحرير ولا الديباج فإنهما للمشركين في الدنيا وهما لنا في الآخرة». وعلة النهي عما ذكر في هذا الحديث ظاهرة وهي مشابهة الكفار ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنها لهم في الدنيا. قال الإسماعيلي: ليس المراد بقوله في الدنيا إباحة استعمالهم إياه وإنما المعنى بقوله لهم أي هم الذين يستعملونه مخالفة لزي المسلمين. وقال النووي ليس في الحديث حجة لمن يقول: الكفار غير مخاطبين بالفروع؛ لأنه لم يصرح فيه بإباحته لهم وإنما أخبر عن الواقع في العادة أنهم هم الذين يستعملونه في الدنيا وإن كان حرامًا عليهم كما هو حرام على المسلمين انتهى. وقد ورد النهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة في عدة أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. منها حديث حذيفة المتفق على صحته وقد تقدم ذكره. وقد رواه البخاري في باب افتراش الحرير بلفظ: «نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه»، ورواه الدارقطني في باب الأطعمة من سننه بنحوه. ومنها ما رواه الدارقطني أيضًا عن أبي بردة قال: انطلقت أنا وأبي إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال لنا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نهى عن آنية الذهب والفضة أن يشرب فيها وأن يؤكل فيها ونهى عن القسي والميثرة وعن ثياب الحرير وخاتم الذهب».

الوعيد الشديد على الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة

ومنها ما رواه الطبراني في الكبير عن معاوية رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة ونهى عن لبس الذهب والحرير ونهى عن جلود النمور أن يركب عليها ونهى عن المتعة ونهى عن تشييد البناء». ومنها ما رواه النسائي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نهى عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة». ومنها ما في الصحيحين وغيرهما عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: «أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع - فذكر السبع الأول ثم قال- ونهانا عن خواتيم الذهب وعن الشرب في الفضة أو قال: أنية الفضة وعن المياثر والقسي وعن لبس الحرير والديباج والاستبرق». وفي رواية لمسلم: «وعن الشرب في الفضة فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة». إذا علم هذا فالصحيح من قولي العلماء أن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - على التحريم إلا ما عرفت إباحته، وقد نقل هذا عن مالك والشافعي وهو قول الجمهور واختاره البخاري رحمه الله، قال في آخر كتاب الاعتصام من صحيحه باب نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - على التحريم إلا ما تعرف إباحته، قال الحافظ ابن حجر: أي بدلالة السياق أو قرينة الحال، أو قيام الدليل على ذلك. انتهى. وقد ورد الوعيد الشديد على الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة والوعيد الشديد على الشيء يقتضي تحريمه بل يدل على أنه من الكبائر.

ففي الصحيحين والموطأ ومسندي الشافعي وأحمد وسنن ابن ماجه عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم». وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده بنحوه. وفي رواية لمسلم: «إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب». وفي رواية له أخرى: «من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه نارًا من جهنم». ورواه الطبراني في الكبير بنحوه وزاد إلا أن يتوب. وفي المسند وسنن ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من شرب في إناء فضة فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم». وروى الطبراني في الصغير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم». وروى الدارقطني وحسنه والطبراني والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من شرب في إناء ذهب أو فضة أو إناء فيه شيء من ذلك فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم» هذا لفظ الدارقطني. وروى الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي بعثني بالحق لا تنقضي هذه الدنيا حتى يقع بهم الخسف والمسخ والقذف قال: ومتى ذلك يا نبي الله بأبي أنت وأمي؟ قال: إذا رأيت النساء قد ركبن السروج وكثرت القينات وشهد شهادات الزور

تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة عام للرجال والنساء وكذلك سائر وجوه الاستعمالات

وشرب المسلمون في آنية أهل الشرك الذهب والفضة واستغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء فاستدفروا واستعدوا» وقال: هكذا بيده وستر وجهه. وروى الحاكم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة. ومن شرب في آنية الذهب والفضة في الدنيا لم يشرب بها في الآخرة. ثم قال: لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة وآنية أهل الجنة». قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى الطبراني في الصغير وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لبس الحرير وشرب في الفضة فليس منا». قال ابن مفلح في الفروع: هذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم. وقال الحافظ ابن حجر في الكلام على حديث حذيفة وأم سلمة والبراء رضي الله عنهم، في هذه الأحاديث تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة على كل مكلف رجلا كان أو امرأة ولا يلتحق ذلك بالحلي للنساء؛ لأنه ليس من التزين الذي أبيح لها في شيء. قال القرطبي وغيره في الحديث تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب. ويلحق بهما ما في معناهما مثل التطيب والتكحل وسائر وجوه الاستعمالات، وبهذا قال الجمهور.

ذكر الإجماع على تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة تحريم اتخاذ الأواني من الذهب والفضة ولو لغير الاستعمال وذكر العلة في ذلك

قلت: وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى عن الحنفية أنهم قالوا: لا يجوز الأكل والشرب والادهان والتطيب في آنية الذهب والفضة للرجال والنساء للنصوص، ولأنه تشبه بزي المشركين وتنعم بتنعم المترفين والمسرفين انتهى. وقال الحافظ ابن حجر أيضا نقل ابن المنذر الإجماع على تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة إلا عن معاوية بن قرة أحد التابعين فكأنه لم يبلغه النهي عن الشافعي في القديم ونص في الجديد على التحريم ومن أصحابه من قطع به عنه وهذا اللائق به لثبوت الوعيد عليه بالنار. وذكر الحافظ أيضا أن الشافعي نص على تحريم اتخاذ الإناء من الذهب أو الفضة. قال الحافظ: وإذا حرم الاتخاذ فتحريم الاستعمال أولى. وقال الحافظ أيضا اختلف في اتخاذ الأواني دون استعمالها والأشهر المنع وهو قول الجمهور ورخصت فيه طائفة وهو مبني على العلة في منع الاستعمال انتهى. وقد ذكر العلماء لمنع الاستعمال عللاً كثيرةً ومن أقواها علتان: كل واحدة منهما تفيد تحريم الاتخاذ من غير استعمال؛ لأن المعنى الذي حرم الاستعمال من أجله موجود في الاتخاذ أيضا فكان حكمه حكم الاستعمال، ولأن الاتخاذ وسيلة في الاستعمال والوسائل لها حكم المقاصد. العلة الأولى: السرف والخيلاء وكسر قلوب الفقراء وهذه العلة هي المشهورة عند كثير من الفقهاء من الحنابلة وغيرهم.

خروج حذيفة رضي الله عه من بيت رأى فيه شيئا من زي الأعاجم

قال الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله تعالى في المغني ويحرم اتخاذ الآنية من الذهب والفضة واستصناعها؛ لأن ما حرم استعماله حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال كالطنبور والمزمار ويستوي في ذلك الرجال والنساء لعموم الحديث. قلت: يعني بذلك حديث حذيفة وحديث أم سلمة. قال: ولأن علة تحريمها السرف والخيلاء وكسر قلوب الفقراء وهذا معنى يشمل الفريقين وإنما أبيح للنساء التحلي للحاجة إلى التزين للأزواج فتختص الإباحة به دون غيره. انتهى. العلة الثانية التشبه بالكفار كما يفيد ظاهر حديث حذيفة رضي الله عنه الذي تقدم في أول الفصل والتشبه بالكفار حرام لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس منا من تشبه بغيرنا»، رواه الترمذي. ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم». قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: هذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} انتهى. وهذه العلة أقوى من الأولى لحديث حذيفة المتقدم في أول الفصل. ولما روى الخلال بإسناده عن محمد بن سيرين أن حذيفة رضي الله عنه أتى بيتا فرأى فيه شيئًا من زي العجم فلم يدخله، وقال: «من تشبه بقوم فهو منهم».

خروج أحمد بن حنبل من بيت رأى فيه شيئا من زي المجوس

وقال المروذي في كتاب الورع: قرئ على أبي عبد الله أحمد بن حنبل وأنا أسمع عن يحيى بن سعيد عن أبي عبيدة قال: دعي حذيفة رضي الله عنه إلى شيء قال: فرأى شيئا من زي الأعاجم قال: فخرج وقال: «من تشبه بقوم فهو منهم»، فهذا المروي عن حذيفة رضي الله عنه يؤيد القول بأن علة المنع التشبه بالكفار ويفيد بظاهره أنه لا فرق بين الاتخاذ للاستعمال وبين الاتخاذ للزينة من غير استعمال. وقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى نحو ذلك فذكر القاضي أبو الحسين في الطبقات في ترجمة علي بن أبي صبح السواق قال: كنا في وليمة فجاء أحمد بن حنبل فنظر إلى كرسي في الدار عليه فضة فخرج فلحقه صاحب المنزل فنفض يده في وجهه وقال زي المجوس زي المجوس وخرج. وقال صالح بن أحمد كان رجل يختلف مع خلف المخرمي إلى عفان يقال له أحمد بن الحكيم العطار فختن بعض ولده فدعا يحيى وأبا خيثمة وجماعة من أصحاب الحديث وطلب أبي أن يحضر فمضوا ومضى أبي وأنا معه فلما دخل أجلس في بيت ومعه جماعة من أصحاب الحديث ممن كان يختلف معه إلى عفان فكان فيهم رجل يكنى بأبي بكر يعرف بالأحول فقال له: يا أبا عبد الله ههنا آنية الفضة فالتفت فإذا كرسي فقام وخرج وتبعه من كان في البيت وسأل من كان في الدار عن خروجه فأخبروا فتبعه منهم جماعة وأخبر الرجل فخرج فلحق أبي فحلف له أنه ما علم بذلك ولا أمر به وجاء يطلب إليه فأبى وجاء الرجل عفان فقال له الرجل: يا أبا عثمان اطلب إلى أبي عبد الله يرجع فكلمه عفان فأبى أن يرجع ونزل بالرجل أمر عظيم رواه أبو نعيم في الحلية.

إذا كان في الدعوة منكر خرج ولم يطعم

وقال أحمد رحمه الله تعالى في رواية صالح إذا كان في الدعوة مسكر أو شيء من منكر آنية المجوس الذهب والفضة أو ستر الجدران بالثياب خرج ولم يطعم. وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله فالرجل يدعى فيرى مكحلة رأسها مفضض قال: هذا يستعمل وكل ما استعمل فاخرج منه إنما رخص في الضبة أو نحوها. وهذه الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى تفيد أن كل ما صلح للاستعمال من آنية وآلة وغيرهما فاتخاذه من الذهب والفضة لا يجوز وينكر على متخذه ولا تجاب دعوته. ومن لم يعلم به إلا بعد ما دخل دار متخذه فإنه يخرج ولا يطعم. ويستثنى من ذلك خاتم الفضة وقبيعة السيف منها وحلية المنطقة ونحو ذلك مما رخص فيه. وقال المروذي أيضًا قلت لأبي عبد الله دخلت على رجل فأتى بمكحلة رأسها مفضض فقطعتها فأعجبه ذلك فتبسم وأنكر على صاحبها. وقال أيضا: قيل لأبي عبد الله إن رجلاً دعا قوما فجيء بطشت فضة أو إبريق فكسر، فأعجب أبا عبد الله كسره، قلت لأبي عبد الله: فإن وقع إلي إبريق لأبيعه ترى أن أكسره أو أبيعه كما هو؟ قال: اكسره، وقال أيضا سألت أبا عبد الله عن إبريق فضة يباع؟ قال: لا حتى يكسر. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ووجه ذلك أن الصناعة محرمة فلا

قيمة لها ولا حرمة وأيضًا فتعطيل هذه الهيئة مطلوب فهو بذلك محسن وما على المحسنين من سبيل انتهى. وعلى هذه الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى يخرج الحكم في الصناديق والساعات والأقلام المتخذة من الذهب أو الفضة وفيما سوى ذلك من الأواني والآلات المتخذة منهما فكل ما صلح من ذلك للاستعمال لم يجز اتخاذه لا للذكور ولا للإناث ويكسر إذا أمكن كسره وينكر على متخذه ولا تجاب دعوته. ويستثنى من ذلك الساعات في حق النساء إذا كن يتحلين بها. والعلة في المنع من اتخاذ ما ذكر هي مشابهة الكفار كما علل بذلك حذيفة رضي الله عنه فيما رواه المروذي والخلال عنه وتقدم ذكره. وكما علل بذلك الإمام أحمد رحمه الله تعالى فيما تقدم ذكره في رواية السواق ورواية صالح. وروي عن الشافعي وغيره أنهم عللوا بذلك في أواني الذهب والفضة. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: كان العلماء يجعلون اتخاذ الحرير وأواني الذهب والفضة تشبها بالكفار ثم ذكر بعض ما ذكرته عن حذيفة وأحمد، والأصل في ذلك ما تقدم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الذهب والفضة والحرير والديباج هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة». فأفاد هذا الحديث الصحيح أن من استعمل ما لا يجوز له استعماله من الذهب أو الفضة أو اتخذ ذلك عنده فقد تشبه بأعداء الله تعالى ومن تشبه بقوم فهو منهم.

ذكر الأحاديث في تحريم الذهب على الذكور

فصل وأما تختم الذكور بخواتم الذهب فقد ورد التصريح بتحريمه في عدة أحاديث وورد النهي عنه في أحاديث أخر والنهي يقتضي التحريم كما تقدم تقرير ذلك قريبًا، وورد أيضا التغليظ فيه والكراهة الشديدة له وهجر متخذه والإنكار عليه وذلك يقتضي التحريم أيضًا، فأما الأحاديث المصرحة بتحريمه. فالأول منها: عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها»، رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والترمذي والنسائي وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. الحديث الثاني عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ حريرًا فجعله في يمينه وأخذ ذهبا فجعله في شماله ثم قال: «إن هذين حرام على ذكور أمتي»، رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا الترمذي وصححه ابن حبان، وزاد ابن ماجه في روايته: «حل لإناثهم». الحديث الثالث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي إحدى يديه ثوب من حرير وفي الأخرى ذهب فقال: «إن هذين محرم على ذكور أمتي حل لإناثهم» رواه أبو داود الطيالسي وابن ماجه. الحديث الرابع عن عمر رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يديه صرتان إحداهما من ذهب والأخرى من حرير فقال: «هذان حرام على الذكور من أمتي حلال للإناث» رواه الطبراني.

الحديث الخامس عن مسلمة بن مخلد أنه قال لعقبة بن عامر رضي الله عنه قم فحدث بما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: سمعته يقول: «الذهب والحرير حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم» رواه الإمام أحمد. الحديث السادس عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الذهب والحرير حل لإناث أمتي وحرام على ذكورها»، رواه الإمام أحمد والطبراني. الحديث السابع عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الذهب والحرير حل لإناث أمتي وحرام على ذكورها» رواه الطبراني. وأما الأحاديث في نهي الرجال عن التختم بالذهب. فالأول منها عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: «نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سبع: نهى عن خاتم الذهب أو قال حلقة الذهب»، الحديث متفق عليه. الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه «نهى عن ختم الذهب» متفق عليه. الحديث الثالث: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نهى عن لبس القسي والمعصفر وعن تختم الذهب وعن قراءة القرآن في الركوع»، رواه مالك وأحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم وأهل السنن، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

الحديث الرابع عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التختم بالذهب» رواه الترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. الحديث الخامس عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن خاتم الذهب» رواه ابن ماجه. الحديث السادس: عن حذيفة رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير والذهب وقال هو لهم في الدنيا ولنا في الآخرة»، رواه ابن ماجه وهو في الصحيحين لكن بغير هذا اللفظ كما تقدم ذكره. الحديث السابع عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحرير والذهب ومياثر النمور» رواه النسائي بهذا اللفظ، ورواه أبو داود مطولاً وفيه قصة وعنده أن المقدام قال لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن لبس الذهب»، قال: نعم. الحديث الثامن عن حمان بن خالد الهنائي أن معاوية رضي الله عنه عام حج جمع نفرًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة فقال: «أنشدكم بالله هل نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبوس الذهب» قالوا: نعم قال: وأنا أشهد رواه النسائي. الحديث التاسع عن عائشة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير والذهب»، رواه الإمام أحمد وأبو نعيم في الحلية من طريقه. الحديث العاشر عن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نهى

عن الشرب في آنية الذهب والفضة ونهى عن لبس الذهب والحرير» رواه الطبراني. الحديث الحادي عشر عن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن النوح والشعر والتصاوير وجلود السباع والتبرج والغناء والذهب والخز والحرير» رواه الإمام أحمد والبخاري في تاريخه بأسانيد جيدة. الحديث الثاني عشر عن أبي الكنود قال: أصبت خاتمًا من ذهب في بعض المغازي فلبسته فأتيت عبد الله - يعني ابن مسعود رضي الله عنه- فأخذه فوضعه بين لحييه فمضغه وقال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتختم بخاتم الذهب، أو قال: بحلقة الذهب» رواه الإمام أحمد. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده مختصرًا ولفظه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن خاتم الذهب أو حلقة الذهب» وليس فيه ذكر الخاتم الذي وجده أبو الكنود. الحديث الثالث عشر عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نهى عن خاتم الذهب وعن خاتم الحديد» رواه الطبراني في الأوسط وقال الهيثمي رجاله ثقات. وأما الأحاديث في التغليظ في التختم بالذهب وكراهته وهجر متخذه والإنكار عليه: فالأول: منها عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى خاتمًا من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه وقال: «يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده» فقيل للرجل بعد ما ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم -: خذ

خاتمك انتفع به قال: لا والله لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه مسلم. الحديث الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اصطنع خاتمًا من ذهب فكان يجعل فصه في باطن كفه إذا لبس فصنع الناس ثم إنه جلس عن المنبر فنزعه فقال: «إني كنت ألبس هذا الخاتم واجعل فصه من داخل» فرمى به ثم قال: «والله لا ألبسه أبدًا» فنبذ الناس خواتيمهم رواه مالك وأحمد والشيخان وأهل السنن إلا ابن ماجه. وفي رواية للنسائي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبس خاتمًا من ذهب ثلاثة أيام فلما رآه أصحابه فشت خواتيم الذهب فرمى به فلا ندري ما فعل. الحديث الثالث: عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن رجلا كان جالسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه خاتم من ذهب وفي يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخصرة أو جريدة فضرب بها النبي - صلى الله عليه وسلم - إصبعه فقال الرجل: مالي يا رسول الله؟ قال: «ألا تطرح هذا الذي في إصبعك؟» فأخذه الرجل فرمى به فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك فقال: «ما فعل الخاتم؟» قال: رميت به قال: «ما بهذا أمرأتك إنما أمرتك أن تبيعه وتستعين بثمنه» رواه النسائي وقال: هذا حديث منكر. قلت: وفي إسناده رجل مبهم. الحديث الرابع: عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصر في يده خاتمًا من ذهب فجعل يقرعه بقضيب معه فلما غفل النبي - صلى الله عليه وسلم - ألقاه قال: «ما أرانا إلا قد أوجعناك وأغرمناك» رواه النسائي. وفي رواية له عن أبي إدريس الخولاني مرسلاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى

في يد رجل خاتمًا من ذهب فضرب إصبعه بقضيب كان معه حتى رمى به. الحديث الخامس عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره عشر خلال وذكر منها التختم بالذهب»، رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي وأبو داود السجستاني والنسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. الحديث السادس عن أبي ذر رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أكلتنا الضبع فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنا لغير الضبع أخوف عليكم من الضبع إذا صبت عليكم الدنيا فيا ليت أمتي لا يلبسون الذهب»، رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة عن يزيد بن أبي زياد عن زيد بن وهب عن أبي ذر رضي الله عنه. ورواه الإمام أحمد عن وكيع عن سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن زيد ابن وهب عن أبي ذر رضي الله عنه فذكره بنحوه وزاد فقلت لزيد بن وهب ما الضبع؟ قال: السنة. قال ابن الأثير: الضبع السنة المجدبة وهي في الأصل الحيوان المعروف والعرب تكني به عن سنة الجدب انتهى. الحديث السابع: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى على بعض أصحابه خاتمًا من ذهب فأعرض عنه فألقاه واتخذ خاتمًا من حديد فقال: «هذا شر هذا حلية أهل النار» فألقاه فاتخذ خاتمًا من ورق فسكت عنه رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد. الحديث الثامن: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أقبل رجل من البحرين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلم فلم يرد عليه وكان في يده خاتم من

ذكر الإجماع على تحريم الذهب على الرجال

ذهب وعليه جبة حرير فألقاهما ثم سلم فرد عليه السلام ثم قال: يا رسول الله! أتيتك آنفًا فأعرضت عني قال: «إنه كان في يدك جمرة من نار» رواه البخاري في الأدب المفرد والنسائي في سننه. الحديث التاسع عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبسن حريرًا ولا ذهبًا»، رواه الإمام أحمد والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. الحديث العاشر عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من لبس الذهب من أمتي فمات وهو يلبسه حرم الله عليه ذهب الجنة» رواه الإمام أحمد. فهذه ثلاثون حديثًا في منع الذكور من لبس الذهب وسواء في ذلك الكبير منهم والصغير لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها». قال مالك رحمه الله تعالى في الموطأ أنا أكره أن يلبس الغلمان شيئا من الذهب؛ لأنه بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تختم الذهب فأنا أكرهه للرجال الكبير منهم والصغير. وقال النووي في شرح مسلم أجمع المسلمون على إباحة خاتم الذهب للنساء، وأجمعوا على تحريمه على الرجال إلا ما حكي عن أبي بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم أنه أباحه، وعن بعض أنه مكروه لا حرام. وهذان النقلان باطلان فقائلهما محجوج بهذه الأحاديث التي ذكرها

إذا موه خاتم الفضة بالذهب فهو حرام على الذكور

مسلم مع إجماع من قبله على تحريمه له مع قوله - صلى الله عليه وسلم - في الذهب والحرير «إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثها». قال أصحابنا ويحرم سنن الخاتم إذا كان ذهبًا وإن كان باقيه فضة وكذا لو موه خاتم الفضة بالذهب فهو حرام انتهى كلام النووي. فإن قيل: إنه قد روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم لبسوا خواتم الذهب وذلك مما يدل على الجواز. فالجواب من وجهين: أحدهما: ما قاله ابن القيم رحمه الله تعالى إنه إن صح عنهم فلعله لم يبلغهم النهي وهم في ذلك كمن رخص في لبس الحرير من السلف وقد صحت السنة بتحريمه على الرجال وإباحته للنساء انتهى. الثاني: إن تحريم الذهب على الذكور ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عدة أوجه كما تقدم وما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجز العدول عنه إلى غيره؛ لأنه لا قول لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال مجاهد: ليس أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه البخاري في جزء رفع اليدين بإسناد صحيح. وقال سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم: «سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع» رواه البخاري في جزء رفع اليدين بإسناد صحيح. وقال الأوزاعي كتب عمر بن عبد العزيز أنه لا رأي لأحد في سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه الدارمي في سننه بإسناد جيد. ورواه محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة من طريق إسماعيل

يحرم على الذكور التحلي بساعات الذهب أو ما فيه خلط منه أو كان مموها به

ابن عياش حدثنا بشر بن عبد الله بن يسار السلمي وسوادة بن زياد وعمرو بن مهاجر أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الناس أنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا}. وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، فكل قول أو فعل خالف قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو فعله فهو مردود على قائله كائنا من كان ولا يجوز لأحد أن يعمل به وهذا أمر مجمع عليه. قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد. إذا علم هذا فمثل التختم بالذهب ما فشا في زماننا من التحلي بساعات الذهب أو ما فيه خلط منه أو كان مموها به فيحرم ذلك على الذكور كالتختم بالذهب بل التحلي بساعات الذهب أولى بالتحريم في حق الذكور في التختم بالذهب؛ لأن لابسها من الرجال قد جمع بين أمرين محرمين: أحدهما: لبس ما هو حرام على الذكور بالنص والإجماع. والثاني: التشبه بالنساء في لبسهن الأساور والتشبه بالنساء حرام. وباجتماع هذين المحرمين يكون تحريم ساعات الذهب على الذكور أغلظ من تحريم خواتم الذهب عليهم والله أعلم.

لا يجوز للرجال التحلي بساعات الفضة

وحكم ساعات الفضة في حق الذكور كحكم ساعات الذهب أو قريب منه لما في تحليهم بهن من التشبه بالنساء. وأيضا فإنه إنما أبيح للرجال من الفضة الخاتم وقبيعة السيف وحلية المنطقة ونحو ذلك مما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين أنهم ترخصوا فيه وما سوى ذلك فهو باق على المنع لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» رواه الإمام أحمد ومسلم والبخاري تعليقًا مجزومًا به من حديث عائشة رضي الله عنها. وقد زعم بعض الناس أنه يجوز للرجال التوسع في لبس الفضة يعني من غير اقتصار على ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين أنهم لبسوه واستدل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها» رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ولو تأمل هذا القائل أول الحديث لعلم أنه لا حجة له فيه ولظهر له أن الرخصة في التحلي بالفضة إنما أريد بها النساء خاصة. ولفظ الحديث عند أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحب أن يحلق حبيبه بحلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب ومن أحب أن يطوق حبيبه سوارًا من نار فليسوره بسوار من ذهب ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها»، فشدد على الرجال في تحلية نسائهم بالذهب ثم رخص لهم أن يلبسوهن من حلي الفضة ما شاءوا. ويدل على أن الرخصة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه إنما هي للنساء دون الرجال حديث أخت حذيفة رضي الله عنه وعنها قالت: خطبنا

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا معشر النساء أما لكن في الفضة ما تحلين به أما إنه ليس منكن امرأة تحلت ذهبًا تظهره إلا عذبت به»، رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي. ويدل على ذلك أيضًا حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت قاعدًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتته امرأة فقالت: يا رسول الله سوارين من ذهب قال: «سواران من نار» قالت: يا رسول الله طوق من ذهب قال: «طوق نار» قالت: قرطين من ذهب قال: «قرطان من نار» قال: وكان عليها سواران من ذهب فرمت بهما وقالت: يا رسول الله إن المرأة إذا لم تتزين لزوجها صلفت عنده قال: «ما يمنع إحداكن أن تصنع قرطين من فضة ثم تصفره بزعفران أو بعبير» رواه الإمام أحمد والنسائي، قولها صلفت عنده معناه ثقلت عليه ولم تحظ عنده. ويدل على ذلك أيضا ما رواه الإمام أحمد وأبو نعيم في الحلية من طريقه عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أنها كانت تخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت فبينا أنا عنده إذ جاءته خالتي قالت: فجعلت تسائله وعليها سواران من ذهب فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيسرك أن عليك سوارين من نار» قالت: قلت: يا خالتاه إنما يعني سواريك هذين قالت: فألقتهما وقالت: يا نبي الله إنهن إذا لم يتحلين صلفن عند أزواجهن فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: «أما تستطيع أن تجعل خوقًا من فضة وجمانة من فضة ثم تخلقه بزعفران فيكون كأنه من ذهب فإنه من تحلى وزن عين جرادة أو خربصيصة كوى بها يوم القيامة». قال الجوهري وابن الأثير الخوق الحلقة. وقال ابن منظور الخوق: الحلقة من الذهب والفضة. وقيل: هي حلقة القرط والشنف خاصة. وقال

ثعلب الخوق حلقة في الأذن، قال ابن منظور: يقال ما في أذنها خرص ولا خوق انتهى. وأما الجمانة فقال الجوهري: حبة تعمل من الفضة كالدرة وجمعها جمان، وقال صاحب القاموس الجمان كغراب اللؤلؤ أو هنوات أشكال اللؤلؤ من فضة الواحدة جمانة انتهى وسيأتي تفسير الخربصيصة قريبًا إن شاء الله تعالى. فهذه الأحاديث الثلاثة مطابقة لحديث أبي هريرة رضي الله عنه ومزيلة لما قد يتوهمه منه من لم يمعن النظر فيه والله أعلم. وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن إلا ابن ماجه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه خاتم من شبه فقال: «مالي أجد منك ريح الأصنام»؟ فطرحه ثم جاء وعليه خاتم من حديد فقال: «مالي أرى عليك حلية أهل النار»، فطرحه فقال: يا رسول الله! من أي شيء أتخذه قال: «اتخذه من ورق ولا تتمه مثقالاً» قال الترمذي: هذا حديث غريب وصححه ابن حبان. واحتج به الإمام أحمد فيما رواه الأثرم عنه فدل على صحته عنده. وفي قوله: «ولا تتمه مثقالاً» دليل على أنه لا يجوز للرجال التوسع في لبس الفضة. ويدل على ذلك أيضًا ما رواه البخاري في كتاب اللباس من صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الذهب والفضة والحرير والديباج هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة». وهذا الحديث من أقوى الأدلة على منع الرجال من التوسع في لبس الفضة لما في ذلك من التشبه بالكفار والله أعلم.

وبعد تحرير هذا الموضع وقفت على كلام للشيخ محمد بن مفلح رحمه الله تعالى قرر فيه ما ذكرته ههنا وأورد فيه أدلة كثيرة على منع الرجال من استعمال كثير الفضة، ولحسن كلامه وكثرة فوائده رأيت أن أسوقه كله ههنا وإن كان في بعض ما ذكره من الأحاديث نوع تكرار مع ما ذكرته. قال أبو البركات ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه المحرر: ويباح للرجل من حلي الفضة الخاتم وقبيعة السيف. قال ابن مفلح في النكت على المحرر: ظاهره تحريم لباس الفضة والتحلي بها إلا ما استثناه وعلى هذا كلام غيره صريحًا وظاهرًا ولم أجد أحدًا احتج لتحريم لباس الفضة على الرجال في الجملة ودليل ذلك فيه إشكال. وحكي عن الشيخ تقي الدين أنه كان يستشكل هذه المسألة وربما توقف فيها. وكلامه في موضع يدل على إباحة لبس الفضة للرجل إلا ما دل دليل شرعي على تحريمه. وقال في موضع آخر لباس الذهب والفضة يباح للنساء بالاتفاق - إلى أن قال- فلما كانت ألفاظه صلوات الله وسلامه عليه عامة في آنية الذهب والفضة وفي لباس الذهب استثنى من ذلك ما خصصته الأدلة الشرعية كيسير الحرير ويسير الفضة في الآنية للحاجة ونحو ذلك فأما لبس الفضة إذا لم يكن فيه لفظ عام بالتحريم لم يكن لأحد أن يحرم منه إلا ما قام الدليل الشرعي على تحريمه فإذا جاءت السنة بإباحة خاتم الفضة كان هذا دليلا على إباحة ذلك وما هو في معناه وما هو أولى منه بالإباحة وما لم يكن كذلك يحتاج إلى نظر في تحليله وتحريمه. انتهى.

كلامه وذلك لأن النص ورد في الذهب والحرير وآنية الذهب والفضة فليقتصر على مورد النص وقد قال الله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}. قلت: قد تقدم ما رواه البخاري في كتاب اللباس من صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الذهب والفضة والحرير والديباج هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة». وهذا لفظ عام يدل على منع الرجال من لبس الذهب والفضة والحرير والديباج. ويخص من عمومه ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم أنهم ترخصوا فيه وما سوى ذلك فهو باق على المنع كما تقدم تقريره. ومن ادعى إباحة شيء مما دخل في عموم هذا الحديث الصحيح فعليه إقامة الدليل على تخصيصه من العموم والله أعلم. قال ابن مفلح: ووجه تحريم ذلك أن الفضة أحد النقدين اللذين تقوم بهما الجنايات والمتلفات وغير ذلك، وفيها السرف والمباهات والخيلاء ولا تختص معرفتها بخواص الناس فكانت محرمة على الرجال كالذهب ولأنها جنس يحرم فيها استعمال الإناء فحرم منها غيره كالذهب وهذا صحيح فإن التسوية بينهما في غيره. ولأن كل جنس حرم استعمال إناء منه حرم استعماله مطلقًا وإلا فلا وهذا استقراء صحيح وهو أحد الأدلة، ولأنه عليه الصلاة والسلام رخص للنساء في الفضة وحضهن عليها ورغبهن فيها ولو كانت إباحتها عامة للرجال والنساء لما خصهن بالذكر ولأثبت عليه الصلاة والسلام الإباحة عامة لعموم الفائدة بل يصرح بذكر الرجال لما فيه من كشف اللبس وإيضاح الحق. وذلك فيما قال الإمام

أحمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن منصور عن ربعي عن امرأته عن أخت حذيفة قالت: خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا معشر النساء ما منكن امرأة تتحلى ذهبًا تظهره إلا عذبت به»، رواه أبو داود عن مسدد عن أبي عوانة عن منصور. حديث حسن. وربعي هو ابن حراش الإمام. وقال أحمد أيضًا حدثنا عبد الصمد حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار حدثني أسيد بن أبي أسيد عن ابن أبي موسى عن أبيه أو عن ابن أبي قتادة عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سره أن يحلق حبيبته حلقة من نار فليحلقها حلقة من ذهب ولكن الفضة فالعبوا بها لعبًا»، وقوله: «فالعبوا بها لعبًا» يعني النساء؛ لأن السياق فيهمن فقوله: حلوا معاشر الرجال نساءكم بالفضة مطلقًا من غير حاجة ولا يحوج من كره. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت امرأة: يا رسول الله! طوق من ذهب قال: «طوق من نار» -إلى أن قال-: «ما يمنع إحداكن أن تصنع قرطين من فضة ثم تصفرهما بالزعفران»، رواه أحمد. ولأنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الخاتم من أي شيء أتخذه قال: «من ورق ولا تتمه مثقالاً» رواه جماعة منهم النسائي والترمذي، وقال: حديث غريب. وهذا يدل على أنهم كانوا ممنوعين من استعمال الورق وإلا لما توجهت الإباحة إليه وأباح اليسير؛ لأنه نهى عن تتمته مثقالاً ولأن الصحابة رضي الله عنهم نقلوا عنه عليه الصلاة والسلام استعمال يسير الفضة ليكون ذلك حجة في اختصاصه بالإباحة ولو كانت الفضة مباحة مطلقًا لم يكن في نقلهم استعمال اليسير من ذلك كبير فائدة فقال أنس رضي الله عنه:

كانت قبيعة سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضة رواه أبو داود والنسائي والترمذي، وقال: حسن غريب. وقال مزيدة العصري دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة، رواه الترمذي، وقال: غريب، وهذا كقول أنس رضي الله عنه أن قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة. لتكون حجة إباحة اليسير في الآنية. وقد ثبت في الصحاح والسنن من حديث أنس رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتمًا من الفضة انتهى كلام ابن مفلح رحمه الله تعالى. ولقد أجاد وأفاد وقرر الصواب الذي لا شك فيه وأوضح الأدلة على ذلك وأحسن التعقب والتزييف لما خالفه وفي أول تقريره لتحريم الفضة جملة فيها خلل وهي قوله: فإن التسوية بينهما في غيره. ويظهر لي أن في العبارة سقطًا وأن صوابه هكذا: فإن التسوية بينهما في تحريم استعمال الإناء منهما تقتضي التسوية بينهما في غيره والله أعلم. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام "في قواعد الأحكام": لبس الذهب والتحلي به محرم على الرجال إلا لضرورة وحاجة ماسة، وكذلك الفضة إلا الخاتم وآلات الحرب وكذلك لبس الحرير لا يجوز للرجال إلا لضرورة أو حاجة ماسة. ويجوز لبس الحرير والتحلي بالذهب والفضة للنساء تحبيبا لهن إلى الرجال. فإن حبهن حاث على إيلادهن من يباهي به الرسول الأنبياء وينتفع به الوالد إن عاش بما جرت به العادة من الانتفاع

لا يجوز تغليف الأسنان بالذهب إذا لم يكن بها خلل وكذا قلعها وإبدالها بأسنان ذهب من غير ضرورة

بالأولاد والأحفاد. وإن مات كان فرطا لأبويه وأجرا وذخرا ووقاية من النار بحيث لا تصيبه إلا تحلة القسم انتهى. فصل وههنا أمر ينبغي التنبيه عليه لوقوعه من كثير من الجهال وهو إلباس الأسنان بأغلفة من ذهب قصدًا للزينة لا من خلل في الأسنان وبعضهم يقلع أسنانه ويبدلها بأسنان ذهب قصدا للزينة وهذا لا يجوز لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها». وإنما أجاز العلماء ربط الأسنان بالذهب إذا كان يخشى سقوطها؛ لأن ذلك مما تدعو إليه الضرورة واستدلوا على ذلك بحديث عرفجة بن أسعد أنه قطع أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفًا من ورق فأنتن عليه فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتخذ أنفًا من ذهب رواه أهل السنن إلا ابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن قال: وقد روي عن غير واحد من أهل العلم أنهم شدوا أسنانهم بالذهب، وفي هذا الحديث حجة لهم انتهى. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ربط الأسنان بالذهب إذا خشي عليها أن تسقط قد فعله الناس فلا بأس به عند الضرورة. فقيد رحمه الله تعالى الجواز بالضرورة فعلم أنه لا يجوز ما لم تدع إليه ضرورة كإبدال الأسنان بالذهب وتغليفها به ونحو ذلك مما يقصد به الزينة لأن الضرورة إذا انتفت فالأصل التحريم والله أعلم. ومن قاس ما لم تدع إليه ضرورة على محل الضرورة وجعل الجميع من باب واحد فقد أبعد النجعة ونادى على كثافة جهله.

ذكر الأحاديث في تحريم الحرير على الذكور والتغليظ في ذلك

وقد روى الأثرم بإسناده عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم قال: من حلى أو تحلى بخربصيصة كوي بها يوم القيامة مغفورا له أو معذبًا، وهذا له حكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال إلا عن توقيف، وقد احتج الإمام أحمد بهذا الحديث في رواية الأثرم. قال الأثرم: قلت أي شيء خربصيصة؟ قال شيء صغير مثل الشعيرة. وقال الهروي وغيره من أهل اللغة الخربصيصة هي الهنة التي تتراءى في الرمل لها بصيص كأنها عين جرادة. وإذا كان الأمر هكذا في التحلي بالخربصيصة التي هي مثل عين الجرادة في الصغر فكيف بالتحلي بما هو أكبر من ذلك بكثير كالساعات والخواتيم والأزارير والأسنان وأغلفتها وغير ذلك من حلي الذهب مما قد كثر استعماله في زماننا واستحله كثير من الجهال فالله المستعان. فصل وأما لبس الحرير فقد ورد التصريح بتحريمه على الذكور فيما رواه عمر وعلي وأبو موسى وعبد الله بن عمرو وعقبة بن عامر وزيد بن أرقم وواثلة بن الأسقع رضي الله عنهم وقد تقدمت أحاديثهم قريبًا. ومن الأحاديث الصريحة في التحريم حديث عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك والله يمين أخرى ما كذبني أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير» رواه البخاري تعليقًا وأبو داود موصولاً وهذا لفظه.

ومن الأحاديث في هذا الباب أيضًا حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يوشك أن تستحل أمتي فروج النساء والحرير» رواه ابن المبارك في الزهد وابن عساكر في تاريخه. ورواه البخاري في التاريخ الكبير ولفظه قال: «يوشك أن يستحلوا الخمر والحرير»، وفي نسخة: «الحر والحرير». ومن الأحاديث في هذا الباب أيضا حديث مكحول عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أول دينكم نبوة ورحمة ثم ملك ورحمة ثم ملك أعفر ثم ملك وجبروت يستحل فيها الخمر والحرير»، رواه الدارمي في سننه وقال: وقد سئل عن أعفر فقال: يشبهه بالتراب وليس فيه خير. وقال ابن الأثير في النهاية أي ملك يساس بالنكر والدهاء من قولهم للخبيث المنكر عفر والعفارة الخبث والشيطنة ومنه الحديث: «أن الله تعالى يبغض العفرية النفرية هو الداهي الخبيث الشرير ومنه العفريت»، انتهى. وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده من طريق عبد الرحمن بن سابط عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه عن أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله عز وجل بدأ هذا الأمر بنبوة ورحمة وكائنًا خلافة ورحمة وكائنًا ملكًا عضوضًا وكائنًا عتوا وجبرية وفسادًا في الأرض يستحلون الفروج والخمور والحرير وينصرون على ذلك ويرزقون أبدا حتى يلقوا الله». وورد أيضًا النهي عن الحرير في عدة أحاديث وفي بعضها النهي عنه وعن الديباج والإستبرق والقسي والمعصفر والمياثر. والنهي يقتضي التحريم كما تقدم تقرير ذلك قريبًا، وورد أيضًا التغليظ فيه والكراهة

الشديدة له وهجر لابسه والإنكار عليه وذلك مما يقتضي التحريم أيضًا. فأما أحاديث النهي عنه فقد تقدم ستة منها قريبًا. أولها: حديث حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تلبسوا الحرير ولا الديباج»، وفي لفظه: «نهانا عن الحرير والديباج» الحديث. رواه الإمام أحمد والشيخان وأهل السنن. ثانيها: حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نهى عن لبس الذهب والحرير»، رواه الطبراني في الكبير. ثالثها: حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما المخرج في الصحيحين وغيرهما قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع فذكر المأمورات ثم قال: «ونهى عن خواتيم الذهب وعن الشرب في الفضة وعن المياثر والقسي وعن لبس الحرير والديباج والإستبرق». فأما المياثر والقسي فسيأتي الكلام عليهما بعد الحديث الرابع. وأما الحرير فمعروف، وأما الديباج والإستبرق فقال الحافظ ابن حجر أنهما صنفان نفيسان من الحرير. وقال ابن الأثير: الديباج هو الثياب المتخذة من الإبريسم فارسي معرب والإستبرق ما غلظ من الحرير والإبريسم وهي لفظة أعجمية معربة أصلها استبرة. وقال الجوهري الإستبرق الديباج الغليظ. وفي الصحيحين وسنن النسائي عن يحيى بن أبي إسحاق قال: قال لي سالم بن عبد الله ما الإستبرق؟ قلت: ما غلظ من الديباج وخشن منه.

الرابع: حديث علي رضي الله عنه الذي رواه مالك وأحمد وأبو داود الطيالسي وأهل السنن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نهى عن لبس القسي والمعصفر»، الحديث. وروى الدارقطني في سننه عن أبي بردة قال: انطلقت أنا وأبي إلى علي ابن أبي طالب رضي الله عنه فقال لنا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نهى عن آنية الذهب والفضة أن يشرب فيها وأن يؤكل فيها ونهى عن القسي والميثرة وعن ثياب الحرير وخاتم الذهب». وروى الإمام أحمد والنسائي عن مالك بن عمير قال: كنت قاعدًا عند علي رضي الله عنه فجاء صعصعة بن صوحان فسلم ثم قام فقال: يا أمير المؤمنين انهنا عما نهاك عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «نهانا عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير ونهانا عن القسي والميثرة الحمراء وعن الحرير والحلق الذهب»، هذا لفظ أحمد. وفي رواية له أيضًا ولمسلم: «نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس القسي وعن جلوس على المياثر»، قال: فأما القسي فثياب مضلعة يؤتى بها من مصر والشام فيها شبه كذا وأما المياثر فشيء كانت تجعله النساء لبعولتهن على الرحل كالقطائف الأرجوان. ورواه البخاري في صحيحه معلقًا فقال وقال عاصم عن أبي بردة قال: قلت لعلي رضي الله عنه ما القسية؟ قال: ثياب أتتنا من الشام أو من مصر مضلعة فيها حرير أمثال الأترنج والميثرة كانت النساء تصنعه لبعولتهن مثل القطائف يصفونها ثم ساق حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: «نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المياثر الحمر والقسي».

قال الجوهري: القسي ثوب يحمل من مصر يخالطه الحرير، وفي الحديث أنه نهى عن لبس القسي قال أبو عبيد هو منسوب إلى بلاد يقال لها القس قال: وقد رأيتها ولم يعرفها الأصمعي قال: وأصحاب الحديث يقولونه بكسر القاف وأهل مصر بالفتح انتهى كلام الجوهري. وقال الهروي هي ثياب من كتان مخلوط بحرير يؤتى بها من مصر نسبت إلى قرية على شاطئ البحر قريبًا من تنيس يقال لها: القس بفتح القاف وبعض أهل الحديث يكسرها انتهى. وأما المياثر فهي جمع ميثرة بكسر الميم وهو ما كان وطيئًا لينًا مما يجلس عليه ويرتفق به قال الخطابي والهروي وغيرهما من أهل اللغة: هي من مراكب العجم. قال الهروي: وتعمل من حرير أو ديباج وتتخذ كالفراش الصغير وتحشى بقطن أو صوف يجعلها الراكب تحته، وقال أبو عبيد: المياثر الحمر التي جاء النهي عنها كانت من مراكب العجم من ديباج وحرير. قال الحافظ ابن حجر: وعلى كل تقدير فالميثرة وإن كانت من حرير فالنهي فيها كالنهي عن الجلوس على الحرير ولكن تقييدها بالأحمر أخص من مطلق الحرير فيمتنع إن كانت حريرًا ويتأكد المنع إن كانت مع ذلك حمراء. وإن كانت من غير حرير فالنهي فيها للزجر عن التشبه بالأعاجم انتهى. وقد علل بعض السلف النهي عن المياثر الحمر والثياب الحمر بأنها من زينة قارون، قال المروذي: سألت أبا عبد الله عن المرأة تلبس المصبوغ الأحمر فكرهه كراهة شديدة وقال: أما إن تريد الزينة فلا وقال:

يقال: إن أول من لبس الثياب الحمر قارون أو فرعون ثم قرأ: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} قال: في ثياب حمر. وعن مجاهد في قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} قال في ثياب أرجوان حمر وعن قتادة: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} قال: على ألف بغلة شهباء عليها مياثر الأرجوان. قال الجوهري: الأرجوان صبغ أحمر شديد الحمرة وقال غيره: هو الصوف وقيل: كل شيء أحمر فهو أرجوان ذكره الحافظ ابن حجر قال الجوهري، ويقال أيضًا الأرجوان معرب وهو بالفارسية أرغوان وهو شجر له نور أحمر أحسن ما يكون وكل لون يشبهه فهو أرجوان قال عمرو بن كلثوم: كأن ثيابنا منا ومنهم ... خضبن بأرجوان أو طلينا وقد كثر في زماننا استعمال المياثر الحمر في مجالس الكبراء والمترفين وقد قيل: إن بعضها من الديباج وما كان منه فالجلوس عليه لا يجوز لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلوس عليه في الحديث الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه وتقدم ذكره. وتقدم أيضا أن النهي يقتضي التحريم إلا ما عرفت إباحته، وما كان من غير الديباج فالظاهر أنه لا يجوز الجلوس عليه أيضا لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المياثر ولما في ذلك من التشبه بالأعاجم والتشبه بهم حرام والله أعلم. وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والحاكم عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا أركب الأرجوان ولا ألبس

المعصفر ولا ألبس القميص المكفف بالحرير» قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. الخامس: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير والذهب»، رواه الإمام أحمد وأبو نعيم في الحلية من طريقه. السادس: حديث معاوية رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نهى عن النوح والشعر والتصاوير وجلود السباع والتبرج والغناء والذهب والخز والحرير» رواه الإمام أحمد والبخاري في تاريخه. الحديث السابع عن أبي عثمان النهدي قال أتانا كتاب عمر رضي الله عنه ونحن مع عتبة بن فرقد بأذربيجان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نهى عن الحرير إلا هكذا» وأشار بإصبعيه اللتين تليان الإبهام قال فيما علمنا أنه يعني الأعلام متفق عليه، وهذا لفظ البخاري. ورواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا الترمذي بنحوه، وفي رواية أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نهى عن الحرير إلا ما كان هكذا وهكذا إصبعين وثلاثة وأربعة». وفي رواية ابن ماجه أن عمر رضي الله عنه: «كان ينهى عن الحرير والديباج إلا ما كان هكذا» ثم أشار بإصبعه ثم الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة فقال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا عنه». وقد رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي من حديث سويد بن غفلة أن عمر رضي الله عنه خطب بالجابية فقال: «نهى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

الحديث الثامن عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أهدي للنبي - صلى الله عليه وسلم - جبة سندس وكان ينهى عن الحرير فعجب الناس منها فقال - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا» متفق عليه. الحديث التاسع عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير وعن التختم بالذهب وعن الشرب في الحناتم» رواه النسائي بهذا اللفظ والترمذي مختصرًا، وقال: حديث حسن صحيح. الحديث العاشر عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحرير والذهب ومياثر النمور» رواه النسائي بهذا اللفظ ورواه أبو داود مطولاً، وفيه قصة وعنده أن المقدام قال لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: أنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن لبس الحرير؟» قال: نعم. الحديث الحادي عشر عن أبي شيخ الهنائي قال: سمعت معاوية وحوله ناس من المهاجرين والأنصار فقال لهم: أتعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن لبس الحرير؟» قالوا: اللهم نعم، رواه النسائي. الحديث الثاني عشر عن أبي ريحانة رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عشر وذكر منها أن يجعل الرجل في أسفل ثيابه حريرًا مثل الأعاجم أو يجعل على منكبيه حريرًا مثل الأعاجم» رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا الترمذي.

الحديث الثالث عشر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لبس النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا قباء من ديباج أهدي له ثم أوشك أن نزعه فأرسل به إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقيل له: قد أوشك ما نزعته يا رسول الله! فقال: «نهاني عنه جبريل» فجاءه عمر يبكي فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كرهت أمرًا وأعطيتنيه فمالي؟ قال: «إني لم أعطكه لتلبسه إنما أعطيتكه تبيعه» فباعه بألفي درهم رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي. وأما الأحاديث في التغليظ في لبس الحرير والكراهة الشديدة له وهجر لابسه والإنكار عليه. فالأول منها ما في الصحيحين والموطأ ومسندي الشافعي وأحمد والسنن إلا الترمذي عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى حلة سيراء عند باب المسجد فقال: يا رسول الله لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة»، ثم جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها حلل فأعطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه منها حلة فقال: يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني لم أكسكها لتلبسها» فكساها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخًا له بمكة مشركًا. وفي رواية لمسلم عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأى عمر رضي الله عنه عطاردًا التميمي يقيم بالسوق حلة سيراء وكان رجلا يغشى الملوك ويصيب منهم فقال عمر يا رسول الله إني رأيت عطاردًا يقيم في السوق حلة سيراء فلو اشتريتها فلبستها لوفود العرب إذا قدموا عليك

وأظنه قال: ولبستها يوم الجمعة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة» فلما كان بعد ذلك أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحلل سيراء فبعث إلى عمر بحلة وبعث إلى أسامة بن زيد بحلة وأعطى علي بن أبي طالب حلة وقال: شققها خمرًا بين نسائك قال: فجاء عمر بحلته يحملها فقال: يا رسول الله بعثت إلي بهذه وقد قلت بالأمس في حلة عطارد ما قلت. فقال: «إني لم أبعث بها إليك لتلبسها ولكني بعثت بها إليك لتصيب بها»، وأما أسامة فراح في حلته فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرًا عرف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنكر ما صنع فقال: يا رسول الله ما تنظر إلي فأنت بعثت إلي بها فقال: «إني لم أبعثها إليك لتلبسها ولكن بعثت بها إليك لتشققها خمرًا بين نسائك». ورواه الإمام أحمد في مسنده بنحوه. وفي الصحيحين والمسند وسنني أبي داود والنسائي من حديث سالم بن عبد الله عن أبيه نحو حديث نافع عنه. قال الجوهري: السيراء بكسر السين وفتح الياء برد فيه خطوط صفر وقال ابن الأثير: السيراء بكسر السين وفتح الياء والمدنوع من البرود يخالطه حرير كالسيور. وقال الخطابي: السيراء هي المضلعة بالحرير. قلت: وقد جاء تفسير السيراء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه رأى على أم كلثوم بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بردًا سيراء قال: والسيراء المضلع بالقز رواه أبو داود والنسائي. ورواه الحاكم في مستدركه مختصرًا وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. الحديث الثاني عن عمران بن حطان قال: سألت عائشة رضي الله

عنها فقالت: ائت ابن عباس فسله قال: فسألته فقال: سل ابن عمر قال فسألت ابن عمر رضي الله عنهما فقال: أخبرني أبو حفص يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة»، فقلت: صدق وما كذب أبو حفص على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي وهذا لفظ البخاري. وعند أحمد والنسائي أن عمران بن حطان سأل ابن عباس رضي الله عنهما أولاً فقال: سل عائشة فسأل عائشة فقالت: سل ابن عمر فسأل ابن عمر فقال: حدثني أبو حفص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من لبس الحرير في الدنيا فلا خلاق له في الآخرة». وفي صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنما يلبس الحرير من لا خلاق له» هذا لفظ مسلم. ولفظ أحمد: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة». وفي المسند أيضًا عن علي بن زيد قال: قدمت المدينة فدخلت على سالم بن عبد الله وعلي جبة خز فقال لي سالم: ما تصنع بهذه الثياب؟ سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما يلبس الحرير من لا خلاق له». وقد اختلف في تفسير الخز، فقيل: إنه رديء الحرير، وقيل: إنه القسي الذي تقدم ذكره في حديث علي رضي الله عنه، وقيل: إنه وبر مخلوط بحرير، وقال ابن الأثير: هو ضرب من ثياب الإبريسم، وقال ابن

حجر: الأصح في تفسير الخز أنه ثياب سداها من حرير ولحمتها من غيره. وقال ابن الأثير: الخز المعروف أولا ثياب تنسج من صوف وإبريسم وهي مباحة، وقد لبسها الصحابة والتابعون فيكون النهي عنها لأجل التشبه بالعجم وزي المترفين، وإن أريد بالخز النوع الآخر فهو حرام؛ لأن جميعه معمول من الإبريسم وعليه يحمل الحديث الآخر قوم يستحلون الخز والحرير. انتهى. وما ذكره من الإباحة في النوع الأول ينتقض بما ذكره من النهي عنه لأن النهي عن الشيء يقتضي تحريمه ما لم يقم دليل على أن النهي للكراهة. وينتقض أيضًا بقوله: إنه من زي العجم والمترفين لأن التزيي بزيهم غير مباح، وقد تقدم حديث من تشبه بقوم فهو منهم. وحديث ليس منا من تشبه بغيرنا، وأقل الأحوال في هذين الحديثين أنهما يقتضيان تحريم التشبه بالأعاجم. وأما ما ذكره عن الصحابة والتابعين من لبس الخز فقد روي ذلك عن جماعة منهم لا عن جميعهم وهو محمول على أنه لم يبلغهم النهي عنه وقد يكون ما لبسوه من الخز الذي ليس فيه حرير. فقد قيل: إن أصل الخز اسم دابة يقال لها الخز سمي الثوب المتخذ من وبره خزًا لنعومته ثم أطلق على ما يخلط بالحرير لنعومة الحرير ذكر هذا القول الحافظ ابن حجر في فتح الباري قال: وعلى هذا فلا يصح الاستدلال بلبسه على جواز لبس ما يخالطه الحرير ما لم يتحقق أن الخز الذي لبسه السلف كان من المخلوط بالحرير. انتهى.

وقد تقدم التصريح بتحريم الخز في الحديث الذي رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري وهو حديث صحيح. وتقدم النهي عنه فيما رواه الإمام أحمد والبخاري في تاريخه بأسانيد جيدة من حديث معاوية رضي الله عنه. وروى الإمام أحمد والبخاري في التاريخ أيضًا وأبو داود بأسانيد جيدة عن معاوية أيضًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تركبوا الخز ولا النمار». وفي سنن ابن ماجه بإسناد حسن عن علي رضي الله عنه أنه أهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلة مكفوفة بحرير إما سداها وإما لحمتها فأرسل بها إلي فأتيته فقلت: يا رسول الله! ما أصنع بها ألبسها؟ قال: «لا، ولكن اجعلها خمرًا بين الفواطم». فهذه الأحاديث الأربعة يشد بعضها بعضًا وفيها كفاية للاحتجاج على تحريم الخز والله أعلم. وفي الصحيحين ومسندي أحمد وأبي داود الطيالسي وسنن النسائي عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة»، زاد أحمد في بعض الروايات وقال عبد الله بن الزبير: «ومن لم يلبسه في الآخرة لم يدخل الجنة قال الله تعالى {وِلِبَاسُهُم فِيْهَا حَرِيْرٌ}». وفي الصحيحين ومسند الإمام أحمد وسنن النسائي عن أبي عثمان النهدي قال: كنا مع عتبة بن فرقد فجاءنا كتاب عمر رضي الله عنه أن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يلبس الحرير إلا من ليس له منه شيء في الآخرة إلا هكذا»، وقال أبو عثمان بإصبعيه اللتين تليان الإبهام فرأيتهما إزرار الطيالسة حين رأيت الطيالسة. الحديث الثالث عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من لبس الحرير في الدنيا فلن يلبسه في الآخرة» أخرجاه في الصحيحين ورواه أحمد وابن ماجه بإسناد مسلم. الحديث الرابع عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» رواه مسلم. الحديث الخامس: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من لبس الحرير من أمتي فمات وهو يلبسه حرم الله عليه حرير الجنة» رواه الإمام أحمد. الحديث السادس: عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من لبس الحرير في الدنيا حرمه في الآخرة» رواه ابن حبان في صحيحه. الحديث السابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة ومن شرب في آنية الذهب والفضة في الدنيا لم يشرب بها في الآخرة ثم قال: لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة وآنية أهل الجنة» رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

الحديث الثامن: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لبس الحرير وشرب في الفضة فليس منا»، رواه الطبراني في الصغير وأبو نعيم في الحلية. الحديث التاسع: عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: أهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فروج حرير فلبسه ثم صلى فيه ثم انصرف فنزعه نزعًا شديدًا كالكاره له ثم قال: «لا ينبغي هذا للمتقين» متفق عليه. الحديث العاشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتتبع الحرير من الثوب فينزعه» رواه البخاري في تاريخه. الحديث الحادي عشر: عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس حريرًا ولا ذهبًا»، رواه الإمام أحمد والحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. الحديث الثاني عشر: عن أبي أمامة أيضًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يستمتع بالحرير من يرجو أيام الله»، رواه الإمام أحمد وأبو نعيم في الحلية. الحديث الثالث عشر: عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما يلبس الحرير من لا خلاق له» رواه الإمام أحمد والنسائي وأبو نعيم في الحلية. الحديث الرابع عشر: عن الحسن بن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا يرجو أن يلبسه

في الآخرة إنما يلبس الحرير من لا خلاق له»، رواه أبو داود الطيالسي في مسنده. ورواه الإمام أحمد بنحوه وزاد قال الحسن فما بال أقوام يبلغهم هذا عن نبيهم فيجعلون حريرًا في ثيابهم وبيوتهم؟ الحديث الخامس عشر عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرابي عليه جبة من طيالسة مكفوفة بديباج أو مزرورة فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - مغضبًا فأخذ بمجامع جبته فاجتذبه وقال: «ألا أرى عليك ثياب من لا يعقل»؟، رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد والحاكم في مستدركه، وقال: صحح الإسناد ووافقه الذهبي في تلخيصه. الحديث السادس عشر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كساني النبي - صلى الله عليه وسلم - حلة سيراء فخرجت فيها فرأيت الغضب في وجهه فشققتها بين نسائي أخرجاه في الصحيحين والإمام أحمد في مسنده. وفي رواية لأحمد ومسلم وأبي داود والنسائي، قال: أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلة سيراء فبعث بها إليّ فلبستها فعرفت الغضب في وجهه فقال: «إني لم أبعث بها إليك لتلبسها إنما بعثت بها إليك لتشققها خمرًا بين النساء». وفي رواية لأحمد وأبي داود الطيالسي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي رضي الله عنه: «لست أرضى لك ما أكره لنفسي»، قال: فأمرني فشققتها بين نسائي خمرًا. الحديث السابع عشر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أقبل رجل من البحرين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلم فلم يرد عليه وكان في يده

خاتم من ذهب وعليه جبة حرير فألقاهما ثم سلم فرد عليه السلام رواه البخاري في الأدب المفرد والنسائي في سننه. الحديث الثامن عشر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبة مجيبة بحرير فقال: «طوق من نار يوم القيامة» رواه البزار والطبراني في الأوسط قال المنذري: ورواته ثقات. الحديث التاسع عشر عن جويرية رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لبس ثوب حرير في الدنيا ألبسه الله عز وجل يومًا أو ثوبًا من النار يوم القيامة»، رواه الإمام أحمد والطبراني، وفي رواية: «من لبس ثوب حرير في الدنيا ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة من النار أو ثوبًا من النار»، ورواه البزار عن حذيفة رضي الله عنه موقوفًا: «من لبس ثوب حرير ألبسه الله يومًا من نار ليس من أيامكم ولكن من أيام الله الطوال». الحديث العشرون عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله عز وجل: من ترك الخمر وهو يقدر عليه لأسقينه منه في حظيرة القدس ومن ترك الحرير وهو يقدر عليه لأكسونه إياه في حظيرة القدس» رواه البزار قال المنذري: وإسناده حسن. الحديث الحادي والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سره أن يسقيه الله الخمر في الآخرة فليتركها في الدنيا ومن سره أن يكسوه الله الحرير في الآخرة فليتركه في الدنيا» رواه الطبراني في الأوسط قال المنذري: ورواته ثقات إلا شيخه المقدام بن داود وقد وثق. الحديث الثاني والعشرون عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: إذا كان المغنم دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرمًا وأطاع الرجل زوجته وعق أمه وبر صديقه وجفا أباه وارتفعت الأصوات في المساجد وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وشربت الخمور ولبس الحرير واتخذت القيان والمعازف ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء أو خسفًا أو مسخًا» رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. الحديث الثالث والعشرون عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من اقتراب الساعة اثنتان وسبعون خصلة» فذكرها ومنها أن يكون الحرير لباسًا وقال في آخره: «فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وخسفًا ومسخًا وقذفًا وآيات» رواه أبو نعيم في الحلية. الحديث الرابع والعشرون: عن عروة بن رويم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا عملت أمتي خمسًا فعليهم الدمار إذا ظهر فيهم التلاعن وشربوا الخمور ولبسوا الحرير واتخذوا القينات واكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء»، رواه البيهقي وأبو نعيم في الحلية. الحديث الخامس والعشرون: عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يبيت قوم من هذه الأمة على طعام وشراب ولهو فيصبحون قد مسخوا خنازير وليخسفن بقبائل فيها وبدور فيها حتى يصبحوا فيقولوا خسف الليلة ببني فلان خسف الليل بدار بني فلان وأرسلت عليهم حصباء حجارة كما أرسلت على قوم لوط وأرسلت عليهم الريح العقيم

فتنسفهم كما نسفت من كان قبلهم بشربهم الخمر وأكلهم الربا ولبسهم الحرير واتخاذهم القينات وقطيعتهم الرحم»، رواه أبو داود الطيالسي والحاكم في مستدركه وأبو نعيم في الحلية وصححه الحاكم ووافقه الذهبي في تلخيصه. الحديث السادس والعشرون: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يكون في أمتي خسف ومسخ وقذف» قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله وهم يقولون: لا إله إلا الله فقال: «إذا ظهرت القينات وظهر الزنا وشربت الخمر ولبس الحرير كان ذا عند ذا»، رواه ابن أبي الدنيا. الحديث السابع والعشرون: عن علي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «تمسخ طائفة من أمتي قردة وطائفة خنازير ويخسف بطائفة ويرسل على طائفة الريح العقيم بأنهم شربوا الخمر ولبسوا الحرير واتخذوا القيان وضربوا بالدفوف» رواه ابن أبي الدنيا. الحديث الثامن والعشرون: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يكون في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف في متخذي القيان وشاربي الخمر ولابسي الحرير» رواه الطبراني. الحديث التاسع والعشرون: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده ليبيتن أناس من أمتي على أشر وبطر ولعب ولهو فيصبحوا قردة وخنازير باستحلالهم المحارم واتخاذهم القينات وشربهم الخمر وبأكلهم الربا ولبسهم الحرير»، رواه عبد الله ابن الإمام أحمد.

ذكر الإجماع على تحريم الحرير على الرجال والتصريح بتكفير من استحله منهم

الحديث الثلاثون: عن صالح بن دريك رفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ليستحلن ناس من أمتي الحرير والخمر والمعازف وليأتين الله على أهل حاضر منهم عظيم بجبل حتى ينبذه عليهم ويمسخ آخرون قردة وخنازير» رواه ابن أبي الدنيا. الحديث الحادي والثلاثون: عن الحسن مرسلاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عشر خصال عملها قوم لوط بها أهلكوا وتزيدها أمتي بخلة» فذكر الخصال ومنها لباس الحرير رواه ابن عساكر في تاريخه. وقد كمل بهذا العدد مع ما تقدم أربعة وخمسون حديثًا في منع الذكور من لبس الحرير وسواء في ذلك الكبير منهم والصغير لعموم المنع. وقد حكى الإجماع على تحريم الحرير على الرجال وإباحته للنساء غير واحد من العلماء منهم ابن عبد البر والقاضي عياض والحافظ الذهبي وصرح بتكفير من استحله من الرجال. قال الشيخ أبو محمد المقدسي في المغني: القسم الثاني ما يختص تحريمه بالرجال دون النساء وهو الحرير والمنسوج بالذهب والمموه به فهو حرام لبسه وافتراشه في الصلاة وغيرها ولا نعلم في لبس ذلك على الرجال اختلافًا إلا لعارض أو عذر قال ابن عبد البر هذا إجماع انتهى. وقال القاضي عياض انعقد الإجماع بعد ابن الزبير ومن وافقه على

لا يحوز أن يلبس الصبي الحرير والرد على من زعم الجواز

تحريم الحرير على الرجال وإباحته للنساء، ذكر ذلك في الكلام على قول ابن الزبير رضي الله عنهما: ألا لا تلبسوا نساءكم الحرير فإني سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» رواه مسلم وغيره. وقال الحافظ الذهبي: من استحل لبس الحرير من الرجال فهو كافر وإنما رخص فيه الشارع لمن به حكة أو جرب أو غيره وللمقاتلين عند لقاء العدو. وأما لبس الحرير للزينة في حق الرجال فحرام بإجماع المسلمين انتهى. وقد زعم بعض العلماء: أنه يجوز إلباس الصبيان الحلي والحرير قال بعضهم في يوم العيد، وقال بعضهم مطلقًا وعللوا ذلك بأنه لا تكليف عليهم، وأنهم محل الزينة، وهذا قول باطل مردود بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها»، وهذا يعم الكبير والصغير وقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين عموم المنع لكبار الذكور وصغارهم كما في سنن أبي داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا ننزعه عن الغلمان ونتركه على الجواري. وروى الأثرم عن حذيفة وابن مسعود رضي الله عنهما نحوه. ولما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ابن الزبير رضي الله عنهما ثوبًا من حرير مزقه عليه فقال الزبير أفزعت الصبي فقال: لا تكسوهم الحرير. وروى البخاري في التاريخ الكبير عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه دخل على عمر رضي الله عنه

ومعه بني له عليه قميص حرير فعمد إلى القميص فشقه وقال: اذهب به إلى أمك. وأما تعليل المجيزين له بأنه لا تكليف على الصبيان وأنهم محل للزينة فإنه تعليل ضعيف بل ساقط لمخالفته لعموم أحاديث المنع. قال الشيخ أبو محمد المقدسي في المغني ويتعلق التحريم بتمكينهم من المحرمات كتمكينهم من شرب الخمر وأكل الربا وغيرهما. وكونهم محل الزينة مع تحريم الاستمتاع بهم يقتضي التحريم لا الإباحة بخلاف النساء انتهى. وقوله: يتعلق التحريم بتمكينهم من المحرمات معناه أنه يحرم على وليهم أن يمكنهم منها. وإذا مكنهم فالإثم عليه لا عليهم لأنهم غير مكلفين. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الهدي أصح القولين أنه يحرم على الولي أن يلبسه الصبي لما ينشأ عليه من صفات أهل التأنيث. وقال أيضًا في تحفة الودود بأحكام المولود. ويجنبه -أي يجنب الولي الصبي- لبس الحرير فإنه مضعف له مخبب للطبيعة كما يجنب اللواط وشرب الخمر والسرقة والكذب وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حرم الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم». والصبي وإن لم يكن مكلفًا فوليه مكلف لا يحل له تمكينه من المحرم فإنه يعتاده ويعسر فطامه عنه وهذا أصح قولي العلماء. واحتج من لم يره حرامًا عليه بأنه غير مكلف فلم يحرم لبسه للحرير كالدابة وهذا من أفسد القياس فإن الصبي وإن لم يكن مكلفًا فإنه مستعد للتكليف ولهذا

لا يمكن من الصلاة بغير وضوء ولا من الصلاة عريانا ولا نجسًا ولا من شرب الخمر واللواط والقمار انتهى. ويستثنى من المنع في حق الكبار والصغار العلم في الثوب إذا لم يزد على أربع أصابع لما تقدم في حديث عمر رضي الله عنه ومثل ذلك لبنة الجيب وسجف الفراء ونحوها إذا كان ذلك بقدر أربعة أصابع فأقل، لحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها أخرجت جبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج رواه مسلم وأهل السنن إلا الترمذي. فأما المنسوج من الحرير وغيره كثوب منسوج من قطن وحرير أو من وبر وحرير أو من صوف وحرير. فقد قال كثير من العلماء: إن الحكم للأغلب منهما. فبعضهم يعتبر ذلك بالوزن فإن كان الحرير أقل وزنا لم يحرم عندهم وإن كان أكثر حرم. وبعضهم يعتبر القلة والكثرة بالظهور فإن كان الحرير أكثر ظهورًا حرم وإن كان أقل لم يحرم. وهذه الاعتبارات لا دليل على شيء منها وما لم يكن عليه دليل فليس عليه تعويل ويردها حديث النهي عن الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع. ومعلوم أن هذه القدر لا يبلغ عشر الثوب لا وزنا ولا ظهورًا. ومن أباح أكثر من أربع أصابع فقد أباح ما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ويردها أيضًا حديث النهي عن القسي، وقد تقدم قول علي رضي الله عنه أنها ثياب مضلعة فيها حرير أمثال الأترنج فدل على أنها ليست بحرير

صرف. وما فيها من الحرير يحتمل أنه أكثر مما معه من الخلط ويحتمل أنه أقل ومع ذلك فقد نهى عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير أن يأمر فيها باعتبار وزن ولا ظهور. فدل على أنه لا اعتبار بشيء من ذلك؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع، ويردها أيضا حديث النهي عن السيراء وقد تقدم في حديث أنس رضي الله عنه أن السيراء هي المضلعة بالقز، يعني: أنها ليست بحرير صرف والقول فيها كالقول في القسي سواء. ويردها أيضًا أحاديث النهي عن الخز، وقد تقدم في أحد الأقوال أنه حرير مخلوط بغيره وليس في أحاديث النهي عنه أمر باعتبار وزن ولا ظهور فدل على أنه لا اعتبار بشيء من ذلك ومن اعتبر شيئًا لم يؤمر باعتباره فقد تكلف والله أعلم. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: استدل بالنهي عن لبس القسي على منع لبس ما خالطه الحرير من الثياب لتفسير القسي بأنه ما خالط غير الحرير فيه الحرير ويؤيده عطف الحرير على القسي في حديث البراء ووقع كذلك في حديث علي عند أبي داود والنسائي وأحمد بسند صحيح على شرط الشيخين من طريق عبيدة بن عمرو عن علي رضي الله عنه قال: «نهاني النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القسي والحرير»، ويحتمل أن تكون المغايرة باعتبار النوع فيكون الكل من الحرير كما وقع عطف الديباج على الحرير في حديث حذيفة الماضي قريبًا ولكن الذي يظهر من سياق طرق الحديث في تفسير القسي أنه الذي يخالط الحرير لا أنه الحرير الصرف فعلى هذا يحرم لبس الثوب الذي خالطه الحرير، وهو قول بعض الصحابة كابن عمر والتابعين كابن سيرين.

وذهب الجمهور إلى جواز لبس ما خالطه الحرير إذا كان غير الحرير الأغلب وعمدتهم في ذلك ما تقدم في تفسير الحلة السيراء وما انضاف إلى ذلك من الرخصة في العلم في الثوب إذا كان من حرير كما تقدم تقريره في حديث عمر رضي الله عنه. قال ابن دقيق العيد: وهو قياس في معنى الأصل لكن لا يلزم من جواز ذلك جواز كل مختلط وإنما يجوز منه ما كان مجموع الحرير فيه قدر أربع أصابع لو كانت منفردة بالنسبة لجميع الثوب فيكون المنع من لبس الحرير شاملاً للخالص والمختلط وبعد الاستثناء يقتصر على القدر المستثنى وهو أربع أصابع إذا كانت منفردة ويلتحق بها في المعنى ما إذا كانت مختلطة انتهى. وهذا الذي قرره ابن دقيق العيد هو الصواب وعليه يدل ظاهر الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تحريم الحرير سوى أربع أصابع، والله أعلم. فإن قيل: قد روى الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب الحرير المصمت فأما الثوب الذي سداه حرير ليس بحرير مصمت فلا نرى به بأسًا. فالجواب أن هذا الحديث قد عارضه ما هو أقوى منه من حيث الأصل والشواهد وهو الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجه عن علي رضي الله عنه أنه أهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلة مكفوفة بحرير إما سداها وإما لحمتها فأرسل بها إليّ فأتيته فقلت: يا رسول الله! ما أصنع

بها ألبسها؟ قال: «لا ولكن اجعلها خمرًا بين الفواطم»، هذا لفظ ابن ماجه وإسناده حسن. وفي رواية ابن أبي شيبة أهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلة مسيرة بحرير إما سداها أو لحمتها فأرسل بها إلي فقلت: ما أصنع بها ألبسها؟ قال: «لا أرضى لك إلا ما أرضى لنفسي ولكن اجعلها خمرًا بين الفواطم». وفي رواية الإمام أحمد أهديت له حلة من حرير فكسانيها قال علي رضي الله عنه: فخرجت فيها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لست أرضى لك ما أكره لنفسي قال: فأمرني فشققتها بين نسائي خمرًا». وأصل هذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث زيد بن وهب عن علي رضي الله عنه قال: كساني النبي - صلى الله عليه وسلم - حلة سيراء فخرجت فيها فرأيت الغضب في وجهه فشققتها بين نسائي. وأخرجه مسلم أيضًا من حديث أبي صالح الحنفي عن علي رضي الله عنه وزاد فقال: «إني لم أبعث بها إليك لتلبسها إنما بعثت بها إليك لتشققها خمرًا بين النساء». فهذا الحديث الصحيح يرد حديث ابن عباس رضي الله عنهما من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عليًا رضي الله عنه عن لبس الحلة المسيرة بالحرير المخلوط بغيره، فهذا يرد قول ابن عباس رضي الله عنهما أنه إنما نهى عن الحرير المصمت. ويرد أيضًا قوله: أن ما سدي بالحرير فلا بأس به. الثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - صرح بكراهته لنفسه ولغيره لبس الثوب المسير بخلط من حرير في سداه أو في لحمته ففيه إشارة إلى أن الثوب الذي

سداه كله حرير أو لحمته كلها حرير أولى بالكراهة والنهي. وفي النص على الكراهة رد على من قال: إنه لا بأس به. الثالث في غضبه - صلى الله عليه وسلم - على علي رضي الله عنه لما لبس الحلة المسيرة دليل على تحريم ذلك على الرجال والله أعلم. وفي رواية الإمام أحمد رحمه الله تعالى فائدة حسنة وهي إطلاق الوصف على الثوب بما فيه من خلط رفيع وإن كان أقل مما معه. وفي هذا الحديث وحديث النهي عن القسي رد على ابن العربي المالكي في قوله: إن النهي عن الحرير حقيقة في الخالص. ويرد حديث ابن عباس رضي الله عنهما أيضا بالحديث المتفق على صحته عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نهى عن الحرير إلا هكذا إصبعين». وفي رواية لمسلم: «إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع» فظاهر هذا الحديث النهي عن لبس الحرير مطلقًا سواء كان مصمتا أو سدى أو لحمة إلا ما استثني من قدر أربع أصابع فما دون. ويرد حديث ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها»، فإن ظاهره يقتضي تحريم الحرير على الذكور سواء كان مصمتا أو سدى أو لحمة سوى ما استثني من العلم ونحوه. ويرد حديث ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا بأحاديث النهي عن الخز فإن الأصح فيه كما قال الحافظ ابن حجر: أنه حرير مخلوط بغيره.

ذكر العلة في تحريم الحرير على الرجال

وظواهر الحديث التي تقدمت في النهي عن الحرير والتغليظ فيه تؤيد حديث علي رضي الله عنه، وتؤيد حديث ابن عباس رضي الله عنهما، إذ لم يفرق فيها بين مصمت ومخلوط ولو كان بينهما فرق مؤثر لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - ما بين الرخصة في العلم إذا لم يزد على أربع أصابع، والله أعلم. وقد اختلف في علة تحريم الحرير على الرجال على أقوال: أحدها: أنها التجبر والتكبر والفخر والخيلاء وقد روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما ففي مسند الإمام أحمد عن شعبة بن دينار مولى ابن عباس رضي الله عنهما أن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما دخل على ابن عباس يعوده من وجع عليه برد استبرق فقال: يا أبا عباس ما هذا الثوب؟ قال: وما هو؟ قال: الاستبرق. قال: والله ما علمت به وما أظن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هذا حين نهى عنه إلا للتجبر والتكبر ولسنا بحمد الله كذلك فلما خرج المسور قال: انزعوا هذا الثوب عني، وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده بنحوه. الثاني: أن العلة السرف. الثالث: أنها كسر قلوب الفقراء. الرابع: أن العلة التشبه بالنساء لكون الحرير من ملابسهن الخاصة بهن. وأيضا فإنه ثوب رفاهية وزينة ولبسه يورث الأنوثة والتخنث ضد الشهامة والرجولة فيليق ذلك بالنساء دون الرجال. قال ابن القيم رحمه الله تعالى لبس الحرير يكسب القلب صفة من صفات الإناث ولهذا لا تكاد تجد من يلبسه في الأكثر إلا ويظهر على شمائله من التخنث والتأنث والرخاوة ما لا يخفى حتى لو كان من أشهم

افتراش الحرير محرم كلبسه

الناس وأكبرهم فحولية ورجولية فلا بد أن ينقصه لبس الحرير منها، وإن لم يذهبها مرة، ومن غلظت طباعه وكثفت عن فهم هذا فليسلم للشارع الحكيم. انتهى. وهذا القول أقوى مما قبله وأقوى منه القول الخامس: وهو أن العلة التشبه بالكفار والدليل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» وقوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي: «ألا أرى عليك ثياب من لا يعقل»؟ يعني: ثياب الكفار الذين لا يعقلون. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما يلبس الحرير من لا خلاق له»، وقد تقدمت هذه الأحاديث قريبًا. وقد ورد التعليل بهذه العلة في لبس الثياب المعصفرة كما في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليَّ ثوبين معصفرين فقال: «إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم والنسائي. إذا تقرر هذا فليعلم أن افتراش الحرير والديباج محرم كلبسه نص على ذلك الإمام أحمد رحمه الله تعالى ومثل ذلك الاتكاء عليه والاستناد إليه؛ لأن ذلك من فعل الجبابرة والمترفين ولا يجوز التشبه بهم. قال المروذي قال أبو عبد الله: افتراش الديباج كلبسه قال: وكره افتراش الحرير. وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه. باب افتراش الحرير، وقال عبيدة: هو كلبسه. وعبيدة هذا بفتح العين هو ابن عمر السلماني قال الحافظ ابن حجر وصله الحارث بن أبي أسامة من طريق محمد ابن سيرين قال: قلت لعبيدة افتراش الحرير كلبسه؟ قال: نعم ثم ساق البخاري رحمه الله تعالى في الباب حديث حذيفة رضي الله عنه قال: «نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها وعن

لا يجوز للنساء أن يتخذن السفر والمطارح والمخاد من الحرير

لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه»، ورواه الدارقطني في سننه بنحوه. وروى الإمام أحمد أن أبا أمامة رضي الله عنه دخل على خالد بن يزيد فألقى له وسادة فظن أنها حرير فتنحى وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يستمتع بالحرير من يرجو أيام الله». قال أبو البركات ابن تيمية رحمه الله تعالى فهم أبو أمامة رضي الله عنه دخول الافتراش في عمومه. اهـ. وروى ابن وهب في جامعه عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: «لأن أقعد على جمر الغضا أحب إليَّ من أن أقعد على مجلس من حرير»، ورواه الحاكم في مستدركه بنحوه. وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى عن الحنفية أنهم قالوا في تعليل المنع من لباس الحرير في حجة أبي يوسف ومحمد على أبي حنيفة في المنع من افتراشه وتعليقه والتسر به؛ لأنه من زي الأكاسرة والجبابرة والتشبه بهم حرام قال عمر رضي الله عنه: إياكم وزي الأعاجم انتهى. وقد سئل ابن عقيل رحمه الله تعالى هل يجوز أن يتخذ النساء السفر والمطارح والمخاد وغير ذلك حريرًا فقال: لا بل ملابس فقط. نقله عن ابن القيم رحمه الله تعالى في بدائع الفوائد وأقره. وذكر الحافظ ابن رجب عنه أنه ذكر في الفنون أن النساء لا يجوز لهن استعمال الحرير إلا في اللبس دون الافتراش والاستناد.

النوع الثامن عشر تحلي الرجال بساعات الذهب والفضة وتحلي الرجال والنساء بساعات الحديد

قلت: ووجه ذلك أن النساء إنما أبيح لهن لبس الحرير لحاجتهن إلى التزين للأزواج وليس كذلك افتراش الحرير والاستناد إليه؛ لأنه ليس من التزين الذي أبيح لهن فيبقى على المنع. ومثل ذلك استعمال الذهب والفضة فإنه يجوز للنساء أن يتحلين بهما لحاجتهن للتزين للأزواج ولا يجوز لهن اتخاذ الأواني منهما ولا الأكل والشرب فيهما؛ لأن ذلك ليس من التزين الذي أبيح لهن والله أعلم. فصل النوع الثامن عشر: من التشبه بأعداء الله تعالى تحلي الرجال بساعات الذهب والفضة وتحلي الرجال والنساء بساعات الحديد. والدليل على ذلك ما رواه البخاري في كتاب اللباس من صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الذهب والفضة والحرير والديباج هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة». وما رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا ابن ماجه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه خاتم من شبه فقال: «مالي أجد منك ريح الأصنام؟»، فطرحه ثم جاء وعليه ختم من حديد. فقال: «مالي أرى عليك حلية أهل النار؟»، فطرحه فقال: يا رسول الله! من أي شيء أتخذه؟ قال: «اتخذه من ورق ولا تتمه مثقالاً»، هذا لفظ أبي داود. وفي رواية الترمذي ثم جاءه وعليه خاتم من صفر بدل قوله من شبه

وزاد ثم أتاه وعليه خاتم من ذهب فقال: «مالي أرى عليك حلية أهل الجنة». قال الترمذي: هذا حديث غريب. وصححه ابن حبان واحتج به الإمام أحمد رحمه الله تعالى فيما رواه الأثرم عنه كما سيأتي قريبًا. فدل على صحته عنده، وله شواهد يأتي ذكرها قريبًا إن شاء الله تعالى. قال الخطابي رحمه الله تعالى إنما قال في خاتم الشبه أجد منك ريح الأصنام؛ لأن الأصنام كانت تتخذ من الشبه. قال: ويقال معنى حلية أهل النار أنه زي بعض الكفار وهم أهل النار. قلت: الذي يفيد ظاهر الحديث أن الحديد حلية الكفار في نار جهنم ويؤيد ذلك قوله في خاتم الذهب: إنه حلية أهل الجنة، ففيه الأخبار عن حلية كل من الفريقين في الدار الآخرة والله أعلم. وفي هذا الحديث دليل على المنع من التحلي بساعات الشبه والحديد؛ لأنه إذا منع من التختم بهما فلأن يمنع من التحلي بالساعات المتخذة منها بطريق الأولى والأحرى. وإذا تحلى الرجل بشيء من الساعات المتخذة منهما فقد جمع بين التشبه بالنساء والتشبه بأهل النار، ولا يجوز التشبه بأهل النار ولا بالنساء وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تتمه مثقالاً» دليل على أنه لا يجوز للرجل أن يتحلى من الفضة بزنة مثقال فما فوقه. فأما ما دون ذلك فيجوز في الخاتم ولا يجوز فيما يلبس في الذراع لما في ذلك من التشبه بالنساء. وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده: حدثنا يحيى بن

سعيد عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى على بعض أصحابه خاتمًا من ذهب فأعرض عنه فألقاه واتخذ خاتمًا من حديد فقال: «هذا شر هذا حلية أهل النار»، فألقاه فاتخذ خاتمًا من ورق فسكت عنه. إسناده جيد وقد حسن الترمذي حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده في بعض المواضع من جامعه وصححه في بعضها. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وأحسن كل الإحسان في ذلك أي في تصحيح حديثه. قلت: وصحح حديثه أيضًا الحاكم في مستدركه ووافقه الذهبي على ذلك في تلخيصه. وروى الحاكم في مستدركه عن إسحاق بن راهويه أنه قال: إذا كان الراوي عن عمرو بن شعيب ثقة فهو كأيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما. وروي أيضا عن الإمام أحمد أنه قال: قد صح سماع عمرو بن شعيب عن أبيه شعيب وصح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وذكر الدارقطني في سننه عن شيخه أبي بكر النيسابوري مثل ذلك. وقال الترمذي في جامعه: قال محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- رأيت أحمد وإسحاق وذكر غيرهما يحتجون بحديث عمرو بن شعيب قال محمد وقد سمع شعيب بن محمد من عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وقال الدارقطني في سننه حدثنا محمد بن الحسن النقاش أخبرنا

احتجاج أكابر أئمة الجرح والتعديل بحديث عمرو بن شعيب

أحمد بن تميم قال: قلت لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري شعيب والد عمرو بن شعيب سمع من عبد الله بن عمرو؟ قال: نعم قلت له: فعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يتكلم الناس فيه قال: رأيت علي بن المديني وأحمد بن حنبل والحميدي وإسحاق بن راهويه يحتجون به قال: قلت فمن يتكلم فيه يقول ماذا؟ قال يقولون: إن عمرو بن شعيب أكثر أو نحو هذا. قلت وهذا ليس بقادح لأن عمرو بن شعيب ثقة فلا يضره إكثاره. وذكر صاحب التهذيب عن البخاري أنه قال: رأيت أحمد وعلي بن المديني وإسحاق بن راهويه وأبا عبيد وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ما تركه أحد من المسلمين قال البخاري من الناس بعدهم؟ قلت: وقد احتج الإمام أحمد في رواية الأثرم بحديث عمرو بن شعيب الذي تقدم ذكره آنفا وأومأ إليه في رواية مهنا كما سيأتي فدل على ثبوته عنده. وقد رواه البخاري في الأدب المفرد بإسناد جيد فقال حدثنا إسماعيل -يعني ابن أبي أويس-قال حدثني سليمان -يعني: ابن بلال- عن ابن عجلان فذكره بنحو رواية الإمام أحمد. ورواه الإمام أحمد أيضًا من وجه آخر فقال حدثنا سريج -يعني ابن النعمان- حدثنا عبد الله بن المؤمل عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما أنه لبس خاتمًا من ذهب فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنه كرهه فطرحه ثم لبس خاتما من حديد فقال: «هذا

أخبث وأخبث» فطرحه ثم لبس خاتما من ورق فسكت عنه. إسناده صحيح. ابن أبي مليكة من رجال الصحيحين وسريج من رجال البخاري. وأما عبد الله بن المؤمل فقد اختلف الأئمة فيه وقد ذكر المنذري عن ابن معين أنه وثقه في ورايتين وضعفه في رواية وقال: ابن سعد ثقة وصحح له ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما. قلت: وعلى هذا فحديثه صحيح على شرط ابن خزيمة وابن حبان. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: حدثنا عفان حدثنا حماد أنبأنا عمار بن أبي عمار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى في يد رجل خاتما من ذهب فقال: «ألق ذا» فألقاه فتختم بخاتم من حديد فقال: «ذا شر منه» فتختم بخاتم من فضة فسكت عنه. رجاله كلهم ثقات إلا أن عمار بن أبي عمار لم يدرك عمر رضي الله عنه ففيه انقطاع ولكن له شاهد مما تقدم عن بريدة وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم. وروى البيهقي في «شعب الإيمان» عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن خاتم الذهب وعن خاتم الحديد». ورواه الطبراني في الأوسط قال الهيثمي: ورجاله ثقات. وقال البخاري في التاريخ الكبير حدثنا يحيى بن إسماعيل قال: حدثنا يحيى بن صالح قال حدثنا محمد بن مهاجر عن كيسان مولى معاوية قال: خطب معاوية الناس فقال: يا أيها الناس إن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن تسع -وأنا أنهى عنهن- النوح والشعر والتبرج والتصاوير وجلود السباع والغناء

والذهب والحرير والحديد» إسناده جيد وقد حسنه السيوطي في الجامع الصغير. وروى البخاري أيضًا في التاريخ الكبير والبزار والطبراني عن مسلم ابن عبد الرحمن رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاءه رجل وعليه خاتم من حديد فقال: «ما طهر الله كفا فيها خاتم من حديد» حسنه السيوطي في الجامع الصغير وقال الهيثمي فيه شميسة بنت نبهان لم أعرفها وبقية رجاله ثقات. قلت: وفيه عباد بن كثير الرملي ضعفه ابن معين وأبو حاتم وغيرهما وقال ابن المديني كان ثقة لا بأس به وذكر المنذري عن ابن عيينة أنه كان ينهى عن ذكره إلا بخير، قال: وقال أبو مطيع: كان عندنا ثقة أخرج من قبره بعد ثلاث سنين فلم يفقد منه إلا شعيرات. قلت: وأقل الأحوال في حديثه أن يكون من قبيل الحسن والله أعلم. وهذه الأحاديث تؤيد حديث بريدة رضي الله عنه وكما تدل بمنطوقها على المنع من لبس خاتم الحديد، فكذلك هي دالة بمفهوم الأولى على المنع من لبس ساعات الحديد لأنها أكبر من الخواتم. وعلة المنع كون الحديد حلية أهل النار وهم الكفار والمسلم منهي عن التشبه بأعداء الله تعالى. وللمنع في حق الرجال علة أخرى وهي التشبه بالنساء في لبسهن الأساور بل وفي تحليهن بالساعات في هذه الأزمان. ومن المعلوم أن الحلية من خصائص النساء كما قال الله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}. وقد أبيح للرجال من الحلية النزر اليسير من الفضة كالخاتم وقبيعة

السيف وحلية المنطقة ونحو ذلك مما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه رضي الله عنهم أنهم ترخصوا فيه وما سوى ذلك فهو باق على المنع لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» رواه الأمام أحمد ومسلم والبخاري تعليقا مجزوما به من حديث عائشة رضي الله عنها. ومن الممنوع منه تحلي الرجل في ذراعه بسوار أو ساعة أو غير ذلك من سائر أنواع الحلية لأن التحلي في هذا الموضع من خصائص النساء. فإن ادعى بعض المتشبهين بالنساء أنهم لا يقصدون الزينة بلبس الساعات في أيديهم وإنما يقصدون بها معرفة الوقت. قيل: هذه الدعوى لا تزيل عنهم وصف التشبه بالنساء إذ لا فرق بين وضع الساعة في ذراع الرجل ووضعها في ذراع المرأة ولا فرق أيضًا بين من يقصد بلبسها الزينة ومن يقصد بذلك معرفة الوقت لأن كلا منهما متشبه بالنساء فهما سواء في علة المنع. ومن كان مقصوده معرفة الوقت فله مندوحة عن التشبه بالنساء فيضع الساعة في جيبه ونحوه من المواضع المعدة لوضع الأشياء فيها والله الموفق. وقد جعل كثير من الناس دعوى معرفة الوقت حيلة لهم على استحلال التزين بالساعات والتشبه بالنساء والحيل لا تبيح المحرمات. وقد روى ابن بطة بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل». وقد زعم بعض الناس أن لبس الساعات المتخذة من الحديد ونحوه لا بأس به للذكور وعللوا ذلك بأن الحديد ليس بحلية وشبهتهم هذه

مردودة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي لبس خاتما من حديد: «مالي أرى عليك حلية أهل النار» وقوله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الآخر لما اتخذ خاتما من حديد: «هذا شر هذا حلية أهل النار». ففي هذين الحديثين النص على دخول ما لبس من الحديد في مسمَّى الحلية. فهو حلية أهل النار كما أن الذهب والفضة واللؤلؤ حلية أهل الجنة قال الله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا}. وقال تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ}. الأساور جمع أسورة واحدها سوار وهو ما يجعل في الأيدي من الحلي حكاه ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وغير واحد. وقال مرتضى الحسيني في تاج العروس هو ما تستعمله المرأة في يديها. قلت: وعلى هذا فالساعة داخلة في مسمَّى السوار إذا لبست في اليد. السوار ممنوع في حق الذكور من أي نوع كان من أنواع الحلية لما في لبسهم له من التشبه بالنساء والله أعلم. فإن قيل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للخاطب الذي لم يجد صداقًا: التمس ولو خاتما من حديد رواه مالك والشافعي وأحمد والشيخان وأهل السنن من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه فدل على جواز لبس خاتم الحديد فكذلك الساعة منه قياسًا على الخاتم. قيل قد أجاب عن هذا الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» فقال: لا حجة فيه لأنه لا يلزم من جواز الاتخاذ جواز اللبس فيحتمل أنه أراد وجوده لتنتفع المرأة بقيمته.

قلت: ويمكن الجمع بين ما في حديث سهل وما في حديث بريدة وما بعده من الأحاديث بأن يحمل المنع على ما كان حديدًا صرفًا. ويحمل الجواز على ما لويت عليه فضة فقد روى أبو داود والنسائي في سننيهما والبخاري في تاريخه عن إياس بن الحارث بن المعيقيب عن جده معيقيب رضي الله عنه قال كان خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديد ملويّ عليه فضة، قال: فربما كان في يدي قال: وكان المعيقيب على خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعلى هذا فيحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الخاطب بالتماس خاتم مما يجوز لبسه وهو ما لويت عليه فضة وسماه حديدًا اعتبارًا بأصله. ويحتمل أنه أمره بالتماس خاتم من حديد صرف لأن المرأة يمكنها لبسه بعد ما يلوى عليه ذهب أو فضة وبهذا تجتمع الأحاديث وينتفي عنها التعارض والله أعلم. ويحتمل أن يكون ما في حديث سهل وحديث معيقيب منسوخا بحديث بريدة وما بعده من الأحاديث الدالة على المنع من لبس الحديد بالكلية. وهذا الاحتمال أقوى مما قبله وقد أومأ إليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رواية أبي طالب فقال: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاتم من حديد عليه فضة فرمى به فلا يصلى في الحديد والصفر. قلت المعروف من ورع الإمام أحمد رحمه الله تعالى وشدة تثبته أنه لا يقول مثل هذا إلا عن أثر ثابت عنده. وعلى هذا فيكون طرح النبي - صلى الله عليه وسلم - لخاتم الحديد الذي عليه فضة

كطرحه لخاتم الذهب سواء فكل منهما يدل طرحه على المنع منه ونسخ ما تقدم من جواز لبسه. ويؤخذ منه المنع من لبس الحديد الصرف بطريق الأولى والأحرى. وقد يستدل لما ذكره الإمام أحمد رحمه الله تعالى بالحديث الذي رواه الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه رأى في يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتما من ورق يوما واحدا ثم إن الناس اصطنعوا الخواتيم من ورق ولبسوها فطرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمه فطرح الناس خواتيمهم رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي. وقد قيل: إن الزهري وهم في هذا الحديث من خاتم الذهب إلى خاتم الورق. وقال آخرون: لا وهم يفه وتأولوه. ومسلك التأويل في هذا أولى من مسلك التوهيم ولاسيما في حق الزهري وأمثاله من أكابر الأئمة المعروفين بمزيد الحفظ والإتقان. والأقرب في هذا أن يحمل ما رواه الزهري على ما ذكره الإمام أحمد في رواية أبي طالب أنه كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاتم من حديد عليه فضة فرمى به. وأخبار أنس رضي الله عنه عن الخاتم المطروح بأنه من ورق لا ينفي أن يكون باطنه حديدًا وتكون الفضة ملوية عليه كما في حديث معيقيب رضي الله عنه فلعل أنسًا رضي الله عنه سماه ورقا اعتبارا بظاهره والله أعلم. وقد قال ابن هانئ: سألت أبا عبد الله -يعني أحمد بن حنبل- عن خاتم الحديد فقال: لا نلبسه. وقال الإمام أحمد في رواية مهنا: أكره خاتم الحديد لأنه حلية أهل

النار. وسأله الأثرم عن خاتم الحديد ما ترى فيه؟ فذكر حديث عمرو بن شعيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: «هذه حلية أهل النار». وابن مسعود رضي الله عنه قال: لبسة أهل النار. وابن عمر رضي الله عنهما قال: «ما طهرت كف فيها خاتم من حديد» وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: في حديث بريدة رضي الله عنه لرجل للبس خاتما من صفر: «أجد منك ريح الأصنام» فما اتخذ يا رسول الله؟ قال: «فضة» انتهى كلام الإمام أحمد رحمه الله تعالى. ونص أيضا في رواية إسحاق وجماعة على كراهة خاتم حديد وصفر ونحاس ورصاص للرجل والمرأة فيحتمل أنه أراد كراهة التنزيه ويحتمل أنه أراد كراهة التحريم وهو أظهر لما تفيده التعاليل التي ذكرها في رواية مهنا والأثرم. ويستفاد ذلك أيضا من نصه في رواية أبي طالب على أنه لا يصلى في الحديد والصفر ولو كانت الكراهة فيهما للتنزيه لم يمنع من الصلاة فيهما والله أعلم. وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة أنه قال في «الجامع الصغير»: ولا يتختم إلا بالفضة. ثم ذكر الشيخ عن الحنفية أنهم قالوا هذا نص على أن التختم بالحجر والحديد والصفر حرام للحديث المأثور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى على رجل خاتم صفر فقال: «مالي أجد منك ريح الأصنام»؟. ورأى على رجل خاتم من حديد فقال: «مالي أرى عليك حلية أهل النار»؟. قال الشيخ: ومثل هذا كثير في مذهب أبي حنيفة وأصحابه انتهى.

والقول في ساعة الحديد والصفر والنحاس كالقول في الخاتم منها سواء. وهذا إنما هو في حق النساء فهي مكروهة في حقهن كراهة تحريم على الأظهر لما في الصفر والنحاس من ريح الأصنام ولما في التحلي بالحديد من التشبه بأهل النار، والمسلم منهي عن التشبه بأعداء الله تعالى. وقد ورد النهي عن التشبه بأهل النار كما في سنن ابن ماجه عن أبي ذر رضي الله عنه قال مر بي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا مضطجع على بطني فركضني برجله وقال: «يا جنيدب إنما هي ضجعة أهل النار» وفي سننه أيضا عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على رجل نائم في المسجد منبطح على وجهه فضربه برجله قال: «قم أو اقعد فإنها نومة جهنمية». وستفاد أيضا المنع من التشبه بأهل النار من قوله - صلى الله عليه وسلم - للرجل: «مالي أرى عليك حلية أهل النار»؟ ومن قوله أيضا في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «هذا شر هذا حلية أهل النار» فظاهر هذين الحديثين إنكار التختم بالحديد من أجل أنه حلية أهل النار ولا يجوز للمسلم أن يتشبه بهم والله أعلم. وأما الرجال فلا يجوز لهم لبس الساعات بالكلية لما في ذلك من التشبه بالنساء وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والبخاري وأهل السنن إلا النسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وروى الإمام أحمد أيضا وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي في تلخيصه وصححه أيضا النووي وغيره. وروى الإمام أحمد أيضا والطبراني وأبو نعيم في «الحلية» عن عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليس منا من تشبه بالرجال من النساء ولا من تشبه بالنساء من الرجال» قال الهيثمي: رجال الطبراني كلهم ثقات. قلت: وكذا رجال أبي نعيم وأما إسناد أحمد ففيه رجل مبهم وبقية رجاله ثقات. وإذا كانت الساعة من حديد ونحوه فللمنع منها في حق الرجال علتان التشبه بالنساء والتشبه بأهل النار وهذا مما يزيد المنع تأكيدًا والله أعلم. وقد رأينا المتحلين بالساعات من الرجال يضعونها في اليسار تقليدا للإفرنج وذلك أن أعداء الله تعالى يعظمون اليسار كما يعظم المسلمون اليمين فهم يأكلون باليسار ويشربون باليسار وكتابتهم وكتبهم منكوسة من جهة اليسار ولبسهم للساعات في اليسار وهم أول من لبسها وتحلى بها. وقد قلدهم كثير من جهال المسلمين في تعظيم اليسار بالأكل والشرب بها والتحلي فيها بالساعات وغير ذلك مما تبعوهم فيه وهؤلاء قد جمعوا بين التشبه بالنساء والتشبه بالأحياء من الكفار وبالأموات منهم وهم أهل النار فالله المستعان. وقد تقدم في أول الكتاب قول شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية

النوع التاسع عشر تصوير ذوات الأرواح

رحمه الله تعالى: إن الشريعة إذا نهت عن مشابهة الأعاجم دخل في ذلك ما عليه الأعاجم الكفار قديما وحديثا ودخل في ذلك ما عليه الأعاجم المسلمون مما لم يكن عليه السابقون الأولون. قلت ولبس الساعات في الأيدي هو مما أحدثه الأعاجم الكفار من الإفرنج وأشباههم من أعداء الله تعالى فلا يجوز للمسلم أن يتشبه بهم في لبس هذه الحلية لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» وللحديث الآخر: «ليس منا من تشبه بغيرنا» وقد تقدم ذكر هذين الحديثين في أول الكتاب وفي أثنائه مرارًا والله الموفق. فصل النوع التاسع عشر: من التشبه بأعداء الله تعالى تصوير ذوات الأرواح ونصب الصور في المجالس والدكاكين وغيرها. قد عظمت البلوى بهذه المشابهة الذميمة وفشت صناعة الصور وبيعها في جميع الأقطار الإسلامية وافتتن باقتنائها واقتناء الجرائد والمجلات والكتب التي فيها ذلك كثير من المنتسبين إلى العلم من معلمين ومتعلمين فضلا عن غيرهم وصار نصبها في المجالس والدكاكين عادة مألوفة عند كثير من الناس بل إنه قد اتخذ نصب صور الملوك والوزراء والكبراء رسميًّا في كثير من المجالس الرسمية فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وهذا المنكر الذميم أعني صناعة الصور ونصبها في المجالس وغيرها موروث عن قوم نوح ثم عن النصارى من بعدهم. وكذلك عن

النوع العشرون تشييد المساجد

مشركي العرب فإنهم كانوا يصنعون الصور وينصبونها ولكن كان عملها واتخاذها قليلاً عندهم بالنسبة إلى النصارى. وقد صور مشركو قريش في جوف الكعبة صورًا منها صورة إبراهيم وصورة إسماعيل وصورة مريم في حجرها عيسى فالمصورون من هذه الأمة والمتخذون للصور متشبهون بقوم نوح وبالنصارى وبمشركي العرب وبأمم الكفر في زماننا ومن تشبه بقوم فهو منهم. والكلام في ذم التصاوير وتحريم صناعتها واتخاذها مبسوط في كتابي «إعلان النكير على المفتونين بالتصوير» فليراجع هناك. فصل النوع العشرون: من التشبه بأعداء الله تعالى ما ابتلي به كثير من المسلمين قديما وحديثا من تشييد المساجد وزخرفتها والتباهي بها. وقد عاد تشييد الماضين وزخرفتهم ومباهاتهم كل شيء بالنسبة إلى تشييد أهل زماننا وزخرفتهم ومباهاة بعضهم بعضًا. وهذا من أشراط الساعة كما في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» رواه الإمام أحمد والدارمي وأهل السنن إلا الترمذي وصححه ابن حبان. ولفظ النسائي: «من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد» وقال البخاري في صحيحه: قال أنس رضي الله عنه: «يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلاً».

قال ابن حجر: هذا التعليق هذا التعليق رويناه موصولاً في مسند أبي يعلى وصحيح ابن خزيمة من طريق أبي قلابة أن أنسًا رضي الله عنه قال: سمعته يقول: «يأتي على أمتي زمان يتباهون بالمساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلاً» ثم قال: تنبيه. قوله: ثم لا يعمرونها المراد به عمارتها بالصلاة وذكر الله وليس المراد بنيانها انتهى. وروى الطبراني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «أن من أعلام الساعة وأشراطها أن تزخرف المحاريب وأن تخرب القلوب». وروى أبو نعيم في «الحلية» من حديث مكحول عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «للساعة أشراط» قيل: وما أشراطها؟ قال: «غلو أهل الفسق في المساجد وظهور أهل المنكر على أهل المعروف» قال أعرابي: فما تأمرني يا رسول الله قال: «دع وكن حلسًا من أحلاس بيتك» وقد ظهر مصداق هذه الأحاديث في زماننا ظهورًا جليًّا وهذا يدل على اقتراب الساعة. وقد وردت الأحاديث بالترغيب في الاقتصاد في بناء المساجد وذم تشييدها وزخرفتها وبيان أن التشييد والزخرفة من فعل اليهود والنصارى. قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه «باب بنيان المسجد» وقال أبو سعيد رضي الله عنه كان سقف المسجد من جريد النخل. وأمر عمر رضي الله عنه ببناء المسجد، وقال: «أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس». وقال أنس رضي الله عنه: يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلاً.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى. ثم ساق البخاري بإسناده عن نافع أن عبد الله يعني ابن عمر رضي الله عنهما أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر رضي الله عنه شيئا وزاد فيه عمر رضي الله عنه وبناه على بنيانه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باللبن والجريد وأعاد عمده خشبًا ثم غيره عثمان رضي الله عنه فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج. وقد روى هذه الحديث أبو داود في سننه قال والقصة الجص. وقال ابن حجر في الفتح: قال ابن بطال وغيره هذا يدل على أن السنة في بنيان المسجد القصد وترك الغلو في تحسينه فقد كان عمر رضي الله عنه مع كثرة الفتوح في أيامه وسعة المال عنده لم يغير المسجد عما كان عليه وإنما احتاج إلى تجديده لأن جريد النخل كان قد نخر في أيامه ثم كان عثمان والمال في زمانه أكثر فحسنه بما لا يقتضي الزخرفة ومع ذلك فقد أنكر بعض الصحابة عليه وأول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك ابن مروان وذلك في أواخر عصر الصحابة وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفا من الفتنة انتهى. وروى ابن أبي الدنيا والبيهقي من طريقه عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن قال: لما بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد أعانه عليه أصحابه فقال: «ابنو عريشًا كعريش موسى» فقلت للحسن: ما عريش موسى؟ قال: إذا رفع يديه بلغ العريش يعني السقف. وهذا مرسل.

وروى البيهقي أيضا من حديث حماد بن سلمة عن أبي سنان عن يعلى بن شداد بن أوس عن عبادة رضي الله عنه أن الأنصار جمعوا مالا فأتوا به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله ابن هذا المسجد وزينه إلى متى نصلي تحت هذا الجريد فقال: «ما بي رغبة عن أخي موسى، عريش كعريش موسى» قال الحافظ ابن كثير: هذا حديث غريب من هذا الوجه. قلت: وقد احتج به الإمام أحمد رحمه الله تعالى وما ذلك إلا لثبوته عنده قال في رواية المروذي: قد سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكحل المسجد قال: «لا عريش كعريش موسى» قال أبو عبد الله: إنما هو شيء مثل الكحل يطلى به أي فلم يرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه. انتهى كلام الإمام أحمد رحمه الله تعالى. وفي سنن أبي داود وصحيح ابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أمرت بتشييد المساجد» قال ابن عباس رضي الله عنهما: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى. وروى البخاري في صحيحه قول ابن عباس رضي الله عنهما تعليقا مجزومًا به وتقدم ذكره. قال الخطابي وغيره التشييد رفع البناء وتطويله. قلت: وفي قوله «ما أمرت بتشييد المساجد» نوع من التوبيخ والتأنيب لمن فعل ذلك من هذه الأمة. قال علي القاري ما معناه، أن تشييد المساجد وتزيينها بدعة لأنه لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه موافقة لأهل الكتاب انتهى. وقال الخطابي: قوله لتزخرفنها معناه لتزيننها وأصل الزخرف الذهب

يريد تمويه المساجد بالذهب ونحوه ومنه قولهم: زخرف الرجل كلامه إذا موهه وزينه بالباطل والمعنى أن اليهود والنصارى إنما زخرفوا المساجد عندما حرفوا وبدلوا وتركوا العمل بما في كتبهم يقول: فأنتم تصيرون إلى مثل حالهم إذا طلبتم الدنيا بالدين وتركتم الإخلاص في العمل وصار أمركم إلى المراءاة بالمساجد والمباهاة بتشييدها وتزيينها انتهى. وقوله: ونحوه يعني من كل ما تزين به المساجد من الأصباغ والنقوش فهو أعم من تمويهها بالذهب واللام في قوله: لتزخرفنها لام القسم والنون للتأكيد يعني أن التشبه باليهود والنصارى في زخرفة المساجد واقع في هذه الأمة ولابد. وقد استند ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: لتزخرفنها إلى آخره على ما رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أراكم ستشرفون مساجدكم بعدي كما شرفت اليهود كنائسها وكما شرفت النصارى بيعها» رواه ابن ماجه. وله أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم» قال ابن حجر رجاله ثقات إلا جبارة بن المغلس شيخه يعني: ابن ماجه ففيه مقال. قلت: وحديث ابن عباس رضي الله عنهما في إسناده جبارة بن المغلس، وفيه أيضًا ليث وهو ابن أبي سليم، وفيه مقال، وبقية رجاله ثقات. وذكر المروذي في كتاب «الورع» عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: «إذا حليتم مصاحفكم وزخرفتم مساجدكم فعليكم الدمار» وروى أبو نعيم في «الحلية» عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:» إذا زوقتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم». وذكر المروذي في كتاب "الورع" عن أبي فزارة عن مسلم البطين

قال: مر علي رضي الله عنه بمسجد التيم وهو مشرف فقال: هذه بيعة التيم؟ قلت: هذا إنكار من علي رضي الله عنه على الذين شرفوا مسجدهم وفي ضمن هذا الإنكار توبيخ لهم وتأنيب على التشبه بالنصارى في جعلهم المسجد مشرفًا كالبيعة. وقال سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذؤيب قال دخلت مع ابن عمر رضي الله عنهما مسجدًا بالجحفة فنظر إلى شرفات، فخرج إلى موضع فصلى فيه، ثم قال لصاحب المسجد: إني رأيت في مسجدك هذا يعني الشرفات شبهتها بأنصاب الجاهلية فمر بها أن تكسر. إسناده جيد. وإذا كان هذا قول علي وابن عمر رضي الله عنهما في تشريف المسجد فكيف لو رأيا ما يفعله كثير من الناس في زماننا من تضخيم بناء المساجد وتشريفها بالشرفات الكثيرة وزخرفتها بالأصباغ والألوان المختلفة وتبذير الأموال الكثيرة في ذلك فالله المستعان. قال المروذي أيضًا: ذكرت لأبي عبد الله -يعني الإمام أحمد بن حنبل- مسجدًا قد بني وأنفق عليه مال كثير فاسترجع وأنكر ما قلت. وقال المروذي أيضًا قلت لأبي عبد الله إن ابن أسلم الطوسي لا يجصص مسجده ولا بطوس مسجد مجصص إلا قلع جصه فقال أبو عبد الله هو من زينة الدنيا. قلت: وهذا يقتضي أنه لا ينبغي تجصيص المساجد فضلاً عن زخرفتها وتزيينها بالأصباغ والألوان المختلفة.

النوع الحادي والعشرون ترك الصلاة في النعال والخفاف بالكلية

وظاهر الرواية الأولى أنه لا يجوز تشييد المساجد وتضخيم بنائها لأن النفقة في ذلك من التبذير والسرف المذموم. والأصل في هذا ما تقدم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله وفعله. وما تقدم عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعن غيره من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فهؤلاء هم القدوة وفيهم الأسوة الحسنة. وأما التشييد والزخرفة فهما من أفعال اليهود والنصارى وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من رغب عن سنتي فليس مني» أخرجاه في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وصححه ابن حبان وغيره. فصل النوع الحادي والعشرون: من التشبه بأعداء الله تعالى ترك الصلاة في النعال والخفاف بالكلية لما رواه أبو داود والبيهقي في سننيهما والحاكم في مستدركه عن شداد بن أوس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم». ورواه الطبراني في معجمه الكبير ولفظه: «صلوا في نعالكم ولا تشبهوا باليهود» قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي هذا الحديث رد على الموسوسين الذين لا يصلون في النعال ولا في الخفاف ولا يدخلون المساجد فيها إما بالكلية كما في بعض

الأماكن وإما إلى موضع الصلاة كما في أماكن أخر، وهذا من الغلو والتعمق والرغبة عما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم فإنهم كانوا يدخلون المساجد في النعال والخفاف ويصلون فيها كما في الصحيحين عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد الأزدي قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في نعليه؟ قال: نعم ورواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والدارمي والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم. قال: وفي الباب عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن أبي حبيبة وعبد الله بن عمرو وعمرو بن حريث وشداد بن أوس وأوس الثقفي وأبي هريرة وعطاء رجل من بني شيبة. وفي الصحيحين أيضًا عن همام بن الحارث قال: رأيت جرير بن عبد الله رضي الله عنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه ثم قام فصلى فسئل فقال رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - صنع مثل هذا. هذا لفظ البخاري. وفي الصحيحين أيضًا عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: وضأت النبي - صلى الله عليه وسلم - فمسح على خفيه وصلى. هذا لفظ البخاري. وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا شعبة عن النعمان بن سالم عن ابن أوس وكان أوس -يعني ابن حذيفة الثقفي- جده قال: أشار إلي جدي أن أناوله نعليه وهو يصلي فناولته فلبسهما وهو يصلي فلما صلى قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في نعليه. إسناده صحيح على شرط مسلم وقد رواه ابن ماجه في سننه عن أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا غندر عن شعبة فذكره بنحوه.

وروى ابن ماجه أيضًا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لقد رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في النعلين والخفين. وقد رواه الإمام أحمد في مسنده وفيه قصة وهي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أتى أبا موسى الأشعري في منزله فحضرت الصلاة فقال أبو موسى: تقدم يا أبا عبد الرحمن فإنك أقدم سنًا وأعلم قال: لا بل تقدم أنت فإنما أتيناك في منزلك ومسجدك فأنت أحق قال فتقدم أبو موسى فخلع نعليه فلما سلم قال: ما أردت إلى خلعهما أبالوادي المقدس أنت لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في الخفين والنعلين. وفي المسند أيضًا وسنني أبي داود وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي حافيًا ومنتعلاً. في المسند أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قائمًا وقاعدًا وحافيًا ومنتعلاً. وروى أبو نعيم في «الحلية» من حديث مكحول عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي حافيًا ومنتعلاً وينصرف عن يمنه وعن شماله. وفي سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره فلما رأى النبي القوم ألقوا نعالهم فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: «ما حملكم على إلقائكم نعالكم»؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أن فيهما قذرًا -وقال-

إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما» ورواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والدارمي والحاكم بنحوه. وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى رزين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنعليه وفيهما قذر فأخبره جبريل فحذفهما وأتم صلاته. وفي مستدرك الحاكم عن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخلع نعليه في الصلاة قط إلا مرة واحدة خلع فخلع الناس فقال: «مالكم»؟ قالوا: خلعت فخلعنا فقال: «إن جبريل أخبرني أن فيهما قذرًا أو أذى» قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي سنن الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنهما. {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال: الصلاة في النعلين وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نعليه فخلعهما فخلع الناس فلما قضى الصلاة قال: «لم خلعتم نعالكم»؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا قال: «إن جبريل عليه السلام أتاني فقال إن فيهما دم حلمة». فهذا ما تيسر إيراده من الأحاديث الدالة على أن الصلاة في النعال والخفاف سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بها وفعلها هو وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين ولهذا لما قيل للإمام أحمد رحمه الله تعالى: أيصلي الرجل في نعليه؟ قال: إي والله، فأما الصلاة في الخفاف فلا يزال العمل بها باقيًا في كثير من البلاد الإسلامية حتى الآن.

وأما الصلاة في النعال فقد عفى أثرها في هذه الأزمان حتى صارت في بعض الأماكن من قبيل البدع ومنكرات الأفعال. وبعض المنتسبين إلى الإسلام ينكرون الصلاة في النعال والخفاف معًا. ولما ذكر بعض أهل السنة لبعض المنتسبين إلى العلم من أولئك ما هم عليه من البدع والمنكرات قال له: وأنتم تفعلون أمرا منكرًا وهو الصلاة في الخفاف. قلت: وهذا دليل على استحكام غربة الدين في زماننا حتى عاد المعروف عند الأكثرين منكرًا والمنكر معروفًا والسنة بدعة والبدعة سنة. ومن غلو الموسوسين وتعمقهم أنهم يمنعون غيرهم من دخول المساجد في النعال والخفاف وينكرون ذلك عليهم أشد الإنكار ولو رأوا أحدًا يدخل المساجد في نعليه أو خفيه لاستعظموا ذلك واشتد إنكارهم على فاعله وإنما يحملهم على هذا جهلهم بالسنة وما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين من التيسير وترك التعسير. وحجة الموسوسين على المنع من دخول المساجد بالنعال والخفاف أنها مظنة للتلوث بالنجاسة. وقد جاءت السنة بكشف هذه الشبهة كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والدارمي وأبو داود السجستاني والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي سنن أبي داود ومستدرك الحاكم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له

النوع الثاني والعشرون الأكل بالملاعق ونحوها من غير ضرورة

طهور». قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي في تلخيصه. وفي رواية لأبي داود: «إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب» وله أيضًا عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. فصل النوع الثاني والعشرون: من التشبه بأعداء الله تعالى استقذار الأكل بالأيدي واعتياد الأكل بالملاعق ونحوها من غير ضرر بالأيدي وكذلك الجلوس للطعام على الكراسي ونحوها مما يتكئ الجالس عليه ويتمكن في جلوسه. وكذلك ترتيب سماطات الطعام وأوانيه على الزي الإفرنجي وكل هذا مخالف لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أكمل الهدي على الإطلاق. فأما هديه - صلى الله عليه وسلم - في الأكل فقد كان يأكل بثلاث أصابع ويلعقها إذا فرغ. كما في المسند وصحيح مسلم وسنني أبي داود والدارمي عن كعب ابن مالك رضي الله عنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل بثلاث أصابع ويلعق يده قبل أن يمسحها»، وفي رواية لمسلم: «كان يأكل بثلاثة أصابع فإذا فرغ لعقها»، ورواه الدارمي أيضًا بنحوه. وفي المسند وصحيح مسلم وسنن أبي داود وجامع الترمذي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كان إذا أكل طعامًا لعق أصابعه الثلاث» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ورواه الدارمي في سننه ولفظه عن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه الثلاث» إسناده صحيح على شرط مسلم. وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلعق الأصابع والصحفة ورغب في ذلك كما في الصحيحين والمسند وسنن أبي داود وابن ماجه والدارمي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أكل أحدكم طعامًا فلا يمسح يده حتى يَلعقها أو يُلعقها». وفي رواية لأحمد: «إذا أكل أحدكم فلا يمسح يده بالمنديل حتى يلعقها أو يلعقها» ورواه أبو داود بنحوه. قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على المسند: هذا الحديث مما يتحدث فيه المترفون المتمدنون عبيد أوروبا في بلادنا يستنكرونه والمؤدب منهم من يزعم أنه حديث مكذوب لأنه لا يعجبه ولا يوافق مزاجه فهم يستقذرون الأكل بالأيدي وهي آلة الطعام التي خلقها الله وهي التي يثق الآكل بنظافتها وطهارتها إذا كان نظيفًا طاهرًا كنظافة المؤمنين. أما الآلات المصطنعة للطعام فهيهات أن يطمئن الآكل إلى نقائها إلا أن يتولى غسلها بيده فأيهما أنقى؟ ثم ماذا في أن يلعق أصابعه غيره إذا كان من أهله أو ممن يتصل به ويخالطه إذا وثق كل منهما من نظافة صاحبه وطهره ومن أنه ليس به مرض يخشى أو يستقذر انتهى كلامه. وفي المسند وصحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال: «إنكم لا تدرون في أي طعمكم البركة». وفي رواية لأحمد: «ولا يرفع الصحفة حتى يلعقها أو يلعقها فإن آخر الطعام فيه البركة». وفي رواية لمسلم: «إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة». وفي رواية له: «ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعقها أو يلعقها» وفي رواية له أخرى: «إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان فإذا فرغ فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة» وقد رواه الترمذي وابن ماجه بنحوه مختصرًا. وفي المسند وصحيح مسلم وسنن أبي داود وجامع الترمذي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان» وأمرنا أن نسلت القصعة قال: «فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقد رواه الدارمي في سننه مختصرا ولفظه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سقطت لقمة أحدكم فليمسح عنها التراب وليسم الله وليأكلها» إسناده صحيح على شرط مسلم.

وفي المسند وصحيح مسلم وجامع الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه لا يدري في أيتهن البركة». وفي رواية لمسلم: «وليسلت أحدكم الصحفة». وفي المسند وجامع الترمذي وسنني ابن ماجه والدارمي وتاريخ البخاري عن نبيشة الخير مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أكل في قصعة ثم لحسها استغفرت له القصعة» قال الترمذي: هذا حديث غريب. وفي سنن الدارمي عن الحسن قال: كان معقل بن يسار رضي الله عنه يتغدى فسقطت لقمته فأخذها فأماط ما بها من أذى ثم أكلها فجعل أولئك الدهاقين يتغامزون به فقالوا له: ما ترى ما يقول هؤلاء الأعاجم يقولون: انظروا إلى ما بين يديه من الطعام وإلى ما يصنع بهذه اللقمة فقال: إني لم أكن لأدع ما سمعت لقول هؤلاء الأعاجم: «إنا كنا نؤمر إذا سقطت من أحدنا لقمة أن يميط ما بها من الأذى وأن يأكلها» إسناده صحيح على شرط مسلم. وقد رواه ابن ماجه في سننه بنحوه وعنده قال: إني لم أكن لأدع ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذه الأعاجم «إنا كنا نأمر أحدنا إذا سقطت لقمته أن يأخذها فيميط ما كان فيها من أذى ويأكلها ولا يدعها للشيطان» إسناده صحيح على شرط مسلم. وقد اشتملت هذه الأحاديث على عدة فوائد وآداب من آداب الأكل:

الرد على من أجاز الأكل بالملاعق من غير ضرورة

الأولى: مشروعية الأكل باليد بخلاف ما عليه المتشبهون بالإفرنج وأضرابهم من الأكل بالملاعق واستقذار الأكل بالأيدي. وفعل أعداء الله وأشباههم أولى بالاستقذار من فعل المسلمين. وذلك أن أحدهم يدخل الملعقة أو بعضها في فيه ثم يخرجها وقد علق اللعاب بها فيغمسها في الطعام بما علق بها ثم يدخلها في فيه مرة أخرى وهكذا يفعل إلى أن يفرغ من أكله وأما الأصابع فإن الآكل بها لا يدخلها في فيه وإنما يدخل اللقمة فقط وتكون الأصابع من خارج فيه فلا يعلق بها اللعاب كما يعلق بالمعلقة. والقول في أكل اللحم بالأشواك التي أحدثها أهل المدينة من الإفرنج ومن يتشبه بهم كالقول في الأكل بالملاعق سواء فكلاهما أولى بالاستقذار من الأكل بالأيدي. والأكل بهما خلاف هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو الغاية في النظافة والنزاهة والبعد عما يكره ويستقذر. وقد أجاز بعض الفقهاء الأكل بالملاعق وبعضهم كره ذلك قال الآمدي السنة أن يأكل بيده ولا يأكل بملعقة ولا غيرها ومن أكل بملعقة وغيرها أخل بالمستحب وجاز. وقال الحجاوي في الإقناع: ولا بأس أن يأكل بمعلقة قال البهوتي في شرحه ربما يؤخذ من قول الإمام أكره كل محدث كراهيتها. قلت: والصحيح أن الأكل بالملاعق مكروه لأنه من فعل الجبابرة والمترفين ومن فعل طوائف الإفرنج وأشباههم من الكفرة. فأما إن كان في اليد ضرر يمنع من الأكل بها أو كان الطعام لينا جدا بحيث لا تمسكه اليد فلا كراهة في الأكل بالملعقة حينئذ والله أعلم.

الثانية: استحباب الأكل بثلاث أصابع قال النووي: ولا يضم إليها الرابعة والخامسة إلا لعذر بأن يكون مرقا وغيره مما لا يمكن بثلاث وغيره ذلك من الأعذار انتهى. الثالثة: استحباب لعق الأصابع والصحفة بعد الطعام ليحصل للآكل ما في الطعام من البركة. ولعق الصحفة ولحسها هو سلتها بالإصبع ولعق ما يعلق بالإصبع منها كما هو معروف ومعمول به عن المتمسكين بالسنة. قال الخطابي: سلت الصحفة تتبع ما يبقى فيها من الطعام ومسحها بالإصبع ونحوه وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - العلة في لعق الأصابع وسلت الصحفة وهو قوله فإنه لا يدري في أي طعامه يبارك له يقول لعل البركة فيما علق بالأصابع والصحفة من لطخ ذلك الطعام. وقد عابه قوم أفسد عقولهم الترفه وغير طباعهم الشبع والتخمة وزعموا أن لعق الأصابع مستقبح أو مستقذر كأنهم لم يعلموا أن الذي علق بالإصبع أو الصحفة جزء من أجزاء الطعام الذي أكلوه وازدردوه فإذا لم يكن سائر أجزاءه المأكولة مستقذرا لم يكن هذا الجزء اليسير منه الباقي في الصحفة واللاصق بالأصابع مستقذرا كذلك. وإذا ثبت هذا فليس بعده شيء أكثر من مسه أصابعه بباطن شفتيه وهو ما لا يعلم عاقل به بأسا إذا كان الماس ولممسوس جميعا طاهرين نظيفين وقد يتمضمض الإنسان فيدخل إصبعه في فيه فيدلك أسنانه وباطن فمه فلم ير أحد ممن يعقل أنه قذارة أو سوء أدب فكذلك هذا لا فرق بينهما في منظر حس ولا مخبر عقل انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

وههنا أمر ينبغي التنبيه عليه وهو أنه إذا اجتمع على الأكل من الصحفة اثنان فأكثر فكل يلعق ما يليه منها ولا يعاب على من لم يلعق ما يلي غيره. الفائدة الرابعة: استحباب أكل اللقمة الساقطة بعد إماطة ما علق بها من أذى قال النووي هذا إذا لم تقع على موضع نجس فإن وقعت على موضع نجس تنجست ولابد من غسلها إن أمكن فإذا تعذر أطعمها حيوانًا ولا يتركها للشيطان انتهى. وما تضمنته هذه الفوائد فكله مستقبح ومستقذر عند أهل المدينة الإفرنجية ومن يتشبه بهم من جهال المسلمين وسفهائهم الذين هم اتباع كل ناعق فهم يستقذرون الأكل باليد ويستقذرون لعقها ويستقذرون لعق الصحفة ويستقذرون أكل اللقمة الساقطة. وهؤلاء عن سنن الأكل وآدابه بمعزل وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من رغب عن سنتي فليس مني» متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه. وكثير من المتشبهين بأعداء الله تعالى لم يقفوا عند حد الاستقباح والاستقذار للعمل بالسنة الثابتة في لعق الأصابع والصحفة بل أقدموا على إنكار الأحاديث الواردة في ذلك وزعموا أنها مكذوبة. وقد تقدم ما ذكره الشيخ أحمد محمد شاكر عنهم. وهذا جراءة منهم قبيحة وكفى بذلك خذلانا لهم إذ قد جمعوا بين ثلاثة أمور منكرة: أولها: الرغبة عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وثانيها: التشبه بأعداء الله تعالى. وثالثها: إنكار الأحاديث الصحيحة بمجرد الهوى والتشهي والاتباع

لأعداء الله تعالى وأعداء رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأعداء المؤمنين وما أشبه هؤلاء بالذين قال الله تعالى فيهم: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. الفائدة الخامسة: إثبات وجود الشياطين وأنهم يأكلون. وفي ذلك رد على من أنكر وجودهم كالفلاسفة ومن نحا نحوهم من ملاحدة الإفرنج وزنادقة هذه الأمة وما أكثرهم في زماننا لاكثرهم الله. السادسة: جواز مسح اليد بالمنديل ونحوه بعد لعقها. السابعة: استغفار القصعة لمن لحسها إن صح الحديث بذلك. وهذا مما لا ينكره مسلم. ونظير ذلك حنين الجذع اليابس شوقًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك تسبيح الحصى في يده. ونظيره أيضًا قول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}. وقريب من ذلك قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ}. وأما هديه - صلى الله عليه وسلم - في الجلوس للأكل فقد كان يجلس مستوفزًا غير متمكن. وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - مقعيًا يأكل تمرًا. وفي رواية لمسلم قال أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمر فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسمه وهو محتفز يأكل منه أكلاً ذريعًا. وفي رواية أكلا حثيثًا. قال الجوهري الإقعاء عند أهل اللغة أن يلصق الرجل إليتيه بالأرض وينصب ساقيه ويتساند إلى ظهره.

نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأكل الرجل وهو منبطح على وجهه

وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - أكل مقعيًا. وقال أيضًا ورأيته محتفزًا أي مستوفزًا. وقال صاحب القاموس احتفز استوفز وتضام في جلوسه واستوى جالسًا على وركيه انتهى. وفي سنني أبي داود وابن ماجه عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - قصعة يقال لها الغراء يحملها أربعة رجال فلما أضحوا وسجدوا الضحى أتي بتلك القصعة يعني وقد ثرد فيها فالتفوا عليها فلما كثروا جثى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أعرابي: ما هذه الجلسة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله جعلني عبدًا كريمًا ولم يجعلني جبارًا عنيدًا» وذكر تمام الحديث. وهذا لفظ أبي داود. ولفظ ابن ماجه قال: أهديت للنبي - صلى الله عليه وسلم - شاة فجثى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ركبتيه يأكل فقال أعرابي ما هذه الجلسة فقال: «إن الله جعلني عبدًا كريمًا ولم يجعلني جبارًا عنيدًا» قال النووي: إسناده جيد. وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن. ونقل الحافظ عن ابن بطال أنه قال: إنما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك تواضعًا لله تعالى. وروى الإمام أحمد في الزهد عن الحسن مرسلا قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى بطعام أمر به فألقي على الأرض وقال: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد». وروى أبو داود وابن ماجه في سننيهما والحاكم في مستدركه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأكل الرجل وهو منبطح على وجهه» هذا لفظ ابن ماجه.

وفي رواية أبي داود والحاكم «وهو منبطح على بطنه» قال الحاكم صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى الإمام أحمد والشيخان وأبو داود الطيالسي والدارمي وأهل السنن إلا النسائي عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني لا آكل متكئًا». وفي المسند وسنني أبي داود وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ما رئي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل متكئًا ولا يطأ عقبيه رجلان. وقد اختلف في صفة الاتكاء. فقيل: أن يتمكن في الجلوس للأكل على أي صفة كان وقيل: أن يميل على أحد شقيه. وقيل أن يعتمد على يده اليسرى من الأرض ذكر هذه الأقوال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري». قال وأخرج ابن عدي بسند ضعيف: «زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعتمد الرجل على يده اليسرى عند الأكل» قال مالك: هو نوع من الاتكاء قال الحافظ: وفي هذا إشارة من مالك إلى كراهة كل ما يعد الآكل فيه متكئًا ولا يختص بصفة بعينها انتهى. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى فسر الاتكاء بالتربع. وفسر بالاتكاء على الشيء وهو الاعتماد عليه وفسر بالاتكاء على الجنب. والأنواع الثلاثة من الاتكاء. فنوع منها يضر بالآكل وهو الاتكاء على الجنب فإنه يمنع مجرى الطعام الطبيعي عن هيئته ويعوقه عن سرعة نفوذه إلى المعدة ويضغط المعدة فلا يستحكم فتحها للغذاء. وأما النوعان الآخران فمن جلوس الجبابرة المنافي للعبودية ولهذا

قال آكل كما يأكل العبد. قال وإن كان المراد بالاتكاء الاعتماد على الوسائد والوطاء الذي تحت الجالس فيكون المعنى إني إذا أكلت لم أقعد متكئًا على الأوطية والوسائد كفعل الجبابرة ومن يريد الإكثار من الطعام لكني آكل بلغة كما يأكل العبد انتهى وهذا القول الأخير هو الذي قرره الخطابي ورد ما سواه. قال في «معالم السنن»: يحسب أكثر العامة أن المتكئ هو المائل المعتمد على أحد شقيه لا يعرفون غيره وكان بعضهم يتأول هذا الكلام على مذهب الطب ودفع الضرر عن البدن إذ كان معلوما أن الآكل مائلا على أحد شقيه لا يكاد يسلم من ضغط يناله في مجاري طعامه فلا يسيغه ولا يسهل نزوله معدته وليس معنى الحديث ما ذهبوا إليه وإنما المتكئ ههنا هو المعتمد على الوطاء الذي تحته وكل من استوى قاعدا على وطاء فهو متكئ. والاتكاء مأخوذ من الوكاء فالمتكئ هو الذي أوكى مقعدته وشدها بالقعود على الوطاء الذي تحته والمعنى: إني إذا أكلت لم أقعد متمكنًا على الأوطية والوسائد فعل من يريد أن يستكثر من الأطعمة ويتوسع في الألوان ولكني آكل علقة وآخذ من الطعام بلغة فيكون قعودي مستوفزًا له انتهى. قال الحافظ ابن حجر: واختلف السلف في حكم الأكل متكئا. فزعم ابن القاص أن ذلك من الخصائص النبوية. وتعقبه البيهقي فقال قد يكره لغيره أيضا لأنه من فعل المتعظمين وأصله مأخوذ من ملوك العجم قال: فإن كان بالمرء مانع لا يتمكن معه من الأكل إلا متكئًا لم يكن في ذلك كراهة انتهى. وقول البيهقي هو

النوع الثالث والعشرون الإشارة بالأصابع أو الأكف عند السلام وكذلك الضرب بالأرجل

الصحيح وأما قول ابن القاص فليس بشيء إذ من المعلوم أن الأمة أسوة نبيها في الأحكام إلا ما ثبت بالدليل اختصاص النبي - صلى الله عليه وسلم - به دون الأمة. ولم يقم دليل على اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بكراهة الاتكاء حال الأكل فعلم أن أمته تبع له في ذلك. ويؤيد هذا أن الاتكاء حال الأكل من فعل الجبابرة والمتعظمين من ملوك الأعاجم وغيرهم ومن فعل الإفرنج وغيرهم من أعداء الله تعالى ومن فعل المترفين المتشبهين بأعداء الله تعالى. والمسلمون مأمورون بمخالفة هذه الأصناف كلها ومنهيون عن التشبه بهم فعلم أن الاتكاء للأكل مكروه لجميع المسلمين إلا أن تدعو إلى ذلك ضرورة كما قرر ذلك البيهقي والله أعلم. إذا علم هذه فمن الاتكاء المذموم الجلوس على الكراسي حال الأكل كما يفعل ذلك المترفون من الإفرنج ومن يأخذ بأخذهم من جهال المسلمين في هذه الأزمان. ولا شك في كراهة هذا الجلوس لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا آكل متكئًا» ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من رغب عن سنتي فليس مني». فالواجب على المسلمين اتباع هدي نبيهم - صلى الله عليه وسلم - والعض على سنته بالنواجذ والبعد كل البعد عن مشابهة أعداء الله تعالى والله الموفق. فصل النوع الثالث والعشرون: من التشبه بأعداء الله تعالى الإشارة بالأصابع عند السلام.

وكذلك الإشارة بالأكف مرفوعة إلى جانب الوجه فوق الحاجب الأيمن كما يفعل ذلك الشرط وغيرهم. وكذلك ضرب الشرط بأرجلهم عند السلام ويسمون هذا الضرب المنكر والإشارة بالأكف التحية العسكرية وهي تحية مأخوذة عن الإفرنج وأشباههم من أعداء الله تعالى وهي بالهزء والسخرية أشبه منها بالتحية ولكن ما الحيلة فيمن غيرت طباعهم المدنية الإفرنجية وأثرت فسادًا كثيرًا في أخلاقهم وأفعالهم حتى صاروا يستحسنون من أفعال الإفرنج وغيرهم من الأعاجم ما يستقبحه أولو العقول السليمة والفطر المستقيمة. وهذه التحية المستهجنة من جملة المنكر الذي ينبغي تغييره والنهي عنه لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» رواه الأمام أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان وغيره من الحفاظ. وفي جامع الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى الإشارة بالأكف». وروى الحافظ أبو يعلى والطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان عن جابر رضي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تسليم الرجل بإصبع واحدة يشير بها فعل اليهود» قال الهيثمي رجال أبي يعلى رجال الصحيح وقال المنذري رواته رواة الصحيح. وفي رواية للبيهقي: «لا تسلموا تسليم اليهود والنصارى فإن تسليمهم إشارة بالكفوف والحواجب» قال البيهقي إسناده ضعيف.

تحية المسلمين في الدنيا والآخرة

قلت له شاهد مما تقدم وما يأتي وهو ما رواه النسائي بسند جيد عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا: «لا تسلموا تسليم اليهود فإن تسليمهم بالرءوس والإشارة» وفي مستدرك الحاكم من حديث ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «هدينا مخالف لهديهم» يعني المشركين قال الحاكم صحيح على شرك الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقد رواه الشافعي في مسنده من حديث ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة مرسلا ولفظه: «هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك» إذا علم هذا فقد اختص الله تبارك وتعالى المسلمين بأفضل التحيات وأكملها وأزكاها وهو السلام الذي علمه الله تبارك وتعالى لآدم أبي البشر حين نفخ فيه الروح وأخبره أنه تحيته وتحية ذريته من بعده كما في الصحيحين والمسند عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال: السلام عليكم فقالوا: السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله» الحديث. وقد شرع الله تبارك وتعالى لهذه الأمة أن يسلم بعضهم على بعض بهذه التحية المباركة الطيبة فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. وقال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً}.

قال سعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة والزهري يعني فليسلم بعضكم على بعض. وفي جامع الترمذي عن أبي تميمة الهجيمي عن رجل من قومه قال: طلبت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث وفيه- فقال يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا لقي الرجل أخاه المسلم فليقل السلام عليكم ورحمة الله وبركاته». وفيه أيضا عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي جري جابر بن سليم الهجيمي رضي الله عنه قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: عليك السلام فقال: «لا تقل عليك السلام ولكن قل السلام عليكم». وبهذا السلام المبارك الطيب يسلم الرب تبارك وتعالى على المؤمنين إذا دخلوا الجنة كما قال تعالى: {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} وقال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ}. وروى ابن ماجه في سننه وابن أبي حاتم والبغوي في تفسيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السالم عليكم يا أهل الجنة قال وذلك قول الله تعالى: {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}». وبهذا السلام المبارك الطيب تسلم الملائكة على المؤمنين إذا دخلوا الجنة كما قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}. وقد تقدم ذكر تسليمهم على آدم بهذا السلام المبارك الطيب.

النوع الرابع والعشرون القيام على الملوك وهم قعود والقيام للداخل على وجه التعظيم والاحترام

وكما أن السلام هو تحية المسلمين فيما بينهم في الدنيا فكذلك هو تحيتهم فيما بينهم في الدار الآخرة كما قال تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} وقال تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ}. وإذا علم فضل السلام وأنه تحية المسلمين في الدارين فليعلم أيضًا أنه لا أسفه رأيًا ممن رغب عن ذلك واستبدل عنه بإشارات الإفرنج وضربهم بالأرجل. والله المسئول أن يوفق ولاة أمور المسلمين لمنع هذه الأفعال المخالفة للشريعة المحمدية. فصل النوع الربع والعشرون: من التشبه بأعداء الله تعالى قيام الشرط وغيرهم من أعوان الملوك وخدامهم على الملوك وهم قعود وقيام الرجال للداخل عليهم على وجه التعظيم له والاحترام. وقد ورد النهي عن ذلك والتشديد فيه كما في صحيح مسلم عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع تكبيره فالتفت إلينا فرآنا قيامًا فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودًا فلما سلم قال: «إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا» الحديث وقد رواه ابن ماجه في سننه بإسناد مسلم.

ورواه البخاري في «الأدب المفرد» عن عبد الله بن صالح قال حدثني الليث قال حدثني أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه فذكره بمثله وإسناده حسن وقد بوب عليه البخاري بقوله: «باب قيام الرجل للرجل القاعد». ثم قال البخاري رحمه الله تعالى في الأدب المفرد «باب من كره أن يقعد ويقوم له الناس». حدثنا موسى -يعني ابن إسماعيل التبوذكي- قال حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال صرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فرس بالمدينة على جذع نخلة فانفكت قدمه فكنا نعوده في مشربة لعائشة رضي الله عنها فأتيناه وهو يصلي قاعدا فصلينا قياما ثم أتيناه مرة أخرى وهو يصلي المكتوبة قاعدا فصلينا خلفه قياما فأومأ إلينا أن اقعدوا فملما قضى الصلاة قال: «إذا صلى الإمام قاعدا فصلوا قعودا وإذا صلى قائما فصلوا قياما ولا تقوموا والإمام قاعد كما تفعل فارس بعظمائهم» إسناده صحيح رجاله كلهم من رجال الصحيحين. وقد رواه أبو داود في سننه عن عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير ووكيع عن الأعمش فذكره بنحوه. وإسناده صحيح على شرط الشيخين. وفي المسند وسنني أبي داود وابن ماجه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوكئا على عصا فقمنا إليه فقال: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضًا» قال المنذري في «الترغيب والترهيب»: إسناده حسن فيه أبو غالب واسمه حزور ويقال نافع ويقال سعيد بن الحزور فيه كلام طويل ذكرته في مختصر السنن وغيره والغالب عليه التوثيق وقد صحح له الترمذي وغيره.

قلت وقد وثقه الدارقطني وقال ابن مفلح في «الآداب»: أبو غالب مختلف فيه وحديثه حسن. وقد بوب أبو داود على هذا الحديث وعلى حديث معاوية الآتي بقوله: باب الرجل يقوم للرجل يعظمه بذلك. وقال البخاري رحمه الله تعالى في «الأدب المفرد»: حدثنا موسى بن إسماعيل -يعني التبوذكي- قال حدثنا حماد بن سلمة عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال ما كان شخص أحب إليهم رؤية من النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا إذا رأوه لم يقوموا إليه لما يعلمون من كراهيته لذلك. إسناده صحيح على شرط مسلم وقد رواه الإمام أحمد والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وبوب الترمذي على هذا الحديث وعلى حديث معاوية الآتي بقوله: باب كراهية قيام الرجل للرجل. وقال أبو داود في سننه: حدثنا موسى بن إسماعيل -يعني التبوذكي- حدثنا حماد -يعني ابن سلمة- عن حبيب بن الشهيد عن أبي مجلز قال: خرج معاوية رضي الله عنه على ابن الزبير وابن عامر فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير فقال معاوية لابن عامر: اجلس فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار» إسناده صحيح على شرط مسلم. وقد رواه الترمذي في جامعه فقال حدثنا محمود بن غيلان حدثنا قبيصة -يعني ابن عقبة- حدثنا سفيان-يعني الثوري- عن حبيب ابن الشهيد عن أبي مجلز قال خرج معاوية فقام عبد الله بن الزبير وابن صفوان حين رأوه فقال: اجلسا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار» قال الترمذي: وفي الباب عن أبي أمامة رضي الله عنه وهذا حديث حسن.

قلت رجاله كلهم من رجال الصحيحين فهو على هذا صحيح على شرط الشيخين. ثم رواه الترمذي عن هناد عن أبي أسامة حماد بن أسامة عن حبيب ابن الشهيد عن أبي مجاز بكسر الميم وإسكان الجيم واسمه لاحق بن حميد السدوسي عن معاوية رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه وهذا الإسناد صحيح على شرط الشيخين وقد رواه الإمام أحمد في مسنده من طرق عن حبيب بن الشهيد وأسانيده كلها صحيحة. وقال البخاري رحمه الله تعالى في «الأدب المفرد»: باب قيام الرجل للرجل تعظيما. حدثنا آدم -يعني ابن أبي إياس- قال حدثنا شعبة وحدثنا حجاج -يعني ابن منهال- قال حدثنا حماد -يعني ابن سلمة- قال حدثنا حبيب بن الشهيد قال سمعت أبا مجلز يقول: إن معاوية رضي الله عنه خرج وعبد الله بن عامر وعبد الله بن الزبير قعود فقام ابن عامر وقعد ابن الزبير وكان أرزنهما قال معاوية رضي الله عنه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من سره أن يمثل له عباد الله قيامًا فليتبوأ بيتًا في النار» إسناداه صحيحان على شرط مسلم. قال ابن الأثير في قوله: «من سره أن يمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار» أي: يقومون له قياما وهو جالس يقال مثل الرجل يمثل مثولا إذا انتصب قائمًا وإنما نهي عنه لأنه من زي الأعاجم ولأن الباعث عليه الكبر وإذلال الناس. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في الكلام على قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا صلى الإمام جالسًا فصلوا جلوسًا وإذا صلى الإمام قائمًا فصلوا قيامًا ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها».

في هذا الحديث أنه أمرهم بترك القيام الذي هو فرض في الصلاة وعلل ذلك بأن قيام المأمومين مع قعود الإمام يشبه فعل فارس والروم بعظمائهم في قيامهم وهم قعود. ومعلوم أن المأموم إنما نوى أن يقوم لله لا لإمامه وهذا تشديد عظيم في النهي عن القيام للرجل القاعد. ونهي أيضا عما يشبه ذلك وإن لم يقصد به ذلك. وفي الحديث أيضا نهي عما يشبه فعل فارس والروم وإن كانت نيتنا غير نيتهم لقوله: «فلا تفعلوا». فهل بعد هذا في النهي عن مشابهتهم في مجرد الصورة غاية انتهى. وقال النووي فيه النهي عن قيام الغلمان والتباع على رأس متبوعهم الجالس لغير حاجة. وأما القيام للداخل إذا كان من أهل الفضل والخير فليس من هذا بل هو جائز قد جاءت به أحاديث وأطبق عليه السلف والخلف. قلت في آخر هذا الكلام نظر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أفضل الخلق وخيرهم ومع هذا فقد نهى أصحابه عن القيام له إذا خرج عليهم وأخبرهم أن ذلك من فعل الأعاجم يعظم بعضهم بعضا. وقال أنس رضي الله عنه: لم يكن شخص أحب إليهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك. ولما قام ابن عامر لمعاوية رضي الله عنه لما خرج عليهم أمره أن

يجلس وحدثهم بما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - من التشديد في ذلك. وهذه أحاديث صحيحة فيجب العمل بها. ومن قال: إنها محمولة على القيام على الملوك وهم قعود وما أشبه ذلك فقد أبعد النجعة وخالف ما دلت عليه هذه الأحاديث من النهي عن القيام للداخل ونحوه على وجه التعظيم والاحترام. وقد رد ابن القيم رحمه الله تعالى على من قال بهذا القول فقال في تهذيب السنن على قول المنذري. وقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أنهم لما صلوا خلفه - صلى الله عليه وسلم - قيامًا وهو قاعد فأشار إليهم فقعدوا فلما سلم قال: «إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا». قال ابن القيم رحمه الله تعالى: حمل أحاديث النهي -يعني حديث معاوية وحديث أبي أمامة- على مثل هذه الصورة ممتنع فإن سياقها يدل على خلافه وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان ينهى عن القيام له إذا خرج عليهم ولأن العرب لم يكونوا يعرفون هذا وإنما هو من فعل فارس والروم. ولأن هذا لا يقال له: قيام للرجل إنما هو قيام عليه. ففرق بين القيام للشخص المنهي عنه والقيام عليه المشبه لفعل فارس والروم والقيام إليه عند قدومه الذي هو سنة العرب وأحاديث الجواز تدل عليه فقط انتهى. وذكر ابن القيم أيضا حديث معاوية رضي الله عنه ثم قال: وفيه رد

على من زعم أن معناه: أن يقوم الرجل للرجل في حضرته وهو قاعد فإن معاوية روى الخبر لما قاما له حين خرج. قال: وأما الأحاديث المتقدمة فالقيام فيها عارض للقادم مع أنه قيام إلى الرجل للقائه لا قيام له وهو وجه حديث فاطمة فالمذموم القيام للرجل. وأما القيام إليه للتلقي إذا قدم فلا بأس به وبهذا تجتمع الأحاديث والله أعلم انتهى كلامه رحمه الله تعالى. والأحاديث التي أشار إليها أنها قد تقدمت ستأتي في القسم الثالث وهي حديث عائشة رضي الله عنها في قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - لزيد بن حارثة، وقوله للأنصار: «قوموا إلى سيدكم» وحديث عائشة رضي الله عنها في قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى فاطمة إذا دخلت عليه وقيامها إليه إذا دخل عليها. إذا علم هذا فالقيام على ثلاثة أقسام: أحدها: القيام على الرجل وهو قاعد كما يفعله الشرط وغيرهم من أعوان الملوك مع الملوك وهذا هو الذي ورد النهي عنه في حديث جابر رضي الله عنه الذي تقدم ذكره ولا أعلم نزاعًا في كراهته والمنع منه. ويستثنى من هذا مسألة واحدة وهي ما إذا قدم على الإمام رسل من الأعداء وخيف منهم أن يغدروا به فلا بأس أن يقوم بعض أعوانه على رأسه بالسلاح كما فعل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في صلح الحديبية فإنه كان قائما بالسلاح على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم عليه رسل قريش. والحديث بذلك في صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد وغيرهما.

القسم الثاني: القيام للداخل ونحوه إعظامًا له واحترامًا لا لقصد المعانقة أو المصافحة. وفي كراهة هذا والمنع منه نزاع بين العلماء والصحيح المنع منه لما تقدم عن أبي أمامة وأنس ومعاوية رضي الله عنهم في ذلك. وأحاديثهم وإن كانت واردة في هذا القسم فعمومها يشمل القسم الأول أيضا لأن كلا منهما من أفعال الأعاجم وتعظيم بعضهم بعضًا. والمسلم منهي عن التشبه بالأعاجم وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» وفي الحديث الآخر: «ليس منا من تشبه بغيرنا». وقد فرق بعض العلماء بين القيام لأهل الفضل والفقه وبين القيام لغيرهم فأجازوه لأهل الخير ومنعوه لغيرهم وهذا تفريق لا دليل عليه. وقد تقدم رد ما قاله النووي في ذلك. قال إسحاق بن إبراهيم: خرج أبو عبد الله على قوم في المسجد فقاموا له فقال: لا تقوموا لأحد فإنه مكروه. وقال أحمد أيضا في رواية مثنى: لا يقوم أحد لأحد. وقال ابن حنبل: قلت لعمي ترى للرجل أن يقوم للرجل إذا رآه قال: لا يقوم أحد لأحد إلا الولد لوالده أو لأمه فأما لغير الوالدين فلا. نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. وظاهر هذه الروايات أنه لا فرق بين القيام لأهل الفقه والدين وبين القيام لغيرهم. وقد روي عن الإمام مالك نحو هذا قال ابن القاسم في «المدونة»: قيل لمالك الرجل يقوم للرجل له الفضل والفقه قال: أكره ذلك ولا بأس بأن يوسع له في مجلسه.

قال: وقيام المرأة لزوجها حتى يجلس من فعل الجبابرة وربما يكون الناس ينتظرونه فإذا طلع قاموا فليس هذا من فعل الإسلام. وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»: محصل المنقول عن مالك إنكار القيام ما دام الذي يقام لأجله لم يجلس ولو كان في شغل نفسه فإنه سئل عن المرأة تبالغ في إكرام زوجها فتتلقاه وتنزع ثيابه وتقف حتى يجلس فقال: أما التلقي فلا بأس به وأما القيام حتى يجلس فلا فإن هذا من فعل الجبابرة وقد أنكره عمر بن عبد العزيز انتهى. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: أبو بكر والقاضي ومن تبعهما فرقوا بين القيام لأهل الدين وغيرهم فاستحبوه لطائفة وكرهوه لأخرى والتفريق في مثل هذا بالصفات فيه نظر. قال: وأما أحمد فمنع منه مطلقا لغير الوالدين فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد الأئمة ولم يكونوا يقومون له فاستحباب ذلك للإمام العادل مطلقا خطأ. وقصة ابن أبي ذئب مع المنصور تقتضي ذلك. وما أراد أبو عبد الله -والله أعلم-إلا لغير القادم من سفر فإنه قد نص على أن القادم من السفر إذا أتاه إخوانه فقام إليهم وعانقهم فلا بأس به. وحديث سعد يخرج على هذا وسائر الأحاديث فإن القادم يتلقى لكن هذا قام فعانقهم والمعانقة لا تكون إلا بالقيام. وأما الحاضر في المصر الذي قد طالت غيبته والذي ليس من عادته المجيء إليه فمحل نظر. فأما الحاضر الذي يتكرر مجيئه في الأيام كإمام المسجد أو السلطان في مجلسه أو العالم في مقعده فاستحباب القيام له خطأ بل المنصوص عن أبي عبد الله هو الصواب انتهى.

قصة لابن أبي ذئب مع المهدي

وقصة ابن أبي ذئب التي أشار إليها الشيخ قد ذكرت له مع المهدي وأنه لما حج دخل مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يبق أحد إلا قام إلا ابن أبي ذئب فقال له المسيب بن زهير: قم هذا أمير المؤمنين فقال ابن أبي ذئب: إنما يقوم الناس لرب العالمين، فقال المهدي: دعه فلقد قامت كل شعرة في رأسي. ذكره الخطيب في تاريخه. وقد سئل الشيخ أيضًا عن النهوض الذي يعده الناس من الإكرام والاحترام عند قدوم شخص معتبر هل يجوز أم لا؟ وإذا كان يغلب على ظن المتقاعد عن ذلك أن القادم يخجل أو يتأذى باطنه وربما أدى ذلك إلى بغض ومقت وعداوة. فأجاب -رحمه الله تعالى-: لم يكن من عادة السلف على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام للداخل المسلم كما يردون عليه السلام كما يعتاد كثير من الناس بل قد قال أنس بن مالك رضي الله عنه: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهته لذلك. ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقيا له، كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قام لعكرمة. وقال للأنصار لما قدم سعد ابن معاذ قوموا إلى سيدكم, وكان سعد متمرضًا بالمدينة وكان قد قدم إلى بني قريظة شرقي المدينة. والذي ينبغي للناس أن يعتادوا ما كان السلف عليه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم خير القرون وخير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد فلا يعدل أحد عن هدي خير الخلق وهدي خير القرون إلى ما دونه وينبغي للمطاع أن يقرر ذلك مع أصحابه بحيث إذا رأوه لم يقوموا

ولا يقوم لهم في اللقاء المعتاد. فأما القيام لمن قدم من سفر ونحو ذلك تلقيًا له فحسن. وإذا كان من عادة الناس إكرام من يجيء بالقيام ولو ترك ذلك لاعتقد أن ذلك بخس لحقه أو قصد لخفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يقام له، لأن في ذلك إصلاح ذات البين وإزالة للتباغض والشحناء. وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة فليس في ترك ذلك إيذاء له وليس هذا القيام هو القيام المذكور في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار» فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء ولهذا فرقوا بين أن يقال قمت إليه وقمت له. والقائم للقادم قد ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد. وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى بهم قاعدًا في مرضه وصلوا قيامًا أمرهم بالقعود وقال: «لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضها بعضًا» فقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد لئلا يتشبهوا بالأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود. وجماع ذلك أن الذي يصلح اتباع عادة السلف وأخلاقهم والاجتهاد في ذلك بحسب الإمكان فمن لم يعتد ذلك أو لم يعرف أنه العادة وكان في ترك مقابلته بما اعتاده الناس من الإكرام مفسدة راجحة فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما كما تحصل المصلحة بتفويت أدناهما انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وقال أيضا في الفتاوى المصرية: ينبغي ترك القيام في اللقاء المتكرر

المعتاد ونحوه لكن إذا اعتاد الناس القيام وقدم من لا يرى كرامته إلا به فلا بأس به فالقيام دفعًا للعداوة والفساد خير من تركه المفضي إلى الفساد وينبغي مع هذا أن يسعى في الاصطلاح على متابعة السنة انتهى. القسم الثالث: القيام إلى القادم لمعانقته أو مصافحته أو إنزاله عن دابته ونحو ذلك من المقاصد الجائزة. وهذا القيام جائز قد فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعله أصحابه بحضرته، كما في جامع الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي فأتاه فقرع الباب فقام إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عريانًا يجر ثوبه والله ما رأيته عريانا قبله ولا بعده فاعتنقه وقبله. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. قولها: عريانا تريد أنه عليه الصلاة والسلام كان ساترا ما بين سرته وركبته ولكن سقط رداؤه عن عاتقه فكان ما فوق سرته وما تحت ركبته عريانا. قال الطيبي: وكان هذا من شدة فرحه حيث لم يتمكن من تمام التردي بالرداء حتى جره وكثيرا ما يقع مثل هذا انتهى. وروى البيهقي وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دخل عليه عكرمة بن أبي جهل مسلمًا مهاجرًا قام إليه فرحا بقدومه. وروى أبو داود والترمذي والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحدًا كان أشبه سمتًا وهديًا ودلا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فاطمة رضي الله عنها كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه وكانت إذا دخل عليها قامت إليه وأخذت بيده وقبلته وأجلسته في مجلسها قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن

أهل قريظة لما نزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه أرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء على حمار فقال النبي للأنصار: «قوموا إلى سيدكم». وفي رواية لأحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال أبو سعيد فلما طلع قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قوموا إلى سيدكم فأنزلوه» فقال عمر رضي الله عنه: سيدنا الله قال: «أنزلوه» فأنزلوه. الحديث قال الحافظ ابن حجر سنده حسن. قلت: وفي هذه الرواية بيان المراد من الأمر بالقيام إلى سعد رضي الله عنه ففيه رد على من استدل به على جواز القيام المنهي عنه. قال الحافظ ابن حجر: هذه الزيادة -يعني قوله فأنزلوه- تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه انتهى. وفي الصحيحين وغيرهما في قصة كعب بن مالك رضي الله عنه لما تاب الله عليه قال: وانطلقت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد وحوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني الحديث. فهذا وما أشبهه من القيام جائز كما دلت عليه هذه الأحاديث وهو قيام إلى الشخص لا له والقيام إلى الشخص من فعل العرب. القيام له أو عليه من فعل العجم. وقد تقدم قول ابن القيم رحمه الله تعالى أن المذموم القيام للرجل. وأما القيام إليه للتلقي إذا قدم فلا بأس به. وقد روي عن أحمد رحمه الله تعالى ما يوافق هذا.

النوع الخامس والعشرون التصفيق

قال أبو جعفر محمد بن أحمد بن المثنى: أتيت أحمد بن حنبل فجلست على بابه أنتظر خروجه فلما خرج قمت إليه فقال لي: أما علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحب أن يتمثل الناس له قياما فليتبوأ مقعده من النار» فقلت له: إنما قمت إليك لا لك فاستحسنه. فصل النوع الخامس والعشرون: من التشبه بأعداء الله تعالى ما يفعله كثير من الجهال من التصفيق في المجالس والمجامع عند رؤية ما يعجبهم من الأفعال وعند سماع ما يستحسنونه من الخطب والأشعار وعد مجيء الملوك والرؤساء إليهم. وهذا التصفيق سخف ورعونة ومنكر مردود من عدة أوجه. أحدها: أن فيه تشبهًا بأعداء الله تعالى من المشركين وطوائف الإفرنج وأشباههم. فأما المشركون فقد قال الله تعالى عنهم: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}. قال أهل اللغة وجمهور المفسرين: المكاء الصفير، والتصدية: التصفيق، وبهذا فسره ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم. فأما ابن عمر رضي الله عنهما فرواه ابن جرير عنه وفيه أنه حكى فعل المشركين فصفر وأمال خده وصفق بيديه. وروى ابن أبي حاتم عنه رضي الله عنه أنه قال: إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفقون ويصفرون.

وأما ابن عباس رضي الله عنهما فرواه ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الفرج ابن الجوزي عنه. ولفظ ابن أبي حاتم قال: كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق والمكاء الصفير والتصدية التصفيق. وكذا روي عن مجاهد ومحمد بن كعب وأبي سلمة بن عبد الرحمن والضحاك والحسن وقتادة وعطية العوفي وغيرهم. قال ابن عرفة وابن الأنباري: المكاء والتصدية ليسا بصلاة ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها المكاء والتصدية فألزمهم ذلك عظيم الأوزار. وروى الإمام أحمد والنسائي والبيهقي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر قريشا أنه أسري به إلى بيت المقدس قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا قال: «نعم» قال: فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا للكذب. وأما الإفرنج وأضرابهم من أعداء الله تعالى فقد ذكر المخالطون لهم أن التصفيق من أفعالهم في محافلهم إذا أعجبهم كلام أو فعل من أحد صفقوا تعجبًا وتعظيمًا لذلك القول أو الفعل. وقد أخذ سفهاء المسلمين عنهم هذا الفعل السخيف تقليدًا لهم وتشبها بهم. وقد تقدم حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» وتقدم أيضا حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى».

وفي هذين الحديثين دليل على المنع من التصفيق لما فيه من التشبه بأعداء الله تعالى. ويدل على المنع منه أيضا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «خالفوا المشركين» متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «هدينا مخالف لهديهم» -يعني المشركين- رواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. ورواه الشافعي في مسنده من حديث ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة مرسلا ولفظه: «هدينا مخالف لأهل الأوثان والشرك». ومن المقرر عند الأصوليين أن الأمر بالشيء نهي عن ضده وعلى هذا فالأمر بمخالفة المشركين هو في الحقيقة نهي عن موافقتهم والتشبه بهم فيما يفعلونه من التصفيق وغيره من زيهم وأفعالهم السيئة. وكذلك إخباره - صلى الله عليه وسلم - بأن هدي المسلمين مخالف لهدي أهل الشرك يقتضي منع المسلمين من التصفيق وغيره من أفعال المشركين والله أعلم. وقد روي أن التصفيق من أعمال قوم لوط فروى ابن عساكر في تاريخه عن الحسن مرسلاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عشر خصال عملها قوم لوط بها أهلكوا وتزيدها أمتي بخلة» فذكر الخصال ومنها التصفيق. الوجه الثاني: أن التصفيق من خصائص النساء لتنبيه الإمام إذا نابه شيء في صلاته كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «إنما

التصفيق للنساء» رواه مالك وأحمد والشيخان وأبو داود والنسائي من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه. وقد أتى - صلى الله عليه وسلم - في هذه الجملة الوجيزة بالحصر والاستغراق والاختصاص فدل على أنه لا مدخل فيه للرجال بحال. وعلى هذا فمن صفق من الرجال فقد تشبه بالنساء فيما هو من خصائصهن. وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والبخاري وأهل السنن إلا النسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى ابن ماجه في سننه بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لعن المرأة تتشبه بالرجال والرجل يتشبه بالنساء» ورواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي بنحوه وصححه ابن حبان والحاكم والنووي وغيرهم وقال الحاكم على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي في تلخيصه. وروى الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليس منا من تشبه بالرجال من النساء ولا من تشبه بالنساء من الرجال» في إسناده رجل مبهم وبقية رجاله ثقات وقد رواه الطبراني فأسقط الرجل المبهم قال الهيثمي: فعلى هذا رجال الطبراني كلهم ثقات. قلت: ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق الإمام أحمد وقد أسقط الرجل المبهم ورجاله كلهم ثقات. الوجه الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على الرجال لما صفقوا في

الصلاة لأنهم فعلوا فعلاً لا يجوز للرجال فعله ولا يليق بهم وإنما يليق بالنساء وقد قرن الإنكار ببيان العلة في ذلك فقال إنما التصفيق للنساء. فهذه الجملة تفيد منع الرجال من التصفيق ألبتة وأنه ينبغي الإنكار على من صفق منهم. الوجه الرابع: أن التصفيق لم يكن من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من هدي أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين ولم يكن من عمل التابعين وتابعيهم بإحسان وإنما حدث في المسلمين في أثناء القرن الرابع عشر من الهجرة النبوية لما كثرت مخالطة المسلمين للإفرنج وأعجب جهال المسلمين بسنن أعداء الله وأفعالهم الذميمة. وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وصححه ابن حبان والحاكم وقال: ليس له علة ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي رواية للحاكم: «عليكم بما تعرفون من سنة نبيكم والخلفاء الراشدين المهديين وعضوا على نواجذكم بالحق» قال: الحاكم صحيح على شرطهما جميعًا ولا أعرف له علة ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب أبلغ الخطب ويخطب البلغاء بحضرته وينشد فحول الشعراء عنده أفخم الشعر وأجزله ولم ينقل أن أحدًا من أصحابه صفق عند سماع خطبة ولا قصيدة.

وكذلك الخلفاء الراشدون بعده كانوا يخطبون أبلغ الخطب ويخطب عندهم البلغاء وتنشد عندهم الأشعار الجيدة ولم ينقل عنهم ولا عن غيرهم من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يصفقون عند التعجب والاستحسان وإنما نقل عن كفار قريش أن بعضهم صفقوا تعجبًا لما أخبرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أسري به إلى بيت المقدس. فهؤلاء هم سلف المصفقين عند التعجب والاستحسان وسلفهم الآخر الإفرنج وأشباههم من أعداء الله تعالى. وكل امرئ يهفو إلى ما يناسبه. ومن تشبه بقوم فهو منهم. ولهم أيضا سلف ثالث من شر السلف وهم قوم لوط فقد روى ابن عساكر في تاريخه عن الحسن البصري مرسلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عشر خصال عملها قوم لوط بها أهلكوا وتزيدها أمتي بخلة» فذكر الخصال ومنها التصفيق. وللمصفقين أيضا سلف رابع من شر السلف وهم جهال المتصوفة ومبتدعوهم. قال الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى: إذا طرب أهل التصوف لسماع الغناء صفقوا ثم ساق بإسناده إلى أبي علي الكاتب قال: أن ابن بنان يتواجد وكان أبو سعيد الخراز يصفق له. قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: والتصفيق منكر يطرب ويخرج عن الاعتدال ويتنزه عن مثله العقلاء ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت من التصدية وهي التي ذمهم الله عز وجل بها فقال: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}. فالمكاء الصفير والتصدية

التصفيق. قال وفيه أيضا تشبه بالنساء والعاقل يأنف من أن يخرج عن الوقار إلى أفعال الكفار والنسوة انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في «قواعد الأحكام»: وأما الرقص والتصفيق فخفة ورعونة مشبهة لرعونة الإناث لا يفعلهما إلا أرعن أو متصنع كذاب كيف يتأتى الرقص المتزن بأوزان الغناء ممن طاش لبه وذهب قلبه؟ وقد قال عليه السلام: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» ولم يكن أحد من هؤلاء الذين يقتدى بهم يفعل شيئا من ذلك -إلى أن قال-: وقد حرم بعض العلماء التصفيق على الرجال بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما التصفيق للنساء». ولعن عليه الصلاة والسلام المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء. ومن هاب الإله وأدرك شيئا من تعظيمه لم يتصور منه رقص ولا تصفيق ولا يصدر التصفيق والرقص إلى من غبي جاهل ولا يصدران من عاقل فاضل. ويدل على جهالة فاعلهما أن الشريعة لم ترد بهما في كتاب ولا سنة ولم يفعل ذلك أحد من الأنبياء ولا معتبر من أتباع الأنبياء وإنما يفعل ذلك الجهلة السفهاء الذين التبست عليهم الحقائق بالأهواء وقد مضى السلف وأفاضل الخلف ولم يلابسوا شيئًا من ذلك انتهى. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى وأما اتخاذ التصفيق والغناء والضرب بالدفوف والنفخ في الشبابات والاجتماع على ذلك دينًا وطريقًا إلى الله تعالى وقربة فهذا ليس من دين الإسلام وليس مما شرعه لهم نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من خلفائه ولا استحسن ذلك أحد من أئمة المسلمين بل ولم يكن أحد من أهل الدين يفعل ذلك على عهد

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عهد أصحابه ولا تابعيهم بإحسان ولا تابعي التابعين انتهى. والغرض منه قوله: إنه لم يكن أحد من أهل الدين يفعل ذلك يعني التصفيق وما ذكر معه لا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا على عهد أصحابه ولا تابعيهم بإحسان ولا تابعي التابعين. وقال الشيخ أيضا في موضع آخر: وأما الرجال على عهده -يعني عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن أحد منهم يضرب بدف ولا يصفق بكف بل قد ثبت عنه في الصحيح أن قال: «إنما التصفيق للنساء». ولعن المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء. ولما كان الغناء والضرب بالدف والكف من عمل النساء كان السلف يسمون من يفعل ذلك مخنثًا انتهى. وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في «كتاب الإغاثة»: والله سبحانه لم يشرع التصفيق للرجال وقت الحاجة إليه في الصلاة إذا نابهم أمر بل أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح لئلا يتشبهوا بالنساء فكيف إذا فعلوه لا لحاجة وقرنوا به أنواعًا من المعاصي قولاً وفعلاً؟ انتهى. وقال الحليمي يكره التصفيق للرجال فإنه مما يختص به النساء وقد منعوا من التشبه بهن كما منعوا من لبس المزعفر لذلك انتهى قال الأذرعي: وهو يشعر بتحريمه على الرجال. قلت: يعني أن مراد الحليمي بالكراهة: كراهة التحريم لأن التشبه بالنساء حرام على الرجال والمتشبه بهن ملعون واللعن لا يكون إلا على

النوع السادس والعشرون الصفير على أوزان الغناء

كبيرة من الكبائر وفيما قاله هؤلاء كفاية في بيان قبح التصفيق من الرجال وذم من يتعاطى ذلك منهم. فصل النوع السادس والعشرون: من التشبه بأعداء الله تعالى ما يفعله بعض السفهاء من الصفير على أوزان الغناء. وهذا الصفير من المكاء الذي ذم الله به كفار قريش فقال تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}. والصفير على أوزان الغناء من أفعال الإفرنج وأشباههم من أعداء الله تعالى وعنهم أخذ السفهاء هذا الفعل الذميم. وقد روي أن الصفير من أعمال قوم لوط فروى ابن عساكر في تاريخه عن الحسن البصري مرسلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عشر خصال عملها قوم لوط بها أهلكوا وتزيدها أمتي بخلة» فذكر الخصال ومنها الصفير. إذا علم هذا فالصفير منكر من وجهين: أحدهما: ما فيه من التشبه بقوم لوط وكفار قريش وبالإفرنج وأضرابهم من أعداء الله تعالى والتشبه بكل من هؤلاء حرام. والثاني: ما فيه من أوزان الغناء وإيقاعاته وهو من هذا الوجه لهو وغناء وكلاهما باطل محرم. فصل النوع السابع والعشرون: من التشبه بأعداء الله تعالى ما يفعله كثير من الجهال من تكتيف اليدين على الدبر. وهذا الفعل السخيف من

أفعال الإفرنج وأضرابهم من أعداء الله تعالى كما حدثنا بذلك من خالطهم كثيرًا ورأى ذلك منهم. وقد تلقى ذلك عنهم كثير من سفهاء المسلمين. وقد تقدم حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تشبه بقوم فهو منهم» وتقدم أيضا حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى». وفي هذين الحديثين دليل على المنع من تكتيف اليدين على الدبر لما في ذلك من التشبه بأعداء الله تعالى. وقد روى أبو داود في سننه بإسناد جيد عن الشريد بن سويد رضي الله عنه قال: مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جالس هكذا وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على إلية يدي فقال: «أتقعد قعدة المغضوب عليهم» صححه النووي ورواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفيه دليل على أنه لا يجوز للمسلم أن يتشبه بأعداء الله تعالى لا في فعل ولا في هيئة ففيه دليل على المنع من تكتيف اليدين على الدبر. ولو فرضنا عدم الدليل على المنع من هذا التكتف الذميم لكان العقل يقتضي المنع منه لأمرين: أحدهما ما فيه من التشبه بالأسارى المستذلين المقهورين والعاقل لا يرضى لنفسه أن يكون مثلهم وقد ورد النهي عن التشبه بالذين يعذبون فقال أبو داود في سننه:

حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي -ح- وحدثنا محمد بن سلمة حدثنا ابن وهب وهذا لفظه جميعا عن هشام بن سعد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى رجلا يتكئ على يده اليسرى وهو قاعد في الصلاة وقال هارون بن زيد ساقط على شقه الأيسر ثم اتفقا فقال: لا تجلس هكذا فإن هكذا يجلس الذين يعذبون. إسناد الأول حسن والثاني صحيح على شرط مسلم. وقد رواه الإمام أحمد في مسنده مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير حدثنا هشام يعني ابن سعد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا ساقطًا يده في الصلاة فقال: «لا تجلس هكذا إنما هذه جلسة الذين يعذبون» إسناده صحيح على شرط مسلم وفيه دليل على المنع من تكتيف اليدين على الدبر لما فيه من التشبه بالأسارى المكتوفين. والتكتيف نوع من التعذيب. الأمر الثاني: أنه فعل مستقبح عند ذوي المرواءات والشيم. وكيف لا يكون قبيحًا بالرجل أن يضع يديه على دبره ثم يمشي بين الناس وهو على ذلك الوضع المستهجن المزري بالصبيان الصغار فضلا عن الرجال الكبار؟ فينبغي للعاقل أن يسمو إلى معالي الأمور التي تجمله وتزينه ويبعد عن سفاسف الأمور التي تدنسه وتشينه والله الموفق. وقد زعم بعض المفتونين بتكتيف اليدين على الدبر أن في ذلك فائدة طبية والظاهر أن هذا غير صحيح وإنما هو من المغالطات والحجج الجدلية ولو قدر صحة ما زعمه لم يكن ذلك مبيحًا للتشبه بأعداء الله

تعالى. وليس كل ما فيه فائدة طبية يكون جائزُا من أجل تلك الفائدة. بل ينظر في الشيء فإن كان مباحًا جاز التداوي به وإن كان محرما حرم التداوي به وإن كان مكروهًا كره التداوي به والأمثلة على ذلك كثيرة وليس هذا موضع ذكرها. ونقتصر ههنا على مثال واحد وهو أن العاشق لغير زوجته أو أمته التي يجوز له وطؤها قد يحصل له من الضرر ما يئول به إلى الهلاك. ومن المعلوم أن دواءه وفائدته الطبية في الإلمام بمعشوقه لا غير فهل يقال إنه يجوز له الإلمام بالمرأة المحرمة عليه أو بالصبي من أجل ما له في ذلك من الفائدة الطبية. كلا لا يقول هذا أحد من المسلمين. وكذلك لا يظن بأحد من أئمة المسلمين أن يقول بجواز التشبه بأعداء الله تعالى من أجل فائدة طبية تحصل من ذلك التشبه. وقد روى أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تداووا ولا تداووا بحرام». وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم»، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري أخرجه ابن أبي شيبة عن جرير عن منصور وسنده صحيح على شرط الشيخين. وروى الحافظ أبو يعلى وابن حبان في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم». ففي هذه الأحاديث دليل على أنه لا يجوز التداوي بشيء محرم

النوع الثامن والعشرون اللعب بالكرة

وظاهرها يشمل الأعيان المحرمة والأفعال المحرمة. ومن الأفعال المحرمة الغناء والضرب على آلات الملاهي والاستماع إليها. وقد نص العلماء على تحريم التداوي بصوت ملهاة واستدلوا على ذلك بعموم حديث «لا تداووا بحرام».وإذا كان التداوي بصوت الملهاة محرما فالتداوي بما فيه تشبه بأعداء الله تعالى كذلك بل هو أولى بالتحريم لما يقتضيه ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم». فصل النوع الثامن والعشرون: من التشبه بأعداء الله تعالى اللعب بالكرة على الوجه المعمول به عند السفهاء في هذه الأزمان وذلك لأن اللعب بها على الوجه مأخوذ عن الإفرنج وأشباههم من أعداء الله تعالى. وقد رأيت عمل الأمريكان في أخشاب الكرة ومواضع اللعب بها ورأيت عمل سفهاء المسلمين في ذلك فرأيته مطابقا لعمل الأمريكان أتم المطابقة. وقد تقدم حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تشبه بقوم فهو منهم». وتقدم أيضًا حديث عبد الله بن عمرو رضي عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا». إذا علم هذا فاللعب بالكرة على الوجه الذي أشرنا إليه من جملة المنكر الذي ينبغي تغييره. وبيان ذلك من وجوه:

اللعب بالكرة نوع من الميسر

أحدها: ما فيه من التشبه بالإفرنج وأضرابهم من أعداء الله تعالى. وأقل الأحوال في حديث عبد الله بن عمر وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم أنهما يقتضيان تحريم التشبه بأعداء الله تعالى في كل شيء من زيهم وأفعالهم ففيها دليل على المنع من اللعب بالكرة. ويدل على المنع من اللعب بها أيضا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خالفوا المشركين» متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ويدل على المنع منه أيضا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك» رواه الشافعي مرسلاً والحاكم موصولاً من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنهما. الوجه الثاني: ما في اللعب بها من الصد عند ذكر الله وعن الصلاة وهذا أمر معروف عند الناس عامتهم وخاصتهم. وربما أوقعت الحقد بين اللاعبين حتى يئول بهم ذلك إلى العداوة والبغضاء. وتعاطي ما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة وما يوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين حرام وقد قال الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}. واللعب بالكرة نوع من الميسر لأنه يلهي عن ذكر الله وعن الصلاة وقد روى ابن جرير في تفسيره من طريق عبيد الله بن عمر أنه سمع عمر ابن عبيد الله يقول للقاسم بن محمد: «النرد: ميسر». أرأيت الشطرنج ميسر

هو؟ فقال القاسم: كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر. وإذا كان اللعب بالكرة على عوض فهو من الميسر بلا شك. قال الشيخ أبو محمد المقدسي في «المغني»: كل لعب فيه قمار فهو محرم أي لعب كان وهو من الميسر الذي أمر الله تعالى باجتنابه ومن تكرر منه ذلك ردت شهادته انتهى. وقد روى ابن جرير في تفسيره عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا: الميسر القمار. وروي أيضًا عن مجاهد وسعيد بن جبير وطاوس وعطاء والحسن وابن سيرين والضحاك وقتادة والسدي ومكحول وعطاء بن ميسرة نحو ذلك. وفي رواية له عن مجاهد وسعيد بن جبير أنهما قالا: الميسر القمار كله حتى الجوز الذي يعلب به الصبيان. وفي رواية له عن طاوس وعطاء قالا: كل قمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز. وذكر ابن كثير في تفسيره عن راشد بن سعد وضمرة بن حبيب أنهما قالا: حتى الكعاب والجوز والبيض التي يلعب بها الصبيان. وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: الميسر محرم بالنص والإجماع. إذا علم هذا فمن استحل العوض على اللعب بالكرة فقد استحل ما هو محرم بالنص والإجماع من الميسر وأكل المال بالباطل وقد قال الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}. وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله أبى على أن يدخل الجنة

لحمًا نبت من سحت فالنار أولى به» رواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي المستدرك أيضًا من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا كعب بن عجرة أنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت النار أولى به». وفي المستدرك أيضًا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من نبت لحمه من السحت فالنار أولى به» وفي المستدرك أيضًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من نبت لحمه من السحت فالنار أولى به»، وروى أبو نعيم في «الحلية» من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به». الوجه الثالث: أن في اللعب بالكرة ضررا على اللاعبين فربما سقط أحدهم فتخلعت أعضاؤه وربما انكسرت رجل أحدهم أو يده أو بعض أضلاعه وربما حصل فيه شجاج في وجهه أو رأسه وربما سقط أحدهم فغشي عليه ساعة أو أكثر أو أقل بل ربما آل الأمر ببعضهم إلى الهلاك كما قد ذكر لنا عن غير واحد من اللاعبين بها وما كان هذا شأنه فاللعب به لا يجوز. الوجه الرابع: أن اللعب بالكرة من الأشر والمرح ومقابلة نعم الله تعالى بضد الشكر وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا}. واللعب بالكرة نوع من المرح.

وجوب ستر العورة ومنها الفخذ

وروى البخاري في الأدب المفرد عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الأشرة شر» قال أبو معاوية أحد رواته: الأشر العبث واللعب بالكرة نوع من العبث فلا يجوز. الوجه الخامس: ما في اللعب بها من اعتياد وقاحة الوجوه وبذاءة الألسن وهذا معروف عن اللاعبين بها وقد ألجأني الطريق مرة إلى المرور من عند اللاعبين بها فسمعت منهم ما تستك منه الأسماع من كثرة الصخب والتخاطب بالفحش ورديء الكلام وسمعت بعضهم يقذف بعضًا ويلعن بعضهم بعضًا وما أدى إلى هذا أو بعضه فهو حرام بلا ريب. الوجه السادس: ما في اللعب بها أيضًا من كشف الأفخاذ ونظر بعضهم إلى فخذ بعض ونظر الحاضرين إلى أفخاذ اللاعبين وهذا لا يجوز لأن الفخذ من العورة وستر العورة واجب إلا من الزوجات والسراري لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك» رواه الإمام أحمد وأهل السنن والحاكم في مستدركه من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه وقال الترمذي: هذا حديث حسن وصححه الحاكم ووافقه الذهبي في تلخيصه. والدليل على أن الفخذ من العورة ما رواه مالك وأحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم عن جرهد الأسلمي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر به وهو كاشف عن فخذه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «غط فخذك فإنها من العورة» قال الترمذي: هذا حديث حسن وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

النهي عن كشف الفخذ والنص على أنه عورة

وروى الإمام أحمد والترمذي والحاكم أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الفخذ عورة» هذا لفظ الترمذي. ولفظ الحاكم مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رجل فرأى فخذه مكشوفة فقال: «غط فخذك فإن فخذ الرجل من عورته» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وروى أبو داود وابن ماجه وعبد الله ابن الإمام أحمد والحاكم عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تكشف فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت» وفي رواية للدارقطني: «لا تكشف عن فخذك فإن الفخذ من العورة». وروى الإمام أحمد والبخاري في «التاريخ الكبير» والحاكم في مستدركه عن محمد بن عبد الله بن جحش رضي الله عنه قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا معه على معمر وفخذاه مكشوفتان فقال: «يا معمر غط عليك فخذك فإن الفخذين عورة». وروى الدارقطني في سننه عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما فوق الركبتين من العورة وما أسفل من السرة من العورة». وروي أيضا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما تحت السرة إلى الركبة من العورة». إذا علم هذا فالنظر إلى عورة الغير حرام لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث علي رضي الله عنه: «ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت» ولقوله - صلى الله عليه وسلم -:

«لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة» رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. الوجه السابع: أن اللعب بالكرة من اللهو الباطل قطعًا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق». وفي رواية «وتعليم السباحة» رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي في تلخيصه. فدل هذا الحديث الصحيح على أن اللعب بالكرة من الضلال لقول الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ}. قال الخطابي: في هذا بيان أن جميع أنواع اللهو محظورة وإنما استثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الخلال من جملة ما حرم منها لأن كل واحدة منها إذا تأملتها وجدتها معينة على حق أو ذريعة إليه ويدخل في معناها ما كان من المثاقفة بالسلاح والشد على الأقدام ونحوهما مما يرتاض به الإنسان فيتوقح بذلك بدنه ويتقوى به على مجالدة العدو فأما سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو كالنرد والشطرنج والمزاجلة بالحمام وسائر ضروب اللعب مما لا يستعان به في حق ولا يستجم به لدرك واجب فمحظور كله انتهى. وقوله: فيتوقح بذلك بدنه، معناه يصلب بدنه قال الجوهري: حافر وقاح أي صلب وتوقيح الحافر تصليبه بالشحم المذاب. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى سائر ما

يتلهى به البطالون من أنواع اللهو وسائر ضروب اللعب مما لا يستعان به في حق شرعي كله حرام. قلت: ومن هذا الباب اللعب بالكرة لأنه مجرد لهو ولعب ومرح وعبث وأعظم من ذلك أنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء بين اللاعبين وليس هو مما يستعان به في حق شرعي ولا يستجم به لدرك واجب فهو من اللعب المحظور بلا شك والله أعلم. ثم ذكر الخطابي أن من لعب بالشطرنج وقامر به فهو فاسق ومن لعب به على غير قمار وحمله الولوع بذلك على تأخير الصلاة عن وقتها أو جرى على لسانه الخنا والفحش إذا عالج شيئًا منه فهو ساقط المروءة مردود الشهادة انتهى. وما قاله في اللاعبين بالشطرنج يقال مثله في اللاعبين بالكرة ويزيد أهل الكرة على أهل الشطرنج بالمرح والأشر والتعرض لأنواع الضرر فاللعب بها شر من اللعب بالشطرنج وأعظم منه ضررًا. ومن التعجب أن هذا اللعب الباطل قد جعل في زماننا من الفنون التي تدرس في المدارس ويعتنى بتعلمه وتعليمه أعظم مما يعتنى بتعلم القرآن والعلم النافع وتعليمهما. وهذا دليل على اشتداد غربة الإسلام في هذا الزمان ونقص العلم فيه وظهور الجهل بما بعث الله به رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - حتى عاد المعروف عند الأكثرين منكرًا والمنكر معروفًا والسنة بدعة والبدعة سنة وهذا من مصداق الحديث المتفق على صحته عن أنس رضي الله عنه قال: قال

حكم اللعب بالكرة على الخيل

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل» الحديث. واللعب بالكرة والاعتناء بتعلمه وتعليمه في المدارس وغيرها من ظهور الجهل بلا شك عند من عقل عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.وما أشبه المفتونين باللعب بالكرة بالذين قال الله فيهم: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}. وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن العلوم المفضولة إذا زاحمت العلوم الفاضلة وأضعفتها فإنها تحرم انتهى. وإذا كان الأمر هكذا في العلوم المفضولة مع العلوم الفاضلة فكيف باللعب بالكرة إذا زاحم العلوم الفاضلة وأضعفها كما هو الواقع في زماننا؟ مع أن اللعب بالكرة ليس بعلم وإنما هو لهو ومرح وأشر وبطر فيجب المنع منه لما ذكرنا فيه من التشبه بأعداء الله تعالى كما تقدم بيانه والله أعلم. إذا علم هذا فمن أهدى لبعض اللاعبين بالكرة شيئًا من أجل حذقه في اللعب بها فقد أعان على الباطل. وكذلك من صنع لهم مأكولا أو مشروبا أو أحضره لهم فهو معين لهم على الباطل وقد قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. فصل قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولعب الكرة إذا كان قصد صاحبه المنفعة للخيل والرجال بحيث يستعان بها على

الكر والفر والدخول والخروج ونحوه في الجهاد وغرضه الاستعانة على الجهاد الذي أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو حسن وإن كان في ذلك مضرة بالخيل والرجال فإنه ينهى عنه انتهى. وهذا اللعب الذي تكلم فيه شيخ الإسلام وفصل القول فيه هو ما كان معروفًا في زمانه وقبله بأزمان وبعده كذلك إلى قريب من زماننا وهو اللعب بالكرة على الخيل يضربها الراكب ثم يسوق فرسه خلفها لتعتاد على الكر والفر والدخول والخروج وهذا اللعب بحسب نية صاحبه فإن كان قصده حسنًا وهو أن يتعلم الفروسية ويرتاض على أمور الجهاد في سبيل الله عز وجل فاللعب بها من هذا الوجه حسن لما يترتب عليه من الفوائد الشرعية. وإن كان قصد اللاعب بها اللهو واللعب لا غير فهذا ينهى عنه. وكذلك إذا كان فيه مضرة على الخيل والرجال فإنه ينهى عنه من أجل المضرة. وهذا اللعب نوع واللعب المأخوذ عن الإفرنج وأشباههم نوع آخر. وهذا النوع الأخير وهو المأخوذ عن الإفرنج وأضرابهم ليس فيه منفعة للجهاد ولا إعانة على حق شرعي بوجه من الوجوه بل كله شر وضرر محض فالواجب على ولاة أمور المسلمين المنع منه بالكلية. وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن اللعب بالسيف والرمح فأجاز ذلك بشرطين: أحدهما: أن يكون السيف والرمح من خشب لا من حديد، والثاني

أن يريد به غيظ العدو ولا يريد به التظرف. ذكر ذلك عنه أبو داود رحمه الله تعالى. ويتخرج على هذه الرواية المنع من اللعب بالكرة على الوجه المعمول به في زماننا لأنه إنما يراد به التظرف لا غير. وهذا مع قطع النظر عما في اللعب بها من الأمور المحرمة التي تقدم ذكرها. فلو انتفت تلك الأمور عن اللعب بها لتوجه المنع منه على هذه الرواية ودليلها حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه الذي تقدم ذكره قريبا والله أعلم. فصل فإن ادعى المتشبهون بأعداء الله تعالى أنهم إنما يريدون باللعب بالكرة رياضة الأبدان لتعتاد على النشاط والصلابة. فالجواب أن يقال: إن الله تعالى قد جعل للمسلمين في الرياضات الشرعية غنية ومندوحة عن الرياضات الإفرنجية. فمن ذلك المسابقة على الخيل وقد سابق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينها وفعل ذلك أصحابه والمسلمون بعدهم. وفي الصحيحين والموطأ ومسند الإمام أحمد والسنن الأربع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء وأمدها ثنية الوداع وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق وأن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان فيمن سابق بها.

وفي رواية لأحمد والدارقطني قال عبد الله: فكنت فارسًا يومئذ فسبقت الناس طفف بي الفرس مسجد بني زريق. ورواه مسلم بنحوه. قال ابن الأثير: طفف بي الفرس مسجد بني زريق أي: وثب بي حتى كاد يساوي المسجد يقال: طففت بفلان موضع كذا أي رفعته إليه وحاذيته به. وقال النووي: طفف بي الفرس المسجد، أي: علا ووثب إلى المسجد وكان جداره قصيرًا. قلت: وقد جاء ذلك في رواية للدارقطني ولفظه قال عبد الله: فجئت سابقًا فطفف بي الفرس حائط المسجد وكان قصيرًا. وفي رواية له قال فوثب بي الجدار. قال ابن حجر في «الفتح»: في الحديث مشروعية المسابقة وأنه ليس من العبث بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو والانتفاع بها عند الحاجة وهي دائرة بين الاستحباب والإباحة بحسب الباعث على ذلك انتهى. وروى الإمام أحمد أيضًا والدارمي والدارقطني والبيهقي عن أنس رضي الله عنه أنه قيل له: أكنتم تراهنون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يراهن؟ قال: نعم، والله لقد راهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فرس له يقال له: سبحة فجاءت سابقة فبهش لذلك وأعجبه. وروى البيهقي أيضُا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل: أكنتم تراهنون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم لقد راهن على فرس يقال لها سبحة فجاءت سابقة. قال ابن منظور في لسان العرب: المراهنة والرهان المسابقة على

الخيل وغير ذلك. وكذا قال صاحب القاموس: المراهنة والرهان المخاطرة والمسابقة على الخيل. وقوله: فبهش لذلك معناه فرح به وارتاح له. وفي سنن الدارقطني عن علي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا علي قد جعلت إليك هذه السبقة بين الناس» فخرج علي رضي الله عنه فدعا سراقة بن مالك فقال: يا سراقة إني قد جعلت إليك ما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في عنقي من هذه السبقة فإذا أتيت الميطان-قال أبو عبد الرحمن والميطان: مرسلها من الغاية-فصف الخيل ثم ناد هل من مصلح للجام أو حامل لغلام أو طارح لجل، فإذا لم يجبك أحد فكبر ثلاثًا ثم خلها عند الثالثة يسعد الله بسبقه من شاء من خلقه فكان علي رضي الله عنه يقعد عند منتهى الغاية ويخط خطًا يقيم رجلين متقابلين عند طرف الخط طرفه بين إبهامي أرجلهما وتمر الخيل بين الرجلين ويقول لهما إذا خرج أحد الفرسين على صاحبه بطرف أذنيه أو أذن أو عذار فاجعلوا السبقة له فإن شككتما فاجعلا سبقهما نصفين فإذا قرنتم ثنتين فاجعلوا الغاية من غاية أصغر الثنتين ولا جلب ولا شغار في الإسلام. وفي المسند وصحيح ابن حبان عن عياض الأشعري قال: قال أبو عبيدة رضي الله عنه: من يراهنني؟ فقال شاب: أنا إن لم تغضب قال فسبقه فرأيت عقيصتي أبي عبيدة تنقزان وهو خلفه على فرس عربي. ومن الرياضات الشرعية أيضًا المسابقة على الإبل وقد فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعله أصحابه والمسلمون بعدهم. وفي صحيح البخاري والمسند وسنن أبي داود والنسائي عن حميد الطويل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة تسمى

العضباء لا تسبق أو لا تكاد تسبق فجاء أعرابي على قعود فسبقها فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه فقال: «حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه». وفي رواية للنسائي عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال: سابق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعرابي فسبقه فكأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجدوا في أنفسهم من ذلك فقيل له في ذلك فقال: «حق على الله أن لا يرفع شيء نفسه في الدنيا إلا وضعه الله» وكذا رواه الدارقطني في سننه من طريق النسائي. وفي رواية لأبي داود عن ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال: كانت العضباء لا تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسابقها فسبقها الأعرابي فكأن ذلك شق على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «حق على الله عز وجل أن لا يرفع شيء إلا وضعه» ورواه البخاري تعليقًا. وفي سنن الدارقطني عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كانت ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القصوى لا تدفع في سباق إلا سبقت قال سعيد بن المسيب فجاء رجل فسابقها فسبقها فوجد الناس من ذلك أن سبقت ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلغ ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إن الناس لم يرفعوا شيئا من هذه الدنيا إلا وضعه الله عز وجل». وفي رواية له عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كانت القصوى لا تسبق، جاء أعرابي على بكر فسابقه فسبقها فشق ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول الله سبقت العضباء وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنه حق على الله أن لا يرفع شيء من الأرض إلا وضعه».

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: تأمل قوله: «ألا يرفع شيء» وفي اللفظ الثاني: «ألا يرتفع شيء من الدنيا إلى وضعه» فجعل الوضع لما رفع أو ارتفع لا لما رفعه سبحانه إذا رفع عبده بطاعته وأعزه بها لا يضعه بها انتهى. ومن الرياضات الشرعية أيضًا المسابقة على الأقدام وقد فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعله أصحابه والمسلمون بعدهم. وروى الشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر قالت فسابقته فسبقته على رجلي فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال: «هذه بتلك السبقة». وفي رواية أنهم كانوا في سفر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: «تقدموا» فتقدموا ثم قال لعائشة: «سابقيني» فسابقها فسبقته ثم سابقني وسبقني فقال: «هذه بتلك». وفي المسند وصحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه في حديثه الطويل في غزوة ذي قرد قال: ثم أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة قال: فبينما نحن نسير قال: وكان رجل من الأنصار لا يسبق شدًا قال فجعل يقول: ألا مسابق إلى المدينة هل من مسابق؟ فجعل يعيد ذلك قال: فلما سمعت كلامه قلت: أما تكرم كريمًا ولا تهاب شريفًا؟ قال: لا، إلا أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قلت: يا رسول الله بأبي وأمي ذرني فلأسابق الرجل قال: «إن شئت»، قال قلت: أذهب إليه

وثنيت رجلي فطفرت فعدوت قال: فربطت عليه شرفا أو شرفين أستبقي نفسي ثم عدوت في أثره فربطت عليه شرفا أو شرفين ثم إني رفعت حتى ألحقه قال فأصكه بين كتفيه قال قلت: قد سبقت والله قال: أنا أظن قال: فسبقته إلى المدينة. قال النووي قوله: شدًا يعني عدوًا على الرجلين وقوله: فطفرت أي وثبت وقفزت، وقوله فربطت عليه شرفا أو شرفين استبقي نفسي معنى ربطت حبست نفسي عن الجري الشديد. والشرف ما ارتفع من الأرض. وقوله: استبقي نفسي بفتح الفاء أي لئلا يقطعني البهر. وفي هذا دليل لجواز المسابقة على الأقدام وهو جائز بلا خلاف إذا تسابقا بلا عوض فإن تسابقا على عوض ففي صحتها خلاف الأصح عند أصحابنا لا تصح. قلت وهو مذهب مالك وأحمد. ومن الرياضات الشرعية أيضا المصارعة. وقد روى أبو داود والترمذي والبخاري في التاريخ من حديث أبي جعفر بن محمد بن ركانة عن أبيه أن ركانة صارع النبي - صلى الله عليه وسلم - فصرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الترمذي: هذا حديث غريب وإسناده ليس بقائم. قال ابن حجر العسقلاني في «الإصابة»: وقصة الصراع مشهورة لركانة لكن جاء من وجه آخر أنه يزيد بن ركانة فأخرج الخطيب في المؤتلف من طريق أحمد بن عتاب العسكري حدثنا حفص بن عمر حدثنا حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء يزيد بن ركانة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه ثلاثمائة

من الغنم فقال: يا محمد هل لك أن تصارعني؟ قال: «وما تجعل إن صرعتك» قال: مائة من الغنم فصارعه فصرعه، ثم قال هل لك في العود فقال: «ما تجعل لي قال؟»: مائة أخرى فصارعه فصرعه وذكر الثالثة فقال: يا محمد ما وضع جنبي في الأرض أحد قبلك وما كان أحد أبغض إلي منك وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقام عنه ورد عليه غنمه. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: روى أبو بكر الشافعي بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يزيد بن ركانة صارع النبي - صلى الله عليه وسلم - فصرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات كل مرة على مائة من الغنم وذكر بقية القصة بمثل ما في رواية الخطيب. وذكر ابن إسحاق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعرض غلمان الأنصار فمر به غلام فأجازه في البعث وعرض عليه سمرة بن جندب رضي الله عنه فرده فقال لقد أجزت هذا ورددتني ولو صارعته لصرعته قال: فدونكه فصارعه فصرعه سمرة فأجازه. ورواه ابن عبد البر في «الاستيعاب» بنحوه. ومن الرياضات الشرعية أيضًا الرمي ونحوه مما فيه إعانة على الجهاد في سبيل الله عز وجل. وقد روى الإمام أحمد والبخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفر من أسلم ينتضلون فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا ارموا وأنا مع بني فلان» قال فأمسك أحد الفريقين بأيديهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما لكم لا ترمون» قالوا: كيف نرمي وأنت معهم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ارموا وأنا معكم كلكم». قال الجوهري: ناضله أي: راماه يقال: ناضلت فلانا فنضلته إذا غلبته

وانتضل القوم وتناضلوا أي: رموا للسبق وفلان يناضل عن فلان إذا تكلم عنه بعذره ودافع. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن الأعمش عن زياد بن حصين عن أبي العالية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفر يرمون فقال: «رميًا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا». ورواه ابن ماجه في سننه عن محمد بن يحيى والحاكم في مستدركه من طريق إسحاق بن إبراهيم الصنعاني وأحمد بن حنبل كلهم عن عبد الرزاق به وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى الحاكم أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوم من أسلم يرمون فقال: «ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا ارموا وأنا مع ابن الأدرع» فأمسك القوم قسيهم فقالوا: يا رسول الله من كنت معه غلب قال: «ارموا وأنا معكم كلكم» قال الحاكم صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى الحاكم أيضًا عن محمد بن إياس بن سلمة عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على ناس ينتضلون فقال: «حسن هذا اللهم -مرتين أو ثلاثا- ارموا وأنا مع ابن الأدرع» فأمسك القوم بأيديهم فقالوا: لا والله لا نرمي معه وأنت معه يا رسول الله إذا ينضلنا فقال: «ارموا وأنا معكم جميعًا» قال فلقد رموا عامة يومهم ذلك ثم

تفرقوا على السواء ما نضل بعضهم بعضًا. قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى الإمام أحمد وأهل السنن من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير والذي يجهز به في سبيل الله والذي يرمي به في سبيل الله - وقال- ارموا واركبوا وأن ترموا خير لكم من أن تركبوا - وقال- كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثًا رميه عن قوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق»، قال الترمذي: هذا حديث حسن وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي في تلخيصه. وعند الحاكم في أوله قصة ولفظه عن خالد بن زيد الجهني قال: كنت راميًا أرامي عقبة بن عامر رضي الله عنه فمر بي ذات يوم فقال: يا خالد اخرج بنا نرمي فأبطأت عليه فقال: يا خالد تعال أحدثك ما حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقول لك كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة صانعه الذي احتسب في صنعته الخير ومتنبله والرامي. ارموا واركبوا وأن ترموا أحب إليَّ من أن تركبوا وليس من اللهو إلا ثلاثة تأديب الرجل فرسه وملاعبته زوجته ورميه بنبله عن قوسه ومن علم الرمي ثم تركه فهي نعمة كفرها»، وقد رواه سعيد بن منصور والنسائي بنحو هذا اللفظ. وفي رواية أبي داود «ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها - أو قال - كفرها».

ورواه أبو داود الطيالسي والدارمي في مسنديهما بنحو ما تقدم وعندهما في آخره وقال: «من ترك الرمي بعدما علمه فقد كفر الذي علمه». وفي صحيح مسلم عن الحارث بن يعقوب عن عبد الرحمن بن شماسة أن فقيمًا اللخمي قال لعقبة بن عامر رضي الله عنه: تختلف بين هذين الغرضين وأنت كبير يشق عليك قال عقبة لولا كلام سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم أعانه قال الحارث: فقلت: لابن شماسة وما ذاك قال: إنه قال: «من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى». وفي المسند وصحيح مسلم وجامع الترمذي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه». وفي المسند أيضًا عن أبي أمامة بن سهل قال: كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: «أن علموا غلمانكم العوم ومقاتلتكم الرمي» فكانوا يختلفون إلى الأغراض. الحديث. قال أهل اللغة العوم السباحة. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في «زوائد الزهد» وأبو نعيم في «الحلية» عن بلال بن سعد رحمه الله قال: أدركتهم يشتدون بين الأغراض ويضحك بعضهم إلى بعض فإذا كان الليل كانوا رهبانًا. وذكر الشيخ أبو محمد المقدسي في «المغني» عن مجاهد قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يشتد بين الهدفين إذا أصاب خصلة قال أنا بها أنا بها. وعن حذيفة رضي الله عنه مثله.

ذكر الرياضات الشرعية

وذكر الطبراني عن مصعب بن سعد قال: كان سعد رضي الله عنه يقول: أي بني تعلموا الرماية فإنها خير لعبكم. وذكر الشيخ أبو محمد المقدسي أيضًا عن مجاهد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الملائكة لا تحضر من لهوكم إلا الرهان والنضال» قال الأزهري النضال في الرمي والرهان في الخيل والسباق فيهما. وذكر الشيخ أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بقوم يربعون حجرًا يعني يرفعونه ليعرفوا الأشد منهم فلم ينكر عليهم. قال القرطبي لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب وعلى الأقدام وكذا الترامي بالسهام واستعمال الأسلحة لما في ذلك من التدريب على الحرب انتهى .. فهذا ما تيسر ذكره من رياضات المسلمين ولهوهم المباح وفيها كفاية لكل مسلم، ومن لم يكتف بالرياضات الشرعية ولم يسعه ما وسع السلف الصالح فلا كفاه الله ولا وسع عليه في الدنيا والآخرة. ومن آثر الرياضات الإفرنجية على الرياضات الشرعية فذلك عنوان على زيغ قلبه. عياذًا بالله من موجبات غضبه. فصل النوع التاسع والعشرون: من التشبه بأعداء الله تعالى ما يفعله أهل المدارس وغيرهم من إقامة التمثيليات للماضين وأفعالهم مضاهاة لما يفعله النصارى في عيد الشعانين فإنهم يخرجون فيه بورق الزيتون ونحوه يزعمون أن ذلك مشابهة لما جرى للمسيح حين دخل إلى بيت المقدس

النوع الثلاثون جعل الولاية العامة جمهورية

راكبًا أتانًا مع جحشها فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فثار عليه غوغاء الناس وكان اليهود قد وكلوا قومًا معهم عصي يضربونه بها فأورقت تلك العصي وسجد أولئك الغوغاء للمسيح فعيد الشعانين مشابهة لذلك الأمر ذكر هذا شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى. وإقامة التمثيليات للأمور الماضية هي من باب ما يفعله النصارى في عبد الشعانين ولم يكن ذلك من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من هدي أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين. ولم يكن من عمل التابعين وتابعيهم بإحسان وإنما حدث ذلك في زماننا وهو متلقى عن الإفرنج وأشباههم وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» رواه الشيخان وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها. وفي رواية لأحمد ومسلم والبخاري تعليقًا مجزوما به: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد». وفي هذا الحديث دليل على المنع من إقامة التمثيليات لأنها من المحدثات ويدل على ذلك أيضا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» وحديث «ليس منا من تشبه بغيرنا». فصل النوع الثلاثون: من التشبه بأعداء الله تعالى جعل الولاية العامة جمهورية وهذا من عمل أمم الكفر والضلال ومن يقتدي بهم من المنتسبين إلى الإسلام وهو خلاف ما تقتضيه الشريعة الإسلامية من نصب إمام واحد لا غير كما في الصحيحين والمسند وسنن ابن ماجه

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء فيكثرون» قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «فوا بيعة الأول فالأول أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم». وفي المسند وصحيح مسلم وسنني النسائي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر». وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما». وفي هذه الأحاديث دليل على أن البيعة لا تجوز لأكثر من واحد وأن الجمهورية لا تجوز في الإسلام وأنه لا يجوز الخروج على ولاة الأمور وإن ظلموا وجاروا وإن الخارج عليهم لينازعهم الملك يجب قتله. وفي مستدرك الحاكم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجعه ومن مات وليس عليه إمام جماعة فإن موتته موتة جاهلية» قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي الصحيحين وغيرهما عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا

الخير فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: «نعم» فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم وفيه دخن» قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر» فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها» فقلت: يا رسول الله صفهم لنا قال «نعم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا» قلت: يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: «تلتزم جماعة المسلمين وإمامهم» قلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك». وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده بنحوه وزادت قلت: يا رسول الله فما يكون بعد ذلك قال: «الدجال». وفي رواية لمسلم قلت: يا رسول الله إنا كنا بشر فجاءنا الله بخير فنحن فيه فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: «نعم» قلت: هل من وراء ذلك الشر خير؟ قال: «نعم» قلت فهل وراء ذلك الخير شر قال: «نعم» قلت كيف؟ قال: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس» قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك قال: «تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع» وفي هذا الحديث والذي قبله دليل على أن الجمهورية ليست من أمر الإسلام وأن المشروع للمسلمين نصب إمام واحد وطاعته ولو كان فيه غشم وظلم للرعية.

وروى أبو داود الطيالسي ومسلم والترمذي عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجل يسأله فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» هذا لفظ الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح. وروى أبو داود الطيالسي ومسلم أيضًا والبخاري في «التاريخ الكبير» عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع» قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: «لا ما صلوا». وفي صحيح مسلم أيضًا عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم» قيل: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: «لا ما أقاموا فيكم الصلاة وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدًا من طاعة». وفي رواية «ألا من ولي عليه فرآه يأتي شيئًا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدًا من طاعة». وفي مستدرك الحاكم عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فقام فوعظ الناس ورغبهم وحذرهم وقال ما شاء الله أن يقول ثم قال: «اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وأطيعوا من ولاه الله أمركم ولا تنازعوا الأمر أهله ولو كان عبداً أسود وعليكم بما تعرفون من

النوع الحادي والثلاثون تدريب الجنود على الأنظمة الإفرنجية

سنة نبيكم والخلفاء الراشدين المهديين وعضوا على نواجذكم بالحق» قال الحاكم: إسناده صحيح على شرطهما جميعًا ولا أعرف له علة ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي هذه الأحاديث دليل على أنه لا يجوز الخروج على ولاة الأمور كما يفعل كثير من المنتسبين إلى الإسلام ممن قد جعلوا ولاية أمرهم إلى جمهورية وعدد كثير اتبعوا في ذلك سنن كثير من دول الإفرنج وأضرابهم من أعداء الله تعالى وخالفوا شريعة الإسلام وما تقتضيه من نصب إمام واحد لا غير والسمع والطاعة له في المعروف وإن ظلم الرعية وجار في حكمه. وخالفوا أيضًا ما كان عليه المسلمون منذ زمن الصحابة رضي الله عنهم إلى زماننا. والأحاديث بنحو ما ذكرته كثيرة وفيما ذكرته كفاية لمبتغي الحق والله الموفق. فصل النوع الحادي والثلاثون: من التشبه بأعداء الله تعالى تدريب الجنود على الأنظمة الإفرنجية وتشكيلهم بشكل أعداء الله تعالى في اللباس والمشي وغير ذلك من الإشارات والحركات المبتدعة. وقد فشي هذا التشبه المذموم في كثير من المنتسبين إلى الإسلام والدليل على تحريمه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» وقوله في الحديث الآخر: «ليس منا من تشبه بغيرنا». فأما تعلم الرمي وما يتبع ذلك من استعمال الآلات الحربية الحادثة

النوع الثاني والثلاثون إسقاط لفظة ابن في النسب

في هذه الأزمان من برية وبحرية وجوية فذلك مطلوب مرغب فيه للجهاد في سبيل الله ومكافحة أعداء الله قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} الآية. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إن القوة الرمي» قالها ثلاث مرات رواه الإمام أحمد ومسلم والدارمي وأهل السنن إلا النسائي من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. فصل النوع الثاني والثلاثون: من التشبه بأعداء الله تعالى إسقاط لفظة ابن في النسب كقولهم لمن اسمه أحمد بن محمد أحمد محمد ونحو ذلك وهذا معروف عن الإفرنج من قرون كثيرة وقد وقع في تقليدهم فيه ما لا يحصيه إلا الله تعالى. وهؤلاء المفتونون بالتقاليد الإفرنجية قد خالفوا الكتاب والسنة وما عليه المسلمون منذ عهد الصحابة إلى زمن قريب. فأما مخالفتهم للقرآن فقد ذكر الله تعالى عيسى ابن مريم في مواضع منه يقول في كل منها عيسى ابن مريم ولم يقل عيسى مريم وقال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} الآية. ولم يقل ومريم عمران. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال يعني الله تبارك وتعالى: «لا ينبغي لعبد لي -وفي رواية- لعبدي أن يقول أنا خير من يونس بن متى».

وأما مخالفتهم للسنة فروى الإمام أحمد والترمذي عن المطلب بن أبي وداعة رضي الله عنه قال: قال العباس رضي الله عنه بلغه - صلى الله عليه وسلم - بعض ما يقول الناس قال فصعد المنبر فقال: «من أنا؟» قالوا: أنت رسول الله قال: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب» الحديث. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وفي المسند وصحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -». وفي المسند أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن» وفي الصحيحين والمسند وسنن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» زاد أحمد والشيخان ونسبه إلى أبيه. وفي المسند وسنن أبي داود عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما ينبغي لنبي أن يقول: إني خير من يونس بن متى». وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ولا أقول إن أحدا أفضل من يونس بن متى». وفي المسند وصحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس

ابن متى» وفي المسند أيضا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عبد الله بن عمرو إنك تصوم الدهر» وذكر تمام الحديث وأصله في الصحيحين. وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل فقال: «يا معاذ بن جبل» قلت: لبيك رسول الله وسعديك ثم سار ساعة ثم قال: «يا معاذ بن جبل» قلت: لبيك رسول الله وسعديك ثم سار ساعة ثم قال: «يا معاذ بن جبل» قلت: لبيك رسول الله وسعديك قال: «هل تدري ما حق الله على العباد؟» قال قالت: الله ورسوله أعلم الحديث. وفي الصحيحين والمسند وجامع الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «استقرءوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب». وفي جامع الترمذي أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر وأصدقهم حياء عثمان بن عفان وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت وأقرأهم أبي بن كعب ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» قال الترمذي: هذا حديث غريب. وفي جامع الترمذي أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نعم الرجل أبو بكر نعم الرجل عمر نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح نعم الرجل أسيد بن حضير نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس نعم الرجل معاذ بن جبل نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجموح».

النوع الثالث والثلاثون الاعتماد في التاريخ على ميلاد عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام

قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقد رواه البخاري في التاريخ الكبير بمثله. والأحاديث بنحو ما ذكرته كثيرة جدًا. ولم يؤثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسقط لفظة ابن في النسب وخير الهدي هديه - صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «هدينا مخالف لهديهم» -يعني المشركين-رواه الحاكم في مستدركه من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنهما وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وافقه الذهبي في تلخيصه. وأما مخالفتهم لما عليه المسلمون قديما وحديثا فمما لا يخفى على طالب علم. وما كان المسلمون يعرفون إسقاط لفظة ابن في النسب حتى كثرت مخالطتهم لطوائف الإفرنج فافتتن الجهال بتقليدهم واتباع سننهم حذو النعل بالنعل. فصل النوع الثالث والثلاثون: من التشبه بأعداء الله تعالى الاعتماد في التاريخ على ميلاد عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام متابعة للنصارى ورغبة عما كان عليه المسلمون من اعتماد التاريخ بهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة. وقد وقع في هذه المشابهة فئام كثيرة من المنتسبين إلى الإسلام وهؤلاء قد جمعوا بين أمرين ذميمين.

النوع الرابع والثلاثون الاعتماد في المواقيت على الأشهر الإفرنجية

أحدهما: التشبه بأعداء الله تعالى: والثاني: الرغبة عما اتفق عليه الصحابة وفيهم الخلفاء الراشدون عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وعمل بذلك المسلمون بعدهم إلى زماننا سوى الذين سفهوا أنفسهم بالشذوذ عن المسلمين واتباع سنن أعداء الله تعالى والأخذ بأخذهم حذو النعل بالنعل فبئس للظالمين بدلا. وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}. فصل النوع الرابع والثلاثون: من التشبه بأعداء الله تعالى الاعتماد في المواقيت على الأشهر الإفرنجية متابعة للإفرنج ورغبة عما كان عليه المسلمون من الاعتماد في ذلك على الأشهر العربية. وما أكثر الواقعين في هذه المشابهة. وقد وقت الله تبارك وتعالى للمسلمين بالأشهر العربية فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}. فمن رغب عن التوقيت بالأشهر العربية فقد رغب عما شرعه الله للمسلمين واتبع سنن أعداء الله الضالين. فصل النوع الخامس والثلاثون: من التشبه بأعداء الله تعالى الاعتماد في دخول الشهور العربية على الحساب لا على رؤية الهلال.

وقد ذكر القول بهذا عن بعض أهل العلم في زماننا. ولازم هذا القول الاعتماد في دخول شهر الصوم وخروجه على قول المعتنين بالحساب وتسيير النيرين. والاعتماد أيضا على قولهم في كل المواقيت المتعلقة بالأهلة. وهذا خلاف الكتاب والسنة وما عليه المسلمون من عهد الصحابة إلى زماننا. أما الكتاب فقد قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}. فجعل الله تبارك تعالى العمل في المواقيت بالأهلة لا بالحساب. وأما السنة فروى عبد الرزاق عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمَّ عليكم فعدوا ثلاثين يومًا» ورواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وفي الصحيحين والمسند وسنني أبي داود والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنا أمة أمية لا تكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا» وعقد الإبهام في الثالثة: «والشهر هكذا وهكذا وهكذا» يعني تمام الثلاثين. هذا لفظ أحمد ومسلم وهو عند النسائي كذلك سوى قوله في آخره يعني فليس هذا الحرف في روايته. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: وصف هذه الأمة بترك الكتابة والحساب الذي يفعله غيرها من الأمم في أوقات عباداتهم وأعيادهم وأحالها على الرؤية حيث قال في غير حديث: «صوموا

لرؤيته وأفطروا لرؤيته». وفي رواية «صوموا من الوضح إلى الوضح» أي: من الهلال إلى الهلال. وهذا دليل على ما أجمع عليه المسلمون إلا من شذ من بعض المتأخرين المخالفين المسبوقين بالإجماع من أن مواقيت الصوم والفطر والنسك إنما تقام بالرؤية عند إمكانها لا بالكتاب والحساب الذي تسلكه الأعاجم من الروم والفرس والقبط والهند وأهل الكتاب من اليهود والنصارى. قال: وبالجملة فالحديث يقتضي اختصاص هذه الأمة بالوصف الذي فارقت به غيرها وذلك يقتضي أن ترك المشابهة للأمم أقرب إلى حصول الوفاء بالاختصاص. وقال الشيخ في موضع آخر: ظن طائفة من الجهال أنهم يضبطون وقت طلوع الهلال بمعرفتهم وقت ظهوره بعد استسراره وبمعرفة بعده عن الشمس بعد مفارقتها وقت الغروب وضبطهم قوس الرؤية. قال: وهذه دعوى باطلة اتفق علماء الشريعة على تحريم العمل بذلك في الهلال فاتفق علماء الحساب العقلاء على أن معرفة الهلال لا تنضبط بالحساب ضبطًا صحيحًا قط ولم يتكلم فيه إلا قوم من المتأخرين تقريبًا وذلك ضلال عن دين الله وتغيير له شبيه بضلال اليهود والنصارى عما أمروا به من الهلال إذا غابت الشمس وقت اجتماع القرصين وكبس الشهور الهلالية وذلك من النسيء الذي كان في العرب زيادة في الكفر. فمن أخذا علم الهلال بالحساب فهو فاسد العقل والدين. وقال ابن حجر في قوله: «لا نحسب» المراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها ولم يكونوا يعرفون من ذلك إلا النذر اليسير فعلق

النوع السادس والثلاثون قراءة القرآن بلحون الغناء والأوضاع الموسيقية

الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً. ويوضحه قوله في الحديث: «فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين». ولم يقل: فسلوا أخل الحساب. والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم. وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك وهم الروافض. ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم. قال الباجي: وإجماع السلف حجة عليهم. وقال ابن بزيزة: وهو مذهب باطل. فصل النوع السادس والثلاثون: من التشبه بأعداء الله تعالى قراءة القرآن بلحون الغناء والأوضاع الموسيقية وقد وقع في هذه المشابهة كثير من المنتسبين إلى الإسلام ولا سيما قراء الإذاعات ومن شاكلهم. وقد ورد النهي عن ذلك في حديث رواه أبو عبيد القاسم بن سلام والطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقرءوا القرآن بلحون بالعرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابين وسيجيء قومن من بعدي يرجعون بالقرآن

النوع السابع والثلاثون الاهتزاز وتحريك الرءوس عند قراءة القرآن

ترجيع الغناء والرهبانية والنوح لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم». وهذا الحديث وإن كان في إسناده مقال فقد شهد له الواقع بالصحة وشهادة الواقع له من أوضح البراهين على خروجه من مشكاة النبوة والله أعلم. فصل النوع السابع والثلاثون: من التشبه بأعداء الله تعالى ما يفعله كثير من الناس من الاهتزاز وتحريك الرءوس عند قراءة القرآن إن ثبت أن اليهود كانت تفعل مثل ذلك عند قراءة التوراة. فقد روى سنيد بن داود في تفسيره عن حجاج بن محمد عن أبي بكر بن عبد الله قال: لما نشر موسى الألواح فيها كتاب الله كتبه بيده لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز فليس اليوم يهودي على وجه الأرض صغير ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونغض لها رأسه. قلت: إن كان هذا صحيحًا عن اليهود فمثله ما ذكرنا عن كثير من المسلمين ولا يجوز ذلك إن ثبت أن اليهود كانت تفعله. فصل النوع الثامن والثلاثون: من التشبه بأعداء الله تعالى إجراء بعض الأحكام والأمر والنهي على الضعفاء من الناس وترك الأكابر والرؤساء منهم

النوع التاسع والثلاثون ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وقد وقع في هذه المشابهة كثير من الناس وهي من أعظم أسباب الضلال والهلاك. لما في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد». وفي رواية للبخاري: «إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا يقيمون الحد على الوضيع ويتركون على الشريف». فصل النوع التاسع والثلاثون: من التشبه بأعداء الله تعالى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد جاء الذم البليغ والوعيد الشديد على ذلك قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}. وفي المسند والسنن إلا النسائي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون» وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متكئًا فجلس فقال: «لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرًا» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

النوع الأربعون لبس الحق بالباطل

ولفظ أبي داود: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول له: اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} إلى قوله: {فَاسِقُونَ} ثم قال كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرانه على الحق أطرًا أو لتقصرنه على الحق قصرًا». وفي رواية له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه وزاد: «أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم». فصل النوع الأربعون: من التشبه بأعداء الله تعالى لبس الحق بالباطل كما يفعله اليهود وهذه المشابهة واقعة من كثير من المنتسبين إلى العلم. وقد رأيت ذلك في كلام كثير من العصريين في كتبهم وصحفهم. فصل النوع الحادي والأربعون: مشابهة اليهود في تحريف الكلم عن مواضعه وهذا واقع من كثير من المتقدمين والمتأخرين ولاسيما في زماننا. ومن رزقه الله البصيرة رأى ذلك في كتبهم ومقالاتهم. فصل النوع الثاني والأربعون: مشابهة اليهود في قولهم سمعنا وعصينا.

النوع الثالث والأربعون الوعظ والتذكير والأمر بالبر والتقوى ومخالفة ذلك بالفعل

وهذا يقع من كثير من المنتسبين إلى العلم وهو في غيرهم كثير جدًا وأكثر ما يكون ذلك بلسان الحال ويكون أيضًا بالمقال. فصل النوع الثالث والأربعون: من مشابهة اليهود ما يفعله كثير من المنتسبين إلى العلم من الوعظ والتذكير وأمر الناس بالبر والتقوى وهم مع ذلك ينسون أنفسهم ويخالفون أقوالهم بأفعالهم السيئة وهؤلاء جديرون بالمقت والعقوبة قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}. وقال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} وفي هذه الآيات أبلغ تقريع وتوبيخ لمن أمر الناس بالبر والتقوى ونسي نفسه. فليحذر الخطباء والوعاظ والقصاص من سوء عاقبة المخالفة بين الأقوال والأفعال. وقد وردت أحاديث كثيرة في ذم من يفعل ذلك والوعيد الشديد له في الآخرة. منها ما في صحيح البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} فتكتب شهادة في أعناقكم فتسئلون عنها يوم القيامة. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه

وبالبر ويخالفون فعيرهم الله عز وجل وقد رواه ابن جرير من طريق عبد الرزاق. وروى ابن جرير أيضًا عن السدي نحو ذلك. وروى أيضًا عن ابن جريج في قوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} قال: أهل الكتاب والمنافقون كانا يأمرون الناس بالصوم والصلاة ويدعون العمل بما يأمرون به الناس فعيرهم الله بذلك فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة. وروى أبو نعيم في «الحلية» عن الأوزاعي أنه قال: إن المؤمن يقول قليلاً ويعمل كثيرًا وإن المنافق يقول كثيرًا ويعمل قليلاً. وروى ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاءه رجل فقال: يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر قال: أبلغت ذلك قال: أرجو قال: إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل قال: وما هن؟ قال: قول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أحكمت هذه؟ قال: لا، قال: فالحرف الثاني قال قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}. أحكمت هذه؟ قال: لا، قال: فالحرف الثالث قال: قول العبد الصالح شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ}. أحكمت هذه الآية؟ قال: لا قال: فابدأ بنفسك. وذكر الحافظ ابن كثير عن إبراهيم النخعي أنه قال: إني لأكره القصص لثلاث آيات قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ

تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}. وقوله إخبارًا عن شعيب {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}. وروى الإمام أحمد في «الزهد» وأبو نعيم في «الحلية» عن مالك بن دينار قال: أوحى الله إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أن يا عيسى عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني. ومنها ما رواه الطبراني وأبو نعيم في «الحلية» عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في سخط الله حتى يكف أو يعمل بما قال أو دعا إليه». ومنها ما رواه الطبراني أيضًا والحافظ الضياء المقدسي عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه». ومنها ما رواه الطبراني أيضًا والبزار عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه مرفوعًا «مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها». ومنها ما رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي وعبد بن حميد وابن حبان في صحيحه وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي والبغوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: الخطباء من أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون».

وفي رواية لابن مردويه: «تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار» ورواه أبو نعيم في الحلية، بنحوه. وفي رواية له عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وفت قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون ويقرءون كتاب الله ولا يعملون به». وروى أبو نعيم أيضًا عن مالك بن دينار قال: ما من خطيب يخطب إلا عرضت خطبته على عمله فإن كان صادقًا صدق وإن كان كاذبًا قرضت شفتاه بمقراض من نار كلما قرضتا نبتتا. ومنها ما في الصحيحين وغيرهما عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلا مالك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهىعن المنكر فيقول: بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه». الأقتاب الأمعاء واحدها قتب بكسر القاف وسكون المثناة الفوقية واندلاقها خروجها من جوفه بسرعة قاله غير واحد من أئمة اللغة. ومنها ما رواه ابن جرير عن الوليد بن عقبة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أناسًا من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون: بم دخلتم النار فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل».

النوع الرابع والأربعون استحلال المحرمات بالحيل

وروى الإمام أحمد في «الزهد» عن الشعبي قال: يشرف أهل الجنة في الجنة على قوم في النار فيقولون: ما لكم في النار وإنما كنا نعمل بما تعلمونا فيقولون إنا كنا نعلمكم ولا نعمل به. وروى أبو نعيم في «الحلية» عن قتادة قال: إن في الجنة كوى إلى النار فيطلع أهل الجنة من تلك الكوى إلى النار فيقولون ما بال الأشقياء وإنما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم قالوا: إنا كنا نأمركم ولا نأتمر وننهاكم ولا ننتهي. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في «زوائد الزهد» عن الحسن قال: إذا كنت آمرا بالمعروف فكن من آخذ الناس به وإلا هلكت وإذا كنت ممن ينهى عن المنكر فكن من أنكر الناس له وإلا هلكت. ومن حكم الشعر قول أبي الأسود الدؤلي: وغير تفي يأمر الناس بالتقى ... طيب يداوي الناس وهو سقيم يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى ... كيما يصح وأنت به سقيم وأراك تصلح بالرشاد عقولنا ... أبدا وأنت من الرشاد عديم لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم أبدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل ما وعظت ويقتدى ... بالقول منك وينفع التعليم فصل النوع الرابع والأربعون: من التشبه بأعداء الله تعالى استحلال المحرمات بالحيل وكثيرًا ما يقع ذلك في المبايعات الربوية.

استحلال أهل البنوك للربا الصريح والرد على من زعم أن معاملتهم هي السفتجة الجائزة

ومن ذلك استحلال أهل البنوك للربا الصريح زعما منهم أن الربا الذي يأخذونه من صاحب المال إنما هو في مقابلة راحته من حمل ماله فهو كالأجرة على نقل المال من بلد إلى بلد آخر وهذه الحيلة شبيهة بحيل اليهود على استحلال المحرمات. وقد روى ابن بطة بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل». وقد زعم بعض العصريين في مقال له منشور في بعض الصحف المشئومة أن الزيادة التي يأخذها أهل البنوك من أرباب الأموال هي السفتجة الجائزة وهذا خطأ ظاهر فإن السفتجة التي أجازها من أجازها من الفقهاء هي المعروفة في زماننا بالتحويل ومعناها اشتراط القضاء في بلد آخر وصورتها أن يقترض زيد من عمرو ألف درهم في مكة ويكتب معه كتابا إلى وكيله في المدينة ليسلم الوكيل الألف لعمرو في المدينة فينتفع زيد بالقرض ويربح عمرو خطر الطريق. قال صاحب القاموس: السفتجة أن يعطي مالا لآخر وللآخر مال في بلد المعطى فيوفيه إياه ثم فيستفيد أمن الطريق. قال مرتضى الحسيني في «تاج العروس»: واختلفت عبارات الفقهاء في تفسيرها فمنهم من فسرها بما قاله المصنف وفسرها بعضهم فقال هي كتاب صاحب المال لوكيله أن يدفع مالاً قراضًا يأمن به من خطر الطريق وقال في النهر: هي بضم السين، وقيل: بفتحها وفتح التاء معرب سفته. وفي «شرح المفتاح»: بضم السين وفتح التاء الشيء المحكم سمي به

هذا القرض لإحكام أمره وهو قرض استفاد به المقرض سقوط خطر الطريق بأن يقرض ماله عند الخوف عليه ليرد عليه في موضع أمن لأنه عليه السلام نهى عن قرض جر نفعًا قاله شيخنا انتهى. ومن شرط جواز السفتجة ألا يأخذ أحدهما من الآخر زيادة فإن أخذ أحدهما من الآخر زيادة كما يفعله أهل البنوك فالزيادة ربا. قال الشيخ أبو محمد المقدسي في «المغني»: وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا. وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قرض جر منفعة. وإن شرط أن يعطيه إياها في بلد آخر وكان لحمله مؤنة لم يجز لأنه زيادة وإن لم يكن لحمله مؤنة جاز وحكاه ابن المنذر عن علي وابن عباس والحسن بن علي وابن الزبير وابن سيرين وعبد الرحمن بن الأسود وأيوب السختياني والثوري وأحمد وإسحاق واختاره. وكرهه الحسن البصري وميمون بن أبي شبيب وعبدة بن أبي لبابة ومالك والأوزاعي والشافعي لأنه قد يكون في ذلك زيادة. وقد نص أحمد على أن من شرط أن يكتب له بها سفتجة لم يجز ومعناه اشتراط القضاء في بلد آخر وروي عنه جوازها لكونها مصلحة لهما جميعًا.

وقال عطاء كان ابن الزبير يأخذ من قوم بمكة دراهم ثم يكتب لهم بها إلى مصعب بن الزبير بالعراق فيأخذونها منه فسئل عن ذلك ابن عباس فلم ير به بأسًا. وروي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن مثل هذا فلم ير به بأسًا وممن لم ير به بأسًا ابن سيرين والنخغي رواه كله سعيد. وذكر القاضي أن للوصي قرض مال اليتيم في بلد ليوفيه في بلد أخرى ليربح خطر الطريق. والصحيح جوازه لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها بل بمشروعيتها ولأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معنى المنصوص فوجب إبقاؤه على الإباحة -إلى أن قال- ولو أقرضه مكسرة فجاءه مكانها بصحاح بغير شرط جاز. وإن جاءه بصحاح أقل منها فأخذها بجميع حقه لم يجز قولاً واحدًا لأن ذلك معاوضة للنقد بأقل منه فكان ربا. قلت: ونظير هذا ما يفعله أهل البنوك فإنهم إذا أخذوا من الرجل ألف درهم لم يعطوه الألف كله وإنما يعطونه تسعمائة وخمسة وتسعين أو نحوها وهذا عين الربا ولا يجوز ذلك قولاً واحدًا كما صرح به الموفق وغيره من أكابر العلماء. ثم قال الموفق وإن شرط في القرض أن يوفيه أنقص مما أقرضه وكان ذلك مما يجري فيه الربا لم يجز لإفضائه إلى فوات المماثلة فيما هي شرط فيه وإن كان في غيره لم يجز أيضًا وهو أحد الوجهين لأصحاب

الشافعي. ثم علل ذلك بأن القرض يقتضي المثل فشرط النقصان يخالف مقتضاه فلم يجز كشرط الزيادة. ثم قال الموفق ولو أراد رجل أن يبعث إلى عياله نفقة فأقرضها رجلاً على أن يدفعها إلى عياله فلا بأس إذا لم يأخذ عليها شيئًا انتهى. ومما ذكرنا يتضح أن معاملة أهل البنوك لا تجوز وأن ما ينتقصونه من أموال الناس هو عين الربا. والقول بأن ذلك من باب الإجارة أو الوديعة بأجرة خطأ ظاهر وجهل صرف. فأما الإجارة فقد قال الفقهاء في تعريفها: إنها عقد على منفعة مباحة معلومة من عين معينة أو موصوفة في الذمة مدة معلومة. أو عمل معلوم بعوض معلوم. وهذا الحد لا تدخل فيه معاملة أهل البنوك فإنهم لا يعقدون على منفعة مباحة معلومة من عين معينة أو موصوفة في الذمة ولا يعملون مع صاحب المال عملاً معلوما يستحقون به الأجرة كنقل ماله بعينه إلى البلد الذي يريد نقله إليه وغاية ما يفعلونه مع رب المال أن يعدوا ماله ثم يستنفقونه ويردون إليه بدله أنقص منه وهذا هو القرض بعينه إلا أنه قرض جر نفعًا فهو ربا. وأما الوديعة فقال: في الفائق هي عبارة عن توكل لحفظ مال غيره تبرعًا بغير تصرف. وقال في الرعاية الصغرى: هي عقد تبرع بحفظ مال غيره بلا تصرف فيه. وقال في الرعاية الكبرى: والإيداع توكيل أو استنابة في حفظ مال زيد تبرعًا. قال في الإنصاف ومعانيها متقاربة. قلت وأعمال أهل البنوك تخالف هذا الحد فإنهم لا يحفظون المال بعينه ثم يسلمونه لصاحبه وإنما يستنفقونه ويردون إليه بدله فخرجت

بيان أن القروض التي يتعاطاها كثير من الدول في زماننا هي صريح الربا

أعمالهم من حد لوديعة إلى حد القرض إلا أنه قرض بأنقص من المال المقبوض وذلك عين الربا. وأيضًا فإن الوديعة لا يتصرف فيها المودع وأهل البنوك يتصرفون فيما يقبضونه من أموال الناس فخرجت أعمالهم عن حد الوديعة. فإن قيل: إن مرعي قد اتجه في الغاية أن الوديعة تجوز بعوض؟ قيل: قد قال مرعي في تعريف الوديعة: هي المال المدفوع إلى من يحفظه والإيداع التوكيل في حفظه كذلك بغير تصرف انتهى. ولئن سلمنا لاتجاه مرعي على ضعفه فأعمال أهل البنوك لا تطابق حد الوديعة على قوله لأن أهل البنوك يتصرفون فيما يقبضونه من المال ولا يحفظونه بعينه فخرجت أعمالهم عن حد الوديعة إلى حد المبادلة بأنقص من المال المقبوض وذلك صريح الربا كمال ذكرنا والله أعلم. وبالجملة فأعمال أهل البنوك هي أعمال الإفرنج بعينها ومن تشبه بقوم فهو منهم. ومما يفعله الإفرنج ومن يحذو حذوهم من المنتسبين إلى الإسلام ما يسمونه بالقرض وهو دفع المال إلى المحتاجين من الدول بشرط زيادة فيه معلومة كل عام وهذا هو ربا أهل الجاهلية بعينه وتسميتهم له بالقرض لا تزيل وصف الربا عنه لأن العبرة بالحقيقة لا باللفظ. وقد ورد الوعيد الشديد لأهل الربا وأخبر الله تبارك وتعالى أنهم حرب له ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - فليحذر المسلمون من المعاملات الربوية فإن عاقبتها إلى القلة في الدنيا والعذاب في الآخرة. عياذًا بالله من موجبات عضبه وأليم عقابه. ومن الحيل على استحلال المحرمات قلب الدين على المدين كما يفعله بعض الناس.

لا يجوز بيع السلع وهي في محل البائع

ومن ذلك أيضًا بيع السلع وهي في محل البائع قبل أن يقبضها المبتاع ويحوزها إلى رحله وقد يتبايعها عدد كثير واحدًا بعد واحد وهي في مكان البائع وكل منهم لا يقبضها قبضًا شرعيًا وإنما ينظر إليها فقط أو ينظر إليها ويعدها إن كانت مما يعد كالأكياس ونحوها ثم يبيعها وهي في موضعها وهذا ليس بقبض شرعي وإنما هو حيلة يراد بها التخلص من تعب النقل ومؤنته وهؤلاء المحتالون على البيع قبل القبض الصحيح قد خالفوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وارتكبوا نهيه كما سيأتي بيانه. ولا يجوز لمن اشترى أكياسًا ونحوها أن يبعها أو يسوم عليها حتى يحوزها إلى رحله وإن لم يكن له رحل فلابد أن ينقلها إلى مكان لا اختصاص للبائع به لما رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه «نهى أن تباع السلع حيث تشترى حتى يحوزها الذي اشتراها إلى رحله وإن كان ليبعث رجالاً فيضربونا على ذلك» قال الحاكم صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى أبو داود والدارقطني في سننيهما وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال ابتعت زيتًا في السوق فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحًا حسنًا فأردت أن أضرب على يده فأخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفت فإذا هو زيد بن ثابت فقال لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحلهم. وفي رواية للدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال ابتعت زيتًا بالسوق فقام إليَّ رجل فأربحني حتى رضيت قال فلما أخذت بيده لأضرب

صفة القبض الصحيح

عليها أخذ بذراعي رجل من خلفي فأمسك يدي فالتفت فإذا زيد بن ثابت قال: لا تبعه حتى تحوزه إلى بيتك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك. وروى مالك وأحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبتاع الطعام فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه. وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه رواه الإمام أحمد والشيخان وأهل السنن إلا الترمذي. وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: رأيت الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ابتاعوا الطعام جزافًا يضربون في أن يبيعوه في مكانهم ذلك حتى يؤووه إلى رحالهم رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي. وفي الصحيحين والموطأ والمسند والسنن إلا الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه» وفي رواية «حتى يقبضه» وفي رواية لمسلم «حتى يستوفيه ويقبضه». وفي الصحيحين والمسند والسنن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه» قال ابن عباس رضي الله عنهما وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام. قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» وفي «صفة القبض عن الشافعي» تفصيل: فما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والثوب فقبضه بالتناول

النوع الخامس والأربعون الأكل والشرب بالشمال. الأكل بالشمال حرام

وما لا ينق كالعقار والثمر على الشجر فقبضه بالتخلية وما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيوان فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به. وقرر الحافظ أيضا أن اختيار البخاري رحمه الله تعالى أن استيفاء المبيع المنقول من البائع وتبقيته في منزل البائع لا يكون قبضا شرعيا حتى ينقله المشتري إلى مكان لا اختصاص للبائع به. قلت: ويؤيد هذا ما تقدم ذكره من النهي عن بيع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - «كان يبعث رجالا يضربون من باع السلع حيث اشتراها». وعلى هذا فمن اشترى أكياسا ونحوها مما ينقل بنقد أو نسيئة ثم باعها قبل أن ينقلها من مكان البائع فقد باع قبل تمام القبض وخالف أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وارتكب نهيه. وفاعل هذا يستحق التأديب كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤدب على ذلك. والمقصود ههنا أنه لا يجوز التحيل على بيع ما لم يتم قبضه وأن من فعل ذلك فقد تشبه باليهود الذين يستحلون المحرمات بالحيل والله المستعان. فصل النوع الخامس والأربعون: من التشبه بأعداء الله تعالى مشابهة الشيطان في الأكل والشرب بالشمال. وقد وقع في هذه المشابهة الذميمة كثير من جهال المسلمين.

أحاديث في الأمر بالأكل والشرب باليمين والنهي عن الأكل والشرب بالشمال

وقد ذكر ابن عبد البر وابن حزم أن الأكل بالشمال محرم لظاهر الأخبار. وفي الصحيحين والمسند والسنن إلا النسائي عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا غلام سم الله وكل بيمنك وكل مما يليك». وروى مسلم وأبو داود والنسائي عن جابر رضي الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمش في نعل واحدة حتى يصلح شسعه ولا يمش في خف واحد ولا يأكل بشماله». وفي رواية للإمام مالك ومسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نهى أن يأكل الرجل بشماله أو يمشي في نعل واحدة». وروى مالك وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والدارمي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي رواية لأحمد ومسلم: «لا يأكلن أحد منكم بشماله ولا يشربن بها فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها». قال وكان نافع يزيد فيها: «ولا يأخذ بها ولا يعطي بها» وأخرج البخاري هذه الرواية في الأدب المفرد من طريق ابن وهب بإسناد مسلم. وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تأكلوا بالشمال فإن الشيطان يأكل بالشمال» وهكذا رواه ابن ماجه في سننه وإسناده إسناد مسلم.

علل المنع من الأكل والشرب بالشمال

وفي مسند الحسن بن سفيان وسنن ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليأكل أحدكم بيمينه ويشرب بيمنه وليأخذ بيمينه وليعط بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ويعطي بشماله ويأخذ بشماله». وقد دلت هذه الأحاديث على المنع من الأكل والشرب بالشمال وظاهرها يدل على التحريم كما ذهب إليه ابن عبد البر وابن حزم وغيرهما وهذا إذا لم يكن عذر فإن كان عذر يمنع الأكل والشرب باليمن من مرض أو جراحة أو غير ذلك فلا كراهة في الشمال نبه على ذلك النووي في شرح مسلم. وعلة المنع من الأكل والشرب بالشمال ما فيه من التشبه بالشيطان كما هو مصرح به في حديث ابن عمر رضي الله عنهما وما بعده من الأحاديث. وللمنع علة أخرى وهي مشاركة الشيطان للآكل بشماله والشارب بشماله كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: «من أكل بشماله أكل معه الشيطان ومن شرب بشماله شرب معه الشيطان» قال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن. وللمنع أيضًا علة ثالثة وهي الكبر ولهذا يكون الأكل والشرب بالشمال في المتكبرين والمتجبرين أكثر منه في غيرهم. وقد روى مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رجلا أكل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشماله فقال: «كل بيمنك» قال: لا أستطيع قال: «لا استطعت ما منعه إلا الكبر» فما رفعها إلى فيه.

التحذير من تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال

ورواه الدارمي وعبد بن حميد وابن حبان والطبراني من طريق عكرمة بن عمار عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه رضي الله عنه أن رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصر بسر بن راعي العير يأكل بشماله فقال: «كل بيمينك» فقال لا أستطيع فقال: «لا استطعت» قال فما وصلت يمنه إلى فيه بعد. وفي هذا الحديث جواز الدعاء على من خالف الحكم الشرعي بلا عذر. وفيه التحذير من العقوبة على مخالفة أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وارتكاب نهيه. فليحذر الآكل بشماله والشارب بها أن يصيبه من شلل اليد مثل ما أصاب بسر بن راعي العير فما العقوبة من المخالفين ببعيد. والسعيد من وعظ بغيره. فصل ونختم الكتاب بالتحذير من تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال وهو وإن لم يكن من موضوع هذا الكتاب فالتنبيه عليه مهم جدا لكثرة الواقعين فيه ولاسيما في زماننا وهذا من مصداق ما رواه أبو نعيم في «الحلية» عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعًا من اقتراب الساعة اثنتان وسبعون خصلة فذكرها ومنها وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال. فمن تشبه الرجال بالنساء لبس الساعات في أيديهم كأنها أساور النساء وقد تقدم أن السوار ما يجعل في الأيدي من الحلي. وتقدم أيضا أن الحلية تكون من الذهب وتكون من الفضة وتكون من الحديد وتكون من اللؤلؤ وأنواع الجواهر.

من تشبه الرجال بالنساء حلق اللحى

ومن هذا الباب لبس الرجال الساعات في أيديهم فهي من «الحلية» بلا شك وهذه «الحلية» المستقبحة على الرجال مطابقة كل المطابقة لما يتحلى به كثير من النساء في زماننا فإنهن يتحلين بالساعات من الذهب وغير الذهب ويفضلن ما كان من غير الذهب على أساور الذهب. وكثير منهن إنما يتحلين بساعات الحديد والشبه. وهي في أيديهن أبهى وأحسن من أساور الذهب. والمتشبهون بهن من الرجال متفاوتون في المعصية فأعظمهم إثما من يلبس ساعات الذهب أو ما فيه خلط من الذهب كما يفعله كثير من المترفين. وهؤلاء قد جمعوا بين معصيتين إحداهما التشبه بالنساء والثانية استحلال ما هو محرم على الذكور بالنص الصريح الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تقدمت الأحاديث بذلك في ذكر تحريم الذهب على الرجال فلتراجع. ودون هؤلاء من يلبس ساعات الفضة ودونهم من يلبس ساعات الحديد والشبه وهو ما يشبه الذهب من صفر أو نحاس أو غيرهما. وقد تقدم الكلام في تحلي الرجال بالساعات مستوفي في النوع الثامن عشر فليراجع. ومن تشبه الرجال بالنساء ما افتتن به كثير من الجهال من حلق اللحى لتكون وجوههم كوجوه النساء مردًا ناعمة لا شعر فيها وقد قال ابن عبد البر وغيره يحرم حلق اللحية ولا يفعله إلا المخنثون من الرجال.

من تشبه الرجال بالنساء لبسهم الحرير

قلت: والمخنث هو المتشبه بالنساء. وقد تقدم الكلام في حلق اللحى في النوع السادس فليراجع. ومن تشبه الرجال بالنساء لبسهم للحرير لأنه من ملابس النساء. ولابسه من الرجال لابد أن يكون فيه أنوثة تدعوه إلى التشبه بالنساء كما قيل: وكل امرئ يهفو إلى ما يناسبه. ومن تشبه الرجال بالنساء ما يفعله كثير من الجهال من التصفيق في المجالس والمجامع. وقد تقدم الكلام فيه في النوع الخامس والعشرين. والدليل على أنه من التشبه بالنساء قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «التسبيح للرجال والتصفيق للنساء» رواه الشافعي وأحمد والشيخان وأهل السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وروى مالك والشافعي وأحمد والشيخان وأبو داود والنسائي من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما التصفيق للنساء». وهذه الجملة الوجيزة تفيد الحصر والاستغراق والاختصاص فدل على أنه لا يجوز للرجال بحال. وأما تشبه النساء بالرجال فكثير ومنه ما يفعله بعض المنتسبين إلى الإسلام من تجنيد النساء وإلباسهن الأسلحة ولباس الجند وإعدادهن للقتال وهذا خلاف المشروع في حقهن مع ما فيه من الشبه بالرجال وهو كبيرة من الكبائر.

جهاد النساء الحج والعمرة

وقد روى الإمام أحمد وابن ماجه والدارقطني عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله هل على النساء من جهاد قال: «نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة» ورواه النسائي في سننه بنحوه وإسناده صحيح. وروى الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «جهاد الكبير والصغير والضعيف والمرأة الحج والعمرة». وروى الطبراني في الصغير عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قالت أم سلمة رضي الله عنها: أخرج معك إلى الغزو؟ فقال: «يا أم سلمة إنه لم يكتب على النساء جهاد». وروى الإمام أحمد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بامرأة يوم فتح مكة مقتولة فقال؟: «ما كانت هذه تقاتل ثم نهى عن قتل النساء والصبيان». وروى ابن ماجه عن حنظلة الكاتب رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمررنا على امرأة مقتولة قد اجتمع عليها الناس فأفرجوا له فقال: «ما كانت هذه تقاتل فيمن يقاتل». وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن رباح بن ربيع رضي الله عنه نحوه وصححه الحاكم وقال على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي هذه الأحاديث دليل على أنه لا يجوز تجنيد النساء وإعدادهن للقتال وفي هذا المعنى يقول الشاعر:

من تشبه النساء بالرجال لبسهن النعال الخاصة بالرجال

كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول ومن تشبه النساء بالرجال لبسهن النعال الخاصة بالرجال. وقد روى أبو داود في سننه من حديث ابن أبي مليكة قال قيل لعائشة رضي الله عنها أن امرأة تلبس النعل فقالت: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجلة من النساء إسناده جيد رواته كلهم ثقات. وفيه دليل على أنه لا يجوز للنساء لبس النعال الخاصة بالرجال لما في ذلك من تشبههن بالرجال. وقد ورد الوعيد الشديد للمتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال وسواء كان التشبه في لباس أو حلية أو كلام أو مشي أو غير ذلك من الأفعال والهيئات. الحديث الأول: عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والبخاري وأهل السنن إلا النسائي وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي رواية لأحمد والبخاري وأبي داود قال: «لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء وقال أخرجوهم من بيوتكم» قال فأخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فلانا وأخرج عمر رضي الله عنه فلانة. ورواه الترمذي مختصرا وقال هذا حديث حسن صحيح. وفي رواية لأحمد قال: فقلت: من المترجلات من النساء؟ قال: المتشبهات من النساء بالرجال.

الحديث الثاني: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لعن الرجلة من النساء» رواه أبو داود وقد تقدم قريبًا. الحديث الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل» رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم والنووي وغيرهم وقال الحاكم على شرط مسلم وأقره الذهبي في تلخيصه. ورواه ابن ماجه في سننه بإسناد حسن ولفظه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لعن المرأة تتشبه بالرجال والرجل يتشبه بالنساء». وفي رواية لأحمد قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخنثي الرجال الذين يتشبهون بالنساء والمترجلات من النساء المتشبهين بالرجال». الحديث الرابع: عن عطاء عن رجل من هذيل قال: رأيت عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ومنزله في الحل ومسجده في الحرم قال فبينا أنا عنده رأى أم سعيد ابنة أبي جهل متقلدة قوسا وهي تمشي مشية الرجل فقال عبد الله: من هذه؟ قال الهذلي فقلت: هذه أم سعيد بنت أبي جهل فقال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليس منا من تشبه بالرجال من النساء ولا من تشبه بالنساء من الرجال» رواه الإمام أحمد قال الهيثمي الهذلي لم أعرفه وبقية رجاله ثقات. ورواه الطبراني باختصار وأسقط الهذلي المبهم فعلى هذا رجال الطبراني كلهم ثقات. قلت: وقد رواه أبو نعيم في الحلية من طريق الإمام أحمد مختصرًا وأسقط الهذلي المبهم.

الحديث الخامس: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال والديوث» رواه الإمام أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. الحديث السادس: عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة لا يدخلون الجنة أبدًا الديوث والرجلة من النساء ومدمن الخمر» قالوا: يا رسول الله أما مدمن الخمر فقد عرفناه فما الديوث قال: «الذي لا يبالي من دخل على أهله» قلنا فما الرجلة قال: «التي تتشبه بالرجال» رواه الطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان. وهذا آخر ما تيسر جمعه والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وسلم تسليمًا كثيرًا. وقد كان الفراغ من تسويد هذا الكتاب في يوم الخميس تاسع شهر رجب سنة 1382 هـ ثم كان الفراغ من كتابة هذه النسخة في يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شهر ذي الحجة سنة 1382 هـ على يد جامعها الفقير إلى الله تعالى حمود بن عبد الله التويجري غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

§1/1