الإيضاح في علوم البلاغة

القزويني ، جلال الدين

المجلد الأول

المجلد الأول مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم الكلمة الأولى أحمده وأسأله التوفيق والسداد، وبعد: فهذ اشرح جديد مفصل، لكتاب الإيضاح، تأليف العالم الإمام الخطيب القزويني، إمام البلاغة وشيخ البيان، المتوفى عام 739هـ. توخيت فيه عمق البحث، ودقة التحليل، والعناية ببسط المسائل، وحل المشكلات، وأومأت فيه إلى شتى المراجع والمصادر. ليكون جامعًا لمسائل البلاغة ومصدرا للدراسات العالية فيها، ومرجعا للطلاب والدارسين والباحثين. والله يعلم مقدار ما أخذ مني من جهد وبحث ومراجعة، ومع ذلك فقد ثابرت على كتابته وإخراجه، لسد النقص الذي نلمسه في دراسات البلاغة. وقد ظهرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب عام 1949، وها هي ذي الطبعة الثانية منقحة مهذبة. والله أسأله أن يجعله خالصًا لوجهه، وأن ينفع به العلم والثقافة ولغة الكتاب العزيز. فهو وليي، نعم المولى ونعم النصير. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. محمد عبد المنعم خفاجي.

مقدمات

مقدمات: نشأة البلاغة العربية ومراحل التأليف فيها: 1- كان القرن الثاني الهجري أول عصر شهد نشأة آراء كثيرة أصيلة ومترجمة حول البلاغة1 وعناصرها، بعد فساد الملكات، وقد أخذ العلماء في بحث أصول بلاغات العرب، وفي تدوين آرائهم في معنى كلمة البلاغة والفصاحة. وأهم ما يؤثر من ذلك: وصية بشر بن المعتمر -من زعماء المعتزلة وتوفي نحو عام 210هـ- في البلاغة2، وتفسير ابن المقفع للبلاغة3، وتعريف العتابي لها4، ووصية5 أبي تمام للبحتري تدخل في هذا الباب، ويقول البحتري خير الكلام ما قل ودل ولم يمل6، وفي البيان للجاحظ تحديد البلاغة كما يراها حكيم الهند7، ويقسمها الكندي فيلسوف العرب المتوفى عام260هـ إلى ثلاثة أنواع: فنوع لا تعرفه العامة ولا تتكلم به، ونوع بالعكس،

_ 1 لا تجد في العصر الجاهلي كلمات من البلاغة إلا ما روي عن عامر بن الظرب حين سئل من أبلغ الناس؟ فقال: من حلى المعنى المزين باللفظ الوجيز وطبق المفصل قبل التحزيز "206 جـ1 العمدة، 280 جـ2 الأمالي" وفي العصر الأموي نجد لمعاوية كلمات في البلاغة ولسواه، روي أن معاوية سأل صحارًا عنها فأجابه "راجع 81 جـ1 البيان، 18 جـ2 الكامل". 2 104 وما بعدهاجـ1 البيان. 3 91 جـ1 البيان، 214 جـ1 العمدة، 75 جـ1 البيان، 44-46 الرسالة العذراء، 2 و3 و22 و23 جـ3 العقد، 140-150 جـ1 زهر الآداب. 4 90 و157 جـ1 البيان. 5 151 جـ1 زهر الآداب. 6 36 جـ1 المستطرف وتروى عن الثعالبي برواية أخرى: "ماقل ودل" "218 جـ1 العمدة". 7 78 و79 جـ1 البيان، 20-38 الصناعتين، 144 جـ1 زهر، 44 الرسالة العذراء.

ونوع تعرفه ولا تتكلم به وهو أحمدها1، وذكر بزر جمهر حكيم الفرس فضائل الكلام ورذائلة في كلمة مترجمة رواها صاحب الموازنة2. إلى آخر هذه الكلمات والآراء. 2- ثم ألفت بعد ذلك كتب تجمع كثيرًا من الآراء والدراسات الموجزة حول البلاغة وبحوثها. ومن هذه الكتب: مجاز القرآن لأبي عبيدة م 207هـ والفصاحة للدينوري م 280هـ3 والتشبيه والتمثيل للفضل بن نوبخت4 وصناعة الكلام للجاحظ5، ونظم القرآن 6 والتمثيل 7 له أيضًا، والبلاغة وقواعد الشعر للمبرد8.. وفي الكامل إشارات لمسائل كثيرة في البلاغة، وكذلك الرسالة العذراء لابن المدبر، والبلاغة للحراني"9"، وقواعد الشعر لثعلب، وقد نشرته عام 1948 بشروح كثيرة، والبلاغة والخطابة للمروزي 10 والمطابق والمجانس لابن الحرون 11 وتهذيب الفصاحة لأبي سعيد الأصفهاني12 وإعجاز القرآن في نظمه وتأليفه للواسطي المعتزلي م 306هـ، وصنعة البلاغة للباحث، وللسيرافي م 368هـ. ونظم القرآن لابن الأخشيد 13، وكذلك لابن أبي داود م 316هـ 14 وكتاب الرد على من نفى المجاز في القرآن للحسن بن جعفر 15 ومن هذه الكتب أيضًا المفصل في البيان، والفصاحة للمرزباني م 378هـ. على أن أهم الكتب التي تناولت بعض مسائل البلاغة بالبحث،

_ 1 219 جـ1 العمدة. 2 183 الموازنة. 3 116 الفهرست لابن النديم. 4 383 المرجع. 5 38 الجاحظ لمردم. 6 40 المرجع. 7 76 جـ6 معجم الأدباء. 8 88 فهرست، 144 جـ7 معجم الأدباء. 9 178 فهرست. 10 215 فهرست. 11 212 فهرست. 12 197 فهرست. 13 57 و58 فهرست. 14 324 فهرست. 15 520 فهرست.

أو التي ألفت فيها خاصة هي: كتاب جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي، ففي مقدمته بحوث موجزة طريفة تتصل بالبلاغة. وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وهو أهم ماألف في هذا الطور من كتب تتصل ببلاغات العرب نثرًا وشعرًا، وتتعرض لتحديد البلاغة بما حولها من آراء كانت ذائعة في عصر الجاحظ، وفيه كثير من بحوث البلاغة، فهو يعرف الاستعارة1 ويتكلم على السجع2 ويشير إلى التفصيل والتقسيم3 والاستطراد والكناية4 والأمثال5 والاحتراس6 والقلب7 والأسلوب الحكيم 8، والجاحظ أول من تكلم على المذهب الكلامي9 ويرى البلاغة في النظم لا في المعاني10 وهو ماذهب إليه ابن خلدون 11، والجاحظ يشيد بالإيجاز12، كما يدعو في البيان كثيرًا إلى ترك الوحشي والسوقي، ويحث على الإفهام والوضوح، وعلى ترك التعمق والتهذيب في صناعة الكلام، إلى غير ذلك من شتى مادونه في البيان. ولا يضير الجاحظ أن كانت دراساته موجزة مفرقة كما يقول أبو هلال 13، فهي على كل حال ذات أثر كبير في نشأة البيان، وهي التي أوحت إلى كثير أن يعدوا الجاحظ الواضع الأول لعلم البيان. ومن الخطأ التهوين بأثر الجاحظ في البيان كما ذهب إليه بعض الباحثين المحدثين.

_ 1 116 جـ1 البيان. 2 194 جـ1 البيان. 3 170 جـ1 و91 جـ2 البيان. 4 180 جـ و8 و29 و31 و80 جـ3 البيان. 865 و88 و114 و183 جـ1 و224 جـ2 البيان. 1616 جـ1 البيان. 7 180 جـ1 البيان. 2018 و202 جـ2 البيان. 1019 البديع لابن المعتز نشر محمد خفاجي، 76 جـ2 العمدة. 4010 جـ3 الحيوان. 57711 مقدمة ابن خلدون. ويقول شيلر: في الفن الشكل هو كل شيء والمعنى ليس شيئًا مذكورًا. 8312 و86 جـ1 ومواضيع أخرى. 13 ص6 و7 الصناعتين.

3- وقد بدأ التدوين في البلاغة على يد ابن المعتز الذي ألفه كتابه القيم "البديع"1 وثعلب الذي ألف كتابه "قواعد الشعر"، وبعد قليل ظهر نقد النثر كما ظهر نقد الشعر لقدامة بن جعفر المتوفى عام 337هـ. ثم كتاب الصناعتين لأبي هلال المتوفى عام 395هـ، ثم كتاب الموازنة للآمدي، والوساطة للجرجاني، وإعجاز القرآن للباقلاني، وسر الفصاحة لابن سنان الخفاجي، والعمدة لابن رشيق وهما أكثر الكتب اتصالًا بالبلاغة. 4- ثم جاء بعد ذلك أبو بكر عبد القاهر الجرجاني شيخ البلاغة العربية والمتوفى عام 471هـ. فألف في البلاغة كتابين جليلين هما: 1- أسرار البلاغة، وفيه دراسات واسعة تتناول بحوث علم البيان من تشبيه ومجاز واستعارة وفيه شرح للسرقات وبعض ألوان البديع. 2- دلائل الإعجاز، وفيه بحوث كثيرة هي أصول علم المعاني. كماأنه تحدث فيه عن الكناية وعن التمثيل والمجاز والاستعارة والسرقات أيضًا. 5 - وبعد عصر الجرجاني بحث الزمخشري في تفسيره، والرازي في كتابه "نهاية الإعجاز"، وابن الأثير صاحب المثل2 السائر، وبدر الدين بن مالك صاحب المصباح، والتنوخي صاحب "الأقصى القريب"، وكثير من العلماء، في البلاغة والفصاحة. ومن أهم هؤلاء العلماء في هذا الطور أبو يعقوب السكاكي المتوفى عام 626هـ تلميذ الحاتمي3، الذي ألف كتابه "المفتاح"، وجعله

_ 1 على نهجه ألف ابن منقذ المتوفى عام 84هـ كتابه "البديع". 2 شرحه عز الدين بن أبي الحديد م 665هـ في كتابه "الفلك الدائر على المثل السائر". 3 73 المفتاح.

أقسامًا، وخص البلاغة بالقسم الثالث منه، وقسمها إلى ثلاثة أقسام: المعاني -البيان- البديع. وبذلك تميزت علوم البلاغة ومباحث كل علم منها بالتفصيل. والفلسفة والمنطق تغلب على السكاكي إلى حد كبير، من حيث كان يغلب الذوق والطبع على عبد القاهر. وبذلك تنتهي مراحل التأليف والابتكار في بحوث البلاغة وتدوينها تدوينًا كاملًا. 6- وجاء الخطيب القزويني المتوفى عام 739 فألف في البلاغة كتابيه: تلخيص1 المفتاح والإيضاح. وقد ألف الإيضاح ليكون كالشرح لتلخيص المفتاح وجمع فيه كثيرًا من آراء عبد القاهر والسكاكي في شيء من التنظيم والشرح. وعلى متن التلخيص كثرت الشروح والحواشي والتقارير وفي مقدمتها الأطول للعصام، والمطول2 للسعد وشروح التلخيص وسواها ... وهذه أهم كتب البلاغة وشروحها في هذا العهد. قوانين البلاغة لعبد اللطيف البغدادي م 629هـ، والتبيان لابن الزملكاني م651هـ، والمعيار للزنجاني م654هـ، وبديع القرآن لابن أبي الأصبع م654هـ، والفوائد الغياثية للعضد م 756هـ وشرحها الكرماني م 786هـ والتبيان لشرف الدين الطيبي م743هـ، والطراز ليحيى ابن حمزة العلوي م 749هـ، وعروس الأفراح للسبكي م 773هـ، والسمرقندية للسمرقندي وهي رسالة في الاستعارات، وتوفي السمرقندي عام 880هـ.

_ 1 لزكريا الأنصاري م 926هـ "مختصر تلخيص المفتاح": وللعباسي م 963 شرح لشواهد التلخيص سماه معاهد التنصيص. 2 عليه كتاب في شرح شواهده اسمه عقود الدرر في حل أبيات المطول والمختصر، وهو مطبوع طبعة حجر عام 1307هـ في 166 صفحة.

9- شروح المفتاح للسكاكي. أ- شرحه بتمامه المولى حسام. ب- وشرح القسم الثالث منه: الشيرازي م 710هـ في "مفتاح الفتاح"، والترمذي وهو معاصر للشيرازي، والخلخالي م 745هـ، والسعد "712-791هـ"، والسيد م 816هـ في "المصباح" الذي ألفه عام 803 "1"هـ، وعماد الدين الكاشي. وله رسالة في حل المتشابهات التي أوردها الخطيب على المفتاح، والأبهري سلطان شاه، وطاشكبري زاده م 962هـ، وشيخ زاده م 951هـ، والشربيني م 769هـ، والخوارزمي، وقد فرغ منه عام 642هـ، والفناري م834، وله على شرحي السعد والسيد تعليقات، وابن كمال باشام 940، وسواهم. ج- واختصر القسم الثالث منه: المعانيجي م 990هـ، والقزويني 666-739هـ، والأيجي م756هـ في الفوائد الغياثية، وبدر الدين ابن مالك م 686هـ في "المصباح في اختصار المفتاح" ونظم "المصباح" المراكشي، ثم شرحه وسماه "ضوء المصباح على ترجيز المصباح"، واختصر هذا المختصر ابن النحوية م 718هـ، وسماه "ضوء الصباح"، ثم شرحه في مجلدين في كتاب أسفار المصباح عن ضوء المصباح، ولمحمد بن خضر "مصباح الزمان في شرح المصباح". هذا وقد ألف السعد "المطول على تلخيص المفتاح للخطيب القزويني" وانتهى من تأليفه عام 748هـ، كما انتهى من تأليف مختصر المطول عام 756هـ.. وفرع ابن يعقوب من تأليف شرحه على مختصر

_ 1 على شرح السيد حواش: للبسطامي م 871هـ، وللمولى اللطفي م 900هـ، ولحميد الدين م 908هـ، ولأسعد الناجي م 922، ولمحيي الدين الفنري م 954، وللشهاب الخفاجي م 1069هـ.

السعد في مكناسة في المحرم 1108هـ.. وانتهى ابن السبكي من تأليف شرحه "عروس الأفراح" على مختصر السعد في جمادى الأولى عام 758هـ.. وانتهى الدسوقي من كتابة شرحه على مختصر السعد في شوال عام 1210هـ. 8- يمتاز الإيضاح للخطيب القزويني بعدة ميزات ظاهرة: فهو أوفى كتاب في بحوث البلاغة، وهو أوضح الكتب المؤلفة فيها نظامًا وأسلوبًا، وهو كثير البحث والتعمق والاستنباط لأسرار البلاغة العربية، فوق أنه كتاب تطبيقي جميل في البلاغة، وينقد القزويني فيه كثيرًا من آراء السكاكي، وإن كان يعتمد الخطيب فيه على عبد القاهر والسكاكي كثيرًا. ومع ذلك فالخطيب يجمع في كتابه خلاصات لبحوث علماء البلاغة في شتى العصور حتى عصره، والكتاب بعد ذلك غزير المادة، كبير الفائدة في الأدب والنقد والبلاغة والبيان1. وهناك مؤلفات جديدة ظهرت في البلاغة في عصر الحواشي، ومن بينها عقود الجمان للسيوطي. كما ظهرت في العصر الحديث عدة مؤلفات في البلاغة فيها لون من التهذيب والتنسيق وحسن الأخذ والاختيار. وبذلك تنتهي مراحل التأليف في البلاغة منذ نشأتهاحتى الآن.

_ 1 شرحه الاقصرائي م 800هـ وحيدرة م 820هـ، والأستاذ الصعيدي والأستاذ التنوخي.

الخطيب وأثره في البلاغة العربية: والخطيب القزويني1 هو "جمال الدين أبو المعالي محمد بن عبد الرحمن، ابن خطيب دمشق" كما يقول جورجي زيدان، وبتفصيل أوسع هو "الشيخ الإمام العالم العلامة خطيب الخطباء، مفتي المسلمين، جلال الدين، أبو عبد الله، محمد، ابن قاضي القضاة سعد الدين أبي محمد عبد الرحمن، ابن إمام الدين أبي حفص عمر، القزويني الشافعي" كما يقول تلاميذه أو هو نفسه في مقدمة كتابه "الإيضاح" فهو من أسرة علمية ودينية كبيرة، كان لها ولاشك أثرها في حياته وتفكيره وروحه. ولد عام 666هـ، وتعلم الفقه، وتولى القضاء، وانتقل إلى دمشق، وتولى الخطابة في مسجدها، ثم تولى القضاء بمصر، وتمكن نفوذه فيها أيام الملك الناصر، اكتسب مالًا طائلًا، ثم جاء إلى دمشق وتوفي فيها. وأشهر مؤلفاته تلخيص المفتاح، والإيضاح في المعاني والبيان2، وكانت وفاته عام 739هـ، كمايقول صاحب الدرر الكامنة. وتدل مؤلفات الخطيب في البلاغة على ثقافة بلاغية وأدبية واسعة وقراءة مستفيضة لأهم المؤلفات في البلاغة وفي مقدمتها: "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز" لعبد القاهر، والمفتاح للسكاكي. ألف الخطيب مختصرًا صغيرًا للمفتاح في البلاغة، أو للقسم

_ 1 شذرات الذهب، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، وسواها. 2 وقد حرف جورجي زيدان اسمه فذكره "الإفصاح" بدل الإيضاح ""44 جـ3 تاريخ أدب اللغة العربية".

الثالث بعبارة أوضوح، وسماه "تلخيص المفتاح1" لخص فيه ذلك السفر القيم وقدم فيه وأخر، وحذف واختصر، وفيه بعض آراء له لم يرتضها جهابذة هذه الفنون، "ومن العجيب أن يسمي كتابه بهذا الاسم، وهو في رأي أحد الباحثين ليس بالتلخيص له وحده، بل أشبه بأن يكون تلخيصًا لكتابي أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز لعبد القاهر ولسر الفصاحة لابن سنان الخفاجي.. وروح التلخيص من الكتاب الأخير واضح كل الوضوح في مقدمته"2 وقد يكون في هذا الرأي لون من المبالغة، فمتن التلخيص ليس تلخيصًا للأسرار ودلائل وسر الفصاحة في قليل ولا كثير، إنما هو تلخيص للقسم الثالث من المفتاح وحده، وما فيه من روح التأثر بعبد القاهر فمرجعه إلى المفتاح نفسه، الذي اعتمد فيه السكاكي على عبد القاهر إلى حد بعيد. وقد يستساغ ذلك في الإيضاح لا في "تلخيص المفتاح". ثم ألف الخطيب كتابه الإيضاح في البلاغة على ترتيب التلخيص، وبسط القول فيه ليكون كالشرح له، فأوضح مواضعه المشكلة، وفصل معانيه المجملة، واعتمد على المفتاح والأسرار والدلائل وغير هذه المؤلفات في بحوثه ودراساته فيه، كما يشير إليه الخطيب نفسه في مقدمة الإيضاح. والكتاب "فيه أمهات مسائل هذه الفنون بعبارة واضحة فيها روح من أسلوب عبد القاهر الجامع بين التحقيق العلمي والرصانة الأدبية3.

_ 1 شرحه الخلخالي م 745، وناظر الجيش م 778هـ والبابرتي م 786، وشمس الدين القونوي م 788هـ، التيزيتي م 793هـ، والسيد عبد الله م 800هـ، وعصام الدين م 951هـ، والسعد م 791هـ ... وعلى شرح السعد شروح: ليسن الحمصي م 961، ولابن يعقوب م 1108هـ وللدسوقي هـ 1230هـ. 2 62، 137 بحوث وآراء في علوم البلاغة للأستاذ المرحوم أحمد المراغي. 3 63 المراجع.. وفي المكتبة الأزهرية حاشية مخطوطة على أبيات الإيضاح، وهي نسخة في مجلد بقلم فارسي في 126 ورقة بنمرة "43" 1095 وفيها نسخة أخرى في مجلد بقلم معتاد بخط محمد حسن سنة 1365 في 150 ورقة بنمرة "2110" 5286 شرح مخطوط على الإيضاح، بدار الكتب المصرية.

وعلى "تلخيص المفتاح للخطيب" كثير من الشروح والحواشي والتقارير ممايدل على مدى شهرته العلمية عند الباحثين. ولا يزال منهج الخطيب في البلاغة وفي تلخيصه بالذات هو المنهج العلمي في علوم البلاغة إلى عصرنا الراهن. وكتاب الإيضاح عمل جليل في البلاغة سواء في ترتيبه وتقسيمه وتنظيم بحوثه، أم في استيعابه واستقصائه وتحليله، أم في جمعه واستمداده من شتى المصادر والمراجع، أم في أسلوبه الأدبي وروحه وكثرة تطبيقاته الأدبية، وهو أهم كتاب دراسي في البلاغة في العصر الحاضر. وهذا شرح جديد للإيضاح، يتناول بالبحث والتحليل والدراسة والتعليق والشرح جميع مسائله وشواهده، ويشير إلى مصادره ومراجعه التي ألف منهاالخطيب هذا الكتاب. وهو عمل سيكون له أثره في البلاغة العربية، وفي خدمة الإيضاح وتذليل صعوبات البحث فيه بتوفيق الله. ويمتاز هذا الشرح بدقة البحث. وطول المراجعة، وكثرة الشرح والتفصيل، والإلمام بكل رأي، وتحليل كل مذهب ما عليه وماله، وبعرض آراء جديدة في شتى بحوث البلاغة وعلومها.. كما يمتازا بمقدمته التي هي تأريخ للبلاغة ونشأتها وأطوار التأليف فيها، وغير ذلك مما يحتوي عليه من مميزات، وقد وضعنا للكتاب بعض العناوين المساعدة على فهمه وإيضاحه.

ترجمة الخطيب

ترجمة الخطيب: عن الدر الكامنة لابن حجر 1، والعقد المذهب لابن الملقن، وشذرات الذهب2. هو قاضي القضاة أبو المعالي جلال الدين محمد بن القاضي سعد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن إمام الدين عمر القزويني الشافعي. ولد بالموصل سنة 666 وسكن بلاد الروم، مع والده وأخيه واشتغل بالعلم وتفقه على والده وولي قضاء نيكسار من بلاد الروم ثم قدم دمشق وسمع من العز الفاروثي وطائفة وحدث وتفقه واشتغل في الفنون وأتقن الأصول والعربية والمعاني والبيان، وكان فهما ذكيا مفوهًا ذا ذوق سليم حسن الإيراد والمحاضرة حلو العبارة فصيحًا جميل الهيئة كبير الذهن جوادًا أديبًا حسن الخط، وناب عن أخيه الأكبر إمام الدين قاضي قضاة الشام إلى أن مات أخوه سنة 699 ثم ولي خطابة جامع دمشق فأقام بها مادة طويلة ثم طلبه الملك الناصر إلى القاهرة في سنة 724 وكان قدومه على البريد يوم الجمعة فاتفق أنه اجتمع بالناصر ساعة وصوله فأمر به أن يخطب بجامع القلعة فخطب مرتجلًا مع ما هو عليه من التعب وأثر السفر فأعجب به السلطان وشكره وسأله عن حاله وكم عليه من الدين فذكر أن عليه ثلاثين ألف فأمر بوفائها عنه فشافهه بقضاء دمشق فباشرها والخطابة جميعًا إلى أن ولاه قضاء الديار المصرية في سنة 727 فعم أمره جدًّا وصرف مال الأوقاف على الفقراء والمحتاجين وحج مع السلطان فأعانه بمال وأحسن إلى المصريين والشاميين وكان لهم ذخرًا وملجأ ولم يزل على

_ 1 ص6 جـ4 طبع الهند عام 1350هـ - لابن حجر م852. 2 123/ 6 شذرات الذهب.

حاله إلى أن أعيد إلى قضاء الشام بسبب أحوال أولاده وفرح به أهل الشام فأقام قليلًا وتعلل وأصابه فالج فمات منه في سنة 739 عن 73 سنة فأسفوا عليه كثيرًا وشيعه عالم عظيم، وللشعراء فيه مدائح كثيرة ومراث عددة وكان يرغب الناس في الاشتغال بأصول الفقه وفي المعاني والبيان. وتصنيفه المسمى تلخيص المفتاح مشهور ونظمه السيوطي وسماه عقود الجمان.. وله إيضاح التلخيص أيضًا. وكان يعظم الأرجاني الشاعر ويقول أنه لم يكن للعجم نظيره واختصر ديوانه فسماه "السور المرجاني من شعر الأرجاني". وقال الذهبي: عظم شأنه لماولي قضاء الديار المصرية وبلغ من العز ما لا يوصف بحيث لاترد له شفاعة وربما رمي علي يد السلطان نفسه وكان فصيحًا حلو العبارة، مليح الصورة، سمحًا حليمًا كثيرة التحمل وسيرته تحتمل كراريس، وذكر اليوسفي في سيرة الملك الناصر محمد أن القاضي كان محسنًا إلى الناس كثير التصدق والمكارم والبر لأرباب البيوت، قال: أنه لم يوجد لأحد من القضاة منزلة عند سلطان تركي نظير نزله جلال الدين، وكان الناصر يحتمل ما ينقل إليه من سيرة ولده حتى كان يقول لوالي البلد: أكبس فلانًا ثم يرسل إليه يقول: لا تفعل، نبقى في حياء من والده ... فرحمه الله تعالى عليهم وغفرانه. وترجم له السيوطي في بغية الوعاة "ص66"، فنسبه إلى أبي دلف العجلي، وذكر ما لايخرج عما سبق، ثم قال: ولا أعلمه نظم شيئًا مع قوة باعه في الأدب، ومات في منتصف جمادى الأولى عام 739هـ. ويقول صاحب الدرر الكامنة: أن له ابنًا اسمه محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عمر القزويني، وهو ابن القاضي جلال الدين خطيب جامع دمشق.. وقد ترجم له1.

_ 1 185 جـ4.. ويقول فيه: أنه ولد عام 701هـ وتفقه ومهر في الخطابة ومات في جمادي الآخر عام 742هـ.

أول كتاب الإيضاح

أول كتاب الإيضاح تمهيد ... أول كتاب الإيضاح للخطيب القزويني: تمهيد: قال الشيخ الإمام، العالم العلامة خطيب الخطباء، مفتي المسلمين، جلال الدين: أبو عبد الله محمد، ابن قاضي القضاة سعد الدين أبي محمد عبد الرحمن، ابن إمام الدين أبي حفص عمر، القزويني الشافعي. متع الله المسلمين بمحياه، وأحسن عقباه: الحمد لله رب العالمين وصلاته على محمد وعلى آل محمد أجمعين. أمابعد: فهذا كتاب في علم البلاغة وتوابعها1، ترجمته 2 بـ"الإيضاح" وجعلته علي ترتيب مختصري الذي سميته تلخيص المفتاح. وبسطت فيه القول ليكون كالشرح له، فأوضحت مواضعه المشكلة، وفصلت معانيه المجملة وعمدت إلى ماخلاعنه المختصر، مماتضمنه "مفتاح العلوم3"، وإلى ماخلاعنه المفتاح من كلام الشيخ الإمام عبد القاهر الجرجاني4 رحمه الله -في كتابيه: دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، وإلى ما تيسر النظر فيه من كلام غيرهما5، فاستخرجت زبدة6 ذلك كله، وهذبتها ورتبتها، حتى استقر كل شيء منها في محله، وأضفت إلى ذلك ما أدى إليه فكرى، ولم أجده لغيري. فجاء بحمد الله جامعًا لأشتات هذا العلم. وإليه أرغب في أن يجعله نافعًا لمن نظر فيه من أولى الفهم. وهو حسبي ونعم الوكيل.

_ 1 علم البلاغة يشتمل على المعاني والبيان وتوابعها هو علم البديع والكلام في السرقات الشعرية. 2 المراد: سميته. 3 تأليف السكاكي م 626هـ. 4 هو شيخ البلاغة العربية وفيلسوفها. توفي عام 471هـ. واسمه أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني: وله ترجمة في فوات الوفيات وفي بغية الوعاة للسيوطي وعرض له ولكتابيه: الأسرار والدلائل صاحب كتاب بحوث وآراء في علوم البلاغة "ص58، 129-132".. وقد ألفت فيه كتابًا عنوانه "عبد القاهر والبلاغة العربية". 5 أي غير السكاكي والجرجاني. 6 زيدة الشيء: جوهرة وخلاصته.

مقدمة

مقدمة 1: في الكشف عن معنى الفصاحة والبلاغة: وانحصار علم البلاغة في علمي2 المعاني والبيان للناس في تفسير الفصاحة والبلاغة أقوال مختلفة، لم أجد فيما بلغني منها. ما يصلح لتعريفها به، ولا ما يشير إلى الفرق بين كون الموصوف بهما الكلام وكون الموصوف بهما المتكلم 3، فالأولى أن نقتصر على تلخيص القول فيهما بالاعتبارين، فنقول:

_ 1 الإيضاح مقسم إلى: مقدمة وثلاثة فنون وخاتمة، فالمقدمة ليست من قبيل مقاصد علم البلاغة وتوابعها، بل هي تمهيد لذلك. والفنون الثلاثة هي من مقاصد البلاغة إلا أن موضوع كل فن منها يختلف عن موضوع الآخر، فموضوع الفن الأول -وهو علم المعاني- الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، وموضوع الفن الثاني -علم البيان- الاحتراز عن التعقيد المعنوي، وموضوع الفن الثالث -البديع- ليس الاحتراز عن شيء أصلًا، بل مجرد تحسين اللفظ وتزيينه. والخاتمة تشمل السرقات والكلام علي حسن الابتداء والتخلص وحسن الخاتمة، فهي من الفن الثالث أو متصلة به بصلة كبيرة. والمقدمة هنا لبيان معنى شيئين: الأول معنى الفصاحة والبلاغة، والثاني انحصار علم البلاغة في علمي المعاني والبيان، وكل ذلك مما يرتبط بالمقصود من الكتاب.. فالمقدمة هنا هي مقدمة كتاب. وذكر معنى الفصاحة والبلاغة قبل الشروع في مسائل المعاني والبيان والبديع ضروري، لتوقف معرفة معانيها علي معرفة معنى البلاغة والفصاحة. 2 في الأصل "في علم". 3 في هذا الكلام شيء من المجازفة: فقد سبق أبو هلال ببيان الفرق بين الفصاحة والبلاغة في الصناعتين، فذكر أن البلاغة هي كل ماتبلغ به المعنى قلب السامع فتمكنه في نفسه لتمكنه في نفسك مع صورة مقبولة

.........................................................................

_ = ومعرض حسن، ثم قال: وأما الفصاحة فقد اختلفوا فيها، فقال قوم: إنها مأخوذة من قولهم: أفصح فلان عما في نفسه إذا أظهره وعلى هذا ترجع الفصاحة والبلاغة إلى معنى واحد وإن اختلف أصلهما في اللغة، وقال بعضهم: الفصاحة تمام آلة البيان، وعلى هذا تكون الفصاحة والبلاغة مختلفين، وذلك أن الفصاحة تمام آلة البيان فهي مقصورة على اللفظ والبلاغة إنما هي إنهاء المعنى إلى القلب فكأنها مقصورة على المعنى إلخ "39 وما بعدها صناعتين". وذكر ابن سنان الخفاجي في سر الفصاحة أن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ والبلاغة لاتكون إلاوصفًا للألفاظ مع المعاني، فلا يقال في كلمة واحدة أنها بليغة وإن قيل أنها فصيحة إذا فضلت عن مثلها، وكل كلام بليغ فصيح وليس كل فصيح بليغًا كالذي يقع فيه الإسهاب في غير موضعه، ثم قال: والفصاحة على ذلك شطر البلاغة وأحد جزءيها، ولها شروط إذا تكاملت في الألفاظ فلا مزيد على فصاحتها، وتلك الشروط: منها ما يتعلق باللفظة الواحدة، ومنها ما يوجد في الألفاظ المنظومة بعضها مع بضع.. وهذا كله هو خلاصة رأي القزويني أقتبسه من ابن سنان "راجع ص55 وما بعدها من سر الفصاحة طبعة الرحمانية" وذكر ابن رشيق في العمدة: أن البلاغة والفصاحة راجعان إلى اللفظ والمعنى جميعًا إلخ "ص80 طبعة هندية". وذكر عبد القاهر: أن البلاغة والفصاحة وما يجري مجارها مما يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة وينسب فيه الفضل والمزية إليه دون المعنى معناها حسن الدلالة وتمامها فيما له كانت دلالة ثم تبرجها في صورة هي أبهى، ولا جهة لذلك غير أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته ويختار له اللفظ الذي هو أخص به وأكشف عنه وأحرى بأن يظهر مزية "ص35 من دلائل الإعجاز"، وقال في أسرار البلاغة: أما رجوع الاستحسان "أي الوصف بالبلاغة والفصاحة" إلى اللفظ من غير شرك من المعنى فيه فلا يعدو نمطًا واحدًا، هو أن تكون اللفظ مما يتعارفه الناس في استعمالهم ويتداولونه في زمانهم، ولا يكون وحشيًّا غريبًا أو عاميًّا سخيفًا"ص3 أسرار البلاغة"، فالبلاغة والفصاحة عنده مترادفان، وإن اختلف فهم كلامه فيهما وفي هل يرجعان عنده إلى اللفظ أو إلى المعنى. ويرى عبد القاهر أن الفصاحة تقال لكون اللفظ جاريًا على القوانين المستنبطة من استقراء كلامهم كثير الاستعمال على ألسنة العرب الموثوق بعربيتهم "ص353 دلائل الإعجاز" وهو كلام السكاكي أيضًا "ص176 من المفتاح". ويرى السكاكي أن البلاغة بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدًّا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها، وأما الفصاحة فهي عنده قسمان: قسم يرجع إلى المعنى وهو خلوص الكلام من التعقيد المعنوي، وقسم يرجع إلى اللفظ وهو أن تكون الكلمة عربية أصلية جارية على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم، لا مما أحدثه المولدون، ولا مما أخطأت فيه العامة "وأن تكون" سليمة من التنافر "راجع ص176 من المفتاح". ويرى ابن الأثير أنه يحتاج في تأليف الكلمات إلى ثلاثة أشياء: اختيار الألفاظ المفردة، ونظم كل كلمة مع أختها بحيث لا يكون هناك قلق ولا منافرة، والغرض المقصود من ذلك الكلام على اختلاف أنواعه ... والأول والثاني عنده هما المراد بالفصاحة، والثلاثة بجملتها هي المراد بالبلاغة. وتكلم في كتابة المثل السائر على الصناعة اللفظية "وهي عنده قسمان: قسم اللفظة المفردة، وقسم الألفاظ المركبة"، وعلى الصناعة المعنوية.

كل واحدة منهما1 تقع صفة لمعنيين: أحدهما الكلام كمافي قولك قصيدة فصيحة أو بليغة، ورسالة فصيحة أو بليغة، والثاني المتكلم كما في قولك شاعر فصيح أو بليغ، وكاتب فصيح أو بليغ. والفصاحة خاصة تقع صفة للمفرد فيقال: كلمة فصيحة، ولايقال كلمة2

_ 1- أي من البلاغة والفصاحة. 2- هذا هو الفرق بين الفصاحة والبلاغة عند الخطيب، فالفصاحة عنده صفة للمفرد والكلام والمتكلم، والبلاغة صفة للكلام والمتكلم فقط. ولاشك أن من يرى أن البلاغة والفصاحة مترادفان بحيز أن يقال كلمة بليغة كمايقال كلمة فصيحة، وإن كان عبد القاهر -الذي يرى أن الفصاحة والبلاغة مترادفان- يجعلهما وصفًا للكلام لا للفظ المفرد فلاتقول عنده كلمة فصيحة ولا كلمة بليغة. هذا والمراد بالكلام ما يقابل الكلمة فيشمل المركب الإسنادي والمركب الناقص جميعًا، فإنه قد يكون بيت من القصيدة غير مشتمل على إسناد يصح السكوت عليه مع أنه متصف بالفصاحة مثل: إذا ما الغانيات برزن يومًا ... وزججن الحواجب والعيونا فيكون المراد بالكلام تامًّا أو ناقصًا. وورد على هذا الرأي اعتراضات منها: أن المركب الناقص إنما يصح إدخاله في مدلول الكلام لو كانوا يطلقون على مثل هذا المركب أنه كلام فصيح ولم ينقل عنهم ذلك بل المنقول وصفهم له بأنه فصيح دون كونه كلامًا، على أنه يجوز أن يكون وصفه بالفصاحة باعتبار فصاحة مفرداته. وقيل أن المركب الناقص خارج عن المفرد وعن المركب التام فلايتصف بالفصاحة والبلاغة بالنظر لذاته بل قد يوصف بها بالنظر لمفرداته. والصحيح أن المراد بالكلام مايقابل المفرد، حقيقة "وهو اللفظة الواحدة المفردة" أو حكماً "وهو المركب الناقص"، فالمركب الناقص على هذا داخل في المفرد؛ لأن المفرد يطلق على ما يقابل المركب، وعلى ما يقابل المثنى والمجموع وعلى ما يقابل الكلام، ومقابلة المفرد ههنا بالكلام قرينة دالة على أنه أريد به ما ليس بكلام تام الإفادة، فيكون المركب الناقص داخلًا فيه -أي في المفرد.

بليغة1.

_ 1 إذالم يسمع ذلك عن العرب، وهذا هو التعليل الصحيح. وبعضهم يعلل لهذا بأن البلاغة إنما هي باعتبار المطابقة لمقتضى الحال وهي لا تتحقق في المفرد، وورد على هذا التعليل بأن عدم تحقق المطابقة لمقتضى الحال في المفرد إنما هو في بلاغة الكلام والمتكلم، فلم لا يجوز أن تكون هناك بلاغة أخرى غير المطابقة يصح وجودها في الكلمة؟

الفصاحة1: أما فصاحة المفرد2 فهي خلوصه3 من تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس اللغوي:

_ 1 هي في اللغة تنبئ التزامًا عن الظهور والإبانة "راجع ص353 من الدلائل" يقال: فصح الأعجمي وأفصح: إذا انطلق لسانه وخلصت لغته من اللكنة وجادت فلم يلحن، وأفصح به أي صرح، وفصح اللبن إذا أخذت رغوته وذهب لباؤه، قال أبو محجن الثقفي أو نضلة السلمي: رأوه، فازدروه، وهو خرق ... وينفع أهله الرجل القبيح فلم يخشوا مصالته عليهم ... وتحت الرغوة اللبن الفصيح 2 بدأ بذكر أقسام الفصاحة وتعريف كل قسم منها على حدة دون أن يعرفها في نفسها على الإطلاق لتعذر جمع المعاني المختلفة غير المشتركة في أمر يعمها في تعريف واحد.. وقدم الكلام على الفصاحة قبل البلاغة؛ لأن معرفة البلاغة سواء كانت بلاغة كلام متكلم موقوفة على معرفة الفصاحة في الجملة "إذ لا دخل لفصاحة المتكلم في بلاغة الكلام أو المتكلم"، لكون الفصاحة مأخوذة في تعريف البلاغة، ولهذا أيضًا قدم فصاحة المفرد على فصاحة الكلام والمتكلم، أما توقف فصاحة الكلام على فصاحة المفرد فظاهر، وأما توقف فصاحة المتلكم عليه فبواسطة أخذ فصاحة الكلام المتوقف عليها في فصاحة المفرد.. هذا وعيب المفرد أما في مادته أي حروفه وهو التنافر أو في صورته وهو المخالفة للقياس اللغوي المستنبط من استقراء اللغة "فالقياس اللغوي هو الضابط المتقرر من استعمالات العرب وهو القياس الصرفي"، وأما من دلالته على معناه وهو الغرابة. 3 تفسير الفصاحة بالخلوص من هذه العيوب لا يخلو عن تسامح؛ لأن الفصاحة تحصل عند الخلوص؛ لأنها هي كون الكلمة جارية على القوانين الصرفية متناسبة الحروف كثيرة الاستعمال، ويلزم من ذلك الخلوص، وبتفصيل أدق أقول: الفصاحة هي كون اللفظ جاريا على القوانين المستنبطة من استقراء كلام العرب كثير الاستعمال على ألسنة العرب الموثوق بعربيتهم.

فالتنافر1: منه ما تكون الكلمة بسببه متناهية في الثقل على اللسان وعسر النطق بها، كما روي أن أعرابيًّا سئل عن ناقته فقال: تركتها ترعى الهعخع2.

_ 1 هو وصف في الكلمة يوجب ثقلها على اللسان وعسر النطق بها، والحكم في التنافر هو الذوق، وهو قوة يدرك بها لطائف الكلام ووجوه تحسينه، فكل ما يعده الذوق الصحيح ثقيلًا متعسر النطق به فهو متنافر سواء كان من قرب المخارج أو بعدها أو غير ذلك، وقد صرح بذلك ابن الأثير في "المثل السائر". وقال الزوزني: أن قرب المخارج سبب للثقل المخل بالفصاحة، وأن في قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} ثقلًا قريبًا من التناهي فيخل بفصاحة الكلمة، ولكن الكلام الطويل المشتمل على كلمة غير فصيحة لا يخرج عن الفصاحة، كما لا يخرج الكلام الطويل المشتمل على كلمة غير عربية عن أن يكون عربيًّا. ورد رأي الزوزني بما يأتي: 1 أن فصاحة الكلمات مأخوذة في تعريف فصاحة الكلام من غير تفرقة بين طويل وقصير. 2 وأن الزوزني يرى أن الكلام ما ليس بكلمة، وحينئذ فالقول بوجود كلمة غير فصيحة في كلام فصيح أكثر فسادًا من ذلك القول على تفسير غيره، فالفساد لازم لكلام الزوزني في المركب التام وفي المركب الناقص إذا اشتمل كل منهما على كلمة غير فصيحة، أما على قول غير الزوزني وهو الشارح "السعد" فالفساد في المركب التام فقط؛ لأنه يجعل المركب الناقص داخلًا في الكلمة. 3 على أن القياس على الكلام العربي ظاهر الفساد؛ لأن القرآن عربي باعتبار كله أو جله، وأيضًا فلم يشترط في عربية الكلام عربية الكلمات. 4 ولو سلم عدم خروج السورة عن الفصاحة مع اشتمالها على كلمة غير فصيحة، فإن مجرد اشتمال القرآن على كلام غير فصيح بل على كلمة فصيحة مما يقود إلى نسبة الجهل أو العجز لله. 2 هي اسم شجرة من شجر الصحراء، وتنطق الكلمة بصور كثيرة، وقيل أنها كلمة معاياة لا أصل لها في اللغة.

ومنه ما هو دون ذلك كلفظ مستشزر في قول امرئ القيس: غدائره مستشزرات إلى العلا ... تضل العقاص في مثنى ومرسل1 والغرابة: أن تكون الكلمة وحشية لا يظهر معناها، فيحتاج في معرفته

_ 1 من معلقة امرئ القيس أمام الشعراء الجاهليين التي مطلعها: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بن الدخول فحومل وقبل هذا البيت: وفرع يزين المتن أسود فاحم ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل الفرع: الشعر التام. المتن: ظهر المرأة. أثيث: كثير. قنو النخلة: عنقودها. المتعكثل: المتراكم. الغدائر: الذوائب، جمع غديرة. والضمير فيها عائد إلى الفرع في البيت الأول. مستشزرات أي مرتفعات إن كان بكسر الزاي على لفظ اسم الفاعل، أو مرفوعات إن روي بالفتح على لفظ اسم المفعول، استشزره أي رفعه متعديًا، واستشزر أي ارتفع لازمًا. تضل: تغيب وتختفي. العقاص: جمع عقيصة وهي الخصلة المجموعة من الشعر. المثنى: المفتول. المرسل: خلاف المثنى. والمعنى: أن ذوائبه مشدودة على الرأس وأن شعره مقسم إلى عقاص ومثنى ومرسل والأول يغيب في الأخيرين. والمراد وصف الشعر بالكثافة والكثرة والطول.. والشاهد هنا قوله مستشزرات فهو لفظ متنافر ثقيل على اللسان، ولكنه أقل ثقلًا من "الهعخع".. وقال الخلخالي: أن سبب الثقل في مستشزرات راجع إلى توسط الشين التي هي من الحروف المهموسة "وهي عشرة يجمعها قولهم: سكت فحثه شخص. وما عداها فحروف مجهورة" الرخوة "وهي ما عدا الحروف الشديدة التي يجمعها قولهم: أجد قط بكت، وما عدا الحروف المتوسطة التي يجمعها قولهم: لن عمر"، بين التاء التي هي من المهموسة الشديدة وبين الزاي التي من المجهورة الرخوة، ولو قال: مستشرف لزال الثقل. ورد رأي الخلخالي بأن الراء المهملة أيضًا هي من الحروف المجهورة.. ومن الألفاظ المتنافرة: أطلخم بمعنى اشتد، ومثعنجر: للسائل من الماء أو الدمع.

إلى أن ينقر1 عنها في كتب اللغة المبسوطة، كما روي عن عيسي بن عمر2 النحوي أنه سقط عن حماره، فاجتمع عليه الناس، فقال: ما لكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي جنة افرنقعوا عني، أي اجتمعتم تنحوا. أو يخرج لها وجه بعيد3 كما في قول العجاج4: ومقلة وحاجبًا مزججا ... وفاحما ومرسنا مسرجا

_ 1- ينقر: أن ينقش. والكلمة الوحشية هي التي لا تكون مأنوسة الاستعمال عند العرب الخلص من سكان البادية، لا بالنسبة للمولدين. 2- عالم جليل من ثقيف ومن أئمة النحو واللغة ومن المتقعرين في كلامهم توفي عام 150هـ، وتروى هذه القصة عن أبي علقمة النحوي حين هاجت به مرة ببعض طرق البصرة فوثب عليه قوم يعضون إبهامه ويؤذنون في أذنه، وكان أبو علقمة نحويًّا مغربًا في ألفاظه. وقوله: ذي جنة، أي صاحب جنون. 3- سبب هذا التخريج هو عدم ظهور معنى الكلمة، وسبب التقبيس والتنقير عن الكلمة في المعاجم هو وحشيتها. وما يحتاج إلى تخريج يعده بعض البلاغيين من التعقيد، والبعض يجعله خطأ، وكلا الوجهين غير صحيح؛ لأن الوارد من هذا الباب إنما مورد من عربي موثوق بعربيته فلا يعد خطأ، كما أن هنا فرقا بين هذا الباب وبين التعقيد؛ لأن التعقيد فيه خطأ ناشئ، عن عدم ظهور الدلالة على المراد. وهنا لا خطأ ولا خفاء في الدلالة فلا تعقيد. 4- شاعر راجز مشهور أدرك الدولة الأموية. والبيت من أرجوزة العجاج "ما هاج أحزانًا وشجوًا قد شجا". وفي أسرار البلاغة ص48 ذكره عبد القاهر مع الاستعارات القبيحة "في قوله: ومرسنا".. المقلة: العين. مزججا: مدققًا مطولًا. فاحما: أي شعرًا أسود كالفحم. المرسن: الأنف ... والشاهد في البيت في قوله مسرجًا فإنه غير ظاهر المعنى. إذ أن العلماء قد اختلفوا في معناه. والحاصل أن مسرجًا اسم مفعول مشتق فلا بد له من أصل يرجع إليه فقيل هو: 1 فعل "بالتشديد" للنسبة مثل كرمته أي نسبته للكرم. ولما لم يوجد التسريج الذي حق النسبة أن تكون إليه جعلنا مسرجًا منسوبًا للسرج أو للسريجي نسبة تشبيهية أي هو منسوب لهما من حيث أنه شبيه بهما. ووجه بعد هذا التخريج أن مجرد النسبة لا يدل على التشبيه. 2 وقيل أنه من فعل بتشديد العين بمعنى صيرورة فاعله كأصله مثل قوس الرجل أي صار كالقوس، فمسرج أي صائر كالسراج أو كالسريجي.. وهذا مردود بأن سرج على هذا لازم فلا يصاغ منه اسم مفعول. 3 وقيل أنه من فعل بمعنى صيرورة فاعله أصله أو صيرورته ذا أصله مثل عجزت المرأة أي صارت عجوزًا وورق الشجر صار ذا ورق، فمسرج أي صار سراجًا أو سريجًا أي مثل أحدهما أو صار ذا سراج وهذا مردود بما يرد به الوجه السابق. 4 وقيل هو اسم مفعول من سرج الله وجهه أي نوره وبهجه، فمعنى مسرج: منور، فليس فيه نسبة تشبيهية، وهذا وإن لم يكن غريبًا من حيث عدم احتياجه لتخريج بعيد، لكنه بعيد من حيث أنه يحتاج إلى تفتيش عليه في كتب اللغة المبسوطة.

فإنه لم يعرف ما أراد بقوله "مسرجًا"، حتى اختلف في تخريجه: فقيل هو من قولهم للسيوف: سريجية، أي منسوبة إلى قين1 يقال له "سريج"، يريد أنه في الاستواء والدقة كالسيف السريجي، وقيل: من السراج، يريد أنه في البريق كالسراج2. وهذا يقرب من قولهم: سرج وجهه أي حسن، وسرج الله وجهه أي بهجه وحسنه3.

_ 1 القين: الحداد. 2 هذان التخريجان هما حاصل الوجه الأول الذي سبق ذكره والذي سبق بيان ما عليه من رد. 3 أي أن الوجه المذكور قريب من هذا الوجه الثاني في أن كلا منهما غريب والكلمة عليهما غير ظاهرة المعنى، وهذا التخريج الثاني هو الوجه الرابع الذي سبق ذكره، ورد بأنه يحتاج إلى تفتيش على معناه فهو غريب. وقال الإمام المرزوقي: أن مسرجًا لفظ مستحدث من السراج أي أنه لفظ أحدثه المولدون وأخذوه من السراج واستعملوه بمعنى حسن ولم يكن ذلك اللفظ واقعًا في لغة العرب أصلًا، ويرد عليه أن العجاج قبل عصر التوليد والاستحداث. ووجه القرب بين الوجهين المذكورين أن مسرجًا عليهما مشتق من سرج، لكن على الوجه الأول مشتق منه للنسبة التشبيهية، وعلى الوجه الثاني مشتق منه اشتقاقًا لغويًّا لا على إفادة النسبة التشبيهية.

ومخالفة القياس1: كما في قول الشاعر2: الحمد لله العلي الأجلل ... "أنت مليك الناس ربا فاقبل" قإن القياس الأجل بالإدغام. وقيل هي:3 خلوصه مما ذكر4، ومن الكراهة في السمع5

_ 1 هو أن تكون الكلمة على خلاف قانون مفردات الألفاظ الموضوعة، أعني على خلاف ما ثبت عن الواضع، فالموافقة للقياس أن تكون الكلمة على وفق ما ثبت عن الواضع سواء وافقت القانون التصريفي أم خالفته ولكن ثبتت عن الواضع كذلك، والمخالفة أن تكون الكلمة على خلاف ما ثبت عن الواضع سواء خالفت القانون الصرفي أيضًا أم لا، فنحو آل وماء وأبي يأبي وعور يعور فصيح؛ لأنه ثبت عن الواضع كذلك. 2 هو أبو النجم الراجز المشهور. وهذا الشاهد في الكتاب لسيبويه صحيفة 302 من الجزء الثاني وروايته فيه هكذا: الحمد لله الوهوب المجزل. ومثل البيت قول الشاعر: مهلًا أعاذل قد جربت من خلقي ... أني أجود لأقوام وإن ضننوا 3 أي فصاحة المفرد. 4 أي من التنافر والغرابة ومخالفة القياس. 5 وهذا القول لابن الأثير في "المثل السائر". قال: الألفاظ داخلة في حيز الأصوات، فما استلذه السمع منها فهو الحسن، وما استكرهه فهو القبيح "راجع ص58 المثل السائر"، وهو رأي أشار إليه ابن سنان الخفاجي في سر الفصاحة ص61.

بأن تمج الكلمة ويتبرأ من سماعها كما يتبرأ من سماع الأصوات المنكرة. فإن اللفظ من قبيل الأصوات، والأصوات منها ما تستلذ النفس سماعه ومنها ما تكره سماعه، كلفظ الجرشي في قول أبي الطيب: "مبارك الاسم أغر اللقب" ... كريم الجرشي شريف النسب1 أي كريم النفس، وفيه2 نظر. ثم علامة كون الكلمة فصيحة، أن يكون استعمال العرب الموثوق بعربيتهم لها كثيرًا، أو أكثر من استعمالهم ما بمعناها3.

_ 1- من قصيدة يمدح بها المتنبي سيف الدولة.. الأغر من الخيل: الأبيض الجبهة، ثم استعير لكل واضح. الجرشي: النفس. والمعنى أن اسم سيف الدولة علي وهو اسم جميل ميمون ولقبه لقب واضح مشهور، وهو كر يم النفس عظيم الحسب، شريف النسب.. والشاهد الجرشي فإنها لفظ غير فصيح، لكراهته في السمع كما يقول هذا القائل، أو لغرابته على رأي من عداه من البلاغيين والبيت في ص62 من سر الفصاحة. 2- أي في هذا القول وهو أن تكون كراهة الكلمة في السمع سببًا لعدم فصاحتها.. ووجه النظر كما قالوا هو ما يأتي: 1 أن الكراهة في السمع إنما هي من جهة الغرابة المفسرة بالوحشية مثل تكأكأتم، وافرنقعوا، ونحو ذلك. 2 وأن الكراهة في السمع وعدمها يرجعان إلى عدم طيب النغم أو إلى طيبه لا إلى نفس اللفظ. ويمكن رد هذا الوجه الثاني بالقطع باستكراه الجرشي دون "النفس" مع قطع النظر عن النغم. 3- هذا منقول عن السكاكي "ص176 من المفتاح". وخلاصته: أن فصاحة الكلمة تعرف بأحد أمرين: 1 أن تكون هذه الكلمة كثيرة الاستعمال عند العرب الموثوق بعربيتهم: إذا لم يكن لها مرادف. 2 أو أن تكون هذه الكلمة أكثر استعمالًا عندهم من الكلمات الأخرى المرادفة لها المشتركة معها في المعنى وهذا فيما إذا كان للكلمة مرادف.

وأما فصاحة الكلام: فهي خلوصه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد، مع فصاحتها. فالضعف1: كما في قولنا ضرب غلامه زيدًا، فإن رجوع الضمير إلى المفعول المتأخر لفظًا ممتنع عند الجمهور، لئلا يلزم رجوعه إلى ما هو متأخر لفظًا ورتبة.

_ 1 هو أن يكون تأليف الكلام على خلاف القانون النحوي المشهور بين الجمهور كالإضمار قبل الذكر لفظًا ومعنى وحكمًا، نحو ضرب غلامه زيدًا، فلو تقدم المرجع على الضمير لفظًا "بأن يتقدم عليه لفظًا ورتبة مثل ضرب زيد غلامه أو لفظًا فقط مثل ضرب زيدًا غلامه"، أو تقدم معنى بأن يتقدم المرجع على الضمير لفظًا لكن هناك ما يدل على تقدمه معنى، كالفعل المتقدم الدال على المرجع تضمنا نحو اعدلوا هو أقرب للتقوى، وكسياق الكلام المستلزم له استلزامًا قريبا نحو ولأبويه أي المورث أو بعيدًا نحو توارت بالحجاب أي الشمس، وكون المرجع فاعلًا المتقضى لتقدمه على المفعول نحو خاف ربه عمر، أو مبتدأ المقتضى لتقدمه على الخبر مثل في داره زيد، أو مفعولًا أول في باب أعطى مثل أعط درهمه زيدًا، أو تقدم حكمًا، بأن يتأخر لمرجع عن الضمير لفظًا وليس هناك ما يقتضي ذكره قبله إلا حكم الواضع بأن المرجع يجب تقدمه، لكن خولف حكم الواضع لأغراض تأتي في بحث وضع المضمر موضع المظهر. فالمرجع المتأخر لغرض متقدم حكمًا مثل: ربه رجلًا، ونعم رجلًا زيد، وقل هو الله أحد. وفي باب التنازع مثل ضربني وضربته محمد وباب البدل والمبتدأ المفسر بالخبر. نعم لو تقدم المرجع في كل ذلك جاز ولا يكون هناك ضعف ولا يضر ذلك بفصاحة الكلام.. وقد أشار السكاكي إلى ضعف التأليف في المفتاح ص94.

وقيل يجوز1، كقول الشاعر2: جزى ربه عنه عدي بن حاتم ... جزاء الكلاب العاويات، وقد فعل3 وأجيب عنه بأن الضمير لمصدر جزى، أي "جزى"، رب الجزاء4 كما في قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، أي العدل.

_ 1 أي يجوز رجوع الضمير إلى المفعول المتأخر لفظًا. 2 هو النابغة الذبياني الشاعر الجاهلي المشهور، كما في الخصائص لابن جني. 3 يدعو الشاعر على عدي بأن يجزيه شرًّا كجزاء الكلاب العاويات التي تضرب وترمى بالحجارة، ثم يقول الشاعر. بل قد حصل هذا الجزاء فعلًا وأصبح حقيقة لا دعاء. والشاهد في البيت قوله: "جزى ربه عني عدي بن حاتم"، فقد رجع الضمير إلى المفعول المتأخر في اللفظ كما هو متأخر في الرتبة. ومثل هذا البيت قول سليط بن سعد: جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر ... وحسن فعل كما يجزى سنمار ومثله: ألا ليت شعرى هل يلومن قومه ... زهيرا على ما جرى من كل جانب وفي معنى البيت قول النابغة: جزى الله عبسًا عبس آل بغيض ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل ومن ضعف التأليف: فلو أن مجدًا أخلد الدهر واحدًا ... من الناس أبقى مجده الدهر "مطعما". 4 في هذا تكلف وحمل للأسلوب على ما لا يفيده وإن كان أخف من حمل البيت على ضعف التأليف.

والتنافر1: منه ما تكون الكلمات بسببه متناهية في الثقل على لسان وعسر النطق بها متتابعة، كما في البيت الذي أنشده الجاحظ2: وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر3 ومنه ما هو دون ذلك كما في قول أبي تمام: كريم متى أمدحه والورى معي ... "وإذا ما لمته لمته وحدي4".

_ 1 هو أن تكون الكلمات ثقيلة على اللسان وإن كان كل منها فصيحة. 2 البيت في دلائل الإعجاز ص46 مع تعليق لعبد القاهر عليه.. وهو لا يعرف قائله. 3 حرب: اسم رجل. القفر: الخالي من الماء والكلأ.. ويقول القزويني الرحالة في "عجائب المخلوقات: أن هاتفًا من الجن صاح بحرب ابن أمية فمات فرثاه ذلك الجني بهذا البيت.. قوله "قفر" بالرفع نعت مقطوع. والبيت خبر مراد منه التأسف والتحزن. 4 الواو في "والورى" للحال، وهو مبتدأ، وخبره "معي".. يقول أبو تمام في ممدوحه: هو كريم في خلقه ومعروفه، إذا ما مدحته كان الورى كلهم معي يمدحون ويشيدون أو يسمعون ويؤيدون، وإذا ما أردت لومه على تأخير معروف أو على شبه ذلك وقفت وحدي لا يشاركني في ذلك أحد ولا يؤيدني فيه إنسان.. والبيت في ص46 من دلائل الإعجاز، وذكر الصاحب إسماعيل بن عباد الكاتب أنه أنشد القصيدة التي منها هذا البيت بحضرة الأستاذ ابن العميد الوزير، فلما بلغ هذا البيت قال له الأستاذ: هل تعرف فيه شيئًا من الهجنة؟ قال: نعم مقابلة المدح باللوم وإنما يقابل بالذم أو الهجاء، فقال الأستاذ: غير هذا أريد، فقال: لا أدري غير ذلك، فقال الأستاذ: هذا التكرير في أمدحه أمدحه مع الجمع بين الحاء والهاء وهما من حروف الحلق خارج حد الاعتدال نافر كل النفار، فأشاد الصاحب بذوقه ونقده.

فإن في قوله: أمدحه "أمدحه" ثقلًا لما بين الحاء والهاء من التنافر1. والتعقيد2: أن لا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد به وله3 سببان: أحدهما ما يرجع إلى اللفظ وهو أن يختل نظم4 الكلام. ولا يدري

_ 1 وهناك فرق آخر بين البيت والبيت الذي قبله، وهو أن منشأ الثقل في الأول نفس اجتماع الكلمات وفي البيت الثاني اجتماع حروف منها. ومجموع الحروف التي في الكلمتين والتي حصل الثقل باجتماعها أربعة وهي: الحاءان والهاءان، فما ذكر من مجموع الحروف التي حصل الثقل باجتماعها حاصل مع تكرير أمدحه، ولو قال وفي الثاني تكرير حروف منها لكان أوضح وأخضر. أما ثقل مجرد الجمع بين الحاء والهاء فلا يخل بالفصاحة لوقوعه في التنزيل كما في قوله "فسبحه". 2 أي كون الكلام معقدًا فهو مصدر المبني للمفعول لا للفاعل، والمراد بأنه مصدر المبني للمفعول الحاصل بالمصدر أي الهيئة المترتبة عليه. وتجد الكلام في التعقيد في "أسرار البلاغة ص118، وفي دلائل الإعجاز ص65، وفي المفتاح ص176". 3 أي عدم ظهور المعنى المراد منه للمتكلم، أما الغرابة فهي كون اللفظ غير ظاهر الدلالة على المعنى الموضوع له، وأما اللغز والمعمى: فقيل هما غير فصيحين مطلقًا ولا يعدان من البديع لعدم ظهور الدلالة، وقيل أن الدلالة فيهما إن كانت ظاهرة للفطن فهما فصيحان ويعدان من البديع وإلا فلا. واللغز والمعمى بمعنى وهو قول يدل ظاهره على خلاف المراد. 4 النظم هو تأليف الكلمات مترتبة المعاني متناسقة الدلالات على حسب ما يقتضيه العقل لا تواليها في النطاق وضم بعضها إلى بعض كيفما اتفق، بخلاف نظم الحروف فإنه تواليها في النطق من غير اعتبار معنى يقتضيه "راجع دلائل الإعجاز ص40 و45".

السامع كيف يتوصل منه إلى معناه1، كقول الفرزدق2: وما مثله في الناس إلا مملكًا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه، فإنه مدح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي3 خال هشام بن عبد الملك بن مروان، فقال وما مثله -يعني إبراهيم الممدوح- في الناس، حي يقاربه -أي أحد يشبهه في الفضائل- إلا مملكًا يعني هشامًا، أبو أمه -أي أبو أم هشام- أبوه -أي أبو الممدوح- فالضمير في أمه للملك، وفي أبوه للممدوح، ففصل بين أبو أمه -وهو مبتدأ- وأبوه -وهو خبره- بحي -وهو أجنبي-، وكذا فصل بين حي ويقاربه وهو نعت حي -بأبوه- وهو أجنبي، وقدم المستثنى على المستثنى منه4، فهو كما تراه في غاية التعقيد.

_ 1 بأن لا يكون ترتيب الألفاظ على وفق ترتيب المعاني، بسبب تقديم أو تأخير أو حذف أو إضمار أو غير ذلك، مما يوجب صعوبة فهم المراد، وإن كان ذلك في الكلام جاريًا على قواعد النحو.. فإن سبب التعقيد يجوز أن يكون اجتماع أمور كل منها شائع الاستعمال في كلام العرب، ويجوز أن يكون التعقيد حاصلًا ببعض منها لكنه مع اعتبار الجميع يكون أشد وأقوى، فذكر ضعف التأليف لا يغني عن ذكر التعقيد اللفظي كما توهمه البعض. 2 هو الشاعر الأموي المشهور قرين جرير والأخطل توفي عام 110هـ. والبيت في 15 و56 أسرار البلاغة، 76 مفتاح، 65 دلائل الإعجاز، 154 و197 الصناعتين، قال ابن عبد ربه في العقد: معناه ما مثل هذا الممدوح في الناس إلا الخليفة الذي هو خاله، فقال أبو أمه حي أبوه يقاربه، فبعد المعنى القريب ووعر الطريق السهل، وليس المعنى بتوعر اللفظ وقبح البنية حتى ما يكاد ينفهم "13/ 4 العقد". 3 من الأمراء الأشراف السادة الفرسان توفي عام 125هـ وهشام أحد الخلفاء الأمويين المشهورين. 4 ما نافية، "مثله" اسمها، "في الناس" خبرها. مملكًا: مستثنى مقدم منصوب على الاستثناء. أبو أمه: مبتدأ ومضاف إليه، وحي بدل من مثله، ففيه أيضًا فصل بين البدل والمبدل منه، أبوه خبر المبتدأ، يقاربه صفة لحى، ويصح أن يكون "مملكًا" مستثنى من الضمير المستثنى في الجار والمجرور الواقع خبر ما. وأبو أمه مبتدأ خبره حي، وأبوه خبر بعد خبر، والجعلة صفة لمملكًا، وكذلك جملة يقاربه وعلى هذا الوجه فلا تعقيد في البيت، ولكن في حمله عليه تكلف شديد.

فالكلام الخالي من التعقيد اللفظي ما سلم نظمه من الخلل، فلم يكن فيه ما يخالف الأصل من تقديم أو تأخير أو إضمار أو غير ذلك، إلا وقد قامت عليه قرينة ظاهرة، لفظية أو معنوية، كما سيأتي تفصيل ذلك كله وأمثلته اللائقة به1. والثاني ما يرجع إلى المعنى، وهو ألا يكون انتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني -الذي هو لازمه والمراد به- ظاهرًا2 كقول العباس بن الأحنف:

_ 1 قال الخلخالي: ذكر ضعف التأليف يغني عن ذكر التعقيد اللفظي. وأجيب بأنه يجوز أن يحصل التعقيد باجتماع عدة أمور موجبة لصعوبة فهم المراد وإن كان كل واحد منها جاريًا على القانون النحوي مثل إلا عمرًا الناس ضرب زيد. وينفرد ضعف التأليف في مثل جاءني أحمد، ويجتمع الضعف والتعقيد في بيت الفرزدق، فبينهما عموم وخصوص من وجه ... وهذا ومن التعقيد اللفظي قول أبي تمام: ثانيه في كبد السماء، ولم يكن ... كاثنين ثان إذ هما في الغار وقول المتنبي: أنى يكون أبا البرايا آدم ... وأبوك والثقلان أنت محمد وتركيب البيت الصحيح: أنى يكون آدم أبا البرايا وأبوك محمد وأنت الثقلان، وكذلك قول الفرزدق: إلى ملك ما أمه من "محارب" ... أبوه ولا كانت "كليب" تصاهره أي: إلى ملك أبوه ما أمه من محارب ولا كانت تصاهره كليب. 2 أي أن لا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد لخلل واقع في انتقال الذهن -أي بسبب بطء نفس السامع في انتقالها- من المعنى الأول الذي هو المعنى الأصلي الحقيقي للكلام إلى المعنى الثاني الملابس له وهو المعنى الكنائي أو المجازي. والحاصل أن من شروط فصاحة الكلام أن يسلم من التعقيد المعنوي بأن لا يكون ما فيه من كناية أو مجاز بعيدًا عن الفهم والوضوح: فإن من شروط فصاحة الكناية والمجاز قرب فهم المعنى الثاني من أصله الحقيقي، وإلا كانا غير فصيحين بحيث يفتقر في فهمه إلى وسائط مع خفاء القرينة، فالمدار في صعوبة الفهم على خفاء القرينة كثرت الوسائط أو لا، وخفاء القرائن أو عدم خفائها بحسب جريان الكلام على أسلوب البلغاء أو عدم جريانه، وسبب الخفاء إيراد اللوازم البعيدة المفتقرة إلى الوسائط الكثيرة مع خفاء القرائن الدالة على المقصود بسبب عدم جريان الكلام على أسلوب البلغاء، فلو كانت القرينة ظاهرة فلا خلل تعددت الوسائط أم لا. هذا وتجد الكلام على التعقيد المعنوي في دلائل الإعجاز صحيفة 207.

سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا1 كنى بسكب الدموع عما يوجبه الفراق من الحزن، وأصاب؛ لأن من شأن البكاء أن يكون كناية عنه، كقولهم: أبكاني وأضحكني أي ساءني وسرني، وكما قال الحماسي2:

_ 1 العباس شاعر عباسي، غزل مجيد. والبيت في 208 دلائل الإعجاز، وتعليق الخطيب على البيت مأخوذ من عبد القاهر في دلائل الإعجاز. وتسكب في البيت بالرفع وهو الصحيح، ونصبه على العطف على "بعد" أو على "لتقربوا" وهم، ومعنى البيت: أني اليوم أطيب نفسًا بالفراق والبعد، وأوطنها على مقاساة الأحزان والأشواق، وأتجرع غصصها وأتحمل لأجلها حزنًا يفيض الدموع من عيني؛ لأتسبب بذلك إلى وصل يدوم فإن الصبر مفتاح الفرج ولكل بداية نهاية ومع كل عسر يسرًا، كما يشير إليه عبد القاهر في دلائل الإعجاز ... وعلى هذا فالسين في "سأطلب" لمجرد التأكيد على ما ذكره صاحب الكشاف في قوله تعالى "سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا". 2 هو حطان بن المعلى، شاعر إسلامي مشهور. والبيت من السريع، وهو في الحماسة، وتجده أيضًا في دلائل الإعجاز "ص208" ومثل البيت قول مسلم: أبكاني الدهر مما كان أضحكني ... والدهر يخلط أحلاء بأمرار وقول الخنساء: ألا يا صخر إن أبكيت عيني ... لقد أضحكتني زمنًا طويلًا

أبكاني الدهر ويا ربما ... أضحكني الدهر بما يرضى ثم طرد ذلك في نقيضه، فأراد أن يكنى عما يوجبه دوام التلاقي من السرور بالجمود، لظنه أن الجمود خلو العين من البكاء مطلقًا من غير اعتبار شيء آخر، وأخطأ1: لأن الجمود خلو العين من البكاء في حال إرادة البكاء منها، فلا يكون كناية عن المسرة، وإنما يكون كناية عن البخل كما قال الشاعر2: ألا إن عينًا لم تجد يوم "واسط" ... عليك بجاري دمعها لجمود ولو كان الجمود يلح أن يراد به عدم البكاء في حال المسرة لجاز أن يدعى به للرجل، فيقال: لا زالت عينك جامدة، كما يقال: لا أبكى الله عينك. وذلك مما لا يشك في بطلانه. وعلى ذلك قول أهل اللغة: سنة "جماد" لا مطر فيها، وناقة جماد: لا لبن لها، فكما لا تجعل السنة والناقة جمادًا إلا على معنى أن السنة بخيلة بالقطر، والناقة لا تسخو بالدر، لا تجعل العين جمودًا.

_ 1 لعدم فهم ذلك اللازم بسرعة من جمود العين ففيه مخالفة لموارد استعمال البلغاء؛ لأن تعارف البلغاء على خلافه، فهو مخطئ في نظر البلغاء وإن صح أن يكون لكلامه وجه من التأويل يحمل كلامه على ما يصححه بأن نقول: استعمل جمود العين الذي هو يبسها في حال خلوها من الدموع مطلقًا مجازًا مرسلًا من باب استعمال المقيد في المطلق، ثم كنى به عن دوام السرور لكونه لازمًا لذلك عادة، وهذا وان كان معنى صحيحًا إلا أن فيه بعدًا وتعقيدًا. 2 هو أبو عطاء يرثي ابن هبيرة وقد قتل في معركة يوم "واسط". والبيت في ص208 من دلائل الإعجاز وهو من أبيات عزاها المرتضى لمعن بن زائدة.

ألا وهناك ما يقتضي إرادة البكاء منها، وما يجعلها إذا بكت محسنة موصوفة بأنها قد جادت، وإذا لم تبك مسيئة موصوفة بأنها قد ضنت. فالكلام الخالي عن التعقيد المعنوي ما كان الانتقال من معناه الأول إلى معناه الثاني -الذي هو المراد به- ظاهرًا، حتى يخيل إلى السامع أنه فهمه من حاق اللفظ، كما سيأتي من الأمثلة المختارة للاستعارة والكناية. وقيل فصاحة الكلام هو خلوصه مما ذكر1 ومن كثرة التكرار2 وتتابع الإضافات. كما في قول أبي الطيب "المتنبي": "وتسعدني في غمرة بعد غمرة" ... سبوح لها منها عليها شواهد3 وكما في قول ابن بابك4:

_ 1 أي من الضعف والتنافر والتعقيد. 2 أي للفظ الواحد اسمًا كان أو فعلًا أو حرفًا. 3 سبوح: أي فرس حسن الجري لا تتعب راكبها كأنها تجري في الماء "لها" صفة لسبوح، و"منها" حال من شواهد، و"عليها" متعلق بشواهد، و"شواهد" فاعل الظرف -أعني "لها"- يعني أن لها من نفسها علامات دالة علي نجابتها وأصالتها. والغمرة: هي الشدة. قيل التكرار ذكر الشيء مرة بعد أخرى ولا يخفى أنه لا تحصل كثرته بذكره ثالثًا بل لا تحصل الكثرة إلا بذكره ست مرات فالتكرار ذكر الشيء مرتين وتعدده بالتربيع وكثرته بالتسديس، وأجيب بأن المراد بالكثرة ما يقابل الواحدة ولا يخفى حصولها بذكرة ثالثًا. والشاهد في البيت كثرة التكرار فيه. 4 من شعراء العصر العباسي. وله ترجمة في اليتيمة. مدح عضد الدولة والصاحب، وتوفي عام 410هـ.

حمامة جرعا حومة الجندل اسجعي ... "فأنت بمرأى من سعاد ومسمع"1 وفيه نظر 2؛ لأن ذلك 3 أن أفضي باللفظ إلى الثقل على اللسان فقد حصل الاحتراز عنه بما تقدم4، وإلا فلا يخل بالفصاحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم. يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" 5.

_ 1 الشاهد في البيت كثرة الإضافات المتتابعة، ففيه إضافة حمامة إلى جرعى وجرعى إلى حومة، وحومة إلى الجندل. والجرعى: تأنيث الأجرع قصرها للضرورة وهي أرض ذت رمل لا تنبت شيئًا. والحومة: معظم الشيء. الجندل: أرض ذات حجارة. السجع: هدير الحمام ونحوه. والمعنى أيتها الحمامة التي تعيش أو تحلق في هذا المكان غنى وأصدحي فأنت بحيث تراك سعاد المحبوبة وتسمع صوتك، يقال: فلان بمرأى مني ومسمع، أي بحيث أراه وأسمع قوله كما في الصحاح، ومن الخطأ أن يقال فأنت بموضع ترين منه سعاد وتسمعين كلامها. ومثل البيت في تتابع الإضافات قول أبي العتاهية: سبحان ذي الملكوت أي ليلة ... مخضت بوجه صباح يوم الموقف وقول مسلم: ثاروا إلى صفق الشمول فأشعلوا ... نيران حرب كؤوسها إشعالًا 2 أي في القول السابق الذي يجعل خلو الكلام من كثرة التكرار وتتابع الإضافات شرطًا لفصاحته. 3 أي كثرة التكرار وتتابع الإضافات. 4 أي بما سبق ذكره من التنافر. 5 يسمى هذا اللون في البديع "الإطراد". ووردت أيضًا مثل للتكرير وتتابع الإضافات غير معيبة، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَاْهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُوْرَهَا وَتَقْوَاهَا} . وقال: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوْحً} . وقال: {ذَكْرُ رَحْمَةِ رَبِكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} .

قال الشيخ عبد القاهر1: قال الصاحب2. إياك والإضافات المتداخلة، فإنها لا تحسن، وذكر أنها تستعمل في الهجاء، كقول القائل: يا علي بن حمزة بن عماره ... أنت والله ثلجة في خياره ثم قال الشيخ3: ولا شك في ثقل ذلك في الأكثر، لكنه إذا سلم من الاستكراه ملح ولطف. ومما حسن فيه قول ابن المعتز4 أيضًا: وظلت تدير الراح أيدي جآذر ... عتاق دنانير الوجوه، ملاح5 ومما جاء فيه حسنًا جميلًا قول الخالدي6 يصف غلامًا له: ويعرف الشعر مثل معرفتي ... وهو على أن يزيد مجتهد وصيرفي القريض وزان ... دينار المعاني الدقاق، منتقد7

_ 1 راجع هذا القول في ص82 من دلائل الإعجاز. 2 هو الصاحب بن عباد الوزير م 385هـ، والبيت الآتي يتهكم، فيه بعلي بن حمزة البصري اللغوي المتوفى عام 390هـ. 3 أي عبد القاهر أيضًا. 4 هو الخليفة العباسي الشاعر الأديب العالم الناقد، توفي عام 296هـ. 5 الراح: الخمر. جآذر: جمع جؤذر وهو ولد البقرة الوحشية. 6 سعيد بن هشام، من شعراء اليتيمة، رقيق الشعر مطبوع توفي عام 370هـ. 7 الصيرفي: المحتال في الأمور. المنتقد: الخبير بالدراهم الجيدة والزيوف ثم أطلق فصار بمعنى الخبير بالشيء مطلقًا. والمعنى هو مثلي في معرفة الشعر والبصر به ونظمه بل هو لديه القدرة على أن يكون أبرع مما هو فيه، وهو دقيق البصر بالشعر ناقد له يزن المعاني الدقيقة بموازين النقد التي لا تسرف فيه الحكم والتقدير.

..........................................................................

_ والشاهد في البيت كثرة الإضافات مع حسنها، وهو الشاهد في البيت السابق. شواهد للإخلال بالفصاحة: قال تأبط شرًّا: يظل بموماة ويمسي بغيرها ... جحيشًا ويعرورى ظهور المسالك وقال حسان يرثي: ولو أن مجدًا أخدل الدهر واحدًا ... من الناس أبقى مجد هـ الدهر مطعما وقال المتنبي: كيف ترثي التي ترى كل جفن ... راءها غير جفنها غير راق وقال الفرزدق: وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأبصار وقال أبو تمام: قد قلت لما أطلخم الأمر وانبعث ... عشواء تالية غبسًا دهاريسا لي حرمة بك أضحى حق نازلها ... وقفا عليك، فدتك النفس، محبوسًا وللمتنبي: جفخت وهم لا يجفخون بها بهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل وقال: أقل، أنل، اقطع، احمل سل، أعد ... زد، هش، بش، تفضل، سر أدن، صل وقال الشاعر: فأصبحت بعد خط بهجتها ... كأن قفرًا رسومها قلما وللمتنبي: ومن جاهل بي وهو يجهل جهله ... ويجهل علمي أنه بي جاهل فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيس كلهن قلاقل وقال الحريري: غازور من كان له زائر ... وعاف عافى العرف عرفانه ولبشر بن عوانة أو للبديع في وصف الأسد: فخر مضرجًا بدم كأني ... هدمت به بناء مشمخرًّا وقال المتنبي: فلا يبرم الأمر الذي هو حالل ... ولا يحلل الأمر الذي هو مبرم وقال المتنبي: أنى يكون أبا البرايا آدم ... وأبوك والثقلان أنت محمد قال امرؤ القيس في وصف الفرس: وأركب في الروع خيفانة ... كسا وجهها سعف منتشر وقال أبو تمام: جذبت نداء غدوة السبت جذبة ... فخر صريعًا بين أيدي القصائد

وأما فصاحة المتكلم: فهي ملكة "1" يقتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح. فالملكة قسم من مقولة الكيف التي هي هيئة قارة لا تقتضي قسمة ولا نسبة، وهو مختص بذوات الأنفس راسخ في موضوعه. وقيل: ملكة. ولم يقل صفة، ليشعر بأن الفصاحة من الهيئات الراسخة، حتى لا يكون المعبر عن مقصوده بلفظ فصيح فصيحًا. إلا إذا كانت الصفة التي اقتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح راسخة فيه. وقيل يقتدر بها، ولم يقل بعبر بها، ليشمل حالتي النطق وعدمه: وقيل: بلفظ فصيح، ليعم المفرد والمركب2.

_ 1 الملكة: كيفية راسخة في النفس. 2 أما المركب فظاهر. وأما المفرد فكما تقول عند التعداد: دار، غلام. جارية، ثوب. إلى غير ذلك.

البلاغة. وأما بلاغة الكلام: فهي مطابقته لمتقضى الحال1 مع فصاحته.

_ 1 أي لجميع ما يقتضيه الحال على قدر الطاقة، فالمراد المطابقة الكاملة وقوله لمتقضى الحال أي لمناسب الحال لا موجبه، والمراد بمناسب الحال الخصوصيات التي يبحث عنها في علم المعاني دون كيفيات دلالة اللفظ التي يتكفل بها علم البيان إذ قد تتحقق البلاغة في الكلام بدون رعايتها بأن يؤدي الكلام الطابق بدلالات وضعية. نعم إذا أدى المعنى بدلالات عقلية مختلفة في الوضوح والخفاء فلا بد في بلاغة الكلام من رعاية كيفية الدلالة أيضًا. والحال هو الداعي للمتكلم إلى إيراد الكلام على وجه مخصوص، أي إلى أن يعتبر مع الكلام الذي يؤدي به أصل المعنى خصوصية ما، وهي مقتضى الحال. مثلًا إنكار المخاطب للحكم حال يقتضي تأكيده، والتأكيد مقتضى الحال. ومعنى مطابقته له أن الحال إن اقتضى التأكيد كأن الكلام مؤكدًا وإن اقتضى الإطلاق كان الكلام عاريًا عن التأكيد، وهكذا إن اقتضى حذف المسند إليه حذفه وإن اقتضى ذكره ذكره، إلى غير ذلك من التفاصيل المشتمل عليها علم المعاني. فالإنكار حال، والتأكيد مقتضى، وقولك "إن زيدًا في الدار" مؤكدًا بأن كلام مطابق لمقتضى الحال، يعني أنه مشتمل عليه، إذ هذا المثال مشتمل على التأكيد، وليس المراد بكونه مطابقًا له أنه جزئي من جزئياته إذ لا يصدق عليه أي لا يحمل عليه، ضرورة أن مقتضى الحال هو التأكيد وهو لا يحمل على قولك أن زيدًا في الدار إذ لا يقال "إن زيدًا في الدار" تأكيد، فالمراد بالمطابقة هنا الاشتمال لا مصطلح المناطقة الذي هو الصدق. والتحقيق أن مقتضى الحال هو الكلام الكلي المشتمل على الخصوصية، ومطابقة الكلام لذلك المقتضى كون الكلام الجزئي الصادر من المتكلم الملقى للمخاطب المشتمل على الخصوصية من أفراد ذلك الكلام الكلي الذي يقتضيه الحال، فإن ذلك المقتضى صادق عليه، فقولنا" إن زيدًا في الدار" مؤكدًا جزئي من جزئيات ذلك الكلام الكلي الذي يقتضيه الحال، الذي هو الإنكار المقتضى لكلام مؤكد بمطلق تأكيد لا بتأكيد مخصوص، فقولنا "أن زيدًا في الدار" مطابق له بمعنى أنه صادق عليه -أي بمعنى أن الكلام الكلي المؤكد الذي هو مقتضى الحال صادق ومحمول على هذا الجزئي لكونه جزئيًّا من جزئياته. فالبلاغة على هذا التحقيق مطابقة هذا الجزئي لذلك الكلي بمعنى كونه جزئيا من جزئياته بحيث يصح حمل مقتضى الحال عليه، فالكلام الجزئي مطابق "بكسر الباء" والكلام الكلي مطابق "بفتحها". هذا هو تحقيق السعد في مختصره، وإن كان قد حقق في كبيره أن التحقيق هو مذهب الجمهور الأول: من أن المقتضى هي الخصوصية والمطابقة هي الاشتمال. وهذا والحال على المذهبين واحد، وهو الأمر الداعي للمتكلم إلى أن يعتبر مع الكلام الذي يؤدي به أصل المراد خصوصية ما، سواء كان ذلك الأمر داعيًا له في نفس الأمر أو غير داع في نفس الأمر بل بتنزيل، فالحال هو الأمر الداعي مطلقًا. أما ظاهر الحال فهو الأمر الداعي في نفس الأمر لاعتبار المتكلم خصوصية ما، فهو أخص من الحال.

ومقتضى الحال مختلف. فإن مقامات الكلام متفاوتة1 فمقام التنكير يباين مقام التعريف2 ومقام الإطلاق يباين مقام التقييد3 ومقام التقديم يباين مقام التأخير4، ومقام الذكر يباين مقام الحذف، ومقام القصر يباين مقام خلافة، ومقام الفصل يباين مقام الوصل،

_ 1 لأن الاعتبار اللائق بهذا المقام يغاير الاعتبار اللائق بذلك، وهذا عين تفاوت مقتضيات الأحوال؛ لأن التغاير بين الحال والمقام إنما هو بحسب الاعتبار، وهو أنه يتوهم في الحال كونه زمانًا لورود الكلام فيه، وفي المقام كونه محلًّا له. 2 فالمقام الذي يناسبه تنكير المسند إليه أو المسند يباين المقام الذي يناسبه التعريف. 3 أي مقام إطلاق الحكم أو التطبيق أو المسند إليه أو السند أو متعلقه يباين مقام تقييده بمؤكد أو أداة أو تابع أو شرط أو مفعول أو ما يشبه ذلك. 4 أي مقام تقديم المسند إليه أو متعلقاته يباين مقام تأخيره.

ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب والمساواة، وكذا خطاب الذكي يباين خطاب الغبي1. وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام 2.. إلى غير ذلك كما سيأتي تفصيل الجميع. وارتفاع3 شأن الكلام في الحسن والقبول بمطابقته للاعتبار المناسب4، وانحطاطه بعدم مطابقته له. فمتقضى الحال هو الاعتبار المناسب5

_ 1 فإن مقام الأول يباين مقام الثاني؛ لأن الذكي يناسبه من الاعتبارات اللطيفة والمعاني الدقيقة الخفية ما لا يناسب الغبي. 2 راجع ص13 من المفتاح. وقوله ولكل كلمة أي كالفعل، مع صاحبتها أي كأداة الشرط مثل أن الشرطية إذ لها معها مقام ليس لذلك الكلمة مع ما يشارك تلك الصاحبة في أصل المعنى كذا الشرطية، فالفعل الذي قصد اقترانه بأداة الشرط له مع أن مقام ليس له مع إذا وكذلك من أدوات الشرط مع الماضي مقام ليس له مع المضارع، على أن المراد بالكلمة أداة الشرط وبصاحبتها الماضي وبمشارك الصاحبة الفعل المضارع. وهكذا ما يشبه ذلك فللفعل مع هل الاستفهامية مقام ليس له مع الهمزة، والمسند إليه مع المسند الفعلي له مقام معه ليس له مع المسند الاسمي الخ. 3 راجع ص73 من المفتاح تجد ما هنا مأخوذًا منه بالنص والمقصود من هذا بيان تعدد مراتب البلاغة، والحسن المراد منه الحسن الذاتي الداخل في البلاغة لا العرضي الخارج لحصوله بالمحسنات البديعية، والمراد بالقبول عند السامع. والمراد بالكلام الكلام الفصيح. 4 أي باشتماله على الأمر المعتبر المناسب لحال المخاطب، فكلما كان الاشتمال أتم كان الكلام أرفع وأعلى. فالمراد بالاعتبار المناسب الأمر الذي اعتبره المتكلم مناسبًا بحسب السليقة للعرب الخاص أو بحسب تتبع خواص تراكيب البلغاء لغيرهم. 5 يعني إذا علم أن ليس ارتفاع شأن الكلام الفصيح في الحسن الذاتي إلا بمطابقته للاعتبار المناسب على ما يفيده إضافة المصدر –لأنه مفرد مضاف لمعرفة فيعم والعموم في هذا المقام يستلزم الحصر.. فالمعنى كل ارتفاع فهو بالمطابقة. فالباء في قولنا: بمطابقته للسببية القريبة حتى يفيد العموم -ومعلوم أنه إنما يرتفع بالبلاغة التي هي عبارة عن مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال. فقد علم أن المراد بالاعتبار المناسب ومقتضى الحال واحد. فهما متحدان أو متساويان. فمقتضى الحال هو مناسب الحال لا موجبه.

وهذا -أعني تطبيق الكلام على مقتضى الحال- هو الذي يسميه الشيخ عبد القاهر بالنظم. حيث يقول: النظم تآخي معاني النحو فيما بين الكلم، على حسب الأغراض التي يصاغ لها الكلام. فالبلاغة صفة راجعة إلى اللفظ باعتبار إفادته المعنى1 عند التركيب2. وكثيرًا ما يسمى ذلك3 فصاحة أيضًا4. وهو مراد الشيخ

_ 1 صرح عبد القاهر بأن وصف اللفظ بالفصاحة إنما هو من حيث أنه دال على المعنى "50 دلائل الإعجاز". والحاصل أنه إذا كانت البلاغة هي المطابقة والمطابقة صفة المطابق فتكون المطابقة راجعة للكلام من رجوع الصفة للموصوف. لكن رجوعها له باعتبار أفادته المعنى الحاصل بسبب التركيب، وهو المعنى الثاني الذي يعتبره البلغاء. وهو الخصوصيات التي يقتضيها الحال الزائد على أصل المراد. فالبلاغة إذا وصف بها المعنى كان المراد المعنى الثاني باعتبار أن المقصود من اللفظ إفادته. وإذا وصف بها اللفظ فهو باعتبار إفادته ذلك المعنى المقصود ونفيه عن اللفظ مراد به اللفظ المجرد عن المعنى والخصوصيات. ونفيها عن المعنى مراد به المعنى الأول للفظ الذي هو مجرد ثبوت المحكوم للمحكوم عليه. 2 لأن البلاغة عبارة عن مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال، فظاهر أن اعتبار المطابقة وعدمها إنما تكون باعتبار المعاني والأغراض التي يصاغ لها الكلام لا باعتبار الألفاظ المفردة والكلم المجردة. 3 أي الوصف المذكور. 4 كما يسمى بلاغة، فهما مترادفان، عن عبد القاهر حقيقة، وعلى شيء من التجوز عند الخطيب.

عبد القاهر بما يكرره في دلائل الإعجاز من أن الفصاحة صفة راجعة إلى المعنى دون اللفظ، كقوله في أثناء فصل منه: علمت أن الفصاحة والبلاغة وسائر ما يجري في طريقهما أوصاف راجعة إلى المعاني، وإلى ما يدل عليه بالألفاظ، دون الألفاظ أنفسها. وإنما قلنا مراده ذلك؛ لأنه صرح في مواضع من دلائل الإعجاز بأن فضيلة الكلام للفظه لا لمعناه، منها أنه حكى قول من ذهب إلى عكس ذلك فقال: "فأنت تراه لا يقدم شعرًا حتى يكون قد أودع حكمة أو أدبًا أو اشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر". ثم قال: "والأمر بالضد إذا جئنا إلى الحقائق وما عليه المحصلون؛ لأنا لا نرى متقدمًا في علم البلاغة مبرزًا في شأوها إلا وهو ينكر هذا الرأي"، ثم نقل عن الجاحظ في ذلك كلامًا منه قوله: "والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي1 وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك".. ثم قال: "ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير فيه كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار. فكما أنه محال إذا أردت النظر في صوغ الخاتم وجودة العمل ورداءته أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع فيه ذلك العمل، كذلك محال إذا أردت أن تعرف كان الفضل والمزية في الكلام أن تنظر في مجرد معناه، وكما لو فضلنا خاتمًا بأن تكون فضة هذا أجود أو فضه أنفس لم يكن ذلك تفضيلًا له من حيث هو خاتم، كذلك ينبغي إذا فصلنا بيتًا على بيت من أجل معناه أن لا يكون ذلك تفضيلًا له من حيث هو شعر وكلام".

_ 1- 340 جـ3 الحيوان.. وذلك في الصناعتين ص55.

هذا لفظه، وهو صريح في أن الكلام من حيث هو كلام لا يوصف بالفضيلة باعتبار شرف معناه، ولا شك أن الفصاحة من صفاته الفاضلة، فلا تكون راجعة إلى المعنى، وقد صرح فيما سبق بأنها راجعة إلى المعنى دون اللفظ. فالجمع بينهما بما قدمنا بحمل كلامه حيث نفى أنها من صفات اللفظ على نفي أنها من صفات المفردات1 من غير اعتبار التركيب، وحيث أثبت أنها من صفاته على أنها من صفاته باعتبار إفادته المعنى عند التركيب. وللبلاغة طرفان: أعلى، إليه تنتهي، وهو حد الإعجاز2، وما يقرب منه3.

_ 1 أي المفردة عن اعتبار إفادة المعنى -وهي الخصوصيات- وليس المراد التي هي غير مركبة. 2 الإعجاز أن يرتقي الكلام في بلاغته إلى أن يخرج عن طوق البشر ويعجزهم عن معارضته. 3 عطف على قوله "وهو"، والضمير في منه عائد إلى أعلى، يعني أن الأعلى مع ما يقرب منه كلاهما حد الإعجاز، وهذا هو الموافق لما في المفتاح فالبلاغة أمر كلي لها ثلاث مراتب: مرتبة عليا ولها فردان، وسفلى وهي فرد واحد، ووسطى ولها أفراد. ويترتب على هذا أن بعض القرآن أبلغ من بعض وإن كان الجميع معجزًا. ويجوز أن يكون "وما يقرب منه" معطوفًا على "حد الإعجاز" والضمير في منه عائد إليه، يعني أن الطرف الأعلى هو حد الإعجاز. وما يقرب من حد الإعجاز. فهذا عكس الأول، إذ الأول يفيد أن حد الإعجاز نوع له فردان: الأعلى وما يقرب منه، وهذا يفيد أن الطرف الأعلى نوع تحته فردان: حد الإعجاز وما يقرب منه. والمراد بحد الإعجاز البلاغة في أقصر سورة، وما يقرب منه البلاغة في مقدار آية أو آيتين. وفي التقدير الثاني نظرًا؛ لأن القريب من حد الإعجاز لا يكون من الطرف الأعلى الذي هو حد الإعجاز.

وأسفل، منه تبتدئ وهو ما1 إذا غير الكلام عنه إلى ما هو دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات2 وإن كان صحيح الإعراب ... وبين الطرفين مراتب كثيرة متفاوتة3: وإذ قد عرفت معنى البلاغة في الكلام وأقسامها ومرابتها، فاعلم

_ 1 أي هو طرف للبلاغة إذا غير الكلام عنه إلى مرتبة هي أدنى منه وأنزل. 2 التي تصدر عن محالها بحسب ما يتفق من غير اعتبار اللطائف والخواص الزائدة على أصل المراد. 3 أي بعضها أعلى من بعض بحسب تفاوت المقامات ورعاية الاعتبارات والبعد من أسباب الإخلال بالفصاحة بناء على أن البلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال في الجملة، لكن الحق كما في عبد الحكيم أنها مطابقة الكلام لجميع ما يقتضيه الحال لكن بقدر الطاقة. هذا وبلاغة الكلام تتفاوت باختلاف الخصوصيات كما أو كيفا والمقام واحد، وباختلاف الخصوصيات تبعًا لاختلاف المقامات، وبترك خصوصية مراعاة لحال المخاطب. وللبلاغة طرف أسفل وطرف أعلى وما بينهما: أما الأسفل فهو الكلام الفصيح الذي طابق أدنى مطابقة وليس تحته إلا ما يلتحق بأصوات الحيوانات. وأما الأعلى فهو حد الإعجاز الكلام الإلهي وما يقرب منه "وهو أبلغ كلام البشر".. وبينهما مراتب لا تحصى. ولنا أن نتسائل. هل في طاقة البلغاء -بالطبع أو بالاكتساب- الوصول إلى حد الإعجاز، ولو بأن يأتوا بمثال أقصر سورة من القرآن؟ وللجواب على ذلك. أقول: ولا شك أن علوم البلاغة ترسم أصول البيان العربي والسليقة العربية ومناهج الأداء والأسلوب، وبالوقوف على ذلك يمكن مع سلامة الذوق محاكاة أهل هذه السليقة في بلاغتهم، فنتكلم عن علوم البلاغة - لأنها قواعد السليقة العربية، وهل توصل إلى حد الإعجاز، وهل هي صالحة كأداة للوصول إلى مرتبة الإعجاز؟ ولا شك أن علوم البلاغة لا تؤدي إلى الوصول لحد البلاغة؛ لأنها لا تعرفنا المقامات بل الخصوصيات وحدها، ولو فرضنا جدلًا أنها تعرفنا مع الخصوصيات المقامات أيضًا، فلا تسلم الإحاطة بها لو فرضنا الإحاطة بها فإنها لا تعطيك قدرة على إنشاء كلام بليغ بدليل أن كثيرًا من علماء البلاغة لم يستطيعوا الإتيان بكلام بليغ، ولو فرضنا أنها تعطي الملكة فلا شك في أن الملكة البشرية لا تقدر على مراعاة الخصائص كلها في الكلام البليغ.

أنه يتبعها وجوه كثيرة1 غير راجعة إلى مطابقة مقتضى الحال ولا إلى الفصاحة، تورث الكلام حسنًا وقبولًا.

_ 1 هذا ويرى علماء البلاغة أن القرآن يتفاوت في بلاغته؛ لأنه: أقد يقتضي المقام عشر خصوصيات فيأتي الله عز وجل بخمس منها حسب قدرة البشر مراعاة للمقام. ب وقد تختلف المقامات فيكون مقام مقتضيًا لعشر خصوصيات وآخر مقتضيًا لخمس ولا شك أن الكلام الذي روعيت فيه العشرة أبلغ من الآخر. وأرى أن القرآن لا تتفاوت بلاغته وأن أسلوبه وسوره وآياته في درجة واحدة من البلاغة. ويمكن الرد على رأي علماء البلاغة بما يأتي: أأن مراعاة مقام المخاطب والاتيان بكلام يوافق حاله هو البلاغة الكاملة التي ليس فيها تفاوت. ب لا نسلم أن الكلام الأول أبلغ من الثاني بل هما في درجة واحدة من البلاغة؛ لأن العبرة ليست بالكم بل بالكيف، ولو سلمنا لهم رأيهم لكانت سورة البقرة أبلغ من "قل هو الله أحد" أو لكانت أبلغ من نصفها، أو لكان القرآن أبلغ من سورة منه. أوهي المحسنات البديعية، وتحسينها عرضي خارج عن حد البلاغة، وإنما تعد محسنة بعد رعاية المطابقة والفصاحة. وجعلها تابعة لبلاغة الكلام دون المتكلم؛ لأنها ليست مما تجعل المتكلم متصفًا بصفة. والمحسنات البديعية إن أتى بها في الأسلوب من حيث أنها محسنة بحث عنها في علم البديع وكان تحسينها عرضيًّا، أما إذا اعتبرت من حيث المطابقة فتحسينها ذاتي يبحث عنه في علم المعاني. هذا والبلاغة هي المطابقة والفصاحة واعتبار الخصوصيات، فالمطابقة والفصاحة أعم من البلاغة من حيث التحقق؛ لأنهما يوجدان بدون البلاغة فيما إذا لم تراع الخصوصية، وحينئذ فلا يعلم من كون تلك الوجوه تابعة للبلاغة كونها غيرهما؛ لأنهما تابعان لها أيضًا باعتبار أنهما من جملتها، فاحتاج إلى إفادة أنها غيرهما، فقال الخطيب في التلخيص: ويتبعها وجوه أخر، فقوله "أخر" يفيد أن تلك الوجوه ليست للازمة للبلاغة لكونها سوى الأمرين اللذين تحصل بهما البلاغة وتلك الوجوه في الكلام إنما تكون بعد البلاغة. ويقول السكاكي: البلاغة بمرجعها: علم المعاني وعلم البيان، والفصاحة بنوعيها: اللفظية والمعنوية، ما يكسو الكلام حلة التزيين، وههنا وجوه مخصوصة كثيرًا ما يصار إليها لقصد تحسين الكلام وهي قسمان: قسم يرجع إلى المعنى وقسم يرجع إلى اللفظ ص176 مفتاح.

وأما بلاغة المتكلم: فهي ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ. وقد علم بما ذكرنا1 أمران: أحدهما: أن كل بليغ -كلامًا كان أو متكلمًا فصيح2، وليس كل فصيح بليغًا3. الثاني: أن البلاغة في الكلام: مرجعها إلى الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد4، وإلى تمييز الكلام الفصيح من غيره5.

_ 1 أي من تعريف البلاغة والفصاحة. 2 لأن الفصاحة مأخوذة في تعريف البلاغة مطلقًا، أي بلاغة كلام أو متكلم، لكن أخذها في بلاغة الكلام صراحة وفي بلاغة المتكلم بواسطة. 3 لجواز أن يكون كلام فصيح غير مطابق لمقتضى الحال. وكذا يجوز أن يكون لأحد ملكه يقتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح من غير مطابقة لمقتضى الحال. 4 وإلا ربما أدى المعنى المراد بلفظ فصيح غير مطابق لمقتضى الحال فلا يكون بليغًا. 5 الأولى أن يقال: وإلى الاحتراز عن أسباب الإخلال بالفصاحة، وذلك لئلا يؤدي الكلام المطابق لمقتضى الحال بلفظ غير فصيح، فلا يكون أيضًا بليغًا لوجوب وجود الفصاحة في البلاغة. ويدخل في تمييز الكلام الفصيح من غيره تمييز الكلمات الفصيحة من غيرها لتوقفه عليها.

والثاني -أعني التمييز1- منه ما يتبين في علم متن2 اللغة، أو التصريف3، أو النحو4، أو يدرك بالحس5، وهو 6 ما عدا التعقيد المعنوي7. وما يحترز به عن الأول -أعني الخطأ8- هو علم المعاني. وما يحترز به عن الثاني -أعني التعقيد المعنوى- هو علم البيان9. وما يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال وفصاحته، هو علم البديع.

_ 1 أي تمييز الفصيح من غيره. 2 وذلك كالغرابة، يعني يعرف بعلم متن اللغة تمييز السالم من الغرابة عن غيره بمعنى أن من تتبع الكتب المتداولة وأحاط بمعاني المفدرات المأنوسة علم أن ما عداها مما يفتقر إلى تنقير أو تخريج فهو غير سالم من الغرابة. 3 وذلك كمخالفة القياس. 4 كضعف التأليف والتعقيد اللفظي. 5 أي بالذوق وذلك كالتنافر في مستشزر مثلًا أو في "وقبر حرب: البيت". 6 وهو أي ما يبين في العلوم المذكورة أو ما يدرك بالحس. 7 إذ لا يعرف بتلك العلوم تمييز السلام من التعقيد المعنوي من غيره. 8 أي في تأدية المعنى المراد. 9 يسمون هذين العلمين علم البلاغة لمكان مزيد اختصاص لهما بالبلاغة وإن كانت البلاغة تتوقف على غيرهما من العلوم كاللغة والنحو والصرف.

وكثير من الناس يسمى الجميع علم البيان1. وبعضهم يسمى الأول علم المعاني، والثاني والثالث علم البيان، والثلاثة علم البديع.

_ 1 والبيان في غير الاصطلاح هو المنطق الفصيح المعبر عما في الضمير. ملاحظة: المعنى الأول هو أصل المراد، وهو ثبوت المحكوم به للمحكوم عليه، والمعنى الثاني هو الخصوصيات. كما يرى ابن قاسم وابن يعقوب والشيخ يسن وسواهم، وقيل المعنى الأول هو ما يفهم من اللفظ بحسب التراكيب وهو أصل المعنى مع الخصوصيات من تعريف وتنكير إلخ، والمعنى الثاني هو الأغراض التي يقصدها المتكلم ويصوغ الكلام لأجل إفادتها وهي أحوال المخاطب التي يورد المتكلم الخصوصيات من أجلها من إشارة لمعهود وتعظيم وتحقير وإنكار وشك إلخ، وهذا بالنسبة لعلم المعاني، وأما بالنسبة لعلم البيان، فالمعاني الأول هي المدلولات المطابقية مع رعاية مقتضى الحال، والمعاني الثواني هن المعاني المجازية أو الكنائية. وهذا هو المأخوذ من الدلائل كما في المطول، وكلام السعد في المختصر يصح حمله على الوجهين. فأصل المراد إذا -الذي هو المعنى الأول- إفادة ثبوت المسند للمسند إليه بأي طريق كان، والخصوصية هي المزايا البلاغية التي يقصدها البليغ كما يرى السعد وهي المعنى الثاني.. لكن عبد الحكيم يرى أن أصل المراد هو أصل المعنى مع الخصوصيات، والمعنى الثاني هو الأغراض، راجع التجريد عند شرح قوله "ويؤتي باسم الإشارة لإفادة القرب أو البعد أو التوسط" مثلًا. ومما في التجريد نستنبط: أن مباحث علم البلاغة عند السعد تشمل المعاني الوضعية للألفاظ والتراكيب، وهي عند السيد خاصة بمستتبعات التراكيب، وعند عبد الحكيم أن مباحثها شاملة للمعاني الوضعية ولمستتبعات التراكيب. هذا والنكتة البلاغية لا يشترط فيها الاختصاص بتلك الطرق بل يكفي كونها مناسبة للمتقضى موجبة كانت أو مرجحة أولم تكن كذلك، والترجيح من قصد المتكلم، وهذه هي طريقة المفتاح، ومذهب الشارح أن النكنة لابد أن تكون موجبة أو مرجحة.

الفن الأول علم المعاني

الفن الأول: علم المعاني 1. تعريف الخطيب: وهو علم2 يعرف به أحوال اللفظ التي بها يطابق مقتضى الحال3.

_ 1 قدم المعاني على البيان لكونه منه بمنزلة المفرد من المركب، فاتصال المعاني بالبيان كاتصال المفرد بالمركب، ونسبته إليه من جهة التوقف، وإن كان توقف المركب على المفرد من جهة كونه جزءًا له، بخلاف توقف البيان على المعاني فعلم المعاني كالمفرد والبيان بمنزلة المركب، وذلك؛ لأن رعاية المطابقة لمقتضى الحال التي هي ثمرة علم المعاني معتبرة في علم البيان "من حيث أنها شرط في الاعتداد بمثمرته التي هي الإيراد، فليس المراد اعتبارها في البيان على سبيل الجزئية له؛ لأنه ليس مركبًا من اعتبار المطابقة وإيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة، فإن الرعاية أمر خارج عن البيان ليست جزءًا منه ولا فائدة له، وإنما هي شرط للاعتداد بفائدته، فاعتبرت فيه من تلك الحيثية، وأما الإيراد فهو فائدة علم البيان ومقصود منه، فاعتبر فيه من تلك الحيثية، مع زيادة شيء آخر هو إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة.. فثمرة علم المعاني تشبه الجزء من علم البيان لتوقفه عليها من حيث اعتبار ثمرته، فالرعاية والإيراد يشبهان أجزاء علم البيان لتوقفه عليهما، فكان علم المعاني بمنزلة الجزء، لكونه ثمرته المقصودة منه كالجزء. وإنما قلنا من حيث اعتبار ثمرته؛ لأن تحققه لا يتوقف على رعاية المطابقة، ومنه يمكن تحقق ملكة يقتدر بها على إيراد المعنى بطرق مختلفة وضوحًا وخفاء من غير رعاية للمطابقة، ولا شك أن هذه الملكة تسمى علم البيان. 2 أي ملكة يقتدر بها على إدراكات جزئية، ويجوز أن يراد به الأصول والقواعد المعلومة. 3 أي يطابق بها اللفظ مقتضى الحال، وذلك احتراز من الأحوال التي ليست بهذه الصفة، مثل الإعلال والإدعام والرفع والنصب وما أشبه ذلك مما لابد منه في تأدية أصل المعنى، وكذا المحسنات البديعية من التجنيس والترصيع ونحوهما مما يكون بعد رعاية المطابقة ... والمراد أنه علم تعرف به هذه الأحوال من حيث أنها يطابق بها اللفظ مقتضى الحال، لظهور أن ليس علم المعاني عبارة عن قصور معاني التعريف والتنكير مثلًا، وبهذا يخرج عن التعريف علم البيان إذ ليس البحث فيه عن أحوال اللفظ من هذه الحيثية...... والمراد بأحوال اللفظ الأمور العارضة له من التقديم والتأخير والإثبات والحذف وغير ذلك. ومقتضى الحال على التحقيق هو الكلام الكلي للتكيف بكيفية مخصوصة على ما أشير إليه في المفتاح وصرح به الشيرازي في شرحه - وذلك حيث يقول السكاكي في تعريف علم المعاني: هو تتبع خواص تراكيب البلغاء إلخ، فهو يشير إلى أن المقتضى هو الكلام المتكيف بتلك الكيفيات؛ لأ ن الذي يذكر إنما هو الكلام لا الحذف والتقديم إلخ.. وأورد أن الذي يذكر إنما هو الكلام الجزئي لا الكلي فهو كالكيفيات لا يذكر، إلا إن قلنا أنه شاع وصف الكلي بوصف جزئياته-، لا نفس الكيفيات من التقديم والتأخير والتعريف والتنكير على ما هو ظاهر عبارة المفتاح وغيره، ولو أريد بمقتضى الحال الكيفيات لا الكلام، لما صح القول بأنها أحوال بها يطابق اللفظ مقتضى الحال؛ لأنها عين مقتضى الحال.. وأحوال الإسناد أيضًا من أحوال اللفظ باعتبار أن التأكيد وتركه مثلًا من الاعتبارات الراجعة إلى نفس الجملة. وتخصيص اللفظ بالعربي مجرد اصطلاح؛ لأن الصناعة إنما وضعت لذلك.

قيل: "يعرف" دون "يعلم"، رعاية لما اعتبره بعض الفضلاء من تخصيص العلم بالكليات والمعرفة بالجزئيات، كما قال صاحب "القانون"1 في تعريف الطب: الطب علم يعرف به أحوال بدن الإنسان، وكما قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله2: التصريف علم بأصول يعرف بها أحوال أبنية الكلم. تعريف السكاكي: وقال السكاكي: "علم المعاني: هو تتبع خواص تراكيب الكلام

_ 1 هو ابن سينا و"القانون" أحد مؤلفاته المشهورة في الطب. 2 هو ابن الحاجب عثمان بن عمر الإمام العالم النحوي المشهور، مؤلف الشافية وسواها من الكتب المشهورة.

في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره، ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما تقتضي الحال ذكره1". نقد تعريف السكاكي: "قال الخطيب": وفيه2 نظر: 1 إذا التتبع ليس بعلم ولا صادق عليه، فلا يصح تعريف شيء من العلوم3 به. 2 ثم قال4: "وأعني بالتراكيب تراكيب البلغاء"، ولا شك أن معرفة البليغ من حيث هو بليغ متوقفه على معرفة البلاغة، وقد عرفها في كتابه بقوله: "البلاغة: هي بلوغ المتكلم في تأدية المعنى حدا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها5 وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها". فإن أريد بالتراكيب في حد البلاغة تراكيب البلغاء، وهو الظاهر، فقد جاء الدور6، وإن أراد غيرها فلم يبينه.

_ 1 أي إيراده في الكلام. 2 أي في تعريف السكاكي لعلم المعاني. 3 أجيب عن هذا الاعتراض: بأن المراد من التتبع العلم مجازًا مرسلًا من إطلاق المسبب على السبب 4 أي السكاكي كما في المفتاح ص70. 5 بأن يورد كل كلام موافقًا لمقتضى الحال، فالمراد بالتراكيب في 6 لأن علم البلاغة يتوقف على تراكيب البلغاء وتراكيب البلغاء تتوقف على علم البلاغة، ومتى عرفنا البلاغة فقد وصلنا إلى حد نعرف به توفية خواص التراكيب حقها. وقد أجيب عن اعتراض الدور هذا بأن بلاغة الكلام غير بلاغة المتكلم، فلا يتوقف العلم بالبليغ المتكلم على العلم ببلاغة الكلام التي وقع فيها التحديد فلا يمتنع أخذ البليغ في الحد.

3 على أن قوله "وغيره" مبهم لم يبين مراده به1. المقصود من علم المعاني: ثم المقصود من علم المعاني منحصر في ثمانية أبواب: أولها: إحوال الإسناد الخبري. وثانيها: أحوال المسند إليه. وثالثها: أحوال المسند. ورابعها: أحوال متعلقات الفعل. وخامسها: القصر. وسادسها: الإنشاء. وسابعها: الفصل والوصل. وثامنها: الإيجاز والإطناب والمساواة. ووجه الحصر أن الكلام إما خبر أو إنشاء؛ لأنه أما أن يكون

_ 1 وأجيب عن هذا الاعتراض بأن المراد به الاستهجان بقرينة الاستحسان. هذا وقد بسط الحفيد في "الدر النضيد" شرح تعريف السكاكي ونقده: وقال: المشهور أن المراد بالاستحسان المحسنات البديعية. فالبديع خارج عن المعاني والبلاغة، والأوضح في تعريف علم المعاني كما يرى السعد في المطول أن نقول: هو علم يعرف به كيفية تطبيق الكلام العربي لمقتضى الحال.

لنسبته خارج تطابقه، أو لا تطابقه. أو لا يكون لها خارج 1،

_ 1 تفصيل ذلك أن الكلام لا محالة يشتمل على نسبة تامة بين الطرفين قائمة بنفس المتكلم، وهي تعلق أحد الشيئين -أي الطرفين: المسند أو المسند إليه- بالآخر، بحيث يصح السكوت على التعلق، سواء كان ذلك التعلق إيجابيًّا أو سلبيًّا "وهذا لا يكون إلا في الخبر، بخلاف الإنشاء فلا يتصف بإيجاب ولا بسلب؛ لأنهما من أنواع الحكم، والإنشاء ليس بحكم، بل هو إيجاد معنى بلفظ يقارنه في الوجود" أو غيرهما كما في الإنشائيات. والمراد بالتعلق ما يشمل النسبة الحكمية -أعني ثبوت المحمول للموضوع- وما يشمل النسبة الإنشائية. والمراد بالإيجاب إدراك الثبوت، أي أنه مطابق للواقع أو غير مطابق، وبالسلب عكسه فهو إدراك الانتقاء أي أنه مطابق للواقع أو غير مطابق، وتفسير النسبة بإيقاع المحكوم به على المحكوم عليه أو سلبه عنه خطأ في هذا المقام؛ لأنه لا يشمل النسبة في الكلام الإنشائي، فلا يصح التقسيم. والتحقيق أن الإنشاء له نسبة كلامية ونسبة خارجية تارة يتطابقان وتارة لا. والفارق بين الخبر والإنشاء هو قصد المطابقة أو قصد عدمها في الخبر. والإنشاء ليس فيه قصد للمطابقة ولا لعدمها، وعبد الحكيم وغيره يقولون: الإنشاء لا خارج له إذ لو كان له خارج لكان خبرا يتصور فيه الصدق والكذب اللذان هما من لوازم الخارجية، واللازم باطل فبطل الملزوم. هذا والخبر له ثلاث نسب: نسبة ذهنية. ونسبة كلامية، ونسبة خارجية في أحد الأزمة الثلاثة. فبين طرفيه -اللذين هما النسبة الكلامية- في الخارج والواقع نسبة ثبوتية أو سلبية بحيث يقصد مطابقة تلك النسبة لذلك الخارج بأن تكونا ثبوتيتين أو سلبيتين أو لا يقصد مطابقتهما له، بأن تكون النسبة المفهومة من الكلام ثبوتية والتي بينهما في الخارج والواقع سلبية أو بالعكس، وأما الإنشاء فله نسبة ذهنية ونسبة كلامية، والخلاف هل له نسبة خارجية أو لا؟. قيل ليس له نسبة خارجية وهذا هو الفرق بينه وبين الخبر وقيل له نسبة خارجية، والفرق بينهما أن الخبر يقصد فيه مطابقة النسبة للخارج أو عدم مطابقتها له، والإنشاء لا يقصد فيه ذلك. والخلاصة: أن الكلام إما أن تكون نسبته بحيث تحصل من اللفظ ويكون اللفظ موجدا لها من غير قصد إلى كونه دالا على نسبة حاصلة في الواقع بين الشيئين وهو الإنشاء، أو تكون له نسبة بحيث يقصد أن لها نسبة خارجية تطابقه أو لا تطابقه وهو الخبر؛ لأن النسبة المفهومة من الكلام الحاصلة في الذهن لا بد أن تكون بين الشيئين. ومع قطع النظر عن الذهن لا بد أن يكون بين هذين الشيئين في الواقع نسبة ثبوتية بأن يكون هذا ذاك، أو سلبية بأن لا يكون هذا ذاك: ألا ترى أنك إذا قلت زيد قائم فإن القيام حاصل لزيد قطعًا. وثبوت النسبة في الواقع بين الشيئين المذكورين مع قطع النظر عن الذهن هو معنى وجود النسبة الخارجية فمعنى وجودها تحققها في الواقع.

الأول الخبر، والثاني الإنشاء. ثم الخبر لا بد له من إسناد ومسند إليه ومسند1. وأحوال هذه الثلاثة هي الأبواب الثلاثة الأولى. ثم المسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلًا أو متصلًا به أو في معناه كاسم الفاعل ونحوه 2، وهذا هو الباب الرابع. ثم الإسناد والتعلق كل واحد منهما يكون إما بقصر أو بغير قصر، وهذا هو الباب الخامس، والإنشاء هو الباب السادس. ثم الجملة إذا قرنت بأخرى فتكون الثانية إما معطوفة على الأولى أو غير معطوفة، وهذا هو الباب السابع. ولفظ الكلام البليغ إما زائد على أصل المراد لفائدة3 أو غير زائد عليه، وهذا هو الباب الثامن.

_ 1 والإنشاء كذلك أيضًا، وإنما اقتصر على الخبر لكونه أعظم شأنًا من الإنشاء، وأكثر اشتمالًا على اللطائف البلاغية المعتبرة. 2 كالمصدر واسم المفعول وما أشبه ذلك ولا داعي لتخصيص هذا الكلام بالخبر. 3 احترز بالفائدة عن التطويل فإنه الزيادة على أصل المراد لا لفائدة، على أنه لا حاجة إلى قيد الفائدة بعد تقييد الكلام بالبليغ. هذا وقد أفردت هذه الأحوال المتعلقة بالجملة بأبواب مستقلة دون غيرها من الأحوال -كالتعريف والتنكير مثلًا- لصعوبة أمرها وكثرة تشعبها بكثرة مباحثها.

........................................................................

_ تطبيق: 1- ميز الجمل الخبرية من الإنشائية وعين المسند والمسند إليه في كل جملة فيما يلي: قال بعض البلغاء: لذت بعفوك، واستجرت بصفحك، فأذقني حلاوة الرضا، وأنسني مرارة السخط فيما مضى. وقال الشاعر: ولا تصطنع إلا الكرام فإنهم ... يجازون بالنعماء من كل منعما ومن يتخذ عند اللئام صنيعة ... تجده على آثارها متندما وقال ابن المعتز: ليس الكريم الذي يعطي عطيته ... عن الثناء وإن أغلى به الثمنا بل الكريم الذي يعطي عطيته ... لغير شيء سوى استحسانه الحسنا لا يستثيب ببذل العرف محمدة ... ولا بمن إذا ما قلد المننا وقال شوقي: قف دون رأيك في الحياة مجاهدا ... إن الحياة عقيدة وجهاد وقال المتنبي: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم وقال زهير: ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم وقال عنتره: وأنا المنية في المواطن كلها ... والطعن مني سابق الآجال وقال الشاعر: أيها الرائد في صمت الرعاة ... عد إلى دنياك واهتف بالحياة وقال حافظ: ردوا على بياني بعد محمود ... أني عييت وأعيا الشعر مجهودي وقال أبو العلاء: تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد له سبك

تنبيه1: اختلف الناس في انحصار الخبر في الصادق والكاذب، فذهب الجمهور إلى أنه منحصر فيهما ثم اختلفوا: 1- فقال الأكثر منهم: صدقه مطابقة حكمه للواقع 2- هذا هو المشهور وعليه التعويل. 3- وقال بعض الناس3: صدقه مطابقة حكمه لاعتقاد المخبر

_ 1 هذا بحث عقلي لا صلة له بمباحث البلاغة إلا من ناحية أنه كالتفسير والشرح لتعريف الخبر والإنشاء، وقد أشار عبد القاهر إلى شيء من ذلك في دلائله -راجع ص407 إلى 410 من دلائل الإعجاز-، كما ذكره السكاكي في مفتاحه ص72 المفتاح، وجارى الخطيب شيخه السكاكي بالسير على هذا المنوال. 2 أي الخارج الذي يكون لنسبة الكلام الخبري، فصدق الخبر على ذلك هو مطابقة نسبته الكلامية للنسبة الخارجية، سواء طابقت الاعتقاد أو لا. وعلى هذا التعريف لا يخرج خبر الشاك عن الصادق والكاذب بخلافه على التفسير الثاني.. وتفصيل الأمر أن قولنا محمد قائم له ثلاث نسب: نسبة كلامية وهي ما يدل عليه الكلام، ونسبة ذهنية وهي ما يحصل في الذهن من النسبة الكلامية، ونسبة خارجية وهي النسبة التي بين الطرفين في الواقع، فمطابقة النسبة الكلامية للنسبة الخارجية بأن يكونا ثبوتيين أو سلبيين صدق، وعدم مطابقتها لها -بأن تكون احداهما ثبوتية والأخرى سلبية- كذب. 3 هو النظام الإمام المعتزلي المتوفى عام 235هـ: وعلى رأي النظام يكون قول القائل "السماء تحتنا" صدقا إذا كان يعتقد ذلك، ويكون قوله "السماء فوقنا" كذبا إذا لم يعتقد ذلك. والمراد بالاعتقاد الحكم الذهني الجازم أو الراجح فيعم العلم والظن. أما الشك فواسطة بين الكذب والصدق، إذ لا اعتقاد للشاك، وعلى هذا لا يتحقق انحصار الخبر في الصدق والكذب لوجود الواسطة وهي خبر الشاك، اللهم إلا أن يقال أنه كاذب؛ لأنه إذا انتفى الاعتقاد صدق عدم مطابقته للاعتقاد. هذا والكلام المشكوك فيه يرى البعض أنه ليس خبرًا؛ لأنه لا نسبة له في الاعتقاد فهو خارج عن المقسم وهو الخبر.

صوابًا كان أو خطأ، وكذبه عدم مطابقة حكمه له. واحتج له بوجهين: أحدهما: أن من اعتقد أمرًا فأخبر به ثم ظهر خبره بخلاف الواقع يقال: ما كذب ولكنه أخطأ، كما روى عن عائشة رضي الله عنها قالت فيمن شأنه كذلك: ما كذب ولكنه وهم. ورد بأن المنفي تعمد الكذب لا الكذب، بدليل تكذيب الكافر كاليهودي إذا قال: "الإسلام باطل" وتصديقه إذا قال: الإسلام حق. فقولها1: "ما كذب" متأول بما كذب عمدًا. الثاني: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} ، كذبهم في قولهم "إنك لرسول الله" وإن كان مطابقًا للواقع؛ لأنهم لم يعتقدوه. وأجيب عنه بوجوه. أحدها أن المعنى نشهد شهادة وأطأت فيها قلوبنا ألسنتنا، كما يترجم عنه أن والسلام وكون الجملة اسمية في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُوْلَ اللهِ ... } فالتكذيب في قولهم: {نَشْهَدُ} وادعائهم فيها المواطأة، لا في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُوْلَ اللهِ} 2. وثانيهما: أن التكذيب في تسميتهم أخبارهم شهادة؛ لأن الأخبار

_ 1 أي عائشة رضوان الله عليها. 2 وعلى هذا فالتكذيب في الشهادة لا في المشهود به، بخلاف الوجه الثالث فالتكذيب في المشهود به لكن لا في الواقع بل في زعمهم الفاسد؛ لأنهم يعتقدون أنه غير مطابق للواقع. فيكون كاذبًا باعتقادهم وإن كان صادقًا في نفس الأمر، فكأنه قبل أنهم يزعمون أنهم كاذبون في هذا الخبر الصادق، وحينئذ لا يكون الكذب إلا بمعنى عدم المطابقة للواقع.

إذا خلا عن المواطأة لم يكن شهادة في الحقيقة. وثالثها: أن المعنى لكاذبون في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُوْلَ اللهِ} عند أنفسهم، لاعتقادهم أنه خبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه. وأنكر الجاحظ انحصار الخبر في القسمين1، وزعم أنه ثلاثة أقسام: صادق، وكاذب، وغير صادق ولا كاذب؛ لأن الحكم إما مطابق للواقع مع اعتقاد المخبر له أو عدمه، وإما غير مطابق مع الاعتقاد أو عدمه: فالأول -أي المطابق مع الاعتقاد- هو الصادق2. والثالث -أي غير المطابق مع الاعتقاد- هو الكاذب3. والثاني والرابع -أي المطابق مع عدم الاعتقاد4، وغير المطابق مع عدم الاعتقاد5- كل منهما ليس بصادق ولا كاذب.

_ 1 أي الصادق والكاذب. 2 وصدق الخبر على هذا هو مطابقة الخبر للواقع مع اعتقاد الخبر أنه مطابق له. 3 فكذب الخبر هو عدم مطابقته للواقع مع اعتقاد أنه غير مطابق له. 4 أي مع عدم الاعتقاد أصلًا أو مع الاعتقاد بأنه غير مطابق. 5 أي أصلًا أو مع اعتقاد المطابقة، فالذي ليس بصادق ولا كاذب أربعة: 1 المطابقة مع اعتقاد عدم المطابقة. 2 المطابقة بدون الاعتقاد أصلًا. 3 عدم المطابقة مع اعتقاد المطابقة. 4 عدم المطابقة بدون الاعتقاد أصلًا. فكل من الصدق والكذب بتفسير الجاحظ أخص منه بالتفسيرين السابقين؛ لأنه اعتبر في الصدق مطابقة الواقع والاعتقاد جميعًا وفي الكذب عدم مطابقتهما جميعا، وقد اقتصر في التفسيرين السابقين على أحدهما، فالجمهور اقتصروا في تفسيرهم على اعتبار المطابقة للواقع والنظام على اعتبار المطابقة للاعتقاد.

فالصدق عنده مطابقة الحكم للواقع مع اعتقاده -والكذب عدم مطابقته مع عدم اعتقاده. وغيرهما ضربان: مطابقته مع عدم اعتقاده، وعدم مطابقته مع عدم اعتقاده. واحتج بقوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8] 1؟ "، فإنهم حصروا دعوى النبي صلى الله عليه وسلم الرسالة في الافتراء والإخبار حال الجنون، بمعنى امتناع الخلو، وليس إخباره حال الجنون كذبًا لجعلهم الافتراء في مقابلته، ولا صدقًا؛ لأنهم لم يعتقدوا صدقه، فثبت أن من الخبر ما ليس بصادق ولا كاذب2.. وأجيب عنه بأن الافتراء هو الكذب عن عمد، فهو نوع من الكذب فلا يمتنع أن يكون الإخبار حال الجنون كذبًا أيضًا لجواز أن يكون نوعًا آخر من الكذب وهو الكذب لا عن عمد، فيكون التقسيم للخبر مطلقًا، والمعنى "افترى أم لم يفتر؟ "، وعبر عن الثاني بقوله: "أم به جنة"؛ لأن المجنون لا افتراء له.

_ 1 الافتراء: الكذب. الجنة: الجنون. 2 يلاحظ أن هذا الدليل وإن أثبت الواسطة ألا أنه إنما أثبت قسمًا واحدًا من أقسام الواسطة الأربعة. ألا أن مراد الجاحظ إبطال مذهب غيره وإثبات مذهبه في الجملة.

تنبيه آخر: وهو مما يجب أن يكون على ذكر الطالب لهذا العلم1. قال السكاكي: ليس من الواجب في صناعة وإن كان المرجع في أصولها وتفاريعها إلى مجرد العقل أن يكون الدخيل فيها كالناشئ عليها، في استفادة الذوق منها، فكيف إذا كانت الصناعة مستندة إلى تحكمات وضعية واعتبارات ألفية؟ فلا على الدخيل في صناعة علم المعاني أن يقلد صاحبه في بعض فتاواه إن فاته الذوق هناك، إلى أن يتكامل له على مهل موجبات ذلك الذوق. وكثيرًا ما يشير الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز إلى هذا، كما ذكر في موضع ما تلخيصه هذا: اعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعًا من السامع، ولا يجد لديه قبولًا، حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة، ومن تحدثه نفسه بأنه لما تومئ إليه من الحسن أصلًا. فيختلف الحال عليه عند تأمل الكلام، فيجد الأريحية تارة، ويعرى منها آخرى، وإذا عجبته تعجب، وإذا نبهته لموضوع المزية انتبه، فأما من كانت الحالات عنده على سواء، وكان لا يتفقد من أمر النظم إلا الصحة المطلقة، وإلا إعرابًا ظاهرًا، فليكن عندك بمنزلة من عدم الطبع الذي يدرك به وزن الشعر، ويميز به مزاحفة من سالمه في أنك لا تتصدى لتعريفه، لعلمك أنه قد عدم الأداة التي بها يعرف ... واعلم أن هؤلاء وإن كانوا هم الآفة العظمى في هذا الباب، فإن من الآفة أيضًا من زعم أنه لا سبيل إلى معرفة العلة في شيء مما تعرف المزية فيه، ولا يعلم إلا أن له موقعًا من النفس وحظًّا من القبول، فهذا بتوانيه في حكم القائل الأول.. واعلم أنه ليس إذا لم يمكن معرفة

_ 1 أي علم البلاغة.

الكل وجب ترك النظر في الكل، ولأن تعرف العلة في بعض الصور فتجعله1 شاهدًا في غيره أحرى من أن تسد باب المعرفة على نفسك وتعودها الكسل والهوينا، قال الجاحظ: وكلام كثير جرى على ألسنة الناس، وله مضرة شديدة وثمرة مرة. فمن أضر ذلك قولهم: لم يدع الأول للآخر شيئًا2، فلو أن علماء كل عصر مذ جرت هذه الكلمة في أسماعهم، تركوا الاستنباط لما لم ينته إليهم عمن قبلهم، لرأيت العلم مختلًّا 3.

_ 1 أي فتجعل علمك أو عرفانك بذلك. 2 وفي البيان والتبيين يقول الجاحظ: إذا سمعت الرجل يقول: "ما ترك الأول للآخر شيئًا فاعلم أنه ما يريد أن يفلح". 3 هذا هو نهاية تلخيص الخطيب لكلام عبد القاهر في الدلائل.

القول في أحوال الإسناد الخبري

القول في أحوال الإسناد الخبري 1: من المعلوم لكل عاقل أن قصد المخبر 2 بخبره إفادة المخاطب إما.

_ 1 البحث هنا عن الأمور العارضة للإسناد الخبري: من التأكيد وعدمه وكونه حقيقة عقلية أو مجازًا. الإسناد ضم كلمة أو ما يجري مجراها - كالجملة الحالة محل مفرد نحو زيد قائم أبوه، ومثل المركبات الإضافية والتقييدية- إلى كلمة أخرى أو ما يجري مجراها بحيث يفيد الحكم بأن مفهومها أحداهما -وهي المحكوم به والمسند- ثابت لمفهوم الأخرى -وهي المسند إليه-. 2 أي من يكن بصدد الإخبار والإعلام، وإلا فالجملة الخبرية كثيًرا ما تأتي لأغراض أخر غير إفادة الحكم أو لازمة مثل: التحسر والتخزن كما في قوله تعالى حكاية عن امرأة عمران: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} وقول الشاعر: قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي وكإظهار الضعف كما في قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم: 4] وكبيان التفاوت الغريب في المنزلة كما في قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 94] الآية، وقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] . وكالاستعطاف والاعتذار كقول النابغة: نبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأر من الأسد وكالتوبيخ كقولك: أنت تسيء إلى من أحسن إليك، وكإظهار الفرح كقولك: انتصرنا على العدو اللدود. إلى غير ذلك من الوجوه التي يفيدها الأسلوب. واستفادة التحسر وغيره من هذه الأساليب بطريق التلويح والإشارة فتكون هذه المعاني من مستتبعات التراكيب، وقيل أن استعمال الكلام في التحسر مثلًا مجاز مركب؛ لأن الهيئة في مثله موضوعة للأخبار، فإذا استعمل ذلك المركب في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة فاستعارة وإن كان لعلاقة غير المشابهة فمجاز مرسل.

نفس الحكم1 كقولك زيد قائم لمن لا يعلم أنه قائم، ويسمى هذا فائدة الخبر. أما كون المخبر عالمًا2 بالحكم، كقولك لمن زيد عنده ولا يعلم أنك تعلم ذلك: زيد عندك، ويسمى هذا لازم فائدة الخبر3. قال السكاكي4:

_ 1 يطلق الحكم على النسبة الكلامية وهو المتعارف بين أرباب العربية، ويطلق على المحكوم به، وعلى إذعان النسبة أي إدراك أنها واقعة أو ليست بواقعة أي تحققها في الخارج أو عدم تحققها وهذا هو المراد هنا.. والحكم أعم من أن يكون مدلولًا حقيقيًّا للخبر أو مجازيًّا أو كنائيًّا. 2 المراد بالعلم هنا التصديق بالنسبة جزمًا أو ظنًّا، لا مجرد الصور. 3 لأن كل خبر أفاد المخاطب الحكم أفاد أن المخبر عالم بذلك الحكم، وليس كل ما أفاد أنه عالم بالحكم أفاد نفس الحكم، لجواز أن يكون الحكم معلومًا قبل الأخبار. فيكون الخبر حينئذ قد أفاد لازم الفائدة ولم يفد الفائدة كما في قولنا لمن قرأ كتاب الإيضاح: أنت قد قرأت كتاب الإيضاح - وتسمية مثل هذا الحكم فائدة الخبر بناء على أنه من شأنه أن يقصد بالخبر ويستفاد منه فإن قيل أن المخاطب قد يلقي الخبر لإفادة الحكم ويغفل عن كون المتكلم عالمًا به. أو يجيز بالحكم وهو شاك أو جاهل فلم تكن إفادة أنه عالم بالحكم لازمة لإفادة نفس الحكم. والجواب أن المراد باللزوم في الجملة أي أن ذلك اللزوم بالنظر للغالب. والمراد بالعلم هنا المعنى المصطلح عليه عند المناطقة، وهو الصورة الحاصلة في الذهن وافقت الواقع أولًا، وسواء كانت معتقدة للمتكلم اعتقادًا جازمًا أو غير جازم. لا الاعتقاد الجازم المطابق للواقع كما عليه المتكلمون. 4 هذا وتفسير الفائدة بالحكم الذي يقصد بالخبر إفادته ولازم الفائدة يكون المخبر عالمًا بالحكم رأي الجمهور ومنهم السكاكي كما ترى في المفتاح.. ورغم العلامة الشيرازي أن فائدة الخبر هي استفادة السامع من الخبر أن المخبر عالم بالحكم، وهو خلاف التحقيق.

"والأولى بدون هذه تمتنع، وهذه بدون الأولى لا تمتنع، كما هو حكم اللازم المجهول المساواة1. أي يمتنع أن لا يحصل العلم الثاني من الخبر نفسه عند حصول الأول منه2، لامتناع حصول الثاني قبل حصول الأول، مع أن سماع الخبر من المخبر كاف في حصول الثاني منه. ولا يمتنع أن لا يحصل الأول3 من الخبر نفسه عند سماع الثاني منه، لجواز حصول الأول قبل حصول الثاني وامتناع حصول الحاصل.

_ 1 وهو اللازم الأعم مثل لزوم الحيوانية للإنسانية فلا يلزم من العلم بالحيوانية العلم بالإنسانية. 2 للزوم حصول لازم فائدة الخبر كلما حصلت الفائدة، فالعلم الثاني وهو علم المخاطب بأن المخبر عالم بهذا الحكم من الخبر نفسه يوجد عن حصول العلم الأول وهو علمه بذلك الحكم من الخبر نفسه، إذ لو لم يحصل العلم الثاني عند حصول الأول فإما؛ لأنه قد حصل قبل وإما؛ لأنه لم يحصل بعد، أما الأول -حصول العلم الثاني قبل الأول- فباطل؛ لأن العلم يكون المخبر عالمًا بالحكم لابد فيه من أن يكون هذا الحكم حاصلًا في ذهنه ضرورة. والثاني باطل أيضًا؛ لأن علة حصوله سماع الخبر من المخبر، إذ التقدير أن حصوله إنما هو نفس الخبر، فنبه الخطيب على الأول بقوله: "لامتناع حصول الثاني قبل حصول الأول"، ونبه على الثاني بقوله: مع أن سماع الخبر من المخبر كاف في حصول الثاني منه ... فإن قيل لا نسلم أنه كلما أفاد الخبر أفاد أنه عالم به، لجواز أن يكون خبره مظنونًا أو مشكوكًا أو موهوبًا أو كذبًا محضًا، فالجواب أنه ليس المراد بالعلم هنا الاعتقاد الجازم المطابق بل حصول هذا الحكم في ذهنه وهذا ضرورى في كل عاقل تصدى للأخبار. 3 أي يمتنع حصول العلم الأول من الخبر نفسه عند حصول العلم الثاني، لجواز حصول الأول قبل حصول الثاني فلا يمكن حصوله لامتناع حصول الحاصل، كالعلم بكونه حافظًا للقرآن في قولك: أنت حفظت القرآن، وحينئذ يكون تسمية هذا الحكم فائدة الخبر على أن من شأنه أن يستفاد من الخبر.

وقد ينزل العالم1 بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم، فيلقى إليه الخبر كما يلقى إلى الجاهل بأحدهما.. قال السكاكي: وإن شئت فعليك بكلام رب العزة: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102] ، كيف تجد صدره يصف أهل الكتاب بالعلم على سبيل التوكيد القسمي وآخره ينفيه عنهم حيث لم يعلموا بعلمهم. ونظيره في النفي والإثبات: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17] 3، وقوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12] . هذا لفظه4.. وفيه إيهام أن الآية الأولى من أمثلة تنزيل العالم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل بهما، وليست منها، بل هي من أمثلة تنزيل العالم بالشيء منزلة الجاهل به لعدم جريه على موجب العلم، والفرق بينهما ظاهر.

_ 1 أي المخاطب العالم بالفائدة ولازمها معًا. وكذلك العالم بأحدهما "الفائدة أو اللازم فقط. وذلك لعدم جريه على مقتضى علمه. فإنه لا يجري على مقتضى العلم هو والجاهل سواء. كما يقال للعالم التارك الصلاة الصلاة واجبة. وقولك لمن يسألك: ماذا أمامك؟ وهو يعلم أنه كتاب: أمامي كتاب. 2 اللام في لقد موطئة للقسم. أي واقعة في جواب قسم محذوف. واللام في "لمن" ابتدائية. وجملة "لمن اشتراه إلخ" سدت مسد مفعولي علموا لتعليقه بلام الابتداء. ومحل الشاهد قوله "لو كانوا يعلمون" فإن العلم الواقع بعد "لو" منفي بمقتضاها؛ لأنها حرف امتناع لامتناع. وقد أثبت ذلك العلم لهم في صدر الآية.. هذا وتنزيل العالم بالشيء منزلة الجاهل به لاعتبارات بلاغية كثيرة في الكلام. 3 الآية من تنزيل وجود الشيء منزلة عدمه -وقوله في "النفي والإثبات" أي في نفي شيء وإثباته. 4 أي نص كلام السكاكي.

وإذا كان غرض المخبر بخبره إفادة المخاطب أحد الأمرين، فينبغي أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة: 1- فإن كان المخاطب خالي الذهن من الحكم1 -بأحد طرفي الخبر على الآخر- والتردد فيه استغنى عن مؤكدات الحكم كقولك: جاء زيد، وعمرو ذاهب، فيتمكن في ذهنه، لمصادفته إياه خاليًا. 2- وإن كان متصورًا لطرفية2، مترددًا في إسناد أحدهما إلى الآخر، طالبًا له، حسن تقويته بمؤكد3، كقولك لزيد عارف أو أن زيدًا عارف.

_ 1 المراد بالحكم كما سبق الاعتقاد ولو غير جازم: وخلو الذهن من لازم الحكم مثل خلوه من الحكم في ترك التأكيد. والضمير في قوله. "والتردد فيه" للحكم بمعنى وقوع النسبة أو لا وقوعها، ففي الكلام استخدام؛ لأن التردد ليس في الحكم بمعنى التصديق.. والمراد أن المخاطب ليس عالمًا بوقوع النسبة أو لا وقوعها وليس مترددًا في أن النسبة هل هي واقعة أو لا. 2 أي طرفي الحكم وهما المسند والمسند إليه. 3 أي بأداة تأكيد واحدة، ليزيل ذلك المؤكد تردده ويتمكن الحكم في نفسه. هذا والمواد بالخالي من يخلو ذهنه، عن التصديق بالنسبة الحكمية فيما بين طرفي الجملة الخبرية وعن تصور تلك النسبة.. والمراد بالمتردد من تصور تلك النسبة الحكمية ولم يصدق بشيء من وقوعها وعدم وقوعها ... وبالمنكر من صدق بما ينافي مضمون الجملة الملقاة إليه. واعتبار هذه الأحوال في المخاطب وإيراد الكلام على الوجوه المذكورة بالقياس إلى فائدة الخبر أعني الحكم ظاهر، وأما بالقياس إلى لازمها فيمكن اعتبار الخلو وتجرد الجملة عن المؤكد، وأما اعتبار التردد والإنكار على الوجه المذكور فلا يجري في اللازم.

3- وإن كان حاكمًا بخلافه وجب توكيده1 بحسب الإنكار2، فتقول: "إني صادق" لمن ينكر صدقك ولا يبالغ في إنكاره، "وإني لصادق" لمن يبالغ في إنكاره. وعليه قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ، قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} . [يس: 13، 14، 15] .

_ 1 ومؤكدات الحكم هي: أن والقسم ونونا التوكيد ولام الابتداء واسمية الجملة وتكريرها ولو حكما وأما الشرطية وحروف التنبيه وحروف الزيادة وضمير الفصل وتقديم الفاعل المعنوي لتقوية الحكم، ومنها السين إذا دخلت على فعل محبوب أو مكروه؛ لأنها تفيد الوعد أو الوعيد وهذا مقتض لتوكيد الحكم، وقد التي للتحقيق، وكأن ولكن وإنما وليت ولعل وتكرير النفي، وبعضهم عد أن المفتوحة، وقيل: ليست منها؛ لأن ما بعدها في حكم المفرد. والفرق بين التأكيد الواجب والمستحسن مع أن المستحسن عند البلغاء واجب هو أن ترك المستحسن يلام عليه لومًا أخف من اللوم على ترك الواجب. وقال عبد القاهر في دلائل الإعجاز ص249: "أكثر مواقع أن بحكم الاستقراء هو الجواب"، لكن "يشترط فيه أن يكون للسائل ظن على خلاف ما أنت تجيبه به، فأما أن يجعل مجرد الجواب أصلًا فيها فلا؛ لأنه يؤدي إلى أن لا يستقيم لنا أن نقول: "صالح" في جواب كيف زيد؟ و"في الدار" في جواب: "أين زيد؟ " حتى نقول: أنه صالح، وأنه في الدار، وهذا مما لا قائل به"، فهو يرى أنه إنما يحسن التأكيد إذا كان للمخاطب ظن على خلاف حكمك أي تأكيد الحكم بمؤكد فأكثر وقيل بأكثر من مؤكدة فرقًا بينه وبين التوكيد المستحسن. 2 أي بقدرة قوة وضعفًا، يعني يجب زيادة التأكيد بحسب ازدياد الإنكار.

حيث قال في المرة الأولى: إنا إليكم مرسلون، وفي الثانية: إنا إليكم لمرسلون1. ويؤيد ما ذكرناه جواب أبي العباس2 للكندي عن قوله: إني أجد في كلام العرب حشوًا، يقولون: عبد الله قائم، وإن عبد الله قائم، وإن عبد الله لقائم، والمعنى واحد. بأن قال، بل المعاني مختلفة، "فعبد الله قائم" إخبار عن قيامه، و"إن عبد الله قائم" جواب عن سؤال سائل، وإن عبد الله لقائم جواب عن إنكار منكر. ويسمى النوع الأول من الخبر ابتدائيًّا3، والثاني طلبيًّا، والثالث إنكاريًّا، وإخراج الكلام على هذه الوجوه4 إخراجًا على مقتضى الظاهر5.

_ 1 فأكد في الأول بأن واسمية الجملة، وفي الثانية بالقسم وإن واللام واسمية المجلة لمبالغة المخاطبين في الإنكار حيث قالوا: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إن أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس: 15] . 2 أبو العباس هو محمد بن يزيد المبرد الإمام في اللغة والنحو وصاحب الكامل توفي عام 285هـ. والكندي أبو يوسف يعقوب بن إسحاق فيلسوف العرب المشهور المتوفى نحو سنة 253هـ. وتجد الرواية كاملة في دلائل الإعجاز ص242 وفي المفتاح أيضًا ص74. 3 أي غير مسبوق بطلب ولا بإنكار. 4 وهي الخلو عن التأكيد في الأول والتقوية بمؤكد استحسانًا في الثاني ووجوب التأكيد بحسب الإنكار في الثالث. 5 أي مقتضى ظاهر الحال وهو أخص مطلقًا من مقتضى الحال، فكل مقتضى الظاهر مقتضى الحال، ولا عكس، كما في صور إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، فإنه يكون على مقتضى الحال ولا يكون على مقتضى الظاهر ... هذا والحال هو الأمر الداعي إلى إيراد الكلام مكيفًا بكيفية مخصوصة سواء كان ذلك الأمر الداعي ثابتًا في الواقع أو كان ثبوته بالنظر لما عند المتكلم كصور التنزيل، أما ظاهر الحال فهو الأمر الداعي إلى إيراد الكلام مكيفا بكيفية مخصوصة بشرط أن يكون ذلك الأمر الداعي ثابتًا في الواقع فلذا كان أخص من الحال مطلقًا. ثم إن تلك الكيفية هي مقتضى للحال أو لظاهره، فكل كيفية اقتضاها ظاهر الحال اقتضاها الحال دون عكس، فعموم المقتضى يقتضي عموم المقتضى.

وكثيرًا ما يخرج على خلافة1: 1 فينزل غير السائل منزلة السائل، إذا قدم إلى ما يلوح له بحكم الخبر، فيستشرف له استشراف المتردد الطالب2 كقوله تعالى:

_ 1 أي على خلاف مقتضى الظاهر. هذا وذكر بعضهم أن صور التخريج من باب الكناية؛ لأنه ذكر اللام -وهو مدلول الكلام المشتمل على الخصوصية وهو المقام الذي لا يناسبه بحسب الظاهر مع قرينة غير مانعة من إرادته- واستعمل اللفظ فيه وقصد منه ملزومه الذي هو تنزيل المقام الغير المناسب منزلة المناسب. وقيل أنه من قبيل الاستعارة المكنية ... والحق أنه لا يقال فيه شيء من ذلك؛ لأن الكلام هنا لم يوضع لهذه المعاني؛ لأنها معان عرضية. هذا والصور هي: 1 الخالي: -السائل- المنكر: بالنسبة لحال كل منهم. 2 العالم ينزل منزلة الخالي أو السائل أو المنكر. 3 الخالي ينزل منزلة السائل أو المنكر. 4 السائل ينزل منزلة الخالي أو المنكر. 5 المنكر ينزل منزلة الخالي أو السائل. فحال المخاطب بالخبر منحصر في العلم بالحكم والخلو منه والسؤال له والإنكار له. والعالم لا يخرج معه الكلام على مقتضى الظاهر. 2 يلوح: يشير. استشرف فلان إلى الشيء إذا رفع رأسه لينظر إليه ويبسط كفه فوق الحاجب كالمستظل من الشمس.. وهذا والنكتة في التنزيل الذي ذكرها الخطيب هي أنه قد قدم للمخاطب غير السائل ما يلوح له بالخبر فيتطلع له تطلع السائل المتردد. وقد يكون تنزيل غير السائل لأغراض أخرى، كالاهتمام بشأن الخبر لكونه مستبعدًا والتنبيه على غفلة السامع إلى غير ذلك.

{وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37] 1، وقوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إن النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] ، وقول بعض العرب: فغنها وهي لك الفداء ... إن غناء الإبل الحداء2 وسلوك هذه الطريقة شبعة من البلاغة فيها دقة وغموض. روى عن الأصمعي3 أنه قال: كان أبو عمرو بن العلاء 4 وخلف الأحمر5 يأتيان بشارًا 6، فيسلمان عليه بغاية الإعظام، ثم يقولان: يا أبا معاذ ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما ويكتبان عنه متواضعين له حتى يأتي وقت الزوال ثم ينصرفان، فأتياه يومًا فقالا: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في

_ 1 أي لا تدعني يا نوح في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك فهذا كلام يبوح بالخبر تلويحًا ما، ويشعر بأنه قد حق عليهم العذاب، فصار لمقام مقام أن يتردد المخاطب في أنهم هل صاروا محكومًا عليهم بالإغراق أم لا، مقيل "إنهم مغرقون" مؤكدًا، أي محكومًا عليهم بالإغراق. 2 الضمير في "فتغنها" للإبل والحداء من حدا الإبل أو بها: ساقها وغنى لها. 3 عبد الملك بن قريب الإمام في اللغة والأدب، توفي عام 214هـ، ونجد الرواية في الأغاني ص43 جـ3، وفي الدلائل ص210 وفي المفتاح ص75. 4 وفي الأغاني: خلف بن أبي عمرو بن العلاء. وأبو عمرو من أئمة اللغة توفي عام 154هـ وخلف ابنه توفي في أواخر القرن الثاني الهجري. 5 من أئمة اللغة والشعر والأدب توفي عام 180هـ. 6 أبو معاذ إمام الشعراء المحدثين توفي عام 167هـ.

ابن قتيبة1 قال: هي التي بلغتكما، قالا بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب قال: نعم إن ابن قتيبة يتباصر بالغريب فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف، قالا: فأنشدناها يا أبا معاذ فأنشدهما: بكرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير حتى فرغ منها، فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان "إن ذاك النجاح": بكرا فالنجاح، كان أحسن، فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية فقلت "إن ذاك النجاح" كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلت "بكرا فالنجاح" كان هذا من كلام المولدين، ولا يشبه ذلك الكلام ولا يدخل في معنى القصيدة، قال: فقام خلف فقبل بين عينيه. فهل كان ما جرى بين خلف وبشار بمحضر من أبي عمرو بن العلاء -وهم من فحولة هذا الفن- إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه؟ 2- وكذلك بنزل غير المنكر منزلة المنكر إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار2. كقوله3:

_ 1 قائد من كبار القواد المشهورين في بدء عهد الدولة العباسية. 2 وغير المنكر يشمل الخالي والسائل والعالم وإن كان المثال من تنزيل العالم منزلة المنكر. 3 البيت لحجل بن نضلة. شقيق: اسم رجل. عارضًا رمحه أي واضعًا له على العرض بأن جعله وهو راكب على فخذيه.. فهو لا ينكر أن في بني عمه رماحًا لكن مجيئة هكذا واضعًا الرمح على العرض من غير التفات وتهيؤ أمارة على أنه يعتقد أنه لا رماح فيهم بل كلهم عزل لا سلاح معهم فنزله منزلة المنكر فأكد له الكلام فقال: "أن بني عمك فيهم رماح". وفي البيت تهكم واستهزاء كأنه يرميه بالضعف والجبن وبأنه لو علم أن فيهم رماحًا لما حملت يده السلاح ولفر من خوف الكفاح. فهو على طريقة قوله: فقتل لمحرز لما التقينا ... تنكب لا يقطرك الزحام والتقطير: الإلفاء على الأرض على البطن أو على أحد الجانبين.. برمية بأنه لم يباشر الشدائد ولم يدفع إلى مضايق الحروب، كأنه يخاف عليه أن يداس بالقوائم كما يخاف على الصبيان والنساء لقلة غنائه.

جاء شقيق عارضًا رمحه ... إن بني عمك فيهم رماح فإن مجيئه هكذا مدلًّا بشجاعته قد وضع رمحه عرضًا لدليل على إعجاب شديد منه، واعتقاد أنه لا يقوم إليه من بني عمه أحد. كأنهم كلهم عزل ليس مع أحد منهم رمح. 3- وكذلك بنزل المنكر1 منزلة غير المنكر إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع عن الإنكار، كما يقال لمنكر الإسلام: الإسلام حق2. وعليه قوله تعالى في حق القرآن: {لَاْ رَيْبَ فِيْهِ} 3.

_ 1 ومثله المتردد. وغير المنكر هنا وإن صدق بخالي الذهن والعالم بالحكم والمتردد فيه إلا أن المراد منه خصوص الأول. وقوله ما أن تأمله أي شيء من الدلائل والشواهد بحيث لو تأمل المنكر ذلك الشيء ارتدع عن إنكاره، ومعنى كونه معه، أن يكون معلومًا له ومشاهدًا عنده كالإسلام حق لمنكر ذلك؛ لأن مع ذلك المنكر دلائل على حقيقة الإسلام. 2 اسمية لجملة هنا ليست مؤكدًا؛ لأنها إنما تكون مؤكدًا إذا اعتبر تحويلها عن الفعلية أو إذا انضمت لغيرها من المؤكدات أو أن اسمية الجملة ليست مؤكدة إلا إذا ناسب ذلك المقام. 3 ظاهر هذا الكلام أنه مثال لجعل المنكر كغيره وترك التأكيد لذلك، وبيانه أن معنى "لاريب فيه" ليس القرآن بمظنة للريب ولا ينبغي أن يرتاب فيه، وهذا الحكم مما ينكر كثير من المخاطبين، لكن نزل إنكارهم منزلة عدمه أو على الأصح نزل المنكر منزلة غير المنكر، لما معه من الدلائل الدالة على أنه ليس مما ينبغي أن يرتاب فيه، من ظهور إعجازه وكون من أتى به صادقًا مصدوقًا بالمعجزات. والأحسن أن يقال أنه تنظير لتنزيل وجود الشيء منزلة عدمه -لا مثال للجعل- وذلك بناء على وجود ما يزيله، فإنه نزل ريب المرتابين منزلة عدمه تعويلًا على وجود ما يزيله، حتى صح نفي الريب على سبيل الاستغراق المفهوم من وقوع النكرة في سياق النفي المفيد للعموم الشمولي، فالمنفي هنا هو نفس الريب على سبيل الاستغراق. وفي الأول ليس المنفي الريب بل كون القرآن مظنة له خطابًا لمنكري ذلك. وهذا الوجه أحسن؛ لأنه لا يحتاج إلى التأويل الذي في الوجه الأول وما لا يحتاج إلى التأويل أولى مما يحتاج لتأويل.

ومما يتفرع على هذين الاعتبارين قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 14-15] . أكد إثبات الموت تأكيدين وإن كان مما لا ينكر لتنزيل المخاطبين منزلة من يبالغ في إنكار الموت لتماديهم في الغفلة والإعراض عن العمل لما بعده، ولهذا قيل "ميتون" دون "تموتون" كما سيأتي الفرق بينهما1. وأكد إثبات البعث تأكيدًا واحدًا وإن كان مما ينكر؛ لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرًا بأن لا ينكر، بل إما أن يعترف به أو يتردد فيه، فينزل المخاطبون منزلة المترددين، تنبيهًا لهم على ظهور أدلته، وحثًّا لهم على النظر فيها، ولهذا جاء تبعثون على الأصل. هذا كله اعتبارات الإثبات وقس عليه اعتبارات النفي2، كقولك: ليس زيد أو ما زيد منطلقًا أو بمنطلق، ووالله ليس زيد

_ 1 من أن الجملة الاسمية لإفادة الثبوت والدوام، والفعلية لإفادة التجدد والحدوث. 2 أي أمثلة الاعتبارات الواقعة في الإسناد في الكلام المنفي من التجريد عن المؤكدات في الابتدائي وتقويته بمؤكد استحسانًا في الطلبي ووجوب التأكيد بحسب الإنكار في الإنكاري. وقد ينزل غير المنكر منزلة المنكر فيؤكد معه النفي، وينزل المنكر كغيره فيلقي إليه الكلام خلوًّا من التأكيد إلخ. خاتمة في أغراض الخبر: 1 إفادة المخاطب الحكم "فائدة الخبر". 2 إفادة المخاطب أن المخبر عالم بالحكم "لازم الفائدة". =

أو ما زيد منطلقًا أو بمنطلق، وما ينطلق أو ما أن ينطلق زيد، وما كان زيد ينطلق، وما كان زيد لينطلق، ولا ينطلق زيد، ولن ينطلق زيد، ووالله ما ينطلق أو ما إن ينطلق زيد.

_ 3 الفخر والتمدح كقول المتنبي: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم 4 إ ظهار الفرح كقول الشاعر: بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا 5 التنبيه والحث كقول الشاعر: من راقب الناس مات غما ... وفاز باللذة الجسور 6 الإرشاد والوعظ كقول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل 7 إظهار الضعف: {إِنِّيْ وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي} . 8 التحسر علي الفائت كقول الشاعر: ذهب الصبا وتولت الأيام 9 التحذير كقولك: "مصير البخيل الهم والإملاق". 10 التذكير بالتفاوت: وما يستوي من عاش للمجد سعيه ... ومن عاش في دنياه عيش البهائم 11 الاستعطاف: فإن أك مظلومًا معد ظلمته ... وإن تك ذا عتبى فمثلك يعتب 12 التوبيخ: ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام شواهد لمعرفة أغراض الخبر فيها ومقاصده: قال إبراهيم بن المهدي: أتيت جرمًا شنيعًا ... وأنت للعفو أهل

.......................................................................

_ وقال أبو فراس: ومكارمي عدد النجوم ومنزلي ... مأوى الكرام وموئل الأضياف ولمروان بن أبي حفصة يرثي معن بن زائدة: مضى لسبيله معن وأبقى ... مكارم لن تبيد ولن تنالا وقال أبو نواس: ذهبت جدتي بطاعة نفسي ... وتكذرت طاعة الله نضوا المتنبي: إني أصاحب حلمي وهو بي كرم ... ولا أصاحب حلمي وهو بن جبن وقال: أقمت بأرض مصر فلا ورائي ... تخب بي الركاب ولا أمامي وقال الشاعر: قومي هم قتلوا -أميم- أخي ... فإذا رميت يصبني سهمي وقال الشاعر: ذهب الشباب فما له من عودة ... وأتى المشيب فأين عنه المهرب؟ وقال: ظمئت وفي فمي الأدب المصفى ... وضعت وفي يدي الكنز الثمين وقال المتنبي: ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام شواهد على أضرب الخبر وأدوات التأكيد: قال أبو الطيب: على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم وقال النابغة: ولست بمستبق أخًا لا تلمه ... على شعث، أي الرجال المهذب؟! =

........................................................................

_ وقال أبو العتاهية: إني رأيت عواقب الدنيا ... فتركت ما أهوى لما أخشى أبو نواس: ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم ... وأسمت سرح اللحظ حيث أساموا وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه ... فإذا عصارة كل ذاك أثام المعري: إن الذي الوحشة في داره ... تؤنسه الرحمة في لحده شاعر: وليس أخي من ودني رأى عينه ... ولكن أخي من ودني وهو غائب شواهد لخروج الخبر عن مقتضى الظاهر: قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إن صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [الأنفال: 113] وقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1-2] .. وقال أبو العتاهية: إن الشباب والفر اغ والجدة ... مفسدة للمرء أي مفسدة وقال أبو الطيب: ترفق إيها المولى عليهم ... فإن الرفق بالجاني عتاب وتقول لمن ينكر فائدة التعليم: التعليم ينهض بالأمة ويرقى بالشعب.

الحقيقة العقلية والمجاز العقلي

الحقيقة العقلية والمجاز العقلي: فصل. قال الخطيب: الإسناد: منه حقيقة عقلية، ومنه مجاز عقلي. أما الحقيقة فهي إسناد1 الفعل أو معناه إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر.

_ 1 معناه أي معنى الفعل يشمل المصدر واسمي الفاعل والمفعول والصفة المشبهة واسم التفضيل والظرف. وأمثلة المبالغة تدخل في اسم الفاعل، والجار والمجرور يدخل في الظرف. ويدخل اسم الفعل والمنسوب إليه نحو أتميمي أبوك؟. وقولنا "إلى ما هو له" أي إلى لفظ يكون الفعل أو ما في معناه له، أي لمعنى ذلك اللفظ: أي مدلول الفعل ومدلول اللفظ الدال عليه معنى الفعل ثابت لمدلول ذلك اللفظ. معنى ذلك أن الحقيقة هي إسناد لفظ أي لفظ دل على معنى الفعل إلى لفظ له، فإذا قلنا "ضرب زيد" فقد أسندنا إلى الفاعل لفظ الفعل وهو ضرب الدال على المعنى الذي هو وصف الفاعل فيكون حقيقة، وكذا إذا قلنا "ضرب عمرو" فقد أسندنا إلى المفعول وهو "عمرو" لفظ الفعل الذي هو "ضرب" الدال على وصف المفعول فيكون حقيقة. فالشيء المسند إليه الذي ثبت له الفعل أو معناه منحصر في الفاعل فيما بني للفاعل، والمفعول به في فعل بني للمفعول، فإن الضاربية لزيد ثابتة له والمضروبية ثابتة لعمرو، بخلاف "نهاره صائم" فإن الصوم ليس ثابتًا للنهار بل للشخص، فلذا كان الإسناد فيه مجازًا، لكونه لغير من هو له. ولا يدخل هنا المبتدأ عند المصنف، نحو إنما هي إقبال؛ لأن الإسناد إليه عنده وساطة بين الحقيقة والمجاز، أما عند عبد القاهر والسكاكي =

والمراد بمعنى الفعل نحو المصدر واسم الفاعل. وقولنا "في الظاهر" ليشمل مالا يطابق اعتقاده مما يطابق الواقع وما لا يطابقه. فهي أربعة أضرب: أحدهما: ما يطابق الواقع واعتقاده، كقول المؤمن: "أنبت الله البقل" و"شفى الله المريض". والثاني: ما يطابق الواقع دون اعتقاده، كقول المعتزلي لمن لا يعرف حاله وهو يخفيها منه: "خالق الأفعال كلها هو الله تعالى".

_ = فالمبتدأ كالفاعل والمفعول فيما أسند إليه. فالإسناد في "زيد قائم" ليس حقيقة ولا مجازًا عند الخطيب، وكذلك فيما كان الخبر فيه جامدًا مثل "هذا معدن"، وأما إسناد "قائم" إلى ضمير زيد فهو حقيقة. ثم المراد يكون المسند للمسند إليه كونه وصفًا له وحقه أن ينسب إليه بالاتصاف. فمتى كونه له أن معناه قائم به وهو متصف به ومنتسب إليه. وقوله إلى ما هو له يشمل ما هو له في الواقع والاعتقاد معًا أو في الواقع فقط. وقوله "عند المتكلم" أي لما هو له عند المتكلم لا في الواقع ونفس الأمر.. وبهذا دخل في تعريف الحقيقة: ما طابق الاعتقاد دون الواقع كقول الجاهل "أنبت الربيع البقل". وقوله في "الظاهر" وعند المتكلم متعلقان بقوله "له". وفي الظاهر -أي في ظاهر حال المتكلم- يدخل ما لا يطابق الاعتقاد سواء طابق الواقع أم لا. وبهذا صار التعريف متناولًا لأربعة أقسام: ما يطابق الواقع والاعتقاد وما لا يطابق شيئًا منهما. وما طابق الواقع دون الاعتقاد، وما طابق الاعتقاد دون الواقع. ولم يخرج عن التعريف إلا ما فيه إسناد لغير ما هو له عند المتكلم بحسب الظاهر. فالحقيقة العقلية أربعة أقسام كما ترى وكما سيذكر الخطيب ... والمعنى أن الحقيقة هي إسناد الفعل أو معناه إلى ما يكون هو له عند المتكلم فيما يقيم من ظاهر حاله، وذلك الفهم بألا ينصب قرينة دالة على أنه غير ما هو له في اعتقاده.

والثالث ما يطابق اعتقاده دون الواقع، كقول الجاهل: "شفى الطبيب المريض" معتقدًا شفاء المريض من الطبيب، ومنه قوله تعالى حكاية عن بعض الكفار: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} . ولا يجوز أن يكون مجازًا. والإنكار عليهم من جهة ظاهر اللفظ لما فيه من إيهام الخطأ، بدليل قوله تعالى عقيبه: {ومَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إن هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24] ، والمتجوز المخطئ في العبارة لا يوصف بالظن، وإنما الظان من يعتقد أن الأمر على ما قاله. والرابع ما لا يطابق شيئًا منهما، كالأقوال الكاذبة التي يكون القائل عالمًا بحالها دون المخاطب. وأما المجاز1 فهو إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس2 له غير

_ 1 المجاز أصله مجوز من جاز المكان تعداه؛ لأن الإسناد تعدى مكانه الأصلى.. وعقلي نسبة للعقل؛ لأن التجوز والتصرف فيه في أمر معقول يدرك بالعقل وهو الإسناد، بخلاف المجاز اللغوي فإن التصرف فيه في أمر نقلي، وهو أن اللفظ لم يوضع لهذا المعنى. ويسمى مجازًا حكميًّا أي منسوبًا للحكم بمعنى الإدراك، أو أنه نسبة للحكم بمعنى النسبة والإسناد لتعلقه بها. والمراد بالحكم المنسوب إليه والمتعلق به مطلق نسبة سواء كانت إسنادية أو إضافية أو إيقاعية، وحينئذ فهو من نسبة الخاص للعام أومن تعلق الخاص بالعام، فالمجاز كما يكون في الحكم وهو النسبة التامة، يكون في النسبة الإضافية كمكر الليل، والإيقاعية كنومت الليل أي أوقعت النوم عليه.. فالمراد بالحكم الذي تعلق به المجاز ليس خصوص النسبة التامة، بل مطلق نسبة. فالمجاز إذا كان في الإضافية أو الإيقاعية بصدق عليه أنه متعلق بالحكم بمعنى مطلق نسبة من تعلق الخاص بالعام. ويسمى أيضًا مجازًا في الإثبات لحصوله في إثبات أحد الطرفين للآخر، والتقييد بالإثبات لأشرفيته، فمثل "فما ربحت تجارتهم": جعل من قبيل المجاز لكون إسناد الربح إلى التجارة إسنادًا إلى غير ما هو له، أو أن ما ربحت تجارتهم بمعنى خسرت، فالمجاز العقلي كما يكون في الإسناد المثبت. =

..........................................................................

_ = يكون في المنفي أيضًا.. ويسمى أيضًا إسنادًا مجازيًّا نسبة إلى المجاز بمعنى المصدر؛ لأن الإسناد جاور به المتكلم حقيقته وأصله إلى غير ذلك. فإن قيل: المجاز العقلي لا يختص بالإسناد أي النسب التامة، بل يجري في الإضافية والإيقاعية، واقتصارهم على الإسناد يوجب الاختصاص، أجيب بأن اقتصارهم في التسمية على الإسناد لأشرفيته أو أن المراد بالإسناد مطلق النسبة من إطلاق الخاص وإرادة العام. 2 أي إلى شيء بينه وبين الفعل أو معناه ملابسة وارتباط وتعلق، فالضمير في قوله "له" راجع "للفعل أو معناه" ـ "وغيرما هو له" أي غير الملابس الذي هو أي الفعل أو معناه له أي لذلك الملابس، يعني غير الفاعل الحقيقي في المبني للفاعل، وغير المفعول به في المبني للمفعول به. وفي تعريف المجاز العقلي إشارة إلى أنه لابد فيه من علاقة "ويدل على ذلك قولنا إلى ملابس له" وقرينة "ويدل عليها قولنا بتأول". وقصارى القول: أن المجاز العقلي هو "إسناد الفعل أو معناه إلى غير ما هو له عند المتكلم في الظاهر لعلاقة مع قرينة صارفة عن أن يكون الإسناد إلى ما هو له". علاقة المجاز العقلي: المجاز العقلي لا بد له من علاقة كما أن اللغوي كذلك. وظاهر كلام المصنف أن العلاقة المعتبرة هنا هي الملابسة فقط، وأنه لا بد منها في كل مجاز عقلي، قال الشيخ يسن: لكن يبقى هناك شيء، وهو أنه هل يكفي في جميع أفراد هذا المجاز كون العلاقة الملابسة، أو لابد أن تبين جهتها، بأن يقال العلاقة هي ملابسة الفعل لذلك الفاعل المجازي من جهة وقوعه عليه أو فيه أو به، كما قالوا في المجاز اللغوي: أنه لا يكفي أن يجعل اللزوم أو التعلق هو العلاقة بل فرد منها؛ لأن ذلك قدر مشترك بين جميع أفراده، فلا بد أن يبين أنه من أي وجه!؟ والمعتبر عند الزمخشري تلبس ما أسند إليه الفعل بفاعله الحقيقي؛ لأنه قال: المجاز العقلي هو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له، كتلبس التجارة بالمشترين في: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُم} .. وقال الزمخشري قبل هذا الكلام: "وقد يسند إلى هذه الأشياء على طريق المجاز =

..........................................................................

_ = المسمى استعارة، وذلك لمضاهاتها الفاعل في ملابسة الفعل، كما يضاهي الرجل الأسد في جرأته فيستعار له اسمه ... وهذا هو رأي السكاكي أيضًا. فالملابسة في المجاز العقلي عنده هي بين الفاعل الحقيقي والفاعل المجازي. وفي كلام عبد القاهر إشارة إلى ذلك أيضًا "331 أسرار"، فالربيع عنده قد شبه بالقادر في تعلق وجود الإثبات به، فذلك عنده على العرف الجاري بين الناس، من أن يجعلوا الشيء إذا كان سببًا أو كالسبب في وجود الفعل كأنه فاعل. فالحاصل أن العلاقة ليست هي الملابسة والتعلق والارتباط بين الفعل والمسند إليه المجازي كما هو ظاهر كلام المصنف، وكما هو المتبادر من التعريف من قوله "وله -أي للفعل- ملابسات شتى"، بل هي المشابهة بين المسند إليه الحقيقي والمسند إليه المجازي في الملابسة أي في تعلق الفعل بكل منهما وإن كانت جهة التعلق مختلفة، فالمسند إليه المجازي في "جرى النهر مثلًا" وهو النهر يشابه ما هو له، أي يشابه المسند إليه الحقيقي، فالماء في قولك جرى الماء، في ملابسة الفعل وهو الجري، فالجري يلابس الماء من جهة قيامه به، ويلابس النهر من جهة كونه واقعًا فيه. والعلاقة المعتبرة في هذا المجاز هي المشابهة بين المسند إليه الحقيقي والمسند إليه المجازي في تعلق الفعل بكل في صحة إسناده لذلك المجازي، والعلاقة في الاستعارة المشابهة بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي لأجل صحة نقل اللفظ من المعنى الحقيقي للمعنى المجازي. فالعلاقة هي في المجاز العقلي على التحقيق المشابهة بين الفاعلين: المجازي والحقيقي، لا الملابسة بين الفعل والمسند إليه المجازي وإن كان ذلك كافيًا في إسناد الفعل إليه..؛ لأن ملاحظة المشابهة بين الفاعلين أتم وأدخل في صرف الإسناد إلى غير ما هو له، وإن كفى فيه مجرد الملابسة المذكورة. وأنواع العلاقة في المجاز العقلي هي: 1 المفعولية: فيما بني للفاعل وأسند إلى المفعول به الحقيقي كقولهم، "عيشة راضية" إذ هي مرضية، فالإسناد في المثال مجازي، وأصله رضى المؤمن عيشته، فأقيمت عيشة مقام المؤمن في تعلق الفعل وهو الرضى بكل، فصار رضيت عيشته، فاشتق منه اسم الفاعل وأسند إلى =

...........................................................................

_ = ضمير المفعول وهو عيشة بعد تقديمه وجعله مبتدأ، ثم حذف المضاف إليه اكتفاء بالمبتدأ في مثل "عيشة زيد راضية" ... وقال العدوي: أصله: عيشة رضيها صاحبها" فالرضا كان بحسب الأصل مسندًا للفاعل الحقيقي "الصاحب" ثم حذف الفاعل وأسند الرضا إلى ضمير العيشة، وقيل عيشة رضيت، لما بين الصاحب والعيشة من المشابهة في تعلق الرضا بكل، وإن اختلفت جهة التعلق، فصار ضمير العيشة فاعلًا نحويًّا، ثم اشتق من رضيت راضية، وأسند إلى المفعول ... ومذهب الخليل والبصريين أنه لا مجاز في هذا التركيب، بل الراضية بمعنى ذات رضا حتى تكون بمعنى مرضية، فهو نظير لابن وتامر، قال الفنري ونقله عنه الدسوقي: وهو مشكل بدخول التاء؛ لأن هذا البناء يستوي فيه المذكر والمؤنث، ويمكن الجواب بجواز جعلها للمبالغة لا للتأنيث كعلامة ... وقيل راضية بمعنى كاملة.. والشاهد في "عيشة راضية" إسناد راضية للضمير المستتر الذي هو للعيشة، وليس الشاهد في إسناد راضية للعيشة؛ لأن الإسناد إلى المبتدأ عند المصنف واسطة بين الحقيقة والمجاز، وكذا يقال فيما بعد هذا المثال من الأمثلة الآتية: 2 الفاعلية: ميما بني للمفعول وأسند للفاعل الحقيقي، كسيل مفعم؛ لأن السيل هو الذي يفعم أي يملأ، فأصله أفعم السيل الوادي أي ملأه ثم بنى أفعم للمفعول واشتق منه اسم المفعول وأسند لضمير الفاعل الحقيقي وهو السيل بعد تقديمه وجعله مبتدأ. 3 المصدر فيما بني للفاعل وأسند للمصدر مجازًا، مثل شعر شاعر، فقد أسند ما هو بمعنى الفعل "وهو شاعر" إلى ضمير المصدر، وحقه أن يسند للفاعل "أي الشخص"؛ لأن الفاعل الحقيقي، بحيث يقال شعر شاعر صاحبه، لكن لما كان الشعر شبيهًا بالفعل من جهة تعلق الفعل بكل منهما صح الإسناد إليه مجازًا، والأولى أن يمثل بنحو جد جده؛ لأن الجد مصدرًا أسند إليه فعل الفاعل، فحق الجد أن يسند للفاعل الحقيقي وهو الشخص لا إلى الجد نفسه الذي أسند إليه لمشابهته له في تعلق الفعل بكل منهما. وإنما كان ذلك أولى؛ لأن الشعر الذي هو مصدق الضمير في شاعر يحتمل أن يكون بمعنى المفعول أي المشعور به لا المصدر الذي هو نفس الشعر فيكون من باب عيشة راضية، أي يكون من باب ما بني للفاعل. =

ما هو بتأول وللفعل ملابسات شتى 1: يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والسبب. فإسناده إلى الفاعل إذا كان مبنيًّا له حقيقة كما مر، وكذا إلى المفعول

_ = وأسند للمفعول لا من باب ما بني للفاعل وأسند للمصدر الذي كلامنا فيه، بخلاف "جد جده" فإنه من ذلك القبيل. وإنما قلنا الأولى ولم نقل الصواب؛ لأن الشعر يحتمل أن يكون باقيًا على مصدريته بمعنى تأليف الكلام فيكون من ذلك القبيل.. فالحاصل أن "جد جده" من باب ما بني للفاعل وأسند للمصدر قطعًا، وأما "شعر شاعر" فيحتمل أن يكن منه أو من باب "عيشة راضية". وما لا احتمال فيه أولى مما فيه احتمال. 4 الزمانية فيما إلى للفاعل وأسند للزمان لمشابهته الفاعل الحقيقي في ملابسة الفعل لكل منهما مثل نهاره صائم. 5 المكانية: فيما بني للفاعل وأسند للمكان لمشابهته الفاعل الحقيقي في ملابسة الفعل لكل منهما مثل نهار جار؛ لأن الماء هو الجاري في النهر -أي الحفرة التي يكون الماء فيها-. 6 السببية فيما بني للفاعل وأسند للسبب مجازًا، مثل بني الأمير المدينة في السبب الآمر؛ لأن السبب نوعان: سبب آمر وسبب غائي أو مآلي، قال ابن يعقوب: السبب المآلي يسند إليه أيضًا مجازًا مثل يوم يقوم الحساب، فالقيام في الحقيقة لأهل الحساب لا لأجله، فكان الحساب علة غائية. هذه هي علاقات المجاز العقلي، وذكر ابن السبكي أن جميع علاقات المجاز اللفظي ينبغي أن تأتي في العقلي. 1 لما ذكر في تعريف الحقيقة العقلية "الملابس الذي له"، وفي تعريف المجاز العقلي "الملابس الذي ليس هو له"، أخذ يبين التعريفين ببيان الملابس، فقال "وللفعل ملابسات شتى" ... ويصح فتح "باء الملابسة" وكسرها؛ لأن الملابسة مفاعلة من الجانبين، فكل واحد من الفعل وما أسند إليه ملابس "بكسر الباء" وملابس "بفتحها". إلا أن المناسب لقوله "يلابس الفاعل" أن يقرأ بالفتح ... وقول الخطيب: "وللفعل ملابسات شتى ... " هو نص كلام الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] ، ومأخوذ منه.

إذا كان مبنيًّا له، وقولنا "ما هو له" يشملهما. وإسناده إلى غيرهما لمضاهاته لما هو له في ملابسة الفعل مجاز. كقولهم في المفعول به: "عيشة راضية" و"ماء دافق"، وفي عكسه "سبيل مفعم" وفي المصدر "شعر شاعر1"، وفي الزمان "نهاره صائم" و"ليلة قائم"، وفي المكان "طريق سائر" و"نهار جار"، وفي السبب "بنى الأمير المدينة"، وقال: "فلا تسأليني واسألي عن خليقتي" ... إذا رد عافي القدر من يستعيرها2 وقولنا بتأول يخرج نحو قول الجاهل: شفى الطبيب المريض، فإن إسناده الشفاء إلى الطبيب ليس بتأول. ولهذا لم يحمل نحو قول الشاعر الحماسي3.

_ 1 وجد جده. قال تأبط شرًّا. إذا المرأ لم يحتل وقد جد جده ... أضاع وقاسى أمره وهو مدبر 2 البيت لعبيد بن الأبرص. وفي السبكي أنه لعوف بن الأحوص، وهو من قصيدة رواها صاحب المفضليات لعوف. ونسبه اللسان للمضرس الأسدي.. وعافى فاعل، والقدر مضاف إليه، ومن اسم موصول مفعول. وعافى القدر: المرق الذي يتأخر فيها، وبقاؤه فيه سبب في رد من يستعيرها، فأسند بذلك الرد إليه من إسناد الفعل إلى سببه. 3 هو الصلتان العبدي، وبعد البيت قرينة تدل على المجاز وإرادته وهو قول الشاعر: فملتنا أننا مسلمون ... على دين صديقنا والنبي فليس هناك فرق بين البيت وكلام أبي النجم الآتي: ومثال البيت في ذلك قول أسقف نجران: منع البقاء تصرف الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي وحاصل الكلام أنه لا بد في المجاز العقلي من التأول الذي حاصله نصب القرينة الصارفة عن أن يكون الإسناد إلى ما هو له.

أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشي على المجاز ما لم يعلم أو يظن أن قائله لم يرد ظاهره.. كما استدل على أن إسناد "ميز" إلى "جذب الليالي" في قول أبي النجم: قد أصبحت "أم الخيار" تدعى ... على ذنبا كله لم أصنع من أن رأت رأسي كرأس الأصلع ... ميز عنه قنزعا عن قنزع جذب الليالي أبطئي أو أسرعي1 مجاز بقوله عقيبه: أفناه قيل الله للشمس اطلعي ... حتى إذا واراك أفق فارجعي وسمي الإسناد في هذين القسمين من الكلام عقليًّا لاستناده إلى العقل دون الوضع؛ لأن إسناد الكلمة إلى الكلمة شيء يحصل بقصد المتكلم دون واضع اللغة، فلا يصير ضرب خبًرا عن زيد بواضع اللغة بل بمن قصد إثبات الضرب فعلاً له، وإنما الذي يعود إلى واضع اللغة: أن ضرب لإثبات الضرب لا لإثبات الخروج، وأنه لإثباته في زمان ماض وليس لإثباته في زمان مستقل، فأما تعيين من ثبت له فإنما يتعلق بمن أراد ذلك من المخبرين ... ولو كان لغويًّا لكان حكمنا أنه مجاز في مثل

_ 1 الجذب: الشد. القنزع: الشعر المجتمع في نواحي الرأس، عن بمعنى بعد. "أبطئي أو أسرعي" جملتان واقعتان حالًا من الليالي بتقدير القول أي مقولًا فيها ذلك.

قولنا "خط أحسن مما وشى الربيع" من جهة أن الفعل لا يصح إلا من الحي القادر حكمًا بأن اللغة هي التي أوجبت أن يختص الفعل بالحي القادر دون الجماد، وذلك مما لا يشك في بطلانه. تعريف السكاكي للحقيقة والمجاز العقليين: وقال السكاكي: الحقيقة العقلية: هي الكلام المفاد به ما عند المتكلم من الحكم فيه1. وإنما قلت "ما عند المتكلم"، دون أن أقول "ما عند العقل" ليتناول كلام الجاهل إذا قال "شفي الطبيب المريض"، رائيًا شفاء المريض من الطبيب، حيث عد منه حقيقة مع أنه غير مفيد لما في العقل من الحكم فيه.. وفيه. نظر2: 1- لأنه غير مطرد3، لصدقة على ما لم يكن المسند فيه فعلًا

_ 1 هو لا يخرج عن كلام عبد القاهر في الحقيقة العقلية: "كل جملة وضعتها على أن الحكم المفاد به على ما هو عليه في العقل وواقع موقعه فهي حقيقة. 2 أي في تعريف السكاكي للحقيقة العقلية. 3 التعريف المطرد أي المانع بمعنى أنه كلما صدق التعريف صدق المعرف فهو مانع من دخول غير أفراد المعرف فيه. والتعريف المنعكس أي الجامع بمعنى أنه كلما انتفى التعريف انتفى المعرف فهو جامع لأفراد المعرف، ومثال عدم الجمع تعريف الحيان بأنه جسم مفكر، ومثال عدم المانع تعريفه بأنه جسم نام. وسبب عدم الجمع كون التعريف أخص من المعرفة كالمثال، أو مباين له، كتعريف الإنسان بالملك.. وسبب عدم المنع هو كون التعريف أعم من المعرف مطلقًا، فإن كان أعم من وجه كان في التعريف عدم الجمع والمنع.

ولا متصلًا به، كقولنا: الإنسان حيوان، مع أنه لا يسمى حقيقة ولا مجازًا. 2- ولا منعكس، لخروج ما يطابق الواقع دون اعتقاد المتكلم وما لا يطابق شيئًا منهما منه، مع كونهما حقيقتين عقليتين كما سبق. وقال "السكاكي": المجاز العقلي هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب من التأويل، إفادة للخلاف لا بوساطه وضع، كقولك: أنبت الربيع البقل، وشفى الطبيب المريض، وكسا الخليفة الكعبة. قال "السكاكي": وإنما قلت "خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه". دون أن أقول خلاف ما عند العقل: 1- لئلا يمتنع طرده بما إذا قال الدهري عن اعتقاد جهل أو جاهل غيره: أنبت الربيع البقل، رائيًا إنباته من الربيع، فإنه لا يسمى كلامه ذلك مجازًا، وإن كان بخلاف العقل في نفس الأمر، واحتج "السكاكي" ببيت الحماسة وقول أبي النجم على ما تقدم. 2- ثم قال السكاكي: ولئلا يمتنع عكسه بمثل: كسا الخليفة الكعبة وهزم الأمير الجند، فليس في العقل امتناع أن يكسو الخليفة نفسه الكعبة ولا أن يهزم الأمير وحده الجند، ولا يقدح ذلك في كونهما من المجاز العقلي. وإنما قلت "لضرب من التأول" ليحترز به عن الكذب فإنه لا يسمى مجازًا مع كونه كلامًا مفيدًا خلاف ما عند المتكلم. وإنما قلت "إفادة للخلاف لا بوساطة وضع" ليحترز به عن المجاز اللغوي في صورة، وهي إذا ادعى أن "أنبت" موضوع لاستعماله في القادر المختار أو وضع لذلك.

وفيه نظر1: 1- لأنا لا نسلم بطلان طرده بما ذكر، لخروجه بقوله: لضرب من التأول. 2- ولا بطلان عكسه بما ذكر، إذ المراد بخلاف ما عند العقل خلاف ما في نفس الأمر، وفي كلام الشيخ عبد القاهر إشارة إلى ذلك، حيث عرف الحقيقة العقلية بقوله: "كل جملة وضعتها على أن الحكم المفاد بها على ما هو عليه في العقل وواقع موقعه" فإن قوله "واقع موقعه" معناه في نفس الأمر وهو بيان لما قبله، وكذا في كلام الزمخشري، حيث عرف المجاز العقلي بقوله: "أن يسند الفعل إلى شيء يلتبس بالذي هو في الحقيقة له"، فإن قوله في الحقيقة معناه في نفس الأمر. ونحو كسا الخليفة الكعبة إذا كان الإسناد فيه مجازًا كذلك. 3- ثم القول بأن الفعل موضوع لاستعماله في القادر ضعيف، وهو معترف بضعفه، وقد رده في كتابه بوجوه، منها: أن وضع الفعل لاستعماله في القادر قيد لم ينقل عن واحد من رواة اللغة وترك القيد دليل في العرف على الإطلاق فقوله: "إفادة للخلاف لا بوساطة وضع" لا حاجة إليه، وأن ذكر فينبغي أن لا يذكر إلا بعد ذكر الحد على المذهب المختار، على أن تمثيله بقول الجاهل "أنبت الربيع البقل" ينافي هذا الاحتراز. تنبيه: قد تبين بما ذكرنا أن المسمى بالحقيقة العقلية والمجاز العقلي على ما ذكره السكاكي هو الكلام لا الإسناد، وهذا يوافق

_ 1 أي في تعريف السكاكي للمجاز العقلي.

ظاهر كلام الشيخ عبد القاهر في مواضع من دلائل الإعجاز، وعلى ما ذكرناه هو الإسناد لا الكلام، وهذا ظاهر ما نقله الشيخ أبو عمرو بن الحاجب1 رحمه الله عن الشيخ عبد القاهر2، وهو قول الزمخشري في الكشاف، وقول وقول غيره، وإنما اخترناه؛ لأن نسبة المسمى حقيقة أو مجازًا إلى العقل على هذا لنفسه بلا وساطة شيء، وعلى الأول لاشتماله على ما ينتسب إلى العقل، أعني الإسناد. أقسام المجاز العقلي باعتبار طرفيه: حقيقيتهما ومجازيتهما أو أحدهما: قال الخطيب: ثم المجاز العقلي باعتبار طرفيه -أعني المسند والمسند إليه- أربعة أقسام لا غير؛ لأنهما إما: 1- حقيقتان، كقولنا أنبت الربيع البقل، وعليه قوله: فنام ليلي وتجلى همي وقوله: وشيب أيام الفراق مفارق ... "وأنشزن نفسي فوق حيث تكون" وقوله: "لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى" ... ونمت وما ليل المطي بنائم3

_ 1 إمام في اللغة والنحو توفي عام 646هـ. 2 وهو ظاهر كلام عبد القاهر في الأسرار والدلائل كما فهمته أنا. 3 لجرير ومثل البيت قول النعمان بن بشير: ألم تبتدركم يوم بدر سيوفنا ... وليلك عما ناب قومك نائم وقول عمرو بن براق: فلا تأمنن الدهر حرًّا ظلمته ... فما ليل مظلوم كريم بنائم ومثله في المجاز، قول الشاعر: نهاري بأشرف التلاع موكل ... وليلي -إذا ما جنني الليل- آرق

2- وأما مجازان كقولنا "أحيا الأرض شباب الزمان". 3- وأما مختلفان، كقولنا: "أنبت البقل شباب الزمان"، وكقولنا: "أحيا الأرض الربيع"، وعليه قول الرجل لصاحبه: "أحيتني رؤيتك"، أي آنستني وسرتني، فقد جعل الحاصل بالرؤية من الأنس والمسرة حياة ثم جعل الرؤية فاعلة له، ومثله قول أبي الطيب: وتحيي له المال الصوارم والقنا ... ويقتل ما تحيي التبسم والجد1 جعل الزيادة والوفور حياة للمال، وتفريقه في العطاء قتلًا له، ثم أثبت الأحياء فعلًا للصوارم، والقتل فعلًا للتبسم، مع أن الفعل لا يصح منهما. ونحو قولهم: "أهلك الناس الدينار والدرهم": جعلت الفتنة إهلاكًا، ثم أثبت الإهلاك فعلًا للدينار والدرهم. وهو في القرآن كثير2. كقوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} ، نسبت

_ 1 الجدا: العطاء. وراجع تعليق عبد القاهر على البيت في الأسرار ص321 وقد نقل منه الخطيب. 2 رد به على مذهب الظاهرية الزاعمين عدم وقوع المجاز العقلي كاللغوي في القرآن لإيهام المجاز الكذب والقرآن منزه عنه. ووجه الرد أنه لا إيهام مع القرينة.

الزيادة التي هي فعل الله إلى الآيات لكونها سببًا فيها. وكذا قوله تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} . ومن هذا الضرب قوله: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُم} ، الفاعل غيره ونسب الفعل إليه لكونه الآمر به. وكقوله: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} ، نسب النزع الذي هو فعل الله تعالى إلى إبليس؛ لأن سببه أكل الشجرة، وسبب أكلها وسوسته ومقاسمته إياها: أنه لهما لمن الناصحين. وكذا قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] ، نسب الإحلال الذي هو فعل الله إلى أكابرهم؛ لأن سببه كفرهم وسبب كفرهم أمر أكابرهم إياهم بالكفر. وكقوله تعالى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17] نسب الفعل إلى الظرف لوقوعه فيه، كقولهم: "نهاره صائم". وكقوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} . [الزلزلة: 2] . وهو غير مختص بالخبر، بل يجري في الإنشاء، كقوله تعالى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر: 36] ، وقوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} [القصص: 38] . وقوله: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} . أنواع القرينة: "قال الخطيب": ولا بد له -أي للمجاز العقلي- من قرينة: 1- أما لفظية كما سبق في قول أبي النجم1.

_ 1 أفناه قيل الله للشمس اطلعي" إلخ.

ب- أو غير لفظية "أي معنوية": كاستحالة صدور المسند من المسند إليه المذكور أو قيامه به: عقلًا كقولك محبتك جاءت بي إليك، أو عادة كقولك هزم الأمير الجند وكسا الخليفة الكعبة وبنى الوزير القصر، "لاستحالة ذلك في العادة". وكصدور الكلام من الموحد في مثل قوله: "أشاب الصغير"، البيت1. واعلم أنه ليس كل شيء يصلح لأن تتعاطى فيه المجاز بسهولة بل تجدك في كثير من الأمر تحتاج إلى أن تهيئ الشيء وتصلحه له بشيء تتوخاه في النظم، كقول من يصف جملًا: تجوب له الظلماء عين كأنها ... زجاجه شرب غير ملأى ولا صفر يريد أنه يهتدي بنور عينه في الظلماء ويمكنه بها أن يخرقها ويمضي فيها، ولولاها لكانت الظلماء كالسد الذي لا يجد السائر شيئًا يفرجه به ويجعل لنفسه فيه سبيلًا، فلولا أنه قال: تجوب له، فعلق له بتجوب لما تبين جهة التجوز في جعل الجوب فعلًا للعين كما ينبغي؛ لأنه لم يكن حينئذ في الكلام دليل على أن اهتداء صاحبها في الظلماء ومضيه فيها بنورها، وكذلك لو قال تجوب له الظلماء عينه لم يكن له هذا الموقع ولا نقطع السلك من حيث كان يعيبه حينئذ أن يصف العين بما وصفها به.

_ 1 القرينة إما لفظية أو غير لفظية وهي المعنوية وتنقسم إلى عادية وعقلية، وذلك مثل: أاستحالة قيام المسند بالمسند إليه استحالة عادية. ب أو استحالة قيامه به استحالة ضرورية. أي بدهية. جـ صدور الكلام الذي فيه الإسناد من الموحد، وهذا القسم الثالث من المجاز العقلي هو الذي يحتاج إلى دليل وتأمل، أما القسم الأول والثاني فمن المجاز الضروري البدهي الذي لا يحتاج إلى دليل.

واعلم: أن الفعل المبني للفاعل في المجاز العقلي واجب أن يكون له فاعل في التقدير إذا أسند إليه صار الإسناد حقيقة1 لما يشعر بذلك تعريفه كما سبق، وذلك قد يكون ظاهرًا كما في قوله تعالى:

_ 1 هذا رأي الرازي والسكاكي والخطيب، وعبد القاهر على خلاف ذلك: فيرى الخطيب أن الفعل في المجاز العقلي لا بد أن يكن له فاعل إذا أسند إليه يكون الإسناد حقيقة، ومعرفة ذلك أما ظاهرة كما في {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُم} وإما خفية لا تظهر إلا بمزيد نظر وتأمل كما في "سرتني رؤيتك" لكثرة الإسناد إلى الفاعل المجازي وترك الإسناد إلى الفاعل الحقيقي.. وقد اشترك السعد والسيد في إبطال ما وجهه الرازي والسكاكي من الشبه في هذا البحث. قال الدسوقي: وتحرير النزاع أن المجاز العقلي هل يشترط في تحققه أن يكون للفعل المسند فيه فاعل محقق في الخارج أسند له ذلك الفعل قبل المجاز إسنادًا حقيقيًّا معتدًّا به، بأن يقصد في العرف والاستعمال إسناد ذلك الفعل لذلك الفاعل، أو لا يشترط؟. فمذهب السكاكي والمصنف اشتراط ذلك لأجل أن ينقل الإسناد من ذلك الفاعل الحقيقي للفاعل المجازي، ومذهب عبد القاهر لا يجب ذلك إلا إذا كان الفعل موجودًا، فإن كان غير موجود بأن كان أمرًا اعتباريًّا فلا يصح أن يكون له فاعل حقيقي، بل يتوهم ويفرض له فاعل أسند إليه ونقل الإسناد منه للفاعل المجازي، فالفاعل ليس محققًا في الخارج بل متوهم مفروض ولا يعتد بالإسناد للمتوهم المفروض، فليس "لسرتنى" ولا "ليزيدك" فاعل في الاستعمال يكون الإسناد إليه حقيقة، لعدم وجود تلك الأفعال المتعدية في الاستعمال، أي أن المتكلم لم يقصد الإخبار بها بل استعملها في لازمها، فانتفاؤها بالنظر إلى قصد المتكلم وملاحظته لا بالنظر للواقع، وكذا "أقدمني"، فإن الإقدام ليس له فاعل حقيقي وإسناد الإقدام فيه للحق مجاز عقلي، فقد بولغ في كون الحق له مدخل في تحقق القدوم، ففرض إقدام صادر من فاعل متوهم ثم نقل عنه وأسند إلى الحق مبالغة في ملابسته للقدوم، كما ينقل إسناد الفعل من الفاعل الحقيقي إلى الفاعل المجازي مبالغة في ملابسة الفاعل المجازي للفاعل الحقيقي، فالمجاز في الإسناد، لا في الفعل، فالفاعل الحقيقي ليس موجودًا محققًا في الخارج بل متوهم مفروض، ولا يعتد بإسناد الفعل للفاعل المتوهم المفروض، وكذا يقال في سرتني رؤيتك ويزيدك وجهه حسنًا: أنه بولغ في كون الرؤية لها مدخل في السرور، والوجه له مدخل في زيادة العلم بالحسن، ففرض سرور وازدياد من فاعل متوهم، ثم نقلًا عنه وأسندا للفاعل المجازي وهو الوجه والرؤية المبالغة في ملابسة الفاعل المجازي للفعل. فقول الشيخ عبد القاهر: ليس لهذه الأفعال فاعل، أي محقق في الخارج يعتد بإسنادها إليه.. هذا وما ذكر من أن الإسناد في "أقدمني بلدك حق إلخ" من قبيل المجاز العقلي غير متعين، بل يجوز أن يراد بالإقدام الحمل على القدوم على جهة المجاز المرسل، فيكون المعنى "حملني على القدوم حق إلخ".

{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُم} ، أي فما ربحوا في تجارتهم، وقد يكون خفيًّا لا يظهر إلا بعد نظر وتأمل، كما في قولك سرتني رؤيتك أي سرني الله وقت رؤيتك، كما تقول: أصل الحكم في أنبت الربيع البقل أنبت الله البقل وقت الربيع، وفي شفى الطبيب المريض: شفى الله المريض عند علاج الطبيب، وكما في قولك أقدمني بلدك حق لي على فلان أي أقدمتني نفسي بلدك لأجل حق لي على فلان أي قدمت لذلك، ونظيره محبتك جاءت بي إليك، أي جاءت بين نفسي إليك لمحبتك، أي جئت لمحبتك.. وإنما قلنا أن الحكم فيهما مجاز؛ لأن الفعلين فيهما مسندان إلى الداعي والداعي لا يكون فاعلًا، وكما في قول الشاعر1: وصيرني هواك ربي ... لحيني يضرب المثل أي وصيرني الله لهواك وحالي هذه، أي أهلكني الله ابتلاء بسبب هواك، وكما في قول الآخر وهو أبو نواس2: يزيدك وجهه حسنًا ... إذا ما زدته نظرا

_ 1 هو ابن البواب كما في الدلائل ص72، والكلام على البيت في ص229 من الدلائل.. وينسب البيت لمحمد اليزيدي. 2 في المطول لابن المعذل، وهو لأبي نواس كما في معاهد التنصيص، وتجد البيت في الدلائل ص229.

أي يزيدك الله حسنًا في وجهه لما أودعه من دقائق الجمال متى تأملت. وأنكر السكاكي وجود المجاز العقلي في الكلام، وقال: الذي عندي نظمه في سلك الاستعارة بالكناية، بجعل الربيع استعارة بالكناية عن الفاعل الحقيقي1 بواسطة المبالغة في التشبيه على ما عليه مبني الاستعارة كما سيأتي، وجعل نسبة الإنبات إليه قرينة للاستعارة2.

_ 1 وكان عبد القاهر يرد ذلك الرأي في كلامه في الأسرار "ص331". 2 تفصيل الكلام على رأي السكاكي في رد المجاز العقلي إلى الاستعارة المكنية أنه بعد أن عرض للمجاز العقلي قال: "هذا كله تقرير الكلام في هذا الفصل بحسب رأي الأصحاب من تقسيم المجاز إلى لغوي وعقلي، وإلا فالذي عندي هو نظم هذا النوع في سلك الاستعارة بالكناية، يجعل الربيع استعارة بالكناية عن الفاعل الحقيقي- وهو القادر المختار أي الله تعالى- بواسطة المبالغة في التشبيه على ما عليه مبني الاستعارة كما عرفت، وجعل نسبة الإثبات إليه قرينة للاستعارة، ويجعل الأمير المدبر لأسباب هزيمة العدو استعارة بالكناية عن الجند الهازم، وجعل نسبة الهزم إليه قرينة للاستعارة، فالمجاز كله لغوي أي في الكلمة لا في الإسناد "راجع ص169 المفتاح".. والاستعارة بالكناية عنده أن تذكر المشبه وتريد المشبه به بواسطة قرينة، وهي أن تنسب إليه شيئًا من اللوازم العادية للمشبه به مثل أن تشبه المنية بالسبع ثم تفردها بالذكر وتضف إليها شيئًا من لوازم السبع فتقول مخالب المنية نشبت بفلان. وما ذهب إليه السكاكي هو حاصل شبه أوردها عبد القاهر ورد عليها "331 من الأسرار"، قال عبد القاهر في أسلوب "صاغ الربيع الوشى": فإن قيل: أليس الكلام معقودًا على تشبيه الربيع بالقادر في تعلق وجود الصوغ والنسج به؟ فالجواب أن هذا التشبيه ليس هو الذي =

..........................................................................

_ = يعقد في الكلام، إنما هو عبارة عن الجهة التي راعاها المتكلم حين أعطى الربيع حكم القادر في إسناد الفعل إليه، فقولنا في تشبيه منقول منطوق به، وقول المعترض في تشبيه معقول غير منطوق به إلخ.. وقد سار السكاكي على ضوء هذه الشبهة وقال: ليس في كلام العرب مجاز عقلي إلخ. والحامل للسكاكي على هذا الإنكار كما يقول هو للاستعارة بالكناية، ولكن يرد عليه أن ذلك ليس بأولى من العكس.. وقول السكاكي في الاستعارة المكنية "هي أن تذكر المشبه إلخ" أي هي ذكر المشبه أي هي المشبه المذكور. وناقش الخطيب رأي السكاكي، ورده بوجوه منها: 1 أنه يستلزم أن يكون المراد: بعيشة في قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَة} صاحب العيشة لا العيشة، وبماء في قوله: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} فاعل الدفق، لما سيأتي من تفسير الاستعارة بالكناية على مذهب السكاكي، من أن حاصلها أن يشبه الفاعل المجازي المذكور بالفاعل الحقيقي في تعلق وجود الفعل به ثم يفرد الفاعل المجازي بالذكر، وينسب إلى شيء من لوازم الفاعل الحقيقي.. توضيح المقام: أنه لا بد في الإسناد من مستعار منه ومستعار له ومستعار، ففي أنشبت المنية أظفارها بفلان المستعار منه معنى السبع وهو الحيوان المفترس، والمستعار لفظ السبع، والمستعار له معنى المنية، ومعنى قولهم بالكناية أنك كنيت عن المستعار بشيء من لوازم معناه "أي الأظفار" ولم تصرح به، وهذا على طريق الجمهور، فيجعلون مدلول لفظ استعارة بالكناية المستعار أعني اللفظ الدال على المشبه به المضمر، والسكاكي يجعل مدلوله اللفظ الدال على المشبه فيقال عنده في تقريرها: شبهت: المنية بالسبع وادعينا أنها فرد من أفراده، ثم أوردنا اللفظ الدال على المشبه مرادًا منه المشبه به بواسطة قرينة دالة على ذلك "كلفظ الأظفار"، وأما على طريق المصنف فدلوله نفس التشبيه المضمر في النفس فتسمية التشبيه استعارة بالكناية ... وقول السكاكي في "أنبت الربيع البقل": "أن الربيع استعارة بالكناية عن الفعل الحقيقي بواسطة المبالغة في التشبيه -أي بإدخال المشبه في جنس المشبه به وجعله فردًا من أفراده إدعاء. ونسبة الإثبات إلى الربيع قرينة الاستعارة- يرد عليه أن هذا مخالف لما اشتهر من أن قرينة الاستعارة بالكناية عند السكاكي هي إثبات الصورة الوهمية المسماه =

........................................................................

_ = بالاستعارة التخييلية، فيجب أن يؤول على أن المراد "وجعل نسبة ما هو على الاستعارة بالكناية غير الكائنة في المجاز العقلي، وأما الواقعة فيه فنسبة شبيه بالإنبات إليه قرينة".. وأجيب: بأن ما اشتهر عنه محمول على الاستعارة بالكناية غير الكائنة في المجاز العقلي وأما الواقعة فيه فالقرينة فيه قد تكون أمرًا محققًا، فما اشتهر عنه غير كلي، ويدل على ذلك أنه نفسه صرح في بحث المجاز العقلي بأن القرينة قد تكون أمرًا محققًا كما في أنبت الربيع البقل. وقول السكاكي: المكنية "هي أن تذكر المشبه وتريد المشبه به بواسطة قرينة، وهي أن تنسب إليه شيئًا من اللوازم المساوية للمشبه به"، يريد "بالمساوية" التي تصدق حيث صدق وتكذب حيث كذب. 2 ويستلزم أن لا تصح الإضافة في نحو قولهم: فلان نهاره صائم وليله قائم، أي؛ لأن المراد بالنهار على هذا فلان نفسه، وإضافة الشيء إلى نفسه لا تصح، فكل تركيب أضيف فيه الفاعل المجازي إلى الفاعل الحقيقي كما في المثالين السابقين تكون -على هذا- الإضافة فيه غير صحيحة، لبطلان إضافة الشيء إلى نفسه اللازمة من كلامه؛ لأن المراد بالنهار حينئذ فلان نفسه، ولا شك في صحة هذه الإضافة ووقوعها قال تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُم} ، وقال الشاعر: فنام ليلي وتجلى همي. وهذان المثالان أظهر؛ لأن "نهاره صائم" يمكن المناقشة فيه بأن الاستعارة إنما هي في ضميره المستتر لا في "نهاره" على الاستخدام المعروف في علم البديع. لكن المناقشة في المثال ليست من أدب العلماء -قال الدسوقي في "نهاره صائم": إضافة الشيء إلى نفسه إنما توجد إذا كان المراد "بالنهار" وضمير "صائم" واحدًا، وأما إذا ارتكب الاستخدام وجعل الضمير في "صائم" راجعًا إلى النهار. لا بالمعنى الأول وهو الزمان، بل بمعنى الشخص، فلا يلزم إضافة الشيء إلى نفسه؛ لأن الاستعارة إنما هي في الضمير المستتر في صائم لا في نهاره. 3 وأن لا يكون الأمر بالإيقاد على الطين في إحدى الآيتين وبالبناء فيهما لهامان مع أن النداء له فيكون الأمر له أيضًا فلا يجوز تعدد المخاطب في كلام واحد أو جمعه أو عطفه. قال الدسوقي: قيل إن هذا الإلزام إنما يتوجه على السكاكي إذا كان المسند مستعملًا في معناه الحقيقي، وله أن يمنع ذلك مدعيًا أن معنى "ابن" هو أمر بالبناء "وأوقد لي ياهامان" هو أمر بالإيقاد، فصح أن =

........................................................................

_ = النداء له والخطاب معه.. وفيه أن هذا خروج عما نحن بصدده؛ لأنه حينئذ يكون المجاز في الظرف، فيخرج عن المجاز العقلي كما يقول المنصف وغيره عن الاستعارة بالكناية كما يقول السكاكي. وقال ابن السبكي: إن إلزام الخطيب للسكاكي بنحو "ابن لي صرحًا" بأن لا يكون الأمر بالبناء لهامان مع أن النداء له، جوابه: أن المأمور بالبناء الباني بنفسه بعد اعتقاد دخول هامان نفسه في زمرة من يبني بنفسه مجازًا. 4 ويستلزم أن يتوقف جواز التركيب في نحو قولهم: أنبت الربيع البقل وسرتني رؤيتك على الإذن الشرعي؛ لأن أسماء الله تعالى توقيفية. قال ابن يعقوب: أن ما ذهب إليه السكاكي يستلزم أيضًا أن يتوقف استعمال نحو "أنبت الربيع البقل" و"شفي الطبيب المريض" و"سرتني رؤيتك" و" يزيدك وجهه حسنًا" -وكل ما كان مثل هذا الاستعمال- على سماعه من الشارع؛ لأن أسماء الله توقيفية، فلا يطلق عليه تعالى اسم لا حقيقة ولا مجاز ما لم يرد إذن من الشارع كالرحمن فإنه مجاز بخلاف ما لم يسم به الله نفسه في الكتاب ولا في السنة سواء كان مجازًا أو حقيقة، ولم يرد إطلاق الربيع والطبيب والرؤية على الله تعالى. لكن توقف مثل هذا الاستعمال على السماع غير صحيح؛ لأنه شاع استعماله حتى كاد أن يكون إجماعًا سكوتيًّا، فشيوعه يدل على أن المراد بالربيع غير الله. ولا يجاب عن هذا الإلزام بأن مذهب السكاكي أن أسماءه تعالى غير توقيفية؛ لأن الرد عليه ليس باستعماله هو بل باستعمال غيره ممن يذهب إلى غير ذلك مع عدم إنكار غيره، فصار استعمالًا صحيحًا، ولو كان كما ذكر السكاكي لتركه من يراها توقيفية أو لأنكر عليه. ملاحظة: المجاز العقلي له معنيان: إسناد الفعل أو ما في معنى الفعل إلى ما ليس الإسناد له بعلاقة، مع قرينة -والمجاز الذي سببه التصرف في أمور عقلية أي غير لفظية كجعل الفرد الغير المتعارف من أفراد المعنى المتعارف للفظ مثل جعل الشجاع فردًا من أفراد الحيوان المفترس فتنقل اسمه إليه قائلًا: "رأيت أسدًا" أي رجلًا شجاعًا شبيهًا بالأسد. والمعنى الأول هو المراد هنا في هذا الباب.

ويجعل الأمير المدبر لأسباب هزيمة العدو استعارة بالكناية عن الجند الهازم وجعل نسبة الهزم إليه قرينة للاستعارة. وفيما ذهب إليه "السكاكي" نظر: 1- لأنه يستلزم أن يكون المراد بعيشة في قوله تعالى "فهو في عيشة راضية صاحب العيشة لا العيشة، وبماء في قوله: خلق من ماء دافق فاعل. فاعل الدفق لا المني، لما سيأتي من تفسيره للاستعارة بالكناية. 2- وأن لا تصح الإضافة في نحو قولهم: فلان نهاره صائم وليله قائم؛ لأن المراد بالنهار على هذا فلان نفسه وإضافة الشيء إلى نفسه لا تصح. 3- وأن لا يكون الأمر بالإيقاد على الطين في إحدى الآيتين وبالبناء فيهما لهامان، مع أن النداء له. 4- وأن يتوقف جواز التركيب في نحو قولهم: أنبت الربيع البقل، وسرتني رؤيتك على الإذن الشرعي؛ لأن أسماء الله تعالى توقيفية، وكل ذلك منتف ظاهر الانتفاء. 5- ثم ما ذكره منقوض بنحو قولهم: "فلان نهاره صائم" فإن الإسناد فيه مجاز، ولا يجوز أن يكون النهار استعارة بالكناية عن فلان؛ لأن ذكر طرفي التشبيه يمنع من حمل الكلام على الاستعارة ويوجب حمله على التشبيه، ولهذا عد نحو قولهم "رأيت بفلان أسدًا، ولقيني منه أسد" تشبيها لا استعارة، كما صرح السكاكي أيضًا بذلك في كتابه.

تنبيه: إنما لم نورد الكلام في الحقيقة والمجاز العقليين في علم البيان كما فعل السكاكي ومن تبعه، لدخوله في تعريف علم المعاني دون تعريف علم البيان.

أسلوب المجاز العقلي وتطور البحث البلاغي عنه

أسلوب المجاز العقلي وتطور البحث البلاغي عنه ... البحث البلاغي عن أسلوب المجاز العقلي وأطواره 1: سيبويه وهل أثبت المجاز العقلي؟. قال صاحب الكتاب: مطر قومك الليل وبالنهار على الظرف، وإن شئت رفعته على سعة الكلام كما يقال صيد عليه الليل والنهار، كما قال جرير: ونمت وما ليل المطي بنائم فكأنه في كل هذا جعل الليل بعض الاسم، وكما قال الشاعر: أما النهار ففي قيد وسلسلة ... والليل في قعر منحوت من الساج فكأنه جعل النهار في قيد والليل في جوف منحوت "راجع 80/ 1 سيبويه في: باب من الفعل يبدل فيه الآخر من الأول ويجري الاسم كما يجري أجمعون على الاسم ينصب بالفعل؛ لأنه مفعول". وقال: تقول سرقت الليلة أهل الدار فتجري الليلة في سعة الكلام، ومثل ما أجري مجرى هذا في سعة الكلام والاستخفاف: "بل مكر الليل والنهار" فالليل والنهار لا يمكران ولكن المكر فيهما "89/ 1 الكتاب لسيبويه". وقال: باب استعمال الفعل في اللفظ لا في المعنى لاتساعهم في الكلام وللإيجاز والاختصار: فمن ذلك أن نقول: صيد عليه يومان أي صيد عليه الوحش في يومين ولكنه اتسع واختصر، ومما جاء على اتساع الكلام والاختصار. {وَاسْأَلِ القَرْيَةَ التِيْ كُنَّا فِيْهَا وَالْعِيْرَ التِيْ

_ 1 هذه البحوث بقلم محمد عبد المنعم خفاجي.

أَقْبَلْنَا فِيْهَا} ، إنما يريد أهل القرية فاختصر وعمل الفعل في القرية كما كان عاملًا في الأهل لو كان ها هنا، ومثله بل مكر الليل والنهار المعنى مكركم في الليل والنهار، وقال تعالى ولكن البر من آمن بالله، أي بر من آمن بالله، وهذا أكثر من أن يحصى، وقال الجعدي: وكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب "راجع 108-110/ 1 من الكتاب". هذا بعض ما ذكره سيبويه في كتاب عن المجاز العقلي1. وهو يرشدنا إلى رأي شيخ العربية في مثل هذا الأسلوب.. وبالإمعان فيما نقلناه ها هنا عن سيبويه ندرك أنه يحمل هذه الأساليب وما شابهها -مما حمله المتأخرون على المجاز في الكلام أي على المجاز العقلي- يحملها على السعة في الكلام بالإيجاز والحذف والاختصار، وأصلها على تقدير المضاف، وبهذا التقدير تخرج هذه الأساليب عند سيبويه عن معنى المجاز الذي نفهمه من كلام المتأخرين ... فالمجاز العقلي محمول عنده على السعة في الكلام وحذف مضاف. وسيأتي نبسط رأي عبد القاهر في ذلك ودفاعه عن أسلوب المجاز العقلي ورده على من يرى أنه محمول على السعة والحذف من علماء العربية كسيبويه ومن نهج نهجه في فهم وتحليل هذا الأسلوب.

_ 1 وفي ص169 جـ1 من الكتاب يقول سيبويه: وإن شئت رفعت "فقلت ولا أناعي" فجاز على سعة الكلام، من ذلك قول الخنساء: ترتع ما رتعت حتى إذا ذكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار فجعلها الإقبال والإدبار فجاز على سعة الكلام كقولك: نهارك صائم وليلك قائم.. ولكنه جاز على السعة فاستخفوا واختصروا، والسيرافي والشنتمري يجعلانه على تقدير مضاف أو تأويل المصدر باسم الفاعل. وهذا بيان لمعنى السعة الذي يقصده صاحب الكتاب.

المبرد وأسلوب المجاز العقلي: وقال صاحب الكامل: "ليلة مزؤودة" أي ذات زؤد وهو الفزع وجعل الليلة ذات فزع؛ لأنها يفزع فيها، قال تعالى: {بَلْ مَكْرُ الَّلَيْلِ وَالنَّهَارِ} أي مكركم في الليل والنهار، وقال جرير: ونمت وما ليل المطي بنائم. وقال آخر: فنام ليلى وتجلى همي. "65/ 1 كامل النسخة القديمة". وقال: العرب تقول نهارك صائم وليلك قائم أي أنت قائم وصائم، كما قال تعالى: {بَلْ مَكْرُ الَّلَيْلِ وَالنَّهَارِ} أي في الليل والنهار، وقال: ونمت وما ليل المطي بنائم "104/ 1 كامل المبرد". وقال: "وأما خلة فثماني"، سماها بالمصدر مثل فإنما هي إقبال وإدبار، نعتها بالمصدر لكثرته منها، ويجوز أن يكون أراد ذات خلة، ومثله: ولكن البر من آمن بالله "137 جـ1 كامل المبرد الطبعة القديمة". وقال: "ويمسي ليله غير نائم" أي في ليلة، جعل الفعل لليل على السعة مثل فإنما هي إقبال وإدبار، وفي القرآن بل مكر الليل والنهار "248 جـ2 كامل المبرد طبعة التجارية". ذلك ما في كلام المبرد من كلام وتحليل لبعض الأساليب التي جعلها المتأخرون من أسلوب المجاز العقلي. والمبرد في تحليل هذه الأساليب يجمع بين رأي سيبويه السابق ورأي أخر جديد هو المبالغة، والمبالغة من خصائص المجاز كما نعلم -فيقول في "فإنما هي إقبال وإدبار" نعتها بالمصدر لكثرته منها "137 جـ1 كامل"، فهو إذًا يجوز في أسلوب "فإنما هي إقبال وإدبار" -وما يشابهه مثله طبعًا- أن يكون على المبالغة كما يقول عبد القاهر أي على المجاز، أو على الحذف كما يقول سيبويه، وإذا هو

لم يذهب إلى مذهب سيبويه وحده، وقد يكون المبرد قد أراد من المبالغة التشبيه البليغ، هي إقبال، أي شبيهة به. ولكن ذلك بعيد عن الأسلوب وعن مراد المبرد منه كما يخيل لي. وفي رسالة أخرى للمبرد هي "ما اتفق لفظه واختلف معناه في القرآن" يقول المبرد: وفي القرآن مختصرات، فإن مجاز كلام العرب يحذف كثيرًا من الكلام إذا كان فيما يبقى دليل على ما يلقى، فمن ذلك: واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها، لما كانت القرية والعير لا يسألان ولا يجيبان علم أن المطلوب غيرهما "ص36"، ولا يجوز على هذا جاء زيد وأنت تريد غلامه؛ لأن المجيء يكون له ولا دليل في مثل هذا على المحذوف. ومثل الأول: ولكن البر من آمن بالله، أي بر من آمن بالله؛ لأن البر لا يكون البار. ونظيره قول الجعدي: ".. أصبحت خلالته كأبي مرحب" أي كخلالة أبي مرحب "32 و33". ومن المختصر في القرآن قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ} [البقرة: 171] تأويله مثلكم ومثلهم كمثل الناعق بما لا يسمع فاختصر وحذف، كقول النابغة: كأنك من جمال بني أقيش، أي جمل من جمال "35".. والمبرد في ذلك تابع لسيبويه ناقل عنه، ورأيه عندي صحيح. ابن المدبر والمجاز العقلي: يرى ابن المدبر أن أسلوب: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَار} من الحذف والاتساع، وأن الكتاب ينبغي أن يتجنبوه. "راجع ص18 الرسالة العذراء لابن المدبر نشر الدكتور مبارك".

نقد النثر والمجاز العقلي: وكذلك كتاب "نقد النثر" ضئيل الصلة بالمجاز العقلي. قال: ومن الاستعارة انطاق ما لا ينطق مثل: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} ومثل: امتلأ الحوض وقال قطني -وذكر أيضًا المثال: فللموت ما تلد الوالدة "66 نقد النثر".. ومن المعلوم أن كلامه في هذا قليل جدًّا من ناحية البحث البياني وهو متأثر بخطابه أرسطو، حامل لهذه المثل على الاستعارة، كما صنع عبد القاهر بعد. الآمدي وأسلوب المجاز العقلي: قال الآمدي في موازنته: المصادر قد تجعل أوصافًا في مكان أسماء الفاعلين وإنما تكون أوصافًا على وجه من الوجوه وطريقة من اللفظ، وهي قولهم إنما زيد دهره أكل ونوم وإنما عمرو أبدًا قيام وقعود، فتقيم المضاف إليه مقام المضاف؛ لأنه يدل عليه أو تجعل زيدًا نفسه الأكل والنوم وعمرًا القيام والقعود على المبالغة؛ لأن ذكل كثير منهما كما قالت: "فإنما هي إقبال وإدبار"، فجعلت الناقة هي الإقبال والإدبار؛ لأن ذلك كثير منها، وإن شئت كان المعنى ذات إقبال وإدبار فأقمت المضاف إليه مقام المضاف فهذه طريقة الوصف بالمصادر على ما ذكرته، فيقال هند الحسن كله ودعد الجمال أجمعه وزيد الهرم أقصاه وعبد الله التيه بعينه: إن شئت كان المعنى هند صاحبة الحسن كله ودعد ذات الجمال أجمعه وزيد أخو الهرم وعبد الله ذو التيه فأقمت المضاف إليه مقام المضاف مثل واسأل القرية، وإن شئت جعلت هندًا هي الحسن ودعد هي الجمال على المبالغة لما كانتا متناهيتين في هذين الوصفين "76 الموازنة طبعة صبيح". ورأى صاحب الموازنة قد حلله أتم تحليل وإن كان لا يخرج عن رأي المبرد في كثير ولا قليل.. فإن هذه الأساليب كلها بعيدة عن

المجاز العقلي إنما هي على الحذف والاختصار، أما ما ذكره في الكامل من الأساليب من مثل: نهارك صائم وليلك قائم فقد حملهما على المبالغة أو على الحذف كما سبق: وسيبويه يحملها كلها على الحذف. ومن تتمة الفائدة: أن ننقل هذا النص عن المبرد وإن لم يكن وثيق الصلة بالمجاز العقلي، قال المبرد: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} مجاز مصيره على ذا كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] وهم لا يتلقطونه مقدرين فيه ذلك ولكن تقديره: فكان مصيره إلى عداواتهم وحزنهم، ومثله: ودورهم بخراب الموت نبنيها، أي إلى هذا تصير، ومثل قول ابن الزبعري فللموت ما تلد الوالدة، أي أن هذا مصيرهم "26-28 ما اتفق لفظه للمبرد". خطابة أرسطو والمجاز العقلي: وقد ترجمت في القرن الثالث الهجري ولم يتأثر بها أئمة البيان كثيرًا في فهم هذا الأسلوب، وإنما كان جل تأثرهم بآراء علماء العربية كسيبويه والمبرد وابن فارس، وليس فيها إلا كلام قريب الصلة بالمجاز العقلي: قال: "ومن التغيرات الاستعارية اللذيذة أن ينسب الأمر إلى صفة الفاعل مثل الشيخوخة تفعل الخير بدل الشيخ".. وقال: ومن أنواع الاستعارة اللفظية أن تجعل أفعال الأشياء غير المتنفسة كأفعال ذوات الأنفس مثل الغضب لجوج "راجع باب العبارة في فن الخطابة في الشفاء لابن سينا". فهو ها هنا يجعل هذه الأساليب استعارة فقط، لا حذفًا كما ذهب إليه سيبويه. وصنيع الخطابة في هذا هو صنيع عبد القاهر، فقد جعل ما شابه هذه الأساليب مجازًا عقليًّا ورد أن تكون من الحذف بسبيل.

ابن فارس وأسلوب المجاز العقلي: قال ابن فارس: ومن اللامات لام العاقبة: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} لم يلتقطوه لذلك ولكن صارت العاقبة ذلك "87 الصاحبي لابن فارس". وقال: ومن سنن العرب الحذف والاختصار، ومنه "واسأل القرية" أراد أهلها، وبنو فلان يطؤهم الطريق أي أهله، ومنه نطأ السماء أي مطرها، وعلى خوف من فرعون: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} أي ضعف عذابها "175 الصاحبي". وقال: ومن سنن العرب إضافة الفعل إلى ما ليس فاعلًا في الحقيقة مثل جدارًا يريد أن ينقض وهو في شعر العرب كثير "179 و180 الصاحبي". وقال: باب المفعول يأتي بلفظ الفاعل، تقول سر كاتم أي مكتوم، وفي القرآن لا عاصم اليوم من أمر الله أي لا معصوم، ومن ماء دافق، وعيشة راضية أي مرضي بها، وحرمًا آمنًا أي مأمونًا فيه.. قيل ويأتي الفاعل بلفظ المفعول به كقوله: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} . أي آتيا "187 و188 الصاحبي". وقال: ومن سنن العرب وصف الشيء بما يقع أو يكون منه كقولهم يوم عاصف أي عاصف الريح؛ لأن عصوف ريحه يكون فيه، ومثله ليل نائم، وليل ساهر؛ لأنه ينام فيه ويسهر، قال أوس: خذلت على ليلة ساهرة، وقال عمرو بن براق: "وليلك من ليل الصعاليك نائم". ومثله، "وما ليل المطي بنائم". ويقولون: لا يرقد وسادة يريدون متوسد الوساد "188 الصاحبي".. وقال: ومن سنن العرب التوهم والإيهام وهو أن يتوهم أحدهم شيئًا ثم يجعله كالحق كمساءلة الرسوم "192".. وقال: ومن سنن العرب الإضمار:

إضمار الأسماء، وإضمار الأفعال، وإضمار الحروف "196-198 الصباحي"- والعرب تضمر الفعل فيشتبه المعنى حتى يعتبر فيوقف على المراد مثل "فإني لا ألام على دخول" أي على ترك دخول، وقال الأعشى: أأزمعت من آل ليلى ابتكارا، أي من أجل آل ليلى "ص198 و199". وقال: باب إضافة الشيء إلى ما ليس له مثل سرج الفرس وثمرة الشجرة وغنم الراعي "ص205". وقال: باب اقتصارهم على ذكر بعض الشيء. وهم يرديون كله ومنه: ويبقى وجه ربك إلخ. "212 و213". وبالتأمل فيما ذكره ابن فارس في الصاحبي نجده يفرق بين باب الحذف وباب المبالغة والمجاز، فيذكر مثل الحذف ويجعلها من الحذف، ويذكر مثل المبالغة كليل نائم ويجعلها من وصف الشيء بما يقع فيه أو يكون منه. وابن فارس في هذا جد دقيق متحر للصواب فيما يرى ويقول. ابن الأثير والمجاز العقلي: كذلك لم يعرض ابن الأثير في المثل السائر للمجاز العقلي، وإنما جعل المجاز ثلاثة أقسام: توسع في الكلام وتشبيه واستعارة: فالتوسع يكون العدول فيه عن الحقيقة إلى المجاز لغير مشاركة بين المنقول والمنقول إليه لطلب التوسع في الكلام، وهو ضربان: 1- ما يرد على وجه الإضافة واستعماله قبيح، لبعد ما بين المضاف والمضاف إليه، وذلك؛ لأنه يلتحق بالتشبيه المضمر الأداة، وإذا ورد التشبيه ولا مناسبة بين الطرفين، كان ذلك قبيحًا مثل بح صوت المال وماء الملام.

2- ما يرد على غير وجه الإضافة، وهو حسن لا عيب فيه مثل: قالتا أتينا طائعين، فنسبة القول إلى السماء من باب التوسع؛ لأنهما جماد لا ينطق، وعلى هذا ورد مخاطبة الطلول ... وهذا النوع الثاني قريب من أسلوب المجاز العقلي، وابن الأثير يعده من التوسع الذي هو قسم من أقسام المجاز. عبد القاهر والمجاز العقلي: ليس عبد القاهر أول من تكلم على أسلوب المجاز العقلي، فقد تقدمه كثير من العلماء: كسيبويه والمبرد والآمدي وابن فارس.. وفي هذا ما يبطل الرأي القائل بأن المجاز الحكمي -العقلي- من ابتداع عبد القاهر وحده، وهو رأي ذهب إليه الدكتور طه حسين في مقدمته لكتاب نقد النثر. وبلاغة المجاز العقلي كما فهمها عبد القاهر سبق إلى بيانها باختصار وفي خفية المبرد والآمدي. وجملة ما ذكره عبد القاهر في كتابيه الأسرار والدلائل عن المجاز العقلي.. هي: 1- إثبات وجود المجاز العقلي وبيان سر الفروق بينه وبين المجاز في الكلمة. 2- بيان أن المجاز في الإثبات عقلي وفي الكلمة المثبتة لغوي. 3- بيان حد هذين النوعين من المجاز "المجاز الحكمي والمجاز في المفرد". 4- بيان القرينة على التجوز في المجاز العقلي والفرق بينه وبين الأحاديث الكاذبة.

5- الكلام على بلاغة المجاز العقلي ودرجاته في البلاغة -من العامية والخاصية- وأن تقدير الحقيقة في الإسناد المجازي قد لا يتأتى في الأسلوب، وتوضيح سر دقة الأساليب الخاصية في المجاز العقلي، وتأويل نظرية علماء النحو التي يذهبون فيها إلى أن أسلوب المجاز الحكمي على تقدير مضاف، والدفاع عن بلاغة المجاز الحكمي التي يهتضمها مثل هذا التقدير الحائف والتأويل البعيد. وهذه الآراء مبسوطة في كتابي "عبد القاهر، والبلاغة العربية" بسطًا وافيًا، فليرجع إليها من أراد. الراغب الأصفهاني والمجاز العقلي: أكثر الأسباب التي يحتاج الفعل إليها في وجوده كما يقول الراغب عشرة: فاعل يصدر عنه كالنجار وعنصر يعمل فيه كالخشب وعمل كالنجر، وزمان ومكان يعمل فيهما، وآلة يعمل بها كالمنجر، وغرض قريب كاتخاذ النجار، وغرض بعيد كتحصين البيت به، ومثال يعمل عليه ويقتدي به، ومرشد يرشده.. وكل قد ينسب إليه الفعل فيقال أعطاني زيد إذا باشر الإعطاء وأعطاني الله لما كان هو الميسر له وربما جمع بين السببين: البعيد والقريب فيقال: أعطاني الله وزيد، قال الشاعر: حبانا به جدنا والإله ... وضرب لنا أجذم صارم فنسب إلى الأول وهو الله وإلى السبب المتأخر وهو الضرب وإلى المتوسط وهو الجد.. وقال: الله يتوفى الأنفس حين موتها، فأسند إلى الآمر به، قل يتوفاكم ملك الموت، فأسند إلى المباشر له، وقال الشاعر: وألبسنيه الهالكي.. وقال: كساهم محرق1 فنسب

_ 1 للحصين المري "راجع ص19 من المفضليات".

الفعل إلى عاملها وفي الثاني إلى مستعملها، وقال في صفة نبال: كستها ريشها مضرحية، فنسب كسوتها إلى الطائر الذي أخذ ريشه فجعل لها: وقيل يداك أوكتا وفوك نفخ، فنسب الفعل إلى الآلة المتصلة. ويقال سيف قاطع فنسب إلى الآلة المنفصلة. وقيل ضرب قاطع وطعن جائف فنسب إلى الحدث. وسر كاتم وعيشة راضية، فنسب إلى المفعول. وقال تعالى: حرمًا آمنا. فنسب إلى المكان. وقيل يوم صائم وليل ساهر، وما ليل المطي بنائم، فنسب إلى الزمان.. ولما كانت أفعالنا على ذلك صح في الفعل الواحد أن ينسب إلى أحد الأسباب مرة وينفي عنه مرة بنظرين مختلفين. وقال: أعطيت من لم تعطه ولو انقضى ... حسن اللقاء حرمت من لم تحرم فأثبت له الفعل ونفاه عنه بنظرين مختلفين.. وهذا فصل من تأمله لم يعتمد في تثبيت المعاني على مثلها من الألفاظ فينظر من اللفظ إلى المعنى، بل ينظر في مثل هذا من المعنى إلى اللفظ. ومن أجل هذا قال قوم من المحصلين لا فاعل في الحقيقة لأي شيء من الأفعال إلا الله تعالى فإن فعله يستغني عن الزمان والمكان والمادة، ومن عداه من الفاعلين فإن له من كل ذلك وبعضه، ولهذا لا يصح أن ينسب الإبداع إلى غيره تعالى لا حقيقة ولا مجازًا ويصح أن ينسب فعل الله تعالى إلى كل ما تقدم ذكره "180-182 الذريعة إلى مكارم الشريعة". وبهذا نرى أن الراغب ينفي المجاز العقلي كافة، ولكن في نظري أنه إنما ينظر إلى المعاني كما قال في آخر كلمته، ويوجه الألفاظ في دلالتها إلى ما تقتضيه المعاني، ولا ينظر إلى النظم والأسلوب وكيفية أدائه للمعنى من حقيقة أو مجاز، فهو عن هذا في واد بعيد، وشغل شاغل.

صاحب المصباح1 وأسلوب المجاز العقلي: وقد تأثر بدر الدين في كتابه في بحث المجاز العقلي بالسكاكي: قال: المجاز العقلي هو الكلام المزال إسناده عما هو له عند المتكلم إلى غيره بضرب من التأويل والمراد بما الإسناد له عند المتكلم ما يعتقد قيام الفعل به أو صدوره عنه، ولم أقل بغير العقل؛ لأنا لم نرهم يحملون نحو "أشاب الصغير البيت" على المجاز ما لم يعلموا أو يظنوا صدوره عن غير جهل، أوما ترى كيف استدلوا على أن إسناد "ميز" إلى الجذب في قوله: ميز عنا قنزعا عن قنزع ... جذب الليالي أبطئي أو أسرعي مجاز بأن أتبعه قوله: "أفناه قيل الله إلخ" الشاهد لنزاهته أنه يريد الظاهر، وقولي بضرب من التأويل مخرج للكذب. وسمي هذا الضرب مجازًا عقليًّا لتعدي الحكم فيه عن مكانه الأصلي من غير تغيير للوضع. ومن شرط هذا المجاز أن يكون للمسند إليه شبه بالمتروك في تعلقه بالعامل "69 و70 المصباح". فهو يثبت المجاز العقلي ويفسره ويبين شروطه ويفرق بينه وبين الكذب. "حسن التوسل في صناعة الترسل" والمجاز العقلي: وهذا الكتاب متأثر في بحث أسلوب المجاز العقلي بعبد القاهر، قال: المجاز مفعل من جاز يجوز إذا تعداه. فإذا عدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة وصف بأنه مجاز بمعنى أنهم قد جاوزوا به موضعه الأصلى أو جاز هو مكانه الذي وضع فيه أولًا؛ لأنه ليس بموضع أصلي لهذا

_ 1 هو بدر الدين ابن ابن ملك المتوفى عام 649هـ.

اللفظ ولكنه مجازه ومتعداه يقع فيه كالواقف بمكان غيره ثم يتعداه إلى مكانه الأصلى1.. وحدهما -الحقيقة والمجاز- في المفرد: أن كل كلمة أريد بها ما وضعت له فهي حقيقة "117 المرجع المذكور" كالأسد للحيوان واليد للجارحة، وإن أريد بها غيره لمناسبة بينهما فهي مجاز كالأسد للشجاع واليد للنعمة أو القوة، وحدهما في الجملة: أن كل جملة كان الحكم الذي دلت عليه كما هو في العقل فهي حقيقة مثل خلق الله الخلق، وكل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضعه في العقل لضرب من التأويل فهي مجاز، كما إذا أضيف الفعل إلى شيء يضاهي الفاعل كالمفعول به في عيشة راضية. أو المصدر في شعر شاعر، أو الزمان في ليلة نائم، أو المكان في طريق سائر، أو المسبب في بنى الأمير المدينة، أو السبب في وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا، فمجاز المفرد لغوي ويسمى مجازًا في المثبت ومجاز الجملة عقلي ويسمى مجازًا في الإثبات، فالمجاز قد يكون في المثبت وحده مثل: فأحيينا به الأرض بعد موتها، وقد يكون في الإثبات وهو أن يضيف الفعل إلى غير الفاعل الحقيقي كما ذكرنا. وقد يكون فيهما جميعا كقولك آنستني رؤيتك أي سرتني فجعل المسرة حياة، وأسندها إلى الرؤية وهو مجاز في الإثبات "118 حسن التوسل".

_ 1 ذلك مأخوذ عن عبد القاهر وقد سبق ابن فارس في كتابه "الصاحبي" إلى بيان ذلك قال: باب سنن العرب في حقائق الكلام والمجاز": الحقيقة من حق الشيء إذا وجب. وهي الكلام الموضوع موضعه ليس باستعارة ولا تمثيل ولا تقديم فيه ولا تأخير. كقول القائل "أحمد الله على نعمه وإحسانه" وهذا أكثر الكلام. وأما المجاز فمأخوذ من جاز يجوز إذا استن ماضيًا. نقول جاز بنا فلان وجاز علينا فارس. هذا هو الأصل. ثم نقول يجوز أن تفعل كذا أي تنفذ ولا يرد ولا يمنع، ونقول عندنا دراهم وضع وازنة وأخرى تجوز جواز وازنة. أي هي وإن لم تكن وازنة فهي تجوز مجازها وجوازها لقربها منها، فهذا تأويل قلونا مجاز. أي أن الكلام الحقيقي يمضي لسنته لا يعترض عليه أو قد يكون غيره يجوز جوازه لقربه منه إلا أن فيه من تشبيه واستعارة ما ليس في الأول، 167-169 الصاحبي".

الزمخشري والمجاز العقلي: قال في الكشاف في تفسير الآية الكريمة: {خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ} ما نصه: ويجوز أن يستعار الإسناد نفسه من غير الله لله فيكون الختم مسندًا إلى الله على سبيل المجاز وهو لغيره حقيقة، تفسير هذا أن للفعل ملابسات شتى يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والمسبب له فإسناده إلى الفاعل حقيقة، وقد يسند إلا هذه الأشياء على طريق المجاز المسمى استعارة وذلك لمضاهاتها الفاعل في ملابسته الفعل1 كما يضاهي الرجل الأسد في جراءته فيستعار له اسمه، فيقال في المفعول به: عيشة راضية وماء دافق وفي عكسه: سيل مفعم وفي المصدر شعر شاعر وذيل ذائل وفي الزمان نهاره صائم وليله قائم، وفي المكان طريق سائر ونهر جار، وأهل مكة يقولون: صلى المقام، وفي المسبب بنى الأمير المدينة، وقال الشاعر: إذا رد عافى القدر من يستعيرها. فالشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر إلا أن الله لما أقدره ومكنه أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى المسبب. وقال في الأية الكريمة: {فَمَا رَبِحَتْ تَجَارَتُهُمْ} ما نصه: فإن قلت كيف أسند الخسران إلى التجارة وهو لأصحابها. قلت: هو من الإسناد المجازي وهو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له كما تلبست التجارة بالمشترين.

_ 1 فالزمخشري يجعل هذا مجازًا في الإسناد على تشبيه الفاعل غير الحقيقي بالفاعل الحقيقي فهو عنده كالاستعارة في التشبيه والعلاقة.. فهو ينظر إلى المجاز في الإسناد من جهة الفاعل غير الحقيقي وأنه على تشبيهه بالفاعل الحقيقي.

الشهاب الخفاجي وأسلوب المجاز العقلي: جاء في طراز المجالس للشهاب الخفاجي م سنة 1069هـ ما نصه: قال الأبهري في شرح العضد: الفاعل لا بد أن يكن سببًا قابليًّا لفعله ليصح الإسناد إليه لغة، فإذا أسند فعل إلى ما لا يكون سببًا قابليا له يجعل مجازًا عن فعل آخر مناسب1 له يكون الفاعل قابليًّا3 له، ويكفي في هذا التسبب أن يعد الفاعل سببًا قابليًّا له في عرف العرب وعادتهم ولا يجب أن يكون محلًّا له في الحقيقة، فإنهم لا ينظرون في الإسناد إلى ذلك، ويرون جهة الإسناد -في نحو: سرتني رؤيتك ومات زيد وضرب عمرو- واحدة من حيث أن الفاعل فيها سبب قابل لأفعاله عادة وإن كان موجدها هو الله حقيقة، فقول الشيخ عبد القاهر: "الإسناد في سرتني رؤيتك مجاز إذ فاعله في الحقيقة هو الله والمعنى سرني الله عند رؤيتك، وفي الآخرين حقيقة" بعيد؛ لأن موجد الضرب أيضًا هو الله لما ثبت من قاعدة خلق الأفعال، وكذا محدث الموت اتفاقًا لكن العرب لا يخطر ببالهم عند إسناد الضرب إلى عمرو والمسرة للرؤية أن فاعلها غير المذكور. قال الشهاب: وهذا كلام دقيق، ولكن فيه بحث من وجهين: 1- كيف يتم قوله: إذا أسند فعل إلى ما لا يكون سببًا قابليًّا له يجعل مجازًا عن فعل آخر مناسب له يكون الفاعل قابليًّا له، فإنه يقتضي أنه لو أسند إلى الموجد الحققي كخلق الله السموات والأرض يكون مجازًا، وهذا يأباه العقل والنقل، وكون هذا لا بد فيه من التجوز في

_ 1 هو هنا يجعل الإسناد غير حقيقة، ويؤول المجاز فيجعله في الفعل، من حيث أول الزمخشري فجعله في الفاعل، وعبد القاهر والسكاكي والخطيب فجلعوه في الإسناد. 2 يرد عبد القاهر في الأسرار على نظرية أن المجاز في الفعل وحده ردا مفصلًّا.

الفعل أيضًا لا وجه له لجواز التجوز في الإسناد، فما وجه الحصر؟. 2- كيف يشترط في الإسناد الحقيقي أن يكون الفاعل سببًا قابليًّا، دائمًا في اللغة. بناء على أن الفاعل اللغوي غير الفاعل الحقيقي، مع أن اللغة واستعمال العرب يشهد بخلافه في مواضع كثيرة: منها ما ذكر من الإسناد للموحد، ومنها أن الفعل يوضع للإعدام الصرفة كفقد وعدم وقد يسند للرجل حقيقة ما يقبله غيره ويقوم به مثل قطف، وهذا كله يقتضي أن الحقيقة والمجاز. يدوران على اعتبار اللغة وواضعها. والذي تحرر عندي وهو ما رد به الأبهري: أن الفاعل الواقع في التخاطب لا سيما في اللسان العربي هو من تلبس بالفعل وقام به أو كان سببًا قابليًّا عاديًا في الإثبات، أو ما هو في حكمه، وليس هذا على الإطلاق بل إذا كان الشيء موجدًا وفاعلًا حقيقيًّا. وكان له أمر آخر قام به أو نسب له على الوجه المذكور فإنه يسند حقيقة إلى الثاني دون الأول، فإن لم يكن إلا الأول كخلق الله السموات يسند حقيقة إلى الموجد، وإنما الكلام ومحل النزاع هو الأول، ثم السبب القابل ليس المراد به ما هو كذلك حقيقة بل هو وما جرى مجراه، ولذا عول فيه على عادة العرب في عرف تخاطبهم، ومن كان له دراية وطالع أساس البلاغة للعلامة وفقه اللغة للثعالبي وقف على سر هذا "204-206 طراز المجالس".

والخلاصة: أن أسلوب المجاز العقلي قد اختلف فيه العلماء: 1- فسيبويه ومن تابعه يقولون: هو على تقدير محذوف -نقام ليلي أي نمت في ليلي. 2- وأناس يقولون: المجاز في الفعل وحده وهو "نام" ... فهو فيه مجاز لغوي لا غير، ويرد عبد القاهر هذا الرأي ردًّا مطولًا في كتابه "الأسرار". ولكن الأبهري اتخذ ذلك مذهبًا في شرحه على العضد، ورد على ذلك الخفاجي في "طراز المجالس". 3- وأخرون يقولون: المجاز في الفاعل وحده وأنه على تشبيهه بالفاعل الحقيقي، وعبد القاهر يرد على ذلك، ولكن الزمخشري يلوح كلامه باعتقاده هذا الرأي، والسكاكي ذهب إليه وحده، وجعله مذهبًا له في التخلص من المجاز العقلي. 4- وعبد القاهر يرى أن المجاز في الإسناد، وأن تشبيه الفاعل غير الحقيقي بالفاعل الحقيقي إنما هو عبارة على العلاقة في هذا التجوز العقلي وأن تقدير المضاف في أسلوب المجاز العقلي صار كالشريعة المنسوخة، فهو غير منظور إليه الآن ... ولا شك أن رأي عبد القاهر هو أمثل هذه الآراء في فهم بلاغة هذا الأسلوب.

حول المجاز العقلي

حول المجاز العقلي 1- الحقيقة العلمية والمجاز العقلي عند الخطيب من صفة الإسناد لا الكلام، حيث قال: "ثم الإسناد منه حقيقة عقلية ومجاز عقلي"؛ لأن المتصف بالحقيقة والمجاز في الواقع هو ما تسلط عليه التصرف

العقلي وهو الإسناد، فاتصاف الكلام بهما بالتبع للأمر العقلي وهو الإسناد، واتصاف الإسناد بهما بطريق الأصالة، فجعل الإسناد معروضًا لهما. وذلك أولى -لكون ذلك بالأصالة- من جعل الكلام معروضًا لهما؛ لأن ذلك بالتبع، وكلام الزمخشري يؤيد الخطيب. أما السكاكي فجعلهما صفتين للكلام حيث قال: "المجاز العقلي هو الكلام المقاد به خلاف ما عند المتكلم إلخ"، والحقيقة العقلية هي الكلام المفاد به ما عند المتكلم إلخ". أما كلام عبد القاهر من قوله: "مجاز واقع في الإثبات" وقوله "الإضافة في الاسم كالإسناد في الفعل"، فظاهره أن المتصف بذلك هو الإسناد. ولكن قوله في حد الحقيقة في الجملة: "كل جملة وضعتها على أن الحكم المفاد بها على ما هو عليه في العقل وواقع موقعه فهو حقيقة"، وفي حد المجاز العقلي فيها: "فكل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضعه في العقل لضرب من التأويل فهو مجاز"، وقوله "لا يجوز الحكم على الجملة بأنها مجاز إلا بأحد الأمرين"، كل ذلك يوهم أنهما عنده صفتان للكلام لا للإسناد. ولكن الحق أن عبد القاهر يجعلهما وصفًا للإسناد بالذات فإذا وصف بهما الكلام فباعتبار اشتماله على الإسناد. فرأيه مؤيد لما سبق عن الخطيب، وهذا ظاهر مما نقله ابن الحاجب في رأي الشيخ، عبد القاهر أيضًا من أنه يجعلهما وصفًا للإسناد، كما أن ذلك هو رأي جمهور علماء البلاغة، ولكن السعد يرى أن عبد القاهر يجعلهما وصفًا للكلام كصاحب المفتاح، والحق أن السعد في ذلك قد وهم بظاهر بعض كلام عبد القاهر، فالحق أن عبد القاهر يرى أنهما وصفان للإسناد. ثم قال السعد: "قال الخطيب: وإنما اخترنا أنهما صفة للإسناد؛ لأن نسبة الشيء الذي يسمى حقيقة أو مجازًا إلى العقل على هذا لنفسه بلا واسطة وعلى قولهما "عبد القاهر والسكاكي" لاشتماله على ما ينسب إلى العقل أعني الإسناد، يعني الخطيب أن

تسمية الإسناد حقيقة عقلية إنما هي باعتبار أنه ثابت في محله ومجاز باعتبار أنه متجاوز إياه والحاكم بذلك هو العقل دون الوضع؛ لأن إسناد كلمة إلى كلمة شيء يحصل بقصد المتكلم دون واضع اللغة. فإن ضرب مثلًا لا يصير خبرًا عن زيد بواضع اللغة بل بمن قصد إثبات الضرب فعلًا له وإنما الذي يعود إلى الواضع أنه لإثبات الضرب دون الخروج وفي الزمان الماضي دون المستقبل1 فالإسناد ينسب إلى العقل بلا واسطة والكلام ينسب إليه باعتبار أن إسناده منسوب إليه".. فالسعد يثبت هنا أمرين: 1- أن المجاز في الإسناد عقلي وكذلك الحقيقة في الإسناد عقلية. 2- أن المجاز والحقيقة العقليين راجعان إلى الإسناد. فالخلاصة أنهما وصفان للإسناد إلا عند السكاكي على أن كلام السكاكي ربما أمكن تأويله، أفلا تراه يقول: المجاز العقلي هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب من التأويل والحقيقة هي الكلام المفاد به ما عند المتكلم من الحكم فيه فيجعل مناطهما الحكم "وهو الإسناد"، ويسميه -تبعًا لعبد القاهر- أحيانًا مجازًا حكميًّا ومجازًا في الإثبات، أفلا يدل ذلك على أن السكاكي يعتبر التجوز إنما هو أولًا في الإسناد، فيكون على هذا وصفًا له، قال السبكي: بل لا يصح من جهة المعنى إلا ذلك. الحق أن جمهور علماء البلاغة على أن المجاز والحقيقة العقليين إنما هما وصف للإسناد، وما يوهمه كلام السكاكي فمؤول، وتأويل ما يوهمه عبد القاهر في ذلك أظهر في باب التأويل إذ لا يحتاج في تأويله إلى دليل.

_ 1 راجع 355 و356 أسرار.

2- ذكر الخطيب المجاز العقلي في علم المعاني وذكره السكاكي في علم البيان. أما حجة الخطيب فهي أن المجاز العقلي داخل في تعريف علم المعاني لا البيان فكأنه مبني على أنه من الأحوال المذكورة في تعريف المعاني كالتأكيد والتجريد عن المؤكدات، فهو من أحوال اللفظ -بواسطة أنه من أحوال الإسناد- التي بها يطابق اللفظ مقتضى الحال، قال السعد: "وفيه نظر؛ لأن علم المعاني إنما يبحث عن الأحوال المذكورة من حيث إنها يطابق بها اللفظ مقتضى الحال وظاهر أن البحث في الحقيقة والمجاز العقليين ليس من هذه الحيثية -وإلا لو كانا من الأحوال المعهودة لذكر المصنف الحال التي تقتضي الحقيقة والمجاز كما ذكر في غيره من المباحث الآتية- فلا يكون داخلًا في علم المعاني وإلا فالحقيقة والمجاز اللغويان أيضًا من أحوال المسند أو المسند إليه"، هذا اعتراض قوي من السعد، تخلص منه بعض العلماء بحجة واهية وهي أن الخطيب إنما ذكر المجاز والحقيقة العقليين هنا على طريق الاستطراد لا غير أي لا لمناسبة. أما حجة السكاكي في ذكرهما في علم البيان فقوية، قالوا: لما كان علم البيان موضوعًا لبيان ما يعرف به كيفية إيراد المعنى الواحد بطريق مختلفة في وضوح الدلالة واختلاف الطرق يكون بالحقيقة والمجازية في الجملة، أوردهما في علم البيان، ولكن الخطيب -كما سبق- راعى أنهما من أحوال الكلام المفيد، باعتبار عروضهما لإسناده الذي به صار مفيدًا، والكلام المفيد تراعى فيه المعاني الزائدة على أصل المراد ليطابق بها الكلام مقتضى الحال، بخلاف الحقيقة والمجاز اللغويين فليسا من أحوال الكلام المفيد بل من أحوال أجزائه، والمفيد من حيث أنه مفيد بالإسناد هو المعروض للمعاني الزائدة على أصل المعنى المراد ليطابق بها مقتضى الحال كما تقدم. قال ابن يعقوب: لكن يرد على هذا أنهما يكونان من علم المعاني أن ذكرا فيه من حيث المطابقة لمقتضى الحال، ولم يذكرا فيه

من تلك الجهة والحيثية بل من حيث تفسيرهما وذكر أقسامهما، وقد يجاب عن هذا بأن تصور حقيقتهما يدرك معه بسهولة ما يذكر في علم المعاني من كيفية الاستعمال للمطابقة لمقتضى الحال؛ لأنه إذا علم أن المجاز يفيد تأكيد الملابسة علم أنه لا يعدل إليه عند اقتضاء المقام لذلك التأكيد مثلًا فكأنه ذكر ولم يصرح به لوضوحه. الحق مع السكاكي في عدهما من علم البيان، وما قيل عن عدهما في المعاني تكلف محض، ولابن السبكي رأي غريب في توجيه حجة السكاكي في عدهما من البيان، قال: جعلهما السكاكي في علم البيان؛ لأنه كان ينكر هذه الحقيقة وهذا المجاز فلذلك ذكرهما ثم. 3- المجاز والحقيقة العقليان وصف للإسناد مطلقًا سواء كان خبريًّا أو إنشائيًّا ولهذا قال الخطيب "ثم الإسناد منه حقيقة عقلية إلخ" فأتي بالاسم الظاهر دون الضمير -وإن كان المحل للضمير حيث كان السياق أن يقول ثم منه- لئلا يتوهم عوده على الإسناد المقيد بالخبرى في قوله "أحوال الإسناد الخبري، وارتكاب الاستخدام في الكلام خلاف الأصل"، ولا يرد أن المعرفة إذا أعيدت بلفظ المعرفة كانت عين الأولى فما لزم على الإتيان بالضمير لازم على الإتيان بالاسم الظاهر؛ لأنا نقول ليس هذا كليا بل مقيد بما إذا خلا عن قرينة المغايرة. ومما يدل على أن المراد الإسناد مطلقًا الأمثلة الآتية من نحو: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} . وليس المراد خصوص الخبري كما قد يتوهم من كون البحث في الإسناد الخبري. والحقيقة والمجاز العقليان يقتضي ذكرهما في الإسناد الخبرى وجعلهما وصفًا للإسناد مطلقًا -إنشائيًّا كان أو خبريًّا- اختصاصهما بالإسناد التام؛ لأن الإنشاء والإخبار وصفان له. مع أنهما لا يختصان بالإسناد التام بل يكونان في الإسناد الناقص كما في إسناد المصدر للفاعل وللمفعول به مثل أعجبني ضرب زيد وجري النهر وأعجبني إنبات الله البقل أو إنبات الربيع البقل.

وأجاب الحفيد بأن المراد بالإنشائي والإخباري الإسناد في الجملة الإنشائية والإخبارية سواء كان تامًّا أو ناقصًا فتناول ما ذكر، فالمراد بالإسناد مطلق النسبة مجازًا مرسلًا من إطلاق المقيد على المطلق فإن الإسناد هو النسبة التامة واستعمل في مطلق النسبة: تامة كالإسنادية أم غير تامة مثل الإضافية والإيقاعية. وأجاب المطول بأن المراد بالإسناد أعم من أن يكون صريحًا أو مستلزمًا. قال الخطيب: والمجاز العقلي غير مختص بالخبر بل يجري في الإنشاء، كقوله تعالى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} وقوله تعالى: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} وقوله تعالى: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} وقد سبق إلى ذلك السكاكي "169 المفتاح". وقال السعد نقلًا عن السكاكي: لما كان تقييده بالمجاز في الإثبات وإيراده في أحوال الإسناد الخبرى يوهم اختصاصه بالخبر؛ لأن الإثبات لا يتحقق في الإنشاء إذ الإثبات يقابل الانتزاع، وكل منهما حكم، ولا حكم في الإنشاء؛ لأنه من قبيل التصورات، قال الخطيب وهو غير مختص بالخبر بل يجري في الإنشاء كما في {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} أي قصرًا عاليًا. فالمجاز العقلي يدخل في الخبر، ويدخل في الإنشاء ويظهر ذلك في دخوله في أنواع الإنشاء الآتية: 1- الأمر 2- النهي 3- الاستفهام عند ابن يعقوب لا السبكي 4- أما النداء فلا تقدر على دخول المجاز العقلي فيه كما قال السبكي 5- وأما غير الإنشاء الطلبي: فالقسم لا تكاد تقدر عليه كما ذكره السبكي، والعلاقة في المجاز العقلي في الإنشاء كما هي في الخبر، فقد تكون السببية مثل ابن لي صرحًا أو المكانية مثل ليت النهر جار أو الزمانية مثل ليصم ليلك أو الآلة مثل لتقطع السكين إلخ.

4- ومما سبق الإشارة إليه في الملاحظة السابقة نعلم أن المجاز العقلي أعم من أن يكون في النسبة الإسنادية أو غيرها، فكما أن إسناد الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه مجاز، فكذا إيقاعه على غير ما حقه أن يوقع عليه، وإضافة المضاف إلى غير ما حقه أن يضاف إليه؛ لأنه جاز موضعه الأصلي، فالمذكور في الخطيب إما تعريف للمجاز العقلي في الإسناد خاصة أو لمطلقه باعتبار أن يجعل الإسناد المذكور في التعريف أعم من أن يدل عليه الكلام بصريحه كما مر أو يكون مستلزمًا له كما في: {شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} فإنه جعل البين شقاقًا في الآية، وكما في {مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَار} حيث جعل الليل والنهار ماكرين، وكما في يا سارق الليلة أهل الدار فإنه جعل الليل مسروقة، وكما في {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} ، حيث جعل الأمر مطاعًا ... وكذا فيما جعل فيه الفاعل المجازي تمييزًا كقوله تعالى: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 34] ؛ لأن التمييز في الأصل فاعل، قال السعد: واعلم أن المجاز العقلي قد يدل عليه صريحًا كم مر، وقد يكون كناية كما ذكروا في قولهم "سل الهموم" أنه من المجاز العقلي حيث جعل الهموم مخزونة بقرينة إضافة التسلية إليها، فافهم ولا تقصر المجاز العقلي على ما يفهم من ظاهر كلام السكاكي والخطيب، وقال الدسوقي: المجاز العقلي والحقيقة العقلية يجريان في الإضافة مثل أعجبني جري الماء في النهر وجري النهر، وفي الإيقاعية مثل نومت ابني في الليل ونومت الليل أي أوقعت النوم عليه، فلا تختص الحقيقة والمجاز بالنسبة الإسنادية كما يوهمه كلام الخطيب؛ لأنهما كما يجريان في الإسنادية يجريان في الإضافة وهي النسبة الواقعة بين المضاف والمضاف إليه، وفي الإيقاعية وهي نسبة الفعل للمفعول فإن الفعل المتعدي واقع على المفعول أي متعلق به -ولكن يلاحظ أن ظاهر هذا يقتضي أن الايقاعية غير تامة مع أن نسبة الفعل للمفعول إنما تعتبر بعد التمام فكان الأولى الاقتصار على الإضافية إلا أن يقال إنهم التفتوا إلى نسبة الفعل للمفعول في حد ذاته بقطع النظر عن نسبته

للفاعل ولا شك أنها غير تامة.. فنحو أعجبني جري الأنهار من النسب الإضافية وهو مجاز عقلي وكذلك أعجبني إنبات الربيع البقل، فهما مجازان في النسبة الإضافية لكن هذا إذا جعلت الإضافة بمعنى اللام وأما لو جعلت بمعنى في فلا يكون مجازًا بل حقيقة، فلا بد من النظر لقصد المتكلم ونفس الأمر فإن كان ما قصده مناسبًا بحسب نفس الأمر فحقيقة وإلا فمجاز. ومجرد مناسبة نوع من الإضافة لا يقتضي أن تكون حقيقة ما لم يقصده. 5- حديث المجاز العقلي أنه تجوز في الإسناد كما قال الخطيب أو تجوز في النسبة أعم من أن تكون إسنادًا أو إضافة أو إيقاعًا مصرحًا بها أو مكنية عنها كما رأى السعد، فما الحكم إذا في: أ- وصف الفاعل أو المفعول بالمصدر نحو رجل عدل، فإنما هي إقبال. ب- وصف الشيء بوصف محدثه وصاحبه مثل الكتاب الحكيم والأسلوب الحكيم، فإن المبني للفاعل قد أسند إلى المفعول لكن لا إلى المفعول الذي يلابسه ذلك المسند بل فعل آخر من أفعاله مثل أنشأت الكتاب.. فإن كلامه ظاهر في أن المفعول الذي يكون الإسناد إليه مجازًا يجب أن يكون بما يلابسه ذلك المسند. وكذا ما أسند إلى المصدر الذي يلابسه فعل آخر من أفعال فاعله نحو الضلال البعيد فإن البعيد إنما هو الضال وكذا العذاب الأليم فالأليم هو المعذب فوصف به فعله مثل جد جده، كذا في الكشاف وظاهر أن هذا المصدر مما يلابسه ذلك المسند. أما الجواب عن الأول فقد قالوا: أنه ليس بحقيقة ولا مجاز؛ لأنه إسناد إلى المبتدأ -والإسناد إليه ليس بحقيقة ولا مجاز عند الخطيب- هذا بعيد، والحق أنه مجاز، كما ذهب إليه عبد القاهر

ومن سبقه، وكما يمليه الذوق السليم، قال عبد القاهر في الدلائل: "لم ترد بالإقبال والإدبار غير معناهما حتى يكون المجاز في الكلمة وإنما المجاز في أن جعلتها لكثرة ما تقبل وتدبر كأنها تجسمت من الإقبال والإدبار، فليس المراد تشبيهها بالإقبال حتى يكون تشبيها بليغًا، ولا المراد ذات إقبال ولو كان صحيح المعنى؛ لأن ذلك يفيت المبالغة المقصودة للشاعر وهي كونها لكثرة وقوع الإقبال والإدبار منها صارت نفس كل منهما". وأما الجواب عن الثاني فهو أن الملابسة أعم من أن تكون بواسطة حرف أو بدونها، وهذه الصورة من قبيل الأول؛ لأن المعنى هو حكيم في أسلوبه وكتابه وبعيد في ضلاله وأليم في عذابه فيكون مما بني للفاعل وأسند إلى المفعول بواسطة، فهو داخل في المفعول ليكون إسناد ما للفاعل له مجازًا؛ لأنه لا يتوصل إليه ذلك المسند إلا بحرف فالمراد بالمفعول ما يتوصل إليه فعل الفاعل بنفسه أو بحرف، فهو مجاز عقلي علاقته المفعولية. فالخلاصة أن الإسناد في: أ- الإنسان حيوان ليس بحقيقة ولا مجاز عند الخطيب. ب- هي إقبال وإدبار مجاز عند عبد القاهر والسكاكي وعند السعد. جـ- كتاب حكيم رده السعد إلى المجاز. د- نام ليلي أو ليلي نائم الإسناد فيه مجاز قطعًا عند الجميع. فالخطيب أخرج الإسناد الذي بين المبتدأ والخبر عن أن يكون حقيقة أو مجازًا، ولذلك قال ثم الإسناد منه حقيقة ومنه مجاز ولم يقل إما حقيقة وإما مجاز، وذلك؛ لأن المتبادر من هذه العبارة في تقاسيم الأشياء هو الانفصال الحقيقي "مانعة جمع وخلو معا" أو المانع من الخلو إذ بأحدهما تصير الأقسام مضبوطة، دون المانع.

من الجمع إذ لا يعلم به عدة الأقسام قطعًا، فلو أوردت إما هنا لدلت على انحصار الإسناد في الحقيقة والمجاز والمصنف لا يقول به. قال السبكي: قال الخطيب: إسناد ما ليس فعلًا ولا متصلًا به لا يسمى حقيقة ولا مجازًا مثل الإنسان جسم، وليس كما قال بل كل خبر ففيه الإسناد وما ذكر يؤدي إلى نفي الإسناد؛ لأن من أثبت الحقيقة والمجاز العقليين فتقسيمه الإسناد إليهما منفصلة حقيقية مانعة جمع وخلو فكل إسناد ليس حقيقة ولا مجازًا لا وجود له، ومن وقف على حدي الإسناد الحقيقي والمجازي عرف ذلك، ثم نقول: الإنسان جسم فيه معنى الفعل باعتبار رجوعه إلى الإسناد المعنوي كما قدروا في زيد أسد زيد جريء، وكذلك يقدر في الجميع. هذا ويجعل ابن قتيبة مثل نبت البقل وطالت الشجرة من المجاز، ومثل قوله في الغرابة كلام صاحب الذريعة من أنه ينفي المجاز العقلي كافة، قال السبكي: وهما قولان غريبان آخذان بطرفي الإفراط والتفريط والحق بينهما. وقال الدسوقي: الظاهرية يزعمون عدم وقوع المجاز العقلي في القرآن كاللغوي لا يهام المجاز الكذب والقرآن منزه عنه.. والرد عليهم أنه لا إيهام مع القرينة. وقال ابن السبكي: في أنبت الربيع البقل إذا لم يكن من كافر ولا كذبًا أقوال: أ- المجاز لغوي في أنبت وهو رأي ابن الحاجب. ب- المجاز لغوي في الربيع وهو رأي السكاكي. جـ- المجاز عقلي في الإسناد وهذا رأي عبد القاهر والمصنف. د- أنه تمثيل فلا مجاز فيه لا في الإسناد ولا في الأفراد بل هو كلام أورد ليتصور معناه فينتقل الذهن فيه إلى إنبات الله تعالى وهو اختيار الإمام فخر الدين. انتهى كلام السبكي، ونضيف إليه رأيًا خامسًا وهو أنه حقيقة، وهو رأي صاحب الذريعة.

نشأة البيان العربي

نشأة البيان العربي مدخل ... نشأة البيان العربي: 1- كان للعرب في حياتهم الأولى ذوق وفيهم طبق، كانوا بهما في غنى عن الشرح والتحليل والتوجيه والتعليل لأحكام النقد ولأصول البيان العربي ومذاهبه، وكذلك كانت أصول البيان بعيدة عن البحث والدراسة والتقرير. وفي ظلال الحياة الإسلامية اختلطت العناصر، وتمازجت الثقافات، فلقحت العقول، وأصابت الألسنة آثار من اللكنة واللحن، وأخذ أئمة العربية يعملون في صبر وعزيمة في وضع أصول النحو العربي، وجمع مواد اللغة العزيزة.. وصحب ذلك وتلاه دراسات أخرى تتناول البيان العربي وأصوله ومذاهبه بالبحث والتحليل، وأخذت تتكون من تلك الدراسات النواة الأولى للبيان العربي، وظل التقدم الفكري والنضوج الأدبي والعلمي يسير بهذه البحوث والدراسات نحو الكمال المنشود بخطوات كبيرة.. وكانت الثقافة البيانية تنمو حين ذاك بجهود ثلاث طبقات: 1- الأولي طبقة رواة وعلماء الأدب من البصريين والكوفيين والبغداديين، من أمثال: خلف والأصمعي وأبي زيد وأبي عبيدة ويحيى بن نجيم وعمرو بن كركرة، وأستاذهم أبو عمر بن العلاء أعلم الناس بالعرب والعربية1، ومن عامة الرواة الذين لا يقفون إلا على البليغ الساحر من الأساليب كما يقول الجاحظ دون النحويين واللغويين والإخباريين الذين لم يتجهوا هذا الإتجاه2.. وبجوار هؤلاء أئمة الشعراء3 وغيرهم من الخطباء ورجال الأدب الذين تثقفوا بالثقافة العربية.

_ 1 209/ 1 البيان. 2 224/ 3 البيان. 3 54/ 1 البيان.

ب- والثانية طبقة الكتاب الذين لم ير الجاحظ قومًا أمثل طريقة في البلاغة منهم والذين التمسوا من الألفاظ ما لم يكن وحشيًّا ولا سوقيًّا1، ورأى الجاحظ البصر بهذا الجوهر من الكلام فيهم أعم2، وحكم مذهبهم في النقد3، ومثلهم المعتزلة وفرق المتكلمين الذين رآهم الجاحظ فوق أكثر الخطباء وأبلغ من كثير من البلغاء4 وكان بعضهم من عناصر عربية وتثقفوا بثقافة أجنبية، والآخرون من عناصر أجنبية تثقفت بالثقافة العربية، مما كان له أثره في فهم أصول البيان وفي توجيه دراسته وبحوثه وفي الدعوة إلى آراء في الأدب توائم ثقافتهم وعقليتهم، وكان بعضهم يلقن مذاهبه الأدبية العامة للتلاميذ وشداة الأدب، كما ترى في محاضرة بشر بن المعتمر المعتزلي م 210هـ في أصول البلاغة5، والتي يقول الجاحظ عنها أن بشرًا مر بإبراهيم بن جبلة بن مخرمة6 وهو يعلم الفتيان الخطابة فوقف بشر فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد فقال بشر: اضربوا عما قال صفحًا ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه في أصول البلاغة وعناصر البيان7، ومن رجال هذه الطبقة: أبو العلاء سالم مولى هشام وعبد الحميد الكاتب أو الأكبر كما يقول الجاحظ8 وابن المقفع وسهل ابن هرون9 والحسن والفضل10 ابنا سهل ويحيى البرمكي وأخوه

_ 1 105/ 1 البيان. 2 225/ 3 البيان. 3 240/ 1 البيان. 4 106/ 1 البيان. 5 104/ 1 وما بعدها البيان، 228 وما بعدها صناعتين. 6 يعده الجاحظ من الخطباء الشعراء 55/ 1 البيان. 7 ولبشر كتاب في نظم كليلة ودمنة. 8 151 جـ1 البيان. 9 كان سهل يقول: سياسة البلاغة أشد من البلاغة "144/ 1، البيان، 32/ 3 العقد". 10 ذكر الحصري كثيرًا من بلاغته "16-19 جـ2 زهر".

جعفر1 وأيوب بن جعفر وأحمد بن يوسف وعمر بن مسعدة2 وابن الزيات وسواهم. وكان لهذه الطبقة أثرها في بحث عناصر البيان وبلاغة الكلام. ونستطيع أن نعرف آثار هاتين الطبقتين في دراسات البيان بالرجوع إلى آرائهم المبثوثة في شتى أصول الأدب، والتي يمكننا أن نذكر لك هنا طرفًا منها، وإن شئت فاقرأ جواب صحار لمعاوية حين سأله عن البلاغة3، ويروى قبل هذا بكثير أن عامر بن الظرب سأل حممة بن رافع من أبلغ الناس؟. فقال، من حلى المعنى المزيز باللفظ الوجيز وطبق المفصل قبل التحزيز4 واقرأ تحديد المفضل الضبي للإيجاز5، وتفسير ابن المقفع للبلاغة6، وحوار الشمري لعمرو بن عبيد في البلاغة7، وتعريف الأصمعي للبليغ8، ورأي إبراهيم بن محمد في البلاغة9، وتعريف جعفر البرمكي للبيان10، وتعريف العتابي للبلاغة 11، وتفضيل الجاحظ لرأيه 12، ووصف الرشيد للبلاغة 13، ورأي شبيب بن شيبة في تفضيل بلاغة جودة القطع أو القافية على جودة الابتداء14، ووصف ابن المقفع كلام الأعراب 15، الذين أعجب

_ 1 وصل الجاحظ بلاغته وأشاد به "85 و91/ 1 البيان، 81/ 2 زهر"، وكان يؤثر الإيجاز "81/ 1 البيان، 177/ 1 الكامل"، ونوه به سهل بن هارون "11/ 2 زهر". "2" نوه المأمون ببلاغته "264/ 3 زهر". 3 81/ 1 البيان، وراجع 18/ 2 الكامل. 4 216/ 1 العمدة، 280/ 2 الأمالي للقالي. 5 81/ 1 البيان. 6 91 البيان، 214/ 1 العمدة، 15-17 صناعتين. 7 90/ 1 البيان، 142/ 1 زهر، 47 الرسالة العذراء. 8 86/ 1 البيان، 220/ 1 العمدة. 9 75/ 1 البيان. 10 85/ 1 البيان، 42-47 صناعتين. 11 90/ 1، و157/ 1 البيان. 12 121/ 1 البيان. 13 264/ 3 زهر. 14 89/ 1 البيان. 15 118/ 2 زهر.

الجاحظ ببلاغتهم1 ووصف الحسن بن وهب بلاغة أبي تمام2، وتعريف المأمون للبليغ بأنه من كان كلامه في مقدار حاجته ولا يجيل الفكرة في اختلاس ما صعب عليه من الألفاظ ولا يتعمد الغريب الوحشي ولا الساقط السوقي3، وقول خالد بن صفوان: أبلغ الكلام ما لا يحتاج إلى الكلام إلخ4، وتعريفه للبلاغة بأنها التقريب من المعنى البعيد أو التباعد عن خسيس الكلام والدلالة بالكبير على الكثير، وتعريف ابن عتبة لها: بأنها دنو المأخذ وقرع الحجة والاستغناء بالقليل عن الكثير، وعرفها الخليل: بأنها ما قرب طرفاه وبعد منتهاه، وعرفها إبراهيم الإمام: بأنها الجزالة والإصابة وعرفها ابن المقفع: بأنها قلة الحصر والجراءة على البشر، إلى غير ذلك من شتى هذه التحديدات5، ويقول أبو داود الإيادي: رأس الخطابة الطبع وعمودها الدربة وجناحاها رواية الكلام وحليها الإعراب6 إلخ، ويقول الخليل: كل ما أدى إلى قضاء الحاجة فهو بلاغة فإن استطعت أن يكون لفظ لمعناك طبقًا ولتلك الحال وفقًا وآخر كلامك لأوله مشابهًا وموارده لمصادره موازنة فافعل واحرص أن تكون لكلامك متهمًا وإن ظرف7، ووصية أبي تمام للبحتري تدخل في هذا الباب8، ويقول عبد الملك بن صالح 199هـ: البلاغة معرفة رتق الكلام وفتقه9، وقال ابن الرومي: البلاغة حسن الاقتضاب عند البداهة والغزارة عند الأصالة10، ويقول البحتري: خير الكلام ما قل وجل ودل ولم يمل11،

_ 1 110/ 1 البيان. 2 263/ 3 زهر. 3 423 صناعيتين. 4 35 و36 الرسالة العذراء. 5 راجع: 44-46 الرسالة العذراء، 75/ 1 البيان، 2 و3 و22 23/ 3 العقد، 140-150/ 1 زهر، 87-91/ 2 ديوان المعاني، 109، 202 إعجاز القرآن، 213-221/ 1 العمدة. 6 147/ 1 زهر، 51/ 1 البيان. 7 48 الرسالة العذراء. 8 151/ 1 زهر. 9 168/ 3 البيان. 10 41 الصناعتين. 11 36/ 1 المستطرف.

ويقول الثعالبي بعد: خير الكلام ما قل وجل ولم يمل1، ويقول ابن الأعرابي: البلاغة التقرب من البغية ودلالة قليل على كثير2. جـ- وأما الطبقة الثالثة فهي طبقة المفكرين والمثقفين الذين تثقفوا بثقافة أجنبية واسعة، وتأثروا كل التأثر بآداب الأمم الأخرى، وترجموا آراءهم في البيان ومناهجه إلى اللغة العربية، أو ألفوا كتبًا تبحث في هذه الاتجاهات، وهؤلاء قد عاشوا في البيئة الإسلامية وأثروا في النقد والأدب والبيان ودراساته وتطوره تأثيرًا واضحًا كبيرًا، يمكننا أن نذكر شيئًا عن مجهود هذه الطبقة في خدمة البيان. أهم عمل علمي قامت به هذه الطبقة: هو ترجمة كتابي الخطابة والشعر لأرسطو إلى العربية، فأما الخطابة فهو أصل البلاغة ودراساتها، وقد "أصيب بنقل قديم ونقله إسحاق بن حنين م 298هـ وكذلك نقله إبراهيم بن عبد الله وفسره الفارابي 339هـ" 3، وأما كتاب الشعر فقد اختصره الكندي م 253هـ، ونقله يحيى بن عدي ومتى في القرن الرابع من السريانية إلى العربية4 ... وقد ألفوا في صناعة الشعر وللكندي رسالة في صناعة الشعر5، ولأبي زيد البلخي كتاب بعنوان "صناعة الشعر" أيضًا6، وكذلك لأبي هفان7.

_ 1 218/ 1 العمدة. 2 217/ 1 العمدة. 3 349 فهرست. 4 349 و350 فهرست، وتجد تحليلًا كاملًا للكتاب في "64-136 قواعد النقد الأدبي"، وهو لم يصل إلينا كاملًا وليس من شك في أن للكتاب جزءًا ثانيًا قد فقد "68 المرجع"، ونكاد نجزم أن أرسطو أراد بكتابه هذا أن يكون ردًّا على أفلاطون في رأيه الذي ذهب إليه وهو أن الشعر عمل غير جدير بمقام الذكاء البشري وأنه من أشد بواعث الفساد "71 المرجع"، ويقول أرسطو في أوله: "سأتكلم هنا عن فن الشعر وأنواعه المختلفة ووظائف كل نوع وفي البناء الصحيح للمنظومة وعدد أجزائها وخصائص كل منها" "79 المرجع"، وترجمة ابن سينا وابن رشد "24 وما بعدها مقدمة فقد النثر". 5 359 فهرست. 6 198 فهرست. 7 207 فهرست.

وهناك آراء كثيرة مأثورة عن هذه الطريقة في البلاغة وعناصرها وهي متفرقة في شتى كتب الأدب ومصادره، وتجد في البيان والعمدة وسواهما أن صاحب اليونانيين عرف البلاغة بأنها تصحيح الأقسام واختيار الكلام، وعرفها الرومي بأنها وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الإشارة، وعرفها الفارسي بأنها معرفة الوصل من الفصل، وعرفها الهندي بأنها البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة إلخ، وعرفها أرسطو بأنها حسن الاستعارة، ويعرفها جالينوس بأنها إيضاح المفصل وفك المشكل، واقرأ البلاغة كما يراها حكيم الهند1، ويقول حكيم: البلاغة معرفة السليم من المعتل وفرق ما بين المضمن والمطلق وفصل ما بين المشترك والمفرد2، ويعرفها سقراط بأنها استشكاف الحقائق3، ويقسمها الكندي ثلاثة أنواع: فنوع لا تعرفه العامة ولا تتكلم به، ونوع بالعكس، ونوع تعرفه ولا تتكلم به وهو أحمدها4، ويقول: يجب للبليغ أن يكون قليل اللفظ كثير المعاني5، وذكر بزرجمهر فضائل الكلام ورذائله فقال: فضائله أن يكون صدقًا وأن يقع موقع الانتفاع به وأن يتكلم به في حينه وأن يحسن تأليفه وأن يستعمل منه مقدار الحاجة، ورذائله بالضد6 إلخ، وقال أبرويز لكاتبه: الكلام أربعة: سؤالك الشيء وسؤالك عن الشيء وأمرك بالشيء وخبرك عنه، فإذا طلبت فأسجع وإذا سألت فأوضح وإذا أمرت فأحكم وإذا أخبرت فحقق، وقال أيضًا: واجمع الكثر مما تريد في القليل7، ولعل ثعلبًا حين ذكر في صدر كتابه "قواعد الشعر" أقسام الشعر وأنها أمر ونهي وخبر واستخبار 8 قد تأثر بذلك الرأي.

_ 1 78 و79/ 1 البيان، 20-38 صناعتين، 144/ 1 زهر. 2 88/ 2 البيان والتبيين. 3 أصول النقد الأدبي للشايب. 4 219/ 1 العمدة. 5 35/ 1 المستطرف. 6 183، الموازنة. 7 10 أدب الكاتب. 8 ص11 قواعد الشعر.

وبعد فقد تعاونت هذه الطبقات في خدمة البيان، ولها جميعًا أثرها في نشأته وتطوره. 2- ومن الكتب الأولى التي ألفت في دراسات البيان وموضوعاته: مجاز القرآن لأبي عبيدة، وكتاب البيان لابن السكيت1 وكتاب الفصاحة للدينوري2، وكتاب التشبيه والتمثيل للفضل بن نوبخت3، وصناعة الكلام للجاحظ4، وكتاب التمثيل له5، ونظم القرآن أيضًا6 وقواعد الشعر وكتاب البلاغة للمبرد7، وللحراني كتاب في البلاغة8، ولثعلب قوا عد الشعر، ولابن مقسم تلميذه كتاب المدخل إلى صناعة الشعر9، وللمروزي كتاب البلاغة والخطابة10 ولابن الحرون كتاب المطابق والمجانس 11، ولأبي سعيد الأصفهاني كتاب تهذيب الفصاحة12، وللباحث كتاب صنعة البلاغة 13 ولمحمد بن يزيد الواسطي المعتزلي م 306هـ كتاب إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه ولابن الأخشيد كتاب نظم القرآن14 وكذلك لابن أبي داود 316هـ 15 وللحسن بن جعفر كتاب في الرد على من نفى المجاز في القرآن16. 3- وبعد فقد كان البيان العربي في القرن الثالث مزيجًا من

_ 1 208/ 1 كشف الظنون. وقد يكون في هذا الكتاب عرض للأدب وألوانه كالبيان والتبيين. 2 116 فهرست. 3 383 فهرست. وهو فارسي خدم المنصور والمهدي. 4 28 الجاحظ لمردم. 5 41 المرجع، 79/ 6 معجم الأدباء. 6 40 الجاحظ لمردم. 7 88 فهرست، 144/ 7 معجم الأدباء. 8 178 فهرست. 9 26 بغية الوعاة. 10 215 فهرست. 11 212 فهرست. 12 197 فهرست. 13 57 و58 فهرست. 14 324 فهرست. 15 52 الفهرست. 16 فهرست أيضًا.

ثقافات وآراء مختلفة عربية وغير عربية مؤلفة ومترجمة، ومن حيث كاد في القرن الثاني أن يكون عربيًّا خالصًا. وهنا سؤالان لابد من الجواب عليهما وهما: متى نشأ البيان العربي، وهل تأثر بثقافة أجنبية؟ أما نشأة البلاغة والبيان فالآراء فيها كثير ة. فالدكتور طه حسين يرى أن البلاغة نشأت في عهد متأخر والجاحظ في رأيه أول من اهتم بها وهو مؤسس البيان العربي حقًّا1، ويرى آخر أن نشأة البلاغة قديمة قد سبقت القرآن وتطورت بعده2 وأكثر الفنون الأدبية أخذت شواهدها من القرآن3 وينقد باحث هذا الرأي4.. ومن الضروري أن نفرق بين أمرين، نطق العرب في آثارهم الأدبية بأساليب لغتهم المختلفة من استعارة وتشبيه وكناية ومجاز وقصر وفصل ووصل وطباق وتجنيس إلخ، ومعرفتهم العلمية بأوضاع هذه الأساليب ونواحيها البلاغية، فالأول كان موجودًا عند العرب قبل القرآن وفي عصر القرآن وبعده، والثاني لم يوجد إلا في القرن الثالث الهجري كما ذهب إليه أكثر الباحثين، فقواعد البلاغة قد سنها الفكر أولًا ليجري عليها الأدب بل إن طبيعة الأدب موجودة من قبل سواء بحثت أو لم تبحث5، فالأدب وخواصه الأدبية موجودان من قديم وأما معرفة هذه الخصائص ودراستها وبحثها على أنها علم وأصول وقواعد فلم يوجد إلا بعد القرن الثاني الهجري، "فعلم البلاغة إسلامي لا عهد للجاهليين به"6، والبلاغة باعتبارها فنًّا مدروسًا أي التحليل العلمي للأساليب البلاغية ليست من علوم العصر الجاهلي إنما هي دراسة متأخرة في نشأتها على أنه لا شك كان هناك في العصر.

_ 1 3 و30 و31 مقدمة نقد النثر. 2 48/ 1 النثر الفني، ومن قبل رأي الصاحبي أن النحو والعروض نشأ من قديم "8 وما بعدها الصاحبي". 3 56/ 1 النثر الفني. 4 16 وما بعدها تأريخ البلاغة العربية مخطوط بمكتبة كلية اللغة. 5 8 قواعد النقد الأدبي. 6 29 تأريخ البلاغة العربية.

الجاهلي وصدر الإسلام بعض الخصائص والأساليب البلاغية المتعارف عليها1، وهذا كله مما لا سبيل إلى الشك فيه. وأما الأمر الثاني وهو هل تأثرت البلاغة العربية في نشأتها الأولى ببلاغة الأمم الأخرى؟ فيمكننا بسط الحديث فيه: يذكر ابن الأثير أن الشعر والخطابة في الأدب العربي لم يتأثرا بثقافة اليونانية البيانية "فهذا شيء لم يكن ولا علم أبو نواس شيئًا منه ولا مسلم ولا أبو تمام ولا البحتري ولا المتنبي ولا غيرهم وكذلك جرى الحكم في أهل الكتابة كعبد الحميد وابن العميد"، ثم ينفي أن يكون هو قد تأثر في رسائله ومكاتباته بما ذكره علماء اليونان في حصر المعاني ويذكر أنه اطلع على ما كتبه ابن سينا في الخطابة والشعر فلم يوافق ذوقه واستجهله ورأى أن ما ذكره لغو لا يستفيد به صاحب الكلام العربي شيئًا2، ويرى باحث محدث أنه كان للبلاغة اليونانية أثر في علم البلاغة العربي3، ويرى باحث آخر أن أرسطو المعلم الأول للمسلمين في علم البيان4، وأن الكتاب والمتكلمين الذين عاشوا في القرن الثاني وأثروا في البيان وتطوره جلهم من الأعاجم5 وأن متكلمي المعتزلة كانوا بتضلعهم في الفلسفة اليونانية من مؤسسي البيان العربي6 وأنه حتى منتصف القرن الثالث لم يوجد إلا بيان عربي واحد كان لا يزال في دور الطفولة وكان خصبًا جامعًا للروح العربي والفارسي واليوناني ثم وجد من ذلك الوقت بيانان: عربي بحت، ويوناني يجهر بالأخذ عن أرسطو، على أن البيان العربي الصرف قد تأثر باليونان7. وترجم كتاب الخطابة في النصف الثاني من القرن.

_ 1 ص4 و5 مجلة الأدب والفن نوفمبر 1945 من مقال للأستاذ جب. 2 20 المثل السائر. 3 177/ 1 ضحى الإسلام. 4 31 مقدمة نقد النثر. 5 ص6 المرجع نفسه. 6 نفس المرجع. 7 11 وما بعدها نفس المرجع.

الثالث، وجاء قدامة فاستفاد من كتاب الخطابة وفهم منه كل ما يمكن أن ينتفع به وطبقة على الشعر العربي وكان يجهل كتاب الشعر1 وقد درس قدامة الفلسفة وخاصة المنطق2، على أن تشريع الفلسفة للأدب في رأي الدكتور يظهر أول مرة في "نقد الشعر"3 ثم في "نقد النثر" الذي هو مستمد من آراء أرسطو في الجدل والقياس والخطابة4. على أننا قد بسطنا القول في ذلك فيما سبق ورأينا أن المشتغلين بالفلسفة قد اشتركوا مع الجماعات الأخرى في خدمة البيان العربي وإنشائه والتأليف فيه وكان اتجاههم الأول إلى البيان اليوناني فأخذوا يدأبون على الإفادة منه في بحوث البيان العربي ودراساته وتلقيحه بما يمكن أن يلقح به من عناصر ومناهج علمية سلكها ومهد سبيلها اليونان، فهم قد استعانوا بطرقهم في دراسة البيان على فهم وتحليل أصول البيان العربي والتأليف فيه. 4- ونحن الآن نعرض عليك خلاصة وافية لأهم الكتب التي تناولت بعض مسائل البلاغة بالبحث والتي ألفت فيها خاصة. 1- جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي: وفي مقدمتها نجد آراء متفرقة في البلاغة والبيان، فهو يعرف الالتفات ويشير إلى أن العرب تخاطب الشاهد مخاطبة الغائب5، ويعرف مجاز الحذف ويفيض في شرحه6. ب- الجاحظ وكتابه "البيان والتبيين": والجاحظ إمام الكتاب وشيخ البيان وعلم من أعلام الأدب

_ 1 17 المرجع. 2 16 المرجع. 3 16 وما بعدها مقدمة نقد النثر. 4 17 وما بعدها المرجع. 5 ص3 جمهرة أشعار العرب. 6 ص2 المرجع.

والنقد، وهو من أئمة المعتزلة، تتلمذ على النظام وسواه من فحول عصره فخرج واسع الثقافة عميق التفكير كثير الإحاطة والإطلاع على شتى المؤلفات والتراجم المنقولة من جميع اللغات إلى العربي. اتصل الجاحظ باليونان وثقافتهم من كتبهم المترجمة وعن طريق المتكلمين وبمجالسته لكثير من المثقفين باليونانية1، كما أنه حذق الثقافة الفارسية من كتب ابن المقفع وسواه، وتوسع في الثقافات كلها بما كان يقرؤه من الكتب2، وتأثر بخطابة أرسطو إلى حد بعيد ومن المشابهة بينه وبين أصحاب الخطابة في الأسلوب استعماله القياس المضمر وهو المذهب الكلامي عند البديعيين3، ونقد الجاحظ التراجم والمترجمين من اليونانية وخاصة كتاب المنطق بأنه في أسلوب سقيم، فالجاحظ ولاشك قد تأثر "بالخطابة" لأرسطو كثيًرا4، وأنكر باحث آخر أن يكون كتاب البيان متأثرًا بخطابة أرسطو أو صدى له؛ لأن الجاحظ لم يره5 ولم ما يؤيده الدكتور طه حسين6. ومن البدهي أن الجاحظ ألم بالثقافة الفارسية المترجمة إلمامًا واسعًا، ويبدو لي أنه كان يعرف اللغة الفارسية، ففي البخلاء يحكي الجاحظ كلام بخيل من أهل مرو تجاهل رجلًا زاره من أهل العراق: لو خرجت من جلدك لم أعرفك، قال الجاحظ: وترجمة هذا الكلام بالفارسية "كراز بوستت بارون ببائي نشناسيم"7:

_ 1 401/ 1 ضحى الإسلام. 2 387/ 1 المرجع. 3 620 و621 الرسالة عدد 196 من محاضرة للأستاذ حمودة في أسبوع الجاحظ، وإذا كان الجاحظ ينكر أن يكون لليونانيين خطابة "15/ 3 البيان" فليس لك إلا في مقام الرد على الشعوببين وقد يكون الجاحظ لم يطلع على نصوص خطابية لليونان. 4 راجع 621 الرسالة العدد 196. 5 راجع 622 المرجع السابق. 6 ص3 مقدمة نقد النثر. 7 ص19 البخلاء.

وأثر ثقافته الفارسية واضح في كتبه وفي مؤلفه "البيان"، أما أثر ثقافته اليونانية فواضح أيضًا في الحيوان وفي كتابه البيان1، قرأ الجاحظ من كتب أرسطو المترجمة كتاب الحيوان واستدل برأي لأرسطو فيه"2" وكان مصدرًا كبيًرا له في كتابه "الحيوان"، والجاحظ يذكر تعريف صاحب المنطق للإنسان كثيًرا3 ويذكر صاحب المنطق وأنه كان بكئ اللسان مع علمه بتمييز الكلام وتفضيله ومعانيه وبخصائصه، 4 ويذكر تعاريف البلاغة عند الأمم المختلفة ومنها اليونان5 ويذكر كتب اليونان في المنطق وأن الحكماء جعلتها معيارًا للتفكير6، ويذكر نوادر ريسموس اليوناني7 ويرى أن لليونان فلسفة وصناعة منطق وليس لفلاسفتهم في الخطابة ذكر8، وأقسام الدالة عند الجاحظ9 هي من تفكير أرسطو، ويذكر أن للفرس رسائلها وخطبها وألفاظها ومعانيها ولليونان رسائلها وخطبها وعللها وحكمها وكتبها في المنطق وللهند حكمها وسيرها وعللها ويرى أنها لا توازن بما للعرب من بيان وبلاغة وصناعة وخطابة10، وللجاحظ رسالة في نقد الكندي11. ويذكر الجاحظ في البيان "صناعة الكلام" ويعني بها حينًا علم الكلام12، وحينًا آخر البيان13، ويذكر اصطلاحات أخرى كصناعة المنطق14 وصناعة الخطابة ويذكر أحيانًا "أصحاب الخطابة والبلاغة"15.

_ 1 وذلك في مواضع كثيرة. 2 61/ 1 البيان. 3 69 و128/ البيان. 4 15/ 3 البيان. 5 75/ 1 البيان. 6 7/ 3 البيان. 7 165 جـ2 البيان. 8 15/ 3 البيان، الظاهر أن الجاحظ لم يطلع على شيء من خطابتهم. 9 69/ 1 البيان، وهي في40 الرسالة العذراء، 9 نقد النثر. 10 7/ 3 البيان. 11 42 الجاحظ لمردم. 12 69/ 1 البيان. 13 108/ 1 البيان. ويشيد الجاحظ بصناعة الكلام. "3 جـ4 زهر". 14 79/ 1 البيان. 15 183/ 1 البيان.

ومهما يكن فالجاحظ فيما ذكره من أصول البلاغة العربية قريب من روح أرسطو، فدعوته إلى ترك الوحشي والسوقي1 له نظير عند أرسطو الذي دعا إلى "هجر الألفاظ الخسيسة التي لا يستعملها إلا العامة2 وقال "ينبغي ألا تكون الألفاظ سفسافة ولا مجاوزة الحد في المتانة مبلغ الأمر الذي يدل عليه فلا تبلغ درجة العامية ولا تحوج إلى الكلفة المنشوءة"، ودعوة الجاحظ إلى الوضوح3 لها نظير عند أرسطو حيث يذكر "حسن الدلالة ووضوح العبارة وأن الأغراب مستنكره وأنه يجب ألا تمعن في الإغرابات بل يجب أن تكون العبارة بحيث يفهمها الأماثل دون أسقاط الجمهور"، واللحن وخروجه عن حد البلاغة4 موجود في خطابة أرسطو حيث يوجب أن "يكون اللفظ فصيحًا لا لحن فيه"، ويذكر الجاحظ استعمال المبسوط في مواضعه والمقصور "المحذوف الموجز" في مواضعه5، والإيجاز والإطناب يوم الإطناب6، وأرسطو أول من أشار إلى ذلك كله فذكر الإيجاز والإسهاب وأشار إلى أن لكل منهما مقامًا، وعلى أي حال فمرجع هذا التشابه في الأفكار أرجح إن سببه نقل الجاحظ كثيرًا عن الذين ألموا بثقافة اليونان وكتب أرسطو في النقد وعلى الأخص الخطابة والشعر. ومع ذلك فالجاحظ يجهل كثيرًا من النظريات التي شرحها أرسطو في كتابيه، فأنواع البيان والأساليب البلاغية الأنيقة التي ألم بها.

_ 1 105 و110 و176 جـ1 البيان. 2 راجع الشفاء لابن سينا وكل المنصوص المنقولة هنا عن أرسطو فهي منقولة من الشفاء. 3 68 و110 و176/ 1 البيان. 4 121/ 1 البيان. 5 51/ 1 البيان، ويشير إلى ذلك في مواضع أخرى في كتابه 141 و147 و161 و180/ 1 البيان" ... 6 120 رسائل الجاحظ، وتبعه ابن قتيبة فذكر أن للإيجاز مواضعه وللإطالة مواضعها "مقدمة أدب الكاتب".

أرسطو1 لا يشير إليها الجاحظ في بيانه، وهو على العموم لم يطلع على كتابي أرسطو، ولا نشك في أنه أفاد من أستاذه النظام ومن علوم الفلسفة والمنطق التي شاعت في عصره كثيرًا، ونقل عمن اطلعوا على خطابه أرسطو، ويكفينا ذلك التحقيق في هذا المقام. وبعد فللجاحظ في البيان العربي آثار كثيرة: كرسالته في تفضيل النطق على الصمت2، وكتابه البيان والتبيين. والبيان "أول كتاب ظهر في الأدب جامعًا لفنون كثيرة من ضروبه3"، ويشيد به أبو هلال4، ويعده ابن خلدون من أركان الأدب5، والكتاب يبحث في فنون الأدب والبلاغة ويتناول النقد واللغة ويأتي على ذكر الخطباء والأدباء والشعراء والمنشئين وآثارهم الأدبية وهو من أجل وثائق الأدب في الجاهلية والإسلام6، ويذكر ابن رشيق أنه لا يبلغ جودة وفضلًا7، ويذكر أبو أحمد العسكري مثلًا من تصحيف الجاحظ فيه8، وينقد ابن شهيد الكتاب9 ورد عليه بعض المعاصرين10 والكتاب يجمع بين دفتيه الكثير من بلاغة العرب وسحرهم في البيان كما يجمع آراء كثيرة في أصول النقد الأدبي

_ 1 كدراسته للاستعارة، وللرباطات "حروف العطف" وأنها تجعل الكلام الكثير كالواحد، وللجناس وسواه، ونظرية أرسطو في الوصل، وهي التي يفيض عبد القاهر في شرحها في الدلائل.. ونصيب في نقده في نقده للكميت في قوله "تكامل فيها الأنس والشنب"؛ لأنه باعد في القول "134/ 1 الأغاني، 355/ 1 الكامل" لا ينم ذلك عن معرفته بأسرار هذه الدراسات البيانية. 2 تجدها 8 148-154 رسائل الجاحظ. 3 80 العصر العباسي للأسكندري. 4 6 و7 الصناعتين. 5 553 مقدمة ابن خلدون. 6 35 الجاحظ لمردم. 7 227/ 1 العمدة. 8 53 و54 التصحيف والتحريف. 9 198/ 1 ذخيرة. 10 50/ 2 للنثر الفني.

وقوانين البلاغة العربية وأنواعها وعناصرها ومذاهبها واتجاهاتها وأثرها، سواء كانت هذه الآراء من جمع الجاحظ وروايته أم من رأيه وتفكيره، وحسبك أن تقرأ فيه البلاغة كما تتحدث عنها صحيفة هندية مكتوبة1، أو كما يصورها بشر بن المعتمر2، أو كما يراها ابن المقفع3، ولهذه النصوص قيمة كبيرة، وقد عد بعض الباحثين الجاحظ مؤسس البيان العربي لما جمعه من النصوص التي توضح لنا كيف كان العرب إلى منتصف القرن الثالث يتصورون البيان العربي وتعطينا صورة مجملة لنشأته4. وفي الكتاب كثير من بحوث البلاغة، فهو يعرف الاستعارة5، ويتكلم على السجع6، ويشير إلى التفصيل والتقسيم7، والاستطراد، والكناية8، والأمثال9، والاحتراس10 والقلب 11 والأسلوب الحكيم12، والجاحظ فوق ذلك هو أول من لقب المذهب الكلامي بهذا الاصطلاح13، ويرى الجاحظ أن البلاغة في النظم لا في المعاني قال: والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي وإنما الشأن في إقامة الوزن وتحيز اللفظ وسهولة المخرج وفي صحة الطبع وجودة السبك 14، وهو ما ذهب إليه.

_ 1 79/ 1 البيان. 2 104/ 1 وما بعدها البيان. 3 91/ 1 البيان. 4 3 مقدمة نقد النثر. 5 116/ 1 البيان. 6 194/ 1 البيان. 7 170/ 1 و91/ 2 البيان، وهو باب من أبواب البديع عند كثير من علماء البلاغة راجع 78 نقد الشعر، 332 صناعتين. 8 180/ 1 و29 و31 و85/ 3 البيان. 9 86 و88 و114 و183/ و224/ 2 البيان. 10 161/ 1 وما بعدها البيان. 11 180/ 1 البيان. 12 201 و202 جـ2 البيان، ويقرب من الأسلوب الحكيم ما يسميه الجاحظ "اللغز في الجواب" "116/ 2 البيان". 13 101 البديع 76/ 2 العمدة. 14 40/ 3 الحيوان.

ابن خلدون1، ويقول شيلر، في الفن الشكل هو كل شيء والمعني ليس شيئًا مذكورًا.. وفي البيان نصوص كثيرة استغلها علماء البيان والبديع في اختيار شواهد أساليب البلاغة منها، مما لا داعي إلى ذكره هنا خوفًا من كثرة الإسهاب، والجاحظ يشيد بالإيجاز ويدعو إليه كثيرًا في بيانه2، وفي الحديث عن رسول الله: إذا قلت فأوجز وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف3، ويحث على ترك الوحشي والسوقي وعلى الإفهام والوضوح، وعلى ترك التعمق والتهذيب في صناعة الكلام، وعلى أي حال فالبيان والتبيين أثر أدبي وعلمي نفيس، والجاحظ يده على البيان العربي لا تجحد، ويعده ابن خلدون من السابقين في التأليف فيه4. وبعد فالجاحظ أظهر من خص البيان بالتأليف وهو أعظم السابقين إلى جمع وتدوين آراء رجال البيان والبلاغة، وله مع ذلك آراء كثيرة وصل إليها بفكرة وذوقه وملكته البيانية الدقيقة الإحساس بالأساليب البلاغية ودقائقها، ولا يضير الجاحظ أن كانت دراساته في كتاب البيان موجزة مفرقة كما يقول أبو هلال5، فهي على كل حال ذات أثر كبير في نشأة البيان. جـ- وقد كتب بعد الجاحظ كثير من العلماء في مسائل تتصل بالبلاغة والبيان: كالمبرد في كامله، وإبراهيم بن المدبر في الرسالة العذراء، وثعلب في قواعد الشعر، وابن عبد ربه في العقد، وسوى هؤلاء مما يطول الحديث لو فصلنا القول فيه.

_ 1 577 مقدمة ابن خلدون. 2 80 و86 و114 و152 و187 و198/ 2 البيان. 3 5/ 1 الكامل للمبرد. 4 552 مقدمة ابن خلدون. 5 6 الصناعتين.

الجاحظ والبيان العربي

الجاحظ والبيان العربي: 1- كان الجاحظ أستاذ الثقافة الإسلامية في الصنف الأول من القرن الثالث، وكان مجده الأدبي الذائع يعصف بمجد كل أديب، ويدوي في كل أفق، ويرن صداه في سمع كل كاتب وشاعر وخطيب. وعاش الناس في عصره وبعد عصره عيالًا عليه في البلاغة والفصاحة واللسن والعارضة كما يقول ابن العميد، وعدوا التلمذة عليه شرفًا لا يعدله شرف ومجدًا يدنيهم من بلاط الملوك وتعصب له كثير من رجالات الثقافة الإسلامية في شتى عصورها، فألفوا الكتب في الإشادة به -كما فعل أبو حيان التوحيدي في كتابه تقريظ الجاحظ-، وبالغوا في الإشادة به والثناء عليه حتى حسد ثابت بن قرة الأمة العربية عليه، وحتى كان الخلفاء يهشون عند ذكره ونهج كبار الكتاب نهجه في الثقافة والبيان، وكان فخر الرجل في أن يلقب بلقبه، وأقبلوا على كتبه وأدبه يتثقفون بثقافتها ويرونها تعلم العقل أولًا والأدب ثانيًا وبلغ من اهتمام خاصة رجال الفكر الإسلامي بها أن كانوا يسألون الناس عن المفقود منها في البيت الحرام وعرفات، وكان معاصروه يحذرون خصومته حتى لا يسمهم بميسم الخزي والهوان إلى الأبد، ومن ساء جده منهم فكان هدفًا لسخريته اللاذعة سار على الأجيال صورة مشوهة وإساءة لا يغفرها الزمن كما فعل الجاحظ مع أحمد بن عبد الوهاب بطل رسالته الساخرة المتهكمة "التربيع والتدوير".. وحسبك أن المأمون كان يقرأ تآليف الجاحظ ويثني عليها ويستجديها1.

_ 1 211 جـ3 البيان نشر السندوبي ط1927.

ومجد الجاحظ الأدبي مجد خالص من شوائب العصبية وتمويه السياسة وهو مجد بوأه صرحه الخالد: كفاءته الممتازة وثقافته النادرة وآثاره الفكرية والأدبية الممتعة، فقد عاش الجاحظ محرومًا من كل شيء إلا من مجد الأدب، وشهرة العلم، ولم تبوئه مواهبه مقاعد الوزارة التي كان التي كان يصعد إليها في عهده كثير من الكتاب، ولم تنله كفايته الأدبية منزلة في ديوان رسائل الدولة، ولما صدر فيه أيام المأمون لم يبق فيه غير ثلاثة أيام استقال بعدها منه، أو قل إنه حورب فيها من أجله حذرًا من أن يأفل به نجم الكتاب كما كان يرى سهل بن هارون، الإخفاق في الحياة العامة الذي منى به الجاحظ في عصره كان مما نعاه ابن شهيد عليه في رسالته "الزوابع والتوابع"، ومما جعله يخطئ من يذهب إلى تقديم الجاحظ على سهل بن هارون، وإن كان تحكيم التوفيق في الحياة في وزن الشخصيات وتقديرها ضلالًا وغبنًا. ولكن ما سر هذا الإخفاق مع هذه الشهرة البعيدة والمجد الذائع؟ رأى ابن شهيد من قبل أن حرمان الجاحظ من شرف المنزلة بشرف الصنعة مع تقدم ابن الزيات وإبراهيم بن العباس إما؛ لأنه كان مقصرًا في الكتابة وجميع أدواتها أو؛ لأنه كأن ساقط الهمة أو؛ لأن دمامته وإفراط جحوظ عينيه قعد به عن الغايات المنشودة، ورأى أن نقص أدوات الكتابة عند الجاحظ شيء قد يكون غريبًا فذهب إلى أن أول أدوات الكتاب العقل وقد تجد عالماً غير عاقل. أما أن الجاحظ ينقصه أداة -أيا كانت هذه الأداة- من أدوات الكتابة فذلك ما ترده الحقيقة المقررة، فعقل الجاحظ وفنه الأدبي وطبعه الموهوب أعظم من أن يتطرق إليه فيها شك وريب. وأما أن الجاحظ كان قريب الأمل غير بعيد الطموح، لا يتطلع إلى مجد ينشده أو جاه سلطان يناله، فذلك بعيد عن الجاحظ وحياته وروحه الوثاب الطموح. وأما أن دمامة الجاحظ كان لها أثر في هذا الإخفاق

فذلك أحد ما نراه من أسبابه الكثيرة حتى أنه ذكر للمتوكل لتأديب بعض ولده فلما رآه واستبشع منظره صرفه وأمر له بعشرة آلاف درهم. الحق أن الجاحظ كان عربيًّا في روحه ودمه وحياته. وكان يتعصب للعرب في كل شيء حتى في الثقافة والأدب في عصر كان النفوذ والسلطان في الدولة فيه للعناصر الأجنبية لا سيما الفرس، وكثيرًا ما كان ينسى أولو الثقافة والكفايات من العرب إلا من اتصل منهم بحبل وزير أو أمير، والجاحظ مع صداقته الوثيقة لمحمد بن عبد الملك الزيات الوزير م سنة 233هـ، والذي أهدى له كتابه "الحيوان" وكافأه عليه بخمسة آلاف دينار، كان يتخلل هذه الصداقة الشك والجفاء، ولم يستطع أو لم يتسن له، أن يستفيد شيئًا من وراء هذه الصداقة، وقتل محمد بن عبد الملك وجاء بعده عدوه اللدود أحمد بن أبي دؤاد الذي سيق إليه الجاحظ مغلولًا؛ لأنه كان من أصحاب محمد بن عبد الملك، ثم فك قيوده وطلب حديثه وبيانه وثوقًا منه بظرفه وأدبه لا بإخلاصه وولائه. ثم لا ننس أن مواهب الجاحظ مواهب عالم وأديب لا مواهب رجل من رجال المجتمع والسياسة والحياة العامة، وقد رفعته مواهبه العقلية والعلمية والأدبية مكانًا عليًّا ما كان ينتظر أن ترفعه إليه السياسة مهما خلق في أجوائها، وكان إخلاص الجاحظ للفكر والثقافة أعظم من إخلاصه للحياة نفسها، وكان خوضه في معامع الثقافة والعلم يشغله عن الخوض في ميادين السياسة والاجتماع، وكانت لذته في الدراسة والبحث والتأليف أكثر من لذته في مجد السياسة وسلطانها، فالجاحظ أولًا وقبل كل شيء هو رجل الثقافة والأدب، وهو المعتزلي الذي تتلمذ على النظام ثم عاف تقليد غيره في العقيدة فكان صاحب مذهب ورئيس فرقة من فرق المعتزليين، وهو المتكلم الساحر والكاتب البليغ والخطيب المفوه والعالم الفذ والمؤلف النابه وشيخ العربية.

الذي وعى الثقافة العربية وما خالطها من الثقافات في شتى علوم الدين والدنيا، وهضمها وعاصرها زهاء قرن "150-255هـ"، وكان له في صدر شبابه فخر التلمذة على شيوخها في اللغة والأدب وفي علوم الدين والكلام وفي التفكير والمنطق كما كان له فخر صداقة رجال الفكر والسياسة في الدولة، وقد استفاد من وراء هذا وذاك نضوجًا كبيرًا في عقليته وثقافته هيأه لأن يكون محور الثقافة الإسلامية في عصره لا بطلًا من أبطال السياسة والدولة والاجتماع. ولا يضير الجاحظ أن يكون كما قال بديع الزمان الهمذاني فيه من أحد شقي البلاغة يقطف وفي الآخر يقف1، فقد يجيد الرجل في باب من أبواب الأدب دون باب، ولا يغض ذلك من إحسانه فيما أحسن فيه، ولكن البديع أراد الفخر بنفسه على حساب الجاحظ، وليته وقف عند هذا الحد فلم يرم الجاحظ بأنه كلامه يبعد الإشارات قليل الاستعارات قريب العبارات وأنه منقاد لعريان الكلام يستعمله نفور من معتاصه يهمله، وأنه ليس له لفظة مصنوعة وكلمة غير مسموعة2. وإنما أراد البديع أنه فوق الجاحظ أدبًا وبيانًا، وهيهات! وثقافة الجاحظ ثقافة واسعة منوعة تحيط بسائر ألوان الثقافات التي مازجت الثقافة الإسلامية في عصره، فهو عالم من علماء الدين، ومتكلم من الطراز الأول للمتكلمين وعالم يحيط باللغة وبيانها وآدابها إحاطة لا تقف عند غاية، وقد خاض الجاحظ في جداول الثقافات الأخرى التي سرت في تيار الثقافة العربية منذ مشرق القرن الثاني الهجري، وعقلية الجاحظ البعيدة التفكير لا نشك أنها أفادت ذلك من أستاذه النظام ومن علوم الفلسفة والمنطق التي شاعت في البيئة الإسلامية في عصر الجاحظ. ولا شك أن عصر الجاحظ، وعقليته وشغفه بالدراسة والبحث، وعكوفه على القراءة، ونشأته بالبصرة،

_ 1 ص82 مقامات البديع -المقامة الجاحظية. 2 ص82 و83 المرجع.

وتلقيه اللغة عن الأعراب في المربد والعلماء في حلقات البصرة ومجامعها العلمية، وتلمذته على كثير من أساتذة الثقافة في شتى مناحيها كأبي يوسف القاضي والنظام والأصمعي والأخفش وابن الأعرابي وأبي عبيدة. وأبي زيد الأنصاري، كان له أثره في ثقافة الجاحظ الواسعة الجوانب المتعددة الألوان. وشخصية الجاحظ تطالعك في أدبه وكتبه من كل جانب وناحية، وهي شخصية رجل الفكر الواثق بشخصيته وعقليته وثقافته، والمؤمن بها، الحريص على كرامته، المعتز بنفسه.. يخاطب الوزراء والعظماء ويراسلهم، فلا يفني شخصيته في شخصياتهم، بل يراهم إخوانه، ويرى له عليهم حق الصداقة ودالة الأخوة، ولا يجبن عن توجيه العتاب واللوم إليهم، وأنت حين تقرأ في كتب الجاحظ ومؤلفاتة تغيب في جو بعيد تطل عليك فيه شخصية الرجل، بسعة ثقافتها وبعد مكانتها، وبتوجيهها الساحر لعقل القارئ وفكره وشعوره حتى ليكاد ينسى أمامها نفسه، ويشرع شعورًا صادقًا أنه قد نقلك من جوه هو إلى جو آخر تشيع فيه روح قوية ساحرة تملك عليك عقلك وعاطفتك، وتروعك بكثرة حفظها وروايتها، كما تروعك بروعة فكرها وجلال بيانها، وتتركك صريعًا في معارك فكرية ترى الجاحظ فارسها المعلم، وترى قلمه البليغ عصا الساحر المتحدى تسترعي السمع والبصر، وتنبهت الفكر والعقل، وتلهب العاطفة والشعور. والعجيب أن سعة ثقافة الجاحظ وكثرة روايته في تأليفه جعلت كثيرًا ممن لا يفهمون الجاحظ يرونه كاتبًا لا شخصية له، تطمس شخصيات من يروى لهم وينقل عنهم كل أثر لشخصيته، فتقرأ الجاحظ وأنت تقرأ لسواه وتبدو أمام عينك صورة شتى لرجال لا ترى الجاحظ فيهم ولا تلمس آثاره بينهم. ومنشأ ذلك أن الجاحظ رجل من الخاصة في فكره وفي كتابته وأسلوبه وفي بحثه وتأليفه، فإذا فكر فبعقل الخاصة، وإذا كتب

أو ألف فبأسلوبهم ولمن يفكر في مجال تفكيرهم، وليس ذلك؛ لأن الجاحظ "يستمسك بفائدته ويضن بما عنده غيرة على العلم وشحا بثمرة الفهم ولذلك كان كتاب "البيان" موقوفًا على أهله ومن كرع في حوضه، أما الجهال والمبتدئ فلا نفع له من كتابه" كما يقول ابن شهيد، إنما ذلك؛ لأنه كما أرى لا يستطيع إلا أن يفكر تفكير الخاصة، ويكتب بعقلهم وأسلوبهم؛ ولأنه رجل يكتب لنفسه قبل كل شيء ويرضى بشهوته في تدوين عناصر الثقافة الأدبية والعلمية على طريقة كتابه الموسوعات. كما يرى بعض الباحثين المعاصرين1، وما دام الجاحظ كذلك فلن يستطيع أن يفهمه إلا رجل مثله في فكره واتجاهه وثقافته، ولن يتسنى لكثير أن يفهموا الجاحظ وأن يؤمنوا بشخصيته في كتبه ومؤلفاته ما داموا لا يستطيعون مجاراته في نواحي ثقافته العقلية والأدبية. وحسب الجاحظ مجدًا وخلود ذكر أن يكون له كتاب مثل كتاب البيان والتبيين. 2- ألف الجاحظ كتابه "الحيوان" وأهداه إلى صديقه محمد بن عبد الملك الزيات، فكافأه عليه بخمسة آلا دينار. ثم ألف بعده كتاب "البيان" وأهداه إلى أحمد بن أبي دؤاد فأعطاه عليه خمسة آلف دينار، والجاحظ يشير في مواضع متعددة من البيان إلى كتاب الحيوان، وكان لظهور "البيان والتبيين" ضجة كبيرة في الأدب والبيان حتى إنه حمل إلى الأندلس فيما حمل من نفائس المؤلفات. وكتاب "البيان" ألفه الجاحظ على نمط طريف في التأليف، من كثرة الرواية التي قصد الجاحظ من ورائها أن ينال كتابه الشهرة والإعجاب كما يقول الجاحظ نفسه في كتابه، وينال كتابه الذكر

_ 1 49/ 2 النثر الفني.

والذيوع، ومن كثرة الاستطراد الذي يستدر به الجاحظ نشاط القارئ وإعجابه كما يقول الجاحظ في تعليله له، والجاحظ حين يعلل عدم ترتيبه للخطباء الذين ذكرهم في كتابه ترتيبًا يتمشى مع التاريخ بعجزه عن تنسيق ذلك فإن ذلك يقابل بتحفظ كبير، فالجاحظ لو أراد لما أعجزه إنما هو مذهبه في الاستطراد والانتقال. ويبدو من أسلوب الكتاب أن الجاحظ كان يكتب أصوله -أو كثيرًا منها- محاضرات يلقيها على تلاميذه وطلابه وقد يسبغ عليها أحيانًا روحًا توائم بين هذه المحاضرات وبين ما يجب لمن أهدى إليه كتابه من تقدير وإجلال، وأسلوب الكتاب الاستطرادي جعل الجاحظ يعدنا في كتابه بأنه سيذكر الشيء ثم لا يذكره ولا يفي بوعده، وهذا الأسلوب الاستطرادي أيضًا جعل الجاحظ ينقد نفسه في ترتيب فصول كتابه وجعله يرسم منهجه في أجزاء كتابه في آخر الجزء الأول منه، وجعله يضع في أماكن متعددة من كتابه عناوين مختلفة تقابل من القارئ بمزيد الابتسام. فهو يعنون فصولًا بباب البيان وأخرى يسميها باب الصمت وأخرى باب اللحن أو باب الزهد إلى آخر هذه الألقاب التي تعلم أن الجاحظ لم يرد شيئًا منها ولم يضعها إلا للتعزيز بالقارئ واكتساب نشاطه وامتحان ملكاته. وكتاب "البيان" يجمع بين دفتيه الكثير من بلاغة العرب وسحرهم في البيان كما يجمع آراء كثيرة في أصول النقد الأدبي وقوانين البلاغة العربية، وقد نهج فيه الجاحظ منهجه الساحر، وكتبه بأسلوبه العميق المحكم، ورسم فيه صورًا صادقة لروح الأدب والبلاغة إلى عهده، والكتاب سجل للأدباء والشعراء والخطباء حتى عصر الجاحظ وهو ذو قيمة فذة في تاريخ الأدب والأدباء لا سيما المعاصرين للجاحظ ومن سبقوه بقليل، وقد عني فيه الجاحظ بتدوين المثل الساحرة من الأدب العربي: شعره ونثره، وقاده الاستطراد إلى الإلمام بكثير من مسائل الأدب والنقد والبيان.

يبدأ الجاحظ كتابه بمقدمة يذكر فيها البيان وشرفه ويلم فيها بالكثير من عيوبه الفطرية وسواها في استطراد جميل، ثم يشرح البيان ويحلل عناصره، ويذكر البلاغة ومذاهب رجال البيان فيها، ويبين الصلة بين البليغ ومظهره، ذاكرًا بلاغة الخطيب وعناصرها وأدواتها، ملمًّا بالكثير من الخطباء، داعيًا إلى قوة الطبع وشرف المعنى وجمال اللفظ وإلى مراعاة شتى المقامات والأحوال، مبينًا أثر في هذه البلاغة في النفس والوجدان، ويتكلم على الحديث المردد ومن عابه ومن مدحه، وعلى الصمت: من أشاد به ومن ذمه داعيًا البليغ إلى أن لا يتمسك بحكمة الصمت حتى لا يورثه ذلك العي والحصر، ويدعو الأدباء الناشئين إلى أن يعرضوا انتاجهم الأدبي على أولي الذوق والبيان حتى يعرفوا قدر أنفسهم ومنزلتها في البيان، كما يتحدث عن السجع: مطبوعه ومتكلفة وعن منزلته الأدبية، محللًا عناصر الشعر نافيًا أن يكون ما في القرآن من كلمات موزونة شعرًا، ملما بطبقات الشعراء وألقابهم، وينعي على المتقعرين، ويسرد أحاديث النوكي والحمقى سردًا بليغًا، وبذلك ينتهي الجزء الأول من الكتاب الذي أودع فيه الجاحظ جل ما أورده من بلاغة البيان وعناصرها وألوانها ومذاهبها وأسبابها. أما الجزء الثاني فتحدث فيه عن الخطابة وأقسامها وأثرها، وألم فيه بسحر بلاغة رسول الله في أحاديثه وخطبه، ويخطب كثير من جلة الصحابة والسلف الأولين، وتكلم عن الحوليات وطبقات الشعراء ومذاهب المطبوعين وأصحاب الصنعة، كما تكلم على اللحن واللحانين والنوكي والحمقى والمجانين. وفي الجزء الثالث يرد على الشعوبية مطاعنها التي قدحت بها في العرب لا سيما ما نعوه عليهم من أخذ العصا والقوس عند الخطابة وفي مواقف الكلام، ورد الجاحظ على الشعوبية فيه كثير من حرارة الإيمان التي أذكت في دفاعه روح الجدل وقوة المناقشة وسعة التفكير. وينقل الجاحظ كثيرًا من حكم النساك ومواعظهم، وخطب الخوارج.

وكلماتهم، وسياسة بني العباس ودهائهم، ويتحدث عن رواية الأدب واتجاهات الرواة وطبقاتهم، وعن كلام رسول الله وسحر إيجازه وبعده عن مذاهب العرب في شعرها، وعن أمية رسول الله مع بلاغته وعن مجد الشعر وأثره ومكانته إلى غير ذلك من شتى الآراء ويختم الجاحظ كتابه بهذه الكلمة الجامعة: "وهذا أبقاك آخر ما ألفناه من كتاب البيان والتبيين ونرجو أن نكون غير مقصرين فيما اخترناه من صنعته، وأردناه من تأليفه، فإن وقع على الحال التي أردنا والمنزلة التي أملنا فذلك بتوفيق الله، وإن وقع بخلافها فما قصرنا في الاجتهاد ولكن حرمنا التوفيق والله أعلم". وبعد فكتاب البيان ثمرة من ثمرات الرجولة المكتملة التي أحاطت بالجاحظ بعد أن ودع شبابه واستقبل عهد المشيب، وهو لذلك آية من آيات الطبع المتمكن والذوق السليم والإحاطة التامة بالبيان وبلاغته. وليس ذلك بكثير على الجاحظ شيخ العربية الفذ وبطلها الكبير. وأثر "البيان" وقيمته مما يعسر على الباحث تفصيله وإيفاؤه فيها حقه من التقدير والإنصاف ودقة الحكم: فكتاب البيان أصل من أصول الأدب وهو في أسلوبه وفي نهجه وفي رواياته وفي آرائه الأدبية خير معين لطلاب العربية والمتخصصين في آدابها. وقيمته في البيان العربي خطيرة لما أودع فيه من شتى البحوث والآراء في البلاغة وعناصرها واتجاهاتها ومذاهبها وألوانها وغاياتها وأثرها سواء كانت هذه الآراء من جمع الجاحظ وروايته وتدوينه أم من ابتكاره ورأيه الشخصي واتجاهه الأدبي المستقل، وفيما جمعه الجاحظ من ذلك الكثير مما لايزال محل إعجاب الباحثين وتقديرهم، وكفى أن تقرأ فيه: البلاغة كما تتحدث عنها صحيفة هندية مكتوبة، أو كما رآها ابن المقفع أو كما تحدث عنها بشر بن المعتمر في صحيفة من تحبيره

وتنميقه إلى غير ذلك من شتى الآراء التي كتبها الجاحظ مستقلًّا بالتفكير فيها. وإذا كان للجاحظ فخر التلمذة والرواية -في كتابه- عن شيوخ العربية وأدبائها كالأصمعي وأبي عبيدة وابن الأعرابي وابن سلام وأبي العاصي، وكإبراهيم بن السندي وعبد الكريم بن روح الغفاري ومحمد بن بشير الشاعر، وكثمامة والنظام، وسوى هؤلاء وهؤلاء، فيجب أن لا ننسى أنه قد كان لعلماء الأدب والبيان الذين جاءوا بعد عصر الجاحظ هذا الفخر نفسه بالتلمذة عليه وعلى كتابه "البيان". فابن قتيبة المتوفى سنة 276 تبع في كتابه "الشعر والشعراء" الجاحظ في مذهبه الأدبي من إيثار الطبع والرونق والماء والبعد عن التكلف والاستكراه والتعقيد. ومؤلف نقد النثر يبدو في كتابه أثر الجاحظ، وهو وإن كان نقد "بيان" الجاحظ في أول كتابه إلا أنه قد تأثر به إلى حد كبير، فكلامه على أنواع البيان ونظره إليه نظرة واسعة أعم من البيان بالعبارة هو صنيع الجاحظ في كتابه، ويتكلم على اختيار مواقع الكلام وأوقاته ومناسبته للسامعين ومطابقة الكلام للمقام1 وتلك آراء الجاحظ، ويرى أن اللحن يستحسن من الجواري وأن من الصواب معرفة أوقات الكلام والسكوت وأقدار الألفاظ والمعاني بأنه يلبس المعنى ما يليق به من اللفظ، كما يرى أن من أوصاف البلاغة أن يتساوى فيها المعنى واللفظ، فلا يكون اللفظ إلى القلب أسبق من المعنى ولا المعنى أسبق من اللفظ، وتلك كلها آراء الجاحظ، إلى غير ذلك من كثير من مظاهر التأثر والاحتذاء. وكذلك دعا الآمدي إلى المذهب الأدبي الذي دعا إليه الجاحظ في كتابه البيان.

_ 1 96 نقد النثر.

ودعوة أبي الحسن الجرجاني في وساطته إلى ترك التكلف والاسترسال مع الطبع1، وإلى تقسيم الألفاظ على رتب المعاني هي دعوة الجاحظ في بيانه، وإن كانت مظاهر التأثر بالجاحظ تبدو معدومة في الوساطة. وأبو هلال العسكري في "الصناعتين" متأثر بالجاحظ وكثير الإفادة منه ومن كتابه "البيان". وكتاب "الصناعتين" سير في السبيل الذي عبده الجاحظ وإتمام لما بدأ به، وكثير من آراء الجاحظ نجدها في الصناعتين وإن كان للصناعتين ميزة شرحها والتعليق عليها، وقد ينقلها نفسها، وقد يستدل بها، وينقل وصية بشر بن المعتمر ويشرحها، وعلى العموم فالجاحظ هو المرجع الأول لأبي هلال. وكذلك ابن سنان الخفاجي ينقل في كتابه "سر الفصاحة" عن الجاحظ كثيًرا. وعبد القاهر الجرجاني شديد التأثر بالجاحظ وكتابيه "الحيوان" "والبيان"، يأخذ عنه كثيًرا من آرائه بدون ذكر له، وقليلًا ما يشير إليه، فكلام عبد القاهر عن البيان يتجلى فيه روح الجاحظ ورأيه في أن فضيلة الكلام لنظمه لا للفظه ولا لمعناه هو روح كلام الجاحظ، وعبد القاهر ورأيه في السجع متأثر بالجاحظ، وبلاغة الألفاظ من أن تكون مألوفة ليست وحشية ولا سوقية دعا إليها الجاحظ قبل عبد القاهر، وتعريف عبد القاهر للبلاغة هو روح الجاحظ في بيانه، وإيثاره من الكلام ما كان معناه إلى قلبك أسرع من لفظه إلى سمعك مما سبقه إليه الجاحظ وينقل عبد القاهر عن الجاحظ كثيرًا، إلى غير ذلك من مظاهر التأثر الكثير. ولكتاب البيان كذلك أثره في النقد الأدبي فهو سجل حافل للآراء

_ 1 30 من كتاب الوساطة.

المختلفة في النقد مما لا يزال إلى الآن موضع البحث والإعجاب. والجاحظ الذي نقد مذاهب أصحاب الصنعة من الشعراء وأثره عليها مذهب المطبوعين كان يضع بذلك أساسًا كبيرًا لعلم النقد وتطوره الأدبي. وعصرنا الحديث يؤمن كل الإيمان برأي الجاحظ ويسير في تياره الفكري والأدبي كما يسير على ضوئه في البيان العربي وبلاغته. -3- كان للعرب في حياتهم الأولى ذوق وفيهم طبع، وكانوا بهذا الطبع وذلك الذوق وفي مثل بيئتهم البدوية في غنى عن الشرح والتحليل والتوجيه والتعليل لأحكام النقد الأدبي ولأصول البيان العربي ومذاهبه واتجاهاته. كانوا يسمعون النص الأدبي فيوحي إليهم طبعهم بكل شيء، ويرون من يسمع منهم ويأخذ عنهم في غنى بذوقه وطبعه عن كل شيء، ولذلك بقيت أصول النقد والبيان بعيدة عن البحث والدراسة والتقرير. وفي ظلال الحياة الإسلامية اختلطت العناصر وتمازجت الثقافات وتجاورت الطباع والأذواق، فسرت العدوى في البيئة العربية الخالصة، وظهرت في مظهر من اللكنة المستهجنة ومن الخطأ المردود في اشتقاق بعض الكلمات العربية وتصريفها وفي إعرابها وأشكال الحرف الواجبة لها، فسرت بين علماء الدين والعربية روح من الجد والإقدام والعزيمة التي صممت على تلافي آثار هذه العدوى حتى لا تمس العربية في صميمها وفي كتابها المقدس الحكيم، وظهرت لذلك الدراسات النحوية ثم اللغوية بمظهر جاد لا وناة فيه. بيد أن ذلك لم يثن رجال الأدب عن غاياتهم، ولم يحل بينهم وبين اتجاهاتهم وطبائعهم، فكثر النقد الأدبي ودخلته روح جديدة من البحث والتوجيه والتعليل، وتكونت من ذلك أصول أدبية موجزة لها قيمتها في الأدب والنقد والبيان. وبعد أن أشيع الفكر الإسلامي رغباته من البحث والدراسة

في تقويم اللسان العربي وتصحيح الملكات العربية في النطق واللهجة، اتجه رجال العربية -مع مسايرتهم للدراسات العربية واللغوية- إلى الدراسات الأدبية والبيانية حرصًا على إرضاء ملكاتهم وأذواقهم وتمشيًا مع التطور الفكري والترف العقلي في دراسة العربية وآدابها، ومسايرة لروح البحث المتجلية في الثقافات الأخرى التي امتزجت بالثقافة الإسلامية، والتي كان لها الأثر والخطر في إثارة مشكلات الأدب والبيان، وفي بحث عناصر بلاغة الكلام، وفي توجيه أذهان الكتاب والأدباء إلى المجدي المقبول من الأساليب وطرق الأداء وفي التفكير والمعنى، وفي مراعاة شتى المقامات وسائر الأحوال التي يجب على الأديب والخطيب والكاتب والشاعر مراعاتها والإلمام بها. وكانت عناصر الثقافة البيانية والأدبية إذ ذاك تتجلى في طبقتين: أ- طبقة رواة الأدب العربي من البصريين والكوفيين والبغداديين، الذين كانوا يرونه إشباعًا لنهم فطرتهم وأذواقهم الأدبية العربية الخالصة. ومن أمثال: خلف والأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد ويحيى بن نجيم وعمرو بن كركرة وابن سلام، وأستاذهم أبو عمرو بن العلاء أعلم الناس بالعرب والعربية1 ومن عامة رواة الأدب والبيان الذين لا يقفون إلا على الألفاظ المتخيرة والمعاني المنتخبة، وعن الألفاظ العذبة والمخارج السهلة والديباجة الكريمة، وعلى الطبع الممكن والسبك الجيد، وعلى كل كلام له ماء ورونق، وعلى التي إذا صارت في الصدور عمرتها وفتحت للسان باب البلاغة -كما يقول الجاحظ- دون النحويين الذين ليس لهم غاية إلا كل شعر فيه إعراب، والإخباريين الذين لا يقفون إلا على كل شعر فيه الشاهد والمثل، واللغويين الذين لا يرون إلا كل شعر فيه غريب2. بجوار هذه الطبقة الشعراء الذين طارت شهرتهم في آفاق الأدب العربي أمثال ابن هرمة وبشار وصالح بن عبد القدوس وأبي نواس وأبي العتاهية والسيد الحميري

_ 1 206/ 1 البيان. 2 224/ 3 البيان.

وأبان اللاحقي ومنصور النمري وسلم الخاسر وابن أبي عيينة ويحيى بن نوفل وخلف بن خليفة ومحمد بن بشير والعتابي ومسلم وأبي تمام1، وغيرهم من الخطباء، ورجال الأدب والبيان، من بيت بني هاشم وبني العباس ومن رجال الفرق الأدبية والسياسية والدينية لا سيما المعتزلة وفرق المتكلمين الذين رآهم الجاحظ فوق أكثر الخطباء وأبلغ من كثير من البلغاء2. ب- طبقة الكتاب الذين لم ير الجاحظ قومًا قط أمثل طريقة في البلاغة منهم، والذين التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرًا وحشيًّا ولا ساقطًا سوقيًّا3 ورأى الجاحظ البصر بهذا الجوهر من الكلام فيهم أعم4 وحكم مذهبهم في نقد5 البيان، وكان جلهم من عناصر أجنبية من الفرس والروم والسريان والقبط من الذين فهموا لغاتهم وبلاغتهم ثم قرءوا البيان والبلاغة العربية وآدابها وأخذوا يحدثون في اللغة العربية مذاهب جديدة في الكتابة والأدب والبيان ويدعون إلى آراء خطيرة تمس الذوق الأدبي وترضي اتجاهات الحضارة والترف العقلي والاجتماعي الذي داخل البيئة العربية منذ بدء القرن الثاني، كما أخذوا يلقنون مذاهبهم الأدبية العامة لتلاميذهم والمشايعين لهم من شداة الأدب كما ترى في محاضرة بشر بن المعتمر المعتزلي م سنة 210هـ في أصول البلاغة التي يقول الجاحظ عنها: إن بشرًا مر بإبراهيم بن جبلة بن مخرمة وهو يعلم الفتيان الخطابة فوقف بشر، فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد أو ليكون رجلًا من النظارة فقال بشر: اضربوا عما قال صفحًا واطووا عنه كشحًا، ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه في أصول البلاغة وعناصر البيان6، ومن رجالات هذه الطبقة أبو العلاء سالم مولى هشام بن عبد الملك

_ 1 54/ 1 البيان. 2 106/ 1. 3 105/ 1. 4 325/ 3. 5 240/ 1. 6 104/ 1.

وعبد الحميد الكاتب أو الأكبر كما يقول الجاحظ1، وعبد الله بن المقفع وسهل بن هارون والحسن بن سهل والفضل بن سهل ويحيى بن خالد وجعفر بن يحيى وأيوب بن جعفر وأحمد بن يوسف ومحمد بن عبد الملك الزيات وعمرو بن مسعدة وسواهم من كتاب الدولة الذين صعدوا بفنهم وبلاغتهم إلى أرقى المناصب في الخلافة الإسلامية، وكان لهذه الطبقة أثرها في بحث عناصر البيان وبلاغة الكلام ورسم المذاهب الأدبية التي توائم ذوق بيئتهم وعصرهم مما نراه مبثوثًا في كتاب البيان والتي لا تخرج عن أحكام الذوق الأدبي السليم ولا يتعمد أصحابها فيها مذاهب العلماء في الشرح والتحليل. وظهر الجاحظ والبلاغة العربية تفيض سحرًا وقوة وروعة، سواء في خطب الخطباء وشعر الشعراء ورسائل الكتاب ومحاضرات المحاضرين وجدل المجادلين. كما ظهر وعناصر البيان العربي تكاد تخطو في طفولتها نحو الغاية وتسير في هدى العلم والذوق إلى منزلتها من الوضوح والتمايز والاستقلال. فدخل الجاحظ المعمعة وتوسط الميدان وسار أنبه أبطاله المعلمين. أما الجاحظ في بلاغة بيانه وجلالة أسلوبه وحلاوة منطقه واستقلاله بمذهب خاص في الكتابة والبيان فهو في ذلك ليس له نظير ولا ينكره عليه أحد. وبحق ما وسم بشيخ الكتاب. وأما الجاحظ في وضع أسس البيان وعناصر البلاغة العربية فهذا ما نريد أن نعرف أثره فيه. خدم الجاحظ البيان العربي خدمة لا تقدر. بالكتابة -في كتبه- في شتى بحوثه وجمع مختلف الآراء والمذاهب في عناصره وألوانه. ولم نعلم أن باحثًا أفرد البيان العربي بتأليف قبل الجاحظ، كما كان كل ما هناك آراء مبثوثة متفرقة لكثر من رجال البيان والأدب وكانت خسارة البيان في عدم تدوينها تكاد تكون فادحة بالغة.

_ 1- 151/ 1.

منتهاها، وما نجده في الكتاب لسيبويه ومجازات القرآن لأبي عبيدة والشعر والشعراء لابن سلام فإنما هو قليل من كثير إذا قيس بما جمعه الجاحظ في كتبه ومؤلفاته، نعم لا يمكن لأي باحث أن ينكر حقيقتين هامتين. أولاهما أن الجاحظ أظهر من أفرد البيان بمعناه العام بالتأليف في كتابه الكبير "البيان والتبيين"، وثانيتهما أن له فضل جمع مختلف الآراء والمذاهب فيه، والجمع والإحصاء أول خطوات البحث والابتكار والتجديد، ومنزلة العالم في الجمع لا يمكن الغض منها أو الاستهانة بها، وإذا قرأت كتب الجاحظ لا سيما "الحيوان" و"البيان" عرفت منزلة الجاحظ في هذا السبيل. ومن الغريب أن ترى شخصية الجاحظ واضحة فيما يجمعه وضوحها فيما يبتكره من آراء ومذاهب بعكس كثير من العلماء والباحثين. والجاحظ فوق أثره الكبير في جمع آراء رجال البيان والبلاغة في مذاهبهما وعناصرهما في كتابه "البيان" على الخصوص، له وراء ذلك فضل خاص وجهد مستقل فيه، فقد استقل ببحوث جديدة صبغها بشخصيته واستمدها من عقليته وثقافته وعرفت له وحده دون سواه من الباحثين في البيان العربي وقواعده، وقبل أن نفصل ذلك كله نتساءل: ما هو البيان الذي نريده ويعنيه الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين"؟ لاشك أن الجاحظ لم يعن بالبيان ذكر قواعد البلاغة العربية وأدائها في ألفاظها وأساليبها ومعانيها كما فهم مؤلف نقد النثر ونقد على ضوئه الجاحظ في كتابه البيان حيث يقول: "أما بعد فإنك ذكرت لي وقوفك على كتاب عمرو بن بحر الجاحظ الذي "سماه البيان والتبيين" وأنك إنما وجدته قد ذكر فيه أخبارًا منتخلة وخطبًا منتخبة ولم يأت فيه بوصف البيان ولا أتى على أقسامه في هذا اللسان،

وكان عندما وقفت عليه غير مستحق لهذا الاسم الذي نسب1 إليه". ولا شك أن أبا هلال العسكري كان أدنى إلى الإنصاف حينما نوه في كتابه الصناعتين بكتاب "البيان" وذكر خطورته كمؤلف من مؤلفات البيان العربي، وإن كانت أبحاثه في البيان موجزة مفرقة2، فهو بدون شك ومهما أردنا بكلمة البيان من معان مؤلف من مؤ لفات البيان، ولا يضيرنا بعد ذلك إن كانت بحوثه في البيان مجملة أو مفصلة مجموعة أو مفرقة، ونحن على كل حال في الرأي مع أبي هلال. ولا شك أيضًا أن ابن شهيد حين ذهب إلى أن كتاب "البيان للجاحظ" لم يكشف فيه مؤلفه عن وجه تعليم البيان ليرى القارئ كيف يكون وضع الكلام وتنزيل البيان وكيف يكون التوصل إلى حسن الابتداء وتوصيل اللفظ بعد الانتهاء وأن الجاحظ استمسك بفائدته وضن بما عنده غيرة على العلم وشحا بثمرة الفهم3 قد ظلم الجاحظ وكتابه وحكم عليه حكمة متأثرًا باتجاهه هو في البيان الذي انتحى فيه ناحية تطبيقية حتى كان كما يقول يعلم الشحاذ الأساليب التي يستدر بها عطف الناس4. فابن شهيد حين أراد أن يكون كتاب "البيان" كتابًا يرسم فيه مؤلفه طرق الأداء ويعبد سبل التعبير عن مختلف الأغراض التي تؤثر في عقول الناس وعواطفهم، قد ظلم الجاحظ مرتين: ظلمه حين تناسى ما كتبه وما جمعه الجاحظ في رسم المذاهب الأدبية المختارة في الأداء والتعبير، وظلمه مرة أخرى حين حكم فيه اتجاهه هو ونقده على ضوئه وقاس كتابه بمقياسه. وعلى كل فالجاحظ إنما أراد بالبيان ما كشف لك قناع المعنى وهتك الحجب دون الضمير حتى يفضي السامع إلى حقيقته5. وأراد

_ 1 ص1 نقد النثر. 2 6 و7 الصناعتين. 3 الزوابع والتوابع، والذخيرة. 4 الذخيرة. 5 68/ 1 البيان.

ما أراده جعفر بن يحيى من البيان، وهو أن يكون الاسم يحيط بمعناك ويجلي عن مغزاك وتخرجه من الشركة ولا تستعين عليه بالفكرة والذي لا بد منه أن يكون سليمًا عن التكلف بعيدًا من الصنعة بريئًا من التعقيد غنيًّا عن التأويل1، أراد به ساحر الأدب ورائعه من نثر ونظم وأسجاع ورسائل وخطب ومقالات وأحاديث وحجاج، وأراد به أمثل الأساليب وأقوم الألفاظ التي تقرب ما غمض من المعاني وتوضح ما خفي من الأفكار، ذاكرا معها أصحابها من أولى اللسن والخطابة والبلاغة في المنثور والمنظوم، ولذلك كان كتابه أخبارًا منتحلة وخطبًا منتخبة كما يقول مؤلف نقد النثر، والجاحظ لا يكتفي بذكر ذلك ذاك وحده بل يذكر المذاهب الأدبية العامة في عصره وقبل عصره في النقد والأدب والبيان كلما دعا إليها داع أو ألمت بها مناسبة، ويذكر في سياق ذلك آراءه الأدبية التي يؤثرها ويدعو إليها في شيء من الإجمال والإيجاز وفي مواضع متفرقة من كتابه كما يقول أبو هلال. -4- ارتاب بعض الباحثين المعاصرين في شخصية في كتابه البيان، ورأى أنها تكاد تكون معدومة فيه2. وهذا موضع مناقشة هذه الفكرة الجائرة. إن من يمعن في كتاب "البيان" يؤمن معي إيمانًا جازمًا بمدى ما في هذا الرأي من جور على الجاحظ وغبينه لكتابه، فشخصية الجاحظ في كتابه البيان ليست معدومة ولا ضعيفة، بل نراها قوية مهيمنة ونلمسها في ثناياه في مظاهر منوعة: فهي فيما يذكره الجاحظ من أدب ورواية، وفيما يسرده من آراء رجال البيان العربي في البلاغة وعناصرها ومذاهبها، ويكفي لظهورها

_ 1 85 و86/ البيان. 2 ص7 مقدمة نقد النشر.

في هذا المظهر صبغ شخصية الجاحظ لهذه الروايات بصبغته، وهضم عقليته لها وإخراجها في أسلوبه الساحر، وفي استطراده الفاتن العجيب وفي سعة تامة وإحاطة كبيرة باللغة والأدب والبيان. وهي في تعليقه على هذه الروايات والآراء، وفي نقده لها وحكمه عليها، ولن نحصي من ذلك نقده للآراء العامة في الأدب وما يتصل به، مما نراه في تعليقه على رأي الأهتم في الأحنف بن قيس1، وفي موافقته لرأي إياس في حمد إ عجاب الرجل بقوله2، وفي تعليقه على الحكمة القائلة: قيمة كل امرئ ما يحسنه3، وفي ثنائه على كلمة بليغة لمحمد بن علي4، وفي نقده لرأي في تعليل تهيب عمر في خطبة النكاح5، وفي مناقشته لكلمة عن ابن الزبير 6، وفي نقده لمن يستحمق المعلمين ورعاة الغنم7، وفي نقده لرأي من يضع الحبشة مع الأمم العريقة في الثقافة8، وفي نقده رواية خطبة رويت لمعاوية9 إلى آخر ما فيه من التعليق والنقد في هذا الباب. إنما نريد نقده لما يتصل بالبيان من آراء ومذاهب تمس صميم البلاغة العربية، ولا بأس أن نعد بعض هذه التعاليق والنقود. أنشد خلف الأحمر الجاحظ: وبعض قريض القوم أولاد علة ... يكد لسان الناطق المتحفظ فعلق الجاحظ على هذا البيت تعليقًا جميلًا، فالشعر "إذا كان مستكرهًا وكانت ألفاظ البيت من الشعر لا يقع بعضها مماثلًا لبعض كان بينها من التنافر ما بين أولاد العلات ... وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج، فيعلم بذلك أنه أفرد إفراغًا جيدًا

_ 1 57 و58/ 1. 2 82/ 1. 3 73/ 1. 4 74/ 1. 5 92/ 1. 6 192/ 1. 7 174/ 1. 8 143/ 1. 9 57/ 2.

وسبك سبكًا واحدًا، فهو يجري على اللسان كما يجري على الأذهان1" وذلك تقرير لبلاغة الألفاظ والنظم ولتنافر الحروف والكلمات سبق إليه الجاحظ عبد القاهر وشيعته والسكاكي ومدرسته بقرون. ويرى بليغ أن بلاغة الكلام في أن يسابق معناه لفظه ولفظه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك، والجاحظ يثني على هذا الرأي ويجتبيه2. ويرى ابن المقفع أنه يجب أن يكون في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته "91/ 1 بيان"، فيشرح ذلك الجاحظ ويدلي برأيه فيه 3، مقررًا بلاغة الاستهلال تقريرًا ليس بعده من غرابة. والجاحظ جد معجب ببلاغة الكتاب، يتجلى ذلك في نقده لمذهبهم الأدبي في الكتابة والبيان4، وهو يرى أن حديث الأعراب الفصحاء بالغ الغاية في الامتاع، وليس أفتق للسان ولا أجود تقويمًا للبيان "5" منه، كما يعجب ببلاغة المتكلمين والنظارين ويراهم فوق أكثر الخطباء وأبلغ من كثير من البلغاء6. وذكر الجاحظ رأي إبراهيم بن محمد في البلاغة وأنه يكفي من حظها ألا يؤتي السامع من سوء إفهام الناطق ولا الناطق من سوء فهم السامع، ثم أشاد به وأثنى عليه "75/ 1". واختلف علماء البيان في الخطابة وهل يستجاد فيها الإشارة والحركة؟ فذهب النظام إلى استجادتها، وجعلها رجل كأبي شمر

_ 1 62/ 1. 2 91/ 1. 3 92/ 1. 4 105/ 1 و225/ 3. 5 110/ 1. 6 106/ 1.

عيبًا في الخطيب، والجاحظ يذكر ذلك ويميل إلى رأي أستاذه النظام محللًا رأي أبي شمر ويرجعه إلى صفاته الخلقية والنفسية من الوقار والتزمت "69 و77 و78/ 1". ويختلفون كذلك في شيء آخر يمس الخطيب والبليغ، فهل السمت والجمال من تمام آلة البليغ أم لا؟ يورد الجاحظ ذلك ويذكر بتفصيل رأي سهل بن هرون في عدم عدهما من أدوات البلاغة "76/ 1"، ولا شك أن الجاحظ كان يدافع عن نفسه بما أورده وفصله في ذلك الموضوع. وكثرة الكلام يراها بليغ كاياس خيرًا وبلاغة، ولكن الجاحظ يرد عليه؛ لأن للكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية "82/ 1" ... وكذلك إعادة الحديث من العلماء من ذمة ومنهم من حمده ومنهم من جعل لحمده مواضع وأسبابًا، والجاحظ يتكلم في ذلك ويدلي برأيه فيه ويجعله على قدر المستمعين له ودرجاتهم العقلية، ويعلل سر ما في الذكر الحكيم من إعادة وتكرير "84 و85/ 1". والجاحظ يروي في وصف ثمامة بن أشرس لبلاغة جعفر بن يحيى "85/ 1"، ويصف هو بلاغة ثمامة "89/ 1"، ويصف بلاغة بليغ يحذر من سحر الكلام وأثره ويدعو إلى اجتناب السوقي والوحشي وإلى أن لا يجعل الأديب همه في تهذيب الألفاظ وشغله في التخلص إلى غرائب المعاني "176 و177/ 1" والجاحظ هو نفس هذا البليغ، وكثيرًا ما يتكلم فيخرج آراءه في معرض الرواية عن سواء لغرض سنعلمه بعد حين، وذلك كله يستحق الدراسة والإمعان؛ لأنه يمس عناصر البيان وبلاغته. والخطبة يستحسن أن يكون فيها أي من القرآن أو بيت من الشعر أم لا؟ يذكر ذلك الجاحظ ويروي مذاهب البلغاء فيه "93/ 1" ويذكر أن منها الطوال ومنها القصار، وأن لكل مواضع تليق به "19/ 2".

ويرى العتابي أن كل من أفهمك حاجته فهو بليغ، فيذكر الجاحظ ذلك ويحلله "121/ 1".. والصمت يحمده قوم ويذمه قوم "143-146، 183/ 1" والجاحظ يقف من هؤلاء وهؤلاء موقف الناقد الحصيف، فيناقش رأي من آثر الصمت "147، 148، 184، 185، 205 جـ1" ويدلي برأيه هو في قوة وروعة، داعيًا إلى ألا يتمسك البليغ بحكمة الصمت مادام يجد القوة والمقدرة والملكات البيانية المواتية "147/ 1". والشاعر أو البليغ قد يستطيع فنا من فنون البيان ويجيد فيه دون فن آخر، ورأى بعض الشعراء حين سئلوا عن عدم إحسانهم في بعض أنواع الشعر وفنونه أن ذلك ليس مرجعه قصورًا في ملكاتهم أو عجزًا في مقدرتهم الأدبية، والجاحظ يناقشهم ويفيض معهم في الجدال ذاهبًا إلى أن الرجل قد يكون له طبع في فن من فنون الأدب دون فن وفي باب دون باب "51، 150، 151 جـ1، 259 جـ2". وبلاغة المتقعرين من اللغويين والنحويين يستسمجها الجاحظ وينقدها ويرى أن نهجهم فيما ليس من أخلاق الكتاب ولا آدابهم "240/ 1". وللشعوبيين رأي في العرب وبيانهم، والجاحظ لا يدعهم دون أن يحاسبهم ويناقشهم ويرد عليهم في قوة وحرارة دفاع، وفي كل ما أخذوه على العرب، لا سيما ما يمس البيان والبلاغة بوجه خاص "15 و16/ 3". ويرى بعض الباحثين أن أداة الكتابة وقريض الشعر كانت في رسول الله "ص" معدومة، فيناقش الجاحظ رأيهم ذاهبًا إلى أنها كانت في رسول الله تامة، ولكنه "ص" صرف تلك القوى إلى ما هو أزكى بالنبوة، وأراد أن لا يكون للشاعر متعلق عما دعا إليه، وأنه "ص" لما طال هجرانه لقرض الشعر وروا يته صار لسانه

لا ينطبق به، والعادة توأم الطبيعة "230 و231/ 3"، ونحن نستجيد رأي الجاحظ كل الاستجادة. وعلل الجاحظ أمية رسول الله وعدم قرضه الشعر في إفاضة وقوة بيان "228/ 2"، وأدلى برأيه في قوله صلى الله عليه وسلم: نحن معشر الأنبياء بكاء "276/ 3". وأخيرًا فهذه هي شخصية الجاحظ في بعض ما ناقش فيه آراء رجال البيان وهي لعمري شخصية قوية مهيمنة لا تدعك حتى تؤمن بالجاحظ وثقافته ومذهبه واتجاهه في الأدب والبيان. وللجاحظ فوق ذلك كله شخصية الباحث في أصول البيان العربي: 1- فالجاحظ أظهر من تكلم في البيان وحاجته إلى التمييز والسياسة والترتيب والرياضة وإلى تمام الآلة وإحكام الصنعة، وإلى سهولة المخرج وجهارة المنطق وتكميل الحروف وإقامة الوزن وأن حاجة الكلام إلى الحلاوة كحاجته إلى الجزالة. وأن ذلك من أكبر ما تستمال به القلوب وتزين به المعاني "30/ 1" ولذلك فقد تحدث عن عيوب المنطق وآفات اللسان "31 و33 و44-46 و58-62 و66 و67 جـ1"، وتكلم على تنافر الحروف والألفاظ "62-64 جـ1" ونادى بضرورة تجنب البليغ ألفاظ المتكلمين "106-108 جـ1" وبترك الوحشي والسوقي "110، 176 جـ1" وكراهة الهذر والتكلف والتعقيد والتقعير والإسهاب والفصول "21 و141 و239 جـ1"، ونفي الكلام الملحون عن أن يكون من البلاغة "121-124 جـ1" متحدثًا عن اللحن واللحانين "155-154 جـ2".. وذكر البيان وأن مداره على الإفهام "68/ 1"والوضوح مع شرف المعنى وبلاغة اللفظ وصحة الطبع والبعد عن الاستكراه والتكلف ومع قوة التأثير وسحر البيان "73 و75 و89 جـ1" وأن يكون الكلام موزونًا أصيب به مقدار الحاجة "161 و62 جـ1" مع العارضة واللسن "130، 163 جـ1" ومع ترك الإسراف في الصنعة والتهذيب "176/ 1" ومع استعمال

المبسوط والمقصور في موضع البسط والقصر "281/ 2" ومع الطبع المتمكن والديباجة الكريمة والماء والرونق "224 و225 جـ3" ومتى شاكل اللفظ معناه وأعرب عن فحواه وكان لتلك الحال وفقًا، ولذلك القدر لفقًا، وخرج من سماجة الاستكراه وسلم من فساد التكلف والفضول والتعقيد، حبب إلى النفوس واتصل بالأذهان وهشت إليه الأسماع وخف على الألسن وشاع في الآفاق. وكثيرًا ما يكرر الجاحظ اصطلاحات أدبية خاصة مثل "صناعة الكلام" "69 و220 جـ1" وصناعة المنطق "48 و67و 209 و242 جـ1" وهو يعني بذلك هذا اللون الخاص من البيان البلاغي الذي يرسم مناهج الأداء. وعني الجاحظ أكثر ما عني بالخطابة فأطال الكلام في أوصافها وعناصرها وأدواتها ومظاهرها وفي هيئة الخطيب وسمعته، وذكر عيوبها وآفاقها، ودعا الخطيب إلى مراعاة شتى المقامات والأحوال، وإلى أن يطيل حيث تجب الإطالة ويوجز حيث يجب الإيجاز، وذكر أكثر أعلامها ورجالها حتى عصره، كما تكلم على رسالة الخطيب وأثرها في نفسه، وأورد من الخطب القصار والطوال الكثير الرائع. وتكلم على النثر والمحادثة والكتابة: بلاغتها وعناصرها ومذاهب الكتاب الأدبية فيها، وعلى سحر الحديث المعاد، والسجع مطبوعة ومتكلفة وبلاغة المطبوع منه، وعلى اللحن وبدء ظهوره واللحانين، وكثير من المثل في لحنهم، وذكر الحكم والمواعظ والزهد والدعوات السياسية والدينية وكثيرًا من مثلها، وتكلم على رواية الأدب وطبقات الرواة من نحويين ولغويين وإخباريين وأدباء واتجاهاتهم في الرواية. كما ذكر الشعر وأثره وخطره وألوانه وطبقات الشعراء، وتحدث عن مذاهب المطبوعين وأصحاب الصنعة منهم، وعن الحوليات ورجالها، وذكر بعد كلام الله ورسوله عن الشعر ومكانة الشعر والشعراء في الجاهلية وكيف غلبته الخطابة أخيرًا بعد التكسب بالشعر وكثرة الشعراء، وحتم على الأدباء الناشئين عرض ثمراتهم الأولى على أولى

العلم ورأى أن اجتماع الشعر والرجز والخطابة قليل، وقلما ينبه الإنسان في أكثر من فن واحد منها، وأن الشعر والغناء والنادرة مما يستجاد أطرافها دون أوساطها، وتكلم على استواء الشاعرية واختلافها. إلى غير ذلك مما يتصل بصميم البيان، ومما تراه متفرقًا في الأجزاء الثلاثة من كتاب البيان. 2- ودعوة الجاحظ في كتابه "البيان" -وفي مواضع متفرقة منه لا سيما الجزء الأول من كتابه الكبير- إلى مذهب أدبي جديد مستمد من عقليته وثقافته وبيئته: هي المظهر القوي من مظاهر شخصية الجاحظ الواضحة في كتابه البيان والتبيين. ويمكننا إرجاع هذا المذهب إلى عناصره الأولى من: سحر اللفظ وتلاؤم الحرف، ووضوح المعنى وترك التكلف والتعقيد والإغراب والوحشية والسوقية، ومراعاة المقام وإصابة الغاية مع الحذق والرفق والتخلص إلى حبات القلوب وإصابة عيون المعاني في سحر إيجاز، ومع البعد عما يكره من مظاهر مذمومة في البيان مما يتعلق بخلق البليغ وخلقه أو طبعه وزيه، ومع الحرص على صبغ ذلك ذلك كله بصبغة الرجل وأسلوبه وظهور شخصيته وأثره فيه. ومع مسايرة الأديب للحركة الفكرية العامة في بيئته، ومع الحرص على إيثار نشاط السامعين والقراء والاحتيال عليه. بالفكاهة الجميلة، والاستطراد الساحر، وبراعة الأسلوب وسحره وقوته، والرواية الكثيرة لأعلام الأدب والبيان التي تلقي في روع السامع والقارئ روح الهيبة والإعجاب بهم وبالمؤلف، وبمناقشة الآراء التي تستحق المناقشة والنقد مما تجعل السامع والقارئ متطلعًا مسايرًا للمؤلف في اتجاهاته الفكرية والأدبية، إلى غير ذلك من عناصر هذا المذهب الأدبي التي ترجع إلى المعنى والأسلوب دون حرص على ترف البيان أو طلب لشتى ألوان البديع إلا إذا طلبها الطبع واستدعاها المقام. ومن الجدير بالملاحظة أن كثرة الرواية في كتاب الجاحظ التي رآها بعض الباحثين المعاصرين من أسباب ضعف شخصيته إنما هو غرض قصد إليه الجاحظ وأراده، ليشعر القارئ بروحه ويؤمن

بما يوجهه المؤلف إليه من آراء وأفكار، وليكتسب به رضاه وتقديره وإعجابه. ولا أحيلك في فهم مذهب الجاحظ ذلك على صفحة من كتابه، فاقرأ أي صفحة وعلى الأخص الجزء الأول من هذا الكتاب، فتؤمن معي بما ذكرت. 3 - وقد ظهر الجاحظ في عصر شاع فيه اتجاهان أدبيان مختلفان: اتجاه يرمي إلى الظهور بمظهر البداوة التقليدي في الأداء والتعبير فيؤثر الغريب من الألفاظ والعنجهي من الأساليب متناسيًا روح العصر وذوقه، واتجاه آخر تأثر بالحياة السياسية والاجتماعية وبألوان الحضارة في العيش والتفكير، فمال إلى رقة الأسلوب وسهولته، مع حرص على إرضاء الطبع والذوق، وشاهد الجاحظ هذه التيارات الفكرية والأدبية المنوعة وعاصرها ولكنه مال بطبعه وذوقه إلى الاتجاه الأخير، وكتابه البيان كله دعوة إلى هذا الرأي، فهو حينًا يشيد بأدب الكتاب ومذهبهم في البيان "105/ 1"، وحينًا يكرر الدعوة إلى الوضوح والإفهام ومسايرة الذوق والطبع "73 جـ1 و20 جـ2 و225 جـ3"، وحينًا ينقد مذاهب الصنعة في الشعر "54، 150 جـ1 و21، 25 و26 جـ2" وحينًا يدعو إلى ترك التكليف والتعقيد والتقعير وإيثار الأساليب السمحة الكريمة الساحرة "110 جـ1 و20، 21 جـ2 و224 جـ3". 4- وتكلم الجاحظ عرضًا على ألوان كثيرة من البيان، وحال كثيرًا من أساليبه البيانية: ذكر البديع، حينما ذكر بعض مثله وأساليبه، ورأى أنه مقصور على العرب، ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة، وذكر كثيرًا من الشعراء الذين أكثروا منه في شعرهم، "ورأى أنه لم يكن في المولدين أصوب بديعًا من بشار وابن هرمة "242 جـ3، 54 و55 و1".. وتكلم على ألوان من البيان من سجع ومزدوج وقصيد وإجازة "16 جـ3". فأما السجع فقد تكلم عليه الجاحظ بتفصيل وذكر آراء رجال البيان فيه

وآثر المطبوع منه "194 و195 جـ1" وأما المزدوج من الكلام فقد ذكر له مثلًا في باب صغير عقده له "96 جـ2" ومن مثله التي ذكرها الحديث: "اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب". وقول مالك بن الأخطل في الشاعرين "الفرزدق وجرير" جرير يغرف من بحر والفرزدق ينحت من صخر. وتكلم على الاستعارة وعرفها حين ساقه الكلام إلى ذكر مثل من مثلها ورآها تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه "115 و116 جـ1"، ويرجع بعض الأساليب إلى الإستعارة "راجع 192/ 1".. وذكر التفصيل والتقسيم حين مر بأسلوبين من أساليبهما "170/ 1، 91، 92/ 2".. وتكلم على الاستطراد وبلاغته وأثره في التأليف والكتابة "138/ 1، 105/ 3" ... وذكر كثيرًا من مثل الكناية وحللها "180/ 1، 31 جـ3".. كما ذكر كثيرًا من الأمثال التي ضرب بها العرب المثل "86، 183 جـ1".. وتكلم على جودة الابتداء وجودة القطع والقافية -أي حسن خاتمة الكلام والشعر- "89 و155 جـ1".. وعقد الجاحظ بابا قال فيه: ويذكرون الكلام الموزون ويمدحون به ويفضلون إصابة المقدار، وذكر كثيرًا من مثله، وهذا هو باب الاحتراس الذي ذكره البيانيون.. وحلل الجاحظ كثيرًا من الأساليب البيانية البليغة "راجع 163، 166 جـ1 و201 جـ2" تحليلًا بيانيًّا احتذى حذوه فيه العلماء، وذكر مثلًا رائعة للتشبيه "229/ 2" وأشار إليه في الجزء الثالث ص243، وعقد الجاحظ فصلًا من فصول كتابه عنونه بباب اللغز في الجواب "216/ 2"، والمذهب الكلامي نوع من البديع كان الجاحظ أول من لقبه1 به، والجاحظ جد خبير بمذهب الايجاز وكثيرة الدعوة والإشارة إليه "81 جـ1 و198 جـ2" وأشار الجاحظ إلى أسلوب القلب "180 جـ1"، وإلى سواه من الأساليب التي يعني بها علماء البلاغة.

_ 1 راجع البديع لابن المعتز نشر محمد خفاجي، 76/ 2 العمدة.

وبعد: فتلك آراء الجاحظ البيانية الخاصة به، وهي وإن كانت دراسات موجزة مفرقة إلا أنها على كل حال ذات أثر كبير في خدمة البيان العربي.

أول صحيفة في البلاغة

أول صحيفة في البلاغة لبشر بن المعتمر: عن البيان والتبيين للجاحظ. مر بشر بإبراهيم بن جبلة بن مخرمة السكوني الخطيب وهو يعلم الفتيان الخطابة فوقف بشر، فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد أو ليكون رجلًا من النظارة، فقال بشر، اضربوا عما قال صفحًا واطووا عنه كشحًا.. ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه، وكان أول ذلك الكلام: خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جواهر وأشرف حسبًا، وأحسن في الإسماع. وأحلى في الصدور وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين وغرة، من لفظ شريف ومعنى بديع.. واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة والمجاهدة وبالتكلف والمعاودة. ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكن مقبولًا قصدًا وخفيفًا على اللسان سهلًا، وكما خرج من ينبوعه ونجم من معدنه. وإياك والتوعر، فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد مستهلك معانيك ويشين ألفاظك، ومن أراغ معنى كريمًا فليتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف، اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله إلى أن تكون أسوأ حالًا منك قبل أن تلتمس إظهارهما وترتهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما.

وكن في ثلاث منازل: فإن أولى الثلاث: أن يكون لفظك رشيقًا عذبًا وفخمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا قريبًا معروفًا، إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامة إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرف أن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتضع بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكل مقام من المقال. وكذلك اللفظ العامي والخاص، فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك وبلاغة قلمك ولطف مداخلك واقتدراك على نفسك أن تفهم العامة معاني الخاصة وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء ولا تجفو عن الأكفاء، فأنت البليغ التام. فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسمح لك عند أول نظرك وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها ولم تصر إلى قرارها وإلى حقها من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها ولم تتصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها نافرة من موضعها، فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن والنزول في غير أوطانها، فإنك إذا لم تتعاط قرض الشعر والموزون، ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور، لم يعبك بترك ذلك أحد، وإن أنت تكلفتها ولم تكن حاذقًا مطبوعًا ولا محكمًا لسانك بصيرًا بما عليك أو مالك، عابك من أنت أقل عيبًا منه، ورأى من هو دونك أنه فوقك.. فإن ابتليت بأن تتعاطى الصنعة وتتكلف القول ولم تسمح لك الطباع في أول وهلة وتعصي علبك بعد إجالة الفكرة فلا تعجل ولا تضجر ودع بياض يومك أو سواد ليلك وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة إن كانت هناك طبيعة أو جريت من الصناعة على عرق. فإن تمنع عليك بعد ذلك من غير حادث شغل عرض ومن غير طول إهمال، فالمنزلة الثالثة أن تتحول من هذه الصناعة على أشهى الصناعات إليك وأخفها عليك، فإنك لم تشتهه ولم تنازع إليه إلا وبينكما

نسب، والشيء لا يحن إلا إلى ما يشاكله، وإن كانت المشاكلة قد تكون في طبقات؛ لأن النفوس لا تجود بمكنونها ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة كما تجود مع المحبة والشهوة، فكذا هذا، قال بشر: فلما قرئت على إبراهيم قال لي، أنا أحوج إلى هذا من هؤلاء الفتيان.

مؤلفات متأخرة في البلاغة

مؤلفات متأخرة في البلاغة: 1- من شروح تلخيص المفتاح للخطيب: شرح للخلخالي م745هـ، وشرح للزوزني م 792، وشرح لابن عربشاه م 945، وقد شرح العباسي أبيات التلخيص في كتابه "معاهد التنصيص" ونظمه السيوطي في كتابه "عقود الجمان".. وقد شرح جمال الدين محمد بن محمد الأقصرائي م800هـ كتاب الإيضاح للخطيب القزويني في كتاب أسماه "إيضاح الإيضاح".. "2 و459" بلاغة -دار الكتب المصرية- مخطوطات". 2- وعلى المطول حواشي كثيرة: منها حاشية السيد م 816، وحاشية الفنري م 886، وحاشية ملا خسرو م885، وحاشية السيرامي المصري م833 وحاشية الحفيد م 906هـ، وحاشية الشيرازي م994هـ، وعز الدين بن جماعة م 819هـ، والبساطي م 842هـ، والسمرقندي م 880هـ، وعبد الحكيم السيلاكوتي 1061هـ. 3- ومن الكتب المتأخرة في البلاغة: الجوهر المكنون لعبد الرحمن الأخضري وقد شرحه ابن يعقوب، والشيخ أحمد الدمنهوري م 1192هـ. ومنها: تحفة الأعواز في علاقات المجاز للسجاعي م 1197، وتحفة الإخوان في علم البيان للدردير م 1201هـ، والرسالة البيانية للصبان م 1026هـ، والتجريد للبنان م 1211هـ، وحسن الصنيع للشيخ البسيوني م 1313هـ، وزهر الربيع للحملاوي م 1352هـ،

والبلاغة الواضحة للجارم المتوفى في 8 فبراير 1949، وكتاب "فن القول للأستاذ أمين الخولي، وهناك مذكرات قيمة مطبوعة في بحوث البلاغة للأستاذ سليمان نوار، وللأستاذ حامد عوني.. وللشيخ محمد عرفة عضو جماعة كبار العلماء كتاب قيم في البلاغة سينشره عما قريب، وله محاضراته البلاغية التي كان يلقيها في قسم الأستاذية بكلية اللغة العربية، والتي أفاد منها جمهور كبير من العلماء.

تطبيقات

تطبيقات تطبيقات 1 ... تطبيقات -1-: عين الأساليب الخبرية والإنشائية فيما يأتي: 1- {آمَنَ الرَسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌ آَمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} . 2- {يَمْحَقُ الله الرِّبَا وَيُرْبِي الصَدَقَاتِ، وَاللهُ لَا يُحِبُ كُلَ كَفَّارٍ أَثِيْمٍ} . 3- {يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوْا أَطِيْعُوْا اللهَ وَأَطِيْعُوا الرَسُوْلَ وَأُولِيْ الأَمْرِ مِنْكُم} . 4- قال صلى الله عليه وسلم: "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود". 5- ومن وصية عبد الملك بن مروان لأولاده: يا بني، كفوا أذاكم، وابذلوا معروفكم، واعفوا إذا قدرتم، ولا تبخلوا إذا سئلتم، ولا تلحفوا إذا سألتم، فإن من ضيق ضيق الله عليه، ومن أعطى أخلف الله له. 6- قال أبو العلاء المعري: لا تحلفن على صدق ولا كذب ... فما يفيدك الا المأثم الحلف 7- وقال: لا تفرحن بما بلغت من العلا ... وإذا سبقت فعن قليل تسبق وليحذر الدعوى اللبيب فإنها ... للفضل مهلكة وخطب موبق

8- وقال أبو العتاهية: بكيت على الشباب بدمع عيني ... فلم يغن البكاء ولا النحيب ألا ليت الشباب يعود يومًا ... فأخبره بما فعل المشيب 9- وقال: يا صاحب الدنيا المحب لها ... أنت الذي لا ينقضي تعبه 10- وقال: ما أحسن الدنيا وإقبالها ... إذا أطاع الله من نالها من لم يؤاس الناس من فضلها ... عرض للإدبار إقبالها 11- وقال الشاعر: أراك تؤمل حسن الثناء ... ولم يرزق الله ذاك البخيلا وكيف يسود أخو فطنة ... يمن كثيرًا ويعطي قليلًا 12- وقال سعيد بن حميد: وأراك تكلف بالعتاب وودنا ... صاف عليك من الوفاء دليل ولعل أيام الحياة قصيرة ... فعلام يكثر عتبنا ويطول

تطبيقات 2

تطبيقات -2-: بين أساليب الخبر وأدوات التوكيد في الأمثلة الآتية: 1- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنََّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَجَعَلْنَاُكُمْ شُعُوْبِاً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَ اللهَ عَلِيْمٌ خَبِيْر} . 2- {وَفِيْ السَمَاءِ رُزْقُكُمْ وَمَا تُوْعَدُوْنَ، فَوَرَبِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إَنَّهُ لَحَقٌ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} . 3- وقال صلى الله عليه وسلم: "شر الناس الذين يكرمون اتقاء ألسنتم". 4- وقال علي كرم الله وجهه: "مارست كل شيء فغلبته، ومارسني الفقر فغلبني، إن سترته أهلكني، وإن أذعته فضحني". 5- وقال النبي عليه السلام يصف الأنصار: "إنكم لتقلون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع". 6- وقال بشار بن برد: خليلي إن المال لسي بنافع ... إذا لم ينل منه أخ وصديق 7- وقال أبو العتاهية: إن البخيل وإن أفاد غنى ... لترى عليه مخايل الفقر ما فاتني خير امرئ وضعت ... عني يداه مئونة الشكر 8- وقال آخر: وللحلم خير فاعلمن مغبة ... من الجهل إلا أن تشمس من ظلم

9- وقال حسان بن ثابت: أصون عرضي بمالي لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال أحتال للمال إن أودى فأكسبه ... ولست للعرض إن أودى بمحتال 10- وقال المقنع الكندي يعاتب قومه، ويصف وفاءه لهم: وإن الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي لمختلف جدًّا فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدًا وإن زجروا طيرًا بنحس تمر بي ... زجرت لهم طيرًا تمر بهم سعدا ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القول من يحمل الحقدا لهم جل مالي إن تتابع لي غنى ... وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا وإني لعبد الضيف ما دام نازلًا ... وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا 11- وقال رجل من فزارة يفخر بشرف خصاله وجوده: ألا يكن عظمي طويلًا فإنني ... له بالخصال الصالحات وصول ولا خير في حسن الجسوم وطولها ... إذا لم تزن حسن الجسوم عقول إذا كنت في القوم الطوال علوتهم ... بعارفة حتى يقال طويل وكم قد رأينا من فروع كثيرة ... تموت إذا لم تحيهن أصول ولم أر كالمعروف، أما مذاقه ... فحلو، وأما وجهه فجميل 12- وقال سعيد بن سلم الباهلي: مدحني أعرابي فأبلغ، فقال: ألا قل لساري الليل لا تخش ضلة ... سعيد بن سلم نور كل بلاد

جواد حثا في وجه كل جواد ... لنا سيد أربى على كل سيد قال سعيد: فتأخرت عنه قليلًا، فهجاني، فأبلغ، فقال: أخي مدح ثواب علمته ... وليس لمدح الباهلي ثواب مدحت سعيدًا والمديح مهزة ... فكان كصفوان عليه تراب وفي هذا الشعر إشارة إلى قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} . 13- وقال الشماخ يمدح عرابة بن أوس الأنصاري: رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى العلياء منقطع القرين إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين 14- وقال بشار بن برد في العتاب: إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين فعش واحدًا أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ... ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه 15- وقال إبراهيم الصولي يعاتب محمد بن عبد الملك الزيات وقد تغير عليه بعد ما صار وزيرًا: وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما نبا صرت حربًا عوانا وكنت أذم إليك الزمان ... فأصبحت فيك أذم الزمانا

وكنت أعدك للنائبات ... فأصبحت أطلب منك الأمانا 16- ومن الهجو قول جرير يهجو تيمًا: ويقضي الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأذنون وهم شهود وإنك لو رأيت عبيد تيم ... وتيما قلت أيهم العبيد 17- وقال الحسين بن مطير يرثي معن بن زائدة: ألما على معن وقولًا لقبره ... سقتك الغوادي مربعًا ثم مربعا فيا قبر معن أنت أول حفرة ... من الأرض خطت للسماحة مضجعا ويا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا بلى قد وسعت الجود والجود ميت ... ولو كان حيا ضقت حتى تصدعا فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا 18- ولقطري بن الفجاءة في الحماسة يخاطب نفسه: أقول لها وقد طارت شعاعًا ... من الأبطال ويحك لن تراعي فإنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لم تطاعي فصبرًا في مجال الموت صبرًا ... فما نيل الخلود بمستطاع وما للمرء خير في حياة ... إذا ما عد من سقط المتاع 19- وقال الشاعر: ولم أر كالمعروف أما مذاقه ... فحلو، وأما وجهه فجميل

20- وقال صردر: تذل الرجال لأطماعها ... كذل العبيد لأربابها وأعلم أن ثياب العفا ... ف أجمل زي لمجتابها أي للابسها. 21- وقال آخر: لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا 22- وقال سعيد بن حميد في العتاب: أقلل عتابك فالبقاء قليل ... والدهر يعدل تارة ويميل ولعل أحداث المنة والردى ... يومًا ستصدع بيننا وتحول فلئن سبقت لتبكين بحسرة ... وليكثرن علي منك عويل ولئن سبقت -ولاسبقت- ليمضين ... من لا يشاكله لدي خليل وليذهبن بهاء كل مروءة ... وليفقدن جمالها المأهول

تطبيقات 3

تطبيقات -3-: عين الأغراض المستفادة من الخبر في الأمثلة الآتية: 1- قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوامَافِي أَنْفُسِكُمْ أو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 283] . 2- وقال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} . 3- قال صلى الله عليه وسلم: "عدل ساعة في حكومة خير من عبادة ستين سنة". 4- وقال: "إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه، فأدخل عليه الجور في عدله". 5- ومن خطبة له عليه السلام بمكة حين دعا قومه إلى الإسلام: "أن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس ما كذبتكم، وأغررت الناس ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة". 6- قال الشريف الرضي: جار الزمان فلا جواد يرتجي ... للنائبات ولا صديق يشفق وإذا الحليم رمي بسر صديقه ... عمدًا فأولى بالوداد الأحمق

7- وقال المعري: عرفت سجايا الدهر، أما شروره ... فنقد، وأما خيره فوعود 8- وقال: رأيت سكوتي متجرًا فلزمته ... إذالم يفد ربحًا فلست بخاسر 9- قال ابن حيوس مادحًا: بني صالح أقصدتم من رميتم ... وأحييتم من أم معروفكم قصدا وذللتم صعب الزمان لأهله ... فذل وقد كان الجماح له وكدا مناقب لو أن الليالي توشحت ... بأذيالها لابيض منهن ما اسودا 10- وقال أبو فراس: صبرت على الأواء صبر ابن حرة ... كثير العدا فيها قليل المساعد منعت حمى قومي وسدت عشيرتي ... وقلدت أهلي غر هذي القلائد 11- وقال يخاطب سيف الدولة: وكم لك عندي من إياد وأنعم ... رفعت بها قدري وأكثرت حسدي وإنك للمولى الذي بك أقتدي ... وإنك للنجم الذي بك أهتدي 12- وقال: ونحن أناس لا توسط بيننا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر تهون علينا في المعالي نفوسنا ... ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر

13- وقال ابن الرومي في رجل اسمه عيسى: يقتر عيسى على نفسه ... وليس بباق ولا خالد ولو يستطيع لتقتيره ... تنفس من منخر واحد 14- وقال أبو العلاء: بلوت أمور الناس من عهد آدم ... فلم أر إلا هالكًا إثر هالك إذا كان هذا الترب يجمع بيننا ... فأهل الرزايا مثل أهل الممالك 15- وقال أعربي يرثي ولده: بني لئن ضنت جفون بمائها ... لقد قرحت مني عليك جفون دفنت بكفي بعض نفسي فأصبحت ... وللنفس منها دافن ودفين 16- قال زهير في قوم هرم بن سنان: قوم أبوهم سنان حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا

تطبيقات 4

تطبيقات -4-: عين المسند والمسند إليه، وبين الأساليب الخبرية والإنشائية. واذكر أغراض الخبر فيما يأتي: 1- قال تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بآاخِذِيهِ إلَّا أن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أن اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيأامُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} . [البقرة: 267: 269] . 2- قال عليه السلام: "من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير كله، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم لحظه من الخير كله". 3- وقال: "لا يزال الرجل عالمًا ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل". 4- ومن خطبة لخالد بن عبد الله القسري: "نافسوا في المكارم، وسارعوا إلى المغانم، واشتروا الحمد بالجود.. واعلموا أن حوائج الناس إليكم، نعمة من الله عليكم، فلا تمروا النعم فتحولوها نقمًا". 5- ومن رسالة لابن زيدون: "قد يغص بالماء شاربه، ويقتل الدواء المستشفى به، ويؤتي الحذر من مأمنه، وتكون منية المتمني في أمنيته ... وعلمك محيط بأن المعروف ثمرة النعمة، والشفاعة زكاة المروءة، وفضل الجاه تعود به صدقة:

وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله 6- قال أبو العتاهية: إذا ما مضى القرن الذي أنت منهم ... وخلفت في قرن فأنت غريب وإن امرأ قد سار خمسين حجة ... إلى منهل من ورده لقريب 7- وقال أبو العلاء: احذر سليلك فالنار التي خرجت ... من زندها إن أصابت عود احترقا 8- وقال الأخطل: وان امرأ لا ينثني عن غواية ... إذا ما اشتهتها نفسه لجهول 9- وقال حسان بن ثابت: وإن امرأ يمسي ويصبح سالمًا ... من الناس إلا ما جنى لسعيد 10- وقال المتنبي: تلذ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذ له الغرام 11- وقال الحسين بن مطير: أحب مكارم الأخلاق جهدي ... وأكره أن أعيب وأن أعابا وأصفح عن سباب الناس حلمًا ... وشر الناس من يهوى السبابا ومن هاب الرجال تهيبوه ... ومن حقر الرجال فلن يهابا

12- قال رجل من طيئ: ومن يفتقر في قومه يحمد الغنى ... وإن كان فيهم واسط العم مخولا وبزري بعقل المرء قلة ماله ... وإن كان أسرى من رجال وأحولا 13- الشاعر: إن الطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان يشفي مثله فيما مضى 14- قال عروة بن الورد: ذريني للغنى أسعى فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير يباعده القريب وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير وتلقى ذا الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير قليل ذنبه والذنب جم ... ولكن للغنى رب غفور 15- وقال قيس بن عاصم المنقري في قومه: خطباء حين يقول قائلهم ... بيض الوجوه مصقع لسن لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جواره فطن 16- وقال وعلة بن الحارث: قومي هموا قتلوا -أميم- أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي 17- وقال المتنبي: رب عيش أخف منه الحمام ... ذل من يغبط الذليل بعيش

فهرست الجزء الأول

فهرست الجزء الأول: الصفحة الموضوع 3 الكلمة الاولى 4 مقدمات في تاريخ البلاغة العربية 14 ترجمة الخطيب 16 أول كتاب الإيضاح 17 معنى الفصاحة والبلاغة 21 الفصاحة 21 فصاحة المفرد 28 فصاحة الكلام 41 البلاغة 41 بلاغة الكلام 46 بلاغة المتكلم 52 الفن الأول - علم المعاني 59 الصدق والكذب 63 تنبيه - الذوق هو الحكم في أمور البلاغة 65 أحوال الإسناد الخبري 80 الحقيقة العقلية والمجاز العقلي 104 - 188 بحوث بلاغية ملحقة بالكتاب 104 أسلوب المجاز العقلي وتطور البحث البلاغي عنه 120 حول المجاز العقلي 130 نشأة البيان العربي 146 الجاحظ والبيان العربي 173 أول صحيفة في البلاغة 177 تطبيقات

المجلد الثاني

المجلد الثاني مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم. المقدمة: صدر الجزء الأول من شرحي على كتاب الإيضاح في علوم البلاغة للخطيب القزويني "666-739هـ"، بحمد الله وتوفيقه وفضله. وهذا هو الجزء الثاني من هذا الشرح.. وهو كسابقه في الشرح والتحليل والتفصيل والدقة، وتنظيم البحوث والموضوعات. ولا أجد ما أقوله إلا أن أقدمه لجمهور العلماء، ورجال اللغة والأدب والنقد، وطلاب البحث والمعرفة، معتمدًا بعد فضل الله على حسن تقديرهم، وكريم ثقتهم. وما توفيقي إلا بالله. محمد عبد المنعم خفاجي.

القول في أحوال المسند إليه

القول في أحوال المسند إليه 1: حذف المسند إليه 2: أما حذفه: فأما لمجرد الاختصار3 والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر4. وأما لذلك مع ضيق المقام. وأما لتخييل5 أن في تركة تعويلًا على شهادة العقل في ذكره

_ 1 البحث هنا في أحوال المسند إليه أي الأمور العارضة له من حيث أنه مسند إليه، أي لا من غير هذه الجهة ككونه حقيقة أو مجازًا مثلًا فإنهما1 عارضان له من حيث الوضع. وقدم المسند إليه على المسند؛ لأنه الركن الأعظم في الكلام. 2 راجع ص76 من المفتاح ودلائل الإعجاز ص111-117. 3 الواقع بعد أما هو مقتضى الحال والواقع بعد لام التعليل هو الحال وهذا كالصريح في أن المقتضى هو الخصوصية. ثم المراد حذفه لقرينة معينة من غير إقامة شيء مقامه وحينئذ يكون لغرض معنوي لا لمجرد أمر لفظي ويلاحظ أن الحذف يتوقف على أمرين: وجود القرينة ووجود المرجح للحذف على الذكر، والثاني هو المقصود هنا بالتفصيل. أما الأول فيعلم من النحو. 4 حال من العبث. والحذف هنا لدلالة القرينة عليه وقيل أن ذكره يكون عبثًا نظرًا إلى ظاهر القرينة وأما في الحقيقة فيجوز أن يتعلق به غرض مثل التبرك والاستلذاذ والتنبيه على غباوة السامع ونحو ذلك. 5 أي تخييل المتكلم للسامع أي أن يوقع المتكلم في خيال السامع وفي وهمه أنه عدل إلى أقوى الدليلين -دليل اللفظ ودليل العقل- وأقواهما هو دليل العقل لافتقار اللفظ إليه. وإنما قال تخييل؛ لأن الدال حقيقة عند الحذف أيضًا هو اللفظ المقدر المدلول عليه بالقرائن. وفي الكامل للمبرد ما نصه: يحذف لعلم السامع بما يريد مثل "الهلال والله" أي هذا الهلال، والحذف فيه؛ لأن الذكر مع علم السامع بالمحذوف عبث.

تعويلًا على شهادة اللفظ من حيث الظاهر، وكم بين الشهادتين؟ وإما لاختيار تتنبه السامع له عند القرينة أو مقدار تنبهه1. وإما لإيهام أن في تركه تطهيرًا له عن لسانك، أو تطهيرًا فللسانك عنه. وإما ليكون لك سبيل إلى الإنكار إن مست إليه حاجة2. وإما؛ لأن الخبر لا يصلح إلا له حقيقة3 أو ادعاء. وإما لاعتبار آخر مناسب لا يهدي إلى مثله إلا العقل السليم والطبع المستقيم4 كقول الشاعر: قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل ... سهر دائم وحزن5 طويل

_ 1 هل يتنبه بالقرائن الخفية أو لا. والقرائن عند الحذف قد تكون واضحة وقد تكون خفية. 2 كقولك فاسق فاجر عند قيام القرينة على أن المراد زيد ليتأتى لك أن تقول ما أردت زيدًا بل غيره. 3 مثل: خالق لما يشاء. وهذا نص كلام المفتاح ص76. ومثال ما لا يصلح الخبر إلا له ادعاء قولك: "وهاب الألوف" أي الأمير. 4 ومرد ذلك إلى ذوق البليغ، ومنه ضيق المقام عن إطالة الكلام بسبب ضجر أو سآمة أو فوات فرصة أو محافظة على وزن أو سجع أو قافية أو ما أشبه ذلك كقول الصياد: "غزال" فإن المقام لا يسع أن يقال: هذا غزال فاصطادوه. وكالإخفاء عن غير السامع من الحاضرين مثل "جاء". ومنه قولهم بعد أن يذكروا الممدوح: "فتى من شأنه كذا وكذا"، وبعد أن يذكروا الديار والمنازل "ربع كذا وكذا". 5 مثال للاحتراز عن العبث مع تخييل العدول إلى أقوى الدليلين والبيت سيأتي شاهدًا على شبه كمال الاتصال. وتجده في دلائل الإعجاز ص184.

وقوله1: سأشكر عمرًا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا للنعل زلت وقوله: أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه نجوم سماء كلما انقض كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه2 وقول بعض العرب3 في ابن عم له موسر، سأله فمنعه وقال: لو أعطيك مالي وأنت تنفقه فيما لا يعنيك؟ والله لا أعطيتك، فتركه حتى اجتمع القوم في ناديهم، وهو فيهم، فشكاه إلى القوم وذمه، فوثب إليه ابن عمه فلطمه فأنشأ يقول:

_ 1 ينسبان في معجم الشعراء لمحمد بن سعيد الكاتب وهو عربي بغدادي وفي ابن السبكي أنهما لأبي الأسود الدؤلي في عمرو بن سعيد بن العاص. وفي شرح الحماسة نسبتهما لعمرو بن كميل في عمرو بن ذكوان. وينسبان لابراهيم بن العباس الصولي الكاتب، ولعبد الله بن الزبير أيضًا في مدح عمرو بن عثمان بن عفان. وهما شاهدان أيضًا على لزوم ما لا يلزم في التوافي، وهما في ص114 من الدلائل والشاهد حذف المسند إليه من صدر البيت الثاني أي "هو فتى" وذلك لتعيينه ادعاء، وبعدهما: رأى خلتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلت 2 البيتان لأبي الطمحان القيني، ونسبهما ابن قتيبة للقيط بن زرارة ص272 معجم الشعراء، وهما في المفتاح ص77 والشاهد حذف المسند إليه من صدر البيت الثاني أي "هم نجوم سماء"، لصون المسند إليه عن لسان المادح أو لادعاء تعينه وهو الأول، والجزاع خرز فيه بياض وسواد تشبه به العيون. 3 هو الأقيشر.

سريع إلى ابن العم يلطم وجهه ... وليس إلى داعي الندى بسريع حريص على الدنيا مضيع لدينه ... وليس لما في بيته بمضيع1 وعليه قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْي} وقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ، نَارٌ حَامِيَةٌ} . وقيام القرينة شرط في الجميع.

_ 1 نسبهما الدسوقي للمغيرة بن عبد الله والصحيح أنهما للأقيشر وهو شاعر كان مغرمًا بالشراب وله شعر فيه، وتجد البيتين في الدلائل ص116 وفي المفتاح ص77، والشاهد فيهما حذف المسند إليه لما سبق ذكره.

ذكر المسند إليه

ذكر المسند إليه: وأما ذكره: فإما؛ لأنه الأصل1 ولا مقتضي للحذف. وإما للاحتياط لضعف التعويل2 على القرينة. وإما للتنبيه على غباوة السامع. وإما لزيادة الإيضاح والتقرير3. وإما لإظهار تعظيمه4، أو إهانته5، كما في بعض الأسماء المحمودة أو المذمومة. وإما للتبرك بذكره6. وإما لاستلذاذه 7.

_ 1 أي الكثير أو ما ينبني عليه غيره. 2 أي الاعتماد. 3 وعليه قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} . 4 لكون اسمه مما يدل على التعظيم نحو "أمير المؤمنين حاضر". 5 أي إهانة المسند إليه لكون اسمه مما يدل على الإهانة مثل السارق اللئيم حاضر. 6 مثل: النبي عليه السلام قائل هذا القول. 7 مثل: الحبيب الحاضر.

وأما لبسط الكلام حيث الإصغاء مطلوب1، كقوله تعالى "حكاية عن موسى عليه السلام "هي عصاي"، ولهذا زاد على الجواب. وإما لنحو ذلك2. قال السكاكي: "وإما لكون الخبر عام النسبة إلي كل مسند إليه والمراد تخصيصه بمعنى كقولك "زيد جاء وعمرو ذهب وخالد في الدار". وقوله: الله أنجح ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرحل3 وقوله: النفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع4 وفيه5 نظر؛ لأنه إن قامت قرينة تدل عليه إن حذف، فعموم.

_ 1 أي في مقام يكون إصغاء السامع مطلوبًا للمتكلم لعظمة السامع وشرفه، ولهذا يطال الكلام مع الأحباء. 2 كالتهويل مثال أمير المؤمنين يأمرك بكذا، وكالتعجب مثل: صبي قاوم الأسد وكالإشهاد في قضية والتسجيل على السامع حتى لا يكون له سبيل إلى الإنكار. والمدار على الذوق فما عده مقتضيًا لخصوصية عمل به، فنكات الذكر والحذف إلخ إنما مدارها على الذوق وإن لم يذكرها البلاغيون. 3 يوجد في شعر امرئ القيس زعيم الشعراء الجاهليين، والصحيح أنه لامرئ القيس بن عابس الكندي الصحابي. 4 هو لأبي ذؤيب الهذلي من مرثيته المشهورة لأبنائه. 5 أي في كلام السكاكي المذكور - راجع ص77 المفتاح.

الخبر وإرادة تخصصه بمعين وحدهما لا يقتضيان ذكره1، وإلا فيكون ذكره واجبًا2.

_ 1 أي بل لا بد أن ينضم إليهما أمر ثالث كالتبرك والاستلذاذ ونحو ذلك ليترجح الذكر على الحذف. 2 لانتفاء شروط الحذف لاقتضائه عموم النسبة وإرادة التخصيص. وجواب الاعتراض: أن عموم النسبة وإرادة التخصيص تفصيل لانتفاء قرينة الحذف وتحقيق له.

تعريف المسند إليه

تعريف المسند إليه 1: وأما تعريفه: فلتكون الفائدة أتم؛ لأن احتمال تحقق الحكم متى كان أبعد كانت الفائدة في الأعلام2 به أقوى، ومتى كان أقرب كانت أضعف، وبعده3 بحسب تخصيص المسند إليه والمسند، كما ازدادا4 تخصيصًا ازداد الحكم بعدها وكلما ازداد عمومًا ازداد الحكم قربًا، وإن شئت فاعتبر حال الحكم في قولنا "شيء ما موجود" وفي قولنا "فلان بن فلان يحفظ الكتاب"، والتخصيص كماله بالتعريف5.. ثم التعريف مختلف:

_ 1 أي إيراد المسند إليه معرفة. وقدم هنا التعريف؛ لأنه الأصل -لأن المقصود الحكم على شيء معين عند السامع-، وفي المسند التنكير؛ لأن المقصود ثبوت مفهومه لشيء وأما التعريف فأمر زائد على المقصود يحتاج لداع. 2 أي في الإخبار به. 3 أي بعد تحقق الحكم. 4 أي المسند إليه والمسند. 5 أي فأفادته فائدة تقتضى أتم تخصيص وهو التعريف؛ لأنه كمال التخصيص، والنكرة وإن أمكن أن تخصص بالوصف بحيث لا يشاركها فيه غيره كقولك "أعبد إلهًا خلق السماء والأرض" و"لقيت رجلًا سلم عليك اليوم وحده قبل كل أحد" لكنه لا يكون في قوة تخصيص المعرفة؛ لأنه وضعي بخلاف تخصيص النكرة.

تعريفه بالإضماء

تعريفه بالإضماء ... فإن كان بالإضمار: فإما؛ لأن المقام مقام التكلم، كقول بشار: أنا المرعث لا أخفى على أحد ... ذرت بي الشمس للقاصي وللداني1 وإما؛ لأن المقام للخطاب، كقوله2 الحماسية: وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني ... وأشمت بي من كان فيك يلوم وإما؛ لأن المقام مقام الغيبة، لكون المسند إليه مذكور أو في حكم المذكور لقرينة كقوله3: من البيض الوجوه، بني سنان ... لو أنك تستضيء بهم أضاءوا هم حلوا من الشرف المعلى ... ومن حسب العشيرة حيث شاءوا وقوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، أي العدل4.

_ 1 المرعث: المقرط، وكان يلقب بذلك لرعثة كانت له في صغره، والرعثة القرط، ذرت: طلعت: كناية عن شهرته، ومثل البيت قول المتنبي: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم وقول الكميت: أنا الذي يجدوني في صدورهم ... لا أرتقي صدرًا منها ولا أرد 2 هي أمامة ترد على ابن الدمينة، وتجد البيت في المفتاح ص78. 3 البيتان لأبي البرج المري في زفر بن سنان، وبعدهما: بناة مكارم وأساة كلم ... دماؤهم من الكلب الشفاء والشاهد: تعريف المسند إليه بضمير الغيبة لتقدم ذكره لفظًا تحقيقًا. ومثله زيد جاء وهو يضحك. 4 التعبير بالمسند إليه ضمير غيبة لتقدم ذكره: لفظًا: حقيقة مثل حضر التلميذ وهو يبتسم، أو تقديرًا مثل: في داره زيد، وضرب غلامه زيد. أو معنى: لدلالة لفظ عليه مثل: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، أو دلالة قرينة حال مثل "فلهن ثلثا ما ترك" أي الميت؛ لأن الكلام في الإرث. أو حكمًا مثل ربه فتى.

وقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} ، أي ولأبوي الميت. وأصل الخطاب أن يكون لمعين1، وقد يترك إلي غير معين2 كما تقول: "فلان لئيم: إن أكرمته أهانك وإن أحسنت إليه أساء إليك"، فلا تريد مخاطبًا بعينه، بل تريد إن أكرم أو أحسن إليه"، تخرجه في صورة الخطاب ليفيد العموم، أي سوء معاملته غير مختص بواحد دون واحد. وهو في القرآن كثير، كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ، أخرج في صورة الخطاب لما أريد العموم، للقصد إلى تفظيع حالهم وأنها تناهت في الظهور حتى امتنع خفاؤها، فلا تختص بها رؤية راء. بل كل يتأتى منه الرؤية داخل في هذا الخطاب.

_ 1 أي واحدا كان أو أكثر؛ لأن وضع المعارف على أن تستعمل لمعين مع أن الخطاب هو توجيه الكلام إلى حاضر. 2 وذلك على طريق المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق، وقيل أن ترك الخطاب لذلك من الإخراج على خلاف مقتضى الظاهر، إذ هو على التحقيق من وضع المضمر موضع المظهر، فقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى} الظاهر فيه "ولو يرى كل أحد".

تعريفه بالعلمية

تعريفه بالعلمية ... وإن كان بالعلمية 1: فإما لإحضاره بعينه في ذهن السامع ابتداء باسم مختص2 به، كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} وقول الشاعر: أبو مالك قاصر ففره ... على نفسه، ومشيع غناه3 وقوله: الله يعلم أني ما تركت قتالهم ... حتى علوا فرسي بأشقر مزبد4 وإما لتعظيمه. أو لإهانته، كما في الكنى والألقاب المحمودة والمذمومة5.

_ 1 أي تعريف المسند إليه بإيراده علمًا وهو ما وضع لشيء مع جميع مشخصاته، والعلم موضوع للشيء -وهو الذات مثلًا- ولمشخصاته فهي جزء من الموضوع له، والمراد بها العوارض اللازم للذات من حيث هي ذات وهي التي لا تقوم الذات بدونها. 2 أي لإحضار المسند إليه بعينه وشخصه بحيث يكون متميزًا عن جميع ما عداه، واحترز بهذا عن إحضاره باسم جنسه نحو رجل عالم جاءني، فقد أحضر باسم جنسه وهو "رجل" وإما "عالم: فقد جيء بها لصحة الابتداء بالنكرة وقوله ابتداء أي لأول مرة واحترز به عن نحو جاءني زيد وهو راكب، وقوله باسم مختص به أي بالمسند إليه بحيث لا يطلق باعتبار هذا الوضع على غيره وإن صح إطلاقه على غيره بوضع آخر كالأعلام المشتركة، واحترز به عن إحضاره بضمير المتكلم أو المخاطب والإشارة والموصول والمعرف بلام العهد الخارجي وبالإضافة. ومعنى الإحضار هنا الالتفات والتوجه ... وهذه القيود لتحقيق العلمية وهي ثلاثة قيود: إحضاره بعينه وكونه ابتداء وكونه باسم مختص به. وإلا فالقيد الأخير مغن عما سبق؛ لأنه متى أحضر باسم مختص به كان ذلك الإحضار له بعينه ابتداء. 3 هو للمتنخل الهذلي. 4 هو للحارث بن هشام يعتذر به عن فراره يوم بدر. 5 مثل ركب على، وهرب معاوية، فالأول مأخوذ من العلو، والثاني من العو وهو صريخ الذئب.

وأما للكناية حيث الاسم صالح لها، ومما ورد صالحًا للكناية من غير باب المسند إليه قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} ، أي جهنمي1.

_ 1 أي يؤتى بالمسند إليه علمًا للكناية عن معنى يصلح العلم له -أي لذلك المعنى بحسب معناه الأصلى قبل العلمية- نحو "أبو لهب فعل كذا" كناية عن كونه جهنميا، فأبو لهب بحسب الأصل مركب إضافي معناه ملابس اللهب أي النار ملابسة شديدة ومن لوازم ذلك كونه جهنميًّا فأطلق وأريد هذا اللازم فيكون انتقالًا من الملزوم إلى اللازم باعتبار الوضع الأول وهذا الانتقال من المعنى الموضوع له أولًا وإن لم يكن هو المستعمل فيه اللفظ إلى لازمه كاف في الكناية ولا يتوقف على إرادة لازم ما استعمل فيه اللفظ.. وقيل إن الكناية هنا كما يقال: حاتم ويراد به لازم معناه بأن يستعمل اللفظ ابتداء في ذلك اللازم الذي اشتهر اتصاف معناه به الجواد لا الشخص المسمى بحاتم، ويقال رأينا "أبا لهب" لينقل منه إلى الملزوم وهو الشخص الكافر المعلوم، فالكناية على هذا بالنظر للوضع الثانوي وهو العلمي. فعلى القول الأول اللفظ مستعمل في معناه الأصلية لينتقل منه للازم معناه. وإما على القول الثاني فاللفظ لم يستعمل في المعنى الأصلي ولا في المعنى الثانوي وهو الذات المعينة وإنما استعمل في لازمهما ابتداء، فحاتم قد استعمل ابتداء في الجود اللازم للإنسان المعروف وهو الطائي لينتقل منه إلى كونه جوادًا.. ويرد على القول الثاني أنه لو كان كذلك يكون حيئنذ استعمل لا كناية؛ لأنه قد استعمل لفظ حاتم في غير ما وضع له وهو رجل آخر جواد للمشابهة، وإن كان لعلاقة غيرها كالإطلاق والتقييد كان مجازًا مرسلًا، كما يرد عليه أنه لو كان المراد ما ذكره لكان قولنا فعل هذا الرجل كذا مشيرًا إلى كافر -والقصد إن الفعل صدر من غيره- وقولنا: أبو جهل فعل كذا مشيرًا إلى كافر لا يمسي أبا جهل، كناية عن الجهنمي، ولم يقل به أحد، ومما يدل على فساد ذلك أيضًا أن صاحب المفتاح وغيره مثلوا لهذه الكناية بقوله تعالى: تبت يدا أبي لهب، ولا شك أن المراد به الشخص المسمى بأبي لهب لا كافر آخر، وحيث كان كذلك لم يكن كناية عن الجهنمي إلا على القول الأول، إذ على الثاني لا يكون كناية عنه إلا إذا كان المراد شخصًا غير المسمى بأبي لهب ... هذا والكناية هي عند المصنف استعمال اللفظ في معناه ابتداء لينتقل منه للازمه، وهي عند السكاكي استعمال اللفظ في لازم معناه لينتقل منه إلى الملزوم الذي هو معنى اللفظ الموضوع له.

وإما لايهام استلذاذه أو التبرك به1. وإما لاعتبار آخر مناسب2.

_ 1 مثال الاستلذاذ: بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر ومثال التبرك به: الله الهادي ومحمد الشفيع. 2 كالتفاؤل مثل سعد عندي، والتطير مثل غراب في الدار، والتسجيل على السامع، أو التنبيه على غباوته إلى آخر تلك الاعتبارات.

تعريفه بالموصلية

تعريفه بالموصلية ... وإن كان بالمصولية 1: فإما لعدم علم المخاطب بالأحوال المختصة به سوى الصلة، كقولك "الذي كان معنا أمس رجل عالم". وإما لاستهجان التصريح بالاسم2. وإما لزيادة التقرير3، نحو قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ التِيْ هُوَ فِيْ بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} 4 فإنه مسوق لتنزيه يوسف عليه السلام عن

_ 1 أي تعريف المسند إليه بإيراده اسمًا موصولًا. 2 مثل الذي يخرج من أحد السبيلين ناقض الوضوء. 3 أي تقرير الغرض المسوق له الكلام. وقيل تقرير المسند. وقيل تقرير المسند إليه. 4 راودته أي يوسف عليه السلام والمراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب، وكان المعنى خادعته عن نفسه وفعلت فعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده، فيحتال عليه أن يغلبه ويأخذ منه. والمسند إليه هو قوله "التي هو في بيتها" متعلق براودته فالغرض المسوق له الكلام نزاهة يوسف وعفافه والمذكور أدل عليه من امرأة العزيز أو زليخا؛ لأنه إذا كان في بيتها وتمكن من نيل المراد منها ولم يفعل كان غاية في النزاهة.. وقيل هو تقرير للمسند وهو المراودة، لما فيه من فرط الاختلاط.. وقيل هو تقرير للمسند إليه لإمكان وقوع الإبهام والاشتراك في امرأة العزيز أو زليخا.

الفحشاء والمذكور أدل عليه من امرأة العزيز وغيره. وإما للتفخيم، كقوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} 1. وقول الشاعر: مضى بها ما مضى من عقل شاربها ... وفي الزجاجة باق يطلب الباقي2 ومنه في غير هذا الباب قوله تعالى: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} ، وبيت الحماسة: صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل: ابعد3 وقول أبي نواس4: ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم ... وأسمت سرح اللحظ حيث أساموا وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه ... فإذا عصارة كل ذاك أثام وإما لتنبيه المخاطب على خطأ5، كقول الآخر6: إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا

_ 1 فإن في هذا الإيهام من التفخيم والتعظيم والتهويل ما لا يخفى. 2 البيت لأبي نواس. والضمير للخمر، ويطلب الباقي أي من عقله، وقوله "بها" أي معها.. وينسب لعبد الله من العباس الربيعي. 3 البيت لدريد بن الصمة، من أبيات يرثي بها أخاه عبد الله. 4 نهز بالدلو في البئر: ضرب بها في الماء لتمتلئ. أسام الماشية: أخرجها إلى المرعى، وإضافة سرح إلى اللحظ من إضافة الصفة إلى الموصوف يعني اللحظ السارح ويقال: سرحت الماشية إذا ذهبت ترعى. والبيتان في المثل السائر ص175. 5 سواء كان خطأ المخاطب أم خطأ غيره. 6 هو عبدة بن الطبيب، ويقول السبكي: نسبة ابن المعتز لجرير وأنشده: إن الذين ترونهم خلانكم ... يشفي صداع رؤوسكم أن تصرعوا ترونهم: تظنونهم. تصرعوا: تهلكوا وتصابوا بالحوادث. ففي البيت من التنبيه على خطئهم في هذا الظن ما ليس في قولك إن فلانًا وفلانًا.

وإما للإيماء إلي وجه بناء الخبر1، نحو {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 2. ثم إنه3 ربما جعل ذريعة إلى التعريض بالتعظيم لشأن الخبر، كقوله: إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتًا دعائمه أعز وأطول4

_ 1 أي الإشارة بصلة الموصول إلي نوع الخبر. يعني تأتي بالموصول والصلة للإشارة إلى أن بناء الخبر عليه من أي وجه وأي طريق من الثواب والعقاب والمدح والذم وغير ذلك. 2 أي صاغرين -ففي إيماء إلى أن الخبر المبني عليه أمر من جنس العقاب والإذلال وهو قوله: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين} هذا و"الوجه" في كلام المصنف بمعنى الطريقة، تقول عملت هذا العمل على وجه عملك أي على طريقته وقد فسر الخلخالي تبعًا للشيرازي الوجه بالعلة والسبب، وهو خطأ؛ لأن الإشارة إلى العلة لا تطرد في جميع الأمثلة، بل هو ظاهر في الآيتين ومشكل في البيتين، وقد يقال: ما ذكره الشارح "السعد" من خطأ التفسير المذكور إنما يتم لو كان هذا القائل رجع الضمير في قوله "ثم إنه ربما" إلى الايماء. وهو إنما رجعه إلى جعل المسند إليه موصولًا، وحينئذ فلا تخطئه. 3 أي الإيماء إلى وجه بناء الخبر أو جعل المسند إليه موصولًا كما سبق بيان احتمال ذلك. والصحيح أن الضمير يعود إلى الإيماء إلى وجه بناء الخبر. 4 هو الفرزدق. سمك: رفع. وهو يفتخر على جرير ببيته في تميم. وأراد بالبيت بيت الشرف والمجد. ففي قوله: "إن الذي سمك السماء" إيماء إلى أن الخبر المبني عليه أمر من جنس الرفعة والبناء عند من له ذوق سليم، ثم فيه تعريض بتعظيم بناء بيته لكونه فعل من رفع السماء التي لا بناء أعظم منها وأرفع.

أو لشأن غيره1 نحو: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِين} . قال السكاكي: وربما جعل ذريعة إلى تحقيق الخبر2، كقوله: إن التي ضربت بيتًا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول3 وربما جعل ذريعة إلى التنبيه للمخاطب على خطأ كقوله: إن الذين ترونهم -البيت. وفيه نظر، إذ لا يظهر بين الإيماء إلى وجه بناء الخبر وتحقيق الخبر فرق، فكيف يجعل الأول ذريعة إلى الثاني؟، والمسند إليه في البيت الثاني4 ليس فيه إيماء إلى وجه بناء الخبر عليه بل لا يبعد

_ 1 أي لا يجعل ذريعة إلى تعظيم شأن غير الخبر. وفي الآية إيماء إلى أن الخبر المبني على الموصول مما ينبئ عن الخيبة والخسران، وتعظيم لشأن شعيب عليه السلام، وربما يجعل ذريعة إلى الإهانة لشأن الخبر نحو إن الذي لا يحسن معرفة الفقه قد ألف فيه، أو غيره نحو أن الذي يتبع الشيطان خاسر فالموصول فيه إيماء إلى نوع الخبر المبني عليه، وفي ذلك الإيماء تعريض بحقارة الشيطان. 2 أي يجعل الإيماء إلى وجه بناء الخبر ذريعة إلى تحقيق الخبر أي جعله محققًا ثابتًا، والمحقق له في الحقيقة إنما هو الصلة التي حصل بها الإيماء لا نفس الإيماء. 3 البيت لعبدة بن الطبيب.. فإن في ضرب البيت بكوفة الجند والمهاجرة إليها إيماء إلى أن طريق بناء الخبر مما ينبئ عن زوال المحبة وانقطاع المودة ثم إنه يحقق زوال المودة ويقرره حتى كأنه برهان عليه، وهذا معنى تحقيق الخبر وهو مفقود في مثل "إن الذي سمك السماء" إذ ليس في رفع الله السماء تحقيق وتثبيت لبنائه لهم بيتًا، فظهر الفرق بين الإيماء وتحقيق الخبر. 4 وهو "إن الذين ترونهم إلخ".

أن يكون فيه إيماء إلى بناء نقيضه عليه1.

_ 1 قال السعد في المطول: وجواب هذا الاعتراض أن العرف والذوق شاهدا صدق على أنك إذا قلت عند ذكر جماعة يعتقدهم المخاطبون إخوانًا خلصا "إن الذين تظنونهم إخوانكم" كان فيه إيماء إلى أن الخبر المبني عليه أمر ينافي الأخوة ويباين المحبة.

تعريفه بالإشارة

تعريفه بالإشارة ... وإن كان بالإشارة: فإما لتمييزه أكمل تمييز1 لصحة إحضاره في ذهن السامع بوساطة الإشارة حسًّا، كقوله: هذا أبو الصقر فردًا في محاسنه ... "من نسل شيبان بن الضال والسلم"2 وقوله "أي الحطيئة": أولئك قوم إن بنوا أحسنوا إلينا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا وقوله3: وإذا تأمل شخص ضيف مقبل ... متسربل سربال ليل أغبر أومأ إلى الكوماء: هذا طارق ... نحرتني الأعداء إن لم تنحري

_ 1 أي تعريف المسند إليه بإيراده اسم إشارة لتمييز المسند إليه أكمل تمييز لغرض من الأغراض كالمدح وغيره. 2 البيت لابن الرومي يمدح أبا الصقر وزير المعتمد. والضال: جمع ضالة وهو شجر السدر البري. والسلم جمع سلمة وهو شجر ذو شوك من شجر البادية. "وفردا" نصب على المدح أو الحال من الخبر، يعني أن قومه مقيمون بالبادية؛ لأن فقد العز في الحضر. 3 الكوماء: الناقة العظيمة الضخمة، وقيل أن الأبيات في مدح حاتم الطائي. وينسبان لابن المولى وهو شاعر من مخضرمي الدولتين.

وقوله1: ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثي له أحد وإما للقصد إلى أن السامع غبي لا يتميز الشيء عنده إلا بالحس كقول الفرزدق: أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع وإما لبيان حاله2 في القرب أو البعد أو التوسط، كقولك: هذا زيد وذاك عمرو وذاك بشر. وربما جعل القرب ذريعة إلى التحقير كقوله تعالى: {وإذَا رآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إن يَتَّخِذُونَكَ إلَّا هُزُوًا أهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} ، [الأنبياء: 36] ، وقوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} ، [العنكبوت: 64] ، وعليه من غير هذا الباب قوله تعالى: {مَاذَا أرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} ؟، [البقرة: 26] ، وقول عائشة -رضي الله عنها- لعبد الله بن عمرو بن العاص: يا عجبًا لابن عمرو هذا، وقول الشاعر3:

_ 1 هما للمتلمس خال طرفة. وهما من شواهد التقسيم في باب البديع كما سيأتي. والعير بفتح العين: الحمار. الرمة: القطعة من الحبل البالي، يشج: يكسر. الضيم: المذلة والهوان. 2 أي حال المسند إليه. وأمثال هذه المباحث تنظر فيها اللغة من حيث إنها تبين أن هذا مثال للقريب وذاك للمتوسط وذلك للبعيد، ويبحث عنها علم المعاني من حيث إنه إذا أريد بيان قرب المسند إليه المذكور المعبر عنه بشيء يوجب تصوره على أي وجه كان.. ويقول عبد القاهر: علم البلاغة هو على الجملة بحيث ينتفي لك من علم الأعراب خالصة ولبه "ص34 من الدلائل". 3 هو للهذلول العنبري. ونسبة المبرد في كامله "22 جـ1" إلى أبي مسلم الشيباني رأت المشاعر امرأته وهو يطحن بالرحا لأضيافه فأنكرت عليه. والمتقاعس الذي يدخل ظهره ويخرج صدره ضد الأحدب.

تقول ودقت نحرها بيمينها ... أبعلي هذا بالرحا المتقاعس؟ وربما جعل البعد ذريعة إلى التعظيم كقوله تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1-2] ذهابًا إلى بعد درجته، ونحوه: {وَتِلْكَ الجَنَّةُ التِيْ أُوْرِثْتُمُوْهَا} ، ولذا قالت: فذلكن الذي لمتنني فيه، لم تقل "فهذا" -وهو حاضر- رفعا لمنزلته في الحسن وتمهيدًا للعذر في الافتتان به. وقد يجعل1 ذريعة إلى التحقير كما يقال: ذلك اللعين فعل كذا. وإما للتنبيه -إذا ذكر قبل المسند إليه مذكور وعقب بأوصاف- على أن ما يرد بعد اسم الإشارة فالمذكور جدير باكتسابه من أجل تلك الأوصاف، كقول حاتم الطائي2: ولله صعلوك يساور همه ... ويمضي علي الأحداث والدهر مقدما فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة ... ولا شبعه إن نالها عد مغنما إذا ما رأى يومًا مكارم أعرضت ... تيمم كبراهن ثمت صمما يرى رمحه ونبله ومجنه ... وذا شطب عضب الضريبة مخذما وأحناء سرج قاتر ولجامه ... عتاد أخي هيجا وطرفا مسوما فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه ... وإن عاش لم يقعد ضعيفًا مذمما

_ 1 أي البعد. هذا وقد بقي من الأقسام القسم الرابع وهو أن يقصد من القرب التعظيم بأن ينزل قربه من ساحة الحضور والخطاب منزلة قرب المسافة فيعبر عنه بهذا كقوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} . 2 الصعلوك: الفقير. يساور: يغالب. الهم. الحزن أو الأمل والغاية. الطلبات بكسر اللام جمع طلبة بالكسر أيضًا وهي ما يطلبه الإنسان. الخمص: الجوع. ترحة: شقاء. المغنم: الغنيمة. تيمم: قصد، ثمت أي ثم. التصميم: العزم على الأمر. المجن: الترس. والشطب في السيف: الخطوط في متنه. العضب: القاطع. الضريبة: حد السيف المخذم: القاطع. أحناء السرج جمع حنو بكسر الحاء وهو اسم لكل من قربوسيه المقدم والمؤخر. القاتر: السرج الجيد الواقع على الظهر، العتاد: ما تعده لأمر من الأمور. الهيجا: الحرب. الطرف بكسر الطاء: الجواد الكريم الأصل. المسوم: من سام الخيل أرسلها للرعي أو للإغارة.

فعدد له كما ترى خصالًا فاضلة من المضاء على الأحداث مقدمًا، والصبر على ألم الجوع، والأنفة من أن يعد الشبعة مغنمًا، وينمم كبرى المكرمات، والتأهب للحرب بأدواتها، ثم عقب ذلك بقوله "فذلك" فأفاد أنه جدير بإنصافه بما ذكر بعده. وكذا قوله تعالى: {أولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وأولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [لقمان: 5] ، أفاد اسم الإشارة زيادة الدلالة على المقصود من اختصاص المذكورين قبله باستحقاق الهدى من ربهم والفلاح1. وإما لاعتبار آخر مناسب2.

_ 1 فقد عقب المشار إليه وهو "الذين يؤمنون" بأوصاف متعددة من الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وغير ذلك ثم عرف المسند إليه بالإشارة تنبيهًا على أن المشار إليهم أحقاء بما يرد بعد "أولئك" وهو كونهم على الهدى عاجلًا والفوز بالفلاح آجلًا من أجل اتصافهم بالأوصاف المذكورة. 2 مثل تنزيل المعقول منزلة المحسوس نحو: {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا} ، و"ذلك هو النبل والشرف". ومثل تنزيل الغائب منزلة الحاضر، ومثل الاعتبارات التي ستأتي في وضع اسم الإشارة المظهر موضع المضمر.

تعريفه بالام

تعريفه بالام ... وإن كان باللام 1:

_ 1 أي تعريف المسند إليه باللام، وقيل المعرف هو "ال".... هذا ولام التعريف على قسمين: 1- لام العهد الخارجي وتحتها أقسام ثلاثة: صريح بأن تقدم له ذكر صراحة -وكنائي بأن تقدم له ذكر كناية- وعلمي بأن لم يتقدم له ذكر أصلًا لكنه معلوم عند الخاطب سواء كان حاضرًا أو لا، ويسميها النحويون إذا كان مدخولها معلومًا حاضرًا لام العهد الحضوري، وإن كان غير حاضر لام العهد الذهني. 2- لام الحقيقة وتشمل أربعة أقسام: لام الحقيقة من حيث هي وتسمى بلام الجنس - ولام العهد الذهني - ولام الاستغراق الحقيقي - ولام الاستغراق العرفي.. فإن أشير بها للحقيقة من حيث هي فهي لام الحقيقة أو الجنس، وإن أشير بها إلى الحقيقة في ضمن فرد مبهم فهي لام العهد الذهني، وإن أشير بها إلى الحقيقة في ضمن جميع الأفراد فهي للاستغراق. فأقسام اللام سبعة. وقيل لام الحقيقة أصل ولام العهد الخارجي أصل آخر، وقيل الأصل لام العهد الخارجي، وقيل لام الاستغراق، وقيل الجميع أصول.

فإما للإشارة إلى معهود بينك وبين مخاطبك1، كما إذا قال لك قائل: جاءني رجل من قبيلة كذا، فتقول.. ما فعل الرجل؟، وعليه قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} ، أي وليس الذكر الذي طلبت2 كالأنثى التي وهبت لها.

_ 1 أي للإشارة إلى حصة من الحقيقة معهودة بين المتكلم والمخاطب واحدًا كان أو اثنين أو جماعة. يقال: عهدت فلانًا إذا أدركته ولقيته، وذلك لتقدم ذكره صريحًا أو كناية.. فهي للدلالة على معين في الخارج وإما الحقيقة فهي معينة في الذهن. 2 أي الذي طلبته امرأة عمران، فالأنثى إشارة إلى ما تقدم ذكره صريحًا في قوله تعالى: {قَالَتْ رِبِ إَنِّيْ وَضَعْتُهَا أُنْثَى} لكنه ليس بمسند إليه، والذكر إشارة إلى ما سبق ذكره كناية في قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} فإن لفظ "ما" وإن كان يعم الذكور والإناث لكن التحرير وهو أن يعتق الولد لخدمة بيت المقدس إنما كان للذكور دون الإناث وهو المسند إليه. هذا وقد يستغنى عن ذكره صريحًا أو كناية، وذلك لتقدم علم المخاطب به بالقرينة سواء كان حاضرًا أم لا نحو خرج الأمير إذا لم يكن في البلد إلا أمير واحد. فالعهد الحضوري والعلمي من أقسام العهد الخارجي لتحقق المشار إليه باللام خارجًا.

وإما لإرادة نفس الحقيقة1 كقولك: الرجل خير من المرأة، والدينار خير من الدرهم، ومنه قول أبي العلاء المعري: والخل كا لماء: يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء، ويخفيها مع الكدر وعليه من غير هذا الباب قوله تعالي: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَي} ، أي جعلنا مبدأ كل شيء حي هذا الجنس الذي هو الماء، روي أنه تعالى خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء والجن من نار خلقها منه، وآدم من تراب خلقه منه.. ونحوه: {أولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام: 89] . والمعرف باللام2 قد يأتي لواحد باعتبار عهديته في الذهن لمطابقته

_ 1 ليس المراد من الحقيقة الماهية الموجودة في الخارج بل مفهوم المسمى من غير اعتبار لما صدق عليه ذلك المفهوم من الأفراد. ومن ذلك: اللام الداخلة على المعرفات نحو: الكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد؛ لأن التعريف للماهية، واللام الداخلة على القضية الطبيعية نحو: الحيوان جنس.. وهنا نظر؛ لأن لام الاستغراق ولام العهد الذهني اعتبر فيهما الأفراد مع أنهما من أقسام لام الحقيقة واعتبار الأفراد ينافي عدم اعتبارها، وأجيب بعدم ملاحظة الأفراد فيها بالنظر لذات الكلام وقطع النظر عن القرائن، وذلك صادق بأن لا تعتبر الأفراد أصلًا كما في لام الحقيقة أو تعتبر بواسطة القرائن كالعهد الذهني والاستغراق. 2 أي لام الحقيقة كما في المطول لا اللام مطلقًا، يعني مطبق اسم الجنس المعرف بلام الحقيقة الذي هو موضوع للحقيقة المتحدة في الذهن على فرد ما مبهم موجود من الحقيقة لمطابقة ذلك الواحد للحقيقة باعتبار كونه معهودًا في الذهن وجزئيًّا من جزئيات تلك الحقيقة مطابقًا إياها، وذلك عند قيام قرينة دالة على أن ليس القصد إلى نفس الحقيقة، كما في لام الحقيقة - من حيث هي هي، بل من حيث الوجود، ولا من حيث وجودها في ضمن جميع الأفراد كما في الاستغراق بل بعض غير معين.

الحقيقة كقولك: ادخل السوق وليس بينك وبين مخاطبك سوق معهود في الخارج1 وعليه قول الشاعر2: ولقد أمر على اللئيم يسبني ... "فمضيت ثمت قلت لا يعنيني" وهذا يقرب في المعنى من النكرة3، ولذلك يقدر يسبني وصفًا للئيم لا حالًا.

_ 1 وإذا كان هناك عهد في الذهن فلو كان هناك عهد خارجي كانت أل للعهد الخارجي.. ومن أمثلة هذا النوع أيضًا: وأخاف أن يأكله الذئب. 2 هو عميرة بن جابر الحنفي. والبيت في شواهد الجملة الحالية. 3 أي المعرف بلام العهد الذهني في المعنى كالنكرة أي بعد اعتبار القرينة وأما قبل اعتبارها فليس كالنكرة إذا هو موضوع للحقيقة المعينة في الذهن. وهو من جهة اللفظ يجري عليه أحكام المعارف من وقوعه مبتدأ وذا حال ووصفًا للمعرفة وموصوفًا بها وعطف بيان من المعرفة وعكسه واسم كان ومفعولًا أول لظن. وإنما قال "كالنكرة"، لما بينهما من تفاوت ما، وهو أن النكرة مثل: ادخل سوقًا، معناها بعض غير معين من جملة أفراد الحقيقة، والمعرف بلام العهد الذهني معناه نفس الحقيقة وإنما تستفاد البعضية من القرينة كالدخول والأكل فيما مر، فالمجرد من اللام نحو "سوق" وذو اللام نحو "السوق" بالنظر إلى القرينة سواء وبالنظر إلى نفسيهما مختلفان، وهذا الفرق بناء على أن النكرة موضوعة للفرد المنتشر أما إن كانت موضوعة للماهية فالفرق أن تعين الماهية وعهديتها معتبر في مدلول المعرف بلام العهد الذهني وغير معتبر في مدلول النكرة وإن كان حاصلًا، فالفرق بينهما كالفرق بين اسم الجنس المنكر كأسد وعلم الجنس كأسامة. واعلم أن النكرة سواء كانت موضوعة للفرد المنتشر أو للمفهوم فهي لا توجد إلا في الفرد المنتشر وإنما الخلاف فيما وضعت له.. هذا ولكون المعرف بلام العهد الذهني في المعنى كالنكرة قد يعامل معاملة النكرة ويوصف بالجملة كقوله: "ولقد أمر على اللئيم يسبني".

وقد يفيد الاستغراق، وذلك إذا امتنع حمله على غير الأفراد وعلى بعضها دون بعض كقوله تعالى: {إن الْانْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 1-2] . والاستغراق ضربان: حقيقي1 كقوله تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة} أي كل غيب وشهادة.

_ 1 أشير باللام إلى الحقيقة لكن لم يقصد بها الماهية من حيث هي هي، ولا من حيث تحققها في ضمن بعض الأفراد بل في ضمن الجميع بدليل صحة الاستثناء الذي شرطه دخول المستثنى في المستثنى منه لو سكت عن ذكره، ودخوله فرع العموم الذي يدل على الاستغراق، وما ذكر شرط بالنسبة للاستثناء المتصل لا مطلقًا. فاللام التي لتعريف العهد الذهني، والتي للاستغراق، هي لام الحقيقة حملت على ما ذكرنا بحسب المقام والقرينة، ولهذا قلنا إن الضمير في قوله: "يأتي" "وقد يفيد" عائد إلى المعرف باللام المشار بها إلى الحقيقة، فالمنظور له في الكل الحقيقة دون بعض الأفراد أو كلها. وأما لام العهد الخارجي فهي قسم برأسها أصل لكل خارجي.. هذا ولا بد في لام الحقيقة من أن يقصد بها الإشارة إلى الماهية باعتبار حضورها في الذهن ليتميز اسم الجنس المعرف كالرجعي عن أسماء الأجناس النكرات كرجعي مثلًا، فالإشارة بها إلى الماهية لا باعتبار حضورها في الذهن وإن كانت حاضرة فيه ضرورة أنها موضوعة لها ولا يضع الواضع لفظًا لمعنى إلا إذا كان حاضرًا في ذهنه، وإذا اعتبر الحضور في الذهن فوجه الفرق بينها وبين المعرف بلام العهد الخارجي العلمي أن لام العهد إشارة إلى حصة معينة من الحقيقة واحدًا كان أو اثنين أو جماعة ولام الحقيقة إشارة إلى نفس الحقيقة من غير نظر إلى الأفراد هذا.. والفرق بين علم الجنس واسم الجنس المعرف أن الأول يدل على التعيين والحضور الذي هو جزء المسمى بجوهر اللفظ والثاني يدل على ذلك بالآلة. 1 وهو أن يراد كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب اللغة.

وعرفي1 كقولنا "جمع الأمير الصاغة" إذا جمع صاغة بلده أو أطراف مملكته فحسب، لا صاغة الدنيا2. واستغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع3، بدليل أنه لا يصدق "لا رجل في الدار" في نفس الجنس إذا كان فيها رجل أو رجلان، ويصدق "لا رجال في الدار4". ولا تنافي بين الاستغراق وإفراد اسم الجنس5:

_ 1 وهو أن يراد كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب متفاهم العرف. 2 قبل المثال مبني على مذهب المازني القائل أن "أل" الداخلة على اسم الفاعل واسم المفعول معرفة لا موصولة، وإلا فاللام في اسم الفاعل عند غيره موصولة. وفي نظر؛ لأن الخلاف إنما هو في اسم الفاعل والمفعول بمعنى الحدوث دون غيره، نحو: المؤمن والكافر والعالم والجاهل؛ لأنهم قالوا هذه الصفة فعل في صورة الاسم -وأل لا تدخل على الفعل- فلا بد فيه من معنى الحدوث؛ لأنه معتبر في الفعل. ولو سلم جريان الخلاف في اسم الفاعل سواء كان بمعنى الحدوث أو الثبوت فالمراد تقسيم مطلق الاستغراق سواء كان بحرف التعريف أو غيره كالإضافة والموصول فإن الموصول أيضًا مما يأتي للاستغراق نحو "أكرم الذي يأتونك إلا زيدًا" و"اضرب القائمين إلا عمرًا". 3 وكذلك من استغراق المثنى بمعنى أنه يتناول كل واحد واحد من الأفراد والمثنى إنما يتناول كل اثنين اثنين والجمع إنما يتناول كل جماعة جماعة. 4 وهذا في النكرة المنفية مسلم، وأما في المعرف باللام فليس مسلمًا؛ لأن الجمع المعرف بلام الاستغراق يتناول كل واحد من الأفراد، فيكون الجمع المعرف باللام مساويًا في الاستغراق، ولا فرق إلا في المفرد المستغرق فلا يستثني منه إلا الواحد بخلاف الجمع المستغرق فيستثني منه الواحد والمثنى والجمع. 5 لما كان ههنا مظنة اعتراض هو أن أفراد الاسم يدل على وحدة معناه والاستغراق يدل على تعدده وهما متنافيان، قال الخطيب: "ولا تنافي"، وشرح عدم المنافاة.

لأن الحرف إنما يدخل عليه مجردًا عن الدلالة على الواحدة والتعدد؛ ولأنه بمعنى كل الأفرادي لا كل المجموعي، أي معنى قولنا الرجل: "كل فرد من أفراد الرجال لا مجموع الرجال"1، ولهذا امتنع وصفه بنعت الجمع، وللمحافظة على التشاكل بين الصفة والموصوف أيضًا. فالحاصل أن المراد باسم الجنس المعرف باللام: إما نفس الحقيقة لا ما يصدق عليه من الأفراد وهو تعريف الجنس والحقيقة، ونحوه علم الجنس كأسامة. وإما فرد معين وهو العهد الخارجي، ونحوه العلم الخاص كزبد. وإما فرد غير معين وهو العهد الذهني ونحوه النكرة كرجل. وإما كل الأفراد وهو الاستغراق، ونحوه لفظ كل مضافًا إلى النكرة كقولنا: كل رجل.

_ 1 الجواب الأول بتسليم أن الوحدة تنافي التعدد والثاني يمنع تنافيهما.. وخلاصة الجواب الأول أن الحرف الدال على الاستغراق كحرف النفي ولام التعريف إنما يدخل على الاسم المفرد مجردًا عن الدلالة على معنى الوحدة والتعدد وامتناع وصفه بنعت الجمع للمحافظة على التشاكل اللفظي. والجواب الثاني يرجع إلى أن المفرد الداخل عليه حرف الاستغراق بمعنى كل فرد لا مجموع الأفراد، ولأجل كونه بمعنى كل فرد امتنع وصفه بنعت الجمع وإن حكاه الأخفش في نحو "أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض" نظرًا لكون أل للجنس ومدخولها يصدق بالجمع لتحققه.

وقد شكك السكاكي على تعريف الحقيقة والاستغراق بما خرج الجواب عنه مما ذكرنا1: ثم اختار2-بناء على ما حكاه عن بعض أئمة أصول الفقه من كون اللام موضوعة لتعريف العهد لا غير- أن المراد بتعريف الحقيقة تنزيلها منزلة المعهودة بوجه من الوجوه الخطابية، إما لكون الشيء حاضرًا في الذهن لكونه محتاجًا إليه على طريق التحقيق أو التهكم، أو لأنه عظيم الخطر معقود به الهمم على أحد الطريقين3، وإما؛ لأنه لا يغيب عن الحس على أحد الطريقين لو كان معهودًا. وقال4:

_ 1 قال السكاكي: "إن قصد به -أي بالمعرف بلام الحقيقة- الإشارة إلى الماهية من حيث هي هي لم تتميز من أسماء الأجناس التى ليست فيها دلالة على البعضية والكلية نحو رجعي وذكري والرجعي والذكري، وإن قصد به الإشارة إليها باعتبار حضورها في الذهن لم يتميز عن تعريف العهد" "ص93 من المفتاح"، وجوابه أنا لا نسلم عدم تميزه عن تعرف العهد على هذا التقدير؛ لأن النظر في العهد إلى فرد معين أو اثنين أو جماعة بخلاف الحقيقة فإن النظر فيها إلى نفس المساهمة والمفهوم باعتبار كونها حاضرة في الذهن وهذا المعنى غير معتبر في اسم الجنس النكرة، وعدم اعتبار الشيء ليس باعتبار لعدمه.. وقال السكاكي في تتمة كلامه: "وإن قصد بتعريف الحقيقة" الاستغراق لزم في اللام كونها موضوعة لغير التعريف ولزم مع ذلك أن يكون الجمع بينها وبين لفظ المفرد جمعًا بين المتنافين ... وكل ذلك على ما يرى فاسد، والأقرب -بناء على قول بعض أئمة أصول الفقه أن اللام موضوعة لتعريف العهد غير- هو أن يقال: المراد بتعريف الحقيقة أحد قسمي التعريف وهو تنزيلها منزلة المعهود بوجه من الوجوه الخطابية إلخ. 2 أي السكاكي. 3 أي التحقيق أو التهكم. 4 أي السكاكي أي أن لام الاستغراق موضوعة في أصلها للحقيقة من حيث هي فتصلح من أصلها للاستغراق ولغيره بحسب اختلاف المقامات، وهذا جواب من السكاكي عن تشكيكه في الاستغراق بعد جوابه عن تشكيكه في تعريف الحقيقة، ومبناه على إدخال لام الاستغراق في لام العهد؛ لأن الاستغراق لا يجوز أن يكون معنى اللام.. ورأيي أن رأي السكاكي في اللام أقرب إلى البلاغة وأبعد عن اصطلاحات المنطق والنحو التي لا طائل تحتها.

"الحقيقة من حيث هي هي لا واحدة ولا متعددة، لتحققها مع الوحدة تارة ومع التعدد أخرى، وإن كانت لا تنفك في الوجود عن أحدهما، فهي صالحة للتوحد والتكثر، فكون الحكم استغراقًا أو غير استغراق إلى1 مقتضى المقام: فإذا كان خطابيًّا2 مثل: "المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم" حمل المعرف باللام -مفردًا كان أو جمعًا- على الاستغراق، بعلة إيهام أن القصد إلى فرد دون آخر مع تحقق الحقيقة فيهما ترجيح لأحد المتساويين، وإذا كان استدلاليًّا حمل على أقل ما يحتمل وهو الواحد في المفرد والثلاثة في الجمع3.

_ 1 خبر "فكون"، أي راجع إلى مقتضى المقام. 2 المقام الخطابي هو الذي يكتفي فيه بالظن، والاستدلالي هو الذي يطلب فيه اليقين. 3 مثل حصل الدرهم وحصل الدراهم، فيجعل الأول على درهم واحد والثاني على ثلاثة؛ لأن هذا هو المتيقن فيهما. خلاصة للام التعريف وأقسامها: اللام المعرفة تأتي: للعهد الخارجي، والحقيقة، والعهد الذهني، والاستغراق: 1 أما لام العهد الخارجي: فهي التي يراد بمدخولها معين في الخارج فردا أو أكثر، ونوعين مدخولها أما: لتقدم ذكره صريحًا أو كناية، وأما لتقدم العلم به سواء كان حاضرًا أو غير حاضر. فالذكر الصريح مثل: {فَأَرْسَلْنَا إِلَىْ فِرْعَوْنَ رَسُوْلَاً، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُوْل} ، والكنائي مثل: {وَلَيْسَ الذَكَرُ كَالأُنْثَى} فإن الذكر لم يتقدم ذكره صريحًا بل كناية في قوله تعالى: {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} فإن ما محتمل للذكر والأنثى ولكن بانضمام قيد التحرير إليه صار مرادًا به الذكر.. ومثال التقدم العلمي وهو مشاهد حاضر أغلق الباب لداخل

.........................................................................

_ عليك، والعلمي الغير المشاهد: {إِذْ هُمَا فِيْ الغَارِ..} فالمعرف بلام العهد الخارجي نظير ضمير الغائب في وجوب تقدم مدخولها، وهو أيضًا نظير علم الشخص في الدلالة على فرد معين في الخارج. والفرق بينهما "علم الشخص والمعرف باللام هذه" أن التعيين في علم الشخص مستفاد من اللفظ وفيه من اللام. 2 ولام الحقيقة: هي التي يراد بمدخولها الحقيقة من حيث هي، أي بقطع النظر عن الأفراد وتسمى لام الجنس والطبيعة نحو الرجل خير من المرأة والإنسان حيوان ناطق ولكلمة ما دل على معنى مفرد.. والمراد من الحقيقة هنا ما يفهم من اللفظ سواء كان له تحقق في الخارج بتحقق أفراده: كما قدمنا أو في الذهن فقط نحو: العنقاء والغول. 3 ولام العهد الذهني: هي التي يراد بمدخولها الحقيقية لا من حيث هي بل باعتبار تحققها في فرد مبهم غير معين لا في الذهن ولا في الخارج، نحو أطعم المسكين صدقة الفطر فإنه ليس المراد بمدخولها الحقيقة من حيث هي؛ لأن الحقيقة لا تطعم، ولا فردًا معينًا؛ لأن الغرض أنه لا عهد ولا تعين له في الخارج ولا في الذهن، كما أنه ليس المراد الحقيقة باعتبارها في جميع الأفراد لاستحالته، بل المراد بعض من الأفراد غير معين فلفظ أطعم قرينة على إرادة الفرد المبهم. ومما ألفت نظرك إليه هنا أن المعرف باللام في هذا القسم بالنظر للقرينة مساو للنكرة في دلالة كل منهما على فرد مبهم وبالنظر إلى لفظه وقع النظر عن القرينة هو معرفة لفظًا ومعنى، أما لفظًا فلوجود اللام المعرفة وأما معنى؛ فلأنه حينئذ دال على الحقيقة في ضمن الفرد عند إرادته والحقيقة معينة، ومن ثم جاز معاملته عاملة النكرة نظرًا إلى القرينة ومعاملته معاملة المعرفة نظرًا للفظ والمعنى بقطع النظر عن القرينة، ولهذا تراهم يقولون في قول الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني. إلخ: إن جملة يسبني يجوز إعرابها حالًا نظرًا؛ لأن اللئيم معرفة، وصفة؛ لأنها نكرة نظرًا للقرينة. 4 ولام الاستغراق: هي التي يراد بها الحقيقة من حيث وجودها في جميع الأفراد،

.........................................................................

_ والاستغراق قسمان حقيقي وعرفي، فالحقيقي أن تراد الحقيقة في ضمن جميع الأفراد التي يتناولها اللفظ بحسب الوضع نحو: {إِنَ الأَبْرَارَ لَفِيْ نَعِيْمٍ} ، والعرفي أن تراد الحقيقة في ضمن جميع الأفراد التي يتناولها اللفظ بحسب العرف نحو جمع الأمير الصاغة. ولكن السكاكيش بعد أن ذكر هذه الأقسام في باب المسند إليه، قال في باب المسند: والقول بكون اللام لتعريف الحقيقة أو الاستغراق مشكل، فأورد اعتراضًا على كونها لتعريف الحقيقة واعتراضًا آخر على كونها للاستغراق، أما حاصل الاعتراض الأول فإنه قال إذا أريد بكونها لتعريف الحقيقة أنها لتعريف الحقيقة من حيث هي بقطع النظر عن حضورها في الذهن لزم أن تكون أسماء الأجناس المصادر المجردة من آل معارف نحو ذكرى ورجعى وضرب وقتل؛ لأنها موضوعة للحقيقة باتفاق، وإذالم يتميز اسم الجنس المجرد من أل عن المقترن بها يكون معرفة وكونه معرفة باطل بدليل أنه لا يصح في الاستعمال العربي وصفه بالمعرفة، فلا يقال رجع رجعي السريعة أو البطيئة، وإنما تعرضت لأسماء الأجناس المصادر دون غير المصادر نحو رجل؛ لأن الأمر هين في مثل رجل. فإنه قيل أنه وضع للفرد المنتشر بناء عليه فلا تعين في مدلوله. فإن فرق بين اسم الجنس المعرف بلام الحقيقة والمجرد منها بأن الأول موضوع للماهية باعتبار حضورها في ذهن السامع وأن التعيين فيها مقصود ملحوظ بخلاف المجرد منها فإن التعيين فيه حاصل غير مقصود، والفرق واضح بين الحاصل المقصود والحاصل من غير قصد -إن فرق بينهما بذلك كان الفرق صحيحًا ولكن يشكل الأمر من ناحية أخرى. وهي أنه لا يكون هناك حينئذ فرق بين المعرف بلام الحقيقة والمعرف بلام العهد الخارجي العلمي، فإن كلا منهما أشير به إلى معهود في الذهن.. هذا هو إشكال السكاكي بإيضاح. وقد أجاب عنه بعض الكاتبين في الفرق بين المعرف بلام الحقيقية والمعرف بلام العهد الخارجي العلمي بأن مدلول لام العهد الخارجي فرد معين في الخارج ومدلول لام الحقيقة الملحوظة ذهنًا، والفرق واضح بين المدلولين. ولكن السكاكي سلك في حل هذا الإشكال مسلكًا آخر، وأجاب عن عن هذا الاعتراض الوارد على كون اللام لتعريف الحقيقة أن اللام لتعريف

.......................................................................

_ العهد مطلقًا وتعريف الحقيقة من قبيل التعريف العهدي وذلك؛ لأن تعريف العهد معناه الدلالة على ما هو حاضر في ذهن السامع معهود بين المتكلم والمخاطب عهدًا تحقيقيًّا أو تقديريا تنزيلًا، فالعهد التحقيقي أن يتقدم ذكر مدلولها صريحًا أو كناية أو يتقدم العلم به وتسمى اللام حينئذ لام العهد الخارجي، والعهد التقديري التنزيلي هو ألا يتقدم ذكر مدخولها لا صريحا ولا كناية ولا يتقدم العلم به ولكنه منزل منزلة المعهود في ذهن السامع لاعتبارات خطابية يأتي تفصيلها وهذا العهد يسمى التعريف فيه بتعريف لام الحقيقة سواء أريد بمدخولها الحقيقة من حيث هي أوفى ضمن فرد مبهم. وتسمى اللام حينئذ لام العهد الذهني فلام الحقيقة والعهد الذهني تسميان بلام العهد الذهني على رأي السكاكي وهي لم يشر بها إلى تعيين مدخولها في ذهن السامع على سبيل التحقيق بل على سبيل تنزيله منزلة المعهود في ذهن السامع ولا عهد في الواقع. ولكي ينكشف لك مذهب السكاكي انكشافًا أكثر أذكر ما قاله الشيرازي: فالفرق بين اسم الجنس المنكر والمعرف أنك إذا قلت جاء رجل كنت قد أحدثت في ذهن السامع شيئًًًًًا ما كان حاضرًا فيه ولا مقدرًا حضوره بوجه من الوجوه الخطابية الآتية، وإذا قلت جاء الرجل أو جاء الحبيب مثلًا من غير أن يتقدم له ذكر ولا علم كنت قد أشرت إلى موجود في ذهنه حاضرًا على وجه الفرض والتقدير، فاسم الجنس المعرف تعريف الحقيقة زاد على مفهوم غير المعرف منه بهذا القدر من التعيين وهو فرض وجوده الخطابي، وبهذا القدر من التعيين استحق اسم التعريف.. والوجوه الخطابية التي تجعل مدخول لام الحقيقة حاضرًا في الذهن على وجه الفرض والتقدير ترجع لأمور كثيرة: منها أن يكون محتاجًا إليه على طريق التحقيق أو التحكم نحو الدينار خير من الدرهم والمسلم حضر يريد غير معين تهكما به حيث لا يعمل بمقتضى الإسلام، أو أن يكون عظيم الخطر معقودًا به الهمم نحو والذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة، أو يكون حاضرًا لا يغيب عن الحس نحو جاء الحبيب. هذا هو اعتراض السكاكي الذي أورده على كون اللام لتعريف الحقيقة وهذا هو جوابه عنه وجواب غيره.. أما اعتراضه على كون اللام للاستغراق فقد قال: إن القول بكون اللام للاستغراق يلزم عليه الجمع بين المتنافيين وذلك بأن اللام تدل حينئذ على التعدد والمفرد الداخلة عليه على الوحدة، والتعدد والوحدة متنافيان وقد أجاب عن هذا الاعتراض بأن الاستغراق ليس مستفادًا من المعرف باللام بطريق الوضع وإنما يفهم من المقام، فإن الحقيقة من حيث هي ليست متوحدة لتحققها مع التعدد ولا متعددة لتحققها مع الوحدة إذ كانت ليست للتعدد فقط ولا للتوحد فقط. فكون الحكم المحكوم به على مدخول اللام مستغرقًا لجميع أفراده وغير مستغرق يرجع إلى مقتضى المقام فإذا كان المقام خطابيًّا يكتفي فيه بالظن حمل الحكم على الاستغراق وأن المراد بمدخولها العام سواء كان مدخولها مفردًا نحو المؤمن غر كريم أو جمعًا نحو المؤمنون هينون لينون فالمقام هنا خطابي؛ لأن هذه الأمثلة من القضايا المقبولة من جهة الشرع وهنا أريد بمدخولها الاستغراق والحكم ثابت لجميع الأفراد بسبب أن المتكلم يلقى في خيال السامع أن تخصيص الحكم ببعض المؤمنين دون بعض مع تحقق حقيقة الإيمان في كل منهما ترجيح لأحد المتساويين بلا مرجح، فوجب الحمل على الاستغراق من أجلها. أما إذا كان المقام استدلاليًّا، فيحمل مدخول اللام على المتيقن وهو الواحد في المفرد والثلاثة في الجمع نحو حصل الدرهم، فيراد من الدرهم واحد فقط، وحصل الدراهم ويراد ثلاثة فقط. وقد أجاب صاحب الإيضاح عن هذا الاعتراض الثاني بجوابين الأول بالمنع والثاني بالتسليم، أما جواب المنع فحاصله أن المراد بالعموم المدلول عليه بأداة الاستغراق الكل الأفرادي لا الكل المجموعي، والفرق بينهما أن يراد من مدخول اللام كل واحد بدلًا عن الأفراد لا كل واحد مجتمع مع الآخر، وهذا لا ينافي الوحدة في المدلول، وأما الكل المجموعي فيراد فيه الفرد مجتمعًا مع الآخر، وهذا الذي ينافي الوحدة في المدلول وهو غير المراد. وجواب التسليم: سلمنا فرضًا أن الوحدة هنا تتنافى مع التعدد، كأن أداة الاستغراق تدخل على المفرد مجردًا عن الوحدة والتعدد، فيصلح لأن يراد الحقيقة في ضمن الجميع.

تعريفه بالإضافة

تعريفه بالإضافة ... وإن كان بالإضافة1: فأما؛ لأنه ليس للمتكلم إلى إحضاره في ذهن السامع طريق أخص منها كقوله2:

_ 1 أي تعريف المسند إليه بالإضافة إلى شيء من المعارف. 2 البيت لجعفر بن علبة الحارثي وهو من مخضرمي الدولتين، شاعر مقل غزل فارس مذكور في قومه.. اليمانين: جمع يمان؟. مصعد: مبعد ذاهب في الأرض. الجنيب: المجنوب. المستتبع الذي يتبعه قومه ويقدمونه أمامهم. الجثمان: الشخص الموثق: المقيد. والشاهد في قوله "هواي" أي مهويي، فالإضافة أخصر من الذي أهواه ونحوه والاختصار مطلوب لضيق المقام وفرط السآمة لكونه في السجن وحبيبه على الرحل، ولفظ البيت خبر معناه التأسف والتحسر على بعد الحبيب.

هواي مع الركب اليمانين مصعد ... جنيب، وجثماني بمكة موثق وإما لإغنائها عن تفصيل متعذر أو مرجوح لجهة1، كقوله2: بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها في غيل خفان أشبل وقوله3: قومي هم قتلوا "أميم" أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي وأما لتضمنها4 لشأن المضاف إليه كقولك: "عبدي حضر" فتعظم شأنك، أو لشأن المضاف كقولك: "عبد الخليفة ركب"

_ 1 المتعذر مثل اجتمع أهل الحق على كذا. والمرجوح أو المتعسر مثل أهل البلد في رفاهية. 2 البيت لمروان بن أبي حفصة الشاعر يمدح معن بن زائدة الشيباني، وبنو مطر قومه بطن من شيبان. خفان: مأسدة قرب الكوفة.. الأشبل جمع شبل وهو ولد الأسد. والشاهد في قوله: بنو مطر فالإضافة هنا تغني عن التفصيل وتعداد أسمائهم. 3 هو الحارث بن وعلة الجرمي، وهو شاعر جاهلي غير الحارث بن وعلة الشيباني. وأميم منادى وهي التي كانت تحضه على الأخذ بثأر أخيه من قومه. والشاهد في الإضافة هنا قوله "قومي"، لإغنائها عن تفصيل مرجوح. 4 أي الإضافة.

فتعظم شأن العبد. أو لشأن غيرهما1 كقولك "عبد السلطان عند فلان"، فتعظم شأن فلان. أو تحقيرًا2 نحو ولد الحجام حضر. وإما لاعتبار آخر مناسب3.

_ 1 أي غير المضاف والمضاف إليه. 2 أي أو لتضمن الإضافة تحقيرًا: للمضاف كالمثال، أو للمضاف إليه نحو "ضارب زيد حاضر" أو لغيرهما نحو "ولد الحجام جليس زيد". 3 كتضمن الإضافة تحريضًا على إكرام أو إذلال أو نحوهما نحو صديقك أو عدوك بالباب، ومنه قوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُوْدٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} فإنه لما نهيت المرأة عن المضار أضيف الولد إليها استعطافًا لها عليه، وكذا الوالد. أول لتضمنها استهزاء أو تهكمًا نحو {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} إلي غير ذلك من الاعتبارات.. وبذلك ينتهي بحث تعريف المسند إليه.

تنكير المسند إليه

تنكير المسند إليه: وأما تنكيره1: فللإفراد2 كقوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى ... } أي: فرد من أشخاص الرجال. أو للنوعية3، كقوله تعالي: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة} ، أي نوع من الأغطيه غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات

_ 1 أي الإتيان به نكرة سواء كان مفردًا أو مثنى أو جمعًا. 2 أي القصد إلى فرد مما يقع عليه اسم الجنس.. هذا ودلالة النكرة على المفرد ظاهرة إذا قلنا إنها موضوعة للفرد المنتشر، أما إذا قلنا أنها موضوعة للحقيقة من حيث هي فأفادتها الأفراد باعتبار الاستعمال الأصلي؛ لأن الحقيقة يكفي في تحققها فرد واحد. 3 أي القصد إلى نوع منه؛ لأن التنكير كما يدل على الوحدة شخصًا يدل عليها نوعًا.

الله1. ومن تنكير غير المسند إليه للأفراد قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر: 29] 2، وللنوعية قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96] ، أي نوع من الحياة مخصوص، وهو الحياة الزائدة، كأنه قيل "ولتجدنهم أحرص الناس -وإن عاشوا ما عاشوا- على أن يزدادوا إلى حياتهم في الماضي والحاضر حياة في المستقبل، فإن الإنسان لا يوصف بالحرص على شيء إلا إذا لم يكن ذلك الشيء موجودًا له حال وصفه بالحرص عليه، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاء} يحتمل الأفراد والنوعية، أي خلق كل فرد من أفراد الدواب من نطفة معينة، أو كل نوع من أنواع الدواب من نوع من أنواع المياه3. أو للتعظيم والتهويل. أو للتحقير4، أي ارتفاع شأنه أو انحطاطه إلى حد لا يمكن معه أن يعرف، كقول ابن أبي السمط5: فتى لا يبالي المدلجون بنوره ... إلى بابه ألا تضيء الكواكب له حاجب في كل أمر يشينه ... وليس له عن طالب العرف حاجب

_ 1 وفي المفتاح أن التنكير للتعظيم أي غشاوة عظيمة تحجب أبصارهم بالكلية وتحول بينها وبين الإدراك. 2 الشاهد في تنكير "رجلًا" للأفراد، وغير مسند إليه، ومتشاكسون أي مختلفون متنازعون. "وسلمًا" أي خالصًا. 3 فتنكير: كل من "دابة" و"ماء" يحتمل الأفراد أو النوعية وكل منهما ليس مسندًا إليه. 4 أي تنكير المسند إليه قد يكون للتعظيم أو للتحقير. 5 في زهر الآداب أن البيت لأبي السمط بن أبي حفصه وجده مروان بن أبي حفصه الأكبر. ومثله: ولله مني جانب لا أضيعه ... وللهو مني والخلاعة جانبه والحاجب: المانع. يشين: يعيب.

أي له حاجب أي حاجب، وليس له حاجب ما. أو للتكثير كقولهم "أن له لابلا" و"أن له لغنما"1، يريدون الكثرة. وحمل الزمخشري التنكير في قوله تعالي: {قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} عليه2. أو للتقليل كقوله تعالي: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] ، أي وشيء ما من رضوانه أكبر من ذلك كله؛ لأن رضا الله سبب كل سعادة وفلاح؛ ولأن العبد إذا علم أن مولاه راض عنه فهو أكبر في نفسه مما وراءه من النعم وإنما تهنأ له برضاه، كما إذا علم بسخطه تنغصت عليه ولم يجد لها لذة وإن عظمت. وقد جاء التعظيم والتكثير جميعًا3، كقوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر: 4] ، أي رسل ذوو عدد كثير وآيات عظام. وأعمار طويلة ونحو ذلك. والسكاكي لم يفرق بين التعظيم والتكثير ولا بين التحقيير والتقليل. ثم جعل التنكير في قولهم "شر أهر ذا ناب" للتعظيم، وفي قوله تعالى:

_ 1 هذا من تنكير غير المسند إليه، إلا إذا نظرنا إلى أن اسم أن أصله المبتدأ. 2 أي على الكثير. هذا والفرق بين التكثير والتعظيم أن التكثير باعتبار الكميات والمقادير تحقيقًا كما في قوله: "إن لنا لإبلًا" أو تقديرًا كما في قوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبر} ، وأما التعظيم فبحسب ارتفاع الشأن وعلو الطبقة وكذا التحقير والتقليل. 3 وقد ينكر للتحقير والتقليل معا مثل "حصل لي منه شيء" أي شيء حقير قليل.

{وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} [الأنبياء: 46] . لخلافه1، وفي كليهما2 نظرًا أما الأول فلما سيأتي3، وأما الثاني فلأن خلاف التعظيم مستفاد من البناء للمرة ومن نفس الكلمة؛ لأنها إما من قولهم "نفحت" الريح إذا هبت أي هبة، أي من قولهم "نفح الطيب" إذ فاح أي موحة كما يقال شمة، واستعماله بهذا المعنى4 في الشر استعارة إذ أصله أن يستعمل في الخير، يقال "له نفحة طيبة" أي هبة من الخير5.. وذهب6 أيضًا إلى أن قول تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45] بالإضافة، أما للتهويل أو لخلافه7، والظاهر أنه لخلافة وإليه ميل الزمخشري، فإنه ذكر أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لم يخل هذا الكلام من حسن الأدب مع أبيه، حيث لم يصرح فيه أن العذاب لاحق له لاصق به، ولكنه قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45] ، فذكر الخوف والمس ونكر العذاب. وأما التنكير في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} فيحتمل

_ 1 أي للتحقير، راجع ص83 من المفتاح.. والمثل "شر أهر ذا ناب" يضرب في ظهور أمارات الشر ومخايله. وذا الناب: السبع والمراد به هنا كلب. 2 أي في كلا الجعلين. 3 أي في بحث تقديم المسند إليه. 4 وهو أن تكون "نفحة" من "نفح الطيب". 5 وجواب الاعتراض على كلام السكاكي في "نفحة" أنه إن أراد أن لبناء المرة مدخلًا في إفادة التحقيق فهذا لا ينافي كون التنكير للتحقير؛ لأنه مما يقبل الشدة والضعف، وإن أراد أن التحقير المستفاد من الآية مفهوم من بناء المرة ونفس الكلمة بحيث لامدخل للتنكير أصلًا فممنوع للفرق الظاهر بين التحقير في "نفحة من عذاب" وبينه في نفحة العذاب بالإضافة. 6 أي السكاكي. 7 أي للتحقير.

النوعية والتعظيم، أي ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة، لمنعه عما كانوا عليه من قتل جماعة بواحد متى اقتدروا، أو نوع من الحياة وهو الحاصل للمقتول والقاتل بالارتداع عن القتل للعلم بالاقتصاص، فإن الإنسان إذا هم بالقتل تذكر الاقتصاص فارتدع فسلم صاحبه من القتل وهو من القود، فتسبب لحياة نفسين. ومن تنكير غير المسند إليه للنوعية {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} ، أي وأرسلنا عليهم نوعًا من المطر عجيبًا، يعني الحجارة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِين ... } وللتحقير 1 {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًَّا} 2.

_ 1 أي ومن تنكير غير المسند إليه للتحقير. 2 أي ظنًّا حقيرًا ضعيفًا إذا الظن مما يقبل الشدة والضعف، فالمفعول المطلق ههنا للنوعية مع التأكيد لا للتأكيد المجرد وبهذا الاعتبار صنح وقوعه بعد الاستثناء مفرغًا مع امتناع "ما ضربته إلا ضربًا" على أن يكون المصدر للتأكيد؛ لأن مصدر ضربته لايحتمل غير الضرب والمستثنى منه يجب أن يكون متعددًا يحتمل المستثنى وغيره. هذا وكما أن التنكير الذي في معنى البعضية يفيد التعظيم فكذلك صريح لفظ البعض، مثل: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} ، أراد محمدًا صلى الله عليه وسلم، ففي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى.

وصف المسند إليه

وصف المسند إليه 1: وأما وصفه: فلكون الوصف تفسيرًا له كاشفًا عن معناه كقولك "الجسم الطويل العريض العميق محتاج إلى فراغ يشغله 2 ":

_ 1 الوصف قد يطلق على نفس التابع المخصوص، وقد يطلق بمعنى المصدر وهو الأنسب ههنا، وأوفق بقوله "وأما بيانه" "وأما الإبدال منه". أي وأما ذكر النعت له. 2 فإن مجموع هذه الأوصاف مما يوضح الجسم ويقع تعريفًا له، وهي بحسب المعنى صفة واحدة.

ونحوه في الكشف قول أوس1: الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا حكي أن "الأصمعي" سئل عن "الألمعي" فأنشده ولم يزد. وكذا قوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19-21] ، قال الزمخشري: "الهلع: سرعة الجزع عند مس المكروه، وسرعة المنع عند مس الخير، من قولهم: ناقة هلوع": سريعة السير، وعن أحمد بن يحيى "ثعلب"2: قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر: ما الهلع؟ قلت: قد فسره الله تعالى.. انتهى كلام الزمخشري. أو لكونه مخصصًا له3 نحو "زيد التاجر عندنا":

_ 1 هو أوس بن حجر يرثي فضالة بن كلدة. هذا والبيت مثل المثال السابق في كون الوصف للكشف والإيضاح وإن لم يكن وصفًا للمسند إليه.. "وكأن" مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن والجملة حال من فاعل "يظن". "والألمعي" معناه الذكي المتوقد. والوصف بعده يكشف عن معناه ويوضحه، لكن ليس بمسند إليه؛ لأنه إما مرفوع على أنه خبر "إن" في البيت السابق: إن الذي جمع السماحة والنجدة والبر والتقى جمعا. أي جميعًا، فهي توكيد للأربعة الأوصاف قبلها، أو منصوب على أنه صفة لاسم إن أو بتقدير "أعني". وخبر إن حينئذ في قوله بعد عدة أبيات: أودى فلا تنفع الأشاحة من ... أمر لمرء يحاول البدعا 2 أحد أئمة اللغة والنحو توفي عام 291هـ. 3 أي لكون الوصف مخصصا للمسند إليه، أي مقللًّا لاشتراكه، أي إذا كان فكرة مثل رجل تاجر عندنا -أو رافعًا لاحتماله- أي الاحتمال الواقع فيه إذا كان معرفة – والمراد بالاحتمال الذي يقتضيه هو الاشتراك اللفظي. والمشترك اللفظي هو ما وضع لأكثر من معنى بأوضاع متعددة كزيد، أما الاشتراك المذكور قبل الاحتمال فالمراد به الاشتراك المعنوي، والمشترك المعنوي ما وضع لمعنى واحد مشترك بين أفراد. فالتخصيص يكون في المعارف والنكرات، وله فرادان: تقليل الاشتراك، ورفع الاحتمال. وعند النحويين التخصيص تقليل الاشتراك في النكرات فقط أما رفع الاحتمال في المعارف فيقال له توضيح لا تخصيص سواء كانت المعارف إعلامًا أو غيرها. ثم إن ما ذكر لا يتأتى في المعرف بلام الجنس؛ لأن مدلوله الجنس وفيه الاشتراك لصدقه على كثيرين فوصفه لا يوضحه بل يخصصه كالنكرات، ولايتأتى أيضًا في المعرف بلام العهد الذهني لصدقه على كثيرين على سبيل البدل فوصفه لا يوضحه أيضًا بل يخصصه، فلعل مرادهم بالمعارف ما عدا هذين.

أو لكونه مدحًا له كقولنا "جاء زيد العالم"، حيث يتعين1 فيه "زيد" قبل ذكر العالم. ونحوه من غيره2 قوله تعالى: {بِسْمِ اْللهِ الرَحْمَنِ الْرَحِيْمِ} ، وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} . أو لكونه ذمًّا له، كقولنا: ذهب زيد الفاسق، حيث يتعين فيه زيد قبل ذكر الفاسق. ونحوه من غيره قوله تعالى: {فَإِذَاقَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] . أو لكونه تأكيدًا له كقولك أمس الدابر كان يومًا عظيمًا3. أو لكونه بيانًا له كقوله تعالى: {لاتَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل: 51] ، قال الزمخشري: الاسم الحامل لمعنى الأفراد والتثنية دال على شيئين على الجنسية والعدد المخصوص، إذا أريدت الدلالة على أن المعنى به منهما والذي يساق له الحديث هو العدد شفع بما يؤكده فدل به على القصد إليه والعناية به، ألا ترى أنك لو قلت

_ 1 أي إذا كان يتعين، فهو قيد، وإلا كان الوصف مخصصًّا، أي أن الظاهر في ذلك عند عدم التعيين وإن صح أن يراد فيه المدح أو الذم. 2 أي غير المسند إليه. 3 فلفظ الأمس مما يدل على الدبور.

إنما هو إله ولم تؤكده بـ"واحد" لم يحسن وخيل أنك تثبت الألهية لا الوحدانية1. وأما قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] فقال السكاكي: شفع الدابة بـ"في الأرض" وطائرا بـ"يطير بجناحيه" لبيان أن القصد بهما إلى الجنسين، وقال الزمخشري: معنى ذلك زيادة التعميم والإحاطة كأنه قيل: وما من دابة في جميع الأرضين السبع وما من طائر قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه2. واعلم: أن الجملة قد تقع صفة للنكرة، وشر طها أن تكون خبرية؛ لأنها في المعنى حكم على صاحبها كالخبر، فلم يستقم أن تكون إنشائية مثله. وقال السكاكي: لأنه يجب أن يكون المتكلم يعلم تحقق الوصف للموصوف؛ لأن الوصف إنما يؤتى "به" ليميز به الموصوف مما عداه، وتمييز المتكلم شيئًا من شيء بما لا يعرفه له محال، فما لا يكون عنده محققًا للموصوف يمتنع أن يجعله وصفًا له، بحكم عكس النقيض، ومضمون الجمل الطلبية كذلك3؛ لأن الطلب يقتضي مطلوبًا غير متحقق، لامتناع طلب الحاصل، فيقع شيء منها صفة لشيء.

_ 1 يقول لسعد في المطول: وليس في كلام السكاكي ما يدل على أنه عطف بيان صناعي لجواز أن يريد أنه من قبيل الإيضاح والتفسير وإن كان وصفًا صناعيا. 2 فكلام الزمخشري يؤكد كلام السكاكي في أن القصد إلى الجنس، فباعتبار أن الوصف لبيان أن القصد إلى الجنس أفاد هذا الوصف زيادة التعميم والإحاطة. 3 أي ليست متحققة لموصوفها ولا يعلم المتكلم تحققها له.

والتعليل الأول1 أعم؛ لأن الجملة الإنشائية قد لا تكون طلبية كقولنا: نعم الرجل زيد، وبئس الصاحب عمرو، وربما يقوم بكر، وكم غلام ملكت، وعسى أن يجيء سشر، وما أحسن خالدًا، وصيغ العقود نحو بعت واشتريت، فإن هذه كلها إنشائية وليس شيء منها بطلبي ولامتناع وقوع الإنشائية صفة أو خبرًا قيل في قوله: حتى إذا جن الظلام واختلط ... جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط2 تقديره جاءوا بمذق مقول عنده هذا القول، أي بمدق يحمل رائيه أن يقول لمن يريد وصفه له: هل رأيت الذئب قط، فهل مثله في اللون لإيراده في خيال الرائي لون الذئب لورقته. وفي مثل قولنا: زيد اضربه أولا تضربه تقديره مقول في حقه "اضربه أو لا تضربه".

_ 1 وهو أن الجملة الواقعة صفة في المعنى حكم على صاحبها كالخبر فلم يستقم أن تكون إنشائية مثله، وهو تعليل الخطيب، وهو اسم من تعليل السكاكي. 2 البيت للعجاج الراجز يصف قومًا أضافوا وأطالوا عليه ثم أتوه بلبن مخلوط بالماء يشبه لون الذئب.

توكيد المسند إليه

توكيد المسند إليه: وأما توكيده: فالتقرير1 كما سيأتي في "باب تقديم الفعل وتأخيره".

_ 1 أي تقرير المسند إليه أي تحقيق مفهومه ومدلوله، أي جعله ثابتًا محققًا مستقرًّا بحيث لا يظن به غيره، نحو جاءني زيد زيد إذا ظن المتكلم غفلة السامع عن سماع لفظ المسند إليه أو عن حمله على معناه. وقيل: المراد تقرير الحكم نحو أنا عرفت، أو المحكوم عليه، نحو أنا سعيت في حاجتك وحدي أو لا غير، وفيه نظر؛ لأن المثال الأخير الذي هو لتقرير المحكوم عليه ليس من تأكيد المسند إليه في شيء؛ لأن وحدي حال، ولا غيري عطف على المسند إليه. فليسا من التأكيد الاصطلاحي كما هو المراد ولو سلم أن المراد بالتأكيد هنا ما هو أعم من الاصطلاحي فلا نسلم وجود تأكيد المسند إليه في المثالين بل فيهما تأكيد التخصيص، أما "أنا عرفت" وهو المثال الأول الذي هو لتقرير الحكم فليس أيضًا من تأكيد المسند إليه؛ لأن تأكيد المسند إليه لا يكون لتقرير الحكم فقط؛ لأن تقرير الحكم في "أنا عرفت" إنما هو من تقديم المسند إليه، وهذا الرد مبني على أن المراد بالتأكيد هنا أعم من المعنى الاصطلاحي.

أو لدفع توهم التجوز1 أو السهو2، كقولك: عرفت أنا، وعرفت أنت، وعرف زيد زيد، أو عدم الشمول3 كقولك "عرفني الرجلان كلاهما أو الرجال كلهم".

_ 1 أي التكلم بالمجاز -والمجاز هنا مراد به ما هو أعم من العقلي واللغوي- نحو زارني الأمير الأمير أو نفسه أو عينه، لئلا يتوهم أن إسناد الزيارة إلى الأمير مجاز وأن الزائر رسوله مثلًا. 2 أي لدفع توهم السهو، قيل توهم التجوز خاص بالتأكيد المعنوي ودفع السهو خاص بالتأكيد اللفظي ورجح عبد الحكيم والسعد أن المعنوى يجيء لدفع توهم التجوز ولدفع توهم السهو، والصحيح أيضًا أن التوكيد اللفظي قد يكون لدفع توهم التجوز أو السهو المعنوي وبهذا يشعر كلام الخطيب والأمثلة التي آتي بالدفع توهم السهو لاشتمالها على التأكيد المعنوي واللفظي. 3 أي لدفع توهم عدم الشمول، لئلا يتوهم أن بعضهم لم يجئ إلا أنك لم تعتد بهم وأنك أطلقت القوم على المعتبر منهم من إطلاق الكل على البعض مجازًا لغويًّا مرسلًا، أو أنك جعلت الفعل الواقع من البعض كالواقع من الكل بناء على أنهم في حكم شخص واحد فيكون إسناد الفعل الواقع من البعض للكل مجازًا عقليًّا، كقولك: بنو فلان قتلوا زيدًا وإنما قتله واحد منهم.. هذا وقد اعترض السعد في المطول على ذكر "دفع توهم الشمول هنا؛ لأنه من قبيل دفع توهم التجوز؛ لأن كلهم مثلًا إنما يكون تأكيدًا إذا كان المتبوع دالًّا على الشمول ومحتملًا لعدم الشمول على سبيل التجوز وإلا لكان تأسيسًا، وقال: إن ذكر "عدم الشمول" هنا إنما هو زيادة توضيح لا غير، واستدل بكلام لعبد القاهر يؤيد ذلك. وقال السيد: هذا إنما يصح إذا أريد بالتجوز ما يتناول العقلي واللغوي، وإما إذا خص بالتجوز العقلي كما يشعر به كلام السكاكي فلا بد من التعرض لعدم الشمول. فإنه تجوز لغوي لم يندرج في التجوز المذكور على هذا التقدير.

السكاكي: ومنه "كل رجل عارف"، وكل إنسان حيوان. وفيه نظر: لأن كلمة كل: تارة تقع تأسيسًا -وذلك إذا أفادت الشمول من أصله، حتى لولا مكانها لما عقل- وتارة تقع تأكيدًا وذلك إذالم تفده من أصله، بل تمنع أن يكون اللفظ المقتضى له مستعملًا في غيره- أما الأول فهو أن تكون مضافة إلى نكرة، كقوله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا} وقوله: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُون} ، وأما الثاني فما عدا ذلك، كقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُم} . وهي في قوله: كل رجل عارف وكل إنسان حيوان من الأول لا الثاني1؛ لأنها لو حذفت منهمالم يفهم الشمول أصلًا.

_ 1 أي للتأسيس لا للتأكيد.

بيان المسند إليه

بيان المسند إليه 1: وأما بيانه وتفسيره: فلا يضاحه باسم مختص به2 كقولك: "قدم صديقك خالد".

_ 1 أي تعقيب المسند إليه بعطف البيان. 2 المراد بالإيضاح رفع الاحتمال فيه سواء كان نكرة أم معرفة. هذا ولا يلزم أن يكون الثاني أوضح من الأول كما يدل عليه كلام سيبويه لجواز أن يحصل الإيضاح من اجتماعهما. وقد يكون عطف البيان بغير اسم مختص به كقوله: والمؤمن العائذات الطير يمسحها ... ركبان مكة بين الغيل والسند فالواو للقسم، والمؤمن: هو الله تعالى من الأمان، والطير: عطف بيان للعائذات، والغيل والسند: موضعان في جانب الحرم، فيهما الماء، والعائذات مفعول "مؤمن" أو مضاف إليه. وجواب القسم في البيت التالي وهو "ما إن أتيت إلخ"، فالطير عطف بيان للعائذات مع أنه ليس اسمًا يختص بها. هذا وقد يجيء عطف البيان لغير الإيضاح كالمدح في قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} ، فالبيت الحرام عطف بيان للكعبة جيء به للمدح لا للإيضاح كما تجيء الصفة لذلك.

الإبدال من المسند إليه

الإبدال من المسند إليه: وأما الإبدال منه: فلزيادة التقرير والإيضاح، نحو جاءني زيد أخوك، وجاء القوم أكثرهم، وسلب عمرو ثوبه، ومنه في غيره1 قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6-7] .

_ 1 أي غير المسند إليه. 2 هذا وقوله لزيادة التقرير يومئ إلى أن الغرض من البدل هو أن يكون مقصودًا بالنسبة -والمبدل منه وصلة للبدل، فالبدل هو الذي تتم به فائدة الكلام فصار كأنه المقصود حقيقة لا أنه هو المقصود بالذات حتى يكون الأول مقررًا له بل هو المقرر للأول، والتقرير زيادة تحصل تبعًا وضمنًا بحسب أصل الكلام. أما التأكيد فالغرض منه نفس التقرير والتحقيق، ولذا عبر هنا "بزيادة التقرير" وفي التأكيد "بالتقرير" وقد مثل المصنف للبدل المطابق وبدل البعض وبدل الاشتمال. وبيان التقرير في هذه الأنواع الثلاثة أن التكرير في بدل الكل مفيد للتقرير، أما بدل البعض والاشتمال فالمتبوع فيهما يشتمل على التابع إجمالًا حتى كأنه مذكور: أما في البعض فظاهر، وأما في الاشتمال؛ فلأن معناه أن يشتمل المبدل منه على البدل لا اشتمال الظرف على المظروف بل من حيث كونه مشعرًا به إجمالًا ومتقاضيًا له بوجه ما بحيث تبقى النفس عند ذكر المبدل منه متشوقة إلى ذكره منتظرة له، وبالجملة يجب أن يكون المتبوع فيه بحيث يطلق ويراد به التابع نحو "أعجبني زيد" إذا أعجبك علمه بخلاف "ضربت زيدًا" إذا ضربت جواده مثلًا، ولهذا صرحوا بأن نحو جاءني زيد أخوه بدل غلط لا بدل اشتمال كما زعم ابن الحاجب. ثم بدل البعض والاشتمال بل بدل الكل أيضًا لا يخلو عن إيضاح وتفسير. ولم يتعرض لبدل الغلط؛ لأنه لايقع في فصيح الكلام.

العطف على المسند إليه

العطف على المسند إليه: وأما العطف: فلتفصيل المسند إليه مع اختصار، نحو "جاء زيد وعمرو وخالد"1، أو لتفصيل المسند2 مع اختصار، نحو "جاء زيد فعمرو" أو "ثم عمرو"، أو "جاء القوم حتى خالد"3. ولابد في "حتى" من تدريج، كما ينبئ عنه قوله4: وكنت فتى من جند إبليس فارتمى ... بي الحال حتى صار إبليس من جندي أو لرد السامع عن الخطأ في الحكم إلى الصواب: كقولك "جاءني زيد لا عمرو5، لمن اعتقد أن عمرًا جاءك دون زيد، أو أنهما جاءاك

_ 1 فإن فيه تفصيلًا للفاعل بأنه زيد وعمرو من غير دلالة على تفصيل الفعل بأن المجيئين كانا معا أو مترتبين مع مهلة أو بلا مهلة. واحترز بقوله "مع اختصار" عن نحو "جاءني زيد وجاءني عمرو" ففيه تفصيل للمسند إليه مع أنه ليس من عطف المسند إليه وليس فيه اختصار. 2 أي بأنه قد حصل من أحد المذكورين أولًا ومن الآخر بعده مع مهلة أو بلا مهلة واحترز بقوله "مع اختصار" عن نحو "جاءني زيد وعمرو بعده بيوم أو سنة". 3 فالثلاثة تشترك في تفصيل المسند إلا أن الفاء تدل على التعقيب من غير تراخ، وثم على الترتيب والتراخي، وحتى على أن أجزاء ما قبلها مترتبة في الذهن من الأضعف إلى الأقوى أو بالعكس، فمعنى تفصيل المسند في حتى أن يعتبر تعلقه بالمتبوع أو لا وبالتابع نائبا من حيث أنه أقوى أجزاء المتبوع أو أضعفها ولا يشترط فيها الترتيب الخارجي، فإن قلت في هذه الثلاثة أيضًا تفصيل المسند إليه فلم لم يقل أو لتفصيلهما معا، فالجواب أنه فرق بين أن يكون الشيء حاصلًا من شيء وبين أن يكون الشيء مقصودًا منه، وتفصيل المسند إليه في هذا الثلاثة وإن كان حاصلًا لكنه غير مقصود. 4 البيت لأبي نواس. 5 لمن اعتقد أن عمرًا جاءك دون زيد فيكون قصر قلب، أو أنهما جاءاك جميعًا فيكون قصر أفراد. وخالف الشيخ عبد القاهر في الدلائل فذكر أن العطف بلا، إنما يستعمل في قصر القلب فقط. و"لكن" أيضًا للرد إلى الصواب إلاأنها لا تأتي لنفي الشركة فلا تكون قصر أفراد بل قصر قلب فقط، فنحو "ما جاني زيد لكن عمرو" إنما يقال لمن اعتقد أن زيدًا جاءك دون عمرو لا لمن اعتقد أنهما جاءاك جميعًا، وهي عند النحاة لقصر الأفراد فقط؛ لأنهم جعلوها للاستدراك الذي هو رفع ما يتوهم من الكلام السابق، أما عند البيانيين الذين يجعلونها للقلب فقط فلا استدراك فيها عندهم. ثم إن الخلاف بين البيانيين والنحويين إنما هو في النفي وأما كونها لقصر القلب أو الأفراد في الإثبات فلا قائل به؛ لأنه مفهوم كلام النحويين اختصاصها بالنفي.

جميعًا: وقولك: ما جاءني زيد لكن عمرو لمن اعتقد أن زيدًا جاءك دون عمرو. أو لصرف الحكم عن محكوم له إلى آخر، نحو "جاءني زيد بل عمرو"، وما جاءني زيد بل عمرو1.

_ 1 قبل للإضراب عن المتبوع والإعراض عنه وصرف الحكم إلى التابع. ومعنى الإضراب عن المتبوع عند الجمهور أن يجعل في حكم المسكوت عنه، لا أن ينفي عنه الحكم قطعًا كما ذهب إليه ابن الحاجب حيث عنده كل من التابع والمتبوع مقصود بالنسبة وإن كان أحدهما بالإثبات والآخر بالنفي كما في العطف بلا ولكن. ومعنى صرف الحكم في العطف ببل في الكلام المثبت ظاهر؛ لأن المتبوع في الإثبات أما في حكم المسكوت عنه "كما يرى الجمهور" أو محقق النفي "كما يرى ابن الحاجب". أما في النفي فصرف الحكم معناه ظاهر أيضًا أن جعلناه بمعنى نفي الحكم عن التابع والمتبوع في حكم المسكوت عنه كما هو رأي المبرد، أو متحقق الحكم للمتبوع كما هو مذهب ابن الحاجب. حتى يكون معنى "ما جاءني زيد بل عمرو" أن "عمرا"لم يجئ وعدم مجيء زيد ومجيئه على الاحتمال كما هو مذهب المبرد. أو مجيئه متحقق كما هو مذهب ابن الحاجب، أما أن جعلناه بمعنى ثبوت الحكم للتابع حتى يكون معنى "ما جاءني زيد بل عمر" أن عمرًا جاءك كما هو مذهب الجمهور ففيه إشكال، فالحاصل أن 1 المبرد يرى أن الثاني صرف عنه الحكم ولابد، والأول يحتمل ثبوت الحكم ونفيه عنه. 2 وابن الحاجب يرى أن الثاني نفى عنه الحكم قطعًا والأول أثبت له الحكم قطعًا. 3 والجمهور يرون أن الثاني أثبت له الحكم تحقيقًا والأول يحتمل ثبوت الحكم وانتفاءه عنه. فعلى الأولين "بل" نقلت حكم ما قبلها لما بعدها. وعلى الثالث نقلت ضد حكم ما قبلها لما بعدها وصيرت ما قبلها مسكوتًا عنه.

أو للشك فيه، أو التشكيك، نحو جاءني زيد أو عمرو، أو أما زيد وأما عمرو، أو أما زيد أو عمرو. أو للإبهام كقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] . أو للإباحة أو التخيير، وهو أن يفيد ثبوت الحكم لأحد الشيئين أو الأشياء فحسب، مثلهما: قولك ليدخل الدار زيد أو عمرو، وأفرق بينهما واضح فإن الإباحة لا تمنع من الإتيان بهما أو بها جميعًا1.

_ 1 أي بخلاف التخيير. ملاحظة: عد السكاكي "أي" المفسرة من حروف العطف والجمهور على أن ما بعدها عطف بيان لما قبلها، ووقوعها تفسيرا للضمير المجرور من غير إعادة حرف الجر وللضمير المتصل المرفوع من غير تأكيد أو فصل يقوى مذهب الجمهور، ويقويه أن الأصل تغاير المعطوف والمعطوف عليه لقلة العطف على سبيل التفسير، وهذا خلاف لا طائل تحته.

تعقيب المسند إليه بضمير الفصل

تعقيب المسند إليه بضمير الفصل 1: وأما توسط الفصل بينه2 وبين المسند فلتخصيصه به3.

_ 1 جعله من أحوال المسند إليه؛ لأنه يقترن به أولًا؛ ولأنه في المعنى عبارة عنه وفي اللفظ مطابق له. 2 الضمير يعود على المسند إليه. 3 أي لقصر المسند إليه فالمعنى في زيد هو المنطلق قصر الانطلاق على زيد. ومن الناس من زعم أن الفصل كما يكون لقصر المسند على المسند إليه يكون لقصر المسند إليه على المسند كما فهم البعض من كلام الكشاف في تفسير قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} ، وقد رد السعد على فهمهم هذا ونقده، وقال: إن صاحب الكشاف إنما جعل هذا معنى التعريف "أي أل المعرفة في "المفلحون" لا معنى الفصل، بل صرح في هذه الآية بأن فائدة الفصل الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة. والتحقيق أن الفصل قد يكون للتخصيص أي لقصر المسند على المسند إليه نحو زيد هو الأسد وهو أفضل من عمرو، وقد يكون لمجرد التأكيد إذا كان التخصيص حاصلًا بدونه بأن يكون في الكلام ما يفيد قصر المسند على المسند إليه نحو: {إِنَ اْللهَ هُوَ الرَزَّاقُ} أي لا رزاق إلا هو، أو قصر المسند إليه على المسند نحو الكرم هو التقوَى والحسب هو المال أي لا كرم إلا التقوى ولا حسب إلا المال، قال أبو الطيب: إذا كان الشباب السكر والشيب ... هما فالحياة هي الحمام أي لا حياة إلا الحمام أي الموت.. هذا والباء بعد التخصيص داخلة على المقصور في الغالب عند السعد وعلى المقصور عليه في الغالب عند السيد.

كقولك زيد هو المنطلق، أو هو أفضل من عمرو، أو خير منه، أو هو يذهب1.

_ 1 ليس الضمير هنا فصلًا؛ لأن ما بعد "هو" فعل مضارع، فقد وهم الخطيب في ذكر هذا المثال هنا.

تقديم المسند إليه

تقديم المسند إليه: وأما تقديمه فلكون ذكره أهم1: أما؛ لأنه "2" الأصل ولا مقتضى للعدول عنه3. وأما ليتمكن الخبر في ذهن السامع؛ لأن في المبتدأ تشويقًا إليه،

_ 1 لا يكفي في التقدم مجرد ذكر الاهتمام بل لا بد أن يبين جهة الاهتمام وسببه كما يقول عبد القاهر ص84 و85 من الدلائل. ولذلك فصل الكلام على أسباب الاهتمام. 2 أي تقديم المسند إليه، وقوله؛ لأنه الأصل أي؛ لأن المسند إليه هو المحكوم عليه ولا بد من تحققه قبل المحكوم فقصدوا أن يكون في الذكر أيضًا مقدمًا. 3 أي عن ذلك الأصل إذا لو كان أمرًا يقتضي العدول عنه فلا يقدم كما في الفاعل فإن مرتبة العامل التقدم على المعمول.

كقوله1: والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدث من جماد2 وهذا3 أولى من جعله شاهدًا لكون المسند إليه موصولًا كما فعل السكاكي. وأما لتعجيل المسرة أو المساءة، لكونه صالحًا للتفاؤل أو التطير، نحو "سعد في دارك" و"السفاح في دار صديقك". وإما لايهام أنه لا يزول عن الخاطر4 أو أنه يستلذ فهو إلى الذكر أقرب. وإما لنحو ذلك5 ... قال السكاكي: وإما؛ لأن كونه متصفًا بالخبر يكون هو المطلوب لا نفس الخبر6 كما إذا قيل لك: كيف.

_ 1 البيت للمعري، وقد أورده السكاكي في إيراد المسند إليه اسم موصول للقصد بذلك كما يقول: إلى أن يتوجه ذهن السامع إلى ما ستخبر به عنه منتظرًا لوروده عليه حتى يأخذ منه مكانه إذا ورد. 2 قال السعد: معناه تحيرت الخلائق في المعاد الجسماني والنشور الذي ليس بنفساني وفي أن أبدان الأموات كيف تحييى من الرفات بدليل ما قبله: بأن أمر الإله واختلف الناس ... فداع إلى ضلال وهاد يعني: يعضهم يقول بالمعاد وبعضهم لا يقول به ... 3 أي جعله مثالًا لتقديم المسند إليه. 4 كقول الشاعر: وليلى هي الأحلام والأمل العذب. 5 كإظهار تعظيمه مثل: "محمد رسول الله"، أو تحقيره مثله: والشر أخبث ما أوعيت من زاد". 6 أراد بالخبر الأول خبر المبتدأ. وبالخبر الثاني الأخبار، والمصنف لما فهم من الخبر الثاني أيضًا معنى خبر المبتدأ اعترض عليه بأن نفس الخبر تصور لا تصديق والمطلوب بالجملة الخبرية إنما يكون تصديقًا لا تصورًا وإن أراد بذلك وقوع الخبر مطلقًا -أي إثبات وقوع الشرب مثلًا- فلا يصح لما سيأتي في متعلقات الفعل من أنه لا يتعرض عند إثبات وقوع الفعل لذكر المسند إليه أصلًا بل يقال وقع الشرب مثلًا.

الزاهد، فتقول: الزاهد يشرب ويطرب. وأما؛ لأنه يفيد زيادة تخصيص كقوله: متى تهزز "بني قطن" تجدهم ... سيوفًا في عواتقهم سيوف جلوس في مجالسهم رزان ... وإن ضيف ألم فهم خفوف والمراد هم خفوف. وفيه نظر: 1- لأن قوله: لا نفس الخبر يشعر بتجويز أن يكون المطلوب بالجملة الخبرية نفس الخبر، وهو باطل؛ لأن نفس الخبر تصورًا لا تصديق والمطلوب بها إنما يكون تصديقًا، وإن أراد بذلك وقوع الخبر مطلقًا فغير صحيح أيضًا لما سيأتي أن العبارة عن مثله لا يتعرض فيها إلى ما هو مسند إليه كقولك وقع القيام1. 2- ثم في مطابقة الشاهد الذي أنشده2 للتخصيص نظر لما سيأتي أن ذلك مشروط بكون الخبر فعليًّا3. وقوله4: والمراد هم خفوف تفسير للشيء بإعادة لفظه.

_ 1 أي يتكفي فيها بذكر الحديث وإثبات وجوده كقولك: وقع القيام على ما سبق. 2 وهما البيتان السابقان. 3 أي والخبر ههنا اسم فاعل؛ لأن "خفوف" جمع "خاف" بمعنى خفيف وأجيب عن هذا الاعتراض بمنع هذا الاشتراط لتصريح أئمة التفسير بالحصر في قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيز} ، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيل} ، {مَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} ، ونحو ذلك مما الخبر فيه صفة لا فعل، وفيه بحث لظهور أن الحصر في قولهم "فهم خفوف" غير مناسب للمقام. وأجيب أيضًا بأنه لا يريد بالتخصيص هنا الحصر بل التخصيص بالذكر، وهذا سديد، لكن في بيان كون التقديم مفيدًا لزيادة التخصيص نوع خفاء. 4 الضمير يعود على السكاكي.

مذهب عبد القاهر في إفادة التقديم للتخصيص: قال عبد القاهر. وقد يقدم المسند إليه ليفيد تخصيصه بالخبر الفعلي1، إن ولي حرف النفي2، كقولك: "ما أنا قلت هذا"، أي لم أقله مع أنه مقول، فأفاد نفي الفعل عنك وثبوته لغيرك، فلا تقول ذلك إلا في شيء ثبت أنه مفول وأنت تريد نفي كونك قائلًا له3، ومنه قول الشاعر4: وما أنا أسقمت جسمي به ... ولا أنا أضرمت في القلب نارا إذ المعنى أن هذا السقم الموجود والضرم الثابت ما أنا جالب لهما، فالقصد إلى نفي كونه فاعلًا لهما لا إلى نفيهما. ولهذا لا يقال5 ما أنا قلت ولا أحد غيري. لمناقضة منطوق الثاني مفهوم الأول6، بل يقال: ما قلت أنا ولا أحد غيري.

_ 1 أي ليفيد التقديم قصر الخبر الفعلي عليه أي قصر المسند على المسند إليه، والخبر الفعلي هو ما أوله فعل وكان فاعله ضمير المسند إليه. 2 أي وقع بعده بلا فصل أو مع الفصل ببعض المعمولات. 3 والتخصيص هنا إضافي فهو بالنسبة إلى من توهم المخاطب اشتراكك معه في القول فيكون قصر أفراد أو انفرادك به دونه فيكون قصر قلب. 4 هو المتنبي. 5 أي لا يقال ذلك عند التخصيص. أما إذا قصد الإخبار بمجرد عموم النفي فيصح ذلك ويكون "لا غيري" قرينة على ذلك. 6 لأن مفهوم ما أنا قلت ثبوت قائلية هذا القول لغير المتكلم ومنطوق "لا غيري" نفيها عنه وهما متناقضان.

ولا يقال "ما أنا رأيت أحدًا من الناس"1، ولا "ما أنا ضربت إلا زيدًا"2، بل يقال: ما رأيت- أو ما رأيت أنا أحدًا من الناس، وما ضربت أو ما ضربت أنا إلا زيدًا؛ لأن المنفي في الأول الرؤية الواقعة على كل واحد من الناس وفي الثاني الضرب الواقع على كل واحد منهم سوى زيد، وقد سبق أن ما يفيد التقديم ثبوته لغير المذكور هو ما نفي عن المذكور فيكون الأول مقتضيًا؛ لأن إنسانًا غير المتكلم قد رأى كل الناس، والثاني مقتضيًا؛ لأن إنسانًا غير المتكلم قد ضرب من عدا زيدًا منهم، وكلاهما محال، وعلل الشيخ عبد القاهر والسكاكي3، وامتناع الثاني4 بأن نقض النفي بألا يقتضي أن يكون القائل له قد ضرب زيدًا وإيلاء الضمير حرف النفي يقتضي أن لا يكون ضربه وذلك تناقض، وفيه نظر: لأنا لا نسلم أن إيلاء الضمير حرف.

_ 1 لأنه يقتضي أن يكون إنسان غير المتكلم قد رأى كل أحد من الناس؛ لأنه نفى عن المتكلم الرؤية على وجه العموم في المفعول فيجب أن تثبت لغيره على وجه العموم في المفعول ليحقق تخصيص المتكلم بهذا النفي، ولا شك أن ذلك باطل، فلا يصح هذا المثال بناء على ما يتبادر منه وهو الاستغراق الحقيقي، وإن أمكن تخصيصه بحمل النكرة الواقعة في سباق النفي على الاستغراق العرفي بحمل الأحد على الأحد الذي يمكن رؤيته فيصح المثال على ذلك الوجه. 2 لأنه يقتضى أن يكون إنسان غيرك قد ضرب كل أحد سوى زيد؛ لأن المستثنى منه مقدر عام وكل ما تنفيه عن المذكور على وجه الحصر يجب ثبوته لغيره تحقيقًا لمعنى الحصر: إن عامًا فعام، وإن خاصا فخاص. 3 ونص كلام عبد القاهر هو: "لأنه يقتضي المحال وهو أن يكون ههنا إنسان قد رأى كل أحد من الناس فنفيت أن تكونه "ص97 من الدلائل، وفي ص98 من الدلائل يعلل الشيخ عبد القاهر بالتعليل الذي ذكره السكاكي والخطيب. والتعليل الأول لعبد القاهر قد ذكره السكاكي أيضًا في المفتاح ص101. وهو ما أنا ضربت إلا زيدًا.

النفي يقتضي ذلك1 فإن قيل الاستثناء الذي فيه مفرغ، وذلك يقتضى أن لا يكون ضرب أحدًا من الناس وذلك يستلزم أن لا يكون ضرب زيدًا، قلنا: إن لزم ذلك فليس للتقديم لجريانه في غير صورة التقديم أيضًا كقولنا "ما ضربت إلا زيدًا". هذا إذا ولي المسند إليه حرف النفي ... وإلا2: فإن كان"3" معرفة كقولك "أنا فعلت" كان القصد إلى الفاعل وينقسم قسمين:

_ 1 أي أن لا يكون ضربه. قال السعد: وجواب هذا الاعتراض أن تقديم المسند إليه وإيلاءه حرف النفي إنما يكون إذا كان الفعل المذكور بعينه ثابتًا متحققا متفقًا بينهما وإنما المناظرة في فاعله فقط، ففي هذه الصورة يجب أن يكون المخاطب مصيبًا في اعتقاد وقوع ضرب على من عدا زيدا، مخطئًا في أن فاعله أنت، فتقصد رده إلى الصواب بقولك "ما أنا ضربت إلا زيدًا"؛ لأنه لنفي أن تكون أنت الفاعل لا لنفي الفعل. قال السعد: وعندي أن قولهم "نقض النفي بألا يقتضي أن تكون ضربت زيدًا" أجدر بأن يعترض عليه فيقال: إن النفي لم يتوجه إلى الفعل أصلًا بل إلى أن يكون فاعل الفعل المذكور هو المتكلم والفعل المذكور هو الضرب الذي اثتثنى منه زيد فالاستثناء إنما هو من الإثبات دون النفي فلا يكون من انتقاض النفي في شيء.. هذا وحاصل كلام عبد القاهر أن تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي: 1 يفيد التخصيص قطعًا إذا ولي المسند إليه المقدم حرف النفي سواء كان المسند إليه نكرة أم معرفة: ظاهرة أو مضمرة. 2 وتارة يكون للتخصيص أو للتقوي وذلك إذالم يل المسند إليه حرف النفي سواء كان المسند إليه نكرة أم معرفة: ظاهرة أو ضميرًا وسواء كان الخبر مثبتًا أو منفيًّا. فمدار الأمر على تقديم حرف النفي على المسند إليه أو عدم تقدمه فإذا تقدم النفي أفاد تقديم المسند إليه التخصيص وإلا جاز أن يكون للتخصيص أو للتقوي والتأكيد. 2 إن لم يل المسند إليه حرف النفي بأن لا يكون في الكلام حرف النفي أو يكون حرف النفي متأخرًا عن المسند إليه. 3 أي المسند إليه.

أحدهما: ما يفيد تخصيصه بالمسند، للرد على من زعم انفراد غيره به1 أو مشاركته فيه2، كقولك "أنا كتبت في معنى فلان" و"أنا سعيت في حاجته"، ولذلك إذا أردت التأكيد قلت للزاعم في الوجه الأول: أنا كتبت في معنى فلان لا غيري، ونحو ذلك، وفي الوجه الثاني: أنا كتبت في معنى فلان وحدي، فإن قلت: أنا فعلت كذا وحدي في قوة أنا فعلته لا غيري، فلم أختص كل منهما بوجه من التأكيد دون وجه؟ قلت: لأن جدوى التأكيد لما كانت إماطة شبهة خالجت قلب السامع، وكانت في الأول أن الفعل صدر من غيرك، وفي الثاني أنه صدر منك بشركة الغير، أكدت وأمطت الشبهة في الأول بقولك "لا غيري" وفي الثاني بقولك "وحدي"؛ لأنه محزه ولو عكست أحلت، ومن البين في ذلك المثل: "أتعلمني بضب أنا حرشته3؟ ". وعليه قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101] ، أي لا يعلمهم إلا نحن ولا يطلع على أسرارهم غيرنا لابطانهم الكفر في سويداوات قلوبهم. الثاني4: ما لا يفيد إلا تقوي الحكم وتقرره في ذهن السامع وتمكنه كقولك "هو يعطي الجزيل"، لا تريد أن غيره لا يعطي الجزيل، ولا أن تعرض بإنسان، ولكن تريد أن تقرر في ذهن السامع وتحقق أنه يفعل إعطاء الجزيل.

_ 1 أي انفراد غير المسند إليه المذكور بالخبر الفعلي فيكون قصر قلب. 2 أي مشاركة الغير في الخبر الفعلي فيكون قصر أفراد. 3 "تعلمني" بتضعيف اللام من التعليم أو بتخفيفها من الإعلام. حرش الضب صيده أي صاده بطريقة مخصوصة. والمثل يضرب لمن يخبر بشيء أنت أعلم به منه. 4 وهذا الضرب يفيد التقوي والتأكيد لا التخصيص.

وسبب تقويه هو أن المبتدأ يستدعي أن يستند إليه شيء، فإذا جاء بعده ما يصلح أن يستند إليه صرفه إلى نفسه. فينعقد، بينهما حكم، سواء كان خاليًا عن ضميره نحو "زيد غلامك" أو متضمنًا له نحو أنا عرفت، وأنت عرفت، وهو عرف، أو "زيد عرف" ثم إذا كان متضمنًا لضميره صرفه ذلك الضمير إليه ثانيًا فيكتسي الحكم قوة1. ومما يد على أن التقديم يفيد التأكيد أن هذا الضرب من الكلام يجيء: وفيما اعترض فيه شك نحو أن تقول للرجل: كأنك لا تعلم بالذي تقول"، فتقول أنت تعلم أن الأمر على ما أقول، وعليه قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78] ؛ لأن الكاذب لاسيما في الدين لا يعترف بأنه كاذب فيمتنع أن يعترف بالعلم بأنه كاذب. وفيما اعترض فيه شك نحو أن تقول للرجل: كأنك لا تعلم ما صنع فلان، فيقول: أنا أعلم. وفي تكذيب مدع، كقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} [المائدة: 61] ، فإن قولهم: "آمنا دعوى منهم أنهم لم يخرجوا به للكفر كما دخلوا به. وفيما يقتضي الدليل أن لا يكون، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20] . فإن مقتضى الدليل أن لا يكون ما يتخذ إلهًا مخلوقًا.

_ 1 ويعلل عبد القاهر سبب التقوي بأن تقديم ذكر المحدث عنه يفيد تنبيه السامع لقصده بالحديث قبل ذكر الحديث تحقيقًا للأمر وتأكيدًا له.

وفيها يستغرب كقولك: ألا تعجب من فلان يدعي العظيم وهو يعيا باليسير؟. وفي الوعد والضمان كقولك للرجل: أنا أكفيك، أنا أقوم بهذا الأمر؛ لأن من شأن من تعده وتضمن له أن يعترضه الشك في إنجاز الوعد والوفاء بالضمان فهو من أحوج شيء إلى التأكيد. وفي المدح والافتخار؛ لأن من شأن المادح أن يمنع السامعين من الشك فيما يمدح به ويبعدهم عن الشبهة وكذلك المفتخر، أما المدح فكقول الحماسي1: هم يفرشون اللبد كل طمرة ... "وأجرد سباح يبذ المغاليا" وقول الحماسية2: هما يلبسان المجد أحسن لبسة ... "شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما" وقول الحماسي3: هم يضربون الكبش يبرق بيضه ... على وجه من الدماء سبائب وأما الافتخار فكقول طرفة: نحن في المشتأة ندعو الجفلى ... "لا ترى الآدب فينا ينتقر4"

_ 1 هو المعذل الليثي. الطمرة: الفرس الكريمة. الأجرد الفرس القصير الشعر. السباح: اللين العدو. المغالي: السهم. 2 هي عمرة الخثعمية. 3 هو الأخنس بن شهاب التغلبي من قصيدة يمدح بها قومه. الكبش: الشجاع. البيض اللأمة. السبائب: الطرائق جمع سبية.. ومثل البيت في المعنى لحسان: الضاربون الكبش يبرق بيضه ... ضربًا يطيح له بنان المفصل 4 الجفلى: الدعوة العامة. الآدب: الداعي. يفتقر: أي يدعو بعضا ويترك بعضا.

ومما لا يستقيم المعنى فيه إلا على ما جاء عليه من بناء الفعل على الاسم قوله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196] وقوله تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5] ، وقوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17] ، فإنه لا يخفى على من له ذوق أنه لو جيء في ذلك بالفعل غير مبني على الاسم لوجد اللفظ قد نبا عن المعنى، والمعنى قد زال عن الحال التي ينبغي أن يكون عليها. وكذا إذا كان الفعل منفيًّا1، كقولك "أنت لا تكذب" فإنه أشد لنفي الكذب عنه من قولك "لا تكذب"، وكذا من قولك "لا تكذب أنت"؛ لأنه لتأكيد المحكوم عليه لا الحكم، وعليه قوله تعالى: {وَالذِيْنَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرْكُوْنَ} فإنه يفيد من التأكيد في نفي الاشراك عنهم ما لا يفيده قولنا والذين لا يشركون بربهم ولا قولنا والذين بربهم لا يشركون، وكذا قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وقوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُون} ، وقوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} .

_ 1 أي بحرف نفي مؤخر عن المسند إليه، أي فقد يأتي التقديم للتخصيص وقد يكون للتقوي، فالأول كقولك "أنت ما سعيت في حاجتي" والثاني كالمثال الذي ذكره الخطيب. وابن السبكي يفهم من كلام الشيخ عبد القاهر أنه عنده للتقوي فقط. ويلاحظ أن "أنا ما قلت هذا" التقديم فيه يفيد التخصيص، فهو مثل قولك "ما أنا قلت هذا"، ولكنهما يفترقان في أن المثال الثاني إنما يلقي لمن اعتقد ثبوت القول وأصاب في ذلك لكنه أخطأ في نسبته للمتكلم أما انفرادا أو على سبيل المشاركة، وأما المثال الأول فيلقي لمن اعتقد عدم القول وأصاب لكنه اخطأ في نسبته لغير المتكلم.

هذا كله إذا بني الفعل على معرف1.

_ 1 أي سواء كانت المعرفة ظاهرة أم ضميًرا. وقوله. "هذا" أي الذي ذكر في قوله "وقد يقدم إلخ" كما ذكره المطول والدسوقي. أما ابن يعقوب فقد جعل "هذا" إشارة إلى ما ذكر من أن "مالم يتقدم فيه حرف النفي على المسند إليه تارة يفيد التقديم فيه التخصيص وتارة يفيد التقوي" وتكون النكرة بعد النفي مثله من باب أولى، وهذا فهم ابن السبكي أيضًا. ويلاحظ أن "شر أهر ذا ناب" من قصر الخبر "الأهرار" على المبتدأ "شر" قصر صفة على موصوف و"الشر أهر ذا ناب" من قصر الشر –لأن ما فيه أل هو المقصور دائمًا تقدم أو تأخر– على الأهرار قصر موصوف على صفة قصرًا إضافيًّا.. كما أن "زيد جاءني" مثلًا تقديمه للتقوية الناشئة من إفادة التنبيه عند عبد القاهر وعند الجمهور لما فيه من تكرار الإسناد، ويرى السيد ألا خلاف بين الرأيين في الحقيقة، ولا مانع عندي من تعليل سبب التقوي بهما. هذا والنكرة عند عبد القاهر إذا وليت النفي كان الكلام للتلخيص قطعًا. وإن لم تل النفي احتمل الكلام التخصيص أو التأكيد على حسب قصد المتكلم. ومثل النكرة في ذلك المعرفة: ظاهرة أو ضميرًا. فمذهب الشيخ عبد القاهر التعويل على حرف النفي، فإن تقدم على المسند إليه أفاد التقديم التخصيص مطلقًا. وإن لم يتقدم حرف النفي أفاد التقديم التخصيص أو التقوي. أما مذهب السكاكي فإن كان المسند إليه المقدم نكرة فهو للتخصيص إن لم يمنع منه مانع، وإن كان معرفة ظاهرة فلا يكون للتخصيص البتة بل للتقوي "وقال ابن السبكي: يجيء للتقوي أيضًا- كما في ص414/ 1 من شروح التلخيص حاشية ابن السبكي"، وإن كان ضميرًا، فإن قدر كونه في الأصل مؤخرًا على أنه فاعل في المعنى فقط لا اللفظ ثم قدم فهو للتخصيص وإلا فللتقوي. وهذا كله عند السكاكي سواء ولي المسند إليه حرف النفي أم لا. فالسكاكي لا ينظر إلى حرف النفي ولكن إلى حالة المسند إليه من كونه معرفة ظاهرة أو ضميرًا، أو نكرة، بصرف النظر عن حرف النفي، وذلك إن إفادة التقديم للاختصاص مشروط عنده بشروط ثلاثة: =

.........................................................................

_ = الأول: أن يجوز تقدير كون المسند إليه المقدم في الأصل مؤخرًا على أنه فاعل في المعنى - لا في اللفظ. الثاني: أن يقدر كونه كذلك. والشرط الأول غير لازم للثاني لا العكس على التحقيق. الثالث: أن لا يمنع من التخصيص مانع.. فالنكرة يتحقق فيها الشرطان بتأويل فتفيد الاختصاص بشرط أن لا يمنع منه مانع، والمعرفة لا يتحقق الأول فيها فلا تفيده، والضمير قد وقد. والسر في الشروط التي اشترطها السكاكي أن الاسم "المسند إليه" إما أن يكون في موضعه فلا يفيد في هذه الحالة تخصيصًا لعدم وجود التقديم، وإما أن يكون مقدمًا من تأخير وفي هذه الحالة إما أن لا يلاحظ التقديم فلا يفيد الاختصاص وإما أن يلاحظ فلا بد أن يجوز تقدير كونه مقدمًا على أنه فاعل في المعنى فقط دون اللفظ "إذ لو كان فاعلًا في اللفظ لامتنع تقديمه للتخصيص، إذ تقديم الفاعل اللفظي لا يجوز" وأن يقدر بالفعل كذلك. وعلى ذلك فلا بد من ملاحظة هذه الشروط في إفادة التقديم التخصيص وإلا فلا يفيد إلا التقوي. فالسر في هذه الشروط عند السكاكي: أن النكرة في "رجل قام" لا بد فيها من مسوغ للابتداء فلوحظ فيها تقديرها متأخرة على أنها فاعل معنى بالبدلية لتفيد التخصص عند التقديم ليكون مسوغًا للابتداء بها. أما المعرفة الظاهرة في مثل "زيد قام" فلا حاجة فيه إلى هذا التقدير فلم نقدره وبقيت المعرفة على حالها فقلنا أن تقديمها للتقوي فقط. وأما الضمير في مثل "أنا قمت" فالسر في جواز إفادته للتخصيص أنه لو أخر لجاز العطف بالمشاركة وعند تقديم الضمير يمنع التقديم العطف المصحح للمشاركة، ونفي المشاركة تخصيص، فمتى تراعي هذه الاعتبارات في الضمير يكون تقديمه للتخصيص وإلا كان للتقوي فقط. هذا وأما السر في الشرط الذي اشترطه عبد القاهر في إفادة التقديم للتخصيص فهو الذوق والاستعمال العربي الصحيح. ويتجلى الفرق بين السكاكي وعبد القاهر في هذه الصور التسع، وهي: =

صفحة 62 تسحب اسكانر.

...........................................................................

_ = 2- اعتبار كونه في الأصل مؤخرًا على أنه فاعل معنى فقط فقدم لإفادة التخصيص. 3 ألا يمنع من التخصيص مانع. فإذالم تتحقق هذه الشروط فلا يفيد التقديم إلا التقوي، وخرج بالشرط الأول المعرفة، لانتفاء جواز تقدير كونها مؤخرة على أنها فاعل معنى فقط، فتقديمها مطلقًا لا يفيد إلا التقوي عنده.. واستثنى السكاكي من هذا الشرط النكرة، فتقديمها عنده لإفادة التخصيص قطعًا مطلقًا إلا إذا منع من التخصيص مانع، هذا ورأيي أنا إن كلام عبد القاهر في الدلائل، وكما يدل على ظاهر كلام الخطيب أيضًا مشعر أنه إذا بني الفعل على منكر كان التقديم للتخصيص قطعًا، لا كما قيل من احتماله للتخصيص والتأكيد.. وأما الضمير فهو عند السكاكي يحتمل أن يكون تقديمه للتخصيص أو للتقوي، فإن لم يعتبر كونه مؤخرًا في الأصل على أنه فاعل معنى فقط فلا يفيد تقديمه إلا التقوي، وإن اعتبر ذلك كان تقديمه للتخصيص، أما الشرط الأول فموجود في الضمير ومتحقق فيه. وخلاصة رأي السكاكي في النكرة هو أن تقديم النكرة التي خبرها فعلى "ومثلها عنده المشتق" للتخصيص مطلقًا بشرط أن لا يمنع من التخصيص مانع، فرجل جاءني أو ما رجل جاءني أو رجل ما جاءني كل هذه الصور الثلاث للتخصيص عنده.. "وشر أهر ذا ناب" للتقوي فقط عنده وذلك؛ لأن هذا المثال قام به مانع يمنع إفادته للاختصاص وذلك المانع هو انتقاء فائدة القصر. أما امتناع كون التخصيص فيه للجنس فلا متناع أن يراد أن المهر شر لا خير؛ لأنه لا يكون إلا شرًّا. وأما امتناع كون التخصيص فيه للواحد فلنبو تخصيص الواحد عن مواضع استعمال هذا الكلام؛ لأنه يقال في مقام الحث على شدة الحزم عند الشدائد والتحريض على قوة الاعتناء بدفع هذا الشر لعظمه فلا يقصد به أن المهر شر لا شران؛ لأن كون المهر شرًّا لا شرين مما يثبط العزائم.. فلا يقصد من التقديم هنا إلا التقوية والتعظيم. وقد علم مما تقدم أن عبد القاهر يرى أن التقديم فيه للتخصيص. ويوفق الخطيب بين رأي الشيخ والسكاكي بأن السكاكي يمنع كونه لتخصيص الجنس أو الواحد والجمهور حيث يقولون: بأنه للتخصيص يريدون التخصيص النوعي بجعل التنكير في شر للتعظيم والتهويل، فلا منافاة لعدم توارد الإيجاب والنفي على موضع واحد، وفي مذهب السكاكي نظر لأن في "شر أهر ذا ناب" التخصيص قد يكون لمجرد التوكيد أو لتنزيله منزلة المجهول، وقد يجاب عن هذا بأن الأصل في التخصيص أن يكون فيما يمكن فيه الإنكار، واستعماله فيما ذكر على خلاف الأصل.

فإن بني على منكر أفاد ذلك تخصيص الجنس أو الواحد بالفعل، كقولك: رجل جاءني أي لا امرأة أو لا رجلان، وذلك؛ لأن أصل النكرة أن تكون للواحد من الجنس. فيقع بها تارة إلى الجنس فقط كما إذا كان المخاطب بهذا الكلام قد عرف أن قد أتاك آت ولم يدر جنسه أرجل هو أو امرأة، أو اعتقد أنه امرأة، وتارة إلى الوحدة فقط، كما إذا عرف أن قد آتاك من هو من جنس الرجال ولم يدر أرجل هو أم رجلان، أو اعتقد أنه رجلان.

مذهب السكاكي في إفادة التقديم للتخصيص

مذهب السكاكي في إفادة التقديم للتخصيص: واشترك السكاكي في إفادة التقديم الاختصاص أمرين: أحدهما: أن يجوز تقدير كونه في الأصل مؤخرًا، على أن يكون فاعلًا في المعنى فقط كقولك "أنا قمت"، فإنه يجوز أن تقدر أن أصله قمت أنا على أن أنا تأكيد للفاعل الذي هو التاء في قمت فقدم أنا وجعل مبتدأ. وثانيهما: أن يقدر كونه كذلك1. فإن انتفى الثاني دون الأصل كالمثال المذكور2 إذا أجري على الظاهر. وهو أن يقدر الكلام من الأصل مبنيًّا على المبتدأ والخبر،

_ 1 أي أن يعتبر ذلك أي يقدر بالفعل أنه كان في الأصل مؤخرًا. 2 وهو "أنا قمت".

ولم يقدر تقديم وتأخير، أو انتفى الأول بأن يكون المبتدأ اسمًا1 ظاهرًا. فإنه لا يفيد إلا تقوي الحكم. واستثني2 المنكر كما في نحو رجل جاءني، إن قدر أصله جاءني رجل، لا على أن "رجل" فاعل جاءني بل على أنه بدل من الفاعل الذي هو الضمير المستتر في جاءني، كما قيل في قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} إن الذين ظلموا بدل من الواو في أسروا، وفرق بينه وبين المعرف بأنه لو لم يقدر ذلك فيه انتفي تخصيصه، إذ لا سبب لتخصيصه سواه، ولو انتفي تخصيصه لم يقع مبتدأ بخلاف المعرف لوجود شرط الابتداء فيه وهو التعريف. ثم قال: وشرطه أن لا يمنع من التخصيص مانع كقولنا: رجل جاءني، أي لا امرأة أو رجلان، دون قولهم: شر أهر ذا ناب، أما على التقدير الأول فلامتناع أن يراد المهر شر لا خير4 وأما على

_ 1 أي معرفة نحو: زيد قام، هذا ويلاحظ أن مثل "أنا قمت" على رأي السكاكي يفيد التقوي عند انتفاء الشرط الثاني ويفيد التخصيص عند وجود الشرط الثاني مع وجود الشرط الأول اللازم له. 2 أي السكاكي. هذا ومراد السكاكي بالمنكر الذي استثناه هو المنكر الذي لا يفيد الحكم عليه حال تنكيره وهو الخالي عن مسوغ الابتداء به؛ لأنه المحتاج إلى اعتبار التخصيص وإلا بأن كان المنكر يصح الكم عليه بدون اعتبار التقديم والتأخير نحو: كوكب انقض: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَة} فلا حاجة لاعتبار التخصيص فيه بالتقديم والتأخير ولا بغيره. 3 أي السكاكي. 4 فيه نظرًا؛ لأن التخصيص قد يكون في المنزل منزلة المجهول وقد يكون لمجرد التوكيد، فاختصاص الشر بالهرير وإن كان معلومًا يجوز أن ينزل منزلة المجهول ويستعمل فيه القصر أو أنه استعمال فيه على سبيل التأكيد أو لجهل المخاطب عن أن المهر لا يكون إلا شرًّا.

الثاني1 فلكونه نابيًا عن مكان استعماله2، وإذ قد صرح الأئمة بتخصيصه حيث تأولوه بما أهر ذا ناب إلا شر، فالوجه3 تفظيع شأن الشر بتنكيره كما سبق4. هذا كلامه5، وهو مخالف لما ذكره الشيخ عبد القاهر: 1- لأن ظاهر كلام الشيخ فيما يلي حرف النفي، القطع بأنه يفيد التخصيص مضمرًا كان أو مظهرًا معرفًا أو منكرًا من غير شرط، لكنه لم يمثل إلا بالمضمر. وكلام السكاكي صريح في أنه لا يفيده إلا إذا كان مضمرًا، أو منكرًا بشرط تقدير التأخير في الأصل، فنحو: ما زيد قام، يفيد التخصيص على إطلاق قول الشيخ ولا يفيده على قول السكاكي ونحوه: "ما أنا قمت" يفيده على قول الشيخ مطلقًا وعلى قول السكاكي بشرط. 2- وظاهر كلام الشيخ أن المعرف إذالم يقع بعد النفي وخبره مثبت أو منفي قد يفيد الاختصاص مضمرًا كان أو مظهرًا لكنه لم يمثل.

_ 1 وهو أن يكون المراد شر لا شران والتقدير الأول أن يكون المراد شر لا خير فيه. 2 أن لنبو تخصيص الواحد عن مواضع استعمال هذا الكلام؛ لأنه لا يقصد به أن المهر شر لا شران. 3 أي فوجه الجمع بين قولهم بتخصيصه وقول السكاكي بالمانع من التخصيص أن الذي نفاه السكاكي هو تخصيص الجنس أو الواحد وما قاله النحاة تخصيص النوع وحاصل هذا الجمع أن التخصيص هنا نوعي فلا منافاة لعدم توارد النفي والإيجاب على شيء واحد. 4 أي جعل التنكير للتعظيم والتهويل ليكون المعنى هو شر عظيم فظيع أهر ذا ناب لا شر حقير، فيكون تخصيصا نوعيا، لكون المخصص نوعا من الشر، لا الجنس ولا الواحد، والمانع إنما كان من تخصيص الجنس أو الواحد. 5 أي كلام السكاكي.

إلا بالمضمر وكلام السكاكي صريح في أنه لا يفيد إلا المضمر فنحو زيد قام، قد يفيد الاختصاص على إطلاق قول الشيخ ولا يفيده عند السكاكي. ثم فيما احتج به1 لما ذهب إليه نظر: 1- إذ الفاعل وتأكيده2 سواء في امتناع التقديم ما دام الفاعل فاعلًا والتأكيد تأكيدًا، فتجويز تقديم التأكيد دون الفاعل تحكم ظاهر3. 2- ثم لا نسلم انتفاء التخصيص في صورة المنكر4 لولا تقدير أنه كان في الأصل مؤخرًا فقدم، جواز حصول التخصيص فيها بالتهويل.

_ 1 أي السكاكي. 2 المراد أن الفاعل اللفظي والفاعل المعنوي -كالتأكيد والبدل- سواء في امتناع التقديم ما بقيا على حالهما أي ما دام الفاعل فاعلًا والتابع تابعًا بل امتناع تقديم التابع أولى من امتناع تقديم الفاعل اللفظي؛ لأن فيه تقديمه على المتبوع وعلى العامل، أما الفاعل اللفظي إذا قدم ففيه تقديمه على العامل فقط، وهذا رد لقول السكاكي: التقديم يفيد التخصيص إن جاز "إلخ" فإنه يفهم منه جواز تقديم الفاعل المعنوي دون اللفظي. 3 وكذلك تجويز الفسخ في التابع عن التابعية دون الفاعل تحكم بل كل منهما يجوز فيه الفسخ والتقديم. فامتناع تقديم الفاعل إنما هو عند كونه فاعلًا فقط وإلا فلا امتناع في أن يقال في نحو زيد قام أنه كان في الأصل قام زيد فقدم وجعل مبتدأ، وامتناع تقديم التابع على المتبوع والعامل -حال كونه تابعًا- مما أجمع عليه النحاة إلا في العطف في ضرورة الشعر مثل "عليك ورحمة الله السلام". 4 أي في مثل رجل جاءني. وهذا رد لقول السكاكي "لئلا ينتفي التخصيص إذ لا سبب سواه".

كما ذكر1- وغير التهويل2. 3- ثم لا نسلم امتناع أن يراد: المهر شر لا خير3، قال الشيخ عبد القاهر: إنما قدم شر؛ لأن المراد أن يعلم "أن" الذي أهر ذا ناب هو من جنس الشر لا من جنس الخير، فجرى مجرى أن تقول "رجل جاءني" تريد أنه رجل لا امرأة، وقول العلماء أنه إنما صلح؛ لأنه بمعنى "ما أهر ذا ناب إلا شر" بيان لذلك، وهذا صريح في خلاف ما ذكره4. ثم قال السكاكي: ويقرب من قببيل "هو عرف" في اعتبار تقوي5 الحكم "زيد عارف". وإنما قلت "يقرب"، دون أن أقول "نظيره"؛ لأنه لمالم يتفاوت في التكلم والخطاب والغيبة في: "أنا عارف"، و"أنت عارف"، و"هو عارف" أشبه الخالي عن

_ 1 أي السكاكي في شر أهر ذا ناب من التهويل وغيره كالتحقير والتكثير والتقليل وغير ذلك مما يستفاد من التنكير، فهو وإن لم يصرح بأن لا سبب للتخصيص سواه لكن استلزم كلامه ذلك حيث قال "إنما يرتكب ذلك الوجه البعيد عند المنكر لفوات شرط المبتدأ". 2 وقد يجاب بأن مراد السكاكي تخصيص مخصوص هو الجنس أو الواحد مما لا يحصل بدون اعتبار التقديم. 3 إذ لا دليل عليه من العقل أو النقل. 4 أي السكاكي. 5 أي في إفادة التقوي فقط على ما فهم الخطيب. وقال ابن السبكي أن مراد السكاكي أنه يقرب منه في إفادة التقوية التي هي أعم من التخصيص. ولو فهم ذلك المصنف لما اعترض على السكاكي في تقريره الاختصاص في "وما أنت علينا بعزيز". والخطيب يفهم أن مراد السكاكي، في التقوي فقط، لا في التخصيص لفقد شرطه عنده في مثل هذا من جواز تقدير كونه في الأصل مؤخرًا. والتقوي راجع لتضمن المشتق وهو هنا "عارف" للضمير مثل "عرف" فيحصل للحكم تقو بسبب بتكرر الإسناد.

الضمير. ولذلك لم يحكم على "عارف" بأنه جملة ولا عومل معاملتها في البناء1 حيث عرب في نحو: "رجل عارف"، "رجلًا عارفًا"، "رجل عارف"، وأتبعه في حكم الأفراد نحو "زيد عارف أبوه"، يعني أتبع "عارف" "عرف" في الأفراد إذا أسند إلى الظاهر: مفردًا كان أو مثنى أو مجموعًا2. ثم قال: ومما يفيد التخصيص ما يحكيه -علت كلمته- عن قوم شعيب عليه السلام: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} ، [هود: 91] ، أي العزيز علينا يا شعيب رهطك لا أنت، لكونهم من أهل ديننا، ولذلك قال عليه السلام في جوابهم: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} [هود: 92] ، أي من نبي الله، ولو كان معناه ما عززت علينالم يكن مطابقًا.. وفيه نظر: لأن قوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيْز} من باب "أنا عارف"، لا من باب "أنا عرفت"3، والتمسك بالجواب4 ليس شيء، لجواز أن يكون

_ 1 المراد به عدم ظهور إعراب متبوعها عليها، بل إنه ثبت ظهور إعراب المتبوع على التابع المفرد دون الجملة فلم يثبت لها ذلك. 2 وقال صاحب المطول: معناه أتبع "عارف" المسند إلى الظاهر "عارف" المسند للضمير وجعل كلام المصنف سهوًا لا حاصل له. والخلاصة أن قوله "ويقرب" يشمل أمرين: أحدهما المقاربة في التقوي، والثاني عدم كمال التقوي. فالأول لتضمنه الضمير، والثاني لشبهه بالخالي عن الضمير. والحاصل أنه لما كان متضمنًا للضمير ومشابهًا للخالي عنه روعيت فيه الجهتان: أما الأولى فبأن جعل قريبًا من "هو عرف" في التقوي، وأما الثاني فبأن لم يجعل جملة ولا عومل معاملتها في البناء. وقوله "وأتبعه" معطوف على قوله "لم يحكم على عارف بأنه جملة".. هذا واسم الفاعل الرافع الظاهر كالفعل في أن كلا منهما لا يتفاوت عند الإسناد للظاهر، وإنما وجه الحكم على "عارف" مع فاعله الظاهر بالأفراد هو الحمل على المسند للضمير في "هو عارف" فاسم الفاعل مع فاعله المضمر أو المظهر مفرد.. وفي "يسن" أن صلة آل شبه جملة لا جملة. 3 أي فلا يفيد تخصيصًا بل يكون للتقوي فقط. 4 هو قول شعيب: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} .

عليه السلام فهم كون رهطه أعز عليهم، من قولهم: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} . وقال الزمخشري1: دل إيلاء ضميره حرف النفي على أن الكلام في الفاعل لا في الفعل، كأنه قيل: "وما أنت علينا بعزيز، بل رهطك هم الأعز علينا".. وفيه نظر: لأنا لا نسلم أن إيلاء الضمير حرف النفي إذالم يكن الخبر فعليا يفيد الحصر. فإن قيل: الكلام واقع فيه، وأنهم الأعزة عليهم دونه، فكيف صح قوله: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّه} قلنا: قال السكاكي معناه "من نبي الله" فهو على حذف المضاف، وأجود منه ما قاله الزمخشري: "وهو أن تهاونهم به وهو نبي الله تهاون بالله، فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله ألا ترى إلى قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 81] ، ويجوز أن يقال: لا شك أن همزة الاستفهام هنا ليست على بابها بل هي للإنكار للتوبيخ، فيكون معنى قوله: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّه} إنكار أن يكون مانعهم من رجمه رهطه، لانتسابه إليهم، دون الله تعالي، مع انتسابه إليه أيضًا، أي أرهطي أعز عليكم من الله حتى كان امتناعكم من رجمي بسبب انتسابي إليهم بأنهم رهطي، ولم يكن بسبب انتسابي إلى الله تعالى بأني رسول، والله أعلم. موضع آخر من مواضع تقديم المسند إليه: ومما يرى تقديمه كالملازم2 لفظ مثل إذا استعمل كناية من

_ 1 كلام الزمخشري تأييد لرأي السكاكي في إفادة الآية للتخصيص. 2 أي من المسند إليه الذي يرى تقديمه على المسند حال كون ذلك التقديم مماثلًا للتقديم اللازم في القياس كتقديم لازم الصدارة، فتقديم هذا ليس بلازم في القياس بل في الاستعمال، وإنما يرى التقديم هنا كاللازم لكون التقديم أعون على المراد بهذا التركيب؛ لأن الغرض منه إثبات الحكم وهو الجود وانتفاء البخل عن المخاطب بطريق الكناية التي هي أبلغ من التصريح، والتقديم لإفادته التقوي أعون على ذلك.

غير تعريض1 كما في قولنا مثلك "لا يبخل" ونحوه، مما لا يراد بلفظ مثل غير ما أضيف إليه ولكن أريد من كان على الصفة التي هو عليها كان من مقتضى القياس وموجب العرف أن يفعل ما ذكر أو أن لا يفعل2، ولكون المعنى هذا قال الشاعر3: ولم أقل مثلك أعني ... سواك يا فردا بلا مشبه وعليه قوله:

_ 1 هذا من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم ففي "مثلك لا يبخل" أطلق الملزوم وهو نفي البخل عن المماثل وأريد اللازم وهو نفيه عن المخاطب، والمسوغ للابتداء بمثل تخصيصها بالإضافة، وإن لم تتعرف بها لتوغلها في الإبهام. والمراد من التعريض هنا التعريض اللغوي وهو الإشارة على وجه الإجمال والإيهام وعدم التصريح. وبهذا يندفع ما يقال من أن التعريض من قبيل الكناية فيلزم أن يكون الكلام كناية وغير كناية وهو باطل، فالجواب أن التعريض لا يلزم أن يكون نوعا من الكناية بل هو أعم من ذلك إذ قد يكون كناية ومجازًا وحقيقة.. هذا ولو أريد هنا التعريض لم يكن التقديم كاللازم؛ لأن التقديم إنما كان كاللازم عند إرتكاب الكناية لكونه على إثبات الحكم بالطريق الأبلغ وهو الكناية، وإذا أريد التعريض فلا كناية، وذلك بأن يراد "بمثل" وكذلك "غير" إنسان آخر معين مماثل للمخاطب "في مثل" أو غير مماثل له "في غير"؛ لأنه لا يلزم من نفي البخل مثلًا عن واحد معين نفيه عن المخاطب. 2 فالمراد نفي البخل عن المخاطب على طريق الكناية؛ لأنه إذا نفي عمن كان على صفته من غير قصد إلى مماثل لزم نفيه عنه وإثبات الجود له بنفيه عن غيره "إذا قلت غيرك لا يجود" مع اقتضائه محلًّا يقوم به. هذا وليس معنى أن التقديم هنا كاللازم أنه قد يقدم وقد لا يقدم بل المراد أنه كان مقتضى القياس أن يجوز التأخير لكن لم يرد الاستعمال إلا على التقديم كما في دلائل الإعجاز. 3 هو المتنبي.

مثلك يثني المزن عن صوبه ... ويسترد الدمع من غربه1 وكذا قول القبعثري للحجاج لما توعده بقوله "لأحملنك على الأدهم": مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب أي من كان على هذه الصفة من السلطان وبسطة اليد ولم يقصد أن يجعل أحدًا مثله2: وكذلك حكم غير إذا سلك به هذا المسلك3، فقيل "غيري يفعل ذاك" على معنى أني لا أفعله فقط من غير إرادة التعريض بإنسان.. وعليه قوله:4. غير بأكثر هذا الناس ينخدع ... "إن قاتلوا جبنوا أو حدثوا شجعوا". فإنه معلوم أنه لم يرد أن يعرض بواحد هناك فيصفه بأنه ينخدع بل أراد أنه ليس ممن ينخدع. وكذلك قول أبي تمام:

_ 1 هو للمتنبي أيضًا. وهو والبيت السابق من قصيدة واحدة: والمزن: السحاب. الغرب: عرق في العين يجري منه الدمع. يصفه أولا بالكرم وثانيًا بالشجاعة. 2 الحجاج الثقفي من ولاة بني أمية المشهورين. والقبعثري: من رؤساء العرب وفصحائهم وكان من الخوارج. وهذا من الأسلوب الحكيم وسيأتي. والأدهم: القيد كما أراد الحجاج وهو في كلام القبعثري الفرس الأدهم الذي غلب سواده حتى ذهب البياض الذي فيه. والأشهب: الفرس الذي غلب بياضه حتى ذهب سواده. ومراد الحجج إنما هو القيد فنبه القبعثري على أن الحمل على الفرس الأدهم هو أولى بأن يقصده الأمير. 3 يعني مسلك مثل، يرد به سوى ما أضيف إليه فلفظ غير هنا كناية عن ثبوت الفعل لمن أضيف إليه لفظ غير في النفي وعن سلبه عنه في الإيجاب؛ لأنه إذا نفي الجود عن غير المخاطب مثلًا وقيل غيرك لا يجود يثبت للمخاطب؛ لأن الجود ثابت ولا بد له من محل يقوم به. 4 هو للمتنبي.

وغيري يأكل المعروف سحتًا ... وتشحب عنده بيض الأيادي1 فإنه لم يرد أن يعرض بشاعر سواه فيزعم أن الذي قرف2 به عند الممدوح من أنه هجاه كان من ذلك الشاعر لا منه، بل أراد أن ينفي عن نفسه أن يكون ممن يكفر النعمة ويلؤم لا غير. واستعمال "مثل" و"غير" هكذا مركوز في الطباع، وإذا تصفحت الكلام وحدتهما يقدمان أبدًا على الفعل إذا نحى بهما نحو ما ذكرناه، ولا يستقيم المعنى فيهما إذالم يقدما. والسر في ذلك أن تقديمهما يفيد تقوي الحكم به كما سبق تقريره، وسيأتي3 أن المطلوب بالكناية في قولنا "مثلك لا يبخل" و"غيرك لا يجود" هو الحكم وأن الكناية أبلغ من التصريح فيما قصد بها، فكان تقديمها أعون للمعنى الذي جلبًا لأجله.

_ 1 السحت الحرام. يشحب من الشحوب وهو تغير اللون. الأيادي النعم. 2 أي اتهم. 3 أي في باب الكناية.

موضع آخر من مواضع تقديم المسند إليه

موضع آخر من مواضع تقديم المسند إليه: قيل وقد يقدم؛ لأنه دال على العموم، كما تقول كل إنسان لم يقم1، فيقدم ليفيد نفي القيام عن كل واحد من الناس؛ لأن2

_ 1 أي يقدم المسند إليه المسور بكل على المسند المقرون بحرف النفي. 2 هذا تعليل بدر الدين بن بن مالك في كتابة المصباح في علوم البلاغة ص13. هذا ولا بد من أن يكون المسند إليه مسورًا بكل والمسند مقرونًا بحرف النفي، وبقي شرط آخر وهو أن يكون المسند إليه بحيث لو أخر كان فاعلًا، بخلاف قولك كل إنسان لم يقم أبوه فلا يجب فيه تقديم. هذا والتقديم في هذا الموضع أي في مثل قولنا كل إنسان لم يقم يدل على عموم النفي وشموله أي على نفي الحكم عن كل فرد من أفراد ما أضيف إليه لفظ كل، يعني أن المسند إليه إذا استوفى الشروط المذكورة وكان القصد في تلك الحالة إلى إفادة العموم فيقدم المسند إليه لإفادة ما قصده إذ لو أخر لم يطابق مقصوده لعدم إفادته للعموم حينئذ؛ لأنه يدل حينئذ على نفي الحكم عن جملة الأفراد "أي الأفراد المجملة التي لم تعين بكونها كلا أو بعضًا بل أبقيت على شمولها للأمرين" لا عن كل فرد. فالتقدم يفيد عموم السلب، والتأخير يفيد سلب العموم.

الموجبة المعدولة المهملة1 في قوة السالبة الجزئية المستلزمة نفي الحكم عن جملة الأفراد دون كل واحد منها، فإذا سورت بـ"كل" وجب أن تكون لإفادة العموم لا لتأكيد نفي الحكم عن جملة الأفراد؛ لأن التأسيس خير من التأكيد. ولو لم تقدم فقلت: "لم يقم كل إنسان" كان نفيًا للقيام عن جملة الأفراد دون كل واحد منها؛ لأن السالبة المهملة2 في قوة السالبة الكلية المقتضية سلب الحكم عن كل فرد لورود موضوعها3 في سياق النفي4. فإذا سورت5 بكل وجب أن تكون لإفادة نفي

_ 1 وهي "إنسان لم يقم". فهي موجبة؛ لأن النفي لم يسلط عليها، ومعدوله؛ لأن حرف النفي فيها جزء من المسند، ومهملة؛ لأنهالم تسور بكل ولا ببعض ولا بما ماثلهما. فهي في قوة القضية السالبة الجزئية مثل قولك "لم يقم بعض الإنسان"، فكل منهما لا يفيد نفي الحكم عن كل فرد فرد من الأفراد. 2 وهي "لم يقم إنسان" فهي قضية سالبة؛ لأن النفي مسلط عليها، ومهملة؛ لأنهالم تسور بكل ولا ببعض. فهي في قوة السالبة الكلية مثل لا شيء من الإنسان بقائم. 3 أي موضوع المهملة الغير المصدرة بلفظ كل. 4 وكل نكرة كذلك مفيدة لعموم النفي. 5 أي القضية السالبة المهملة "لم يقم إنسان" والحاصل أن التقديم قبل كل لسلب العموم. فيجب أن يكون بعد كل لعموم السلب. لتكون لفظه كل للتأسيس. وذلك؛ لأن لفظة كل لا تخلو عن إفادة أحد هذين المعنيين. فعند انتفاء أحدهما يثبت الآخر ضرورة، والتأكيد أن تكون لفظة كل لتقرير المعنى الحاصل قبله، والتأسيس أن تكون لإفادة معنى جديد، والتأسيس أرجح؛ لأن الإفادة خير من الإعادة.. هذا والنظر فيهما "عموم السلب وسلب العموم" إنما هو للأفراد لا للجملة "الهيئة الاجتماعية". وإنما الفرق بينهما من جهة كون كل فرد متعلقًا للنفي في الأول أو متعلقًا للمنفي في الثاني. ثم إن سلب العموم يتحقق بعدم حصوله من بعض دون بعض وبعدم حصوله من كل واحد؛ لأنه رفع للايجاب الكلي فيصدق بكل من السلب الجزئي والكلي، وأيا ما كان يتحقق السلب الكلي ولذا نراهم يقولون إن سلب العموم من قبيل السلب الجزئي؛ لأنه هو المحقق. وسلب العموم لا يستلزم عموم السلب وهذا لا ينافي ما ذكر سابقًا من أن سلب العموم صادق بصورتين.. وهذا البحث مكانه علم المنطق لا البلاغة.

الحكم عن جملة الأفراد، لئلا يلزم تجريح التأكيد على التأسيس. وفيه نظر1: 1- لأن النفي عن جملة الأفراد في الصورة الأولى -أعني الموجبة المعدولة المهملة كقولنا إنسان لم يقم- وعن كل فرد في الصورة الثانية -أعني السالبة المهملة كقولنا لم يقم إنسان- إنما أفاده الإسناد إلى إنسان، فإذا أضيف كل إلى إنسان وحول الإسناد إليه، فأفاد في الصورة الأولى نفي الحكم عن جملة الأفراد وفي الثانية نفيه عن كل فرد منها، كان كل تأسيسًا لا تأكيدًا3؛ لأن التأكيد لفظ يفيد تقوية ما يفيده لفظ آخر4 وما نحن فيه ليس كذلك.

_ 1 أي في هذا التعليل الذي علل به صاحب المصباح. 2 أي كما كان مستفادًا قبل دخول "كل" فيهما". 3 اعترض بأن هذا الرد لا يناسب قواعد المنطقيين. 4 في تركيب واحد وإسناد واحد. وحاصل هذا الكلام أنا لا نسلم أنه لو حمل الكلام بعد دخول كل على المعنى الذي حمل عليه قبل كل كان كل للتأكيد. ولا يخفى أن هذا المنع إنما يصح على تقدير أن يراد به التأكيد الاصطلاحي أما لو أريد بالتوكيد أن يكون كل لإفادة معنى كان حاصلًا بدونه أي سواء كان الإسناد واحدًا، أو متعددًا فاندفاع المنع ظاهر، وحينئذ فقط يتوجه الاعتراض الثاني.

2- ولئن سلمنا أنه يسمى تأكيدًا "فقولنا لم يقم إنسان" إذا كان مفيدًا للنفي عن كل فرد كان مفيدًا للنفي عن جملة الأفراد لا محالة فيكون "كل" في "لم يقم كل إنسان" إذا جعل مفيدًا للنفي عن جملة الأفراد تأكيدًا لا تأسيسًا 1 كما قال في "كل إنسان لم يقم" فلا يلزم من جعله للنفي عن كل فرد ترجيح التأكيد على التأسيس2. 3- ثم جعله قولنا "لم يقم إنسان" سالبة مهملة في قوة سالبة كلية مع القول بعموم موضوعها لوروده نكرة في سياق النفي خطأ؛ لأن النكرة في سياق النفي إذا كانت للعموم كانت القضية التي جعلت هي موضوعًا لها سالبة كلية، فكيف تكون سالبة مهملة3؟ ولو قال: لو لم يكن الكلام المشتمل على كلمة كل مفيدًا لخلاف ما يفيده الخالي عنها لم يكن في الاتيان بها فائدة، لثبت مطلوبه في الصورة الثانية دون الأولى، لجواز أن يقال فائدته فيها الدلالة على نفي الحكم عن جملة الأفراد بالمطابقة

_ 1 لأن هذا المعنى كان حاصلًا بدونه وحينئذ فلو جعلنا "لم يقم كل إنسان" لعموم السلب مثل "لم يقم إنسان" لم يلزم ترجيح التأكيد على التأسيس إذ لا تأسيس أصلًا؛ لأن لفظ كل للتأكيد على كل حال بل إنما يلزم ترجيح أحد التأكيدين "وهما تأكيد النفي عن كل فرد وتأكيد النفي عن الجملة والمراد هنا بأحد التأكيدين هو الأول، والمراد بالآخر هو الثاني" على الآخر. 2 والحاصل أن "لم يقم إنسان" لما كان مفيدًا للنفي عن كل فرد ويلزمه النفي عن الجملة أيضًا فكلا المعنيين حاصل قبل "كل" فعلى أيهما حملت يكون تأكيدًا لا تأسيسًا فلا يصح قول المستدل أنه يجب أن يحمل على النفي عن الجملة لئلا يلزم ترجيح التأكيد على التأسيس. 3 بدر الدين بن مالك يسير على اصطلاح المناطقة والخطيب يسير على اصطلاح أهل العربية فبينهما بون بعيد. 4 لأن قولنا "إنسان لم يقم" معناه المطابقي نفي الحكم عن الأفراد أو بعضها ولا يحتمل المجموع إلا بدلالة الالتزام بخلاف "كل إنسان لم يقم" فإن دلالته على نفي الحكم عن المجموع بالمطابقة.

واعلم أن ما ذكره هذا القائل1 -من كون كل في النفي مفيدة للعموم تارة وغير مفيدة للعموم أخرى- مشهور. وقد تعرض له الشيخ عبد القاهر2 وغيره.. قال الشيخ "عبد القاهر": كلمة كل في النفي إن أدخلت في حيزه، بأن قدم عليها: لفظًا، كقول أبي الطيب: ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... "تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن" وقول الآخر: ما كل رأي الفتى يدعو إلى رشد3. وقولنا "ما جاء القوم كلهم" وما جاء كل القوم، "ولم آخذ الدراهم كلها"، ولم آخذ كل الدراهم. أو تقديرًا، بأن قدمت4 على الفعل المنفي وأعمل فيها؛ لأن العامل رتبته التقدم على المعمول كقولك كل الدراهم لم آخذ، توجه النفي إلى الشمول خاصة دون أصل الفعل، وأفاد الكلام ثبوته لبعض أو تعلقه5 ببعض.. وإن أخرجت6 من حيزه بأن قدمت عليه لفظًا ولم تكن معمولة للفعل المنفي

_ 1 وهو بدر الدين بن بن مالك. 2 عبد القاهر يحكم الذوق والأسلوب العربي الفصيح، دون تحكمات المنطق والمناطقة. 3 عجزه: إذا بدا لك رأي مشكل فقف -وهو لأبي العتاهية. 4 أي لفظة "كل".. هذا ويلاحظ أن كلام عبد القاهر يؤيد كلام صاحب المصباح وإن اختلفا في التعليل، إذ أن كلام صاحب المصباح حق وتعليله باطل، فأورد الخطيب رأي عبد القاهر ليشير إلى التعليل الصحيح.. وما ذكره عبد القاهر يخالف أيضًا رأي صاحب المصباح إذ أن "لم يقم كل إنسان" صادق عند صاحب المصباح بصورتين "هما نفي الحكم عن كل فرد ونفيه عن بعض دون بعض" وعند عبد القاهر لا يصدق إلا على الصور ة الثانية. 5 أي تعلق الفعل: هذا والشاهد على ذلك الذوق. والحق أن هذا الحكم أكثري لا كلي بدليل قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور} وما شابهه من الآيات. 6 أي لفظة كل.

توجه النفي إلى أصل الفعل وعم ما أضيف إليه1 كل كقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله: "كل ذلك لم يكن"، أي لم يكن واحد منهما، لا القصر ولا النسيان وقول أبي النجم: قد أصبحت أم الخيار تدعى ... على ذنبا كله لم أصنع ثم قال2: وعلة ذلك أنك إذا بدأت بكل كنت قد بنيت النفي عليه وسلطت الكلية على النفي وأعملتها فيه، وإعمال معنى الكلية في النفي يقتضي أن لا يشذ شيء عن النفي، فأعرفه. هذا لفظه3. وفيه نظر4. وقيل5 إنما كان التقديم مفيدًا للعموم دون التأخير؛ لأن صورة التقديم تفهم سلب "لحقوق" المحمول للموضوع وصورة التأخير تفهم سلب الحكم من غير تعرض للمحمول بسلب أو لثبات.. وفيه نظر

_ 1 فالمسند إليه المسور بكل إذا أخر عن أداة السلب يفيد سلب العموم، وعلى مذهب عبد القاهر يفيد النفي عن بقاء الكل مع أصل الفعل. 2 أي عبد القاهر. 3 أي لفظ عبد القاهر. 4 قال صاحب المطول: لأنا نجده حيث لا يصلح أن يتعلق الفعل ببعض كقوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} ، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيم} ، {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} ، فالحق أن هذا الحكم أكثري لا كلي. هذا ومن البدهي أنه قد سبق تعليلان لهذه المسألة تعليل صاحب المصباح وتعليل عبد القاهر ... ولابن السبكي تعليل آخر ارتضاه، وهو أن "لم يقم كل إنسان" سالبة محصلة معناها نقيض لمعنى الموجبة المحصلة وهي "قام كل إنسان" حكمًا على كل فرد بالقيام فيكون المحكوم به في السالبة المحصلة نقيض قيام كل فرد ونقيض الكلي جزئي فيكون مدلوله سلب القيام عن بعضهم. 5 هذا تعليل آخر للمسألة التي نحن بصددها.

أيضًا: لاقتضائه أن لا تكون ليس في نحو قولنا ليس كل إنسان كاتبًا مفيدة لنفي كاتب، هذا إن حمل كلامه على ظاهره وإن تؤول بأن مراده أن التقديم يفيد سلب الحقوق المحمول عن كل فرد، والتأخير يفيد سلب لحقوقه لكل فرد اندفع هذا الاعتراض، لكن كان مصادرة 1 على المطلوب. واعلم أن2 المعتمد في المطلوب الحديث وشعر أبي النجم، وما نقلناه عن الشيخ عبد القاهر وغيره لبيان السبب وثبوت المطلوب لا يتوقف عليه. والاحتجاج بالخبر3 من وجهين: أحدهما أن السؤال بأم عن أحد الأمرين لطلب التعيين بعد ثبوت أحدهما عند المتكلم على الإبهام، فجوابه إما بالتعيين أو بنفي كل واحد منهما4، وثانيهما ما روي أنه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل ذلك لم يكن" قال له ذو اليدين: بعض ذلك قد كان، والإيجاب الجزئي نقيضه السلب الكلي، وبقول5 أبي النجم ما أشار إليه الشيخ عبد القاهر وهو أن الشاعر فصيح، والفصيح الشائع في مثل قوله نصب كل وليس فيه ما يكسر له وزنًا، وسياق كلامه أنه لم يأت بشيء مما ادعت.

_ 1 لأن الدعوى عين الدليل. 2 هذا هو توجيه المصنف للمسألة بعد أن ناقش الآراء وعرضها. 3 وهو الحديث. 4 قال المطول بعد أن ذكر ذلك: ردا على المستفهم وتخطئة له في اعتقاد ثبوت أحدهما، لا ينفي الجمع بينهما؛ لأنه لم يعتقد ثبوتهما جميعًا، فيجب أن يكون قوله: "كل ذلك لم يكن" نفيًا لكل منهما. 5 أي والاحتجاج بقول أبي النجم وهو: قد أصبحت أم الخيار تدعي ... على ذنبا كله لم أصنع برفع "كله" على أنه مبتدأ والجملة بعده خبر والضمير العائد محذوف أي "لم أصنعه". وقال سيبويه بعد أن أنشد البيت بالرفع: "فهذا ضعيف وهو بمنزلته في غير الشعر؛ لأن النصب لا يكسر البيت ولا يخل به ترك الهاء فكأنه قال غير مصنوع".

عليه هذه المرأة، فلو كان النصب مفيدًا لذلك والرفع غير مفيد لم يعدل عن النصب إلى الرفع من غير ضرورة. تنبيه: ومما يجب التنبيه له في فصل التقديم أصل، وهو أن تقديم الشيء على الشيء ضربان: تقديم على نية التأخير وذلك في شيء أقر مع التقديم على حكمه الذي كان عليه كتقديم الخبر على المبتدأ، والمفعول على الفاعل كقولك قائم زيد وضرب عمرًا زيد فإن قائم وعمرًا لم يخرجا بالتقديم عما كان عليه من كون هذا مسندًا ومرفوعًا بذلك وكون هذا مفعولًا ومنصوبًا من أجله.. وتقديم لا على نية التأخير ولكن أن ينقل الشيء عن حكم إلى حكم ويجعل له إعراب غير إعرابه كما في اسمين يحتمل كل منهما أن يجعل مبتدأ والآخر خبرًا له فيقدم تارة هذا على هذا، وأخرى هذا على هذا، كقولنا "زيد المنطلق" و"المنطلق زيد"، فإن المنطلق لم يقدم على أن يكون متروكًا على حكمه الذي كان عليه مع التأخير فيكون خبر مبتدأ كما كان، بل على أن ينقل عن كونه خبًرا إلى كونه مبتدأ، وكذا القول في تأخير زيد.

تأخير المسند إليه

تأخير المسند إليه: وأما تأخيره: فلاقتضاء المقام تقديم المسند1. خروج المسند إليه على خلاف الظاهر: هذا كله2 مقتضى الظاهر:

_ 1 وسيجيء بيان ذلك في أحوال المسند. 2 أي ما سبق من أحوال المسند إليه، هو مقتضى ظاهر الحال. والحال هو الأمر الداعي لإيراد الكلام مكيفًا بكيفية مخصوصة سواء كان ذلك الأمر الداعي ثابتًا في الواقع أم كان ثبوته بالنظر إلى ما عند المتكلم. أما ظاهر الحال فهو الأمر الداعي بشرط أن يكون ذلك الأمر ثابتًا في الواقع فقط. فظاهر الحال أخص من الحال، فيكون مقتضى ظاهر الحال أخص من مقتضى الحال، فإذا خرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر كان سائرًا على مقتضى الحال.

وقد يخرج المسند إليه على خلافه1: 1- فيوضع المضمر موضع المظهر: كقولهم ابتداء من غير جري ذكر لفظًا، أو قرينة حال: "نعم رجلًا زيد2، وبئس رجلًا عمرو، مكان: "نعم الرجال"، و"بئس الرجل". على "3" قول من لا يرى الأصل "زيد نعم رجلًا".

_ 1 وذلك لاقتضاء الحال إياه. 2 أي مكان نعم الرجل زيد فإن مقتضى الظاهر في هذا المقام هو الإظهار دون الإضمار، لعدم تقدم ذكر المسند إليه وعدم قرينة تدل عليه. وهذا الضمير عائد إلى شيء معقول معهود في الذهن، وهذا أحد قولين في الضمير، والقول الثاني أنه للجنس، والقولان يأتيان في "أل" من قولنا "نعم الرجل زيد"، فقد قيل أنها للعهد وقيل أنها للجنس -هذا وقد التزم تفسير الضمير بنكرة ليعلم جنس المتعقل. 3 أي وإنما يكون هذا من وضع المضمر موضع المظهر في أحد القولين أي في قول من يجعل المخصوص خبر مبتدأ محذوف وأما من يجعله مبتدأ و"نعم رجلًا" خبره: 1 فيحتمل عنده أن يكون الضمير عائدًا إلى المخصوص وهو مقدم تقديرًا ويكون التزام أفراد الضمير حيث لم يقل: "نعما" و"نعموا" من خواص هذا الباب لكونه من الأفعال الجامدة المشابهة للأسماء الجامدة فهي ضعيفة فلا تتحمل بارزًا لئلا يثقلها. وعلى القول الثاني لا يكون من وضع المضمر موضع المظهر. 2 ويحتمل أن يكون الضمير عائدًا على المتعقل الذهني لا على زيد المبتدأ وعليه فيكون من هذا الباب والرابط العموم الذي في الضمير

و"عمرو بئس رجلًا"، وقولهم: "هو زيد عالم" وهي عمرو1 شجاع، مكان: الشأن زيد عالم، والقصة عمرو شجاع. ليتمكن في ذهن السامع ما يعقبه2 فإن السامع متى لم يفهم من الضمير معنى بقي منتظرًا لعقبى الكلام: كيف تكون، فيتمكن المسموع بعده في ذهنه فضل تمكن3، وهو السر في التزام تقديم الشأن أو القصة، قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} ، وقال: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُون} ، وقال: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَار} . 2- وقد يعكس فيوضع المظهر موضع المضمر: 1- فإن كان المظهر اسم إشارة. فذلك إما لكمال العناية بتمييزه لاختصاصه بحكم بديع4 كقوله5:

_ 1 ضمير الشأن إنما يؤنث إذا كان الكلام مؤنثًا غير فضله، والمثال مجرد قياس على قولهم هي هند مليحة بجامع أن الضمير في كل عائد للقصة. فهو لم يرد به الاستعمال والسماع فالمثال غير صحيح. 2 هذا تعليل لوضع المضر موضع المظهر في البابين وقوله "ما يعقبه" أي يعقب الضمير أي يجيء على عقبه. 3 لا يخفى أن هذا التعليل لا يحسن في باب نعم وكذا في ضمير الشأن المستتر نحو كان زيد قائم؛ لأن السامع ما لم يسمع المفسر لم يعلم أن فيه ضميرًا فلا يتحقق فيه التشوق والانتظار؛ لأنه يجوز أن الفاعل اسم ظاهر يأتي به المتكلم بعد ذلك فإذا سمع التمييز علم جنس الضمير فلا يحصل له تشوق؛ لأنه حصلت له معرفة جنس الضمير ابتداء. 4 الضمير في "تمييزه" وفي "لاختصاصه" للمسند إليه. 5 هو لابن الرواندي م 245هـ. عاقل وكذلك جاهل الثانية صفة الأولى. أعيت مذاهبه أي أعيته وأعجزته طرق معاشه. الأوهام: العقول. النحرير: المتقن للأمور من نحر الأمور علما أتقنها. الزنديق: الكافر بالله. فقوله "هذا" إشارة إلى حكم سابق غير محسوس وهو كون العاقل محرومًا والجاهل مرزوقًا فكان المقام مقام المضمر لكنه لما اختص بحكم بديع عجيب الشأن وهو جعل الأوهام حائرة والعالم التحرير زنديقًا كملت عناية المتكلم بتمييزه فأبرزه في معرض المحسوس.. وقد يقال أن الحكم البديع هو كون العاقل محرومًا والجاهل مرزوقًا، ومعنى كونه بديعًا أنه ضد ما كان ينبغي: فمعنى اختصاص المسند إليه بحكم بديع أنه عبارة عنه مع كونه ضد ما كان ينبغي. وهو فهم ضعيف خلاف الظاهر.

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا وإما للتهكم بالسامع، كما إذا كان فاقد البصر، أولم يكن ثم مشار إليه أصلًا. وإما للنداء على كمال بلادته بأنه لا يدرك غير المحسوس بالبصر، أو على كمال فطانته بأن غير المحسوس بالبصر عنده كالمحسوس عند غيره. وإما لادعاء أنه كمل ظهوره حتى كأنه محسوس بالبصر. ومنه1 في غير باب المسند إليه قوله: تعاللت كي أشجي وما بك علة ... تريدين قتلي، قد ظفرت بذلك2 وإما لنحو ذلك..

_ 1 أي من وضع اسم الإشارة موضع المضمر لادعاء كمال الظهور. 2 هو لابن الدمينة. وفي الأمالي نسبته لمرة السعدي الشاعر الأموي. ونسب صاحب العقد الفريد البيت لعلية بنت المهدي. تعالل: ادعى العلة والمرض. أشجي: أحزن من جشي بالكسر يشجى بالفتح، وقوله بذلك أي بقتلي، ولم يقل به لادعاء أن قتله قد ظهر ظهور المحسوس بالبصر الذي يشار إليه باسم الإشارة.

ب- وإن كان المظهر غير اسم إشارة: فالعدول إليه عن المضمر إما لزيادة التمكين1، كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحَد، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1-2] ونظيره3 من غيره4 قوله: {وَبِالْحَقِّ أنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 5] وقوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فأنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة: 59] ، وقول الشاعر6: إن تسألوا الحق نعط الحق سائله ... "والدرع محقبة والسيف مقروب" بدل نعطكم إياه. وإما لادخال الروع في ضمير السامع وتربية المهابة. وإما لتقوية المأمور، مثالهما قول الخلفاء: أمير المؤمنين يأمرك بكذا. وعليه من غيره7 {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} .

_ 1 أي جعل المسند إليه متمكنًا عند السامع؛ لأن في الإظهار من التفخيم والتعظيم ما ليس في الضمير، والمقام الذي يقتضي التمكن هو كون الغرض من الخطاب تعظيم المسند إليه. 2 أي الذي يصمد إليه ويقصد في الحوائج، لم يقل هو الصمد لزيادة التمكن. 3 أي نظيره: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1-2] . في وضع المظهر موضع المضمر لزيادة التمكن. 4 أي من غير باب المسند إليه. 5 الضمير في أنزلناه للقرآن. فأعاد ذكر الحق مظهرًا دون أن يقول: وبه نزل. 6 هو عبد الله بن عنمة الضبي. وسيأتي شرح البيت قريبًا. 7 أي على وضع المظهر موضع المضمر لتقوية داعي الأامور من غير باب المسند إليه.

وإما للاستعطاف كقوله: إلهي عبدك العاصي أتاكا ... "مقرا بالذنوب وقد دعاكا"1 وإما لنحو ذلك.

_ 1 قال "عبدك العاصي" ولم يقل "أنا" لما في لفظ "عبدك العاصي" من الخضوع واستحقاق الرحمة وترقب الشفقة.

الالتفات

3- الالتفات: قال السكاكي: "هذا1 غير مختص بالمسند إليه، ولا بهذا القدر2، بل التكلم والخطاب والغيبة مطلقًا3 ينقل كل واحد منها إلى الآخر4، ويسمى هذا النقل التفاتًا5 عند علماء المعاني،

_ 1 قوله "هذا" أعني نقل الكلام عن الحكاية إلى الغيبة غير مختص بالمسند إليه أي بل يكون في المسند إليه مثل "إلهي" وفي غيره مثل: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه} وهذا محل اتفاق. 2 أي ولا النقل من الحكاية إلى الغيبة. ولا شك أن العبارة على هذا تكون واهية، ولذلك قدر السعد مطلقًا، أي ولا النقل حال كونه مطلقًا من التقييد بكونه من التكلم إلى الغيبة مختص بهذا القدر -أعني النقل من التكلم إلى الغيبة، أي بل يكون في غيره ككونه من الخطاب إلى التكلم أو الغيبة أو من الغيبة إلى التكلم أو الخطاب، أو من التكلم إلى الخطاب. 3 أي سواء كان في المسند إليه أو غيره وسواء كان كل منها واردًا في الكلام أو كان مقتضى الظاهر إيراده. 4 فتصير الأقسام عند السكاكي ستة حاصلة من ضرب الثلاثة في الاثنين. هذا ولفظ "مطلقًا" ليس -كما قلنا- من عبارة السكاكي بل قدره السعد؛ لأنه مراده بحسب ما علم من مذهبه في الالتفات بالنظر إلى الأمثلة. 5 مأخوذ من التفات الإنسان من يمينه إلى شماله أو العكس. هذا والالتفات من حيث إنه يشتمل على نكتة هي خاصية التركيب من علم المعاني، ومن حيث إنه يحسن الكلام ويزينه من علم البديع. والسكاكي أورده في علم المعاني والبديع. هذا وللالتفات معنى آخر عند المتقدمين سيأتي ذكره وراجعه في ص87 من نقد الشعر، 383 من الصناعتين.

كقول ربيعة بن مقروم1: بانت سعاد فأمسى القلب معمودا ... وأخلفتك ابنة الحر المواعيدا فالتفت كما ترى، حيث لم يقل "وأخلفتني2"، وقوله3: تذكرت -والذكرى تهيجك- زينبا ... وأصبح باقي وصلها قد تقضبا وحل بفلح فالأباتر أهلنا ... وشطت فحلت غمرة فمثقبا فالتفت في البيتين4. والمشهور عند الجمهور5 أن الالتفات هو التعبير عن معنى بطريق من الطرق الثلاثة بعد التعبير عنه6 بطريق آخر منها7.

_ 1 شاعر إسلامي شهد القادسية. معمودًا: حزينًا. وابنة الحر هي سعاد وهو من وضع المظهر موضع المضمر. 2 ففيه التفات من التكلم إلى الخطاب. ويجوز أن يكون الخطاب في "وأخلفتك" من التجريد لا من الالتفات بناء على أن بينهما فرقًا هو أن مبنى التجريد على المغايرة ومبنى الالتفات على اتحاد المعنى، وقيل لا منافاة بينهما. 3 ربيعة بن مقروم أيضًا، تقضب: تقطع. فلج والأباتر وغمرة ومثقبًا أسماء أمكنة، شطت بعدت. 4 في قوله تذكرت بتاء الخطاب، وقوله تهيجك بكاف الخطاب. 5 هذا هو مقابل رأي السكاكي في معنى الالتفات. 6 أي عن ذلك المعنى وهذا صريح في أنه لا بد من اتجاد معنى الطريقين في الما صدق. 7 أي بشرط أن يكون التعبير الثاني على خلاف ما يقتضيه الظاهر ويترقبه السامع ولا بد من هذا القيد ليخرج: مثل قولنا "أنا زيد" وأنت عمرو" و"نحن الذين صبحوا الصباحا" ومثل قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} ، و {اهْدِنَا} . و {أَنْعَمْتَ} ، فإن الالتفات إنما هو في إياك نعبد، والباقي جار على أسلوب إياك نعبد فلما التفت للخطاب صار الأسلوب له. ومن زعم أن مثل: يا أيها الذين آمنوا -التفاتا- لأن الذين هو المنادى في الحقيقة. فهو المخاطب والمناسب له "آمنتم"- فقد سها على ما تشهد به كتب النحو من أن عائد الموصول قياسه أن يكون بلفظ الغيبة؛ لأن الموصول اسم ظاهر فهو من قبيل الغيبة وأن عرض له الخطاب بسبب بالنداء.

وهذا1 أخص من تفسير السكاكي؛ لأنه أراد بالنقل2 أن يعبر بطريق من هذه الطرق عما عبر عنه بغيره أو كان مقتضى الظاهر أن يعبر عنه بغيره منها3، فكل التفات عندهم التفات عنده من غير عكس. مثال الالتفات من التكلم إلى الخطاب قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لا أعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22] 4.

_ 1 أي الالتفات بتفسير الجمهور. 2 المسمى التفاتًا. 3 فيتحقق الالتفات عند السكاكي بتغيير واحد، فهو لا يشترط تقدم التعبير والجمهور يشترطونه، فكل التفات عندهم التفات عنده ولا عكس.. فالسكاكي يوافق الجمهور في تسمية ما تقدم التعبير عنه بطريق آخر من الطرق الثلاثة التفاتًا، ويخالفهم في جعل ما لم يتقدم التعبير عنه بطريق آخر مما كان مقتضى الظاهر أن يعبر عنه بغيرها منها من باب الالتفات. 4 قال السكاكي في المفتاح ص106 "ولولا التعريض لكان المناسب وإليه أرجع". فقوله "ترجعون" مكان أرجع التفات عند الجمهور والسكاكي معًا. هذا والتحقيق أن المراد "ما لكم لا تعبدون" لكن لما عبر عنهم بطريق التكلم كان مقتضى ظاهر سياق الكلام إجراء باقي الكلام على ذلك الطريق فعدل عنه إلى طريق الخطاب فهو التفات على المذهبين.. هذا وحاصل القول الثاني المذكور في التحقيق أن الضميرين للمخاطب فكان مقتضى الظاهر أن يقال "وما لكم لا تعبدون" فعدل عن ذلك وأوقع ضمير التكلم موقع ضمير الخطاب ثم عبر عن ضمير التكلم بضمير الخطاب فقد اتحد المعبر عنه واختلف العبارة، فعبر أولًا بطريق التكلم ثم عبر ثانيًا بطريق الخطاب وهذا التفات، وهذا هو التحقيق؛ لأن قوله: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُد} تعريض بالمخاطبين لزجرهم على عدم الإيمان؛ لأنهم المقصودون بالذات من ذلك أيضًا، إذ سبق الخطاب في قوله: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِين} ، وإما على خلاف التحقيق فهو التفات واحد في "ترجعون".. ويرى عبد الحكيم أن التعبير بقوله تعالى "ومالي" تعريض لا التفات.

ومن التكلم إلى الغيبة قوله تعالى: {إنَّا أعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 1-2] 1. ومن الخطاب إلى التكلم قول علقمة بن عبدة2: طحابك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب تكلفني ليلى وقد شط وليها ... وعادت عواد بيننا وخطوب ومن الخطاب إلى الغيبة قوله تعالى: {حَتَّى إذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22] 3. ومن الغيبة إلى التكلم قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ} [فاطر: 8] 4.

_ 1 ومقتضى الظاهر "فصل لنا". 2 طحا: ذهب. وقوله في الحسان طروب أي أن له طربًا في طلب الحسان ونشاطًا في مراودتهن. بعيد تصغير "بعد" للقرب، أي حين ولي الشباب وكاد ينصرم. "عصر" ظرف زمان مضاف إلى الجمة الفعلية بعده. حان: قرب. شط: بعد. وليها: أي قربها "عادت" يجوز أن تكون من "عادى معاداة"؟ كان الخطوب والصوارف صارت تعاديه، أو أن تكون من عاد يعود أي عادت عواد وعوائق كانت تحول بيننا إلى ما كانت عليه قبل.. وقوله يكلفني بالياء وفيه التفات من الخطاب في "بك" إلى التكلم، ومقتضى الظاهر "يكلفك" وفاعل "يكلفني" ضمير القلب وليلى مفعوله الثاني، والمعنى: يطالبني القلب بوصل ليلى. ويروى تكلفني بالتاء على أنه مسند إلى ليلى والمفعول محذوف أي شدائد فراقها أو على أنه خطاب للقلب فيكون التفاتًا آخر من الغيبة إلى الخطاب و"بك" فيها التفات على مذهب السكاكي لا على مذهب الجمهور. ولذلك قال السكاكي "التفت في البيتين": 3 الشاهد في قوله "بهم" مكان "بكم". 4 أي مكان ساقه.

ومن الغيبة إلى الخطاب قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، إيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 4-5] 1. وقوله عبد الله بن2 عمة: ما3 أن ترى السيد زيدًا في نفوسهم ... كما يراه بنو كوز ومرهوب أن تسألوا الحق نعط الحق سائله ... والدرع محقبة والسيف مقروب وأما قول امرئ القيس4: تطاول ليلك بالأثمد ... ونام الخلي ولم ترقد وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد وذلك من نبأ جاءني ... وخبرته عن أبي الأسود فقال الزمخشري: فيه ثلاث التفاتات5، وهذا ظاهر على تفسير السكاكي6؛ لأن على تفسيره في كل بيت التفاتة، لا يقال الالتفات

_ 1 مكان إياه نعبد. 2 شاعر مخضرم. والسيد وزيد وكوز ومرهوب أحياء من ضبة. 3 المعنى أن بني السيد لا يوجبون لبني زيد في نفوسهم من الحرمة والنصرة ما يوجبه لهم بنو كوز وبنو مرهوب. والضمير في "تسألوا" لبني زيد والالتفات فيه. محقبة: مشدود في الحقيبة. مقروب: موضوع في قرابه. 4 الأثمد: اسم موضع. العائر: قذى العين. وقوله "وبانت له ليلة" من الإسناد المجازي كصام نهاره. وأبو الأسود هو أبو حجر. وقوله "وبات" الأولى تامة بمعنى أقام ليلًا ونزل به نام أو لم ينم. "وبات" الثانية يجوز أن تكون تامة أو ناقصة. 5 أي "في ليلك" وفي "بات" وفي "جاءني". 6 قال السكاكي: "التفت في الأبيات الثلاثة" فمذهب السكاكي موافق لرأي الزمشخري.

عنده1 من خلاف مقتضى الظاهر، فلا يكون في البيت الثالث التفات لوروده على مقتضى الظاهر؛ لأنا نمنع انحصار الالتفات عنده في خلاف المقتضى لما تقدم. وأما على المشهور2 فلا التفات في البيت الأول3، وفي الثاني التفاتة واحدة4، فيتعين أن يكون في الثالث التفاتتان5، فقيل هما في قوله جاءني، إحداهما باعتبار الانتقال من الخطاب في البيت الأول، والأخرى باعتبار الانتقال من الغيبة في الثاني، وفيه نظر؛ لأن الانتقال إنما يكون من شيء حاصل ملتبس به وإذ قد حصل الانتقال من الخطاب في البيت الأول إلى الغيبة في الثاني لم يبق الخطاب حاصلًا ملتبسًا به فيكون الانتقال إلى التكلم في الثالث من الغيبة وحدها لا منها ومن الخطاب جميعًا فلم يكن في البيت الثالث إلا التفاتة واحدة، وقيل احداهما في قوله وذلك؛ لأنه التفات من الغيبة6 إلى الخطاب والثانية في قوله جاءني؛ لأنه التفات من الخطاب7 إلى التكلم وهذا أقرب8.

_ 1 أي عند السكاكي. 2 أي على رأي الجمهور. 3 أي في قوله "ليلك"، وذلك؛ لأنه لم يتقدم التعبير عنها بطريق غير طريق الخطاب، وهي عند السكاكي فيها التفات؛ لأنه لا يشترط ذلك ولذلك صرح بأن في قوله "ليلك" التفاتًا؛ لأنه خطاب لنفسه ومقتضى الظاهر "ليلى" بالتكلم. 4 أي في قوله "وبات". 5 أي على رأي الزمخشري من أن في الأبيات الثلاثة ثلاث التفاتات. 6 أي في قوله "وبات" في البيت الثاني. 7 أي في قوله "وذلك" في البيت "الثالث". 8 قال الدسوقي: في هذه الأبيات التفاتان باتفاق، في "بات" لعدوله إلى الغيبه بعد الخطاب، وفي "جاءني" لعدوله بعدها إلى التكلم. وأما قوله "ليلك" فالسكاكي يجعله التفاتًا من التكلم إلى الخطاب إن لم يكن تجريدًا، وأما الجمهور فيتعين عندهم أن يكون تجريدًا.

واعلم أن الالتفات من محاسن الكلام، ووجه حسنه على ما ذكر الزمخشري هو أن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية1 لنشاط السامع، وأكثر إيقاظًا للإصغاء إليه2 من إجرائه على أسلوب واحد، وقد تختص مواقعه بلطائف: كما في سورة الفاتحة، فإن العبد إذا افتتح حمد مولاه الحقيقي بالحمد عن قلب حاضر ونفس ذاكرة لما هو فيه، بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الدال على اختصاصه بالحمد وإنه حقيق به، وجد من نفسه لا محالة محركًا للإقبال عليه، فإذا انتقل على نحو الافتتاح إلى قوله: {رَبِّ الْعَالَمِيْنَ} الدال على أنه مالك للعالمين لا يخرج منهم شيء عن ملكوته وربوبيته، قوى ذلك المحرك، ثم إذا انتقل إلى قوله: {الْرَحْمَنِ الْرَحِيْمِ} الدال على أنه منعم بأنواع النعم جلائلها ودقائقها، تضاعفت قوة المحرك، ثم إذا انتقل إلى خاتمة هذه الصفات العظام وهي قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الْدِّيْنَ} الدال على أنه مالك للأمر كل يوم الجزاء تناهت قوته وأوجب الإقبال عليه وخطابه بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات3، وكما في قوله تعالى: {وَلَوْ أنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ

_ 1 أي تجديدًا وإحداثًا من "طريت الثوب".. 2 أي إلى ذلك الكلام؛ لأن لكل جديد لذة. وهذا وجه حسن الالتفات على الإطلاق. وهذا هو كلام السكاكي أيضًا. 3 وهذا في معنى كلام السكاكي أيضًا "87 من المفتاح". هذا وبين التجريد والالتفات عموم وخصوص من وجه: يجتمعان في: {فَصِلِّ لِرَبِّكَ} ، وينفرد الالتفات دون التجريد في "تكلفني ليلى"، وينفرد التجريد دون الالتفات في "رأيت منه أسدًا" ومثل "تطاول ليلك" عند الجمهور. ولا يوجد واحد منهما كما في غالب القرآن. وقالوا لا يكون الالتفات إلا في جملتين أي كلامين مستقلين. واعترض على هذا السبكي. والتجريد إخلاص الخطاب لغيرك وأنت تريد به نفسك لا المخاطب نفسه. وفائدته طلب التوسع في الكلام وتمكن المخاطب من إجراء الأوصاف المقصودة من مدح أو غيره على نفسه إذ يكون مخاطبًا بها غيره ليكون أعذر وأبرأ من العهدة فيما يقوله غير محجور عليه. فالتجريد قسمان: =

92 جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء: 64] ، لم يقل "واستغفرت لهم"، وعدل عنه إلى طريق الالتفات تفخيمًا لشأن رسول الله

_ = 1 محض، مثل. لا خيل عندك تهديها ولا مال. 2 غير المحض: أقول لها وقد جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي وقال أبو علي الفارسي: العرب تعتقد أن في الإنسان معنى كامنًا فيه كأنه حقيقته ومحصوله فتخرج ذلك المعنى إلى ألفاظها مجردًا من الإنسان كأنه غيره، وهو هو بعينه نحو قولهم: لئن لقيت فلانًا لتلقين به الأسد، وهو عينه الأسد. لا أن هناك شيئًا منفصلًا عنه أو متميزًا منه.. ثم قال: وعلى هذا النمط كون الإنسان يخاطب نفسه، حتى كأنه يقاول غيره كقول الأعشى: وهل تطيق وداعًا أيها الرجل.. هذا وابن الأثير يرى الأول تشبيها مضمرة الأداة والثاني تجريدًا. والالتفات عند قدامة والعسكري على ضربين: أحدهما: أن يفرغ المتكلم عن المعنى فإذا ظننت أنه يريد أن يجاوزه يلتفت إليه فيذكره بغير ما تقدم ذكره قال محمد بن يحيى الصولي قال الأصمعي: أتعرف التفاتات جرير؟ قلت: لا، قال: أتنسى إذ تودعنا سليمى ... يعود بشامة سقي البشام. ألا تراه مقبلًا على شعره ثم التفت إلى البشام فدعا له وقوله: طرب الحمام بذي الأراك فشاقني ... لا زلت في علل وأيك ناضر فالتفت إلى الحمام فدعا له. والثاني: أن يكون الشاعر آخذًا في معنى وكأنه يعترضه شك، أو ظن أن رادا يرد قوله أو سائلًا يسأله عن سببه فيقول راجعًا إلى ما قدمه فإما أن يؤكده أو ينكر سببه أو يزيل الشك عنه مثل قول عبد الله بن معاوية: وأجمل إذا ما كنت لا بد مانعا ... وقد يمنع الشيء الفتى وهو مجمل "383 صناعتين، و87 نقد الشعر". والالتفات عند السكاكي: التعبير عن معنى بطريق من الطرق الثلاثة "التكلم والخطاب والغيبة" سواء عبر عن معنى بغيره قبله أو كان مقتضى الظاهر أن يعبر عنه بغيره. وعند الجمهور هو التعبير عن المعنى بطريق من الطرق الثلاثة بعد التعبير عنه بغيره. ورأى المبرد في الالتفات يوافق رأي الجمهور راجع ص39 جـ2 الكامل.

صلى الله عليه وسلم، وتعظيمًا لاستغفاره، وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان. وذكر السكاكي لالتفاتات امرئ القيس في الأبيات الثلاثة على تفسيره وجوها: 1- أحدهما أن يكون قصد تهويل الخطب واستفظاعه. فنبه في التفاته الأول على أن نفسه وقت ورود ذلك النبأ عليها ولهت وله الثكلى، فأقامها مقام المصاب الذي لا يتسلى بعض التسلي إلا بتفجع الملوك له وتحزنهم عليه، وخاطبها1 بـ"تطاول ليلك" تسلية، أو على أنها لفظاعة شأن النبأ أبدت قلقًا شديدًا ولم تتصبر فعل الملوك، فشك في أنها نفسه فأقامها مقام مكروب وخاطبها بذلك تسلية، وفي الثاني على أنه صادق في التخزن خاطب أولًا، وفي الثالث على أنه يريد نفسه. 2- أو نبه في الأول على أن النبأ لشدته تركه حائرًا فما فطن معه لمقتضى الحال فجرى على لسانه ما كان ألفه من الخطاب الدائر في مجاري أموره الكبار: أمرًا ونهيا، وفي الثاني على أنه بعد الصدمة الأولى أفاق شيئًا فلم يجد النفس معه فبنى الكلام على الغيبة. وفي الثالث على ما سبق. 3- أو نبه في الأول على أنها حين لم تثبت ولم تتبصر غاظة ذلك، فأقامها مقام المستحق للعتاب، فخاطبها على سبيل التوبيخ والتعبير بذلك، وفي الثاني على أن الحامل على الخطاب والعتاب لما كان هو الغيظ والغضب وسكت عنه الغضب بالعتاب الأول ولي عنها الوجه وهو يدمم قائلًا "وبات وباتت له"، وفي الثالث على سبق.

_ 1 فالكاف في قوله "ليلك" مكسورة، ويصح الفتح نظرًا لكون النفس يراد بها الشخص.

هذا كلامه1 ولا يخفى على المنصف ما فيه من التعسف2.

_ 1 أي كلام السكاكي. 2 لأنه فهم بعيد ليس فيه أثر للذوق بل فيه تحميل لكلام الشاعر أكثر مما أراد به منه.

الأسلوب الحكيم

4- الأسلوب الحكيم 1: ومن خلاف المقتضى2 ما سماه السكاكي الأسلوب الحكيم، وهو تلقي المخاطب3 بغير ما يترقب4 بحمل كلامه على خلاف مراده5 تنبيها على أنه الأولى بالقصد، أو السائل6بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنه الأولى بحاله أو المهم له: أما الأول فكقول القبعثري للحجاج لما قال له متوعدًا بالقيد: لأحملنك على الأدهم "مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب"، فإنه أبرز وعيده في معرض الوعد، وأراه بألطف وجه أن من كان على

_ 1 راجع 140 من المفتاح. ويدخل فيه الضرب الثاني من القول بالموجب ويدخل فيه بعض مثل المشاكلة كما يرى السبكي. 2 أي من خلاف مقتضى الظاهر وإن لم تكن من مباحث المسند إليه. 3 من إضافة المصدر للمفعول أي تلقي المتكلم للمخاطب أي تلقي المتكلم بالكلام الثاني للمخاطب به "وهو المتكلم بالكلام الأول"، والتلقي المواجهة. 4 أي المخاطب. والباء في بغيره للتعدية، وفي "بحمل كلامه" للسببية. 5 أي يحمل الكلام الصادر عن المخاطب على خلاف مراد المخاطب. 6 عطف على المخاطب أي تلقي السائل. والفرق بينه وبين تلقي المخاطب. أن هذا مبني على السؤال بعكس ذلك. والأول قريب من أسلوب تجاهل العارف ومن أسلوب القول بالموجب.

صفته في السلطان وبسطه اليد فجدير أن يصفد لا أن يصفد1، وكذا قوله له لما قال له في الثانية "إنه حديد"، لأن يكون حديدًا خير من أن يكون بليدًا، وعن سلوك هذه الطريفة في جواب بالمخاطب عبر من قال مفتخراً. أنت تشتكي عندي مزاولة القرى ... وقد رأت الضيفان ينحون منزلي فقلت كأني ما سمعت كلامها: هم الضيف جدي في قراهم وعجلي2 وسماه الشيخ عبد القاهر مغالطة: وأما الثاني فكقوله تعالى: {يَسْألونَكَ عَنِ الْأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 188] قالوا: ما بال الهلال يبدو دقيقًا مثل الخيط ثم يتزايد قليلًا قليلًا حتي يمتلئ ويستوي ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ؟ 3 وكقوله تعالى: {يَسْألونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة: 214] ، سألوا عن بيان ما ينفقون فأجيبوا ببيان المصرف4.

_ 1 أي جدير به أن يعطي لا أن يقيد. أصفد: أعطى. وصفد: أوثق. 2 البيتان لحاتم، القرى: إطعام الضيف. ينو: يقصد. 3 سألوا عن السبب في اختلاف القمر في زيادة ضوئه ونقصانه فأجيبوا ببيان الحكمة من ذلك. 4 رواية سبب النزول أنهم سألوا عنه وعن المصرف فلا تكون الآية على هذا من تلقى السائل بغير ما يتطلب. وسأل رجل بلالًا -وقد أقبل من الحلبة فقال له: من سبق؟ قال: سبق المقربون، قال: إنما أسألك عن الخيل قال: وأنا أجيبك عن الخير- فترك بلال جوابه بلفظه إلى خير هو به أنفع له كما يقول الجاحظ "201/ 2 بيان". واستقبل عامر بن عبد القيس رجل في يوم حلبة فقال: من سبق يا شيخ؟ قال: المقربون "94/ 3 بيان".

التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي

5- التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي: ومنه التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي، تنبيهًا على تحقق وقوعه. وأن ما هو للوقوع كالواقع، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْارْضِ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] ، وقوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْارْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أحَدًا} [الكهف: 47] وقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّار} ، وقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَاف} جعل المتوقع الذي لا بد من وقوعه بمنزلة الواقع1.. وعن حسان2 أن ابنه عبد الرحمن لسعه زنبور وهو طفل فجاء إليه يبكي. فقال له: يا بني مالك قال: لسعتي طوير3 كأنه ملتف في بردي حبرة، فضمه إلى صدره، وقال: يا بني قد قلت الشعر4. ومثل التعبير عنه5 باسم الفاعل كقوله تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِع} ، وكذا اسم المفعول كقوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ

_ 1 وفي السيد على المطول ص375 جعل ذلك من باب الاستعارة. هذا من الخروج على مقتضى الظاهر أيضًا التعبير عن الماضي بلفظ المستقبل إحضارًا للصورة العجيبة كقوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [فاطر: 9] والبابان يحملان على المجاز المرسل وتكون العلاقة ما بين الماضي والمضارع من التضاد، والأولى أن يكونا من مجاز التشبيه وهو أبلغ. 2 راجع القصة في167 من أسرار البلاغة. 3 تصغير طائر -ويستشهد بقول حسان على أن الشعر هو الكلام الذي فيه خيال وتصوير جميل وإن لم يكن موزونًا، وعليه فلا يكون هذا شاهدًا على ما ذكره. 4 والشاهد "قد قلت الشعر" أي ستقول الشعر، أي أدوات الشعر قد تجمعت فيك وستقوله. 5 أي عن المستقبل.

النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103] 1.

_ 1 قوله تعالى: {لَوَاقِع} أي يقع. وقوله تعالى: {مَجْمُوْعٌ} أي يجمع.. وهنا بحث وهو أن كلا من اسمي الفاعل والمفعول قد يكون بمعنى الاستقبال وإن لم يكن ذلك بحسب أصل الوضع فيكون كل منهما ههنا واقعًا في موقعه واردًا على حسب مقتضى الظاهر.. والجواب عنه أن كلا منهما حقيقة فيما تحقق فيه وقوع الوصف وقد استعمل ههنا فيما لم يتحقق مجازًا، تنبيهًا على تحقق وقوعه.

القلب

6- القلب 1: ومنه القلب2، كقول العرب "عرضت الناقة على الحوض"3.

_ 1 قال سيبويه: قوله "أدخل فوه الحجر" هذا جرى على سعة الكلام، والجيد: أدخل فاه الحجر ص92 جـ1 الكتاب. والقلب جعل أحد أجزاء الكلام مكان الآخر، والآخر مكانه، على وجه يثبت حكم كل منهما للآخر، والظاهر أنه من الحقيقة وربما يدعي أنه من المجاز العقلي، وهو من مباحث المعاني والبديع باعتبارين. والقلب نوعان: لفظي فقط مثل "قطع الثوب المسمار" تعني أن الثوب مفعول وترفعه والمسمار فاعل وتنصب وكل منهما باق على ما هو له من فاعلية أو مفعولية، ومعنوي ومثاله: "قطع الثوب المسمار" تريد أن الثوب لمبادرته بالتقطيع هو كأنه قطع المسمار، فهذا قلب معنوي.. هذا والقلب اللفظي يتعلق بالنحو لا بالبيان، والظاهر أنه حينئذ ضرورة لا ينبغي حكاية خلاف فيه، وما من محل يدعي فيه ذلك إلا جاز أن يكون القلب فيه معنويًّا. أما القلب المعنوي فينبغي القطع بجوازه ولا شبهة لمنعه، ومن يمنع المجاز مع العلاقة الواضحة إلا من شذ؟. وكلام النحاة جريان قولين فيه: المنع مطلقًا والجواز مطلقًا والقول الثالث جواز المعنوي لا اللفظي. 2 أي من خلاف مقتضى الظاهر القلب. 3 أي مكان "عرضت الحوض على الناقة" أي أظهرته عليها لتشرب، ويرى ابن السكيت أن "عرضت الناقة على الحوض" هو الأصل وأن المقلوب "عرضت الحوض على الناقة" فكأنه لاحظ أن المعروض عليه يكون أمرًا مستقرًّا.

ورده مطلقًا1 قوم، وقبله مطلقًا قوم منهم السكاكي2، والحق أنه إن تضمن اعتبارًا لطيفًا قبل وإلا رد.. أما الأول3 فكقول رؤبة: "ومهمة مغيرة أرجاؤه" ... كأن لون أرضه سماؤه4 أي كأن لون سمائه لغبرتها لون أرضه فعكس التشبيه للمبالغة، ونحوه قول أبي تمام يصف قلم الممدوح: لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأرى الجنى اشتارته أيد عواسل5 وأما الثاني6 فكقول القطامي7:

_ 1 أي سواء تضمن اعتبار لطيفًا أم لا. وذلك؛ لأنه عكس المطلوب ونقيض المقصود. 2 لأنه مما يورث الكلام لطافة وملاحة. 3 أي ما تضمن اعتبارًا لطيفًا. 4 المهمة: المفازة. مغبرة: مملوءة بالغبرة. الأرجاء: الأطراف والأرجاء جمع الرجال مقصورًا. وسماؤه أي لون سمائه. والشاهد المصراع الأخير فإنه من باب القلب. والاعتبار اللطيف هنا المبالغة في وصف لون السماء بالغبرة حتى كأنه صار بحيث يشبه لون الأرض في ذلك مع أن الأرض أصل فيه. هذا ونجد البيت في96 الموازنة و91 المفتاح. 5 الأفاعي: الحيات. أرى الجنى: العسل. اشتار: جنى. أيد عواسل: أي عارفة بجنيه. أي هذا القلم على الأعداء سم زعاف وعلى الأصدقاء شهد شهي. والشاهد في البيت الشطر الأول فهو من القلب، والأصل: لعابه لعاب الأفاعي القاتلات. والاعتبار اللطيف هنا المبالغة يعكس التشبيه. 6 وهو ما لم يتضمن اعتبارًا لطيفًا هو على المذهب الحق مردود غير مقبول. 7 من قصيدة يمدح به زفر بن حارث الكلابي. وروايته "بطنت" بدل طينت. الفدن بالتحريك: القصر. السياع: الطين بالتبن. والمعنى: كما طينت الفدن بالسياع، يقال: طينت السطح والبيت. ولقائل أن يقول أنه يتضمن من المبالغة في وصف الناقة بالسمن ما لا يتضمنه قوله: "كما طينت الفدن بالسباع" لايهامه أن السياع بلغ مبلغًا من العظم والكثرة إلى أن صارت بمنزلة الأصل والفدن بالنسبة إليه كالسياع بالنسبة إلى الفدن.. والحق أنه تكلف محض.

"فلما أن جرى سمن عليها" ... كما طينت بالفدن السباعا وقول حسان: "كأن سبيئة من بيت رأس" ... يكون مزاجها عسل وماء1 وقول عروة بن الورد: فديت بنفسه نفسي ومالي ... "وما آلوك إلا ما أطيق"2"" وقول الآخر3: "قفي قبل التفرق يا ضباعا" ... ولا يك موقف منك الوداعا وقد ظهر من هذا أن قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} ليس واردًا على القلب، إذ ليس في تقدير القلب فيه اعتبار لطيف. وكذا قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} وكذا قوله تعالى: {اذْهَبْ

_ 1 السبيئة: الخمر. بيت رأس: موضع بالشام.. وبعد البيت: على أنيابها أو طعم غض ... من التفاح عصره اجتناء يشبه ريق محبوبته بخمر مزجت بعسل وماء أو بماء تفاح طري في وقت اجتنائه ونضجه. ويروى برفع "مزاج" مبتدأ وما بعده خبر له والجملة خبر يكون واسمها ضمير الشأن. والبيت من قصيدة لحسان. 2 لا آلوك أي لم أقصر فيك. 3 هو القطامي الشاعر: ويقول خداش بن زهير: فإنك لا تبالي بعد حولي ... أظبي كان أمك أم حمار

بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} 1. فأصل الأول أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا أي إهلاكنا، وأصل الثاني ثم أراد الدنو من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى فتعلق عليه في الهواء، ومعنى الثالث تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه ليكون ما يقولونه بمسمع منك فانظر ماذا يرجعون فيقال أنه دخل عليها من

_ 1 في كتاب "ما اتفق لفظه واختلف معناه" ذكر لآية: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّة} وأسلوب القلب فيها حيث سماه "التحويل".. وفي الكامل للمبرد، قال المبرد: والكلام إذالم يدخله لبس جاز القلب للاختصار. هذا وفي 96، 97 من الموازنة كلام على أسلوب القلب خلاصته أن الآمدي: 1 لا يرخص للمتأخر في القلب إنما جاء في كلام العرب على السهو، والمتأخر وإن احتذى بهم على أمثلتهم فلا ينبغي له أن يتبعهم فيما سهوا فيه. 2 ما ورد في القرآن من القلب: مثل: {دَنَا فَتَدَلَّى} وإنما هو تدلى فدنا، ومثل: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّة} ، وإنما العصبة تنوء بالمفاتيح أي تنهض بثقلها، ومثل: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيد} ، أي وإن حبه للخير لشديد، فليس كله بقلب وإنما هو صحيح مستقيم لا قلب فيه، والمعنى أن تدليه كان عند دنوه واقترابه، وأراد الله بما أن مفاتحه لتنوء بالعصبة أي تميلها من ثقلها، وقوله: إنه لحب الخير لشديد: أي إنه لحب المال لشديد أي بخيل، وكأن الآمدي ينفي عن تلك المثل القلب بمعنى أنها لا غلط فيها وأنها على تشبيهها بالأصل المقلوبة عنه، لا أنها لا قلب فيها مطلقًا. 3 ما ورد في الشعر من القلب قسمان: سائغ مقبول مثل "كأن لون أرضه سماؤه" وقبيح غير حسن لا يجوز في الشعر ولا في القرآن. وهو ما جاء في كلامهم على سبيل الغلط مثل "كما كان الزنا فريضة الرجم"، و"تشقى الرماح بالضياطرة الحمر". 4 المبرد أيضًا يقصر استعمال أسلوب القلب على المتقدمين دون المتأخرين ولكنه يجعل فائدة القلب الاختصار. 5 يرى الآمدي أنه قد يكون لإصلاح الوزن أو للضرورة أو للسهو.

كوة فألقى الكتاب إليها وتوارى في الكوة1.. وأما قول خداش: "وتركب خيلا لا هوادة بينها" ... وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر2 فقد ذكر له سوى القلب وجهان: أحدهما: أن يجعل شقاء الرماح بهم استعارة عن كسرها بطعنهم بها. والثاني: أن يجعل نفس طعنهم شقاء لها تحقيرًا لشأنهم وأنهم ليسوا أهلا؛ لأن يطعنوا بهاكما يقال شقى الخز بجسم فلان إذا لم يكن أهلًا للبسه. وقيل في قول قطري بن الفجاءة: ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الأقدام3 أنه من باب القلب، على أن لم أصب بمعنى لم أجرح، أي قارح

_ 1 حمل السكاكي كل هذه الآيات على القلب ص91 المفتاح. 2 الضياطرة جمع ضيطر وهو العظيم أو الضخم اللئيم العظيم الأست، الحمر جمع أحمر اللون وقيل هو الذي لا سلاح معه.. هذا والشاهد في الشطر الثاني وكأن أصل الكلام: وتشقى الضياطرة الحمر بالرماح. وعلى أنه لا قلب فيه يكون قوله "وتشقى" استعارة جعل كسر الرماح في حربهم شقاء لها، أو يكون جعل نفس الطعن شقاء لها وتحقيرا لشأنهم وإنهم ليسوا أهلًا لأن يطعنوا بها. وقال السكاكي: في البيت قلب أراد تشقى الضياطرة بالرماح، ولك ألا تحمله على القلب بواسطة استعارة الشقاء لكسرها بالطعان. 3 راجع البيت في صفحة119 من أسرار البلاغة.. وجملة "وقد أصبت ولم أصب" اعتراضية أي جرحت ولم أجرح. "وأصبت" بالبناء للفاعل. "وأصب" بالبناء للمفعول. وفلان جذع أي حديث السن، وقارح أي كبيرة، وجذع البصيرة أي غير مجرب للأمور، وقارح الأقدام أي له أقدام أهل العقول والسن القديم. وهذا عكس المراد؛ لأن المقصود وصفه بأنه قارح البصيرة أي مجرب قتل الأمور علما وأنه جذع الأقدام أي شجاع قوي شديد. فالأصل أن يقول: ثم انصرفت قارح البصيرة جذع الأقدام، ولكنه قلب فأوهم خلاف المراد.

البصرة جذع الأقدام، كما يقال "أقدام غر ورأي مجرب" وأجيب عنه بأن لم أصب بمعنى لم ألف أي لم ألف بهذه الصفة بل وجدت بخلافها جذع الأقدام قارح البصيرة على أن قوله: "جذع البصيرة قارح الأقدام" حال من الضمير المستتر في لم أصب فيكون متعلقًا بأقرب مذكور، ويؤيد هذا الوجه1 قوله قبله: لا يركنن أحد إلى الإحجام ... يوم الوغى متخوفًا لحمام فلقد أراني للرماح دريئة ... من عن يميني مرة وأمامي حتى خضبت بما تحدر من دمي ... أكناف سرجي أو عنان لجامي فإن الخضاب بما تحدر من دمه دليل على أنه جرح، وأيضًا فحوى كلامه أن مراده أن يدل على أنه جرح ولم يمت، إعلامًا أن الأقدام غير علة الحمام، وحثًّا على الشجاعة وبغض الفرار.

_ 1 وهو أن "لم أصب" بمعنى "لم ألف".

القول في أحوال المسند

القول في أحوال المسند: حذف المسند: أما تركه1: فلنحو ما سبق في باب المسند إليه من تخييل العدول إلى أقوى الدليلين، ومن اختبار تنبه السامع عند قيام القرينة، أو مقدار تنبه، ومن الاختصار والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر. 1- أما مع ضيق المقام كقوله: "ومن يك أمسى بالمدينة رحله" ... فإني وقيار بها لغريب2

_ 1 عبر هنا بالترك وفي المسند إليه بالحذف إشعارًا بأن المسند إليه ركن لا يستغني عنه في الكلام والاحتياج إليه دون الاحتياج إلى المسند بخلاف المسند فإنه ليس بهذه المثابة في الاحتياج ويجوز أن يترك ولا يؤتي به لغرض. 2 البيت لضابئ بن الحارث البرجمي، ومع أبيات في الكامل للمبرد "188: 1" وروايته "وقيارا"، وتجده في 38 جـ1 من الكتاب لسيبويه.. الرحل: المنزل. قيار: اسم فرس أو جمل للشاعر. ولفظ البيت خبر ومعناه التحسر والتوجع. فالمسند إلى "قيار" محذوف لقصد الاختصار والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر مع ضيق المقام بسبب التوجع والمحافظة على الوزن ولا يجوز أن يكون "قيار" عطفًا على محل اسم أن و"غريب" خبر عنهما، لامتناع العطف على محل اسم إن قبل مضى الخبر لفظًا أو تقديرًا، وذلك لما يلزم عليه من توجه العاملين -المبتدأ، وأن- إلى معمول واحد هو الخبر. وأما إذا قدرنا "لقيار" خبًار محذوفًا فيجوز أن يكون هو عطفًا على محل اسم أن؛ لأن الخبر مقدم تقديرًا فلا يكون مثل "إن زيدًا وعمرًا ذاهبان" بل مثل "إن زيدًا وعمرو لذاهب" وهو جائز. ويجوز أن يكون مبتدأ والمحذوف خبره والجملة بأسرها عطف على جملة أن مع اسمها وخبرها.

أي وقيار كذلك، وكقوله1: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف أي نحن بما عندنا راضون2.. وكقول أبي الطيب: قالت وقد رأى إصفراري من به؟ ... وتنهدت، فأجبتها: المتنهد أي المتنهد هو المطالب3 به، دون المطالب به هو المتنهد، إن فسر بمن المطالب به؛ لأن مطلوب السائلة على هذا الحكم على شخص معين بأنه المطالب به ليتعين عندها، لا الحكم على المطالب به بالتعيين، وقيل معناه "من فعل به"، فيكون التقدير: فعل به المتنهد. 2- وأما بدون الضيق، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أحَقُّ أن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] على وجه، أي والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك، ويجوز أن يكون جملة واحدة، وتوحيد الضمير؛ لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله، فكانا في حكم مرضي واحد، كقولنا: إحسان زيد وإجماله تعشني وجبر مني، وكقولك "زيد منطلق وعمرو"، أي عمرو كذلك4، وعليه قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إن ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] ، أي واللائي لم يحضن

_ 1 هو لقيس بن الخطيم أو عمرو بن امرئ القيس الأنصاري الخزرجي، ونسبه الجاحظ لعمرو، وهو جد عبد الله بن رواحة، وكان شاعرًا فحلًا من حكام العرب وقضاتهم، وهو يخاطب بهذا البيت مالك بن العجلان حين رد قضاءه في واقعة من وقائع الأوس والخزرج. وقبله: يا مال والسيد المعمم قد ... يبطره بعد رأيه السرف 2 نحن مبتدأ محذوف الخبر لما ذكرنا أي نحن بما عندنا راضون فالمحذوف ههنا هو خبر الأول بقرينة الثاني وفي البيت السابق بالعكس. 3 فيكون من حذف المسند لا من حذف المسند إليه. 4 فيكون من حذف المسند للاحتراز عن العبث من غير ضيق المقام.

مثلهن، وقولك: خرجت فإذا زيد1. وقولك لمن قال هل لك أحد، إن الناس ألب عليك: إن زيدًا وإن عمرًا، أي إن لي زيدًا وإن لي عمرًا، وعليه قوله2: إن محلًّا وإن مرتحلًا. أي إن لنا محلًّا في الدنيا وإن لنا مرتحلًا عنها إلى الاخرة. وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ أنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} [الإسراء: 100] تقديره لو تملكون تملكون مكررًا لفائدة التوكيد، فأضمر "تملك" الأول إضمارًا على شريطة التفسير، وأبدل من الضمير المتصل الذي هو الواو ضمير منفصل وهو أنتم لسقوط ما يتصل به من اللفظ، فأنتم فاعل الفعل المضمر وتملكون تفسيره3 قال الزمخشري: هذا ما يقتضيه علم الأعراب، فأما ما يقتضيه علم البيان فهو أن "أنتم تملكون" فيه دلالة على الاختصاص، وأن الناس هم المختصون

_ 1 أي موجود أو حاضر أو واقف أو بالباب أو ما أشبه ذلك، فحذف للاحتراز عن العبث من غير ضيق المقام مع اتباع الاستعمال؛ لأن إذا المفاجأة تدل على مطلق الوجود، وقد ينضم إليها قرائن تدل على نوع خصوصية كلفظ الخروج المشعر بأن المراد فإذا زيد بالباب أو حاضر أو نحو ذلك. والفاء قيل أنها للسببية المجردة عن العطف وقيل أنها للعطف على المعنى، وأما إذا فظرف زمان وقيل ظرف مكان وقيل حرف دال على المفاجأة. 2 أي قول الأعشى وبيته: إن محلا وإن مرتحلا ... وإن في السفر إذ مضوا مهلًا وهو في صفحة247 دلائل الإعجاز، وراجع نقد ابن عبد ربه للبيت في العقد الفريد ص14 جـ4.. والشاهد في البيت حذف المسند الذي هو ظرف قطعًا لقصد الاختصار والعدول إلى أقوى الدليلين أعني العقل ولضيق المقام أعني المحافظة على الشعر ولاتباع الاستعمال لاطراد الحذف في مثل "إن مالًا وإن ولدًا" وقد وضع سيبويه في كتابه لهذا بابًا فقال "هذا باب إن مالا وإن ولدًا". 3 فقوله: أنتم ليس بمبتدأ؛ لأن لو أنما تدخل على الفعل بل هو فاعل فعل محذوف، والأصل "لو تملكون" فحذف الفعل الأول احترازًا عن العبث لوجود المفسر ثم عوض من الضمير المتصل ضمير منفصل على القاعدة عند حذف الفاعل. فالمسند المحذوف ههنا فعل وفيما سبق اسم أو جملة.

بالشح المتبالغ. ونحوه قول حاتم "لو ذات سوار لطمتني"، وقول المتلمس: ولو غير إخواني أرادوا نقيصتي ... "جعلت لهم فوق العرانين ميسمًا1" وذلك؛ لأن الفعل لما سقط لأجل المفسر برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر، وكقوله تعالى: {أفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرآاهُ حَسَنًا} [فاطر: 8] ، أي كمن لم يزين له سوء عمله، المعنى أفمن زين له سوء عمله من الفريقين اللذين تقدم ذكرهما -الذين كفروا والذين آمنوا- كمن لم يزين له سوء عمله؟ ثم كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قيل له ذلك قال: لا، فقيل: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات} ، وقيل المعنى: أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرات؟ فحذف الجواب لدلالة: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات} أو أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله؟ فحذف لدلالة: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . وأما قوله تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أنْفُسُكُمْ أمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} ، [يوسف: 18] ، وقوله تعالى: {سورة أنزلناها} ، وقوله: {وأاقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمَانِهِمْ لَئِنْ أمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور: 53] فكل منها يحتمل الأمرين: حذف المسند إليه وحذف المسند، أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أجمل، وهذه سورة أنزلناها أو فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها، وأمركم أو الذي يطلب منك طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها ولا يرتاب كطاعة الخلص من المؤمنين، الذين طابق باطن أمرهم ظاهره، لا أيمان تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها، أو طاعتكم طاعة معروفة أي بأنها بالقول دون الفعل. أو طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة.

_ 1 العرانين جمع عرنين وهو الأنف كله أو ما صلب منه. الميسم: العلامة.

ومما يحتمل الوجهين1 قوله سبحانه وتعالى: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} ، قيل التقدير "ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة"، ورد بأنه تقرير لثبوت آلهة؛ لأن النفي إنما يكون للمعنى المستفاد من الخبر دون معنى المبتدأ، كما تقول: ليس أمراؤنا ثلاثة فإنك تنفي به أن تكون عدة الأمراء ثلاثة دون أن تكون لكم أمراء، وذلك إشراك، مع أن قوله تعالى بعده: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِد} يناقضه، والوجه أن "ثلاثة" صفة مبتدأ محذوف، أو يكون مبتدأ محذوفًا مميزه، لا خبر مبتدأ، والتقدير: ولا تقولوا لنا أو في الوجود آلهة ثلاثة أو ثلاثة آلهة، ثم حذف الخبر كما حذف الخبر من: {لَا إِلَهَ إَلَّا الْلَّهُ} {وَمَا مِنْ إَلَهٍ إَلَّا اللهُ} ، ثم حذف الموصوف أو المميز كما يحذفان في غير هذا الموضع، فيكون النهي عن إثبات الوجود لآلهة، وهذا ليس فيه تقرير لثبوت إلهين مع أن ما بعده أعني قوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِد} ينفي ذلك، فيحصل: النهي عن الاشراك، والتوحيد من غير تناقض، ولهذا يصح أن يتبع نفي الاثنين فيقال: ولا تقولوا لنا: آلهة ولا إلهان؛ لأنه كقولنا "ليس لنا آلهة ثلاثة ولا الهان"، وهذا صحيح. ولا يصلح أن يقال على التقدير الأول ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة ولا اثنان؛ لأنه كقولنا: ليست آلهتنا ثلاثة ولا اثنين وهذا فاسد، ويجوز أن يقدر ولا تقولوا الله المسيح وأمه2 ثلاثة: أي لا تعبدوهما كما تعبدونه لقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إن اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73] ، فيكون المعنى: ثلاثة مستوون في الصفة والرتبة، فإنه قد استقر في العرف أنه إذا أريد الحاق اثنين بواحد في وصف وأنهما شبيهان له أن يقال "هم ثلاثة"، كما يقال إذا أريد الحاق واحد بآخر وجعله في معناه "هما اثنان".

_ 1 راجع ص290-294 من دلائل الإعجاز. 2 وعلى هذا يكون من حذف المسند إليه. والمعنى صحيح بخلاف الوجه الأول.

واعلم أن الحذف لا بد له من قرينة كوقوع الكلام جوابًا عن سؤال: 1- أما محقق: كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 63] . 2- وأما مقدار نحو: لبيك يزيد ضارع لخصومه ... "ومختبط مما تطيح الطوائح1" وقراءة من قرأ "يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ،2 رِجَالٌ"، وقوله: {كَذَلِكَ يُوحِي إلَيْكَ وإالَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 3] ، ببناء الفعل للمفعول. وفضل هذا التركيب على خلافه، أعني لبيك يزيد ضارع، ببناء3 الفعل للفاعل ونصب يزيد من وجوه: أحدها أن

_ 1 البيت لنهشل بن حرى بن ضمرة ويروى للبيد، ونسبه الزمخشري لمزرد أخي الشماخ وفي ابن السبكي أنه لمرة بن عمرو النهشلي في يزيد بن نهشل، وقيل للحارث بن ضرار النهشلي، وفي ابن يعقوب لضرار بن نهشل في أخيه يزيد. هذا ونهشل بن حرى شاعر إسلامي. وفي الكتاب لسيبويه أن البيت للحارث بن نهيك.. ويزيد هو يزيد بن نهشل. الضارع: الذليل. المختبط: الذي يأتي إليك للمعروف من غير وسيلة. الإطاحة: الإذهاب والإهلاك، الطوائح: جمع مطيحة على غير قياس وجمعها القياسي مطاوح أو مطيحات.. هذا "ولبيك" بالبناء للمفعول كأنه قيل "من يبكيه؟ " فقال: يبكيه "ضارع" ثم حذف الفعل وهو المسند. فهنا حذف المسند بقرينة وقوعه في جواب سؤال مقدر. ومعنى البيت: ليبكه ذليل في الخصومة؛ لأنه كان ملجأ للأذلاء وعونًا للضعفاء وليبكه طالب للمعروف من أجل أذهاب الأحداث لما له ونشبه؛ لأنه كان عون الفقراء والمحتاجين. 2 والآية شاهد في باب الفصل أيضًا. 3 هذا تفسير لقوله "خلافه".

هذا التركيب1 يفيد إسناد الفعل إلى الفاعل مرتين إجمالًا ثم تفصيلًا2، والثاني أن نحو "زيد" فيه ركن الجملة3 لا فضلة، الثالث أن أوله غير مطمع للسامع في ذكر الفاعل، فيكون عند ورود ذكره كمن تيسرت له غنيمة من حيث لا يحتسب، وخلافه بخلاف ذلك. ومن ذلك الباب، أعني الحذف الذي قرينته وقوع الكلام جوابًا عن سؤال مقدر: قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِن} على وجه، فإن "لله شركاء" إن جعلا مفعولين لجعلوا، فالجن يحتمل وجهين: أحدهما: ما ذكره الشيخ4 عبد القاهر، من أن يكون منصوبًا بمحذوف دل عليه سؤال مقدر، كأنه قيل من جعلوا لله شركاء؟ فقيل الجن، فيفيد الكلام إنكار الشرك مطلقًا فيدخل اتخاذ الشريك من غير الجن في الإنكار، دخول اتخاذه من الجن، والثاني: ما ذكره الزمخشري، وهو أن ينتصب "الجن" بدلًا من شركاء فيفيد إنكار الشريك مطلقًا أيضًا كما مر، وإن جعل لله "لغوا" كان "شركاء الجن" مفعولين قدم ثانيهما على الأول، وفائدة التقديم استعظام أن يتخذ "لله" شريك: ملكًا كان أو جنيا أو غيرهما ولذلك قدم اسم "الله" على الشركاء، ولو لم يبين الكلام على التقديم وقيل: "وجعلوا الجن شركاء لله، لم يفد إلا إنكار جعل الجن شركاء، والله أعلم.

_ 1 وهو قولنا "لبيك يزيد ضارع" ببناء الفعل للمفعول. 2 أما التفصيل فظاهر، وأما الإجمال؛ فلأنه لما قيل "لبيك" علم أن هناك باكيًا يسند إليه هذا البكاء؛ لأن المسند إلى المفعول لابد له من فاعل محذوف أقيم المفعول مقامه ولا شك أن المكرر أوكد وأقوى وأن الإجمال ثم التفصيل أوقع في النفس. 3 لكونه المسند إليه لا مفعولًا. 5 راجع 222 من الدلائل، ص99 من المفتاح.

ومنه ارتفاع المخصوص في باب نعم وبئس على أحد القولين1.

_ 1 أي ومن حذف المسند بقرينة وقوع الكلام جوابًا عن السؤال المقدر ارتفاع المخصوص في باب نعم وبئس مثل "نعم رجلًا زيد"، و"بئس رجلًا عمرو"، على أحد القولين في ذلك، وهو أن يكون المخصوص مبتدأ محذوف الخبر فيكون السؤال المقدر "من هو الممدوح؟ " فقيل" زيد" أي "زيد الممدوح".

ذكر المسند

ذكر المسند: وأما ذكره: فإما لنحو ما مر في باب المسند إليه: من زيادة التقرير، والتعريض بغباوة السامع، والاستلذاذ، والتعظيم، والإهانة، وبسط الكلام1 وإما ليتعين كونه: اسمًا فيستفاد منه الثبوت2، أو كونه فعلًا فيستفاد منه التجدد3، أو كونه ظرفًا فيورث احتمال الثبوت والتجدد، وإما لنحو ذلك. قال السكاكي: وإما للتعجب من المسند إليه بذكره، كما إذا قلت زيد يقاوم الأسد مع دلالة قرائن الأحوال، وفيه نظر4: لحصول التعجب بدون الذكر إذا قامت القرينة.

_ 1 ومن كون الذكر هو الأصل ولا مقتضى للحذف مثل زيد قائم، ومن الاحتياط لضعف التعويل على القرينة مثل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيم} ، والتعريض بغباوة السامع مثاله "محمد نبينا" في جواب من قال: من نبيكم. 2 أي حصول المسند للمسند إليه من غير دلالة على تقييده بالزمان، ويفيد مع الثبوت الدوام بالقرينة، أو من حيث العدول عن الفعل إليه. 3 أي تجدد الحدث أي وجوده بعد أن لم يكن. وإفادة الفعل ذلك بالوضع لتضمنه الزمان الموصوف بالتجدد وعدم الاستقرار. ويفيد مع التجدد الحدوث أي حدوثه شيئًا بعد شيء على وجه الاستمرار. 4 أي في كلام السكاكي -من إفادة ذكر المسند للتعجب- نظر واعتراض، ورد صاحب المطول على هذا النظر بأن حصول التعجب بدون الذكر ممنوع؛ لأن القرينة تدل على نفس المسند. وأما تعجيب المتكلم للسامع فبالذكر المستغني عنه في الظاهر.

إفراد المسند

إفراد المسند 1: وأما إفراده: فلكونه غير سببي2 مع عدم إفادة تقوي3 الحكم، كقولك: زيد منطلق، وقام عمرو. والمراد بالسبببي نحو "زيد أبوه منطلق". قال السكاكي: وأما الحال المقتضية لإفراده فهي إذا كان فعليًّا ولم يكن المقصود من نفس التركيب تقوي الحكم، وأعني

_ 1 أي جعل المسند غير جملة. 2 السبببي هنا جملة أخبر بها عن مبتدأ بعائد ليس مسندا له في تلك الجملة والسببي نسبة إلى السبب الذي هو الضمير الذي يقع الربط به. 3 إذ لو كان سببيًّا نحو "زيد قام أبوه" أو مفيدًا للتقوي نحو "زيد قام" فهو جملة قطعًا. وأما نحو "زيد قائم" فليس بمفيد للتقوي بل هو قريب من "زيد قام" في ذلك، وقوله مع عدم إفادة التقوي معناه مع عدم إفادة نفس التركيب تقوي الحكم فيخرج ما يفيد التقوي بحسب التكرير نحو "عرفت عرفت" أو بحرف التأكيد نحو "إن زيدًا عارف"، أو نقول: أن تقوي الحكم في الاصطلاح هو تأكيده بالطريق المخصوص -وهو تكرير الإسناد مع وحدة المسند إليه- مثل زيد قام.. فإن قيل: المسند قد يكون غير سببي ولا مفيد للتقوي ومع هذا لا يكون مفردًا كقولنا "أنا سعيت في حاجتك" و"رجل جاءني" و"ما أنا فعلت"، هذا عند قصد التخصيص. قلت: سلمنا أن ليس القصد في هذه الصور إلى التقوي لكن لا نسلم أنها لا تفيد التقوي ضرورة حصول تكرار الإسناد الموجب للتقوي، ولو سلم فالمراد أن إفراد المسند يكون لأجل هذا المعنى ولا يلزم منه تحقق الإفراد في جميع صور تحقق هذا المعنى. ثم السببي والفعلي من اصطلاحات صاحب المفتاح حيث سمي في قسم النحو الوصف بحال الشيء نحو "رجل كريم" وصفا فعليا، والوصف بحال ما هو من سببه نحو "رجل كريم أبوه"، وصفًا سببيًّا، وسمي في علم المعاني المسند في نحو "زيد قام أبوه" مسندًا سببيًّا، وفسرهما بما لا يخلو من صعوبة وانغلاق فلهذا اكتفى المصنف في بيان المسند السببي بالمثال. وهذا الاصطلاح غير موجود لأحد قبل السكاكي.. والمسند السببي عند السكاكي أربعة أقسام: جملة اسمية خبرها فعل مثل "زيد أبوه ينطلق"، أو اسم فاعل مثل "زيد أبوه منطلق"، أو اسم جامد مثل "زيد أخوه عمرو" أو جملة فعلية الفاعل فيها مظهر مثل "زيد انطلق أبوه".

بالمسند الفعلي ما يكون مفهومه محكومًا به بالثبوت للمسند إليه أو بالانتفاء عنه كقولك: أبو زيد منطلق، والكر من البر بستين1، وضرب أخو عمرو. ويشكرك بكر أن تعطه، وفي الدار خالد، إذ تقديره استقر أو حصل في الدار على أقوى الاحتمالين2، لتمام الصلة بالظرف كقولك: الذي في الدار3 أخوك ... وفيه نظر من وجهين. أحدهما: أن ما ذكره في تفسير المسند الفعلي يجب أن يكون تفسيرًا للمسند مطلقًا4، والظاهر أنه إنما قصد به الاحتراز عن المسند السببي، إذ فسر المسند السببي بعد هذا بما يقابل تفسير المسند الفعلي، ومثله بقولنا "زيد أبوه منطلق"، أو "انطلق"، "والبر الكر منه بستين"، فجعل كما ترى أمثلة السببي مقابلة لأمثلة الفعلي مع الاشتراك في أصل المعنى. والثاني: أن الظرف الواقع خبرًا إذ كان مقدرًا بجملة كما اختاره كان قولنا: "الكر من البر بستين"، تقديره الكر من البر استقر بستين فيكون المسند جملة ويحصل تقوي الحكم كما مر، وكذا إذا كان "في الدار خالد" تقديره "استقر في الدار خالد" كان المسند جملة أيضًا، لكون استقر مسندًا إلى ضمير خالد لا إلى خالد5 على الأصح لعدم اعتماد الظرف على شيء.

_ 1 الكر بضم الكاف: مكيال قيل أنه أربعون أردبا. 2 وهو تقدير المتعلق فعلًا لا اسمًا. 3 فإن تقديره الذي استقر أو حصل في الدار أخوك ولا يصح تقدير "حاصل" أو "مستقر"؛ لأن الصلة لا تتم به. 4 لأن كل مسند فهو محكوم بالثبوت للمسند إليه أو بالانتفاء عنه ضرورة أن الاسناد حكم بثبوت الشيء للشيء أو بنفيه عنه. 5 أجيب عن هذا بأن المثال الأول مبني على أن الظرف مقدر باسم الفاعل لا بالفعل، والثاني مبني على مذهب الأخفش والكوفيين حيث لم يشترطوا في عمل الظرف الاعتماد على شيء، فيكون "خالد" فاعلًا واستقر فارغ من الضمير وهو المسند العامل في خالد.

فعلية المسند واسميته

فعلية المسند واسميته: وأما كونه فعلاً فللتقييد بأحد الأزمنة الثلاثة1 على أخصر ما يمكن مع إفادة التجدد2. وأما كونه اسمًا: فلإفادة عدم التقييد والتجدد3. ومن البين فيهما قول الشاعر4: لا يألف الدرهم المضروب صرتنا ... لكن يمر عليها وهو منطلق وقوله5: أو كلما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إلى عريفهم يتوسم إذا معنى الأول على انطلاق ثابت للدرهم مطلقًا من غير اعتبار تجدده وحدوثه، ومعنى الثاني على توسم وتأمل ونظر يتجدد من العريف هناك.

_ 1 الماضي والحال والمستقبل. 2 للتجدد معنيان: أحدهما الحصول بعد أن لم يكن، والثاني الحصول شيئًا فشيئًا على وجه الاستمرار. والمعتبر في مفهوم الفعل التجدد بالمعنى الأول واللازم للزمان التجدد بالمعنى الثاني. 3 أي لإفادة الثبوت والدوام لأغراض تتعلق بذلك. 4 هو جؤبة بن النضر، والبيت في الدلائل ص134، والصرة ما يجمع فيه الدراهم. 5 هو طريف بن تميم أحد بني عمرو بن جندب، والبيت في الدلائل ص135، وعكاظ: سوق مشهورة للعرب. عريف القوم: القيم بأمرهم الذي شهر وعرف بذلك. يتوسم: أي يصدر عنه تفرس الوجوه وتأملها شيئًا فشيئًا.

تقييد الفعل وعدمه

تقييد الفعل وعدمه: وأما تقييد الفعل 1 بمفعول 2 ونحوه: فلتربية الفائدة3: كقولك: ضربت ضربًا شديدًا، وضربت زيدًا، وضربت يوم الجمعة، وضربت أمامك، وضربت تأديبًا، وضربت بالسوط، وجلست والسارية، وجاء زيد راكبًا، وطاب زيد نفسًا، وما ضرب إلا زيد، وما ضربت إلا زيدًا. والمقيد في نحو: كان زيد قائمًا هو قائمًا لا كان4:

_ 1 أي وما أشبهه من اسم الفاعل والمفعول وغيرهما. 2 أي مطلق أو به أو فيه أو له أو معه. ونحوه الحال والتمييز والاستثناء. 3 لأن الحكم كلما زاد خصوصًا زاد غربة وكلما زاد غرابة زاد إفادة. 4 لأن "قائمًا" هو نفس المسند وكان قيد له للدلالة على زمان النسبة. هذا والكلام إما جملة اسمية وإما جملة فعلية: فالجملة الإسمية تفيد بأصل وضعها الثبوت أي حصول المسند للمسند إليه من غير دلالة على تقييده بالزمان، وقد تفيد الدوام بالقرينة، ومن حيث العدول عن الفعل إليها. فالقرينة كما في مقام المدح أو الذم أو ما أشبه ذلك مما يناسبه الدوام والثبوت، فالاسم كعالم يدل على ثبوت العلم للذي يدل به عليه وليس فيه تعرض لحدوثه أصلًا سواء كان على سبيل التجدد والتقضي أو لا، وأما الدوام فإنما يستفاد من مقام المدح والمبالغة لا من جوهر اللفظ. والجملة الفعلية تفيد الحدوث -أي حدوثه شيئًا بعد شيء على وجه الاستمرار- والتجدد - أي تجدد الحدوث وعدم الاستقرار. هذا ودلالة الفعل على الاستمرار التجددي بالقرائن مثل قول المتنبي: تدير شرق الأرض والغرب كفه ... وليس لها يومًا عن المجد شاغل فإن المدح قرينة دالة على أن التدبير أمر مستمر متجدد آنا بعد آن والجملة هي ما تركب من مسند "محكوم به" ومسند إليه "محكوم عليه"، أو ما كانت مستقلة بالفهم. ولها ركنان: محكوم عليه ومحكوم به ويسمى الأول مسندًا إليه والثاني مسندًا، فالمسند إليه هو الفاعل ونائبه والمبتدأ الذي له خبر وما أصله المبتدأ كاسم كان وأخواتها، ومواضع المسند هي الفعل التام والمبتدأ المكتفي بمرفوعه وخبر المبتدأ وما أصله خبر المبتدأ كخبر كان وأخواتها، واسم الفعل والمصدر النائب عن الفعل الأمر. وما زاد على المسند إليه والمسند فهو قسمان.

وأما ترك تقييده: فلمانع من تربية الفائدة1.

_ 1 قيود وهي معمولات المسند كالمفعول ونحوه من المتعلقات كالحال والتمييز والاستثناء، وفعل الشرط كذلك مقيد للجواب، وكذلك الأفعال الناقصة "ككان وأخواتها" قيود للأخبار أو الوصف. 2 مخصصات وهي الإضافة والوصف والصلة إلخ حيث قالوا: "وأما تخصيص المسند بالإضافة" وقالوا: "وأما تقييده بمفعول ونحوه". قال السعد: وهذا -أي جعل معمولات المسند كالحال ونحوه من المتعلقات، والإضافة والوصف من المخصصات- مجرد اصطلاح. وقيل؛ لأن التخصيص عبارة عن نقص الشيوع أي العموم، ولا شيوع للفعل؛ لأنه إنما يدل على مجرد المفهوم -أي على الماهية والحدث، والمطلق لا يكون فيه تخصيص بل تقييد- والحال تقيده، والوصف يجيء في الاسم الذي فيه الشيوع فيخصصه. فالخلاصة أن القيود هي أدوات الشرط والنفي والمفاعيل والحال والتمييز والتوابع والنواسخ.. هذا وتنقسم الجملة عند علماء المعاني إلى: 1- جملة رئيسية وهي المستقلة التي لم تكن قيدًا في غيرها. 2- جملة غير رئيسية وهي ما كانت قيدًا في غيرها وليست مستقلة بنفسها. 1 مثل خوف انقضاء الفرصة، أو إرادة أن لا يطلع الحاضرون على زمان الفعل أو مكانه أو مفعوله، أو عدم العلم بالمقيدات، أو نحو ذلك.

تقييد الفعل بالشرط

تقييد الفعل بالشرط: وأما تقييده بالشرط1: فلاعتبارات2 لا تعرفه إلا بمعرفة ما بين أدواته من التفصيل وقد بين ذلك في علم النحو، ولكن لا بد من النظر ههنا في "أن" و"إذا" و"لو".

_ 1 راجع 104 من المفتاح. والشرط يطلق على فعل الشرط وعلى الأداة وعلى التعليق - راجع شروح التلخيص في باب الإنشاء عند قوله وهذه الأربعة يجوز تقدير الشرط بعدها"، والمراد هنا بالشرط جملة الشرط. والمراد بالفعل الفعل الواقع مسندًا في جملة الجزاء. 2 وتلك الاعتبارات هي تعليق حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة أخرى: في الماضي كلو، أو في الاستقبال أما مع الجزم كما في إذا، أو مع الشك كما في أن، أو في جميع الزمان كما في مهما، أو المكان كما في أين. والشرط في عرف أهل العربية قيد لحكم الجزاء مثل المفعول ونحوه فقولك: "إن جئتني أكرمك" بمنزلة قولك أكرمك وقت مجيئك إياي، ولا يخرج الكلام الخبري سواء كان الجزاء في الأصل خبرًا أو إنشاء -هو مجموع خبرًا فالجملة الشرطية خبرية نحو إن جئتني أكرمك، وإن كان إنشائيا فإنشائية نحو إن جاءك زيد فأكرمه، وأما نفس الشرط فقد أخرجته الأداة عن الخبرية واحتمال الصدق والكذب. وما يقال من أن كلا من الشرط والجزاء خارج عن الخبرية واحتمال الصدق والكذب وإنما الخرز -أي للكلام الخبري سواء كان الجزاء في الأصل خبرًا أو إنشاء- هو مجموع الشرط والجزاء المحكوم فيه بلزوم الثاني للأول فإنما هو اعتبار المنطقيين، فمفهوم قولنا كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود باعتبار أهل العربية الحكم بوجود النهار في كل وقت من أوقات طلوع الشمس فالمحكوم عليه هو النهار والمحكوم به هو موجود. وباعتبار النقطتين بلزوم وجود النهار لطلوع الشمس، فالمحكوم عليه طلوع الشمس والمحكوم به وجود النهار.. وينقل السيد هذا الرأي موفقًا بين رأيي أهل العربية والمنطقيين-راجع ص152 شرح السيد على المطول.

أن وإذا الشرطيتان

أن وإذا الشرطيتان: أما: أن، وإذا، فهما للشرط في الاستقبال1 لكنهما يفترقان في شيء، وهو أن الأصل في أن ألا يكون الشرط فيها مقطوعًا بوقوعه2 كما تقول لصاحبك: "إن تكرمني أكرمك"، وأنت لا تقطع بأنه يكرمك، والأصل في إذا أن يكون الشرط فيها مقطوعًا بوقوعه3، كما تقول إذا زالت الشمس آتيك، ولذلك كان الحكم النادر موقعًا؛ لأن النادر غير مقطوع به في غالب الأمر، وغلب لفظ الماضي مع إذا لكونه أقرب إلى القطع بالوقوع نظرًا إلى اللفظ قال الله تعالى: {فَإذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وإن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131] ، أتى في جانب الحسنة بلفظ إذا؛ لأن المراد بالحسنة الحسنة المطلقة التي حصولها مقطوع به، ولذلك عرفت تعريف الجنس4، وجوز السكاكي أن يكون تعريفها للعهد5، وقال: وهذا أقضى لحق

_ 1 أي أن فعل الشرط فيهما لا بد أن يكون مستقبل المعنى سواء كان ماضي اللفظ أو مضارعه. ويلزم من حصول مضمون الشرط في الاستقبال حصول مضمون الجزاء فيه. 2 أي بوقوعه في الاستقبال، وعدم القطع -أي عدم الجزم- يشمل الشك في الوقوع وتوهم الوقوع.. ولذلك لا تقع أن في كلام الله تعالى على الأصل إلا حكاية أو على ضرب من التأويل. هذا وسائر أدوات الشرط كان في حكمها المذكور. ويقول عبد القاهر "يجاء بأن فيما يترجح بين أن يكون وألا يكون، وبإذا فيما علم أنه كائن "64 من الدلائل". 3 أي بالجزم بوقوعه وكذلك يظن وقوعه فإن وإذا يشتركان في الاستقبال بخلاف لو. ويفترقان بالجزم بالوقوع وعدم الجزم به. كما يشتركان أيضًا في عدم الدخول على المستحيل وهو المجزوم بعدم وقوعه إلا لنكته، فيشترط في مدخولهما أن يكون غير مجزوم بعدم وقوعه، فالضابط أن الراجح الوقوع موقع لاذا والمتساوي الطرفين وموقع لأن، وأما الذي رجح عدم وقوعه فليس موقعًا لشيء منهما إلا بتأويل. 4 أي الحقيقة في ضمن فرد غير معين فأل في الحسنة للعهد الذهني. 5 أي أن يكون للجنس - راجع 105 من المفتاح.

البلاغة، وفيه نظر1، وأتى في جاذب السيئة بلفظ أن؛ لأن السيئة نادرة بالنسبة إلى الحسنة المطلقة ولذلك نكرت. ومنه قوله تعالى: {وإذَا أذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وإن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ إذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] ، أتى باذا في جانب الرحمة.. وأما تنكيرها فجعله السكاكي للنوعية نظرًا إلى لفظ الإذاقة، وجعله للتقليل نظرًا إلى لفظ الإذاقة كما قال أقرب. وأما قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُر} بلفظ إذا مع الضر، فللنظر إلى لفظ المس وإلى تنكير الضر المفيد في المقام التوبيخي القصد إلى اليسير من الضر وإلى الناس المستحقين أن يلحقهم كل ضر، وللتنبيه على أن مساس قدر يسير من الضر لأمثال هؤلاء حقه أن يكون في حكم المقطوع به. وأما قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيض} ، بعد قوله عز وجل: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِه} ، أي أعرض عن شكر الله وذهب بنفسه وتكبر وتعظم، فالذي تقتضيه البلاغة أن يكون الضمير في مسه للمعرض المتكبر، ويكون لفظ إذا للتنبيه على أن مثله يحق أن يكون ابتلاؤه بالشر مقطوعًا به. قال الزمخشري: وللجهل بموقع إن وإذا يزيغ كثير من الخاصة عن الصواب فيغلطون ألا ترى إلى عبد الرحمن بن حسان كيف أخطا بهما الموقع في قوله يخاطب بعض الولاة وقد سأله حاجة فلم يقضها ثم شفع له فيها فقضاها: ذممت ولم تجمد وأدركت حاجتي ... تولى سواكم أجرها واصطناعها أبى لك كسب الحمد رأي مقصر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها

_ 1 لأنه إن أراد العهد على مذهب الجمهور فغير صحيح لعدم تقدم ذكر الحسنة لا تحقيقًا ولا تقديرًا، وإن أراد العهد على مذهبه بناء على أن الحسنة المطلقة نزلت منزلة المعهود الحاضر في الذهن فهذا بعينه تعريف الجنس على مذهبه.

إذا هي حثته على الخير مرة ... عصاها وإن همت بشر أطاعها1 فلو عكس لأصاب. وقد تستعمل2 إن في مقام القطع بوقوع الشرط لنكتة: كالتجاهل لاستدعاء المقام3 إياه. وكعدم جزم المخاطب4 كقولك لمن يكذبك5 فيما تخبر: إن صدقت فقل لي ماذا تفعل. وكتنزيله منزلة الجاهل6 لعدم جريه على موجب العلم كما تقول لمن يؤذي أباه: إن كان أباك فلا تؤذه. وكالتوبيخ على الشرط وتصوير أن المقام لاشتماله على ما يقلعه7 عن أصله لا يصلح إلا لفرضه كما يفرض المحال لغرض، كقوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} فيمن قرأ أن بالكسر لقصد التوبيخ والتجهيل في ارتكاب الإسراف وتصوير أن الإسراف من العاقل في هذا المقام واجب الانتفاء حقيق أن لا يكون ثبوته له إلا على مجرد الفرض، وكتغليب غير المتصف بالشرط على المتصف8 به، ومجيء قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ

_ 1 في البيان ص113 جـ3: أتى سعيد بن عبد الرحمن بن حسان أبا بكر بن محمد عامل سليمان بن عبد الملك فسأله أن يكلم سليمان في حاجة له فوعده أن يقضيها له فلم يفعل، وأتى عمر بن عبد العزيز فكلمه فقضى حاجته فقال سعيد: "الأبيات". فهي إذا لسعيد بن عبد الرحمن، لا لعبد الرحمن. وفي الأمالي الأبيات منسوبة إلى عبد الرحمن وكذلك في العقد الفريد. 2 راجع 105 من المفتاح. كما أن "إذا" قد تستعمل أيضًا في مقام الجزم بعدم وقوع الشرط على خلاف الأصل. 3 كما إذا سئل العبد عن سيده هل هو في الدار، وهو يعلم أنه فيها فيقول إن كان فيها أخبرك يتجاهل خوفًا من سيده. 4 أي بوقوع الشرط فيجري الكلام على سنن اعتقاده. 5 أي لا يعتقد صدقك بأن شك في صدقك وتردد فيه. 6 أي تنزيل المخاطب العالم بوقوع الشرط. 6 أي تنزيل المخاطب العامل بوقوع الشرط. 7 الضمير للشرط. 8 كما إذا كان القيام قطعي الحصول لزيد غير قطعي الحصول لعمرو فتقول: "أن قمتما كان كذا".

مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} بأن يحتمل أن يكون للتوبيخ على الريبة لاشتمال المقام على ما يقلعها عن أصلها ويحتمل أن يكون لتغليب غير المرتابين من المخاطبين على المرتابين منهم فإنه كان فيهم من يعرف الحق وإنما ينكر عنادًا، وكذلك قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْث 1} . والتغليب2 باب واسع يجري في فنون كثيرة كقوله تعالى: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أو لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 188] ، أدخل شعيب عليه السلام في لتعودن في ملتنا بحكم التغليب، إذ لم يكن شعيب في ملتهم أصلًا، ومثله قوله تعالى: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم} وكقوله تعالى: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِين} عدت الأنثى من الذكور بحكم التغليب وكقوله تعالى: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيس} عد إبليس من الملائكة بحكم التغليب وكقوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون} بتاء الخطاب غلب جانب أنتم على جانب قوم، ومثله {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون} .

_ 1 وههنا بحث، وهو أنه إذا جعل الجميع بمنزلة غير المرتابين كان الشرط قطعي اللا وقوع، فلا يصح استعمال أن فيه، كما إذا كان قطعي الوقوع؛ لأنها إنما تستعمل في المعاني المحتملة المشكوكة، وليس المعنى ههنا على حدوث الارتياب في المستقبل، ولهذا زعم الكوفيون أن "أن" ههنا بمعنى إذا. ونص المبرد والزجاج على أن أن لا تقلب كان إلى معنى الاستقبال، لقوة دلالته على المضي، فمجرد التغلب لا يصحح استعمال أن ههنا. بل لا بد من أن يقال لما غلب صار الجميع بمنزل غير المرتابين فصار الشرط قطعي الانتفاء، فاستعمل فيه أن على سبيل الفرض والتقدير للتبكيت والإلزام، كقوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} ، {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} . 2 قال صاحب البيان: هو ترجيح أحد المعلومين على الآخر في إطلاق لفظه عليهما، والقيد الأخير لإخراج المشاكلة: وهو عند صاحب المطول من باب المجاز المرسل الذي ترجع علاقته إلى المجاورة، أو من قبيل عموم المجاز، وقال غيره إنه: "إعطاء أحد المتصاحبين أو المتشابهين حكم الآخر بأن يجعل الآخر موافقًا له في الهيئة أو المادة. هذا والتغليب ليس بحقيقة ولا مجاز كما في الدسوقي، وإن صرح البعض بأنه من باب المجاز.

فيمن قرأ بالتاء وكذا قوله تعالى: {يَا أيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] غلب المخاطبون في قوله لعلكم تتقون على الغائبين في اللفظ، والمعنى على إرادتهما جميعًا؛ لأن لعل متعلقة بخلقكم لا باعبدوا، وهذا من غوامض التغليب. وكقوله تعالى: {وجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ أزْوَاجًا وَمِنَ الأانْعَامِ أزْوَاجًا يَذْرَؤكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11] ، فإن الخطاب فيه شامل للعقلاء والأنعام، فغلب فيه المخاطبون على الغيب والعقلاء على الأنعام، وقوله تعالى: {يَذْرَؤكُمْ فِيهِ} أي يبثكم ويكثركم في هذا التدبير وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجًا حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل فجعل هذا التدبير كالمتبع والمعدن للبث والتكثير ولذلك قيل يذرؤكم فيه ولم يقل به كما في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} . واعلم أنه لما كانت هاتان الكلمتان1 لتعليق أمر2 بغيره، أعي الجزاء بالشرط، في الاستقبال3، امتنع في كل واحدة من جملتيهما الثبوت4 وفي أفعالهما المضي، أعني أن يكون كلتا الجملتين أو إحداهما.

_ 1 أي "أن" و"إذا"، وراجع في ذلك 106 من المفتاح، 214 الدلائل. 2 هو حصول مضمون الجزاء، بغيره يعني بحصول مضمون الشرط. 3 متعلق بغيره على معنى أنه يجعل حصول الجزاء مترتبًا ومتعلقًا على حصول الشرط في الاستقبال. ولا يجوز أن يتعلق بتعليق أمر؛ لأن التعليق إنما هو في زمان التكلم لا في الاستقبال، ألا ترى أنك إذا قلت "إن دخلت الدار فأنت حر" فقد علقت في هذه الحال قرينة على دخول الدار في الاستقبال. 4 فامتنع أن تكونا اسميتين.

اسمية أو كلا الفعلين أو إحدهما ماضيًا1، ولا يخالف ذلك لفظًا2 -نحو أن أكرمتني أكرمتك وإن أكرمتني أكرمك وإن تكرمني أكرمتك وإن تكرمني فأنت مكرم وإن أكرمتني الآن فقد أكرمتك أمس- إلا لنكتة ما مثل إبراز غير الحاصل في صورة الحاصل: إما لقوة الأسباب المتآخذة في وقوعه كقولك إن اشترينا كذا حال انعقاد الأسباب في ذلك وإما لأن ما هو للوقوع كالواقع كقولك إن مت كان كذا وكذا كما سبق. وإما للتفاؤل، وإما لإظهار الرغبة في وقوعه نحو إن ظفرت بحسن العاقبة فهو المرام، فإن الطالب إذا تبالغت رغبته في حصول أمر يكثر تصوره إياه، فربما يخيل إليه حاصلًا. وعليه قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} 3. وقد يقوي هذا التخيل

_ 1 أما الشرط؛ فلأنه مفروض الحصول في الاستقبال فيمتنع ثبوته ومضيه، وأما الجزاء؛ فلأن حصوله معلق على حصول الشرط في الاستقبال ويمتنع تعليق حصول الحاصل الثابت على حصول ما يحصل في المستقبل. 2 قوله لفظًا، إشارة إلى أن الجملتين وإن جعلت كلتاهما أو إحداهما اسمية أو فعلية ماضوية فالمعنى على الاستقبال حتى إن قولنا إن أكرمتني الآن فقد أكرمتك أمس معناه أن تعتد بإكرامك إياي الآن فاعتد بإكرامي إياك أمس وقد تستعمل إن في غير الاستقبال قياسًا مطردًا مع كان نحو وإن كنتم في ريب كما مر وكذا إذا جيء بها في مقام التأكيد بعد واو الحال لمجرد الوصل والربط دون الشرط نحو "زيد وإن كثر ماله بخيل" و"عمرو وإن أعطى جاهلًا لئيم"، وفي غير ذلك قليلًا كقول المعري: فيا وطني إن فاتني بك سابق ... من الدهر فلينعم لساكنك البال فقد دخلت إن على غير كان وهو ماض على وجه القلة. 3 حيث لم يقل إن يردن. فإن قيل تعليق النهي عن الإكراه بإرادتهن التحصن يشعر بجواز الإكراه عند انتفائها على ما هو مقتضى التعليق بالشرط، أجيب بأن القائلين بأن التقييد بالشرط يدل على نفي الحكم عند انتفائه إنما يقولون به إذا لم يظهر للشرط فائدة أخرى ويجوز أن يكون فائدته في الآية المبالغة في النهي عن الإكراه يعني أنهن إذا أردن العفة فالولي أحق بإرادتها.

عند الطالب حتى إذا وجد حكم الحس بخلاف حكمه غلطه تارة واستخرج له محملًا أخرى وعليه قول أبي العلاء المعري: ما سرت إلا وطيف منك يصحبني ... سري أمامي وتأوييا على أثرى1 يقول: لكثرة ما ناجيت نفسي بك انتقشت في خيالي فأعدك بين يدي مغلطًا للبصر بعلة الظلام إذا لم يدركك ليلًا أمامي، وأعدك خلفي إذا لم يتيسر لي تغليطه حين لا يدركك بين يدي نهارًا. وإما لنحو ذلك، قال السكاكي: أو للتعريض: كما في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} ، وقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إنَّكَ إذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} ، [البقرة: 145] ، وقوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَات} ، ونظيره في التعريض2 قوله: {وَمَا لِيَ لا أعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22] ، المراد وما لكم لا تعبدون الذي فطركم، والمنبه عليه ترجعون، وقوله تعالى: {أأتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُون، إنِّي إذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس: 23-24] ، إذ المراد أتتخذون من دونه آلهة إن يردكم الرحمن بضر لا تغن عنكم شفاعتهم شيئًا ولا ينقذونكم إنكم إذا لفي ضلال مبين، ولذلك قيل: {آمَنْتُ بِرَبِّكُم} دون بربي، واتبعه: {فَاسْمَعُوْنِ} . ووجه حسنه3 تطلب أسماع المخاطبين الذين هم أعداء المسمع الحق.

_ 1 السري: سير الليل. التأويب: سير النهار كله. 2 جعله فيما سبق من الالتفات وهنا جعله من التعريض. ويقول السكاكي "ولولا التعريض لكان المناسب وإليه أرجع 106 من المفتاح. وإذا كان المثل تعريضًا لم يكون التفاتًا بل يكون عبر في الأول بياء المتكلم عن المخاطبين. والجواب أن التعريض ليس من شرطه أن يراد به غير ظاهر اللفظ بل يراد ظاهره لا لقصده بل يكون المقصود بالكلام غيره، والآية المراد بها المتكلم ولكنه إذا أراد ذلك لنفسه لم يرد لهم إلا ما أراده لها. 3 أي حسن هذا التعريض.

على وجه لا يورثهم مزيد غضب وهو ترك التصريح بنسبتهم إلى الباطل ومواجهتهم بذلك، ويعين على قبوله لكونه أدخل في أمحاض النصح لهم، حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه. ومن هذا القبيل قوله تعالى: {قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُون} ، فإن حق النسق من حيث الظاهر: "قل لا تسألون عما عملنا ولا نسأل عما تجرمون"، وكذا ما قبله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . قال السكاكي رحمه الله: وهذا النوع من الكلام يسمى المنصف، ومما يتصل بما ذكرناه أن الزمخشري قدر قوله تعالى: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُون} عطفًا على جواب الشرط في قوله تعالى: {إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أيْدِيَهُمْ وألْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2] ، وقال: "الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الأعراب فإن فيه نكتة، كأنه قيل: وودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم، يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعًا من قتل الأنفس وتمزيق الأعراض وردكم كفارًا، وردكم كفارًا أسبق المضار عندهم وأولها، لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم؛ لأنكم يذالون لها دونه، والعدو أهم شيء عنده أن يقصد أعز شيء عند صاحبه" هذا كلامه، وهو حسن دقيق، لكن في جعل: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُون} عطفًا على جواب الشرط نظر؛ لأن ودادتهم أن يرتدوا كفارًا حاصلة وإن لم يظفروا بهم، فلا يكون في تقييدها بالشرط فائدة، فالأولى أن يجعل قوله: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُون} عطفًا على الجملة الشرطية كقوله تعالى: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُون} .

لو الشرطية

لو الشرطية: وأما لو1 فهي للشرط في الماضي مع القطع بانتفاء الشرط2 فيلزم انتفاء الجزاء3 كانتفاء الإكرام في قولك: لو جئتني لأكرمتك،

_ 1 لو كما يقول المبرد: "تدل على وقوع الشيء لوقوع غيره". ومعنى كون لو للشرط أنها لتعليق حصول مضمون الجزاء بحصول مضمون الشرط فرضًا. 2 أي في الواقع. 3 أي يلزم بالنظر لعرف أهل اللغة انتفاء الجزاء من حيث ترتبه على ذلك الشرط، كما تقول: "لو جئتني أكرمتك"، معلقًا الإكرام بالمجيء، مع القطع بانتفائه، فيلزم انتفاء الإكرام.. فهي لامتناع الثاني أعني الجزاء لامتناع الأول أعني الشرط، يعني أن الجزاء منتف بسبب انتفاء الشرط. هذا هو المشهور بين الجمهور، واعترض عليه ابن الحاجب بأن الأول سبب والثاني مسبب وانتفاء السبب لا يدل على انتفاء المسبب لجواز أن يكون للشيء أسباب متعددة بل الأمر بالعكس؛ لأن انتفاء المسبب على انتفاء أسبابه، فهي لامتناع الأول لامتناع الثاني، ألا ترى قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} إنما سيق ليستدل بامتناع الفساد على امتناع تعدد الآلهة دون العكس، واستحسن المتأخرون رأي ابن الحاجب حتى كادوا أن يجمعوا على أنها لامتناع الأول لامتناع الثاني، إما لما ذكره، وإما؛ لأن الأول ملزوم والثاني لازم، وانتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم من غير عكس لجواز أن يكون اللازم أعم. وأقول: منشأ هذا الاعتراض قلة التأمل؛ لأنه ليس معنى قولهم: "لو لامتناع الثاني لامتناع الأول" أنه يستدل بامتناع الأول على امتناع الثاني، حتى يرد عليه أن انتفاء السبب أو الملزوم لا يوجب انتفاء المسبب أو اللازم، بل معناه أنها للدلالة على أن انتفاء الثاني في الخارج إنما هو بسبب انتفاء الأول، فمعنى "ولو شاء لهداكم" أن انتفاء الهداية إنما هو بسبب انتفاء المشيئة يعني أنها تستعمل للدلالة على أن علة انتفاء مضمون الجزاء في الخارج هي انتفاء مضمون الشرط من غير التفات إلى أن علة العلم بانتفاء الجزاء ما هي، ألا ترى أن قولهم لولا لامتناع الثاني لوجود الأول نحو "لولا علي لهلك عمر" معناه أن وجود علي سبب لعدم هلاك عمر لا أن وجوده دليل على أن عمر لم يهلك، ولهذا صح مثل قولنا "لو جئتني =

ولذلك قيل هي لامتناع الشيء لامتناع غيره، ويلزم كون جملتيها فعليتين وكون الفعل ماضيًا، فدخولها على المضارع في نحو قوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّم} ، لقصد استمرار الفعل فيا مضى وقتًا فوقتا كما في قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِم} بعد قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون} وفي قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] ، ودخولها عليه1 في نحو قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12] ، وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [سبأ: 31] ، لتنزيله منزلة الماضي لصدوره عمن لا خلاف في إخباره كما نزل "يود" منزلة "ود" في قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا2} ، ويجوز أن يرد الغرض.

_ = لأكرمتك لكنك لم تجئ" أعني عدم الإكرام بسبب عدم المجيء، قال الحماسي: "ولو طار ذو حافر قبلها ... لطارت ولكنه لم يطر" يعني أن عدم طيران تلك الفرس بسب أنه لم يطر ذو حافر قبلها، وقال أبو العلاء المعري: "ولو دامت الدولات كانوا كغيرهم ... رعايا ولكن ما لهن دوام وأما المنطقيون فقد جعلوا "أن" "ولو" أداة للزوم وإنما يستعملونها في القياسات لحصول العلم بالنتائج فهي عندهم للدلالة على أن المعلم بانتفاء الثاني علة للعلم بانتفاء الأول ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللام من غير التفات إلى أن علة انتفاء الجزاء في الخارج ما هي؟ وقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وأرد على هذه القاعدة، لكن الاستعمال على قاعدة اللغة هو الشائع المستفيض. 1 أي على المضارع. 2 وإنما كان الأصل ههنا الماضي؛ لأنه قد التزم ابن السراج وأبو علي في الإيضاح أن الفعل الواقع بعد رب المكفوفة بما يجب أن يكون ماضيًا؛ لأنها للتقليل في الماضي ومعنى التقليل ههنا أنه يدهشهم أهوال القيامة فيبهتون فإن وجدت منهم إفاقة ما تمنوا ذلك، وقيل هي مستعارة أي منقولة للتكثير أو للتحقيق ومفعول يود محذوف لدلالة لو كانوا مسلمين عليه ولو للتمني حكاية لودادتهم. وإما على رأي من جعل لو التي للتمني حرفًا مصدريًّا، فمفعول "يود" هو قوله "لو كانوا مسلمين".

من لفظ ترى ويود إلى استحضار صورة رؤية المجرمين ناكسي الرؤوس قائلين لما يقولون وصرة رؤية الظالمين موقوفين عند ربهم متقاولين بتلك المقالات وصورة ودادة الكافرين لو أسلموا، كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9] إذ قال فتثير سحابًا استحضارًا لتلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة من آثارة السحاب مسخرًا بين السماء والأرض تبدو في الأول كأنها قطع قطن مندوف ثم تتضام متقابلة بين أطوار حتى يعدن ركامًا، وكقول تأبط شرًّا1: ألا من مبلغ فتيان فهم ... بما لاقيت عند رحا بطان بأني قد لقيت الغول تهوي ... بسهب كالصحيفة صحصحان فقلت لها: كلانا نضو أرض ... أخو سفر فخلي لي مكاني فشدت شدة نحوي فأهوت ... لها كفي بمقصول يماني فأضربها بلادهش فخرت ... صريعا لليدين وللجران إذ قال: فأضربها ليصور لقومه الحالة التي تشجع فيها على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها ويتطلب منهم مشاهدتها تعجيبًا من جراءته على كل هول وثباته عند كل شدة. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] ، دون كن فكان. وكذا قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] .

_ 1 وتنسب لأبي الغول الطهوي. فهو قبيلة تأبَّط شرًّا، رحا بطان: موضع بالبادية. تهوي: تسرع. السهب. المستوى من الأرض في سهولة، وكذلك الصحصحان. النضو: المهزول من كل شيء. الصريع يستوي فيه المذكر والمؤنث. الجران في الأصل: مقدم عنق البعير من مذبحة إلى منحره.

تنكير المسند

تنكير المسند: وأما تنكيره: فإما لإرادة عدم الحصر والعهد، كقولك: زيد كاتب وعمرو شاعر. وإما للتنبيه على ارتفاع شأنه أو انحطاطه1 على ما مر في المسند إليه كقوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِين} ، أي هدى لا يكتنه كنهة.

_ 1 وفي شرح السعد: أو للتفخيم نحو هدى للمتقين -بناء على أنه خبر مبتدأ محذوف أو خبر ذلك الكتاب- أو للتحقير نحو ما زيد شيئًا، وما هنا وما في السعد عبارتان متقاربتان.

تخصيص المسند وعدمه

تخصيص المسند وعدمه: وأما تخصيصه بالإضافة1 أو الوصف2: فلتكون الفائدة أتم كما مر3. وأما ترك تخصيصه بهما فظاهر مما سبق.

_ 1 مثل محمد صاحب مروءة. 2 مثل زيد رجل عالم. 3 أي في باب المسند إليه من أن زيادة الخصوص توجب أتمية الفائدة. وجعل معمولات المسند كالحال ونحوه من المقيدات وجعل الإضافة والوصف من المخصصات إنما هو مجرد اصطلاح، وقيل؛ لأن التخصيص عبارة عن نقص الشيوع والعموم ولا شيوع في الفعل؛ لأنه إنما يدل على مجرد المفهوم. أي على الماهية المطلقة وهو الحدث والمطلق لا يكون فيه تخصيص بل تقييد، والحال تقيده، والوصف يجيء في الاسم الذي فيه الشيوع فيخصصه، واعترض على ذلك باعتراض ذكره المطول وحاصله أنه إن أريد بالشيوع العموم الشمولي فهو منتف في النكرة الموجبة فلا يكون وصفها مخصصًا. وإن أراد به العموم البدلي فهو موجود في الفعل. وأجيب باختيار الأول وأن الاسم لما كان يوجد فيه العموم الشمولي في الجملة ناسبه التخصيص الذي هو نقص العموم الشمولي بخلاف الفعل فلا يوجد فيه باعتبار ذاته عموم فناسبه التقييد.

تعريف المسند

تعريف المسند: وأماتعريفه1 فلإفادة السامع: إما حكمًا على أمر معلوم له بطريق من طرق التعريف بأمر آخر معلوم له كذلك2، وأما لازم حكم بين أمرين كذلك3. تفسير هذا أنه قد يكون للشيء صفتان من صفات التعريف4 ويكون السامع عالمًا باتصافه بإحداهما دون الأخرى5، فإذا أردت أن تخبره بأنه متصف بالأخرى تعمد إلى

_ 1 راجع ص92 من المفتاح، وص136-153 من دلائل الإعجاز. 2 يعني أنه يجب عند تعريف المسند تعريف المسند إليه، إذ ليس في كلامهم مسند إليه نكرة ومسند معرفة في الجملة الخبرية وقوله بأمر آخر إشارة إلى أنه يجب مغايرة المسند إليه والمسند بحسب المفهوم ليكون الكلام مفيدًا، فنحو "شعري شعري" مؤول بحذف مضاف اعتباري في الحالين أي شعري الآن مثل شعري فيماكان أي المعروف المشهور بالبلاغة والسحر. 3 يعني لازم حكم على أمر معلوم بأمر آخر معلوم. ويعني بهذا ما سبق سماه لازم فائدة الخبر، وهذا غير علم المخاطب بالحكم، كأن تقول للذي مدحك بقصيدة أنشدها إياك: أنت المادح لي بهذه القصيدة الرائعة. 4 ككونه مسمى بزيد وكونه أخا لعمرو. 5 أي مع كونه عالمًا بكل منهما في ذاته كما هو أصل المسألة من كون السامع عالمًا بكل من المسند إليه والمسند. وقوله بإحداهما دون الأخرى أي كان عرف المخاطب هذه الذات بكونها مسماة بزيد ولا يعرفها بكونها أخا له. وظاهر لفظ متسن التلخيص في قوله "بآخر مثله" أن نحو "زيد أخوك" إنما يقال لمن يعرف أن له أخا، والمذكور هنا في الإيضاح أنه يقال لمن يعرف زيدًا بعينه سواء عرف أن له أخا أم لم يعرف، ووجه التوفيق ما ذكره بعض المحققين من النحاة أن أصل وضع تعريف الإضافة على اعتبار العهد وإلالم يبق فرق بين غلام يد وغلام لزيد فلم يكن أحدهما معرفة والآخر نكرة، لكن كثيرًا ما يقال جاءني غلام زيد من غير إشارة إلى معين كالمعرف باللام وهو خلاف وضع الإضافة فما في المتن بالنظر إلى أصل الوضع وما هنا إلى خلافه.

اللفظ الدال على الأولى وتجعله مبتدأ وتعمد إلى اللفظ الدال على الثانية وتجعله خبًرا، فتفيد السامع ما كان يجهله من اتصافه بالثانية، كما إذا كان للسامع أخ يسمى زيدًا وهو يعرفه بعينه واسمه ولكن لا يعرف أنه أخوه، وأردت أن تعرفه أنه أخوه، فتقول: له زيد أخوك، سواء عرف أن له أخًا ولم يعرف أن زيدًا أخوه أو لم يعرف أن له أخًا أصلًا. وإن عرف أن له أخًا في الجملة وأردت أن تعينه عنده قلت "أخوك زيد: أما إذالم يعرف أن له أخًا أصلًا فلا يقال ذلك لامتناع الحكم بالتعيين على من لا يعرفه المخاطب أصلًا، فظهر الفرق بين قولنا: زيد أخوك وقولنا أخوك زيد، وكذا إذا عرف السامع إنسانًا يسمى زيدًا بعينه واسمه، وعرف أنه كان من إنسان انطلاق ولم يعرف أنه كان من زيد أو غيره فأردت أن تعرفه أن زيدًا هو ذلك المنطلق فتقول: زيد المنطلق، وإن أردت أن تعرفه أن ذلك المنطلق هو زيد قلت المنطلق1 زيد، وكذا إذا عرف السامع إنسانًا يسمى زيدًا بعينه واسمه، وهو يعرف معنى جنس المنطلق وأردت أن تعرفه أن زيدًا متصف به فتقول: زيد المنطلق، وإن أردت أن تعين عنده جنس المنطلق قلت: المنطلق1 زيد، لا يقال: زيد دال على الذات فهو متعين للابتداء تقدم أو تأخر، والمنطلق دال على أمر نسبي فهو متعين للخبرية تقدم أن تأخر؛ لأنا نقول: المنطلق لا يجعل مبتدأ إلا بمعنى الشخص الذي له الانطلاق وأنه بهذا المعنى لا يجب أن يكون خبرًا وزيد لا يجعل خبرًا إلا بمعنى صاحب اسم زيد وأنه بهذا المعنى لا يجب أن يكون مبتدأ.

_ 1 والتعريف هنا للعهد الخارجي. 2 والتعريف هنا للجنس أي للحقيقة. والمقصور هنا ما فيه اللام. فإن دخلت أل على المبتدأ والخبر احتمل كل منهما أن يكون هو المقصور، وقيل المبتدأ هو المقصور، وقيل المقصور هو الأعم مطلقًا.

ثم1 التعريف بلام الجنس قد لا يفيد قصر المعرف على ما حكم عليه به، كقول الخنساء2: إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا وقد يفيد قصره: إما تحقيقًا3 كقولك: زيد الأمير، إذالم يكن أمير سواه، وإما مبالغة لكمال معناه في المحكوم عليه كقولك: "عمرو الشجاع" أي الكامل في الشجاعة4 فتخرج الكلام في صورة توهم.

_ 1 راجع ص140 من الدلائل. هذا وأما التعريف بلام العهد فلا يفيد القصر؛ لأنه إنما يتصور في ما يكون فيه عموم كالجنس، فيحصر في بعض الأفراد، وأما المعهود الخارجي فلا عموم فيه فلا حصر، ولكن هذا في قصر الأفراد، أما قصر القلب فيتأتى في المعهود أيضًا. 2 البيت في الدلائل ص140، والبيت لا يفهم القصر والمعنى ليس عليه؛ لأن البيت للرد على من يتوهم قبح البكاء على هذا المرثي كغيره وليس الكلام واردًا في مقام من يسلم حسن البكاء عليه إلا أنه يدعي أن بكاء غيره حسن أيضًا حتى يكون المعنى على الحصر إذ لا يلائمه الشطر الأول من البيت. 3 أي قصرًا حقيقيًّا. 4 كأنه لا اعتداد بشجاعة غيره، وكذا إذا جعل المعرف بلام الجنس مبتدأ نحو الأمير زيد والشجاع عمرو فيفيد قصر جنس معنى المبتدأ على الخبر تحقيقًا أو مبالغة، ولا تفاوت بينهما وبين ما تقدم في إفادة قصر الإمارة على زيد والشجاعة على عمرو، وعدم التفاوت إنما هو على مذهب السعد أما على ما ذهب إليه السيد -من أنه لا يكون محمولًا وأن قولنا المنطلق زيد مؤول بقولنا المنطلق المسمى بزيد- فلا بد من التفاوت، فالمقصور عليه الإمارة على الأول الذات المشخصة المعبر عنها بزيد وعلى الثاني هو المفهوم الكلي المسمى بزيد. والحاصل أن المعرف بلام الجنس أن جعل مبتدأ فهو مقصور على الخبر سواء كان الخبر معرفة أو نكرة، وإن جعل خبرًا فهو مقصور على المبتدأ، والجنس قد يبقى على إطلاقه كما مر وقد يقيد بوصف أو حال أو ظرف أو مفعول أو نحو ذلك على ما ذكره الخطيب نحو هو الرجل الكريم وهو السائر راكباً وهو الأمير في البلد وهو الواهب ألف قنطار، وجميع ذلك معلوم بالاستقراء وتصفح تراكيب البلغاء. هذا ومعاني الخبر المعرف بأل عن عبد القاهر: القصر مبالغة -القصر حقيقة- الأعلام بأن هذا منه كان الشيء الذي يعلمه أنه كان كزيد هو المنطلق -إظهار كمال الأمر مثل رأيت بكاءك الحسن الجميلا- إعلام المخاطب بأن هذا الرجل هو الرجل المنشود مثل هو البطل المحامي.

أن الشجاعة لم توجد إلا فيه لعدم الاعتداد بشجاعة غيره لقصورها عن رتبة الكمال. ثم المقصور قد يكون نفس الجنس مطلقًا أي من غير اعتبار تقييده بشيء كما مر، وقد يكون الجنس باعتبار تقييده بظرف أو غيره، كقولك: "هو الوفي حين لا تظن نفس بنفس خيرًا"، فإن المقصور هو الوفاء في هذا الوقت لا الوفاء مطلقًا، وكقول الأعشى1: هو الواهب المائة المصطفاة ... أما مخاضًا وإما عشارًا فإنه قصر هبة المائة من الإبل في إحدى الحالتين، لاهبتها مطلقًا. ولا الهبة مطلقًا. وهذه الوجوه الثلاثة: أعني العهد، والجنس للقصر تحقيقًا، والجنس للقصر مبالغة، تمنع جواز العطف بالفاء ونحوها على ما حكم عليه بالمعرف، بخلاف المنكر فلا يقال: زيد المنطلق وعمرو، ولا زيد الأمير وعمرو، ولا زيد الشجاع وعمرو.

_ 1 راجع البيت في الدلائل ص139 والمخاض: الحوامل من النوق لا واحد له من لفظه. العشار جمع عشراء كنفساء، وهي من النوق كالنفساء من النساء أو التي مضى على حملها عشرة أشهر.

جملية المسند

جملية المسند: وأما كونه جملة فإما لإرادة تقوي الحكم بنفس التراكيب كما سبق1، وإما لكونه سببًا2 وقد تقدم بيان ذلك3. وفعليتها لإفادة التجدد. واسميتها لإفادة الثبوت، فإن من شأن الفعلية أن تدل على التجدد، ومن شأن الاسمية أن تدل على الثبوت، وعليهما قول رب العزة: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14] ، وقوله تعالى: {قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ} ، إذ أصل

_ 1 نحو زيد قام. وقوله للتقوي أي بنفس التركيب. 2 نحو زيد أبوه قائم. 3 حيث ذكر أن أفراد المسند يكون لكونه غير سببي مع عدم إفادة التقوي.. وسبب التقوي في مثل زيد قام على ما ذكره صاحب المفتاح هو أن المبتدأ لكونه مبتدأ يستدعي أن يسند إليه شيء، فإذا جاء بعده ما يصلح أن يسند إلى ذلك المبتدأ صرفه ذلك المبتدأ إلى نفسه سواء كان خاليًا عن الضمير أو متضمنًا له فينعقد بينهما حكم، ثم إذا كان متضمنًا لضميره المعتد به بأن لا يكون مشابهًا للخالي عن الضمير كما في زيد قائم، صرفه ذلك الضمير إلى المبتدأ ثانيًا فيكتسي الحكم قوة، فعلى هذا يختص التقوي بما يكون مسندًا إلى ضمير المبتدأ، ويخرج عنه نحو "زيد ضربته" ويجب أن يجعل سببيًّا. وأما على ما ذكره الشيخ في "دلائل الإعجاز" وهو أن الاسم لا يؤتى به معرى عن العوامل اللفظية إلا لحديث قد نوى إسناده إليه، فإذا قلت "زيد" فقد أشعرت قلب السامع بأنك تريد الإخبار عنه، فهذا توطئة له وتقدمه للإعلام به، فإذا قلت "قام" دخل في قلبه دخول المأنوس وهذا أشد للثبوت وأمنع من الشبهة والشك، وبالجملة ليس الإعلام بالشيء بغتة مثل الإعلام به بعد التنبيه عليه والتقدمة. فإن ذلك يجري مجرى تأكيد الإعلام في التقوي والإحكام، فيدخل فيه نحو زيد ضربته وزيد مررت به. ومما يكون المسند فيه جملة لا للسببية أو التقوي خبر ضمان الشأن ولم يتعرض له لشهرة أمره وكونه معلومًا مما سبق. وأما صورة التخصيص نحو أنا سعيت في حاجتك ورجل جاءني فهي داخلة في التقوي على ما مر.

الأول نسلم عليك سلامًا وتقدير الثاني سلام عليكم، كأن إبراهيم عليه السلام قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به أخذًا بأدب الله تعالى في قوله تعالى: {وَإِذَاحُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} [النساء: 86] . وقد ذكر له وجه آخر فيه دقة غير أنه بأصول الفلاسفة أشبه وهو أن التسليم دعاء للمسلم عليه بالسلامة من كل نقص ولهذا أطلق، وكمال الملائكة لا يتصور فيه التجديد؛ لأن حصوله بالفعل مقارن لوجودهم، فناسب أن يحيوا بما يدل على الثبوت دون التجدد، وكمال الإنسان متجدد؛ لأنه بالقوة وخروجه إلى الفعل بالتدرج فناسب أن يحيا بما يدل على التجدد دون الثبوت. وفيه نظر. وقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُون} ، أي أحدثتم دعاءهم أم استمر صمتكم عنه فإنه كانت حالهم المستمرة أن يكونوا صامتين عن دعائهم، ففيه لم يفترق الحال بين أحداثكم دعاءهم وما أنتم عليه من عادة صمتكم عن دعائهم. وقوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِين} أي أحدثت عندنا تعاطي الحق فيما نسمعه منك أم اللعب، أي أحوال الصبا بعد مستمرة عليك، وأما قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِين} ، في جواب: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر} فلإخراج ذواتهم من جنس المؤمنين مبالغة في تكذيبهم، ولهذا أطلق قوله "مؤمنين" وأكد نفيه بالباء، ونحوه: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} . وشرطيتها: لما مر1، وظرفيتها لاختصار الفعلية، إذ هي مقدرة بالفعل على الأصح2.

_ 1 يعني للاعتبارات المختلفة الحاصلة من أدوات الشرط. 2 لأن الفعل هو الأصل في العمل، وقيل باسم الفاعل؛ لأن الأصل في الخبر أن يكون مفردًا، ورجح الأول بوقوع الظرف صلة للموصول نحو "الذي في الدار أخوك" وأجيب بأن الصلة من مظان الجملة بخلاف الخبر، ولو قال: "إذ الظرف مقدر بالفعل على الأصح" لكان أصوب؛ لأن ظاهر عبارته يقتضي أن الجملة الظرفية مقدرة باسم الفاعل على القول الغير الأصح ولا يخفى فساده.

تأخير المسند

تأخير المسند: وأما تأخيره: فلأن ذكر المسند إليه أهم كما سبق.

وإما للتنبيه من أول الأمر على أنه1 خبر لا نعت2 كقوله3: له همم لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجل من الدهر وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف: 24] . وإما للتفاؤل4. وإما للتشويق إلى ذكر المسند5 إليه كقوله6: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر. وقوله: وكالنار الحياة فمن رماد ... أواخرها وأولها دخان قال السكاكي رحمه الله: وحق هذا الاعتبار تطويل الكلام في المسند وإلا لم يحسن ذلك الحسن.

_ 1 أي المسند. 2 إذ النعت لا يتقدم على المنعوت وإنما قال من أول الأمر؛ لأنه ربما يعلم أنه خبر لا نعت بالتأمل في المعنى والنظر إلى أنه لم يرد للكلام خبر للمبتدأ. 3 ينسب لحسان في مدح الرسول. والصحيح أنه ليس له بل هو لبكر بن النطاح في أبي دلف وهو في الدلائل ص117. والشاهد فيه تقديم المسند في قوله: "له همم". 4 مثل: سعدت بغرة وجهك الأيام. 5 بأن يكون في المسند المتقدم طول يشوق النفس إلى ذكر المسند إليه فيكون له وقع في النفس ومحل من القبول؛ لأن الحاصل بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب كما يقولون. 6 هو لمحمد بن وهيب في المعتصم الخليفة والشاهد في البيت تقديم "ثلاثة" وهو المسند، والمسند إليه المتأخر هو "شمس الضحى إلخ" وسيأتي البيت في الإيضاح أيضًا في الجامع وفي "الجمع" في فن البديع.

تنبيه: كثير مما في الباب1 والذي قبله2 غير مختص بالمسند إليه والمسند، كالذكر والحذف وغيرهما3 مما تقدمت أمثلته، والفطن إذا أتقن اعتبار ذلك فيهما4 لا يخفى عليه اعتباره في غيرهما5.

_ 1 يعني باب المسند. 2 يعني باب المسند إليه. 3 من التعريف والتنكير والتقديم والتأخير والإطلاق والتقييد وغير ذلك. 4 أي في البابين. 5 من المفاعيل والملحقات بها والمضاف إليه، وإنما قال: "كثير مما في هذا الباب إلخ"ولم يقل: "كل ما في هذا الباب"؛ لأن بعضها مختص بالبابين كضمير الفصل المختص بما بين المسند إليه والمسند وككون المسند مفردًا فعلا فإنه مختص بالمسند إذ كل فعل مسند دائمًا، وقيل هو إشارة إلى أن جميعها لا يجري في غير البابين كالتعريف فإنه لا يجري في الحال والتمييز وكالتقديم فإنه لا يجري في المضاف إليه، وفيه نظر؛ لأن قولنا: "جميع ما في هذا الباب والذي قبله غير مختص بهما" لا يقضي أن يجري شيء من المذكورات في كل واحد من الأمور التي هي غير المسند إليه والمسند فضلًا عن أن يجري كل منها فيه إذ يكفي لعدم الاختصاص بالبابين ثبوته في شيء مما يغايرهما.

القول في متعلقات أحوال الفعل

القول في متعلقات أحوال الفعل مدخل ... القول في متعلقات أحوال الفعل: حال الفعل مع المفعول1 كحاله مع الفاعل، فكما أنك إذا أسندت الفعل إلى الفاعل كان غرضك أن تفيد وقوعه منه لا أن تفيد وجوده في نفسه فقط، كذلك إذا عديته إلى المفعول كان غرضك أن تفيد وقوعه عليه لا أن تفيد وجوده في نفسه فقط، فقد اجتمع الفاعل والمفعول في أن عمل الفعل فيهما إنما كان ليعلم التباسه بهما2،

_ 1 قد أشير في التنبيه الذي ذكره الخطيب قبل هذا الباب إلى أن كثيرًا من الاعتبارات السابقة تجري في متعلقات الفعل لكن ذكر في الباب تفصيل بعض من ذلك لاختصاصه بمزيد من البحث. هذا وراجع المفتاح ص97 وما بعدها والدلائل ص118 وما بعدها في هذه البحوث. والمراد المفعول به بدلالة قول الخطيب "من جهة وقوعه عليه" وقوله "نزل الفعل المتعدي منزلة اللازم".. وإن كان سائر المفاعيل بل جميع المتعلقات كذلك، فإن الغرض من ذكرها مع الفعل إفادة تلبسه بها من جهات مختلفة، لكن خص البحث بالمفعول به لقربه من الفاعل ولكثرة حذفه كثرة شائعة، وسائر المعلقات تعلم بالمقايسة. والمراد كما قال الشربيني أن الفعل بالنظر للمفعول كالفعل بالنظر للفاعل فلما كان المقصود في التمهيد بيان حال الفعل بالنظر لهما كانا متبوعين له ولما كان قيدين له لبيان حالة قال السعد "من ذكره معه" أي ذكر كل إلخ. 2 المراد بالتلبس التعلق والارتباط وقوله "بهما" أي بالمفعول والفاعل. والمراد إفادة التلبس نفيًا أو إثباتًا فدخل ما ضرب زيد وما ضرب زيدًا. وفي العبارة مسامحة إذ ليس الغرض من ذكر كل منهما مع الفعل إفادة تلبس الفعل بكل منهما فالأظهر أن يقول: أي تلبس الفعل بما ذكر معه. وقال عبد الحكيم: أي تلبس الفعل بكل منهما والمعنى أن الغرض من ذكر واحد منهما مع الفعل أي واحد كل منهما تلبس الفعل بذلك الواحد أي واحد كان؛ لأن الضمير المفرد إذا كان راجعًا إلى التعدد باعتبار كل واحد يكون المراد أي واحد لا كل واحد على سبيل الشمول، فلا اشتباه في صحة هذه العبارة وإن خفي على بعض الأذكياء وقالوا إنها تفيد أن الغرض من ذكر كل منهما إفادة تلبس الفعل مع كل منهما وهذا لا يصح.

فعمل الرفع في الفاعل ليعلم التباسه به من جهة وقوعه منه، والنصب في المفعول ليعلم التباسه به من جهة وقوعه عليه. أما إذا أريد الأخبار بوقوعه في نفسه من غير إرادة أن يعمل ممن وقع في نفسه أو على من وقع، فالعبارة عنه أن يقال كان ضرب أو وقع ضرب أو وجد أو نحو ذلك من ألفاظ تفيد الوجود المجرد1. وإذا تقرر هذا فنقول: الفعل المتعدي إذا أسند إلى فاعله ولم يذكر له مفعول فهو على ضربين: الأول: أن يكون الغرض إثبات المعنى في نفسه للفاعل على الإطلاق أو نفيه عنه كذلك، وقولنا: "على الإطلاق" أي من غير اعتبار عمومه

_ 1 ويقول عبد القاهر في الدلائل ص118: "وإذ قد بدأنا في الحذف بذكر المبتدأ فإني أتبع ذلك ذكر المفعول به إذا حذف خصوصًا، فإن الحاجة إليه أمس، وهو بما نحن به أخص، واللطائف كأنها فيه أكثر، وما يظهر بسببه من الحسن أعجب وأظهر. وههنا أصل يجب ضبطه، وهو أن حال الفعل مع المفعول الذي يتعدى إليه حاله مع الفاعل، وكما أنك إذا قلت ضرب زيد فأسندت الفعل إلى الفاعل كان غرضك من ذلك أن تثبت الضرب فعلًا له لا أن تفيد وجود الضرب في نفسه وعلى الإطلاق، كذلك إذا عديت الفعل إلى المفعول فقلت ضرب زيد عمرًا، كان غرضك أن تفيد التباس الضرب الواقع من الأول بالثاني ووقوعه عليه، فقد اجتمع الفاعل والمفعول في أن عمل الفعل فيهما إنما كان من أجل أن يعمل التباس المعنى الذي اشتق منه بهما، فعلم الرفع في الفاعل ليعلم التباس الضرب به من جهة وقوعه منه، والنصب في المفعول ليعلم التباسه به من جهة وقوعه عليه، ولم يكن ذلك ليعلم وقوع الضرب في نفسه، بل إذا أريد الإخبار بوقوع الضرب ووجوده في الجملة من غير أن ينسب إلى فاعل أو مفعول أو يتعرض لبيان ذلك فالعبارة فيه أن يقال: كان ضرب أو وقع ضرب وما شاكل ذلك من ألفاظ تفيد الوجود المجرد في الشيء" أ. هـ عبد القاهر. وقد نقل الخطيب في الإيضاح كلام الدلائل بالنص.

وخصوصه ولا اعتبار تعلقه بمن وقع عليه1، فيكون المتعدي حينئذ بمنزلة اللازم، فلا يذكر له مفعول، لئلا يتوهم السامع أن الغرض الإخبار به باعتبار تعلقه بالمفعول، ولا يقدر أيضًا؛ لأن المقدر في حكم المذكور2.

_ 1 زاد "على الإطلاق" المفسر بعدم اعتبار العموم في الفعل وفي المتعلق ولو كان التنزيل إنما يترتب على إرادة مجرد ثبوته للفاعل ليلائم قوله بعد "ثم إن كان المقام خطابيًّا لا استدلاليًّا إلخ"؛ لأن تفصيله إلى إفادة العموم أو الخصوص إنما يتأتى في الفعل المطلق عن التقييد بكل منهما. كذا قيل، والحق أن إسقاط لفظ الإطلاق لا ينافي التفصيل بل هو أنسب على ما يأتي تحقيقه أ. هـ ابن يعقوب. هذا والعموم في الفعل بأن يراد جميع أفراده والخصوص فيه بأن يراد بعضها، وقوله: ومن غير اعتبار تعلقه بمن وقع عليه أي فضلًا عن عمومه وخصوصه. 2 وسيأتي ذكر الضرب الثاني بعد قوله "والضرب الثاني أن يكون الغرض إفادة تعلقه بمفعول فيجب تقديره بحسب القرائن ثم حذفه من اللفظ إما للبيان بعد الإيهام إلخ". وقال العصام والمراد بالإطلاق أن لا يتقيد بالمعقول به، لكن فسره المصنف في الإيضاح بالإطلاق عن المفعول عاما كان أو خاصا والإطلاق عن عموم نفس الفعل -بإرادة جميع أفراده- وعن خصوصه -بإرادة بعض أفراده- وفيه أن التنزيل منزلة اللازم لا يتوقف على الإطلاق بهذا المعنى فإن لك أن تقول: فلان يعطي كل إعطاء أو إعطاء كذا.. ثم قال العصام: "نزل الفعل منزلة اللازم". لم يقل جعل لازمًا؛ لأنه في معنى المتعدي؛ لأن "يعطي" بمعنى يفعل الإعطاء إلا أنه لما كان المفعول داخلًا في معناه ليحتج إلى ذكر مفعول فصار كاللازم في أنه يطلب منصوبًا. هذا واعتبار العموم أو الخصوص في الفعل لازم للعموم أو الخصوص في المفعول، فالمدار إذا على العموم أو الخصوص في المفعول إذ عدم اعتبار العموم أو الخصوص في الفعل ليس له شأن بأمر تنزيل المتعدي منزلة اللام، يدل على ذلك كلام عبد القاهر ونصه: اعلم أن أغراض الناس يختلف في ذكر الأفعال المتعدية فهم يذكرونها تارة ومرادهم أن يقصروا على إثبات المعاني التي اشتقت منها للفاعلين من غير أن يتعرضوا لذكر المفعولين. فإذا كان الأمر كذلك كان الفعل المتعدي كغير المتعدي مثلًا في أنك لا ترى له =

.........................................................................

_ = مفعولًا لا لفظًا ولا تقديرًا ومثال ذلك قول الناس فلان يحل ويعقد ويأمر وينهي ويضر وينفع وكقولهم هو يعطي ويجزل ويقري ويضيف، المعنى في جميع ذلك على إثبات المعنى في نفسه للشيء على الإطلاق وعلى الجملة من غير أن يتعرض لحديث المفعول حتى كأنك قلت: صار إليه الحل والعقد، وصار بحيث يكون منه حل وعقد وأمر ونهي وضر ونفع. وعلى ذلك قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ، المعنى هل يستوي من له علم ومن لا علم له من غير أن يقصد النص على معلوم، وكذلك قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى، وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} ، وقوله: وأنه هو أغنى وأقنى -أي أعطى ما يقتنى- المعنى هو الذي منه الإحياء والإماتة والإغناء والإفناء. وهكذا كل موضع كان القصد فيه أن يثبت المعنى في نفسه فعلًا للشيء وأن يخبر بأن من شأنه أن يكون منه أو لا يكون إلا منه "أي على إفادة التقوي أو الخصيص" أو لا يكون منه فإن الفعل لا يعدي هناك؛ لأن تعديته تنقض الغرض وتغير المعنى. ألا ترى أنك إذا قلت هو يعطي الدنانير كان المعنى على أنك قصدت أن تعلم السامع أن الدنانير تدخل في عطائه أو أنه يعطيها خصوصًا دون غيرها وكان غرضك على الجملة بيان جنس ما تناوله الإعطاء لا الإعطاء في نفسه ولم يكن كلامك مع من نفى أن يكون كان منه إعطاء بوجه من الوجوه بل مع من أثبت له إعطاء إلا أنه لم يثبت إعطاء الدنانير فاعرف ذلك فإنه أصل كبير عظيم النفع. فذا قسم من خلو الفعل عن المفعول وهو ألا يكون له مفعول يمكن النص عليه "118 و119 دلائل". وكلام السكاكي أيضًا في هذا الموضوع على نهج كلام عبد القاهر حيث جعل من أسباب ترك ذكر المفعول: القصد إلى نفس الفعل بتنزيل المتعدي منزلة اللازم ذهابًا في نحو فلان يعطي إلى معنى يفعل الإعطاء ويوجد هذه الحقيقة إيهامًا للمبالغة بطريق المذكور في إفادة اللام للاستغراق وعليه قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] ، المعنى وأنتم من أهل العلم المعرفة. وقد فسر الخطيب وغيره "الإطلاق" هنا بشيئين: عدم اعتبار العموم أو الخصوص في الفعل، وعدم اعتبار التعليق بالمفعول. واعترض على الخطيب بأن عدم اعتبار العموم أو الخصوص في الفعل لا دخل له في تنزيله.

...........................................................................

_ منزلة اللازم؛ لأن مناط التنزيل هو عدم اعتبار التعلق بمفعول فضلًا عن أن عدم اعتبار العموم أو الخصوص في الفعل ينافي إفادته التعميم كما سيأتي عن السكاكي والاعتراض الأول للعصام والثاني للسعد، وقد أجاب السعد عن الثاني بجواب عده السيد ضعيفًا. وخلاصة الاعتراض الثاني هو أن التعميم في أفراد الفعل ينافي كون الغرض من الفعل إثباته أو نفيه مطلقًا، وقد رد هذا الاعتراض السعد بأن المفاد غير الغرض، واستضعف السيد هذا بدليل أن الخارج عن القصد لا يعد من الخصوصيات، ورد العصام على السيد بأن الذي لا يكون من الخصوصيات هو الذي لا يتعلق به الغرض أصلًا لا ما كان غرضًا من حاق الكلام، وكذلك رد عبد الحكيم على السيد بأن التعميم من مستتبعات التركيب. أما السيد فرد بأنه لا منافاة: لأن التعميم لم يستفد من الفعل وحده بل منه بمعونة المقام فيكون عند السيد -كما فهم العصام والبناني وابن يعقوب- كناية، أي أن الفعل المطلق عن العموم كناية عنه عامًا بواسطة المقام. والإنبابي لا يراه كناية لعدم اللزوم هنا بين المعنى الحقيقي والكنائي؛ ولأنه لا داعي لاعتبار الكناية. والعصام يقول هذا ينافي أصل الموضوع وهو أن الفعل لم يجعل كناية. والبناني يرد عليه بأن الكناية هنا في نفس الفعل وأصل الموضوع المنفي هنا هو الكناية في المفعول -وأما البناني وابن يعقوب فيقولان يمكن حمل كلام السعد على كلام السيد بأن العموم ليس مقصودًا أولًا بل المقصود أولًا مطلق الثبوت الذي ليس فيه عموم ليتوصل به إلى العموم بواسطة دفع التحكم. أما عبد الحكيم فيرد رأي السيد بأنه يلزم على ما ذكره السيد أن يكون منشأ القصد بمجرد الإثبات والنفي مغايرًا لمنشأ القصد للعموم، والاختلاف باعتبار المنشأ لا يدفع التنافي بل الدافع له الاختلاف بالاعتبار في أنفسهما لا في منشأهما ورد معاوية كلام عبد الحكيم هذا بأن المتنافيين اللذين لا يدفع اجتماعهما اختلاف المنشأ هنا هما قصد العموم وقصد عدمه، لا قصده وعدم قصده كما هو فرض مسألتنا، فالدافع للتنافي هنا هو الاختلاف بالاعتبار في أنفسهما "لا في منشأهما كما فهم عبد الحكيم"؛ لأن المثبت كونه مقصودًا من الكلام والمنفي كونه داخلًا في الغرض. ورد الإنبابي على المنافاة بجواب السعد، وبجواب آخر، خلاصته

........................................................................

_ أن التعميم هنا مستفاد من ذات الفعل إجمالًا وعدم اعتبار العموم والخصوص هناك مستفاد من عموم المفعول وخصوصه كما ذكره عبد الحكيم. هذا وعبد القاهر: لم يعول في تنزيل المتعدي منزلة اللازم إلا على عدم اعتبار تعلقه بالمفعول، قال في "هو يعطي ويمنع": المعنى في ذلك على إثبات المعنى في نفسه على الإطلاق وعلى الجملة من غير أن يتعرض لحديث المفعول. أما السكاكي فلم يذكر قيد الإطلاق في كلامه "وللقصد إلى نفس الفعل بتنزيل المتعدي منزلة اللازم". على أن تفسيرهم الإطلاق هنا بما ذكره السعد مخالف لتفسيرهم الإطلاق الأول. وقال السعد في شرح قول الخطيب في متن التلخيص "نزل الفعل المتعدي منزلة اللازم ولم يقدر له مفعول؛ لأن المقدر كالمذكور" ما نصه: كالمذكور أي في أن السامع يفهم منهما أن الغرض الإخبار بوقوع الفعل من الفاعل باعتبار تلعقه بمن وقع عليه، فإن قولنا "فلان يعطي الدنانير" يكون لبيان جنس ما يتناوله الإعطاء لا لبيان كونه معطيًا، ويكون كلامًا مع من أثبت له إعطاء غير الدنانير لا مع نفي أن يوجد منه إعطاء.. وفي هذا خطأ في العبارة مثل الخطأ السابق في تفسير الإطلاق بالعموم في إفراد الفعل أو الخصوص فيه. ملاحظة: المثال "هو يعطي الدنانير": 1 فيه قصر، قصر صفة على موصوف، قصر إعطاء الدنانير على "محمد" مثل المقدم، وهو أما: أقصر قلب أي لا غيره. ب أو قصر أفراد أي وحده. جـ أو قصر تعيين لنفي تردد المخاطب في أنه هو هل الذي يعطيها أو غيره. ويصح أن يكون المثال للتقوي لا للتخصيص فيخاطب به أما:

.........................................................................

_ أمن ينكر ثبوت الفعل "إعطاء الدنانير" له. ب أو من يتردد في ثبوت الفعل له. وقال عبد القاهر في المثال: المعنى على أنك قصدت إعلام السامع أن الدنانير تدخل في عطائه أو أنه يعطيها خصوصا دون غيرها، وكان غرضك بيان جنس ما تناوله الإعطاء لا الإعطاء في نفسه، ولم يكن كلامك مع من نفى أن يكون كان منه إعطاء بوجه من الوجوه بل مع من أثبت له إعطاء إلا أنه لم يثبت له إعطاء الدنانير أي بأن أثبت له إعطاء غير الدنانير أو أثبت له الدنانير مع غيرها. فهو يرى أنه للإعلام بأن الدنانير تدخل في عطائه، أو لتخصيصها دون غيرها بالإعطاء بطريق فحوى الكلام وسياقه لا من طريق القصر. وأنها تلقي لمخاطب لا يثبت له إعطاء الدنانير. وهي عنده لقصر القلب أو للإنكار، ولنا أن نقول أن عبارة عبد القاهر فيها تسامح وليست نصًّا قاطعًا في إفادة القصر. ويرى السيد أن المثال يلقى لمخاطب يثبت له إعطاء ولا يدري ما المعطى فهي عنده ليس فيها ملاحظة قصر باعتبار القيد. ويرى السعد أن المثال هو كلام مع من يثبت له إعطاء غير الدنانير لا مع من نفى أن يوجد منه إعطاء. وكلام السعد "كعبد القاهر" لا يقتضي ملاحظة القصر باعتبار القيد بطريق التقديم بل بطريق الفحوى، وتكون لقصر القلب عنده "أي فقط كما هي كذلك عند عبد القاهر"، وذلك فهم البناني، ويخالف السعد عبد القاهر في أن السعد قصر حال المخاطب بهذه العبارة على شيء واحد هو أن يكون مثبتًا للمقدم إعطاء غير الدنانير. وعبد الحكيم والشربيني قد صرحا بأن العبارة للتقوي لدفع الإنكار أو التردد أو لتخصيص المسند إليه بالمسند باعتبار قيده قصر قلب أو إفراد أو تعيين، وهذا تكلف منهما في حملهما كلام السعد على غير ظاهره، ومخالف للمعروف في القصر فلا بد أن يكون المخاطب مثبتًا للفعل المتعلق بغير ذلك القيد للمسند إليه المقدم. فعلى رأيهما نستنتج أن "هو يعطي الدنانير" إما: 1 لقصر القلب فالمخاطب بها من يعتقد أنه يعطي غير الدنانير وأن غيره يعطي الدنانير. ب لقصر الأفراد في المخاطب بها من يعتقد أنه يعطي الدنانير "أي أو غيرها" وأن غيره يعطي الدنانير "أي أو غيرها". جـ لقصر التعيين فالمخاطب بها من يتردد في أنه يعطي الدنانير "أي أو غيرها" أو أن غيره يعطي الدنانير "أي أو غيرها". د لدفع الإنكار فالمخاطب بها من يعتقد أنه يعطي غير الدنانير. هـ لدفع التردد فالمخاطب بها من يتردد في أنه يعطي الدنانير أو غيرها.

وهذا الضرب قسمان: 1- لأنه إما أن يجعل الفعل مطلقًا1 كناية2 عن الفعل متعلف بمفعول مخصوص دلت عليه قرينة3.

_ 1 أي من اعتبار عموم أو خصوص في الفعل ومن غير اعتبار تلعقه بالمفعول. 2 وجعل المطلق كناية عن المقيد مع أنها الانتقال من الملزوم إلى اللازم والمقيد ليس لازمًا للمطلق، بناء "على أن مطلق اللزوم ولو بحسب الادعاء كاف فيها فيدعي أن المطلق ملزوم للمقيد وكونه "كناية عنه" أي معبرًا به عن الفعل المتعلق بمفعول مخصوص ومستعملًا فيه على طريقة الكناية. 3 قال العصام: "ولا بد للمعنى أيضًا من قرينة"، والاقتصار هنا على الكناية يشعر بنفي صحة التجوز ولم يقم عليه دليل؛ لأنه قد يوجد في تركيب قرينة مانعة فيكون مجازًا لا كناية وإن كانت القرينة وهي مقام المدح في مثال المصنف غير مانعة، فالكناية ليس معها قرينة تمنع إرادة المعنى الحقيقي وحينئذ لا يجوز إرادته من اللفظ مع لازمة، وهذا القيد مخرج للمجاز إذ لا تجوز فيه إرادة المعنى الحقيقي مع المعنى المجازي عند من يمنع الجمع بين الحقيقة والمجاز كالمصنف. ولا دليل على نفي جعله كناية عن فعل متعلق بمفعول عام كما يرى العصام فتقول "فلان يعطي" أي كل أحد؛ لأن العطاء إذا صدر عن مثله لا يخص أحدًا. وقوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلام} يحتمله. والحق أن العموم مستفاد من القرائن. وقال الإنبابي: قد يقال الفعل المتعلق بمفعول عام داخل في كلام المصنف؛ لأنه مخصوص من حيث اعتبار العموم فقول المصنف بمفعول مخصوص أي معين.

2- أو لا1.

_ 1 أي أو لا يجعل ذلك. ويلاحظ أن عبد القاهر لم يقسم هذا الضرب إلى قسمين بل الذي جرى عليه أن هذا الضرب هو القسم الثاني فقط وهو ألا يجعل الفعل مطلقًا كناية عنه متعلقًا بمفعول مخصوص دلت عليه قرينة، أما القسم الآخر وهو أن يجعل كناية فقد جعله من الضرب الثاني الآتي؛ لأن له عنده مفعولًا مقصودًا محذوفًا لدلالة الحال ونحوه عليه.. ويقول عبد القاهر: اعلم أن أغراض الناس تختلف في ذكر الأفعال المتعدية فهم يذكرونها تارة ومرادهم أن يقتصروا على إثبات المعاني المشتقة منها للفاعلين من غير أن يتعرضوا لذكر المفعولين فيكون الفعل المتعدي كغير التعدي في أنك لا ترى له مفعولًا لا لفظًا ولا تقديرًا. وعلى ذلك قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ، فهذا قسم من خلو الفعل عن المفعول وهو أن لا يكون له مفعول يمكن النص عليه، وقسم ثان وهو أن يكون له مفعول مقصود قصده معلوم إلا أنه يحذف من اللفظ لدليل الحال عليه، وينقسم إلى: جلي لا صنعة فيه مثل أصغت إليه أي أذني، وحتى تدخله الصنعة فيتفنن ويتنوع: أ- فنوع منه أن تذكر الفعل وفي نفسك له مفعول مخصوص قد علم مكانه إما لجري ذكر أو دليل حال إلا أنك تنسيه نفسك وتخفيه وتوهم أنك لم تذكر ذلك الفعل إلا؛ لأن تثبت نفس معناه من غير أن تعديه إلى شيء أو تعرض فيه لمفعول ومثاله شجو حساده البيت. ب- ونوع آخر وهو أن يكون معك مفعول معلوم مقصود قصده قد علم أنه ليس للفعل الذي ذكرت مفعول سواه بدليل الحال أو ما سبق من الكلام إلا أنك تطرحه وتتناساه وتدعه يلزم ضمير النفس لغرض غير الذي مضى وذلك الغرض أن تتوفر العناية على إثبات الفعل للفاعل وتخلص له وتنصرف بجملتها وكما هي إليه ومثاله قول عمرو بن معد يكرب: "فلو أن قومي أنطقتني رماحهم" البيت، ومثله قول جرير: أمنيت المنى وخليت حتى ... تركت ضمير قلبي مستهاما =

الثاني: كقول تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ، أي من يحدث له معنى العلم ومن لا يحدث.

_ = وقول طفيل: جزى الله عنا جعفرًا. الأبيات، وقوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَن} الآية، وقول البحتري: إذا بعدت أبلت وإن قربت شفت ... فهجرانها يبلي ولقيانها يشفي جـ الإضمار على شريطة التفسير أو البيان بعد الإبهام كما يقول الإيضاح، مثل: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِي} . وجعل من هذا الضرب ما حذف؛ لأنه أريد ذكره ثانيا على وجه يتضمن إيقاع الفعل على صريح لفظه إظهارًا لكمال العناية بوقوعه عليه مثل قول البحتري: قد طلبنا فلم نجد لك في السؤ ... دد والمجد والمكارم مثلا ويحذف المفعول لدفع إيهام غر المراد مثل: وكم ذدت عني ومن تحامل حادث ... وسورة أيام حززن إلى العظم فهذا صنيع عبد القاهر، أما السكاكي فقد سبق أنه جعل أسباب الحذف في المفعول عدة أمور منها: 1 القصد إلى التعميم مع الاختصار - والله يدعو إلى دار السلام. 2 القصد إلى نفس الفعل بتنزيل المتعدي منزلة اللازم: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون} . 3 القصد إلى مجرد الاختصار: {أَهَذَاْ الذِيْ بَعَثَ اللهُ رَسُوْلَا} ، {أَرِنَيْ أَنْظُر إِلَيْكَ} ، {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} الآية- {وَلَوْ شَاْءَ لَهَدَاْكُمْ أَجْمَعِيْن} . ثم قال: ولك أن تنظم: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون} في هذا السلك. ومنه: لو شئت عدت بلاد نجد عودة البيت. 4 الرعاية على الفاصلة مثل: ما ودعك ربك وما قلى. 5 استهجان ذكره مثل ما رأيت منه ولا رأى مني إلخ.

قال السكاكي1: ثم إذا كان المقام خطابيًّا2 لا استدلاليًّا، أفاد2 العموم في أفراد الفعل، بعلة إيهام أن القصد إلى فرد دون مفرد آخر مع تحقق الحقيقة فيهما تحكم، ثم جعل قولهم في المبالغة

_ 1 ذكر السكاكي في بحث إفادة اللام للاستغراق أنه إذا كان المقام خطابيًّا لا استدلاليا كقوله: صلى الله عليه وسلم: "المؤمن غر كريم والمنافق خب لئيم" حمل المعرف باللام مفردًا كان أو جمعا على الاستغراق بعلة إيهام أن القصد إلى فرد آخر مع تحقق الحقيقة فيهما ترجيح لأحد المتساويين على الآخر. ثم ذكر في بحث حذف المفعول -ص99 من المفتاح- أنه قد يكون "للقصد إلى نفس الفعل بتنزيل المتعدي منزلة اللازم ذهابًا في نحو فلان يعطي إلى معنى الإعطاء ويوجد هذه الحقيقة إيهامًا للمبالغة بالطريق المذكور في إفادة اللام للاستغراق" فجعل المصنف قوله "بالطريق المذكور" إشارة إلى قوله "ثم إذا كان المقام خطابيًّا لا استدلاليا حمل المعرف باللام على الاستغراق".. وقول السكاكي "ثم" أي بعد كون الغرض ثبوت أصل الفعل وتنزيله منزلة اللازم من غير اعتبار كناية. 2 أي يكتفي فيه بمجرد الظن - والاستدلالي ما يطلب فيه اليقين. 3 أي المقام أو الفعل. فمعنى "يعطي" حينئذ يفعل الإعطاء المعرف بلام الحقيقة يحمل في المقام الخطابي على استغراق الإعطاءات وشمولها مبالغة لئلا يلزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر. لا يقال: إفادة التعميم في إفراد الفعل تنافي كون الغرض الثبوت أو النفي عنه مطلقًا أي من غير اعتبار عموم ولا خصوص؛ لأنا نقول: لا نسلم ذلك "أي التنافي" فإن عدم كون الشيء معتبرًا لا يستلزم عدم كونه مفادًا من الكلام فالتعميم مفاد غير مقصود. قال السيد: الاعتذار المذكور ركيك جدًّا فإن المعتبر عند البلاغيين هو المعاني المقصودة للمتكلم وما يفهم من العبارة، وما لا يكون مقصودًا لا يعتد به ولا يعد من خواص التركيب. ثم قال السيد: فالتعميم في أفراد الفعل إذا لم يكن معتبرًا مقصودًا في الغرض لم يكن مما يعتد به عندهم، والأظهر في الاعتذار أن يقال: أن الفيد للعموم في أفراد الفعل هو الفعل بمعونة المقام الخطابي وذلك لا ينافي كون الغرض من نفس الفعل الإطلاق على التفسير المذكور، غاية ما في الباب أن لا يكون العموم مقصودًا بنفس الفعل بل به مع معونة المقام:

"فلان يعطي ويمنع ويصل ويقطع" محتملًا لذلك ولتعميم المفعول كما سيأتي، وعده الشيخ عبد القاهر مما يفيد أصل المعنى على الإطلاق من غير إشعار بشيء من ذلك. والأول1 كقول البحتري يمدح المعتز بالله ويعرض بالمستعين بالله: شجو حساده وغيظ عداه ... أن يرى مبصر ويسمع واعي2

_ 1 راجع120 من الدلائل والبيت من قصيدة في ديوان البحتري، والمعتز والمستعين من خلفاء بني العباس، تولى المستعين عرش الخلافة من 248 إلى 252هـ، وتولى المعتز العرش بعده من 252 إلى 255هـ. 2 الشجو: الحزن. العدى: جمع عدو. وقوله أن يرى مبصر من إقامة السبب مقام المسبب؛ لأن الرؤية والسماع المذكورين ليسا نفي الشجو ونفس الغيظ بل سببهما وعطف "وغيظ" على "شجو" عطف مرادف: و"أن يرى" خير عن شجو حساده. وقد جعل عبد القاهر هذا القسم مقابلًا للقسم الذي جعل فيه المتعدي كغير المتعدي، قال ما نصه: وقسم ثان وهو أن يكون له مفعول مقصود قصده معلوم إلا أنه يحذف من اللفظ لدليل الحال عليه وينقسم إلى جلي لا صنعة فيه مثل أصغيت إليه أي أذني، وخفي تدخله الصنعة وهو يتنوع: فنوع منه أن تذكر الفعل وفي نفسك له مفعول مخصوص قد علم مكانه إما لجري ذكر أو دليل حال، إلا أنك تنسيه نفسك وتخفيه وتوهم أنك لم تذكر ذلك الفعل لا؛ لأن تثبت نفس معناه من غير أن تعديه إلى شيء أو تعرض فيه بالمفعول ومثاله، قول البحتري: شجو حساده وغيظ عداه ... أن يرى مبصر ويسمع واع المعنى -لا محالة- أن يرى مبصر محاسنه ويسمع واع أخباره وأوصافه، ولكنك تعلم على ذلك أنه كان يسرق علم ذلك من نفسه، ويدفع صورته عن وهمه ليحصل على معنى شريف وغرض خاص، وقال: أنه يمدح خليفة وهو المعتز ويعرض بخليفة وهو المستعين، فأراد أن يقول أن محاسن المعتز وفضائله المحاسن والفضائل يكفي فيها أن يقع عليها بصر =

أي أن يكون ذو رؤية وذو سمع. يقول: محاسن الممدوح وآثاره لم تخف على من له بصر لكثرتها واشتهارها، ويكفي في معرفة أنها سبب استحقاقه الإمامة دون غيره أن يقع عليها بصر ويعيها سمع لظهور دلالتها على ذلك لكل أحد، فحساده وأعداؤه يتمنون أن لا يكون في الدنيا من له عين يبصر بها وأذن يسمع بها كي يخفى استحقاقه للإمامة فيجدوا بذلك سبيلًا إلى منازعته إياها. فجعل كما ترى مطلق الرؤية

_ = ويعيها سمع حتى يعلم أنه المستحق للخلافة، والفرد الوحيد الذي ليس لأحد أن ينازعه مرتبتها، فأنت ترى حساده وليس شيء أشجى لهم وأغيظ من علمهم بأن ههنا مبصرًا يرى وسامعًا يعي، حتى ليتمنون أن لا يكون في الدنيا من له عين ببصر بها وأذن يعي معها كي يخفى استحقاقه لشرف الإمامة فيجدوا بذلك سبيلًا إلى منازعته إياها -120 دلائل- فالخطيب يخالف عبد القاهر هنا في أمرين: 1- أنه يرى أن الفعل هنا منزل منزلة اللازم وعبد القاهر يراه مما له مفعول مقصود محذوف. 2- أنه يجعل الفعل مطلقًا كناية عن نفسه متعلقًا بمفعول مخصوص وعبد القاهر لا يراه كناية. والحق رأي عبد القاهر. والدليل على هذه الكناية جعلهما خبرًا عن الشجو والغيظ. قال الدسوقي وقوله "للدلالة" علة لجعلهما كنايتين، أي جعلهما كنايتين، ولم يصرح بالمفعول المخصوص من أول الأمر أو يلاحظ تقديره للدلالة إلخ، وهذا جواب عما يقال لا حاجة إلى اعتبار الإطلاق أولًا ثم جعله كناية عن نفسه مقيدًا بمفعول مخصوص، وهل هذا إلا تلاعب ولم لم يجعل من أول الأمر متعلقًا بمفعول مخصوص، وحاصل الجواب أنه لو جعل كذلك لفاتت المبالغة في المدح؛ لأنها لا تحصل إلا بحمل الرؤية على الإطلاق ثم يجعل كناية عن تعلقه بمفعول مخصوص إذ المعنى حينئذ أنه متى وجد فرد من أفراد الرؤية أو السماع حصلت رؤية محاسنه وسماع أخباره وهذا يدل على أن أخباره بلغت من الكثرة والاشتهار إلى حالة هي امتناع الخفاء. هذا وعبد القاهر لا يجعل في الفعل في مثل "يرى مبصر" كناية؛ لأن الشاعر على رأيه يكون قصده من أول الأمر: أن يرى مبصر محاسنه ولكنه يحذفها ادعاء لشهرتها وأن رؤية البصر لا تقع إلا عليها.

كناية عن رؤية محاسنه وآثاره، ومطلق السماع كناية عن سماع أخباره، وكقول عمرو بن معد يكرب1: فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرت2 لأن غرضه أن يثبت أنه كان من الرماح أجرار وحبس للألسن عن النطق بمدحهم والافتخار بهم حتى يلزم منه بطريق الكناية مطلوبه وهو أنها أجرته. وكقول طفيل الغنوي لبني جعفر بن كلاب.

_ 1 شارع مخضرم فارس اليمن قدم على النبي سنة 9هـ فأسلم وشهد القادسية في عهد عمر وشهد واقعة نهاوند وبها قتل. 2 من أبيات في الدلائل ص122: ولما رأيت الخيل زورا كأنها ... جداول زرع أرسلت فاسبطرت فجاشت إلى النفس أول مرة ... فردت على مكروهها فاستقرت ظللت كأني للرماح دريئة ... أقاتل عن أبناء جرم وفرت فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرت قال التبريزي: الإجرار هو شق لسان الفصيل لئلا يرضع أمه ويجعل فيه عويد. يقول: لو أنهم أبلوا في الحرب بلاء حسنًا لمدحتهم وذكرت بلاءهم ولكن قصروا فأجروا لساني فما أنطق بمدحهم. وقال الجاحظ "154/ 2 البيان": "الجرار عود يعرض في فم الفصيل أو يشق به لسانه لئلا يرضع أمه فيقول: قومي لم يطعنوا بالرماح فأثني عليهم ولكنهم فروا فأمسكت كالفصيل الذي في فمه جرار. وقد جعل عبد القاهر البيت مثالًا لنوع من أنواع حذف مفعول الفعل "الذي له مفعول مقصود قصده معلوم إلا أنه يحذف من اللفظ لدليل الحال عليه". والخطيب يخالف عبد القاهر في هذا البيت في أمرين: 1- أنه ذهب إلى أن الفعل هنا منزل منزلة اللازم. ويراه عبد القاهر متعديًا إلا أن مفعوله محذوف. 2- أنه يرى الفعل مطلقًا كناية اصطلاحية عن نفسه متعلقًا بمفعول مخصوص بخلاف عبد القاهر.

جزى لله عنا جعفرًا حين أزلفت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت أبوا أن يملونا ولو أن أمنا ... تلاقي الذي لاقوه منا لملت هم خلطونا بالنفوس وألجأوا ... إلى حجرات أدفأت وأظلت فإن الأصل لملتنا وأدفأتنا وأظلتنا إلا أنه حذف المفعول من هذه المواضع ليدل على مطلوبه بطريق الكناية1، فإن قلت لا شك أن قوله "ألجأوا" أصله "ألجأونا" فلأي معنى حذف المفعول منه؟ قلت

_ 1 قال عبد القاهر: ومن بارع ذلك -أي حذف المفعول لتتوفر العناية على إثبات الفعل للفاعل- ونادره ما تجده في هذه الأبيات، ثم قال: ففيها حذف مفعول مقصود قصده في أربعة مواضع، قوله: لملت وألجأوا وأدفأت وأظلت؛ لأن الأصل: "لملتنا وألجأونا إلى حجرات أدفأتنا وأظلتنا" إلا أن الحال على ما ذكرت لك من أنه في حد المتناهي، حتى كأن لا قصد إلى مفعول، وكأن الفعل قد أبهم أمره فلم يقصد به قصد شيء يقع عليه، كما يكون إذا قلت "قد مل فلان" تريد دخله الملال من غير أن تخص شيئًا، بل لا تزيد على أن تجعل الملال من صفته، وكما تقول: هذا بيت يدفئ ويظل، تريده أنه بهذه الصفة. واعلم أن لك في قوله "أجرت" و"لملت" فائدة أخرى زائدة على ما ذكرت من توفير العناية على إثبات الفعل وهي أن تقول: كان من سوء بلاء القوم ومن تكذيبهم عن القتال ما يجر مثله وما القضية فيه أنه لا يتفق على قوم إلا خرس شاعرهم فلم يستطع نطقًا، وتعديتك الفعل تمنع من هذا المعنى؛ لأنك إذا قلت "أجرتني" لم يمكن أن يتأول على معنى أنه كان منها ما شأن مثله أن يجر قضية مستمرة في كل شاعر قوم، بل يجوز أن يوجد مثله في قوم آخرين فلا يجر شاعرهم، وهكذا قوله "لملت"، يتضمن أن من حكم مثله في كل أم -العموم في الفاعل وهو ضمير الأم ليس مقصودًا إنما هو من مستتبعات التراكيب وقد ذكره عبد القاهر هنا عرضا لما فيه من مبالغة وسحر- أن تمل وتسأم وأن المشقة في ذلك إلى حد يعلم أن الأم تمل له الابن وتتبرم به مع ما في طباع الأمهات من الصبر على المكاره في مصالح الأولاد، وذلك أنه وإن قال "أمنا" فإن المعنى على أن ذلك حكم كل أم مع أولادها، ولو قلت "لملتنا" لم يحتمل؛ لأنه يجري مجرى أن نقول: لدخلها ما يملها منا، وإذا قلت "ما يملها" فقيدت لم يصلح، لأن يراد به معنى العموم وأنه بحيث يمل كل أم من كل ابن. وكذلك شأن "حجرات أدفأت وأظلت"، والمعنى: من شأن =

الظاهر أن حذفه لمجرد الاختصار؛ لأن حكمه حكم ما عطف عليه وهو قوله خلطونا1. الضرب الثاني: أن يكون الغرض إفادة تعلقه بمفعول2 فيجب

_ = مثلها أن تدفئ وتظل ولا يجيء هذا المعنى مع إظهار المفعول، إذ لا تقول حجرات من شأنها مثلها أن تدفئنا وتظلنا، هذا لغو من الكلام، فهذه النكتة تجدها مضمومة إلى المعنى الآخر الذي هو توفير العناية على إثبات الفعل والدلالة على أن القصد من ذكر الفعل أن تثبته لفاعله لا أن تعلم التباسه بمفعول "122-124 دلائل". ومن توفير العناية على إثبات الفعل عند عبد القاهر: لما ورد ماء مدين الآية "124 دلائل". ومنه أيضًا قول البحتري: إذا بعدت أبلت وإن قربت شفت ... فهجرانها يبلي ولقيانها يشفي المراد "أبلتني" و"شفتني" إلا أنك تجد الشعر يأبى ذكر ذلك ويوجب إطراحه، وذلك؛ لأنه أراد أن يجعل البلى كأنه واجب في بعادها أن يوجبه ويجلبه وكأنه كالطبيعة فيه، وكذلك حال الشفاء مع القرب "125 دلائل". والظاهر أن هذه المثل كلها عند السكاكي من حذف المفعول لقصد مجرد الاختصار وقد صرح بأن الآية: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَن} من هذا النوع "99 مفتاح". 1 وإن كان عبد القاهر يجعله مثل ما عطف عليه في "توفير العناية على إثبات الفعل". 2 هذا الضرب مقابل للضرب الأول السابق وهو ما كان "الغرض فيه إثبات المعنى في نفسه للفاعل على الإطلاق أو نفيه عنه كذلك". وفي مختصر المطول: "إن لم يكن الغرض عند عدم ذكر المفعول مع الفعل المتعدي المسند إلى فاعله إثباته لفاعله أو نفيه عنه مطلقًا بل قصد تعلقه بمفعول غير مذكور وجب التقدير بحسب القرائن. وفي الدسوقي أن الإطلاق هنا في عبارة المختصر المراد به من غير قصد إلى تعلقه بمفعول، وليس المراد به "أي بالإطلاق هنا" هو المراد بالإطلاق السابق. وهذه ملاحظة لها أهميتها.

حذف المفعول

تقديره بحسب القرائن 1: حذف المفعول: ثم حذفه من اللفظ: 1- إما للبيان بعد الإبهام كما في فعل المشيئة2 إذا لم يكن في تعلقه بمفعوله غرابة. كقولك: لو شئت جئت أو لم أجئ، أي لو شئت المجيء أو عدم المجيء، فإنك متى قلت "لو شئت" علم السامع أنك علقت المشيئة بشيء، فيقع في نفسه أن هنا شيئًا تعلقت به مشيئتك بأن يكون أو لا يكون، فإذا قلت: "جئت أو لم أجئ" عرف ذلك الشيء. ومنه قوله تعالى: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِين} وقوله تعالى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِك} ، وقوله تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْه} وقول طرفة: فإن شئت لم ترقل وإن شئت أرقلت ... مخافة ملوى من القد محصد3

_ 1 أي الدالة على التعيين المفعول إن عاما فعام وإن خاصا فخاص: ولما وجب تقدير المفعول تعين أنه مراد في المعنى ومحذوف من اللفظ لغرض فأشار إلى تفصيل الغرض. 2 أي والإرادة ونحوها، إذا وقع شرطًا فإن الجواب يدل على ذلك المفعول ويبينه. وأكثر ما يقع ذلك بعد لو؛ لأن مفعول المشيئة مذكور في جوابها وكذلك غيرها من أدوات الشرط، وقد يكون مع غيرها استدلالا بغير الجواب. 2 أي لو شاء الله تعالى هدايتكم لهداكم أجمعين. 3 الإرقال: الإسراع. ملوي: مفتول، وكذلك محصد أي سوط مفتول. القد: الجلد المشقوق، والبيت في الدلائل ص127 وفي المفتاح ص100.

وقال البحتري: لو شئت عدت بلاد نجد عودة ... فحللت بين عقيقة وزروده1 وقوله: لو شئت لم تفسد سماحة حاتم ... كرمًا ولم تهدم مآثر خالد2 فإن كان في تعليق الفعل به غرابة ذكرت المفعول لتقرره في نفس السامع وتؤنسه به، يقول الرجل يخبر عن عزه لو شئت أن أرد على الأمير رددت وإن شئت أن ألقى الخليفة كل يوم لقيته، وعليه قول الشاعر3: ولو شئت أن أبكي دمًا لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع فأما قول أبي الحسين علي بن أحمد الجوهري أحد شعراء الصاحب بن عباد: فلم يبق مني الشوق غير تفكري ... فلو شئت أن أبكي بكيت تفكرًا4 فليس منه5؛ لأنه لم يرد أن يقول فلو شئت أن أبكي تفكرًا

_ 1 العقيق والزرود من نجد: موضعان بها. والبيت في ص110 مفتاح و128 من الدلائل. 2 هو للبحترى أيضًا. حاتم المراد به حاتم الطائي. خالد هو خالد بن أصبع النبهاني الذي نزل عليه امرؤ القيس. والبيت في126 من الدلائل. 3 هو الخزيمي يرثي ابنه ونسبه الدسوقي لأبي الهندم الخزيمي يرثي ابنه الهندام، والبيت في126 من الدلائل. هذا والشاهد في بيت الإيضاح ذكر المفعول "أن أبكي دمًا" فإن تعلق فعل المشيئة بكاء الدم غريب فذكره ليتقرر في نفس السامع ويأنس به. 4 البيت في الدلائل ص128. 5 هذا رد على المطرزي صاحب ضرام السقط، وقوله فليس منه أي ليس مما ترك فيه حذف مفعول المشيئة بناء على غرابة تعلقها به على ما ذهب إليه المطرزي من أن المراد لو شئت أن أبكي تفكرًا بكيت تفكرًا؛ لأن تعلق المشيئة ببكاء التفكر غريب كتعلقها ببكاء الدم.

بكيت تفكرًا، ولكنه أراد أن يقول أفناني النحول فلم يبق مني وفي غير خواطر تجول، وحتى لو شئت البكاء فمريت جفوني وعصرت عيني ليسيل منها دمع لم أجده، ولخرج منها بدل الدمع التفكر، فالمراد بالبكاء في الأول الحقيقي وفي الثاني غير الحقيقي1، فالثاني لا يصلح؛ لأن يكون تفسيرًا للأول. 2- وإما لدفع أن يتوهم السامع في أول الأمر إرادة شيء غير المراد كقول البحتري: وكم ذدت2 عني من تحامل حادث ... وسورة أيام حززن إلى العظم إذ لو قال حززن اللحم لجاز أن يتوهم السامع قبل ذكر ما بعده أن الحز كان في بعض اللحم ولم ينته إلى العظم، فترك ذكر اللحم

_ 1 فالمذكور في جواب لو خلاف الشرط فالبكاء الأول حقيقي والثاني مجازي فالبكاء الذي أراد إيقاع المشيئة عليه بكاء مطلق مبهم غير معدي إلى التفكير البتة والبكاء الثاني مقيد معدى إلى التفكير فلا يصلح أن يكون تفسيرًا للأول وبيانًا له كما إذا قلت لو شئت أن تعطي درهمًا أعطيت درهمين، كذا في دلائل الإعجاز. ومما نشا في هذا المقام من سوء الفهم وقلة التدبر ما قيل أن الكلام في مفعول أبكي والمراد أن البيت ليس من قبيل ما حذف فيه المفعول للبيان بعد الإبهام، بل إنما حذف لغرض آخر كالاختصار وقيل يحتمل أن يكون المعنى لو شئت أن أبكي تفكرًا بكيت تفكرًا أي لم يبق في مادة الدمع فصرت بحيث أقدر على بكاء التفكر فيكون من قبيل ما ذكر فيه مفعول المشيئة لغرابته. وفيه نظر؛ لأن ترتب هذا الكلام على قوله لم يبق مني الشوق غير تفكري يأبى هذا المعنى عند التأمل الصادق؛ لأن القدرة على بكاء التفكر لا تتوقف على أن لا يبقى فيه غير التفكر. 2 ذاد: دفع، سورة الأيام: شدتها وصولتها. كم خبرية مفعول "ذدت". ومميزها قوله "من تحامل". وتحامل فلان على فلان إذالم يعدل. حززن: قطعن. والشاهد قوله: "حززن إلى العظم" أي: حززن اللحم إلى العظم فحذف المفعول وهو اللحم لدفع السامع في أول الأمر لإرادة شيء غير المراد.

ليبرئ السامع من هذا الوهم، ويصور في نفسه من أول الأمر أن الحز مضى في اللحم حتى لم يرده إلا العظم. 3- وأما؛ لأنه أريد ذكره ثانيا على وجه يتضمن إيقاع الفعل1 على صريح لفظه2، إظهارًا لكمال العناية بوقوعه3 عليه كقول البحتري أيضًا في مدح المعتز بالله: قد طلبنا فلم نجد لك في السؤ ... دد والمجد والمكارم مثلا4 أي قد طلبنا لك مثلًا في السؤدد والمجد والمكارم، فحذف المثل إذ كان غرضه أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ المثل. ولأجل هذا المعنى بعينه عكس ذو الرمة في قوله: ولم أمدح لأرضيه بشعري ... لئيمًا أن يكون أصاب مالًا5 فإنه أعمل الفعل الأول الذي هو أمدح في صريح لفظ "اللئيم"، والثاني الذي هو أرضى في ضميره، إذا كان غرضه إيقاع نفي المدح على اللئيم صريحًا دون الإرضاء ويجوز أن يكون سبب الحذف في بيت البحتري قصد المبالغة في التأدب مع الممدوح، بترك مواجهته بالتصريح.

_ 1 أي يتضمن إعمال فعل آخر في صريح لفظ ذلك المفعول. 2 أي لفظ المفعول لا على الضمير العائد عليه. 3 أي بوقوع الفعل على المفعول. 4 البيت في الدلائل ص129. أي قد طلبنا لك مثلًا، فحذف "مثلا" إذ لو ذكره لكان المناسب "فلم نجده" نظرًا إلى الكثير وهو عدم الإظهار في موضع الإضمار -فيفوت الغرض أعني إيقاع عدم الوجدان على صريح لفظ المثل. 5 البيت في الدلائل ص130، وهو من قصيدة طويلة لذي الرمة، والشاهد فيه أعمال الفعل الأول في صريح لفظ المفعول وأعمال الثاني في ضميره الذي هو كناية عنه.

بما يدل على تجويز أن يكون له مثل فإن العقل لا يطلب إلا ما يجوز وجوده. 4- وإما للقصد إلى التعميم في المفعول، والامتناع عن أن يقصره السامع على ما يذكر معه دون غيره، مع الاختصار. كما تقول: "قد كان منك ما يؤلم" أي ما الشرط في مثله أن يؤلم كل أحد وكل إنسان1. وعليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلام} أي: يدعو كل أحد. 5- وإما للرعاية على الفاصلة كقوله سبحانه وتعالى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَاسَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحي: 1-3] أي وما قلاك. 6- وإما لاستهجان ذكره كما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "ما رأيت منه ولا رأى مني" تعني العورة. 7- وإما لمجرد الاختصار2، كقولك: "أصغيت إليه" أي

_ 1 وقرينة العموم في المفعول المحذوف هي أن المقام مقام المبالغة. وهذا التعميم وإن أمكن أن يستفاد من ذكر المفعول بصفة العموم لكنه يفوت الاختصار حينئذ. فالعموم في هذا المثال مبالغة أما العموم في الآية: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلام} فحقيقة. 2 أي من غير أن يعتبر معه فائدة أخرى من التعميم وغيره، وبعضهم يزيد "عند قيام قرينة" وهو تذكرة لماسبق ولا حاجة إليه "وما يقال من أن المراد عند قيام قرينة دالة على أن الحذف لمجرد الاختصار ليس بسديد؛ لأن هذا المعنى معلوم ومع هذا جار في سائر الأقسام ولا وجه لتخصيصه وبمجرد الاختصار. وفي قول المصنف: وأما للتعميم مع الاختصار بحث، وهو أن الحذف للتعميم مع الاختصار إن لم يكن فيه قرينة دالة على أن المقدر عام فلا تعميم أصلًا وإن كانت فالتعميم مستفاد من عموم المقدر سواء حذف أو لم يحذف فالحذف لا يكون إلا لمجرد الاختصار، هكذا قالوا وفي رأيي أن الحذف لمجرد الاختصار أمر لا يمس البلاغة إلا من طرف ضئيل.

أي أذني، "وأغضيت عليه" أي بصري، ومنه قوله تعالى: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْك} أي ذاتك، وقوله تعالى: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} ، أي بعثه الله، وقوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون} أي أنه لا يماثل، أو ما بينه وبينها من التفاوت، أو أنها لا تفعل كفعله كقوله تعالى: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} ويحتمل أن يكون المقصود نفس الفعل من غير تعميم أي وأنتم من أهل العلم والمعرفة ثم ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أندادًا غاية الجهل. ومما عد السكاكي الحذف فيه لمجرد الاختصار قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ مَاخَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقَى لَهُمَا} [القصص: 23] ، والأولى أن يجعل

_ 1 الآية الكريمة جعل عبد القاهر حذف المفعول فيه للتوفر على إثبات الفعل للفاعل أو كما قال السعد: للقصد إلى نفس الفعل بتنزيله منزلة اللازم، أو كما قال الخطيب: لإثبات المعنى في نفسه للشيء على الإطلاق. قال الخطيب: وهو ظاهر كلام الزمخشري: "فإنه قال: "ترك المفعول؛ لأن الغرض هو الفعل لا المفعول ألا ترى أنه رحمهما؛ لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي ولم يرحمهما؛ لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل مثلًا"، وكذا قولهما "لا نسقي" المقصود منه السقي لا المسقي، وكلام الزمخشري على نهج كلام عبد القاهر. قال عبد القاهر: حذف المفعول في أربعة مواضع في الآية، إذ المعنى يسقون أغنامهم أو مواشيهم، وامرأتين تذودان غنمهما، ولا نسقي غنمنا، فسقى لهما غنمهما، ثم إنه لا يخفى على ذي بصر أنه ليس في ذلك كله إلا أن يترك ذكره ويؤتي بالفعل مطلقًا، وما ذاك إلا أن الغرض في أن يعلم أنه كان من الناس في تلك الحال سقي ومن المرأتين ذود، وأنهما قالتا: لا يكون منا سقي حتى يصدر الرعاء، وأنه كان من موسى من بعد ذلك سقي. فأما ما كان المسقي؟ أغنمًا أو إبلًا أم غير ذلك، فخارج عن الغرض وموهم خلافه، وذلك أنه لو قيل: وجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما جاز أن يكون لم ينكر الذود من حيث هو ذود بل من حيث هو ذود غنم حتى لو كان مكان الغنم إبل لم ينكر الذود، ففي حذف المفعول وترك ذكره فائدة جليلة، والغرض لا يصلح إلا على. =

لإثبات المعنى في نفسه للشيء على الإطلاق كما مر، وهو ظاهر قول الزمخشري، فإنه قال: ترك المفعول؛ لأن الغرض هو الفعل لا المفعول، ألا ترى أنه رحمهما؛ لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي، ولم يرحمهما؛ لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل مثلًا، وكذلك قولهما لا نسقي حتى يصدر الرعاء المقصود منه السقي لا المسقي1. واعلم: أنه قد يشتبه الحال في أمر الحذف وعدمه لعدم تحصيل معنى الفعل كما في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 109] ، فإنه يظن أن الدعاء فيه بمعنى النداء فلا يقدر في الكلام محذوف، وليس بمعناه؛ لأنه لو كان بمعناه لزم إما الإشراف أو عطف على نفسه؛ لأنه إن كان مسمى أحدهما.

_ = تركه "124 دلائل" وقد جعل السكاكي الحذف في الآية للاختصار لانصباب الكلام إلى أن المراد يسقون مواشيهم وتذودان غنمهما، ولا نسقي غنمنا حتى يصدر الرعاء مواشيهم. ويتلاقى رأي الخطيب مع رأي الشيخين عبد القاهر والزمخشري، وإن خالف رأي السكاكي. ولكن السعد قال في مطوله: ورأي السكاكي أقرب إلى التحقيق؛ لأن الترحم لم يكن من جهة صدور الذود عنهما وصدور السقي من الناس بل من جهة ذودهما غنمهما وسقى الناس مواشيهم حتى لو كانتا تذودان غير غنمهما وكان الناس يسقون غير مواشيهم لم يصح الترحم فليتأمل ففيه دقة اعتبرها السكاكي بعد التأمل في كلام الشيخين وغفل عنها الجمهور فاستحسنوا كلامهما. قال السيد: تحقيق الكلام أن الشيخين اعتبرا أن المفعول هو الإبل أو الغنم وأحدهما يقابل الآخر وجعلا ما يضاف إلى أحدهما خارجًا عن المفعول غير ملحوظ معه بل هو باق على حالة واحدة مع تعذر تقدير المفعول؛ لأن تقديره يؤدي إلى فساد المعنى فإنهما لو كانتا تذودان إبلالهما -فرضا- لكان الترحم باقيًا على حاله. فصاحب المفتاح نظر إلى أن المفعول هو الغنم المضاف إليهما والمواشي المضاف إليهم وكل واحد منهما يقابل الآخر فلو لم يقدر المفعول في الآية لفسد المعنى وهذا أدق نظرًا وأوضح معنى. 1 يرجع السعد في المطول رأي السكاكي على رأي الزمخشري.

غير مسمى الآخر لزم الأول، وإن كان مسماهما واحدًا لزم الثاني وكلاهما باطل، تعالى كلام الله عز وجل عن ذلك، فالدعاء في الآية بمعنى التسمية التي تتعدى إلى مفعولين، أي سموه الله أو الرحمن أيا ما تسمونه فله الأسماء الحسنى، كما يقال: "فلان يدعى الأمير" أي يسمى الأمير. وكما في قراءة من قرأ وقالت اليهود عزير بن "الله" بغير تنوين، على القول بأن سقوط التنوين لكون الابن صفة واقعة بين علمين، كما في قولنا "زيد بن عمرو قائم"، فإنه قد يظن أن فعل القول فيه لحكاية الجملة كما هو أصله، فقيل تقدير الكلام: "عزير ابن الله معبودنا"، وهذا باطل؛ لأن التصديق والتكذيب إنما ينصرفان إلى الإسناد لا إلى وصف ما يقع في الكلام موصوفًا بصفة كما إذا حكيت عن إنسان أنه قال: "زيد بن عمر وسيد" ثم كذبته فيه، لم يكن تكذيبك أن يكون زيد بن عمرو، ولكن أن يكون زيد سيدًا، فلو كان التقدير1 ما ذكر لكان الإنكار راجعًا إلى أنه معبودهم، وفيه تقرير أن عزيرًا بن الله، تعالى الله عن ذلك. فالقول في الآية بمعنى الذكر؛ لأن الغرض الدلالة على أن اليهود قد بلغوا في الرسوخ في الجهل والشرك إلى أنهم كانوا يذكرون عزيرًا هذا الذكر، كما تقول في قوم تريد أن تصفهم بالغلو في أمر صاحبهم وتعظيمه، أني أراهم قد اعتقدوا أمرًاعظيمًا فهم يقولون أبدًا زيد الأمير، تريد أنه كذلك يكون ذكرهم له إذا ذكروه. واعلم أن لحذف التنوين من عزير في الآية وجهين: أحدهما أن يكون لمنعه من الصرف لعجمته وتعريفه كعازر، والثاني أن يكون لالتقاء السكاكنين2، كقراءة من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1-2] ، بحذف التنوين من أحد، وكما حكي عن عمارة بن عقيل أنه قرأ

_ 1 أي في الآية الكريمة: {وَقَالَتِ الْيَهُود} . 2 راجع حذف التنوين لالتقاء الساكنين في الكامل للمبرد ص120 جـ1 وص287 من الدلائل.

{وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَار} بحذف التنوين من سابق ونصب النهار، فقيل له وما تريد؟ فقال: {سَابِقُ النَّهَار} ، فالمعنى على هذين الوجهين1 كالمعنى على إثبات التنوين، فعزير مبتدأ وابن الله خبر، وقال: على أصله والله أعلم.

_ 1 أي المذكورين آنفًا في حذف التنوين من عزير.

تقديم المفعول على الفعل

تقديم المفعول على الفعل: وأما تقديم مفعوله ونحوه 1 عليه: فلرد الخطأ في التعيين2، كقولك "زيدًا عرفت" لمن اعتقد أنك عرفت إنسانًا وأنه غير زيد وأصاب في الأول دون الثاني، وتقول لتأكيده3 وتقريره زيدًا عرفت لا غيره، ولذلك4 لا يصح أن يقال:

_ 1 أي نحو المفعول من الجار والمجرور والظرف والحال وما أشبه ذلك. 2 أي يكون القصر قصر تعيين أو قلب، وكذلك يأتي لقصر الأفراد، فالأولى أن يقال لإفادة الاختصاص قلبًا كان أو أفرادًا أو تعيينًا. 3 أي لتأكيد هذا الرد. وفي قصر الأفراد لقول: "زيد عرفت" لمن اعتقد أنك عرفت زيدًا وعمرًا وتقول لتأكيده زيدًا عرفت وحده. ورد الخطأ في قصري القلب والأفراد كما يكون في الخبر يكون في الإنشاء باعتبار ما تضمنه من الخبر فإن كل إنشاء يتضمن خبرًا تقول. زيدًا أكرم، وعمرًا لا تكرم، أمرًا ونهيًا. هذا وكل خبر يتضمن إنشاء قولك: "أكرم زيدًا" يتضمن خبرًا هو "زيد مأمور بإكرامه"، والقصر كما يكون في الخبر يكون في الإنشاء لا باعتبار ذاته ولكن باعتبار ما تضمنه من الخبر. والحق أن التخصيص النسبة إلى شيء دون غيره فإن كانت النسبة إنشائية فما وقع به التخصيص إنشاء وإن كانت خبرية فما وقع به خبر. 4 أي؛ ولأن التقديم لرد الخطأ في تعيين المفعول مع الإصابة في اعتقاد وقوع الفعل على مفعول ما.

مازيدًا ضربت ولا أحدًا من الناس، لتناقض دلالتي الأول1 والثاني، ولا أن تعقب الفعل المنفي بإثبات ضده كقولك: "ما زيدًا ضربت ولكن أكرمته"؛ لأن مبنى الكلام ليس على أن الخطأ في الضرب فترده إلى الصواب في الأكرام، وإنما هو على أن الخطأ في المضروب حين اعتقد أنه زيد فرده إلى الصواب أن تقول ولكن عمرًا، وأما نحو قولك زيدًا عرفته: فإن قدر المفسر المحذوف قبل المنصوب أي عرفت زيدًا عرفته فهو من باب التوكيد أعني تكرير اللفظ2 وإن قدر بعده زيدًا عرفت عرفته أفاد التخصيص3. وأما4 نحو قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُم} فيمن قرأ بالنصب فلا يفيد إلا التخصيص لامتناع تقدير أما فهدينا ثمود5 وكذلك إذا قلت بزيد مررت أفاد أن سامعك كان يعتقد مرورك بغير زيد فأزلت عنه الخطأ مخصصًا مرورك بزيد دون غيره6.

_ 1 لأن التقديم يدل على وقوع الضرب على غير زيد تحقيقًا لمعنى الاختصاص وقولك "ولا أحدًا من الناس" ينفي ذلك، فيكون المفهوم التقديم مناقضًا لمنطوق "ولا أحدًا"، نعم لو كان التقديم لغرض آخر غير الاختصاص جاز "ما زيدًا ضربت ولا أحدًا من الناس". 2 أي إذا قدر الفعل المحذوف المفسر بالفعل المذكور قبل المنصوب أي عرفت زيدًا عرفته. 3 لأن المحذوف المقدر كالمذكور فالتقديم عليه كالتقديم على المذكور في إفادة الاختصاص كما في بسم الله فنحو زيدًا عرفته محتمل للمعنيين: التأكيد والتخصيص فالرجوع في التعيين إلى القرائن، وعند قيام القرينة على أنه للتخصيص يكون أوكد من قولنا زيدًا عرفت" لما فيه من تكرار الإسناد المفيد لتأكيد الجملة. 4 هذا نص كلام السكاكي في المفتاح ص97. 5 أي لامتناع تقدير الفعل مقدمًا نحو: أما فهدينا ثمود، لالتزامهم وجود فاصل بين أما والفاء بل التقدير أما ثمود فهدينا هديناهم بتقديم المفعول. وفي كون هذا التقديم الحاصل مع أما للتخصيص نظر؛ لأنه يكون مع الجهل بثبوت أصل الفعل كما إذا جاءك زيد وعمرو ثم سألك سائل: ما فعلت بهما؟ فتقول: أما زيدًا فضربته وأما عمرًا فأكرمته. 6 فالمثال هو مثل "زيدًا عرفت" في إفادة الاختصاص.

والتخصيص1 في غالب الأمر لازم للتقديم2 ولذلك يقال في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} معناه نخصك بالعبادة لا نعبد غيرك ونخصك بالاستعانة لا نستعين غيرك، وفي قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون} معناه أن كنتم تخصونه بالعبادة وفي قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ، أخرت صلة الشهادة2 في الأول وقدمت في الثاني 4؛ لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم وفي الثاني اختصاصهم بكون الرسول شهيدًا عليهم. وفي قوله تعالى: {لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُون} معناه إليه لا إلى غيره، وفي قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} معناه لجميع الناس من العرب والعجم على أن التعريف للاستغراق، لا لبعضهم المعين على أنه5 للعهد أي للعرب، لا لمسمى الناس على أنه للجنس، لئلا يلزم من الأول اختصاصه بالعرب دون العجم لانحصر الناس في الصنفين، ومن الثاني اختصاصه بالإنس دون الجن لانحصار من يتصور الإرسال إليهم من أهل الأرض فيهما، وعلى تقدير الاستغراق لا يلزم شيء من ذلك؛ لأن التقديم لما كان مفيدًا لثبوت الحكم للمتقدم ونفيه عما يقابلها كان تقديم "للناس" على "رسولا" مفيدًا لنفي.

_ 1 هو نص كلام السكاكي ص101 المفتاح. 2 أي تقديم ما حقه التأخير أي لا ينفك عن تقديم المفعول ونحوه في أكثر الصور بشهادة الاستقراء وحكم الذوق: وإنما قال: "غالبًا"؛ لأن اللزوم الكلي غير متحقق إذا التقديم قد يكون لأغراض أخر كمجرد الاهتمام وللتبرك والاستلذاذ وموافقة كلام السامع وضرورة الشعر والفاصلة ورعاية السجع إلى غير ذلك مما لا يحسن فيه اعتبار التخصيص عند من له معرفة بأساليب الكلام. 3 وهي "على الناس". 4 حيث قال تعالى: {عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} . 5 أي التعريف.

كونه رسولًا لبعضهم1 خاصة؛ لأنه هو المقابل لجميع الناس، لا لبعضهم2 مطلقًا، ولا غير جنس الناس. وكذلك يذهب3 في معنى قوله تعالى: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُون} إلى أنه تعريض بأن الآخرة التي عليها أهل الكتاب - فيما يقولون من "أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى وأنه لا تمسهم النار فيها إلا أيامًا معدودات وأن أهل الجنة فيما لا يتلذذون في الجنة إلا بالنسيم والأرواح العبقة والسماع اللذيذ"- ليست بالآخرة، وإيقانهم بمثلها ليس من الإيقان بالتي هي الآخرة عند الله في شيء، أي بالآخرة يوقنون لا بغيرها كأهل الكتاب. ويفأد التقديم في جميع ذلك4 وراء التخصيص5 اهتمامًا بشأن المقدم6، ولهذا قدر المحذوف في قوله "باسم الله" مؤخرًا7 وأورد قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، فإن الفعل فيه مقدم8، وأجيب بأن تقديم الفعل هناك أهم؛ لأنها أول سورة.

_ 1 أي وهم قومه. 2 لأنه لا يتصور إرساله لبعض منهم حتى ينفي عنهم. 3 وهو نص كلام السكاكي في المفتاح ص101- وكل هذا وكثير غيره مما نحيل فيه على المفتاح لم يذكر الخطيب أنه منقول عن السكاكي. 4 أي في جميع صور التخصيص. 5 أي بعده. 6 لأنهم يقدمون الذي شأنه أهم وهم ببيانه أعني. 7 بسم الله أفعل كذا ليفيد مع الاختصاص الاهتمام؛ لأن المشركين كانوا يبدءون بأسماء العزى، فقصد الموحد تخصيص اسم الله بالابتداء للاهتمام والرد عليهم. 8 يعني لو كان التقديم يفيد الاختصاص والاهتمام لوجب أن يؤخر الفعل ويقدم: {بِاسْمِ رَبِّكَ} ؛ لأن كلام الله تعالى أحق برعاية ما تجب رعايته.

نزلت1، وأجاب السكاكي بأن باسم ربك متعلق باقرأ الثاني2، ومعنى الأول3 افعل القراءة وأوجدها على نحو ما تقدم في قولهم فلان يعطي ويمنع يعني إذالم يحمل على العموم وهو بعيد.

_ 1 وهذا جواب الزمخشري، فكان الأمر بالقراءة أهم باعتبار هذا العارض وإن كان ذكر الله أهم في نفسه. 2 أي هو مفعول اقرأ الذي بعده. 3 أي لفظ اقرأ الأول.

تقديم بعض معمولات الفعل على بعض

تقديم بعض معمولات الفعل على بعض 1: وأما تقديم بعض معمولاته على بعض: فهو إما؛ لأن أصله2، التقديم3 ولا مقتضى للعدول عنه4 كتقديم الفاعل على المفعول نحو ضرب زيد عمرًا، وتقديم المفعول الأول على الثاني نحو أعطيت زيدًا درهمًا5 وإما؛ لأن ذكره أهم والعناية به أتم6، فيقدم المفعول

_ 1 المراد بالمعمولات ما يرتبط بالفعل في الجملة الشامل للمسند إليه ولو كان الباب للمعمولات التي هي غير المسند إليه. وراجع هذا البحث في المفتاح ص102. 2 أي أصل ذلك البعض المقدم. 3 أي على البعض الآخر المؤخر. 4 أي عن الأصل. 5 فتقديم الفاعل على المفعول؛ لأنه عمدة في الكلام وحقه أن يلي الفعل: وتقديم المفعول الأول على الثاني في نحو أعطيت زيدًا درهمًا؛ لأن المفعول الأول فيه أصله التقديم لما فيه من معنى الفاعلية وهو أنه عاط أي آخذ للعطاء. 6 جعل الأهمية ههنا قسيمة لكون الأصل التقديم، وجعلها في المسند إليه شاملة له ولغيره. وذكر عبد القاهر أنه ينبغي أن يفسر وجه العناية بشيء يعرف له معنى وقد ظن كثير من الناس أنه يكفي أن يقال قدم للعناية ولكونه أهم من غير أن يذكر من أين كانت تلك العناية وبم كانت أهم"، فمراد المصنف بالأهمية ههنا الأهمية العارضة لاعتناء المتكلم أو السامع بشأنه والاهتمام بحاله لغرض من الأغراض.

على الفاعل إذا كان الغرض معرفة وقوع الفعل على من وقع عليه لا وقوعه ممن وقع منه، كما إذا خرج رجل على السلطان وعاث في البلاد وكثر منه الأذى فقتل وأردت أن تخبر بقتله فتقول "قتل الخارجي فلان"، إذ ليس للناس فائدة في أن يعرفوا قاتله وإنما الذي يريدون علمه هو وقوع القتل به ليخلصوا من شره، ويقدم الفاعل على المفعول إذا كان الغرض معرفة وقوع الفعل ممن وقع منه لا وقوعه على من وقع عليه كما إذا كان رجل ليس له بأس ولا يقدر فيه أن يقتل فقتل رجلًا وأردت أن تخبر بذلك فتقول: "قتل فلان رجلًا" بتقديم القاتل؛ لأن الذي يعني الناس من شأن هذا القتل ندوره وبعده من الظن ومعلوم أنه لم يكن نادرًا ولا بعيدًا من حيث كان واقعًا على من وقع عليه بل من حيث كان واقعًا ممن وقع منه. وعليه قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُم} ، قدم المخاطبين في الأولى دون الثانية؛ لأن الخطاب في الأولى للفقراء بدليل قوله تعالى من إملاق فكان رزقهم أهم عندهم من رزق أولادهم، فقدم الوعد برزقهم على الوعد برزق أولادهم، والخطاب في الثانية للأغنياء بدليل قوله خشية إملاق فإن الخشية إنما تكون مما لم يقع. فكان رزق أولادهم هو هو المطلوب دون رزقهم؛ لأنه حاصل، فكان أهم، فقدم الوعد برزق أولادهم على الوعد برزقهم. وإما؛ لأن في التأخير إخلالًا: ببيان المعنى كقوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَه} ، فإنه لو أخر {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} عن {يَكْتُمُ إِيمَانَه} لتوهم أن "من" متعلقة بـ {يَكْتُمُ} ، فلم يفهم أن الرجل من آل فرعون1.

_ 1 الحاصل أنه ذكر للرجل ثلاثة أوصاف، وقدم الأول منها أعني "مؤمن" لكونه أشرف، ثم الثاني لئلا يتوهم خلاف المقصود.

أو بالتناسب كرعاية الفاصلة نحو: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} 1. وإما لاعتبار آخر مناسب2. وقسم السكاكي التقديم للعناية مطلقًا3 قسمين: أحدهما أن يكون أصل ما قدم في الكلام هو التقديم ولا مقتضى للعدول عنه، كالمبتدأ المعرف فإن أصله التقديم على الخبر نحو زيد عارف، وكذا الحال المعرف فإن أصله التقديم على الحال نحو جاء زيد راكبًا وكالعامل فإن أصله التقديم على معموله نحو عرف زيد عمرًا وكان زيد عارفًا وإن زيدًا عارف، وكالفاعل فإن أصله التقديم على المفعولات وما يشبهها من الحال والتمييز نحو ضرب زيد الجاني بالسوط يوم الجمعة أمام بكر ضربًا شديدًا تأديبًا له ممتلئا من الغضب، وامتلأ الإناء ماء، وكالذي يكون في حكم المبتدأ من مفعولي باب "علمت" نحو علمت زيدًا منطلقًا، أو في حكم الفاعل من مفعولي باب أعطيت وكسوت نحو أعطيت زيدًا درهمًا وكسوت عمرًا جبة، وكالمفعول المتعدي إليه بغير واسطة فإن أصله التقديم على المتعدي إليه بواسطة نحو ضربت الجاني بالسوط وكالتوابع فإن أصلها أن تذكر بعد المتبوعات. وثانيهما أن تكون العناية بتقديمه والاعتناء بشأنه: 1- لكونه في نفسه نصب عينك، والتفات خاطرك إليه في التزايد

_ 1 بتقديم الجار والمجرور والمفعول على الفاعل؛ لأن فواصل الآي على الألف. 2 ومن ذلك إفادة الاختصاص كما ذهب إليه ابن الأثير في نحو جاء راكبًا وخالفه فيه الجمهور. 3 أي سواء كان من معمولات الفعل أو غيرها.

كما تجدك قد منيت بهجر حبيبك، وقيل لك ما تتمنى؟ تقول: "وجه الحبيب1 أتمنى". وعليه قوله2 تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاء} أي على القول بأن لله شركاء مفعولًا جعلوا. 2- أو لعارض يورثه ذلك3 كما إذا توهمت أن مخاطبك ملتفت الخاطر إليه4 ينتظر أن تذكره، فيبرز في معرض أمر يتجدد في شأنه التقاضي ساعة فساعة، فمتى تجد له مجالًا للذكر صالحًا أوردته نحو قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} ، قدم فيه المجرور5 لاشتمال ما قبله على سوء معاملة أهل القرية الرسل. من إصرارهم على تكذيبم فكان مظنة أن يلعن السامع على مجرى العادة تلك القرية ويبقى مجيلًا في فكره أكانت كلها كذلك أم كان فيها قطر دان أم قاص منبت خير، منتظرًا لإلمام الحديث6 به بخلاف ما في سورة القصص أو كما إذا وعدت ما تبعد7 وقوعه من جهتين إحداهما أدخل في تبعيده من الأخرى فإنك حال التفات خاطرك إلى وقوعه باعتبارهما تجد تفاوتًا في إنكارك إياه قوة وضعفًا بالنسبة، ولامتناع إنكاره بدون القصد إليه يستتبع تفاوته ذلك تفاوتًا في القصد إليه والاعتناء بذكره، فالبلاغة توجب أنك إذا أنكرت تقول في الأول "شيء" حالة في البعد عن الوقوع هذه أنى يكون؟ لقد وعدت هذا.

_ 1 بتقديم المفعول على الفعل. 2 والشاهد تقديم اسم الجلالة هنا وتقديم وجه الحبيب في المثال السابق؛ لأن ذكرهما أهم لكونهما في نفسهما نصب عينك -راجع 221 الدلائل، 103 المفتاح. 3 اسم الإشارة يرجع إلى كونه نصب عينك. 4 أي إلى المعمول الذي يجب تقديمه. 5 أي على الفاعل وهو "رجل". 6 فهذا العارض جعل المجرور نصب العين بخلاف ما في سورة القصص {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} فإنه ليس فيه ذلك العارض. 7 في المفتاح "تستبعد".

أنا وأبي وجدي فتقدم المنكر1 على المرفوع، وفي الثاني "لقد وعدت أنا وأبي وجدي هذا" فتؤخر: وعليه قوله تعالى في سورة النمل: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا} ، وقوله تعالى في سورة المؤمنين: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا} ، فإن ما قبل الأولى: {إذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون} ، وما قبل الثانية: {أإذا متنا وكنا ترابا وعظامًا أئنا لمبعوثون} فالجهة المنظور فيها هناك كونهم أنفسهم وآباؤهم ترابًا، والجهة المنظور فيها هنا كونهم ترابًا وعظامًا، ولا شبهة أن الأولى أدخل عندهم في تبعيد البعث. 3- أو كما إذا عرفت في التأخير مانعًا2 كما في قوله تعالى في سورة المؤمنين: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُم} بتقديم المجرور3 على الوصف4؛ لأنه لو أخر عنه وأنت تعلم أن تمام الوصف بتمام ما يدخل في صلة الموصول وتمامه: {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} لاحتمل أن يكون 5 من صلة الدنيا6 واشتبه الأمر في القائلين أنهم من قومه أم لا بخلاف قوله تعالى في موضع آخر منها: {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوامِنْ قَوْمِهِ} . فإنه جاء على الأصل لعدم المانع. وكما في قوله تعالى في سورة طه: {آمَنَّا بَرَبِّ هَارُونَ وَمُوْسَى} ، للمحافظة على الفاصلة بخلاف قوله تعالى في سورة الشعراء: {رََبِ مُوْسَى وَهَرُوْنَ} . "انتهى كلام السكاكي". وفيما ذكره نظر من وجوه.

_ 1 وهو "هذا"؛ لأنه راجع إلى منكر وهو شيء. وربما كانت "المنكر" من الإنكار. 2 أي مثل الإخلال بالمقصود. 3 وهو "من قومه". 4 وهو "الذين". 5 أي "من قومه". 6 لأنها ههنا اسم تفضيل من الدنو وليست اسمًا، والدنو يتعدى بمن.

أحدها: أنه جعل تقديم لله على شركاء للعناية والاهتمام وليس كذلك، فإن الآية مسوقة للإنكار التوبيخي، فيمتنع أن يكون تعلق "جعلوا" بالله منكرًا من غير اعتبار تعلقه بشركاء، إذ لا ينكر أن يكون جعل ما متعلقًا به، فيتعين أن يكون إنكار تعلقه به باعتبار تعلقه بشركاء وتعلقه بشركاء كذلك منكر باعتبار تعلقه بالله، فلم يبق فرق بين التلاوة وعكسها1. وقد علم بهذا أن كل فعل متعد إلى مفعولين لم يكن الاعتناء بذكر أحدهما إلا باعتبار تعلقه بالآخر، إذا قدم أحدهما على الآخر لم يصح تعليل تقديمه2 بالعناية. وثانيهما: أنه جعل التقديم للاحتراز عن الإخلال ببيان المعنى والتقديم للرعاية على الفاصلة من القسم الثاني، وليسا منه3. وثالثها: أن تعلق من قومه بـ"الدنيا" على تقدير تأخره غير معقولًا إلا على وجه بعيد4.

_ 1 أي لا فرق بين تقديم "لله" وتأخيره. 2 والجواب على هذا الاعتراض أنه ليس في كلامه ما يدل على أن المنكر تعلق جعلوا بالله من غير اعتبار تعلقه بشركاء، بل كلامه أن المنكر تعلقه بهما لكن العناية بالله أتم وإيراده في الذكر أهم لكونه في نفسه نصب عين المؤمن، ولا يخفى أنه لا يرد على هذا ما ذكره. 3 أجيب عن هذا الأعتراض بالمنع فإن الاحتراز المذكور أمر عارض أوجب -لما تقدم- أن يكون نصب العين. 4 أي أن تعلق من قومه بالدنيا على تقدير تأخره وإن كان صحيحًا من جهة اللفظ بناء على أن الدنيا وصف والدنو يتعدى بمن لكنه غير معقول من جهة المعنى إذ لا معنى لقولنا أترفنا الكفرة ونعمناهم في الحياة التي دنت من حياة قوم نوح أي كانت قريبة من حياتهم. وهذا الاعتراض وإن كان مناقشة في المثال لكنه حق واضح.

بحوث حول متعلقات الفعل

بحوث حول متعلقات الفعل 1: 1- الفعل المتعدي علامته في عرف النحويين صحة اتصال هاء الضمير الغير المصدر به من غير توسع بحذف الجار أو صحة أن يصاغ منه "أو من مصدره" اسم مفعول تام "أي مستغن عن حرف الجر" بإطراد "لا خراج تمرون الديار إذ يصح صوغ اسم مفعول منها فيقال: الديار ممرورة لكن لا باطراد". وما سوى المتعدي فلازم. أو نقول المتعدي ما يصل إلى المفعول به بنفسه واللازم بالعكس ويسمى اللازم قاصرًا. والأصل سبق الفاعل في المعنى ويلزم الأصل لخوف اللبس كضرب موسى عيسى، ولكون الثاني محصورًا كما أعطيت إلا زيدًا أو ظاهرًا والأول ضمير متصل مثل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} . وقد يجب تقديم المفعول في ذلك إذا كان الفاعل في المعنى هو المحصور مثل ما أعطيت الدراهم إلا زيدًا أو ظاهرًا والثاني ضمير متصلًا مثل الدرهم أعطيته زيدًا أو ملتبسًا بضمير الثاني مثل أسكنت الدار بانيها. وحذف المفعول من غير باب ظن جائز اختصارًا أو اقتصارًا - لا يقال: حذفه للاقتصار لا يأتي في المفعول به؛ لأن الفعل المتعدي يدل عليه إجمالًا فلا يكون حذفه إلا لدليل؛ لأنا نقول المراد دليل على خصومه لا ما يدل عليه إجمالًا. ومن الحذف اقتصارًا حذف مفعول الفعل المنزلة منزلة اللازم على رأي النحاة والبيانيين ووافقهم المغني على أنه لا مفعول له أصلًا وعبارة المغني بعد أن ذكر رأي النحاة: والتحقيق أن يقال أنه تارة يتعلق الغرض بالإعلام بمجرد وقوع الفعل من غير تعيين من أوقعه أو من أوقع عليه فيجاء بمصدره مسندًا إليه فعل كون عام فيقال: حصل حريق، وتارة يتعلق بالإعلام بإيقاع الفاعل للفعل فيقتصر عليهما ولا يذكر المفعول ولا ينوي إذ المنوي كالثابت ولا يسمى محذوفًا؛ لأن الفعل ينزل لهذا القصد منزلة ما لا مفعول له ومنه: {رَبِِّي

_ 1 هذه البحوث بقلم محمد خفاجي.

الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيت} ، وتارة يقصد إسناد الفعل إلى فاعله وتعليقه بمفعول فيذكران، وهذا النوع الذي لم يذكر مفعوله قيل له محذوف نحو: {مَاْ وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَاْ قَلَى} - وحذف المفعول لغرض لفظي كتناسب الفواصل مثل ما ودعك ربك وما قلى وكالإيجاز مثل فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا، أو لغرض معنوي كاحتقاره مثل كتب الله لأغلبن أي الكافرين أو استهجان التصريح به مثل قول عائشة: ما رأيت منه ولا رأى مني أي العورة أو العلم به أو الجهل به أو تعظيمه أو الخوف منه. ويقول السكاكي: "واعلم أن للفعل وما يتعلق به اعتبارات مجموعها راجع إلى الترك والإثبات والإظهار والإضمار والتقديم والتأخير، فلا بد من التكلم هناك وعلى الخصوص في تقييده -أعني الفعل- بالقيود الشرطية، فتقول: أما الترك فلا يتوجه إلى فاعله كما عرف في علم النحو وإنما يتوجه إلى نفس الفعل أو إلى غير الفاعل، لكنه لا يتضح اتضاحًا ظاهرًا إلا في المفعول به كما ستقف عليه1. ثم تكلم السكاكي على الحالة المقتضية لترك الفعل2، وعلى الحالة المقتضية لإثباته3 -ثم تكلم على الحالة المقتضية لترك مفعوله4- ثم تكلم على اعتبار التقديم والتأخير مع الفعل بأنواعه الثلاثة: فأحدها: أن يقع بين الفعل وبين ما هو فاعل له معنى مثل: هو عرف. وثانيها: أن يقع بينه وبين غير ذلك مثل: زيدًا عرفت. وثالثها: أن يقع بين ما يتصل به كنحو: عرف زيد عمرًا وعرف عمرًا زيد.

_ 1 97 المفتاح. 2 97-99 المرجع. 3 99 المرجع. 4 99-100 المرجع.

وذكر السكاكي الأحوال التي تقتضي كل واحد1 منها، كما تكلم على الحالة المقتضية لإضمار فاعله ولكونه مظهرًا2، وبسط الكلام على الحالة المقتضية لتقييد الفعل بالشرط3: 1- المذكور في باب متعلقات الفعل ثلاثة أمور هي: أ- نكات حذف المفعول به. ب- نكات تقديمه على الفعل -لإفادة الاختصاص قلبًا كان أو إفرادًا أو تعيينًا، ويفيد التقديم وراء التخصيص اهتمامًا بشأن المقدم. جـ- نكات تقديم بعض معمولاته على بعض. هذه هي عناصر الكلام على "أحوال متعلقات الفعل"، فقوله: "أحوال متعلقات الفعل" أي بعض هذه الأحوال الخاصة بمتعلقات الفعل وهي الثلاثة الأحوال التي أشرنا إليها، هكذا قال السعد ولكن العصام قال: المراد جميع أحوال متعلقات الفعل؛ لأن وضع الباب لها إلا أنه اقتصر على ذكر البعض استغناء عن ذكر الباقي بما سبق في غير هذا الباب لظهور جريان الباقي فيها "أي في المتعلقات" كما نبه الخطيب عليه في التنبيه السابق، وتفسيره بعض أحوال المتعلقات حيث لم يذكر إلا البعض كما ذهب إليه الشارح المحقق "السعد" وهم وكيف لا يكون وهمًا أو كيف لا يكون كما ذكرنا؟، ولولم يكن المراد جميع الأحوال لم ينحصر الفن "فن المعاني" في الأبواب الثمانية. وقال السبكي: هذا الباب لبيان أحوال متعلقات الفعل ولم يستوعبها بل ذكر منها الفاعل والمفعول، وذكر الفاعل فيه نظر:

_ 1 100-104 المرجع. 2 100 المرجع. 3 104 المفتاح.

أ- لأنه مسند إليه فذكره في باب المسند إليه أليق. ب- ثم الأحوال التي يريدها هنا الذكر والترك والتقديم والتأخير، والترك لا يأتي في الفاعل؛ لأنه لا يحذف. ولكن قال العصام: إن المتعلق في عرف العربية كأنه مختص بما سوى الفاعل ولهذا قال نلبسه دون تعلقه؛ لأن الفاعل ملابس لا متعلق. وقال أيضًا: ينبغي أن يقول: أحوال متعلقات الفعل وما في معناه مما يعمل عمله. وقال أيضًا: المتكلم: تارة يريد الإخبار عن الفعل أي الحدث من غير تلبس فاعل ولا مفعول فيقول وقع ضرب ونحوه وليس في هذا التركيب شيء من متعلقات الضرب- وتارة يراد فاعله فيؤتى بالفعل الصناعي الذي هو مشتق من الحدث الذي يريد الإخبار به فيذكر فاعله أبدًا عند البصريين إلا في مواضع مستثناه، ويجوز الحذف عند الكسائي. ثم إن كان متعديًا: فتارة يقصد الإخبار بالحدث والمفعول دون الفاعل فيبنى للمفعول فيقال ضرب زيد، وتارة يقصد الإخبار بالفاعل ولا يذكر مفعوله فهو على ضربين: أ - أن يقصد إثبات المعنى للفاعل أو نفيه عنه على الإطلاق، إلخ، فالمتعدي حينئذ كاللازم فلا يذكر له مفعول لئلا يتوهم السامع أن الغرض الإخبار بتعلقه بالمفعول ولا يقدر؛ لأن المقدر كالمذكور. وهذا القسم لا يتأتى في الفاعل بل متى ذكر الفعل الصناعي وجب الإتيان بالفاعل أو نائبه. ثم قال السبكي: وهذا حقيقة اللازم فلا ينبغي أن يقال هو كاللازم وكأنهم يعنون باللازم حقيقة. ثم هذا القسم نوعان كما قال الخطيب: أن يجعل إطلاق الفعل كناية عنه متعلقًا بمفعول مخصوص دلت عليه القرينة، أو لا يجعل كذلك. ب- أن لا يكون كذلك بأن لم يقطع النظر عن المفعول بل قصد ولم يذكر لفظًا فيقدر بحسب القرائن. 3- وفي لام متعلقات الفعل وجهان: أنها بكسر اللام أي أحوال.

الأمور المتعلقة بالفعل فالفعل يقال فيه متعلق والمفعول مثلًا متعلق أي متشبث وهذا هو الأحسن ووجه أولويته أن المفاعيل وما ألحق بها معمولة والفعل عامل فيها وكون المعمول لضعفه متعلقًا أنسب؛ لأن المتعلق هو المتشبث وهو أضعف من المتشبث به فالتعلق هو التشبث والمتشبث بالكسر هو المعمول الضعيف وبالفتح هو العامل القوي فهذا كما يقال الجار والمجرور متعلق بكذا. أو أنها بفتح اللام واقتصر عليه العصام، لوجهين: فالوجه الأول ذكره عبد الحكيم. وهو أن الفتح نظرًا إلى أن الحدث الذي يدل عليه الفعل يتعلق بها كما في الكافية: المتعدي ما يتوقف فهمه على متعلق، ولذلك قال العصام: "إنه اسم مفعول على ما في الرضى" - والوجه الثاني أن الفتح جائز كالكسر؛ لأن كلا من الفعل والمفعول متعلق بالآخر وهذا الوجه ذكره الدسوقي.. هذا ويقول عبد القاهر: "وأما تعلق الاسم بالفعل فبأن يكون فاعلًا له أو مفعولًا مطلقًا أو مفعولًا به أو ظرفًا أو مفعولًا معه أو له أو بأن يكون منزلًا من الفعل منزلة المفعول وذلك في خبر كان وأخواتها والحال والتمييز ومثله الاسم المنتصب على الاستثناء"، وهذا يرجح كسر اللام. ويقول السكاكي: اعلم أن للفعل وما يتعلق به اعتبارات وهو أيضًا يرجح الكسر. 4- ذكر المطول أن قول الخطيب "الفعل مع المفعول إلخ" تمهيد للكلام على أحوال متعلقات الفعل ولكن الدسوقي يرى أن المصنف قد ذكر مقدمة للمطلب الأول "الذي هو نكات حذف المفعول به" بقوله: "الفعل مع المفعول إلى قوله ثم الحذف إما للبيان إلخ"، فقوله: ثم الحذف إلخ هو أول المقصود بالترجمة، إلا أن الدسوقي عاد فذكر -في تعليقه على قول السعد: "ومهد لذلك مقدمة"- أن قوله: "الفعل مع المفعول" إلى قوله: "لا إفادة وقوعه مطلقًا" توطئة لبحث حذف المفعول به.

البلاغة والتجديد

البلاغة والتجديد مدخل ... البلاغة والتجديد: 1- البلاغة العربية مدينة في نشأتها الأولى لجهود علماء اللغة والأدب ولمثابرة الرواة والنقاد والباحثين في أصول البيان العربي، مع الأثر الفذ الذي أحدثه الكتاب والشعراء والأدباء في القرن الثاني والثالث الهجري.. ولقد تلاحقت الثقافات، واتصلت المعارف، وتبودلت الأفكار، في عواصم العلم والثقافة في العالم الإسلامي القديم، على أيدي العرب الذين نبغوا في اللغات الأجنبية، والموالي الذين حذقوا اللغة العربية وأجادوها، والمترجمين الذين كانوا همزة الوصل بين الثقافات القديمة والثقافة العربية الإسلامية الأصيلة. كان خلف لا يشق له غبار في صناعة النقد "لنفاذه فيها وحذقه بها وإجادته لها"1. وكان أبو عبيدة يعجب من فطنة بشار وجودة قريحته وصحة نقده للشعر2، وكان خلف يعجب من نقده للشعر ومذاهبه3. وكان الجاحظ4 يرى أن بشارًا زعيم المولدين. ثم جاء ابن سلام والجاحظ وابن قتيبة والمبرد وابن المدبر وابن المعتز، فكان لجهودهم أثر كبير في نشأة البلاغة ونمو البحث في أصول البيان. ولا ننسى جهود طائفة أخرى من العلماء في إثارة البحوث البلاغية والتعليق عليها، وتلك الطائفة هي جماعة العلماء الذين شغلوا بالبحث في إعجاز القرآن الكريم وتفهم أسرار هذا الإعجاز والتأليف فيه، فكشفوا الكثير من غوامض البلاغة وأصولها، ومن هؤلاء أبو عبيدة والجاحظ وسواهما من أئمة المعتزلة وفحولهم. وعلى أيدي قدامة وأبي هلال والآمدي والقاضي الجرجاني وغيرهم من أفذاذ النقاد في القرن الرابع الهجري، نرى البحث البلاغي ينمو ويقوى ويزدهر. ثم تلاهم الباقلاني وابن سنان وابن رشيق من علماء النقد والبيان.

_ 1 197/ 1 العمدة. 2 207 طبقات ابن سلام. 3 23/ 3 الأغاني. 4 91/ 1 العمدة.

ولقد لمعت عبقرية عبد القاهر الجرجاني -المتوفى عام 471هـ- في هذا العهد، وكان مظهر هذه العبقرية اللماحة كتابان جليلان ألفهما قبل وفاته بقليل هما "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" اللذان يعدان حتى اليوم أصلًا ضخمًا من أصول البيان وبحوث البلاغة والنقد والموازنة. وبعد عبد القاهر انطفأ السراج، وذبل العود، وأصيبت الأذواق بالعي والعجز كما أصيبت البلاغة بالتأخر والاضمحلال.. وبعد نحو قرن ونصف قرن ظهر فجأة السكاكي بعقليته المنطقية وذوقه الأعجمي، فأحال البلاغة إلى جدل عقيم في الألفاظ والأساليب، وإلى قواعد جافة لا صلة لها بالذوق ولا بالحياة، وكثر تلاميذ السكاكي. وانتشر مذهبه في البلاغة الذي يمثله القسم الثالث من كتابه "المفتاح"، والذي عني فيه بالقشور لا باللباب وبالتوافق لا بالحقائق، ولا تزال دراستنا للبلاغة حتى اليوم قائمة على أصول مذهب السكاكي وتلاميذه وحده دون سواه. 2- ولقد نهض جماعة من أدبائنا يدعون إلى التجديد في البلاغة، فمن قائل: إن الكتب القديمة يجب أن تحل محلها كتب أخرى مؤلفة على النهج الحديث، ومن دعاة إلى تلقيح البلاغة العربية بأصول الدراسات البلاغية في شتى اللغات الحديثة الأوربية، ومن ناهجين مناهج الغرب في بحث أسرار البلاغة وأصولها، ومن منادين إلى مذاهب البلاغيين القدماء من أمثال عبد القاهر وقدامة وأبي هلال. وهكذا تعددت الآراء، وتخاصمت الأفكار، في التجديد في البلاغة، وبيان كيف يكون هذا التجديد، على أن أذواق علمائنا المعاصرين وأدبائنا المشهورين لا تكاد تساعد على الوصول إلى هدف أو غاية ينشدها المشفقون على البلاغة العربية اليوم. والذين يحاولون التجديد فيها يكتفون بنقل أفكار الغربيين دون فهم أو يقظة فكرية أو إلمام ما بتراثنا القديم الخالد في البلاغة والبيان والنقد. ومن صور البحث البلاغي والنقد البياني ما قرأناه في مجلة

الأزهر -عدد ربيع الأول 1372هـ- بعنوان "علوم البلاغة في الميزان" للأستاذ المرحوم محمد عرفة، وقد اتجه الكاتب إلى إثارة الملكات، وتنشيط الأفكار، وتحريض الأذهان على النظر والبحث والنقد والاستنتاج والكشف، وحفز الهمم للبحث والابتكار. وهي محاولة مجدية قوية في سبيل التجديد البلاغي المنشود. وأول فكرة في هذا البحث هذه الأسرار البلاغية الدقيقة للحذف ومحاولة الكشف عنها، فلقد عرض عبد القاهر الجرجاني للحذف ومكانه من البلاغة دون أن يبين سبب هذا الحسن والإحسان وسر هذا الجمال البياني الأخاذ. وجاء السكاكي والخطيب وتلاميذهم فجعلوا الحذف في موضعه كالذكر في موضعه، لكل مكانه من البلاغة، ومنزلته من سحر البيان، وأبوا أن يكون للحذف مزية على الذكر بل هما يحصلان البلاغة ويوجدانها، ثم عللوا الحذف بعلل متكلفة لا صلة بينها وبين أحكام الذوق الأدبي السليم. ويحاول الباحث أن يعلل سر جمال الحذف وبلاغته بأسباب نفسية وأمور بيانية، منها الهجوم بالسامع على المطلوب دفعة، والجدة التي نراها في أسلوب الحذف، ومنها أن المحذوف تدل عليه القرائن فإذا ذكر كان ثقيلًا في موضعه؛ لأنه تعريف لما عرف وبيان لما بين، فيربط بذلك بين البلاغة وأحكام الذوق وأسرار البيان وملكات النفس الإنسانية. ومن البحوث التي أثارها الأستاذ: أسلوب التجريد وتحليل ألوان جماله وسر هذا الجمال، بعيدًا عن تكلف القدماء البغيض وتأويلهم المصنوع. وكذلك عرض لأسلوب. رأيت اليوم حاتمًا، ولقيت مادرًا، وسمعت سحبان وما أشبه ذلك مما أوله البلاغيون فجعلوا حاتمًا هنا كأنه موضع للجواد، فانتزعوه من معناه وهو العلمية على الرجل المعروف من طيء، وبهذا التأويل يكون حاتم متناولًا للفرد المتعارف المعهود والفرد غير المتعارف وهو من يتصف بالجود، فيصير استعماله في غير المتعارف استعمالًا في غير ما وضع له فيكون عندهم استعارة. وهو يبحث ذلك كله ويناقشه وينقده ويحاول الوصول إلى الصواب.

في أمره، حيث يرى أن المراد هنا تشبيه هذا الكريم بحاتم في جوده، فحاتم باق على معناه دون تغيير أو تبديل. إن القديم ليس كله صوابًا، وليس كله خطأ، بل فيه الصواب، وفيه الخطأ، وفيه سوى ذلك ألوان من القصور العلمي الذي يجب ملاقاته، فما أجدرنا في الأزهر بتجديد البحث والدراسة في أصول بلاغتنا، وفي مذاهب للبيان وأسراره.

المبرد وأثره في البيان العربي

المبرد وأثره في البيان العربي: 1- المبرد عالم جليل من أعلام اللغة العربية عاش في القرن الثالث "210-285هـ" يخدم اللغة والثقافة، ويدرس مذهبه في النحو وآراءه فيه لتلاميذه، ويبحث ويكتب ويؤلف ويعمل، حتى أصبح بحق شيخ العلماء والنحاة وإمام العربية وقطبها.. وأهم مؤلفات المبرد هو كتابه الكامل، الذي يعد من أهم مصادر الأدب العربي وضمنه آراءه في الأدب والنقد والبيان، وأشار فيه إلى بعض آرائه في النحو العربي ودراسته. وكتاب الكامل مجموعة كبيرة من الأدب العربي، شعره ونثره، في العصر الجاهلي والإسلامي والأموي وصدر عصر المحدثين، ساقها المبرد على غير نظام ولا ترتيب، وأضاف إليها شروحًا وتعليقات وتفسيرات وتوجيهات قيمة في دراسة الأدب العربي ونحن لا يعنينا هنا إلا أن ندرس كل ما يتصل بالبلاغة والبيان في كتاب "الكامل للمبرد" لنتبين أثره في هذا الميدان. 2- والبيان العربي أو قل البلاغة العربية دراسة لأصول التعبير والأداء والذوق الأدبي في اللغة العربية. وقد ساعد على إنضاج هذه الدراسات مجهود العلماء المتواصل إلى آخر القرن الثالث الهجري، في كشف أسرار البلاغة العربية، ودراسة أصولها وعناصرها وألوانها، ولكن مجهود هؤلاء كان مفرقًا موزعًا على المناسبات، يأتي عرضًا حين تحليل بيت أو ذكر قصيدة، وأهم العلماء الذين كان لهم أثرهم في بدء نواة هذه البحوث البيانية هو الجاحظ صاحب البيان والتبيين. ثم جاء المبرد، وألف كتابه "الكامل"، فجاء فيه عرض لكثير من الآراء في البيان والبلاغة، بعضها استنبطه وابتكره، وبعضها الآخر تابع فيه الباحثين قبله كالجاحظ وابن قتيبة وسواهما. هذا فضلًا عن أنه ألف كتاب "قواعد الشعر".

وكتاب "البلاغة1" مما لا شك في تعلقه واتصاله بالبيان ودراسات البلاغة في مرحلة نشأتها الأولى. 3- ونحن نشير هنا إلى أهم هذه الآراء التي وردت في "الكامل": أ- أشار المبرد إلى أسلوب القلب2 في كامله، وذهب إلى جوازه في الكلام للاختصار إذا لم يدخله لبس2، وعلى نهج المبرد في ذلك سار ابن فارس في الصاحبي3، ويسمى قدامة هذا الأسلوب "المقلوب" ويجعله من عيوب ائتلاف المعنى والوزن معًا4. وأشار المبرد في "الكامل" إلى أسلوب "الالتفات5". قال: "والعرب تترك مخاطبة الغائب إلى مخاطبة الشاهد ومخاطبة الشاهد إلى مخاطبة الغائب6. وقد سبق أبو زيد في "جمهرة أشعار العرب" المبرد إلى ذكر هذا الأسلوب7 وسار على نهجه ابن فارس8. وعرف المبرد السجع بأنه ائتلاف أواخر الكلام على نسق، كما تأتلف القوافي9. وهو روح كلام الجاحظ الذي عرف السجع بأنه الكلام المزدوج على غير وزن10. والسجع يذكره أرسطو في خطابته ويوجب أن "يكون كل واحد من المصاريع مسوقًا إلى المصراع الذي

_ 1 88 فهرست ابن النديم. 2 217/ 1 الكامل للمبرد، وص38 من كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن الكريم للمبرد. 3 ص173/ الصاحبي في فقه اللغة العربية. 4 130 نقد الشعر. 5 271/ 1 و30/ 2 الكامل للمبرد. 6 30/ 2 الكامل. 7 ص3 الجمهرة ط1926. 8 172 الصاحبي. 9 382/ 1 الكامل. 10 133/ 1 البيان والتبيين ط1927.

يليه والذي إنما يتم به المعنى"1 ويذكر الجاحظ آراء رجال البيان في السجع وآثر المطبوع منه2، كما أشار الجاحظ إلى الازدواج3. ويذكر مؤلف نقد النثر أن "من أوصاف البلاغة السجع في موضعه وعند سماع القريحة به وأن يكون في بعض الكلام لا في جميعه"4. ب- وقسم المبرد في "كامله" الكلام إلى الاختصار المفهم والإطناب المفخم، وقال: "وقد يقع الإيماء إلى الشيء فيغني عند ذوي الألباب وإن قيل بل الكلام القبيح في الحسن أظهر كان ذلك، ولكن يغتفر السيء للحسن والبعيد للقريب5. جـ- ويشير المبرد إلى التعقيد اللفظي في بيت الفرزدق: وما مثله في الناس إلا مملكًا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه ويشرح البيت وينقده6. و ويشير إلى أسلوب الاستعارة التمثيلية في قولك: "فلان عليه دين أو ركبه دين" تريد أن الدين علاه وقهره7، ويذكر مثلًا للتمثيل كقوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه} وسواه 8. ويشير إلى مثل للاستعارة ويحللها9، ويشير أيضًا إلى الاستعارة10 ويقول: "والعرب تستعير من بعض لبعض"11. وقد سبقه

_ 1 الخطابة من كتاب الشفاء لابن سينا. 2 194/ 1 وما بعدها من البيان والتبيين. 3 96/ 2 و16/ 3 البيان. 4 107 نقد النثر. 5 17/ 1 الكامل للمبرد طبعة التجارية 1355هـ. 6 ص18/ 1 الكامل. 7 24/ 1 المرجع. 8 76/ 1 المرجع. 9 37/ 1 الكامل. 10 57/ 1 المرجع. 11 167 جـ1 المرجع.

الجاحظ بتعريف الاستعارة1 الذي هو روح تعريف المبرد.. ويحال المبرد في الكامل مثلًا من أمثلة التجريد2. ويشير إلى أسلوب اللف والنشر، فيقول: "والعرب تلف الخبرين المختلفين ثم ترمي بتفسيرهما جملة، ثقة بأن السامع يرد إلى خبره إلخ"3، وسار على نهجه الصاحبي4. وقدامة يسمي ذلك صحة التفسير5. ويشير المبرد إلى مثل للكناية الاصطلاحية6، ويسميها ابن فارس في الصاحبي الإيماء7. ويقسم الكلام إلى مصرع وما يكنى عنه بغيره وما يقع مثلًا فيكون أبلغ في الوصف، ويذكر أقسام الكناية8، وإن كل المبرد يقصد الكناية اللغوية لا الاصطلاحية وكذلك فعل ابن فارس في الصاحبي9. ويشير المبرد إلى أسلوب التغليب: كالقمرين للشمس والقمر، والعمرين لأبي بكر وعمر10. هـ- ويذكر أيضًا بيتين للقتال الكلابي ويقول: البيت الثاني توكيد للأول11. وهذا أحد أسباب الفصل عند البلاغيين، ولا نجد أحدًا أشار إلى سبب من أسبابه قبل المبرد، وإن كان الجاحظ قد أشار إلى الفصل والوصل ومكانتهما في البلاغة12.. ويشير المبرد إلى ورود همزة الاستفهام13 للتقرير ويذكر إفراط الشعراء في مثل من الشعر14. وقد سبقه ابن قتيبة م 276هـ إلي الإشارة إلى مثل للإفراط من شعر الشعراء وذلك في كتابه "الشعر والشعراء".

_ 1 114 جـ1 البيان والتبيين. 2 35 و36/ 1 الكامل. 3 75/ 1 المرجع. 4 206 الصاحبي. 5 81 نقد الشعر. 6 77 و116/ 1، 92 و281/ 2 الكامل للمبرد. 7 210 الصاحبي. 8 5 و6 جـ2 الكامل. 9 218 و219 الصاحبي. 10 84/ 1 الكامل. 11 125/ 1 الكامل، و23 وما بعدها من كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه للمبرد طبع القاهرة عام 1350هـ. 12 76/ 1 البيان والتبيين. 13 35/ 1 الكامل. 14 173/ 1 و44/ 2 و46 و76 و77 و87/ 2 الكامل.

"و" ويشير المبرد إلى مثل للمجاز المرسل1. وفي أدب الكاتب لابن قتيبة باب سماه "باب تأويل كلام من كلام الناس مستعمل"2 ذكر فيه مثلًا كثيرة للمجاز المرسل. ويشير المبرد إلى مثل من أمثلة المجاز العقلي3. ويحلل قول الشاعر: "متقلدًا سيفًا ورمحًا" ومثلًا أخرى تشبهه4. وهذه المثل يجوز أن تكون من أسلوب المشاكلة الذي سبق المبرد إلى تقريره. ويشير إلى التشبيه5، ويعقد له بابًا يذكر فيه "ما للعرب من التشبيه المصيب والمحدثين بعدهم"6. وقد أفاض المبرد في استطراد في ذكر ما يستجاد من التشبيه في شعر القدامى والمحدثين وحلل ما أتي به ذاكرًا كثيرًا من أصول التشبيه، فتكلم على جهة الشبه وأنه إنما ينظر إلى التشبيه من حيث وقع7 ويذكر كثرة التشبيه في الكلام8، ويشرح التشبيه في الآية الكريمة: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} شرحًا وافيًا9. ويذكر أقسام التشبيه: المفرط والمصيب والمقارب والبعيد10، وأن منه تشبيه شيء في حالتين بشيئين مختلفين 11 كقول امرئ القيس: كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي إلى ما سوى ذلك من بحوثه في باب التشبيه الذي شرح فيه أسراره وبين ألوانه وفصل القول في كثير من مناحيه، والباب حافل بكثير من ألوان النقد الأدبي وهو أصل عظيم لدراسة التشبيه عند البيانيين -ويذكر المطابقة12. وبعض عيوب البيان كاللحن وفساد

_ 1 212/ 1 و222 و68/ 2 الكامل، 13 و14 من كتاب ما اتفق لفظه للمبرد. 2 26-34 أدب الكاتب. 3 79 و128 و168/ 1، و238 و249/ 2 الكامل. 4 218/ 1 الكامل. 5 246/ 1 الكامل. 6 35-101/ 2 الكامل. 7 47/ 2 الكامل. 8 69 و90/ 2 المرجع. 9 69 و70 جـ2 الكامل. 10 87/ 2 الكامل. 11 35/ 2 الكامل. 12 241/ 1 الكامل.

الملكات1 واللكنة2 وكالاستعانة ويعرفها بأنها أن يدخل في الكلام ما لا حاجة بالمستمع إليه ليصحح وزنًا إن كان في شعر وليتذكر ما بعده إن كان في نثر3. وفي خطابة أرسطو "ومن الأشياء المفسدة لرونق النظم إدخال كلام في كلام وهو الاعتراض الطويل بين الكلام المتصل بعضه ببعض4، ويشير العتابي الشاعر إلى الاستعانة ويشرحها5 بما لا يخرج عن كلام المبرد، ويذكر قدامة أن من نعوت الكلام ألا يكون الوزن قد اضطر إلى إدخال معنى ليس الغرض في الشعر محتاجًا إليه حتى إذا حذف لم تنقص الدلالة لحذفه6 ويذكر المعاظلة وأن ثعلبًا عرفها بأنها مداخلة الشيء في الشيء7، ويذكر الحشو ويجعله من عيوب الكلام ويعرفه بأنه أن يجيء البيت بلفظ لا يحتاج إليه لإقامة الوزن8. إلى غير ذلك مما ذكره المبرد وما عرض له من آراء في البيان. وبعد فلا شك أن هذه الآراء كلها وردت مبثوثة مفرقة في الكامل وخالية من الاصطلاحات العلمية وحينما يقف عند أسلوب من أساليب البيان ويحلله ويعجب به ولا يسميه؛ لأن علماء البيان والأدب لم يكونوا قد وضعوا له اسمًا وإنما بلاغته وسحره لا يخفيان على متذوق.. وبحسبي هذا اليوم ففيه كفاية، وهو يرشد إلى أثر الكامل في هذه الدراسات، وإن كان أثرًا محدودًا، شأنه في ذلك شأن من سبقه من العلماء الذين كانوا لا يزالون يكشفون أسرار البيان العربي.

_ 1 297/ 1 المرجع. 2 369/ 1. 3 19/ 1 الكامل. 4 الفن الرابع من المقالة الثامنة من الشفاء لابن سينا. 5 90/ 1 البيان والتبيين، 190/ 1 العمدة لابن رشيق. 6 99 نقد الشعر. 7 104 نقد الشعر. 8 128 نقد الشعر.

ثعلب وأثره في البيان

ثعلب وأثره في البيان: ثعلب هو إمام الكوفيين في النحو واللغة وعلوم العربية، عاش في الفترة التي بين عامي 200 و291، وهي عام مولده وعام وفاته.. وله كثير من المؤلفات، منها كتاب "الفصيح". ولثعلب كتاب "قواعد الشعر"، وقد قمت بنشره عام 1948، وكتبت شروحًا وتعليقات عليه ومقدمة له.. وهو أهم كتاب يظهر فيه آراء ثعلب البيانية، حيث عرض فيه بعض ألوان البيان والبديع وشواهدها، ومنها: التشبيه والمبالغة -والإفراط في المعنى- ولطافة المعنى -والتعريض والكناية- والاستعارة وحسن الخروج أو التخلص -ومجاورة الأضداد أو الطباق كما يسميه البلاغيون والمطابق وهو نوع من الجناس. ولا شك أن ثعلبًا قد كتب كتابه قبل أن يؤلف ابن المعتز كتابه البديع، وبذلك يكون ممهدًا لجهود ابن المعتز الذي خصص ألوان البيان بالتأليف والدراسة في كتابه البديع.. ولي بحث ضاف عن كتاب "قواعد الشعر" وأثر ثعلب في دراسات البيان، وهو منشور مقدمة لكتاب قواعد الشعر، فليرجع إليه من يشاء1.

_ 1 راجع كتاب قواعد الشعر لثعلب نشر وشرح محمد خفاجي -طبعة مصطفى الحلبي عام 1948- ص6-24.

ابن المعتز وأثره في البيان

ابن المعتز وأثره في البيان: ولابن المعتز منزلة كبيرة في البيان العربي، بكتابه القيم "البديع"، الذي توليت شرحه ونشره عام 1945 وطبعته مطبعة مصطفى الحلبي-.. والكتاب أول مؤلف في علم البديع وصنعة الشعر وألوان البيان، وقد عرض ابن المعتز فيه للاستعارة والتجنيس والمطابقة ورد العجز على الصدر والمذهب الكلامي والالتفات والاعتراض والرجوع وحسن الخروج وتأكيد المدح بما يشبه الذم وتجاهل العارف والهزل الذي يراد به الجد وحسن التضمين والتعريض والكناية والإفراط في الصفة وحسن التشبيه ولزوم ما لا يلزم وحسن الابتداء. ولي بحث طويل عن الكتاب وأثره وأثر مؤلفه في البيان والبديع، وهو منشور في كتابي "ابن المعتز وأثره في الأدب والنقد والبيان" فليرجع إليه من أراد1.. وكتاب "ثعلب" يختلط فيه النقد بالبيان وببحوث الشعر، من حيث كان كتاب ابن المعتز وقفًا على دراسات البيان والبديع.

_ 1 راجع ص370-383 من كتابي: "ابن المعتز وأثره في الأدب والنقد والبيان طبع مكتبة محمود توفيق عام 1949. ومقدمة كتاب "البديع - شرح محمد خفاجي" - طبعة 1945.

تطبيقات بلاغية

تطبيقات بلاغية: -1- ما سر التعبير باسم الموصول في الأمثلة الآتية؟. 1- {إَنَّ الذِيْنَ تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ عِبَادٌ أََمْثَالُكُمْ، فَادْعُوْهُمْ فَلْيَسْتَجِيْبُوْا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ} . 2- إن التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها. 3- إن الألى حانت بفلج دماؤهم ... هم لقوم كل القوم يا أم خالد. -2- ما سر التعبير باسم الإشارة في الأمثلة الآتية؟. 1- هذا هو الرجل. 2- على ذلكم هو القائد. 3- ما أتفه ذلك الإنسان. 4- أهذا الذي يذكر آلهتكم. 5- ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم. 6- {إِنَّمَا المُؤْمِنُوْنَ الذِيْنَ آَمَنُوْا بِاللهِ وَرِسُوْلِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوْا وَجَاهَدُوْا بَأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَادِقُوْنَ} . هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم

-3- بين سر التعريف بالموصولية واسم الإشارة في الأمثلة الآتية: 1- أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدفقا فكلاكما بحر 2- إن الذين نعبت لي بفراقهم ... قد أسهدوا ليلي التمام فأوجعوا 3- {أُوْلَئِكَ عَلَىْ هُدَىً مِنْ رِبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُوْنَ} . 4- الذي نال الجائزة شاعر مطبوع. 5- {أَهَذَاْ الْذِيْ يَذْكُرُ آلِهَتَكُم} . 6- {فَلَمَّاْ رَأَىْ الْشَّمْسَ بَاْزِغَةً قَالَ هَذَاْ رَبِّيْ هَذَاْ أَكْبَر فَلَمَاْ أَفَلَتْ قَاْلَ يَاْ قَوْمِ إِنِيْ بَرِيْءٌ مِمِاْ تُشْرِكُوْن} . 7- {ذَلِكَ هُدَىْ اللهِ يَهْدِيْ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَاْدِه} . 8- {أُوْلَئِكَ الْذِيْنَ هَدَاْهُمُ اللهُ فَبِهُدَاْهُمْ اِقْتَدِهْ} . -4- بين دواعي تنكير المسند إليه في الأمثلة الآتية: 1- {قَاْلَ يَاْ قَوْمِ لَيْسِ بِيْ ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّيْ رَسُوْلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ} . 2- {فِإنْ لَمْ تَفْعَلُوْا فَأْذَنُوْا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُوْلِهِ} . 3- وحيد من الخلان في كل بلدة ... إذا عظم المطلوب قل المساعد 4- لأمر أعدته الخلافة للعدا ... وسمته دون العالم الصارم العضبا 5- {سُوْرَةٌ أَنْزَلْنَاهَاْ وَفَرَضْنَاهَاْ وَأَنْزَلْنِا فَيِهَاْ آيَاْتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ} .

-5- بين دواعي التقديم في الأمثلة الآتية: 1- {أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيْ رَبًّاً وَهُوُ رَبُ كُلِ شَيْءٍ} . 2- نفس عصام سودت عصامًا ... وعلمته الكر والإقداما 3- ومن عجب الأيام بغي معاشر ... غضاب على سبقي إذا أنا جاريت 4- لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأرى الجني اشتارته أيد عواسل 5- سواي بتحنان الأغاريد يطرب ... وغيري باللذات يلهو ويلعب 6- ثلاثة ليس لها إياب ... الوقت والجمال والشباب 7- بكف أبي العباس يستنزل الغنى ... وتستنزل النعمى ويسترعف النصل ويستعطف الأمر الأبي بحزمة ... إذا الأمر لم يعطفه نقض ولا فتل 8- وقال بعض الشعراء مادحًا: له همم لا منتهى لكباره ... وهمته الصغرى أجل من الدهر له راحة لو أن معشار جودها ... على البر كان البر أندى من البحر 9- {اَلْشَيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلَاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيْم} . 10- "شر الناس من اتقاه الناس لشره". 11- "المرء كثير بإخوانه"، "اليد العليا خير من اليد السفلى" - "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستعملكم فيها فناظر كيف تعملون". 12- "القلوب معك، والسيوف عليك، والنصر من السماء".

-6- 1- "قد ينزل العالم بفائدة الخبر ولازمها منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب علمه"- اشرح ذلك، وبين هل منه قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102] ، وقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْت} - وجه ما تقول، وبين لم كان قول بشار: "إن ذاك النجاح في التبكير" أدخل في الفصاحة من قوله: "بكرًا فالنجاح في التبكير". 2- لم سمي المجاز في الإسناد مجازًا عقليًّا؟ وهل يجب أن يكون لكل إسناد مجازي فاعل إذا أسند إليه كان الإسناد حقيقة؟ وهل من السهل إدراك هذا الفاعل الحقيقي في كل مجاز عقلي؟ وضح ما تقول بالتمثيل. 3- متى يؤكد الحصر المستفاد من تقديم المسند إليه بكلمة "وحدي"، ومتى يؤكد بكلمة "لا غيري" وإذا كان معنى "وحدي" في قوة معنى "لا غيري" فلم اختصت كل منهما بوجه من التأكيد؟ وما الذي يدل عليه تقديم المسند إليه عند عبد القاهر إذا بني الفعل على منكر، وما فائدة التقديم في قوله تعالى: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} [المائدة: 61] . 4- {يَاْ زَكَرِّيَا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} - {يَاْ نِسَاْءِ النَّبِيِ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفُ لَهَا العَذَابُ ضِعْفَيْنِ} - {يَاْ إِبْرَاْهِيْمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَاْ إِنَّهُ قَدْ جَاْءَ أَمْرُ رَبِّكَ} - {يَاْ أَيُّهَاْ الْنَاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاْءُ إِلَى اللهِ} - {لَا يَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَّنَّةِ} ، بين في هذه الآيات حال المخاطب، ونوع الخبر، وما جرى منه على مقتضى ظاهر الحال وما جاء على خلافه.

5- له شافع في القلب من كل زلة ... فليس بمحتاج الذنوب إلى العذر إن الذي قسم البلاد حباكم ... بلدًا كأوطان النجوم مجيدا العلم يجمع في جنس وفي وطن ... شتى القبائل أجناسًا وأوطانًا بني عمنا عودوا نعد لمودة ... فإنا إلى الحسنى سراع التلطف بين سر تقديم المسند وتنكير المسند إليه في البيت الأول، وتعريف المسند إليه بالموصولية في الثاني، ومجيء المسند جملة في الثالث، وتأكيد الإسناد في الأخير. -7- 1- يتنوع الخبر باعتبار حال المخاطب فما هذه الأنواع. متى يكون الكلام مخرجًا على خلاف مقتضى ظاهر الحال -اشرح ذلك مع التمثيل من فصيح الكلام وبيان الحال والمقتضى؟ 2- يعرف المسند إليه بالموصولية لدواع: اذكر خمسة منها مع التمثيل؟ بين رأي السكاكي فيما اقتضى إيراد المسند إليه موصولًا في قول الشاعر: إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول ورد الخطيب عليه. 3- اذكر باختصار مذهب الشيخ عبد القاهر في تقديم المسند إليه وثلاثة دواع لتقديم المسند مع التمثيل؟ 4- "أ" قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِم} .

وقال الشاعر: إذا المرء لم يحتل وقد جد جده ... أضاع وقاسى أمره وهو مدبر وقال الشاعر: أعمير إن أباك غير رأسه ... مر الليالي واختلاف الأعصر في الآية والأبيات المتقدمة مجاز عقلي: بين موضعه وعلاقته وقرينته. ب- قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} . قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَاْ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَاْ دُوْنَ ذَلِكَ} . قال الله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} . قال الله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوْا لِلسَّلْمِ فَاْجْنَحْ لَهَا} . قال الله تعالى: {وَأنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} . قال الله تعالى: {فَأَزَلَّهُمِا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} . بين سر الإتيان بالمسند فعلًا واسمًا، وتقديم المعمول في الآية الأولى. والاتيان بالمسند جملة في الثانية، وبادا في الثالثة، وبان في الرابعة. وحذف المفعول في الخامسة. وتقديم المفعول على الفاعل في السادسة. حل هذا التطبيق بإيجاز شديد. جـ1- أنواع الخبر باعتبار حال المخاطب ثلاثة: ابتدائي، طلبي، إنكاري ... إلخ.

ويكون الكلام مخرجًا على خلاف مقتضى الظاهر. في هذه الصور الثلاث: 1- تنزيل غير السائل منزلة السائل إذا قدم إليه ما يلوح له بحكم الخبر إلخ. 2- تنزيل غير المنكر منزلة المنكر إلخ. 3- تنزيل المنكر منزلة غير المنكر إلخ. جـ2- من الدواعي لتعريف المسند إليه بالموصولية ما يلي: 1- عدم المخاطب بالأحوال المختصة بالمسند إليه سوى الصلة ... إلخ. 2- استهجان التصريح بالاسم. مثل: الذي يتصل بالأعداء خائن لوطنه، الذي يخرج من الإنسان ناقض للوضوء. 3- زيادة التقرير، مثل وراودته التي هو في بيتها عن نفسه. 4- التفخيم مثل فغشاها ما غشى. 5- تنبيه المخاطب على خطأ مثل: إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا ورأى السكاكي في البيت "إن التي ضربت إلخ" هو أن ذكر الموصول هنا يفيد الإيماء إلى وجه بناء الخبر، وهذا الإيماء ليس بمقصود لذاته بل جعل ذريعة إلى تحقيق الخبر. ورد الخطيب عليه بأنه لا يظهر فرق بين الإيماء إلى وجه بناء الخبر وتحقيق الخبر، فكيف يجعل الأول ذريعة إلى الثاني؟.

جـ3- مذهب عبد القاهر في تقديم المسند إليه، يفيد تقديم المسند إليه التخصيص بشروط هي: 1- أن يكون المسند خبرًا فعليًّا. 2- أن يتقدم على المسند إليه حرف النفي. 3- ألا يفصل بين المسند إليه وحرف النفي بفاصل سواء في ذلك ما إذا كان المسند إليه نكرة أو معرفة ظاهرة أو ضميرًا، مثل: ما محمد قام، ما رجل حضر، ما أنا فعلت هذا. فإن لم يل المسند إليه حرف النفي فإن كان معرفة مثل أنا فعلت كان القصد إلى الفاعل وينقسم إلى قسمين: 1- ما يفيد تخصيصه بالمسند للرد على من زعم انفراد غيره به أو مشاركته فيه مثل أنا كتبت في حاجتك، فإذا أردت التأكيد قلت للزاعم في الوجه الأول أنا كتبت في حاجتك لا غيري ونحوه، وفي الوجه الثاني أنا كتبت في حاجتك وحدي. 2- ما لا يفيد إلا تقوي الحكم وتقريره في ذهن السامع وتمكنه مثل هو يعطي الجزيل. وكذلك إذا كان الفعل منفيًّا مثل أنت لا تكذب فإنه أشد لنفي الكذب من قولك لا تكذب أو لا تكذب أنت. هذا كله إذا بني الفعل على معرف، فإن بني على منكر أفاد ذلك تخصيص الجنس أو الواحد بالفعل مثل رجل جاءني أي لا رجلان أو لا امرأة. أما تقديم المسند فيكون لدواع منها: 1- التشويق إلى ذكر المسند إليه مثل: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر.

2- التنبيه من أول الأمر على أنه خبر لا نعت مثل: له همم لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجل من الدهر 3- التفاؤل مثل: سعدت بغرة وجهك الأيام. 4- "أ" تجري من تحتهم: في إسناد تجري إلى ضمير الأنهار مجاز عقلي والأصل يجري الماء في النهر -وعلاقاته المكانية وقرينته معنوية. جد جده: في الإسناد مجاز عقلي علاقته المصدرية والقرينة معنوية. غير رأسه مر الليالي واختلاف الأعصر: في الإسناد مجاز عقلي علاقته الزمانية والقرينة معنوية. ب- الإتيان بالمسند فعلًا في "أفلح" للتقييد بالزمن الماضي على أخصر ما يمكن مع إفادة التجدد. والاتيان بالمسند اسمًا في "خاشعون" لإفادة عدم التقييد والتجدد. وتقديم المعمول "في صلاتهم" لإفادة التخصيص أو للاهتمام لكون ذلك مساق الكلام. الاتيان بالمسند جملة في "إن الله لا يغفر إلخ" لإرادة تقوي الحكم بنفس التركيب. الاتيان بإذا في الآية لإفادة الشرط في الاستقبال مع إفادة أن الشرط مقطوع بوقوعه -والاتيان بإن في الآية لإفادة الشرط في الاستقبال أيضًا مع إفادة أن الشرط غير مقطوع بوقوعه. حذف المفعول في الآية لتنزيل الفعل منزلة اللازم بذكر الفعل.

ولا ينوي له في نفس مفعول أصلًا؛ لأن الغرض إثبات الفعل في نفسه. تقديم المفعول على الفاعل في الآية الأخيرة؛ لأن الكلام مسوق للحديث عنهما "آدم وحواء" أولًا فقدم ذكرهما على ذكر الفاعل. انتهى الجزء الثاني من شرح الإيضاح. ويليه إن شاء الله الجزء الثالث.

فهرست الجزء الثاني

فهرست الجزء الثاني: من كتاب الإيضاح في علوم البلاغة للخطيب القزويني. الموضوع الصفحة المقدمة 3 القول في أحوال المسند إليه 4 حذف المسند إليه 4 ذكر المسند إليه 7 تعريف المسند إليه 9 تعريفه بالإضماء 10 تعريفه بالعلمية 12 تعريفه بالموصولية 14 تعريفه بالإشارة 18 تعريفه بالام 21 تعريفه بالإضافة 33 تنكير المسند إليه 35 وصف المسند إليه 39 توكيد المسند إليه 43 بيان المسند إليه 45 الإبدال من المسند إليه 46 العطف على المسند إليه 46 تعقيب المسند إليه بضمير الفصل 49 تقديم المسند إليه 50 مذهب عبد القاهر في إفادة التقديم للتخصيص 53 مذهب السكاكي في إفادة التقديم للتخصيص 64 موضع آخر من مواضع تقديم المسند إليه 73 تأخير المسند إليه 80 خروج المسند إليه على خلاف الظاهر 80 وضع المضمر موضع المظهر 81 وضع المظهر موضع المضمر 82

الموضوع الصفحة الالتفات 85 الأسلوب الحكيم 94 التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي 96 القلب 97 القول في أحوال المسند 103 حذف المسند 103 ذكر المسند 110 إفراد المسند 111 فعليه المسند واسميته 113 تقييد الفعل وعدمه 114 تقييد الفعل بالشرط 116 أن وإذا الشرطيتان 116 "لو" الشرطية 125 تنكير المسند 127 تخصيص المسند وعدمه 127 تعريف المسند 129 جملية المسند 133 تأخير المسند 135 تقديم المسند 135 القول في متعلقات أحوال الفعل 138 حذف المفعول 154 تقديم المفعول على الفعل 162 تقديم بعض معمولات الفعل على بعض 166 بحوث حول متعلقات الفعل 173 البلاغة والتجديد 178 المبرد وأثره في البيان العربي 182 ثعلب وأثره في البيان العربي 188 ابن المعتز وأثره في البيان 189 تطبيقات بلاغية 190

المجلد الثالث

المجلد الثالث مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم الكلمة الأولى: ظهر الجزء الأول والثاني من شرحي على الإيضاح في علوم البلاغة للخطب القزويني "666-739هـ". فلقيا من عناية العلماء والباحثين والدارسين والمعلمين مالم أكن أحسبه أو أخاله. وهذا هو الجزء الثالث من هذا الشرح وأوله باب القصر وآخره باب الإيجاز والإطناب والمساواة. وإني لأحمد الله على توفيقه، وأسأله أن يسدد خطانا، ويلهمنا الرشد والصواب. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. محمد عبد المنعم خفاجي.

القول في القصر

القول في القصر أسلوب القصر ... القول في القصر:

_ 1 الأصل في الجملة الواحدة أن تؤدي حكمًا واحدًا مقصودًا وقد يتبع هذا الكلام الواحد غرض ومعنى يترتب عليه، ومثل هذا يسمى مستتبعات التراكيب. وقد تؤدي الجملة الواحدة حكمين مقصودين مختلفين بالإيجاب والسلب من طريق الوضع أو من طريق العقل والذوق وهذه هي الجملة التي حكم فيها بثبوت شيء لآخر على جهة الاختصاص وعدم تعدي الأول والثاني أو حكم فيها بسلب شيء عن آخر على جهة الاختصاص كذلك. ومثل هذا الأسلوب يسمى القصر مثل ما محمد إلا شا عر. 2 هذا ومثل: محمد شا عر، وما محمد إلا شاعر. الأول للخالي، والثاني للمتردد أو للمنكر. والفرق بين التردد والإنكار: أن المتردد التأكيد له مستحسن والمنكر التأكيد له واجب، والمتردد يؤكد له الكلام بمؤكد واحد. أما المنكر فيؤكد له الكلام بمؤكد أو أكثر وقيل بأكثر من مؤكد. وفي التردد ترك التوكيد ليس خطأ وفي الإنكار يعد خطأ. وتأكيد الحكم "وهو ثبوت الشعر لمحمد في مثل ما محمد إلا شاعر" هنا بما وإلا -أو بما شابههما أو بغيرهما. وجوبًا أو استحسانًا- مطابقة لمقتضى الحال فهو بلا غة، ومن ثم كان الواجب البحث عنه. ويهمنا هنا في هذا الباب بحث تأكيد الحكم بما وإلا وما شابهما لا بغير ذلك "كأن والقسم ونون التوكيد ولام الابتداء وحروف الزيادة إلخ". وتأكيد الحكم بما وإلا وما شابههما هو القصر. 3 هذا وبحوث القصر هي: أما هو القصر. جـ أدوات القصر والفرق بينها. ب أقسام القصر. د فائدة القصر.

......................................................................

_ 4 والقصر في اللغة الحبس، قال تعالى: {حُوْرٌ مَقْصُوْرَاْتٌ فِيْ الخِيَامِ} أي محبوسات. وفي الأساس: قصرته حبسته وقصرت نفسي على هذا إذالم تطمح إلى غيره، وهن قاصرات الطرف أي قصرنه على أزواجهن، وقصر هذه اللقمة على عياله وعلى فرسه إذا جعل درهمًا لهم. وتقول: قصرت المرأة على أعمال البيت وتربية الأولاد أي حبستها عليه. فالقصر في اللغة الحبس، وفي الاصطلاح تخصيص شيء "صفة أو موصوف" بشيء "موصوف أو صفة" بطريق مخصوص "ما وإلا وما شابه ذلك مثل إنما والعطف والتقديم وتوسط ضمير الفصل وتعريف المسند أو المسند إليه بلام الجنس" والباء داخلة على المقصور عليه على الأرجح. كتخصيص محمد بالشعر في قولك: ما محمد إلا شا عر، وتخصيص الشعر بمحمد في قولك ما شاعر إلا محمد، أو قل قصر محمد على الشعر في الأول. وقصر الشعر على محمد في المثال الثاني. ومعنى التخصيص ثبوت الشيء الثاني دون غيره للشيء الأول. 5 ووجوه بلاغة القصر هي: الإيجاز -تقرير الكلام وتمكينه في الذهن لدفع ما فيه من إنكار أو شك- الرد على المخاطب في قصري الأفراد والقلب -تعيين المبهم في قصر التعيين- مجاراة الخصم -التعريض- ذكر الواقع في القصر الحقيقي - المبالغة في القصر الادعائي. 6 مراجع باب القصر: هذا وراجع في القصر: ص252-274 من الدلائل وص125 وما بعدها من المفتاح. وراجع: معنى كلمة التخصيص والاختصاص في 388 و255 جـ1 من ابن السبكي، ودخول الباء بعدها على المقصور وعند السيد على المقصور عليه في ص386 جـ1 الدسوقي و110 جـ2

........................................................................

_ و387 جـ1 ابن يعقوب, 104 المطول و270 جـ2 ابن السبكي و266 جـ2 شروح التلخيص، الاختصاص والقصر بمعنى واحد إلا عند ابن السبكي في 153 جـ2 الدسوقي و155 جـ2 ابن السبكي القصر وهل يجري في الإنشاء في 146 جـ2 الدسوقي، مقام القصر في ص85 من المفتاح، القصر للمسند إليه على المسند وللمسند على المسند إليه ص85 من المفتاح أيضًا. 7 خلاصة للقصر وأقسامه: أ- القصر تخصيص شيء بشيء بطريق مخصوص. ب- القصر الحقيقي ما كان تخصيص الشيء بالشيء فيه بحسب الحقيقة وفي نفس الأمر بمعنى عدم مجاوزة الأول والثاني إلى غيره أصلًا. جـ والقصر الإضافي ما كان التخصيص فيه بحسب الإضافة إلى شيء آخر بمعنى عدم مجاوزة الأول الثاني إلى شيء آخر معين وإن أمكن أن يتجاوزه إلى غيره. د- قصر الموصوف على الصفة هو ما لم يتجاوز الموصوف فيه تلك الصفة إلى غيرها "من جميع الصفات في الحقيقي أو صفة معينة في الإضافي" مع جواز ثبوت تلك الصفة لغير الموصوف. هـ وقصر الصفة على الموصوف هو ما لم يتجاوز فيه الصفة ذلك الموصوف إلى موصوف آخر "أي كل موصوف في الحقيقي أو بعض معين في الإضافي" مع جواز أن يكون لذلك الموصوف صفات أخرى. و الحقيقي صفة على موصوف أو بالعكس وكذلك الإضافي. ز- القصر الإدعائي ما كان القصر الحقيقي فيه مبنيًّا على الإدعاء والمبالغة بتنزيل غير المذكور منزلة العدم وقصر الشيء على المذكور وحده.

أقسام القصر

أقسام القصر: القصر حقيقي وغير حقيقي1. وكل واحد منهما2 ضربان: قصر الموصوف على الصفة3، وقصر الصفة على الموصوف4

_ 1 لأن تخصيص الشيء بشيء إما أن يكون بحسب الحقيقة وفي نفس الأمر بألا يتجاوزه إلى غيره أصلًا وهو الحقيقي سواء كان الاختصاص أيضًا كذلك أو لم يكن فيعم القصر الحقيقي والادعائي، وأما أن يكون التخصيص بحسب الإضافة إلى شيء آخر بأن لا يتجاوزه إلى ذلك الشيء وإن أمكن أن يتجاوزه إلى شيء آخر في الجملة وهو غير الحقيقي أو قل هو الإضافي، كقولك ما زيد إلا قائم بمعنى أنه لا يتجاوز القيام إلى القعود، لا بمعنى أنه لا يتجاوزه إلى صفة أخرى أصلًا. فإذا كان السلب الذي تضمنه القصر عن كل ما عدا المقصور عليه فهو القصر الحقيقي وإلا فهو الإضافي. والمراد بالحقيقي ليس نسبة إلى الحقيقة بمنى نفس الأمر ولا ضد المجاز، بل المراد ما لوحظ فيه الحقيقة ونفس الأمر بدون ملاحظة حال المخاطب من تردد أو اعتقاد خلاف أو شركة. والإضافي ما لوحظ في الحقيقة ونفس الأمر مع ملاحظة حال المخاطب السابق. فالقصر الحقيقي بمعنى عدم مجاوزة المقصور المقصور عليه إلى غيره أصلًا. والإضافي بمعنى عدم مجاوزة المقصور المقصور عليه إلى شيء آخر وإن أمكن أن يتجاوزه إلى غيره. 2 أي من الحقيقي وغيره. 3 وهو ألا يتجاوز الموصوف تلك الصفة إلى صفة أخرى، فإن أراد أي صفة كان القصر حقيقيًّا، وإن أراد إلى صفة معينة كان إضافيًّا، لكن يجوز أن تكون تلك الصفة لموصوف آخر. 4 وهو ألا يتجاوز تلك الصفة ذلك الموصوف إلى موصوف آخر =

والمراد الصفة المعنوية لا النعت1:

_ = والمراد جنس الموصوف الصادق بكل موصوف في الحقيقي وببعض معين في الإضافي لكن يجوز أن يكون لذلك الموصوف صفات أخرى. ولإيضاح ذلك الفرق بين قصر الموصوف على الصفة وقصر الصفة على الموصوف نعرض عليك هذين المثالين: إنما يدافع عن الوطن الشباب، وإنما الشباب يدافع عن الوطن، المقصور عليه في إنما هو المؤخر فالمثال الأول المقصور عليه هو الشباب. وفي المثال الثاني المقصور عليه المدافعة عن الوطن، والمثال الأول كما ستعلم بعد قصر صفة على موصوف والمثال الثاني قصر موصوف على صفة. وفي المثال الأول يؤكد المتكلم لمخاطبه استقلال الشباب وحده بالدفاع عن الوطن لا يشترك معهم غيرهم في ذلك الوا جب، وذلك لا يمنع أن يكون للشباب صفات أخرى غير هذه الصفة من الإقدام والبلاغة إلخ. وفي المثال الثاني المقصور عليه المدافعة عن الوطن فالشباب لا يقومون بسواها من الأعمال على أنه من الجائز أن يشترك معهم في الدفاع عن الوطن سواهم. فالجملة الأولى أبلغ في المدح من وجهين: الأول: أنها تفيد استقلال الشباب بالدفاع وعدم اشتراك أحد معهم فيه. والثاني: أنها لا تنفي أن يكون للشباب صفات أخرى غير هذه الصفة. فقصر الصفة على الموصوف أبلغ من قصر الموصوف على الصفة. 1 أي المراد بالصفة هنا الصفة المعنوية أعني المعنى القائم بالغير. لا النعت النحوي وهو التابع الذي يدل على معنى في متبوعه غير الشمول. والمراد نفيه بالكلية أي أنه لا يصح إرادته في باب القصر إذ لا يتأتى قصره بطريق من طرقه. هذا وبين الصفة المعنوية والنعت النحوي في حد ذاتها عموم من وجه لتصادقهما في مثل "أعجبني هذا العلم"، وتفارقهما في "مثل العلم حسن"و "مررت بهذا الرجل"، فالعلم في المثال الأول صفة معنوية ونعت نحوي معًا، والعلم في المثال الثاني صفة معنوية لا نعت نحوي، والرجل في المثال الثالث نعت نحوي لا صفة معنوية. وأما نحو قولك ما الباب إلا ساج وما زيد إلا أخوك وما هذا إلا زيد فمن قصر الموصوف على الصفة تقديرًا إذا المعنى أنه مقصور على الإنصاف بكونه ساجًا وأخًا وزيدًا.

القصر الحقيقي: والأول1 من الحقيقي كقولك: "ما زيد إلا كاتب" إذا أردت أنه لا يتصف بصفة غير الكتابة. وهذا لا يكاد يوجد في الكلام2؛ لأنه ما من متصور إلا وتكون له صفات تتعذر الإحاطة بها أو تتعسر. والثاني منه3 كثير، كقولنا: "ما في الدار إلا زيد"4. والفرق بينهما5 ظاهر، فإن الموصوف في الأول6 لا يمتنع

_ 1 راجع 266 من الدلا ئل، وقوله "الأول" أي قصر الموصوف على الصفة. 2 أي حقيقة نعم يوجد ادعاء بتنزيل غير الصفة المثبتة كالعدم، بل هذا "قصر الموصوف على الصفة قصرًا حقيقيًّا" محال؛ لأن للصفة المنفية نقيضًا وهو من الصفات التي لا يمكن نفيها ضرورة امتناع ارتفاع النقيض. مثلًا إذا قلنا "ما زيد إلا كاتب" وأردنا أنه لا يتصف بغيره لزم ألا يتصف بالقيام ولا بنقيضه وهو محال. 3 "الثاني" أي قصر الصفة على الموصوف، "منه" أي من القصر الحقيقي. 4 على معنى أن الحصول في الدار المعينة مقصور على زيد. 5 أي بين قصر الموصوف على الصفة وقصر الصفة على الموصوف في الحقيقي. 6 وهو "زيد" في "ما زيد إلا كاتب".

أن يشاركه غيره1 في الصفة المذكورة2، وفي الثاني3 يمتنع4. وقد يقصر به5 المبالغة6 لعدم الاعتداد بغير المذكور فينزل منزلة المعدوم7.

_ 1 من علي وخالد وعمرو. 2 وهي الكتابة. 3 أي وفي المثال الثاني وهو ما في الدار إلا محمد. 4 أي يمتنع مشاركة غيره له في الحصول في الدار. وهذا فرق واحد بين قصر الموصوف على الصفة وعكسه في القصر الحقيقي، والفرق الثاني أن قصر الموصوف على الصفة ينفي أن يكون للموصوف صفات أخرى غير الصفة المذكورة وقصر الصفة لا ينفي ذلك. 5 "به" أي بالثاني وهو قصر الصفة على الموصوف قصرًا حقيقيًّا، فيكون القصر الادعائي خاصًّا بذلك القسم فلا يوجد في الإضافي ولا في قصر الموصوف على الصفة قصرًا حقيقيًّا. أو "به" أي بالقصر الحقيقي مطلقًا قصر صفة على موصوف أو قصر موصوف على صفة. فالقصر الحقيقي قسمان: حقيقي تحقيقي، وحقيقي ادعائي. أو به أي بالقصر مطلقًا: حقيقيًّا أو إضافيًّا، قصر موصوف على صفة أو قصر صفة على موصوف. فكل من هذه الأقسام إما قصر تحقيقي وإما قصر ادعائي هذا ورجوع الضمير المجرور إلى القسم الثاني من الحقيقي كما اختاره السعد أقرب وأنسب بحسب اللفظ والسياق، وإرجاع الضمير إلى الحقيقي مطلقًا أصح وأشمل بحسب المعنى والفائدة لتناوله قسمي الحقيقي معًا، بل إرجاع الضمير إلى مطلق القصر أصح إذ لا مانع من اعتبار الإدعائي في الإضافي. وقيل القصر الإدعائي من مجاز التركيب والأصح أنه حقيقة. 6 أي في كما ل الصفة في ذلك الموصوف فتنفي عن غيره على العموم. كما يقصد بقولنا ما في الدار إلا زيد أن جميع من في الدار ممن عدا زيدًا في حكم العدم فيكون قصرًا حقيقيًّا ادعائيًّا. والفرق بين الادعائي والقصر الغير الحقيقي "الإضافي" هو أن القصر الإضافي لا يجعل فيه غير المذكور بمنزلة المعدوم بل يكون المراد أن الحصول في الدار مقصور على زيد بمعنى أنه ليس حاصلًا لعمرو وإن كان حاصلًا لبكر وخالد.

.......................................................................

_ ملاحظة: القصر الادعائي والقصر الإضافي: يشتركان معًا في جواز اتصاف الموصوف بصفات أخرى غير التي قصر الموصوف عليها "وذلك في قصر الموصوف على الصفة- ما محمد إلا كاتب". ويفترقان في: 1 الادعائي يعتبر في مفهومه سلب سائر الصفات عن الموصوف "في قصر الموصوف على الصفة". والإضافي يعتبر فيه سلب بعض ما عدا تلك الصفة عنه. 2 الادعائي لا يعتبر فيه اعتقاد المخاطب بأي نحو ووجه من الوجوه والإضافي يعتبر فيه ذلك. 3 الادعائي يقتضي عدم الاعتداد بسائر الصفات. والإضافي لا يقتضي ذلك. ملاحظة: بناء على أن القصر الادعائي من أقسام القصر الحقيقي مطلقًا "قصر صفة على موصوف أو قصر موصوف على صفة" يكون القصر الحقيقي قسمين: حقيقي تحقيقي، وحقيقي ادعائي "وهو الحقيقي مبالغة". وقصر الموصوف على الصفة قصر حقيقيًّا ادعائيًّا موجود قطعًا، بخلاف قصر الصفة على الموصوف قصرًا حقيقيًّا تحقيقيًّا، هذا وقصر الموصوف على الصفة قصرًا حقيقيًّا ادعائيًّا يمكن اعتباره هنا بناء على عدم الاعتداد بباقي الصفات، والأصح كما سبق أن القصر الادعائي كما يكون في الحقيقي يكون في الإضافي وكما يكون في قصر الموصوف على الصفة يكون في قصر الصفة على الموصوف. فتخصيص بعض العلماء له بقصر الصفة على الموصوف قصرًا حقيقيًّا لا مرجح له. وهذه هي أمثلة القصر الادعائي: 1 هل الجود إلا أن نجود بأنفس ... على كل ماضي الشفرتين صقيل قصر موصوف على صفة قصر حقيقيًّا ادعائيًّا. 2 إنما الشاعر شوقي لا حافظ ولا مطران. قصر صفة على موصوف قصرًا إضافيًّا ادعائيًّا. 3 إنما شوقي شاعر لا كاتب.

القصر الإضافي: والأول1 من غير الحقيقي تخصيص أمر بصفة دون أخرى2 أو مكان أخرى. والثاني3 منه4 تخصيص صفة بأمر دون آخر أو مكان

_ = قصر موصوف على صفة قصرًا إضافيًّا ادعائيًّا. 4 وما سافرت في الأفارق إلا ... ومن جدولك راحلتي وزادي قصر صفة على موصوف قصرًا حقيقيًّا ادعائيًّا. 5 وما البأس إلا حمل نفس على السرى ... وما العجز إلا نومة وتشمس قصر موصوف على صفة قصرًا حقيقيًّا ادعائيًّا. 1 وهو قصر الموصوف على الصفة. 2 دون صفة أخرى. 3 وهو قصر الصفة على الموصوف. 4 أي من غير الحقيقي. 5 أي دون أمر آخر. وقوله دون آخر معناه متجاوزًا عن الصفة الأخرى فإن المخاطب اعتقد اشتراكه في صفتين والمتكلم يخصصه بإحداهما ويتجاوز عن الأخرى. ومعنى دون في الأصل أدنى مكان من الشيء، يقال هذا دون ذلك إذا كان أحط منه قليلًا ثم استعير للتفاوت في الأحوال والرتب نحو زيد دون عمر في الشرف ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد وتخطي حكم إلى حكم. ولقائل أن يقول: أن أريد بقوله دون أخرى ودون آخر دون صفة واحدة أخرى ودون أمر واحد آخر فقد خرج عن ذلك ما إذا اعتقد المخاطب اشتراك ما فوق الاثنين، كقولنا ما زيد إلا كاتب لمن اعتقده كاتبًا وشاعرًا ومنجمًا، وقولنا ما كاتب إلا زيد لمن اعتقد أن الكاتب زيد وعمر وبكر، وإن أريد الأعم من الواحد وغيره فقد دخل في هذا التفسير القصر الحقيقي وكذا الكلام على مكان أخرى ومكان آخر: ويمكن الجواب بأن المراد بدون أخرى ودون آخر دون معين سواء كان واحدًا أو أكثر مع تعيين، فخرج غير المتعين مما هو مصدوق القصر الحقيقي. هذا والقصر الإضافي ما لوحظ فيه عدم تجاوز المقصور المقصور عليه إلى بعض معين مما عدا ذلك المقصور عليه وإن أمكن أن يتجاوزه إلى بعض آخر. أما الحقيقي فهو ما لوحظ فيه عدم تجاوز المقصور المقصور عليه إلى جميع ما عدا المقصور عليه.

آخر فكل واحد منهما1 ضربان2. قصر الأفراد: والمخاطب بالأول3 من ضربي كل4- أعني تخصيص أمر بصفة دون أخرى، وتخصيص صفة بأمر دون آخر- من يعتقد الشركة5، أي اتصاف ذلك الأمر6 بتلك الصفة وغيرها جميعًا في

_ هذا والقصر الإضافي ما لوحظ فيه عدم تجاوز المقصور المقصور عليه إلى بعض معين مما عدا ذلك المقصور عليه وإن أمكن أن يتجاوزه إلى بعض آخر. أما الحقيقي فهو ما لوحظ فيه عدم تجاوز المقصور المقصور عليه إلى جميع ما عدا المقصور عليه. 1 أي من قصر الموصوف على الصفة وقصر الصفة على الموصوف. 2 هما التخصيص بشيء دون شيء. والتخصيص بشيء مكان شيء. 3 وهو التخصيص شيء دون شيء - وراجع في ذلك ص125 من المفتاح. 4 أي من قصر الموصوف على الصفة وقصر الصفة على الموصوف كما شرحه الخطيب. 5 أي شركة صفتين في موصوف واحد في قصر الموصوف على الصفة، وشركة موصوفين في صفة واحدة في قصر الصفة على الموصوف. فالمخاطب بقولنا "ما زيد إلا كاتب" من يعتقد اتصافه بالشعر والكناية، وبقولنا "ما كاتب إلا زيد من يعتقد اشتراك زيد وعمر في الكتابة. ملاحظات: 1 المقصور عليه هو ما بعد إلا دائمًا. 2 قوله "والمخاطب بالأول. ومن يعتقد الشركة أي غالبًا وقد يخاطب به من يعتقد أن المتكلم يعتقد الشركة ولو كان المخاطب معتقدًا للانفراد كأن يعتقد مخاطب اتصاف زيد بالشعر فقط ويعلم أنك تعتقد اتصافه بالشعر والكتابة فتقول ما زيد إلا شاعر لتعلمه أنك لا تعتقد اتصافه بالشعر والكتابة فتقول ما زيد إلا شاعر لتعمله أنك لا تعتقد ما يعتقده فيك. وهذا بناء على أن الخبر الغرض منه إفادة الحكم أو أن المخاطب عالم بالحكم -الفائدة أو لازم الفائدة- وفي الأطول "يعتقد الشركة أو يجوزها". 6 وهو الموصوف الواقع مقصورًا في مثل ما زيد إلا عالم وقوله بتلك الصفة أي الواقعة مقصورًا عليه.

الأول1، واتصاف ذلك الأمر2 وغيره جميعًا بتلك الصفة3 في الثاني4. فالمخاطب بقولنا "ما زيد إلا كاتب" من يعتقد أن زيدًا كاتب وشاعر، وبقولنا "ما شاعر إلا زيد" من يعتقد أن زيدًا شاعر لكن يدعي أن عمرًا أيضًا شاعر. وهذا يسمى قصر أفراد، لقطعة الشركة بين الصفتين في الثبوت للموصوف5 أو بين الموصوف وغيره في الاتصاف بالصفة6.

_ 1 أي في قصر الموصوف على الصفة. 2 وهو الموصوف الواقع مقصورًا عليه في مثل ما عالم إلا زيد. 3 أي الواقعة مقصورًا. 4 أي في قصر الصفة على الموصوف. 5 في قصر الموصوف على الصفة. 6 في قصر الصفة على الموصوف. الخلاصة: 1 قصر الأفراد قصر قصد به الرد على من يعتقد ثبوت المقصور لكل من المقصور عليه وبعض ما عداه، أو قل هو قصر قصد به الرد على من يعتقد الشركة. 2 قصر الأفراد. أما قصر موصوف على صفة أو قصر صفة على موصوف. 3 قصر الأفراد فيه تخصيص بشيء دون شيء، تخصيص موصوف بصفة دون صفة أخرى أو تخصيص صفة بموصوف دون موصوف آخر. 4 ومما سبق أن ذكرناه في القصر الادعائي نقول القصر الادعائي كما يوجد في الحقيقي يكون في الإضافي فالقصر الإضافي إما قصر إضافي حقيقة وإما قصر إضافي مبالغة وادعاء. ملاحظة: راجع مقام القصر في ص85 و100 و101 و102 من المفتاح ويقول السكاكي: الحالة المقتضية للقصر هي أن يكون عند السامع حكم مشوب بصواب وخطأ وأنت تريد تقرير صوابه ونفي خطئه ص85 من المفتاح.

قصر القلب 1 والتعيين: والمخاطب بالثاني2 من ضربي كل3 أعني تخصيص أمر بصفة مكان أخرى وتخصيص صفة بأمر مكان آخر. أما من يعتقد العكس4، أي اتصاف ذلك الأمر بغير تلك الصفة عوضًا عنها في الأول5، واتصاف غير ذلك الأمر بتلك الصفة عوضًا عنه في الثاني6 وهذا يسمى قصر قلب لقلبه حكم السامع7.

_ 1 هو التخصيص بشيء مكان شيء آخر. 2 من القصرين قصر الموصوف على الصفة وقصر الصفة على الموصوف. 3 من القصرين قصر الموصوف على الصفة وقصر الصفة على الموصوف. 4 أي عكس الحكم الذي أثبته المتكلم، فالمخاطب بقولنا "ما زيد إلا قائم" من اعتقد اتصافه بالقعود بدلًا من القيام، وبقولنا "ما شاعر إلا زيد" من اعتقد أن الشاعر عمرو لا زيد. وقوله: "من يعتقد العكس" أي أو يعتقد أن المتكلم يعتقد العكس وإن كان هو لا يعتقد العكس، وذلك في لازم الفائدة. وقيل: المراد بالاعتقاد ما يشمل التجويز. 5 أي في قصر الموصوف على الصفة مثل ما محمد إلا كاتب. 6 أي في قصر الصفة على الموصوف مثل ما كاتب إلا محمد. 7 أي كله: أما في الأفراد فالقلب فيه ليس لكل حكم المخاطب بل فيه إثبات البعض ونفي البعض.

وأما من تساوى الأمران عنده، أي اتصاف ذلك الأمر بتلك الصفة واتصافه بغيرها في الأول1 واتصافه بها واتصاف غيره بها في الثاني2، وهذا يسمى قصر تعيين. فالمخاطب بقولنا "ما زيد إلا قائم" من يعتقد أن زيد قاعد لا قائم3 أو يعلم أنه إما قاعد أو قائم ويعلم ولا يعلم أنه بماذا يتصف منهما بعنيه4. وبقولنا "ما قائم إلا زيد" من يعتقد أن عمرًا قائم لا زيد5. أو يعلم أن القائم أحدهما دون كل واحد منهما، لكن لا يعلم من هو بعينه6.

_ 1 أي في قصر الموصوف على الصفة. ملاحظة: قصر الأفراد والقلب والتعيين خاصة بالقصر الإضافي ولا تجري في الحقيقي كما نص عليه السعد. والعصام كما في الأطوال يرى أن هذه الأقسام الثلاثة يمكن أن تكون في قصر الصفة على الموصوف قصرًا حقيقيًّا ومثل له بنحو "إنما النجيب من أو لاد على سعيد. ورأي العصام ضعيف لا يعتد به. 2 في قصر القلب قصر موصوف على صفة. 3 أي ي قصر التعيين -قصر موصوف على صفة. 4 أي في قصر القلب -قصر صفة على موصوف. 5 وهذا في قصر التعيين -قصر صفة على موصوف. 6 الخلاصة: 1- قصر القلب قصر قصد به الرد على من يعتقد عكس الحكم الموجود في صيغة القصر.

.........................................................................

_ 2 قصر التعيين قصر قصد به تعيين مبهم عند المخاطب وتخصيصه بواحد معين. 3 قصر القلب والتعيين يشتركان في أن: أكلا منهما إما قصر موصوف على صفة أو قصر صفة على موصوف. ب وكلا منهما على مذهب الخطيب في الإيضاح فيه تخصيص بشيء مكان شيء. فالحاصل على رأي الإيضاح أن التخصيص بشيء دون شيء آخر قصر أفراد أما التخصيص بشيء مكان شيء فإن اعتقد المخاطب فيه العكس فهو قصر قلب وإن تساويا عنده فقصر تعيين. فقصر الأفراد هو التخصيص بشيء دون شيء، وقصر القلب هو التخصيص بشيء مكان شيء، أما قصر التعيين ففيه خلاف: هل فيه تخصيص بشيء مكان شيء أو فيه تخصيص بشيء دون شيء، فالخطيب في الإيضاح يسير على الأول أي أن في قصر التعيين -كالقلب- تخصيصًا بشيء مكان شيء آخر فهو عنده يشترك مع القلب في أن في كل منهما تخصيصًا بشيء مكان شيء، والفرق بينهما أن المخاطب في القلب يعتقد العكس والمخاطب في التعيين متردد. أما السكاكي فيرى في قصر التعيين تخصيصًا بشيء دون شيء ولذلك يجعل التخصيص بشيء دون شيء مشتركًا بين الأفراد والتعيين، أما تخصيص الشيء مكان شيء فهو عنده قصر القلب فقط، والفرق بين قصر الأفراد والتعيين على رأي السكاكي أن قصر الأفراد المخاطب فيه يعتقد الشركة وقصر التعيين المخاطب فيه متردد. أما ابن يعقوب فيجوز أن يصدق على قصر التعيين تعريف قصري الأفراد والقلب، فيكون التعريفان شاملين لقصر التعيين فقصر التعيين عنده كما أن فيه تخصيصًا بشيء مكان شيء ففيه تخصيص بشيء دون شيء. ورجح السعد رأي السكاكي ونقد رأي الخطيب في الإيضاح بما حاصله أننا لو سلمنا أن في قصر التعيين تخصيصًا شيء بشيء مكان شيء فلا يخفى. أن فيه تخصيص شيء بشيء دون آخر فإن قولنا ما زيد إلا قائم لمن يردده بين القيام والقعود تخصيص له بالقيام دون القعود. هذا وكلام الخطيب في متن التلخيص لا يمنع أن يكون قصر التعيين مشتركًا مع قصر الأفراد في أن في كل منهما تخصيصًا بشيء دون شيء حيث قال: "والمخاطب بالأول من ضربي كل من يعتقد الشركة ويسمى قصر أفراد وبالثاني من يعتقد العكس ويمسي قصر قلب أو تساويًا عنده ويسمي قصر تعيين فإذا عطفنا أو تساويا على "يعتقد العكس" كان موافقًا لكلامه في الإيضاح في أن كلا من القلب والتعيين فيه تخصيص بشيء مكان شيء، أما إذا عطفنا "أو تساويا على يعتقد الشركة كان موافقًا لرأي السكاكي -ومخالفًا لكلامه في الإيضاح- في أن كلا من الأفراد والتعيين فيه تخصيص بشيء دون شيء. وأقرب هذه الآراء رأي السكاكي.

شروط القصر

شروط القصر: وشرط قصر الموصوف على الصفة أفرادًا عدم تنافي الصفتين1 حتى تكون منفية في قولنا "ما زيد إلا شاعر" كونه كاتبًا أو منجمًا أو نحو ذلك، لا كونه مفحمًا لا يقول الشعر، ليتصور اعتقاد المخاطب اجتماعهما.

_ 1 ليصح اعتقاد المخاطب اجتماعهما في الموصوف حتى تكون الصفة المنفية في قولنا: "ما زيد إلا شاعر" كونه كاتبًا أو منجمًا لا كونه مفحمًا أي غير شاعر؛ لأن الإفحام وهو وجدان الرجل غير شاعر ينافي الشاعرية. وخص هذا الشرط بقصر الموصوف على الصفة دون قصر الصفة على الموصوف؛ لأن الموصوفات لا تكون إلا متنافية، وقال يس، يشترك في قصر الصفة على الموصوف أفرادًا عدم تنافي الاتصافين فلا يصح قولك: "لا أبا لزيد إلا عمرو"؛ لأن لا يجتمع الموصوفان في وصف الأبوة فلا يتأتى نقص الأفراد.

وشرط قصره1 قلبًا تحقق تنافيهما2 حتى تكون المنفية3 في قولنا ما زيد إلا قائم كونه قاعدًا أو جالسا أو نحو ذلك، لا كونه أسود أو أبيض أو نحو ذلك، ليكون إثباتها4 مشعرًا بانتفاء غيرها5.

_ 1 أي الموصوف على الصفة. 2 أي تنافي الوصفين، أما قصر الصفة على الموصوف قلبًا فلا يشترط فيه تحقق التنافي بل تارة يتحقق وتارة لا. 3 أي الصفة المنفية. 4 أي إثبات الصفة وهي القيام في قولك ما محمد إلا قائم. 5 هي ما قبلها من القعود والجلوس ونحو ذلك: وفي هذا التعليل نظر، حاصله أنه إذا أراد أن إثبات المتكلم هو المشعر بنفي غيرها فأداة القصر مشعرة بذلك من غير حاجة للتنافي وإن أراد أن إثبات المخاطب هو المشعر فلا يتوقف أيضًا على التنافي بل يفهمه المتكلم منه بقرينة أو عبارة. والحاصل أن شرط قصر القلب اعتقاد المخاطب العكس سواء تحقق التنافي أم لا. هذا وقد أحسن صاحب المفتاح في إهمال هذا الاشتراط، فلم يتعرض له ولا للشرط المذكور في قصر الأفراد؛ لأن قولنا: "ما زيد إلا شاعر" لمن اعتقد أنه كاتب وليس بشاعر قصر قلب على ما صرح به في المفتاح مع عدم تنافي الشعر والكتابة في الواقع، وإن كان المخاطب يعتقد تنافيهما، ومثل هذا خارج عن أقسام القصر الإضافي على رأي المصنف. الحق هو رأي السكاكي وإن كان بعض العلماء يوافق الخطيب في شرطه في قصر الأفراد، ويوافق السكاكي في عدم اشتراط شرط في قصر القلب، ومنهم الشيخ سليمان نوار في مذكرته في القصر. أفلا يكون هذا الشرط الذي اشترطه الخطيب ليس شرطًا للصحة بل شرطًا للحسن ليوافق رأيه رأي السكاكي؟ بعيد جدًّا ذلك؛ لأنه لا دلالة للفظ عليه، مع أننا لا نسلم عدم حسن قولنا: "ما زيد إلا شاعر" لمن اعتقده كاتبًا غير شاعر. وهل يصح أن نقول: أن المراد بالتنافي في كلام الخطيب هو التنافي في اعتقاد المخاطب سواء تنافيا في الواقع أم لا حتى يوافق أيضًا كلام الخطيب رأي السكاكي؟ بعيد أيضًا ذلك.

وقصر التعيين أعم 1؛ لأن اعتقاد كون الشيء موصوفًا بأحد أمرين معينين على الإطلاق لا يقتضي جواز اتصافه بهما معًا ولا امتناعه. وبهذا علم أن كل ما يصلح أن يكون مثلًا لقصر الأفراد أو القلب يصلح أن يكون مثالًا للتعيين من غير عكس. وقد أهمل السكاكي القصر الحقيقي2 وأدخل قصر التعيين في

_ 1 لأن التنافي بحسب اعتقاد المخاطب معلوم مما ذكره الخطيب من أن قصر القلب هو الذي يعتقد فيه المخاطب العكس، فيكون هذا الاشتراط ضائعًا ويرد مثل هذا أيضًا على قوله "وشرط قصر الموصوف على الصفة أفرادًا عدم التنافي". 2 ولأننا لو فسرنا التنافي بالتنافي في اعتقاد المخاطب لم يصح قول المصنف الآتي في الإيضاح أن "السكاكي لم يشترط في قصر القلب تنافي الوصفين". 1 أي من كل واحد منهما، والعموم باعتبار المحل، أي فقد يوجد فيه التنافي وقد لا يوجد، فلا يشترط فيه التنافي كما لا يشترط فيه عدمه، فكل مثال يصلح لقصر الأفراد والقلب يصلح لقصر التعيين من غير عكس. 2 لم يصرح السكاكي بتقسيمه القصر إلى حقيقي وإضافي، فتوهم الخطيب أنه أهمل ذكر الحقيقي وليس كذلك؛ لأنه قال: "كما في ص125 من المفتاح": "حاصل معنى القصر راجع إلى تخصيص الموصوف بوصف دون ثان أو بوصف مكان آخر، أو إلى تخصيص الوصف بموصوف دون ثان أو بموصوف مكان آخر" وهذا التفسير شامل للحقيقي وغيره؛ لأن المراد بقوله: "ثان وآخر" ما يصدق عليه أنه ثان أو آخر أعم من أن يكون واحدًا أو أكثر إلى ما لا نهاية إذ لو أريد الواحد لخرج عنه كثير من أمثلة القصر الغير الحقيقي أيضًا. فهذا هو منشأ توهم اختصاص التفسير بغير الحقيقي.

قصر الأفراد، فلم يشترط في قصر الموصوف أفرادًا عدم تنافي الصفتين ولا في قصره1 قلبًا تحقق تنافيهما.

_ 1 أي الموصوف.

طرق القصر

طرق القصر: ولقصر طرق: 1 1- منها2 العطف. كقولك: في قصر الموصوف على الصفة.

_ 1 المذكور هنا أربعة، وغيرهما قد سبق ذكره، كضمير الفصل وتعريف المسند أو المسند إليه بأل الجنسية. وتقديم ما حقه التأخير من المعمولات. وقد يحصل القصر بنحو قولك "زيد مقصور على القيام ومخصوص به"، وبنحو ذلك كالتأكيد غير الشمولي كجاء زيد نفسه أي لا غيره، والتخصيص بلفظ الخصوص والتأكيد ليس داخلًا في القصر الاصطلاحي، وأما القصر بضمير الفصل وبتعريف المسند أو المسند إليه فيمكن أن يجعلا من طريق القصر لكن ترك ذكرهما هنا لاختصاصهما بما بين المسند إليه والمسند مع التعرض لهما فيما سبق، بخلاف العطف والتقديم فإنهما وإن سبقا لكنهما يعمان غير المسند إليه والمسند كالطرق المذكورة هنا. 2 من هذه الطرق -طرق القصر- طريق العطف، أي بلا وبل ولكن. والعطف يكون في القصر الحقيقي والإضافي أيضًا بلا وببل ويفيد القصر اتفاقًا، أما العطف بلكن فظاهر كلام المفتاح والإيضاح في باب العطف أنه يصلح طريقًا للقصر ولم يذكروا مثالًا له. وراجع طريق العطف في المفتاح ص125 وفي الدلائل ص258.

أفرادًا: "زيد شاعر لا كاتب"، أو "ما زيد كاتبًا بل شاعر"1 وقلبًا: "زيد قائم لا قاعد" و"ما زيد قاعدًا بل قائم". وفي قصر الصفة على الموصوف -أفرادًا أو قلبًا بحسب المقام- "زيد قائم لا عمرو" أو "ما عمرو قائمًا2 بل زيد".

_ 1 مثل يمثل لقصر الأفراد لا تنافي فيها، وذكر له مثالين: مثالًا للعطف بلا، ومثالًا للعطف ببلل، والأول الوصف المثبت فيه معطوف عليه والمنفي معطوف والمثال الثاني بالعكس. والعطف في "ما زيد كاتبًا بل شاعر" على المحل على مذهب البصريين. 2 لما لم يكن في قصر الموصوف على الصفة مثال الأفراد صالحًا للقلب، لاشتراط عدم التنافي في الأفراد وتحقق التنافي في القلب على زعمه، أو رد للقلب مثالًا يتنافى فيه الوصفان، بخلاف قصر الصفة فإن فيه مثالًا واحدًا يصلح لهما. ولما كان كل ما يصلح لهما يصلح مثالًا لقصر التعيين لم يتعرض لذكره، وهكذا في سائر الطرق. فإن قلت: إذا تحقق تنافي الوصفين في تقديم قصر القلب فإثبات أحدهما يكون مشعرًا بانتفاء الغير، فما فائدة نفي الغير وإثبات المذكور بطريق الحصر؟ قلت الفائدة فيه التنبيه على رد الخطأ فيه وإن المخاطب اعتقد العكس فإن قولنا "زيد قائم" وإن دل على نفي القعود لكنه خال عن الدلالة على أن المخاطب اعتقد أنه قاعد. ملاحظات: 1 طريق العطف بجميع حروفه لا يكون إلا للقصر الإضافي، وذهب السعد إلى أنه يكون للقصر الحقيقي أيضًا مثل ما محمد إلا شاعر لا غيره. 2 العطف بلا يكون لقصر القلب والأفراد، قبل ويكون لقصر التعيين، وقال عبد الحكيم: أن قصر التعيين لا يؤدي بطريق العطف لا بلا ولا بغيرها من أدوات العطف مثل بل ولكن. أما لكن فعند السعد لقصر القلب، وعند النحاة لقصر الأفراد، وبعض العلماء يقولون أن النحاة لا يجعلونها للقصر أصلًا وإنما هي للاستدراك فقط، وظاهر كلام السعد في باب القصر أن لكن تأتي لقصر التعيين. ويرى بعض الباحثين أنها صالحة للقلب وللأفراد وللتعيين.

2- ومنها النفي والاستثناء: 1 كقولك في قصر الموصوف على الصفة: أفرادًا "ما زيد إلا شاعر"، وقلبًا "ما زيد إلا قائم"، وتعيينًا كقوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} ، أي لستم في دعواكم للرسالة عندنا بين الصدق والكذب كما يكون ظاهر المدعي إذ ادعى بل أنتم عندنا كاذبون فيها2. وفي قصر الصفة على الموصوف بالاعتبارين3 "ما قائم أو ما من قائم أو لا قائم إلا زيد4.

_ 1 راجع ص125، من المفتاح، 260-262 من الدلائل. هذا وابن السبكي يرى أن الاستثناء يفيد القصر مطلقًا سواء أكان بعد نفي أم لا، والجمهور يقصرون هذا على ما كان بعد نفي. ويلاحظ أن الاستثناء المفرغ هو الذي من طرق القصر أما التام مثل "ما قام القوم إلا زيدًا، فقيل ليس من طرقه. وقيل هو من طرقه "207. الدسوقي". 2 فقد نزل المشركون الرسل منزلة المترددين، مبالغة في إنكارهم لدعوى الرسالة وإعراضهم عن النظر فيها، والظاهر أن الآية من قصر القلب لا التعيين وجعل السكاكي القصر في الآية للأفراد. 3 أي باعتبار قصر الأفراد أو القلب. 4 والكل يصلح مثالًا لقصر التعيين، والتفاوت إنما هو بحسب اعتقاد المخاطب.

وتحقيق1 وجه القصر في الأول2 أنه متى قيل "ما زيد" توجه النفي إلى صفته لا ذاته؛ لأن أنفس الذوات يمتنع نفيها وإنما تنفي صفاتها كما بين ذلك في غير هذا العلم، وحيث لا نزاع في طوله وقصره وما شاكل ذلك، وإنما النزاع في كونه شاعرًا أو كاتبًا تناولهما النفي، فإذا قيل: "إلا شاعر" جاء القصر. وفي الثاني3 أنه متى قيل "ما شاعر" فأدخل النفي على الوصف المسلم ثبوته -أعني الشعر- لغير من الكلام فيهما كزيد وعمرو مثلًا، توجه النفي إليهما، فإذا قيل "إلا زيد" جاء القصر. 3- ومنها إنما: 4 كقولك في قصر الموصوف على الصفة: أفرادًا إنما زيد كاتب، وقلبًا إنما زيد قائم وفي قصر الصفة على الموصوف بالاعتبارين5 إنما قائم زيد.

_ 1 راجع ص126 من المفتاح و230 أو 231 من شروح السيد على المطول. 2 أي قصر الموصوف على الصفة. 3 أي قصر الصفة على الموصوف. 4 راجع ص126 من المفتاح، 252 وما بعدها من الدلائل، 163/ 1 من الكامل للمبرد. هذا وفي الدلائل أن أنما ولا العاطفة -إنما يستعملان في الكلام المعتد به لقصر القلب دون الأفراد. والمصنف جعلهما لقصر القلب والأفراد. هذا وقد ذهب الزمخشري إلى أن "إنما" بالفتح مثل "إنما بالكسر. 5 أي باعتبار الأفراد والقلب.

والدليل على أنها تفيد القصر: 1- كونها متضمنة1 معنى ما وإلا، لقول المفسرين في قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّم} بالنصب معناه ما حرم عليكم إلا الميتة، وهو المطابق لقراءة الرفع2، لما مر في باب "المنطلق زيد".

_ 1 أشار بلفظ التضمن إلى أن "إنما" ليست بمعنى "ما وإلا" حتى كأنهما لفظان مترادفان، إذ فرق بين أن يكون الشيء في معنى الشيء وأن يكون الشيء الشيء على الإطلاق، فليس كل كلام يصلح فيه ما وإلا يصلح فيه إنما وذلك كالأمر الذي شأنه أن ينكر فإنه صالح لما وإلا دون إنما، وكم الزائدة وأحد وعريب فإنها يصلح معها ما وإلا دون إنما. 2 أي رفع الميتة وإن كان طريق القصر في القراءة الأولى إنما وفي الثانية تعريف الطرفين. وتقرير هذا الكلام أن في الآية ثلاث قراءات: حرم مبنيا للفاعل مع نصب الميتة، ورفعها، وحرم مبنيًّا للمفعول مع رفع الميتة: فعلى القراءة الأولى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّم} ما في إنما كافة إذ لو كانت موصولة لبقيت "إن" بلا خبر، ولبقي الموصول بلا عائد. وجعلها موصولة والعائد ضمير مستتر والخبر محذوف، والتقدير "إن الذي حرم أي هو الميتة الله تعالى" عكس للمعنى المقصود الذي هو بيان المحرم لا بيان المحرم، فضلًا عما في ذلك من التكلف. وعلى القراءة الثانية: "إنما حرم عليكم الميتة"، ما موصولة لتكون الميتة خبر، إذ لا يصح ارتفاعها بحرم المبني للفاعل على ما لا يخفى من أن المحرم إنما هو الله تعالى لا الميتة والمعنى أن الذي حرمه الله عليكم هو الميتة. ثم على هذه القراءة لا يصح أن تكون "ما" كافة ورفع الميتة على أنه خبر لمحذوف والمعنى "إنما حرم الله عليكم شيئًا هو الميتة" لما فيه من التكلف ووجه إفادة القصر على القراءة الثانية هو تعريف الطرفين لما مر في تعريف المسند من أن نحو "المنطلق زيد" وزيد المنطلق" سواء جعلت اللام موصولة أو حرف تعريف يفيد قصر الإنطلاق على زيد: فإذا كانت إنما متضمنة معنى ما وإلا وكان معنى القراءة الأولى ما حرم الله عليكم إلا الميتة كانت مطابقة للقراءة الثانية، وإلا لم تكن مطابقة لها لإفادة القراءة الثانية القصر فمراد السكاكي والمصنف بقراءة النصب والرفع هو القراءة الأولى والثانية في المبنى للفاعل ولهذا لم يتعرضا للاختلاف في لفظ حرم بل في لفظ الميتة رفعًا ونصبًا. وإما على القراء ة الثالثة: أعني رفع الميتة وحرم مبنيًّا للمفعول، فيحتمل أن تكون ما كافة أي ما حرم عليكم إلا الميتة، وأن تكون موصولة أي أن الذي حرم عليكم هو الميتة، ويرجح كونها موصولة هذا ببقاء أن عاملة على ما هو أصلها والقصر طريقة على الوجه الأول "إنما" وعلى الثاني التعريف، وبعضهم توهم أن مراد السكاكي والمصنف بقراءة الرفع هذه القراءة الثالث فطالبهما بالسبب في اختيار كونها موصولة مع أن الزجاج اختار أنها كافة.

2 - ولقول النحاة1 "إنما لإثبات ما يذكر بعدها ونفي ما سواه2. 3- ولصحة انفصال الضمير3 معها4، كقولك "إنما يضرب أنا"، كما تقول "ما يضرب إلا أنا".

_ 1 أي الذين أخذوا اللغة من كلام العرب مشافهة. 2 أي سوى ما يذكر بعده ما يقابله؛ لأن الكلام في القصر الإضافي -سواء كان المغاير المنفي مغايرًا لما فيه من المشاركة كما في قصر الأفراد أو لكونه نقيض الحكم كما في سوى الأفراد- أما في قصر الموصوف نحو "إنما زيد قائم" فهو لإثبات قيام زيد ونفي ما سواه من القعود ونحوه، وأما في قصر الصفة نحو إنما يقوم زيد فهو لإثبات قيامه ونفي ما سواه من قيام عمرو وبكر وغيرهما. 3 أي وجوبًا عند ابن مالك، أو مع عدم الوجوب عند أبي حيان. 4 أي مع أنما مع إمكان وصله، نحو، "إنما يقوم أنا" فإن

قال الفرزدق:1 أن الذائد الحامي الذمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي وقال عمرو بن معد يكرب:2

_ الانفصال إنما يجوز عند تعذر الاتصال، ولا تعذر ههنا إلا بأن المعنى "ما يقوم إلا أنا" فيقع بين الضمير وعامله فصل لغرض. ثم استشهد على صحة الانفصال ببيت من هو ممن يستشهد بشعره وهو الفرزدق ولهذا صرح باسمه. 1 راجع البيت في ص126 من المفتاح، 253 و263 و264 من الدلائل الذائد من الذود وهو الطرد. الذمار: العهد، وفي الأساس هو الحامي الذمار إذا حمي ما لو لم يحمه لليم وعنف من حماه وحريمه: "وإنما يدافع" جملة تذييلية والواو اعتراضية فيها معنى التعليل. والقصر هنا من قصر الصفة على الموصوف. فلما كان غرضه أن يخص المدافع لا المدافع عنه فصل الضمير وأخره، إذ لو قال: "وإنما أدافع عن أحسابهم" لصار المعنى أنه يدافع عن أحسابهم لا عن أحساب غيرهم وهو ليس بمقصوده؛ لأنه قصور في المدح مع أن المقام مقام المبالغة. ولا يجوز أن يقول أنه محمول على الضرورة بأنه لو قيل: وإنما أدافع عن أحسابهم أو مثلي لانكسر البيت؛ لأنه كان يصح أن يقال "إنما أدافع عن أحسابهم أنا" على أن يكون "أنا" تأكيدًا، وليست "ما" موصولة اسم أن "وأنا" خبرها إذ لا ضرورة في العدول عن لفظ "من" إلى لفظ "ما"؛ لأنه قصور في المدح في مقام يحتاج للمبالغة. "والشاهد في البيت انفصال الضمير وهو أنا، بعد إنما؛ لأنها بمعنى ما وإلا". 2 البيت في الكتاب لسيبويه "179 جـ1"، 58 صناعتين، 127 مفتاح، 260 دلائل، التقطير الإلقاء على الأرض. والشاهد في البيت أيضًا انفصال الضمير: أنا، مع إنما.

قد علمت سلمى وجاراتها ... ما قطر الفارس إلا أنا قال السكاكي1: ويذكر لذلك وجه لطيف يسند إلى علي بن عيسى الربعي وهو أنه لما كانت كلمة إن لتأكيد إثبات المسند للمسند إليه، ثم اتصلت بها ما المؤكدة2، لا النافية كما يظنه من لا وقوف له على علم النحو، ناسب أن يضمن معنى القصر؛ لأن القصر ليس إلا تأكيدًا على تأكيد فإن قولك "زيد جاء لا عمرو" لمن يردد المجيء الواقع بينهما يفيد إثباته لزيد في الابتداء صريحًا وفي الآخر ضمنًا. 4- ومنها التقديم: 3

_ 1 راجع 126 من المفتاح. 2 فإن لتأكيد الإثبات وما لتوكيد النفي. 3 أي تقديم ما حقه التأخير، وهذا احتراز عما وجب تقديمه لصدارته كأين ومتى راجع 127 من المفتاح. ملاحظات: 1 المقصور عليه في التقديم هو المقدم دائمًا. وفي إنما هو المؤخر، وفي ما وإلا هو ما بعد إلا. 2 الذي يقدم أما: مسند إليه: وقد سبق في باب المسند إليه شرح رأي عبد القاهر والسكاكي فيه، أو مسند وقد سبق في باب المسند، أو قيد من القيود كالمعمول الذي تقدم على الفعل أو غيره، أو بعض المعمولات التي تقدم على بعض. 3- تقديم المسند إليه أو المسند قد يفيد القصر كما سبق في البابين. 4 يلزم من تقديم القيود التخصيص غالبًا مثل: إلى الله أشكو لا إلى الناس إنني ... أرى الدهر يفنى والأخلاء تذهب قصر صفة على موصوف قصر حقيقي تحقيقي. 5 تقديم بعض المعمولات على بعض في إفادته القصر خلاف بين الجمهور وابن الأثير والراجح أنه لا يفيد القصر.

كقولك في قصر الموصوف على الصفة: أفرادًا "شاعر هو" لمن يعتقده شاعرًا وكاتبًا، وقلبًا "قائم هو" لمن يعتقده قاعدًا1. وفي قصر الصفة على الموصوف أفرادًا "أنا كفيت مهمك" بمعنى وحدي لمن يعتقد أنك وغيرك كفيتما مهمة، "وقلبا" أنا كفيت مهمك بمعنى لا غيري لمن يعتقد أن غيرك كفى مهمه دونك كما تقدم2. فروق بين طرق القصر: وهذه الطرق تختلف3 من وجوه:

_ 1 ففي المثالين قصر المسند إليه على المسند. 2 ففي المثالين قصر المسند على المسند إليه. ملاحظه: تقييد التقديم بما حقه التأخير غير ظاهر على رأي عبد القاهر المصنف من أن تقديم المسند إليه يفيد عندهما القصر حيث كان المسند فعليًّا، إلا أن بني التقييد على الغالب. هذا وتقديم المعمول على الفعل يفيد القصر غالبًا سواء بقي بعد التقديم على حاله من مفعولية مثلًا أم لم يبق على حاله مثل "أنا كفيت مهمك" على مذهب السكاكي حيث يعتبر "أنا" تأكيدًا. 3 رجع 127 من المفتاح. ويلاحظ أن هذه الطرق تشترك كلها في شيء واحد هو إفادة القصر.

الأول: أن دلالة الثلاثة الأولى1 بالوضع 2، دون الرابع3. والثاني: أن الأصل في الأول4 أن يدل على المثبت والمنفي جميعًا بالنص، فلا يترك ذلك إلا كراهة الإطناب في مقام الاختصار، كما إذا قيل "زيد يعلم النحو والتصريف والعروض والقوافي". "وزيد يعلم النحو وعمرو وبكر وخالد"، فتقول فيهما "زيد يعلم النحو لا غير"، وفي معناه "ليس إلا"، أي "لا غير النحو5".

_ ملاحظة: من طرق القصر: تعريف الطرفين: مثل محمد الفائز. والمعرف بلام الجنس هو المقصور مطلقًا تقدم أو تأخر. وضمير الفصل. 1 أي على القصر، وهي. العطف -ما وإلا- إنما. 2 لأن الواضع وضعها لمعان -وهي إثبات المذكور ونفي ما سواه وذلك يفيد القصر، وقيل وضعها للقصر لا لمعان تفيده. 3 وهو التقديم فدلالته على القصر بالذوق والفحوى -أي مفهوم الكلام وما يفهم منه عند البلغاء من الأسرار، بمعنى أنه إذا تأمل صاحب الذوق السليم في الكلام الذي فيه التقديم فهم فيه القصر وإن لم يعرف اصطلاح البلغاء في إفادة التقديم للقصر. 4 وهو طريق العطف. 5 أي لا الصرف ولا العروض، ويكون من قصر الموصوف على الصفة.

"ولا غير زيد"1 وأما الثلاثة الباقية2 فتدل بالنص على المنبت دون3 المنفي. والثالث: أن النفي لا يجامع الثاني4؛ لأن شرط المنفي بلا أن لا يكون منفيًّا قبلها بغيرها5.

_ 1 أي لا عمرو ولا بكر. ويكون من قصر الصفة على الموصوف هذا وقد حذف المضاف إليه من غير هنا، وبني غير على الضم تشبهًا بالغايات -قبل وبعد- وذكر بعض النحاة أن "لا" في لا غير ليست عاطفة بل لنفي الجنس. 2 إنما -ما وإلا- التقديم. 3 أي النص على المثبت له الحكم في قصر الصفة والمثبت لغيره في قصر الموصوف. فلا يصرح فيها بالنفي وإنما تدل عليه ضمنًا. فالنص على المنفي في شيء من الطرق الثلاثة خروج عن الأصل كقولك ما أنا قلت هذا أي لم أقله بل هو مقول لغيري وكقولك "ما زيدًا ضربت" أي لم أضربه وضربه غيري إذ لقصد فيهما قصر الفعل على غير المذكور لا قصر عدم الفعل على المذكور. 4 أي النفي بلا العاطفة فقط لا يجتمع مع الطريق الثاني وهو ما وإلا، أي يجتمع طريق العطف بلا مع طريق ما وإلا في كلام واحد. فلا يصح أن تقول ما زيد إلا قائم لا قاعد. وقد يقع مثل ذلك في كلام غير البلغاء هذا وراجع ذلك في 127 المفتاح، 266 من الدلائل وما بعدها. 5 أي بغير شخصها، سواء كان غير منفي أصلًا أو كان منفيًّا بغير أدوات النفي كالفحوى أو علم المتكلم أو السامع والممتنع ما إذا كان المنفي بها منفيا قبلها بغيرها من أدوات النفي كما وليس ولا التي لنفي الجنس ولا عاطفة أخرى مماثلة للا التي وقع النفي بها. فشرط المنفي بلا إذا إلا يكون منفيًّا قبلها بغيرها من أدوات النفي؛ لأنها موضوعة لأن تنفي بها أو لا ما أو جبته للمتبوع كما في جاء زيد لا عمرو لا لأن تعيد بها النفي في شيء قد نفيت - أي بلفظ ما عنه كل صفة وقع فيها التنازع حتى كأنك قلت ليس هو بقاعد ولا نائم ولا مضطجع ونحو ذلك فإذا قلت لا قاعد فقد نفيت عنه بلا العاطفة شيئًا هو منفي قبلها بما النافية، وكذلك الكلام في ما يقوم إلا زيد. وقولنا بغيرها يعني من أدوات النفي على ما صرح به في المفتاح وفائدته الاحتراز عما إذا كان منفيًّا بفحوى الكلام أو علم المتكلم أو السامع أو نحو ذلك من الأفعال المتضمنة للنفي كأبى وامتنع. لا يقال هذا يقتضي جواز أن يكون منفيًّا قبلها بلا العاطفة الأخرى نحو جاءني الرجال لا النساء لا هند؛ لأننا نقول الضمير في "بغيرها" لذلك الشخص أي بغير لا العاطفة التي نفى بها ذلك المنفي، ومعلوم أنه يمتنع نفيه قبلها بها لامتناع أن ينفي شيء بلا قيل الاتيان بها وهذا كما يقال دأب الرجل الكريم ألا يؤذي غيره فهذا نظير ذلك في أن الضمير في كل عائد على الشخص فإن المفهوم من هذا أن لا يؤذي غيره سواء كان ذلك الغير كريمًا أم غير كريم.

ويجامع1 إلا خبرين2 فيقال إنما زيد كاتب لا شاعر، وهو يأتيني لا عمرو3؛ لأن النفي فيهما4 غير مصرح به5، كما يقال

_ 1 أي النفي بلا العاطفة. 2 أي إنما والتقديم، ويكون القصر مستفادًا منهما، والعطف بلا تأكيد ولا ينسب له القصر لتعينه. وأما إن اجتمع التقديم مع إنما مثل إنما شاعر هو فإن القصر ينسب للتقديم عند الشارح؛ لأنه أقوى وعند السيد لأنما؛ لأنها أقوى. 3 التقديم في هذا المثال عند السكاكي للتقوي أو للتخصيص، وإما على خلاف مذهبه فهو مسند إليه واقع في محله لا تقديم فيه فالتقديم هنا مبني على مذهب السكاكي. 4 أي في الأخيرين: إنما والتقديم. 5 أي فلا يكون المنفي بلا العاطفة منفيًّا بغيرها من أدوات النفي هذا والنفي في النفي والاستثناء مصرح به فلا يصح اجتماع العطف بلا معه؛ لأن المنفي بلا العاطفة حينئذ منفي قبلها بغيرها من أدوات النفي.

"امتنع زيد عن المجيء" لا عمر"1. قال السكاكي2: شرط مجامعته3 للثالث4 أن لا يكون الوصف مختصًّا بالموصوف5: كقوله 6 تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} ، فإن كل عاقل يعلم أن الاستجابة لا تكون إلا ممن يسمع، وكذلك قولهم "إنما يعجل من يخشى الفوت". وقال الشيخ عبد القاهر7: "لا تحسن مجامعته له8 في المختص9 كما تحسن في غير

_ 1 فإنه يدل على نفي المجيء عن زيد لكن لا صريحًا بل ضمنًا وإنما معناه الصريح هو إيجاب امتناع المجيء عن زيد فيكون لا نفيًا لذلك الإيجاب والتنبيه بقوله امتنع زيد عن المجيء لا عمرو من جهة أن النفي الضمني ليس في حكم النفي الصريح، لا من جهة أن المنفي بلا العاطفة منفي قبلها بالنفي الضمني كما في إنما أنا تميمي لا قيسي، إذ لا دلالة لقولنا امتنع زيد عن المجيء على نفي امتناع مجيء عمرو لا ضمنًا ولا صريحًا. 2 راجع ص127 من المفتاح. 3 أي مجامعة النفي بلا العاطفة. 4 أي إنما. ويلاحظ أن الخطيب يجيز اجتماع لا العطف مع إنما بلا شرط. أما السكاكي فيجيزه بشرط. أما عبد القاهر فيجعل هذا الشرط شرطًا للتحسين لا للصحة. 5 هذا في قصر الصفة على الموصوف، ومثله قصر الموصوف على الصفة فالشرط فيه إلا يكون الموصوف مختصًّا بتلك الصفة فلا يقال إنما المتقي ممتثل أو امر الدين لا الشيطان مثلًا. وهذا الشرط عند السكاكي إنما هو لتحصل الفائدة. وظاهر الكلام جواز ذلك في صورة التقديم. 6 هذا مثال للنفي، أي فلا يصح أن يقال "لا الذين لا يسمعون"؛ لأن الاستجابة لا تكون إلا ممن يسمع ويعقل، بخلاف "إنما يقوم زيد لا عمرو" إذ القيام ليس مما يختص بزيد. 7 راجع 271 من الدلائل. 8 أي مجامعة النفي بلا العاطفة؛ لأنما. 9 أي في الوصف المختص بالموصوف.

المختص" وهذا أقرب1: قيل2: ومجامعته له إما مع التقديم كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِر} ، وإما مع التأخير كقولك: ما جاءني زيد وإنما جاءني عمرو. وفي كون هذين مما نحن فيه نظر3. الرابع4 أن أصل الثاني5 أن يكون ما استعمل فيه مما يجهله المخاطب وينكره 6، كقولك لصاحبك وقد رأيت شبحًا من بعيد

_ 1 أى إلى الصواب إذ لا دليل على الامتناع عند قصد زيادة التحقيق والتأكيد فالخلاصة أنه: يجوز اجتماع العطف بلا مع إنما بلا شرط عند الخطيب. وبشرط أن لا يكون الوصف مختصًّا بالموصوف عند السكاكي. وعند عبد القاهر يستحسن أن لا يكون الوصف مختصًّا بالموصوف. 2 راجع 271 من الدلائل. 3 لأن الكلام في النفي بلا العاطفة ولا دليل على امتناع نحو "ما زيد إلا قائم ليس هو بقاعد"، وفي التنزيل وما أنت بمسمع من في القبور أن أنت إلا نذير. ملاحظة: النفي في جملة تامة يجتمع مع النفي والاستثناء ومع إنما ومع التقديم، مثل إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر، ونحو ما جاءني محمود وإنما جاءني سعيد. أما النفي بلا العاطفة للمفرد فهذا هو ما سبق أن ذكرنا أنه يقارن إنما والتقديم، ولا يصح أن يقارن ما وإلا. 4 راجع 128 المفتاح. 5 أي ما وإلا راجع 255 وما بعدها من الدلائل. 6 يلاحظ أن قصر التعيين لا إنكار فيه، فمجيء الإنكار فيه على خلاف الأصل. وهذا بخلاف إنما فإن أصلها أن يكون ما استعمل فيه مما يعلمه المخاطب ولا ينكره. فالفرق بين الطريقين يكون محل الأول مما يحتاج فيه إلى التأكيد ومحل الثاني مما لا يفتق إلى ذلك، وإلا فلا بد من الجهل والإنكار فيهما، فالمراد بما يجهله أن يكون شأنه مجهولًا وليس المراد الجهل بالفعل فقط؛ لأنه شرط في القصر مطلقًا بأي طريق، ولذلك قالوا إن كلام الخطيب فيه بحت؛ لأن المخاطب إذا كان عالمًا بالحكم ولم يكن حكمه مشوبًا بخطألم يصح القصر بل لا يفيد الكلام سوى لازم الفائدة -وهي أعلام المخاطب أن المتكلم عارف بالحكم-، ثم أجابوا عن ذلك بأن مراده أن وإنما، تكون لخبر من شأنه إلا يجهله المخاطب ولا ينكره حتى أن إنكاره يزول بأدنى تنبيه لعدم إصراره عليه وعلى هذا يكون موافقًا لما في المفتاح.

"ما هو إلا زيد" إذا وجدته يعتقده غير زيد ويصر على الإنكار، وعليه قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّه} . وقد ينزل المعلوم منزلة المجهول لاعتبار مناسب فيستعمل1 له الثاني2 أفرادًا3 نحو: {ومَا محَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} . [آل عمران: 144] ، أي أنه صلى الله عليه وسلم مقصور على الرسالة لا يتعداها إلى التبري من الهلاك4 نزل استعظامهم هلاكه منزلة إنكارهم إياه 5، ونحوه: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ}

_ 1 أي لذلك المعلوم. 2 أي ما وإلا. 3 أي حالة كونه قصر أفراد. 4 فالمخاطبون وهم الصحابة كانوا عالمين بكونه مقصورًا على الرسالة غير جامع بين الرسالة والخلود، وهو التبري من الهلاك والموت لكنهم لما كانوا يعدون هلاكه وموته أمرًا عظيمًا نزل استعظامهم لموته منزلة إنكارهم إياه. 5 فالقصر في الآية قصر أفراد مبني على التنزيل المذكور تنزيل المعلوم منزلة المجهول لغرض بلاغي هو الأنباء بعظم موته صلى الله عليه وسلم، في نفوسهم وشدة حرصهم على بقائه، صلى الله عليه وسلم، معهم وهي من قصر الموصوف على الصفة، ومن العلماء من يجعل الآية قصر قلب وتقديره عندهم وما محمد إلا رسول لا إله، نزل استعظامهم موته منزلة دعوى ألوهيته واعتقاد الألوهية ينافي اعتقاد الرسالة، وهذا وجه بعيد. ومنهم من يرى أن القصر فيها قصر قلب لكن بملاحظة الوصف وهو وقد خلت من قبله الرسل. والتقدير. وما محمد إلا رسول يخلو كما خلت قبله الرسل وليس رسولًا لا يخلوكما خلت من قبله الرسل أي هو رسول يموت كغيره وذلك بتنزيلهم منزلة من يعتقد أنه رسول يخلد ولا يموت، هذا وراجع الآية في 125 المفتاح.

فإنه صلى الله عليه وسلم كان لشدة حرصه على هداية الناس يكرر دعوة الممتنعين على الإيمان ولا يرجع عنها، فكان في معرض من ظن أنه يملك مع صفة الإنذار إيجاد الشيء فيما يمتنع قبوله إياه1 أو قلبًا كقوله تعالى حكاية عن بعض الكفار: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أي أنتم بشر لا رسل، نزلوا المخاطبين منزلة من ينكر أنه بشر، لاعتقاد القائلين أن الرسول لا يكون بشرًا مع إصرار المخاطبين على دعوى الرسالة2، وأما قوله تعالى حكاية عن الرسل: {إنْ نَحْنُ إلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11] ، فمن مجاراة الخصم للتبكيت والإلزام والإفحام، فإن من عادة من ادعى عليه خصمه الخلاف في أمر هو لا يخالف فيه أن يعيد كلامه على وجهه، كما إذا قال لك من يناظرك "أنت من شأنك كيت وكيت"، فتقول: نعم أنا من شأني كيت وكيت ولكن لا يلزمني من أجل ذلك ما ظننت أنه يلزم، فالرسل عليهم السلام.

_ 1 فالآية قصر موصوف على صفة قصر أفراد مبني على التنزيل، تنزيل المعلوم منزلة المجهول لغرض بلاغي اقتضاه المقام. وراجع الآية في 128 مفتاح، 257 دلائل. 2 فالمخاطبون وهم الرسل لم يكونوا جاهلين بكونهم بشرًا ولا منكرين لذلك لكنهم نزلوا منزلة المنكرين لاعتقاد القائلين -وهم الكفار- أن الرسول لا يكون بشرًا مع إصرار المخاطبين على دعوى الرسالة، فنزلهم القائلون منزلة المنكرين للبشرية لما اعتقدوا اعتقادًا فاسدًا من التنافي بين الرسالة والبشرية فقالوا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} ، أي مقصورون على البشرية ليس لكم وصف الرسالة التي تدعونها، فالآية من قصر الموصوف على الصفة قصرًا إضافيًّا -قصر قلب، قيل ويمكن أن تكون الآية قصر أفراد جريًا على الظاهر من غير تنزيل، أي ما اجتمعت لكم البشرية والرسالة، أو قصر قلب بلا تنزيل أيضًا أي أنتم بشر مثلنا لا بشر أعلى منا بالرسالة. هذا وراجع الكلام على الآية في ص128 من المفتاح 256 من الدلائل.

كأنهم قالوا إن ما قلتم من أنا بشر مثلكم هو كما قلتم لا ننكره ولكن ذلك لا يمنع أن يكون الله تعالى قد من علينا بالرسالة1 ... وأصل الثالث2 أن يكون ما استعمل له مما يعلمه المخاطب ولا ينكره على عكس الثاني، كقولك: "إنما هو أخوك"، "وإنما هو صاحبك القديم" لمن يعلم ذلك ويقر به وتريد أن ترققه3 عليه وتنبهه لما يجب عليه من حق الأخ وحرمة الصاحب، وعليه قول أبي الطيب "في كافور"4: إنما أنت والد والأب القا ... طع أحنى من واصل الأولاد لم يرد أن يعلم كافورًا أنه بمنزلة الوالد، ولا ذاك مما يحتاج كافور فيه إلى الإعلام ولكنه أراد أن يذكره منه بالأمر المعلوم ليبني عليه استدعاه ما يوجبه ... وقد ينزل المجهول لمنزلة المعلوم5 لادعاء المتكلم ظهوره فيستعمل له الثالث6، نحو: {إِنَّمَا نَحْنُ 7 مُصْلِحُون} ادعوا أن كونهم مصلحين ظاهر جلي، ولذلك جاء: {أَلا إِنَّهُمْ هُم

_ 1 فلهذا أثبتوا البشرية لأنفسهم، وأما إثباتها بطريق القصر فليكون على وفق كلام الخصم. 2 أي إنما. والثاني أي الطريق الثاني "وهو ما وإلا". 3 أي أن يجعل من يعلم ذلك رقيقًا مشفقًا على أخيه، والأولى بناء على ما ذكرنا -من أن إنما تستعمل في مجهول شأنه أن لا يجهله المخاطب ولا ينكره حتى إن إنكاره يزول بأدنى تنبيه- أن يكون هذا المثال من الإخراج لا على مقتضى الظاهر، فيكون المصنف لم يمثل لإخراج إنما على مقتضى الظاهر. 4 راجع البيت والكلام عليه في الدلائل ص254. 5 فإنما موضوعه للقصر في: 1- الحكم المعلوم الذي لا ينكر والغرض منها حينئذ التعريض. 2- الحكم المجهول الذي يدعي أن فيه فضل انكشاف وجلاء، والغرض منها حينئذ الرد على المخاطب أو التعريض. هذا رأي عبد القاهر. والسكاكي يرى أنها لا تستعمل إلا في الثاني. 6 أي إنما. 7 راجع 274 من الدلائل.

المفسدون" للرد عليهم مؤكدًا بما ترى: من جعل الجملة اسمية وتعريف للخبر1 باللام وتوسيط الفصل والتصدير بحرف التنبيه ثم بأن، ومثله قول الشاعر2: إنما مصعب شهاب من الل ... ـه تجلت عن وجهه الظلماء ادعى أن كون "مصعب" كما ذكر جلي معلوم لكل أحد، على عادة الشعراء إذا مدحوا أن يدعوا في كل ما يصفون به ممدوحيهم الجلاء وأنهم قد شهروا به حتى أنه لا يدفعه أحد، كما قال الآخر3: وتعذلني أفناء سعد عليهم ... وما قلت إلا بالتي علمت سعد وكما قال البحتري4: لا أدعي لأبي العلاء فضيلة ... حتى يسلمها إليه عداه "الخامس": واعلم: أن لطريق "إنما"5 مزية على العطف، وهي أنه يعقل

_ 1 الدال على الحصر أي قصر المسند على المسند إليه والمعنى لا مفسد إلا هم كما تقرر من أن تعريف الخبر وضمير الفصل لقصر المسند على المسند إليه. 2 عبيد الله بن قيس بن الرقيات في مصعب بن الزبير بن العوام: والبيت في المفتاح ص128 وفي الدلائل ص255 وص24 جـ1 من العقد الفريد، 399 جـ1 من الكامل للمبرد. وتجلت: أي تكشفت. 3 وهو الحطيئة. سعد قبيلة. أفناء: جماعات، جمع فيء. وراجع البيت في 153 جـ4 زهر الآداب، 128 المفتاح، 255 الدلائل. 4 البيت في الدلائل ص255 و376 وفي المفتاح أيضًا ص128. 5 ومثلها في ذلك التقديم وما وإلا. وهذا يعتبر فرقًا آخر بين طريق القصر. وراجع في ذلك 258 من الدلائل.

منها1 إثبات الفعل لشيء ونفيه عن غيره دفعة واحدة بخلاف العطف2. "مواقع إنما" 3: وإذا استقريت وجدتها أحسن ما يكون موقعًا إذا كان الغرض بها التعريض4 بأمر هو مقتضى معنى الكلام بعدها، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أو لُو الْأَلْبَاب} ، فإنه تعريض بذم الكفار وإنهم من فرط الغباء وغلبة الهوى عليهم في حكم من ليس بذي عقل فأنتم في طمعكم منهم أن ينظروا ويتذكروا كمن طمع في ذلك من غير أو لي الألباب، وكذا قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} ، وقوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} ، المعنى على أن من لم تكن له هذه الخشية فكأنه ليس له أذن تسمع وقلب يعقل فالإنذار معه كلا إنذار. قال الشيخ عبد القا هر: ومثل ذلك. من الشعر قوله: أنا لم أرزق محبتها ... إنما للعبد ما رزقا5 فإنه تعريض بأنه قد علم أنه لا مطمع له في وصلها فيئس من أن

_ 1 أي من إنما. 2 فإنه يفهم منه أو لًا الإثبات ثم النفي نحو زيد قائم لا قاعد وبالعكس نحو ما زيد قائمًا بل قاعدًا. 3 راجع 272-274 من الدلائل. 4 وهو استعمال الكلام في معناه ملوحًا به إلى غيره ليفهم منه معنى آخر وسر ذلك أنها لإفادة حكم معلوم أو من شأنه أن يكون معلومًا وذلك لا يهم المخاطب بخلاف المعنى الآخر الملوح إليه فإنه أهم لكون المخاطب جاهلًا به. 5 البيت للعباس بن الأحنف. وهو في الدلائل ص272.

يكون منها إسعاف به، وقوله1: وإنما يعذر العشاق من عشقا يقول ينبغي للعاشق أن لا ينكر لوم من يلومه، فإنه لا يعلم كنه بلوى العاشق، ولو كان قد ابتلي بالعشق مثله لعرف ما هو فيه فعذره وقوله2: ما أنت بالسبب الضعيف وإنما ... نجح الأمور بقوة الأسباب فاليوم حاجتنا إليك وإنما ... يدعى الطبيب لساعة الأوصاب يقول في البيت الأول أنه ينبغي أن أنجح في أمري حين جعلتك السبب إليه، وفي الثاني أنا قد طلبنا الأمر من جهته حين استعنا بك فيما عرض لنا من الحاجة، وعولنا على فضلك كما أن من عول على الطبيب فيما يعرض من السقم كان قد أصاب في فعله. "قصر الفاعل على المفعول وعكسه3": ثم القصر كما يقع بين المبتدأ والخبر كما ذكرنا يقع بين الفعل والفاعل وغيرهما 4، ففي طريق النفي والاستثناء يؤخر المقصور عليه.

_ 1 هو أيضًا للعباس بن الأحنف وهو من قصر الصفة على الموصوف. 2 هو أحمد بن أبي دؤاد "راجع ص4 ملحق الفهرست لابن النديم"، أو الباخرزي، أو محمد بن أحمد بن سليمان كما في معجم الشعراء ص447. والبيتان في الدلائل ص273. السبب: ما يتوصل به إلى غيره. الأوصاب: جمع وصب وهو المرض. 3 را جع 125 و129 من المفتاح، 265 من الدلائل. 4 كالفاعل والمفعول نحو ما ضرب زيد إلا عمرًا وما ضرب عمرًا إلا زيد، وكالمفعولين نحو ما أعطيت زيدًا إلا درهمًا وما أعطيت درهمًا إلا زيدًا وغير ذلك من المتعلقات ما عدا المصدر المؤكد فإنه لا يقع القصر بينه وبين الفعل إجماعًا وما عدا المفعول معه والنسق.

مع حرف الاستثناء1، كقولك في قصر الفاعل على المفعول أفرادًا أو قلبًا بحسب المقام ما ضرب زيد إلا عمرًا، وعلى الثاني2 لا الأول قوله تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إلَّا مَا أمَرْتَنِي بِهِ أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [الأنعام: 117] ؛ لأنه ليس المعنى أني لم أزد على ما أمرتني به شيئًا3 إذ ليس الكلام في أنه زاد شيئًا على ذلك أو نقص منه، ولكن المعنى أني لم أترك ما أمرتني به أن أقول لهم إلى خلا فه4؛ لأنه قاله في مقام اشتمل على معنى أنك يا عيسى تركت ما أمرتك أن تقوله إلى ما لم آمرك أن تقول، فإني أمرتك أن تدعو الناس إلى أن يعبدوني ثم إنك دعوتهم إلى أن يعبدوا غيري بدليل قوله تعالى: {أأنْتَ قُلْتَ لِلنَّاس اتَّخِذُونِي وَأمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَال} [المائدة: 116] ، وفي قصر5 المفعول على الفاعل "ما ضرب عمرًا إلا زيد6"، وفي قصر المفعول الأول على الثاني في نحوكسوت

_ 1 لو أريد القصر على الفاعل قيل ما ضرب عمرًا إلا زيد ولو أريد القصر على المفعول ما ضرب زيد إلا عمرًا. 2 أي قصر القلب: والأول هو قصر الأفرا د. 3 أي حتى يكون القصر للأفراد. 4 أي فالقصر هنا للقلب. ملاحظة: قصر الفاعل على المفعول مثل ما ضرب زيد إلا عمرًا، يحتمل أن يكون من قصر الصفة على الموصوف أو من قصر الموصوف على الصفة: فعلى أنه قصر صفة على موصوف يكون التقدير ما مضروب زيد إلا عمرو وعلى أنه قصر موصوف على صفة يكون التقدير ما زيد إلا ضارب عمرو فيجوز تقديره على حصر فعله في المفعول أو حصر الفاعل في فعله المتعلق بالمفعول. 5 راجع ص129 من المفتاح. 6 وهذا أيضًا يحتمل أن يكون من قصر الصفة على الموصوف أو من قصر الموصوف على الصفة. فعلى أنه من قصر الصفة على الموصوف يكون التقدير ما ضارب عمرو إلا زيد. وعلى أنه من قصر الموصوف على الصفة يكون التقدير ما عمرو إلا مضروب زيد فيجوز تقدير حصر فعله في الفاعل أو حصر المفعول في فعله المتعلق بالفاعل.

وظننت في ما كسوت زيدًا إلا جبة، "وما ظننت زيدًا إلا منطلقًا" وفي قصر الثاني على الأول ما كسوت جبة إلا زيدًا وما ظننت منطلقًا إلا زيدًا، وفي قصر ذي الحال على الحال ما جاء زيد إلا راكبًا وفي قصر الحال على ذي الحال ما جاء راكبًا إلا زيد. والوجه1 في جميع ذلك أن النفي في الكلام الناقص أعني الاستثناء المفرغ2 يتوجه إلى مقدر3 هو مستثنى منه عام4 مناسب للمستثنى في جنسه5 وصفته6. أما توجهه إلى مقدر هو مستثنى منه فلكون إلا للإخراج واستدعاء الإخراج مخرجًا منه، وأما عمومه فليتحقق الإخراج منه، ولذلك قيل تأنيث المضمر في كانت على قراءة أبي جعفر المدني إن كانت إلا صيحة بالرفع وفي ترى مبنيًّا للمفعول في قراءة الحسن فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم برفع مساكنهم، وفي بقيت في بيت ذي الرمة.

_ 1 أي الوجه والسبب في إفادة ما وإلا القصر فيما بين المبتدأ والخبر والفاعل والمفعول وغير ذلك، وهذا تعليل ثان لسر إفادة ما وإلا القصر والتعليل الأول قد سبق عند قوله "وتحقيق وجه القصر في الأول أنه متى قيل ما زيد إلخ". 2 وهو ما حذف فيه المستثنى منه وتخصيص المفرغ بالذكر؛ لأن التام ليس من طريق الحصر بل بمنزلة إفادة الحصر بغير أداة، ولو قيل باستوائها في إفادة القصر لما كان ذلك رأيًا بعيدًا. 3 أي في المعني لا في الصناعة. 4 ليتناول المستثنى وغيره فيتحقق الإخراج. 5 بأن يقدر في نحو ما ضرب إلا زيد ما ضرب أحد وفي نحو ما كسوته إلا جبة ما كسوته لباسًا إلخ. 6 يعني في الفاعلية والمفعولية والحالية ونحو ذلك.

وما بقيت إلا الضلوع الجراشع1 للنظر إلى ظاهر اللفظ. والأصل التذكير لاقتضاء المقام معنى شيء من الأشياء. وأما مناسبته2 في جنسه وصفته فظاهرة؛ لأن المراد بجنسه أن يكون في نحو "ما ضرب زيد إلا عمرًا، أحدًا"3، وفي نحو قولنا "ما كسوت زيدًا إلا جبة لباسًا" وفي نحو ما جاء زيد راكبًا، كائنًا على حال من الأحوال" وفي نحو "ما اخترت رفيقًا إلا منكم" من جماعة من الجماعات، ومنه قول السيد الحميري.

_ 1 راجع البيت في المفتاح ص129 وصدره: طوى النجز والأجراز ما في غروضها طوى أضمر. النجز: الدفع والنخس. الأجراز جمع جرز وهي الأرض اليابسة غروضها أي أحزمتها جمع غرض بفتح فسكون. الجراشع المنتفخة الغليظة جمع جرشع بضم الجيم والشين. 2 أي مناسبة المستثنى منه المقدر للمستثنى المذكور. 3 أحدًا، خبر يكون واسمها مقدر تقديره أن يكون المقدر أحدًا. ملاحظات: 1 معنى قصر الفاعل على المفعول كما سبق قصر الفعل المسند إلى الفاعل بعد تحويل صيغته إلى اسم المفعول -على المفعول فيكون قصر صفة على موصوف. أو قصر الفاعل على الفعل المتعلق بالمفعول فيكون قصر موصوف على صفة أو قصر الفعل على المفعول بتأويل أنه مقصور على تعلقه وارتباطه بذلك المفعول. 2 ومعنى قصر المفعول على الفاعل قصر الفعل المتعلق بالمفعول على الفاعل فيكون قصر صفة على موصوف. أو قصر المفعول على الفعل المتعلق بالفاعل فيكون قصر موصوف على صفة. 3 وعلى هذا قياس البواقي فإنها ترجع أيضًا إلى قصر الموصوف على الصفة وقصر الصفة على الموصوف، وتكون مثلهما قصرًا حقيقيًّا وإضافيًّا: أفرادًا وقلبًا وتعيينًا، ولا يخفى اعتبار ذلك. 4 المقصور عليه في ما وإلا هو الواقع بعد إلا والسر في تأخيره أن القصر أثر على الحرف "إلا" ويمتنع ظهور أثر الحرف قبل وجوده. 5 قصر المسند إليه على الخبر وعكسه واضحان لا خفاء فيهما.

لو خير المنبر فرسانه ... ما اختار إلا منكم1 فارسًا لما سيأتي إن شاء الله تعالى أن أصله "ما اختار فارسًا إلا منكم والمراد بصفته كونه فاعلًا أو مفعولًا أو ذا حال أو حالًا، وعلى هذا القياس. وإذا كان النفي متوجهًا إلى ما وصفناه فإذا أو جب2 منه شيء جاء القصر3. هل يقدم المقصور عليه مع إلا؟ 4. ويجوز تقديم المقصور عليه مع حرف الاستثناء بحالهما5 على المقصور، كقولك، ما ضرب6 إلا عمرًا زيد، وما ضرب إلا زيد عمرًا7 وما كسوت إلا جبة زيدًا، وما ظننت إلا زيدًا منطلقًا، وما جاء إلا راكبًا زيد، وما جاء إلا زيد راكبًا. وقولنا "بحالهما" احتراز من إزالة حرف الاستثناء عن مكانه بتأخيره عن المقصور عليه، كقولك في الأول8 ما ضرب عمرًا إلا زيدًا، فإنه يختل المعنى9 فالضابط

_ 1 راجع ص130 من المفتاح. 2 أي من ذلك المقدر. وراجع ذلك في 130 من المفتاح، 369 من الدلائل. 3 ضرورة بقاء ما عداه على صفة الانتفاء. 4 راجع 130 مفتاح، 269 من الدلائل. 5 وهو أن يلي المقصور عليه الأداة. 6 في قصر الفاعل على المفعول. 7 في قصر المفعول على الفاعل. 8 وهو ما ضرب إلا عمرًا زيد. 9 ويؤدي ذلك إلى انعكاس المقصود: لأن الصفة المقصورة على الفاعل في قصر المفعول على الفاعل، ومثلها الصفة المقصورة على المفعول في قصر الفاعل على المفعول، وهي الفعل الواقع على المفعول لا مطلق الفعل فلا يتم المقصود قبل ذكر قصر الصفة لزم ما ذكر، وأما إن كانا من قصر الموصوف لزم على التقديم المفعول فلا يحسن قصره فإن كان قصر الفاعل على المفعول وعكسه من تأخير الموصوف عن جميع الصفة.

أن الاختصاص إنما يقع في الذي يلي إلا. ولكن استعمال هذا النوع أعني تقديمها قليل1، لاستلزامه، قصر الصفة قبل تمامها كالضرب الصادر من زيد في ما ضرب زيدًا إلا عمرًا والضرب الواقع على عمرو في ما ضرب عمرًا إلا زيد2. وقيل إذا أخر المقصور عليه والمقصور عن إلا وقدم المرفوع كقولنا ما ضرب إلا عمرو زيدًا، فهو على كلامين وزيدًا منصوب بفعل مضمر، فكأنه قيل ما ضرب إلا عمرو أي ما وقع ضرب إلا منه، ثم قيل من ضرب فقيل زيدًا أي ضرب زيداً. وفيه نظر لاقتضائه الحصر في الفاعل والمفعول جميعًا3. "موقع المقصور عليه في "إنما": وأما في إنما فيؤخر المقصور عليه تقول إنما زيد قائم4 وإنما

_ 1 وإنما جاز التقديم على قلة نظرًا إلى أنها في حكم التام باعتبار ذكر المتعلق في الآخر. 2 راجع 269 من الدلائل. 3 وذلك؛ لأن "من ضرب" لإيهامه استفهام عن جميع من وقع عليه الفعل، حتى أنك إذا ضربت زيدًا وعمرًا وبكرًا فقيل لك "من ضرب؟ فقلت "زيدًا" لم يتم الجواب حتى تأتي بالجميع، فعلى هذا لا يكون غير عمرو في المثال المذكور مضروبًا لزيد ولم يقع ضرب إلا من زيد فيكون القصر في الفاعل والمفعول جميعًا. 4 فيكون القيد الأخير -وهو ما كان في الآخر جزءًا بالذات عمدة أو فضله، لا ما كان مذكورًا في آخره فقط، فإن الموصول المشتمل على قيود متعددة جزء واحد- الواقع بعد إلا فيكون هو المقصور عليه. هذا وراجع ذلك في الدلائل ص262، 265.

ضر زيد عمرًا، وإنما ضرب زيد عمرًا يوم الجمعة، وإنما ضرب زيد عمرًا يوم الجمعة في السوق، أي ما زيد إلا قائم، وما ضرب إلا زيد وما ضرب زيد إلا عمرًا، وما ضرب زيدًا عمرًا إلا يوم الجمعة وما ضرب زيد عمرًا يوم الجمعة إلا في السوق، فالواقع أخيرًا هو المقصور عليه أبدًا، ولذلك1 تقول إنما هذا لك وإنما لك هذا، أي ما هذا إلا لك وما لك إلا هذا، حتى إذا أردت الجمع بين إنما والعطف فقل إنما هذا لك لا لغيرك، وإنما لك هذا لا ذاك، وإنما أخذ زيد لا عمرو وإنما زيد يأخذ لا يعطي ومن هذا تعثر على الفرق بين قوله2 تعالى: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} [فاطر: 18] ، وقولنا: "إنما يخشى العلماء من عباده الله"، فإن الأول يقتضي قصر خشية الله على العلماء، والثاني

_ 1 راجع 130 مفتاح، 265 من الدلائل. 2 راجع ص130 من المفتاح، 261 من الدلائل: ملاحظة لا يجوز تقديم المقصور عليه بإنما على غيره للإلباس، وإنما جاز ذلك في ما وإلا على قلة لعدم الإلباس بناء على أن المقصور عليه هو المذكور بعد إلا سواء قدم على المقصور أو أخر عنه، وههنا ليس إلا مذكورًا بل الكلام متضمن لمعناه، فلو قلنا في إنما ضرب زيد عمرًا إنما ضرب عمرًا زيد انعكس المعنى، بخلاف ما إذا قلنا في ما ضرب زيد إلا عمرًا ما ضرب إلا عمرًا زيد فإنه يعلم أن المقصور عليه هو المذكور بعد "إلا" قدم أو أخر. وههنا نظر وهو أن تقديم المقصور عليه جائز مع إنما إذا كان نفس التقديم مفيد للقصر، كما في قولنا "إنما زيد ضربت" فإنه لقصر الضرب على زيد قال أبو الطيب: أساميا لم تزده معرفة ... وإنما لذة ذكرناها أي: ما ذكرناها إلا للذة. ويمكن الجواب بأن الكلام فيما إذا كان القصر مستفادًا من "إنما" وهذا ليس كذلك. هذا وقد يقدم المقصور عليه مع إنما أيضًا لعارض نحو إنما قمت أي لا أني قعدت فحصر الفاعل في الفعل مع تقديم الفعل لعدم صحة تقديم الفاعل عليه.

مقتضى قصر خشية العلماء على الله. واعلم أن حكم "غير" حكم إلا في إفادة القصرين، أي قصر الموصوف على الصفة وقصر الصفة على الموصوف2 وفي امتناع مجامعة لا العاطفة3، تقول في قصر الموصوف أفرادًا ما زيد غير شاعر، وقلبًا ما زيد غير قائم، وفي قصر الصفة بالاعتبارين بحسب المقام لا شاعر غير زيد، ولا تقول ما زيد غير شاعر لا كاتب ولا شاعر غير زيد لا عمرو. "والله تعالى أعلم".

_ 1 راجع 130 من المفتاح، 268 من الدلائل. هذا ومثل "غير" سوى. 2 أي أفرادًا وقلبًا وتعيينًا، وتكون للقصر الحقيقي أيضًا. 3 لما سبق من أن شرط المنفي بلا أن لا يكون منفيًّا قبلها بغيرها. فلا يصح ما زيد غير شاعر لا كاتب ولا ما شاعر غير زيد لا عمرو. ملاحظات: 1 من طريق القصر تعريف المبتدأ كما في "المنطلق زيد" على قول، وتعريف الخبر كما في "زيد المنطلق"، فإن اللام هنا تفيد انحصار المخبر به في المخبر عنه. واللام لتعريف المعهود السابق أو لتعريف الحقيقة فيكون وضعه مفيدًا للقصر. وما دخلت عليه أل فهو المقصور فإن دخلت على الطرفين احتمل كل أن يكون هو المقصور وقيل المبتدأ هو المقصور. وراجع أل وإفادتها للقصر في المطول ص175. 2 ضمير الفصل يفيد القصر فهو لقصر المسند على المسند إليه. 3 المقصور عليه في العطف ببل ولكن هو ما بعدهما وأما في العطف بلا فهو المقابل لما بعدها "المعطوف عليه المتقدم".

القول في الإنشاء

القول في الإنشاء مدخل ... القول في الإنشاء 1: الإنشاء ضربان: طلب وغير طلب2.

_ 1 راجع المطول 27، شروح التلخيص ص165 جـ1. والكلام في هذا الباب في المفتاح ص131. وباب الإنشاء تجد في نقد النثر لقدامة بحوثًا كثيرة متصلة به. هذا والإنشاء قد يطلق على نفس الكلام الذي ليس لنسبته خارج نقصد مطابقته أو لا تقصد؟ وقد يقال على ما هو فعل المتكلم أعني الإلقاء والإتيان بمثل هذا الكلام كما إن الأخبار كذلك. فالإنشاء قد يكون بالمعنى الاسمي وقد يكون بالمعنى المصدري. والأظهر أن المراد بالإنشاء في قول المصنف الآتي: "الإنشاء ضربان" هو المعنى المصدري بقرينة تقسيمه إلى الطلب وغير الطلب وتقسيم الطلب إلى التمني والاستفهام وغيرهما والمراد بأنواع الطلبي من التمني وسواه هو معانيها المصدرية -أعني إلقاء مثل هذا الكلام- لا المعاني الاسمية -أعني الكلام المشتمل عليها- بقرينة قوله: "واللفظ الموضوع له كذا وكذا ". لظهور أن لفظ ليت مثلًا مستعمل في معنى هو التمني الذي هو المعنى المصدري أعني الإلقاء، لا نفس "ليت زيد قائم". وإذا كانت هذه الأقسام للإنشاء الطلبي المراد منها معانيها المصدرية كان المقسم -وهو الإنشاء مطلقًا- كذلك. 2 كأفعال المقاربة أي كإلقاء أفعال المقاربة التي تدل على الرجاء وهي عسى وحرى واخلولق، وأفعال المدح والذم كنعم وبئس. وابن السبكي يراهما من الخبر "234/ 2 ابن السبكي"، وصيغ العقود، والقسم أي إلقاء جملة القسم كأقسم بالله، ورب لإفادة إنشاء التقليل -ولكن المتبادر أنها للأخبار، وكفعلي التعجب وكم الخبرية المفيدة لإنشاء التكثير. والإنشاء غير الطلبي لا يبحث عنه هنا لقلة المباحث المناسبة المتعلقة به؛ ولأن أكثره -وهو ما عدا أفعال الترجي والقسم- في الأصل أخبار نقلت إلى معنى الإنشاء.

والطلب1 يستدعي مطلوبًا غير حاصل وقت الطلب لامتناع تحصيل الحاصل2. وهو المقصود بالنظر هنا.

_ 1 المراد بالطلب معناه الاصطلاحي وهو الإلقاء فهو بالمعنى المصدري. 2 فلو استعملت صيغ الطلب لمطلوب حاصل امتنع إجراؤها على معانيها الحقيقية. ويتولد منها بحسب القرائن ما يناسب المقام. مثل: {يَا أيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ} ، [الأحزاب: 1] ، فالمعنى على طلب دوام التقوى.

أنواع الإنشاء الطلبي

أنواع الإنشاء الطلبي: وأنواعه كثيرة1، منها: أولًا: التمني 2. واللفظ الموضوع له ليت3.

_ 1 وهي خمسة: الأمر - النهى - التمني - النداء - الاستفهام. ومنهم من عد الترجي قسمًا سادسًا. ومنهم من أخرج التمني والنداء منها. والترجي ترقب حصول شيء محبوب أو مكروه نحو لعل الحبيب قادم ولعل الصديق مريض. وألفاظه لعل وعسى وحري واخلولق. فهو عند البعض من أقسام الطلب وقيل ليس منها ترقب الحصول. 2 راجع 131 و133 من المفتاح. وهو طلب حصول شيء على سبيل المحبة مع نفي الطماعية في ذلك بأن كان غير ممكن مثل: ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها ... عقود مدح فما أرضي لكم كلمي أو كان ممكنا لكنه بعيد مثل: فيا ليت ما بيين وبين أحبتي ... من البعد ما بيني وبين المصائب وقيل: أن الأصل في التمني أن يستعمل فيما يمكن فيكون استعماله في غيره لمقامات تقتضيه. 3 فهي حروف تصير به نسبة الكلام إنشاء وهي باعتبار ما وضعت له مستلزمة لخبر وهو أن المتكلم يتمنى تلك النسبة. فالإنشاء يستلزم الخبر.

ولا يشترط في التمني الإمكان1، نقول: "ليت زيدًا يجيء"، و"ليت الشباب يعود2" قال الشاعر3: يا ليت أيام الصبا رواجعا وقد يتمنى بها4، كقول القائل: "هل لي من شفيع"، في مكان يعلم أنه لا شفيع له فيه5، لإبراز المتمني لكمال العناية به في صورة الممكن، وعليه قوله تعالى حكاية عن الكفار: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوْا لَنَا} . وقد يتمنى بلو6، كقولك: لو تأتيني فتحدثني بالنصب7

_ 1 أي بل كونه محالًا أو ممكنًا بعيد الوقوع بخلاف الترجي فيشترط فيه الإمكان ومثله الأمر والنهي والاستفهام، فإذا كان المتمنى ممكنا يجب أن لا يكون لك توقع وطماعية في وقوعه وإلا لصار ترجيًا. 2 قال أبو العتاهية وأنشده المبرد في الكامل وثعلب في أماليه أسلم بن غزية: فيا ليت الشباب يعود يومًا ... فأخبره بما فعل المشيب 313 ريحانة الألباب للشهاب الخفاجي". والبيت في البيان والتبيين "46 جـ3" منسوبًا لأبي العتاهية وروايته: فيا ليت الشباب يعود يومًا ... فأخبره بما صنع المشيب 3 هو العجاج. وليت عند الكوفيين تعمل عمل ظن في لغة تميم والبصريون على أن خبرها محذوف تقديره أقبلن رواجعًا مثلًا. 4 راجع 132 من أفتاح. واستعمال هل في التمني من باب الاستعارة التبعية أو المجاز المرسل كما قالوا. ولم لا يكون استعمالها في التمني من مستتبعات التركيب لا غير. 5 لأنه حينئذ يمتنع حمله على حقيقة الاستفهام لحصول الجزم بانتفائه والاستفهام يقتضي عدم الجزم به. ومثال استعمال هل للتمني: هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أو من سبيل إلى نصر بن حجاج 6 راجع 132 من المفتاح، 211/ 2 كامل المبرد. وهذا الاستعمال من التحول على ما قالوه. 7 على تقدير فإن تحدثني، فالنصب قرينة على أن "لو" ليست على أصلها إذ لا ينصب المضارع بعدها بإضمار أن وإنما تضمر بعد الأشياء الستة: التمني - الاستفهام - العرض ودخل فيه التحضيض - الأمر - النهي - النفي، والترجي لا ينصب جوابه خلافًا للكوفيين والدعاء داخل في الأمر، والمناسب هنا التمني. أما أن رفع الفعل بعدها فلا يتعين كونها للتمني بل احتمل. ومثل هذا المثال قول الشاعر: فلو نشر المقابر عن كليب ... فيخبر بالذنائب أي زير

قال السكاكي1: "وكأن حروف التنديم والتحضيض هلا وألا بقلب الهاء همزة ولولا، ولومًا، مأخوذة منهما2 مركبتين مع لا وما المزيدتين لتضمنيهما معنى التمني، ليتولد3 منه4 في الماضي التنديم نحو هلا أكرمت زيدًا، وفي المضارع5 التحضيض نحو هلا تقوم. وقد يتمنى بلعل فتعطي حكم ليت نحو لعلي أحج6 فأزورك بالنصب، لبعد المرجو عن الحصول7 وعليه قراءة عاصم في رواية حفص: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} ، بالنصب8.

_ 1 133 من المفتاح. 2 أي من هل ولو اللتين للتمني حال كونهما مركبتين مع لا وما. 3 مصدر مضاف إلى مفعوله الأول، ومعنى التمني مفعوله الثاني. 4 علة للتضمين أو قوله لتضمينهما، فبأن أن الغرض المطلوب من هذا التركيب والتزامه هو جعل هل ولو متضمنتين معنى التمني، والغرض من تضمينهما معنى التمني ليس إفادة التمني بل أن يتولد إلخ. 5 أي من معنى التمني المتضمنتين هما إياه. 6 الصواب "وفي المستقبل"؛ لأن المضارع الواقع بعد هذه الحروف يحتمل المضي والاستقبال والتحضيض لا تعلق له بالمضارعة بل الاستقبال. 7 ولعل هنا للترجي، والترجي هو ارتقاب الشيء وهو يشمل المحبوب والمكروه فليس من أنواع الطلب حقيقة؛ لأن المكروه لا يطلب، فلا ينصب الجواب بعد لعل إلا إذا استعمل للتمني والتمني في هل ولو معنى مجازي وفي لعل من مستتبعات التركيب. 8 وبهذا يشبه المحالات والممكنات التي لا طماعية في وقوعها فيتواجد منه معنى التمني.

"ثانيًا - الاستفهام": ومنها1 الاستفهام2: والألفاظ الموضوعة له: الهمزة وهل وما ومن وأي وكم وكيف وأين وأنى ومتى وأيان

_ 1 أي من أنواع الإنشاء الطلبي. 2 هو طلب حصول صورة الشيء في الذهن أي بأدوات مخصوصة فيخرج مثل علمني -والمراد بالصورة المعلوم وقيل العلم. فإن كانت الصورة التي طلب حصولها في الذهن وقوع نسبة بين أمرين أي مطابقتها للواقع- أو لا وقوعها -أي عدم مطابقتها للواقع، فحصلوها- أي فإدراك تلك الصورة - هو التصديق. وإلا تكن تلك الصورة وقوع نسبة أو لا وقوعها- بل كانت موضوعًا أو محمولًا أو نسبة مجردة أو اثنتين من هذه الثلاثة أو الثلاثة - فهو التصوير. فالتصديق إدراك مطابقة النسبة الكلامية للواقع أو عدم مطابقتها له. والتصور إدراك الموضوع أو المحمول أو النسبة المجردة أو اثنين من هذه الثلاثة أو الثلاثة. والفرق بين الاستفهام عن التصديق والاستفهام عن التصور هو: 1- الأول حقه أن يؤتي بعده بأم المنقطعة دون المتصلة والثاني بالعكس. 2- الأول يكون عن نسبة تردد الذهن بين ثبوتها وانتفائها والثاني يكون عند التردد في تعيين أحد الشيئين، وهذا هو ضابط الفرق بين أم المتصلة والمنقطعة أيضًا، ومن الفروق بينهما أيضًا أن المتصلة لا تقع إلا بعد استفهام لفظًا ومعنى أو لفظًا فقط والمنقطعة قد لا يأتي قبلها استفهام لا لفظًا ولا معنى، والمنقطعة للتصديق والمتصلة للتصور. وحاصل الفرق الثاني بأن السؤال عن التصديق يكون عن نسبة المحمول للموضوع أو سلبها وعن التصور يكون عن نفس المحمول أو الموضوع.

فالهمزة1 لطلب التصديق2، كقولك. أقام3. زيد، وأزيد قائم، أو التصور4 كقولك5: أدبس في الإناء أم عسل، وفي الخابية دبسك أم في الزق6، ولهذا 7 لم يقبح: "أزيد8 قام، وأعمرًا عرفت9".

_ 1 راجع 142 السيد على المطول أيضًا. 2 هو انقياد الذهن وإذعانه لوقوع نسبة تامة بين الشيئين -والمراد بالإذعان لوقوع النسبة إدراك وقوعها أو لا وقوعها. فالتصديق إدراك وقوع نسبة تامة بين شيئين أو لا وقوعها أي إدراك موا فقتها لما في الواقع أو عدم موافقتها له وتفسير الإذعان بالإدراك هو مذهب المناطقة لا المتكلمين. 3 هذا في الجملة الفعلية وما بعده في الجملة الاسمية. فأنت عالم بأن بينهما نسبة أما الإيجاب أو السلب وتطلب تعيينها. 4 وهو إدراك غير النسبة. 5 أي في طلب تصور المسند إليه. والدبس هو شراب حلو يتخذ من تمر أو عنب، ففي المثال: "أدبس في الإناء أم عسل" أنت تعلم أن في الإناء شيئًا وتطلب تعيينه، واختار السيد في حاشيته على المطول أن الهمزة في المثال قد يصح أن تكون لطلب التصديق أيضًا. 6 والمثل الهمزة فيه لطلب تصور المسند فأنت تعلم أن الدبس محكوم عليه بكونه إما في الخابية أو في الزق والمطلوب هو التعيين فالمطلوب في جميع ذلك معلوم بوجه إجمالي ويطلب بالاستفهام تفصيله. 7 أي؛ لأن الهمزة تجيء لطلب التصور. 8 أي في طلب تصور المسند إليه -الفاعل- وفي الأصل "أزيد قائم" لا قام والظاهر أنه تحريف. 9 أي في طلب تصور المفعول -وذلك بخلاف هل زيد قام وهل عمرًا عرفت فإنهما قبيحان؛ لأن التقديم يستدعي حصول التصديق بنفس الفعل فيكون "هل" لطلب حصول الحاصل. وهذا واضح في أعمرًا عرفت؛ لأن الغالب كون تقديم المفعول للاختصاص وأما تقديم الفاعل فقد يكون كثيرًا لمجرد الاهتمام وشبهه فلا يستدعي التخصيص في الغالب الملزوم لطلب التصور.

والمسئول عنه بها1 هو ما يليها، فتقول، أضربت زيدًا إذا كان شك في الفعل نفسه وأردت بالاستفهام أن تعلم وجوده2 وتقول أأنت ضربت زيدًا إذا كان الشك في الفاعل من هو وتقول أزيدًا ضربت إذا كان الشك في المفعول من هو 3. وهل لطلب التصديق4 فحسب، كقولك: "هل قام زيد"، و"هل عمرو قاعد5، ولهذا6 امتنع هل زيد قام أم عمرو7،

_ 1 أي الذي يسأل عنه بالهمزة سواء كان تصوره أو التصديق به وقد سبق في بحث تقديم المسند إليه وتأخيره بيان ذلك، وراجع في ذلك دلائل الإعجاز ص87 و95. 2 هذا واضح فيما إذا كان الاستفهام للتصور أما إن كان للتصديق فإنه لما كان الغرض عند السؤال بها عن التصديق السؤال عن حال النسبة وهي جزء مدلول الفعل فلا بد أن يلي الفعل الهمزة، فإذا كان الشك في نفس الفعل من حيث صدوره من المخاطب أعني الضرب الصادر من المخاطب الواقع على زيد وأردت بالاستفهام أن تعلم وجوده فيكون لطلب التصديق، ويحتمل أن يكون لطلب تصور المسند بمعنى أنه قد تعلق فعل من المخاطب بزيد لكن لا تعرف أنه ضرب أو إكرام. هذا وتعيين أحدهما أي التصور أو التصديق بالقرائن اللفظية كاقتران معادل ما بعد الهمزة بأم المتصلة أو المنقطعة، أو بالقرائن المعنوية كما في "أفرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه" فإنه للتصديق، وأكتبت هذا الكتاب أم اشتريته فإنه للتصور. 3 وهكذا قياس سائر المتعلقات. 4 هو مطلق إدراك وقوع النسبة أو لا وقوعها -هذا وندخل هل على الجملتين بشرط أن كون الجملة مثبتة- وراجع هل والكلام عليها في المفتاح ص123. 5 أي إذا كان المطلوب حصول التصديق بثبوت القيام لزيد والقعود لعمرو. 6 أي مجيء هل "للتصديق فحسب". 7 وذلك أن وقوع المفرد ههنا بعد أم دليل على أن أم متصلة وهي لطلب تعيين أحد الأمرين مع العلم بثبوت أصل الحكم، وهل إنما تكون لطلب الحكم فقط -ويلاحظ أن هل لا تقع بعدها أم المتصلة وإنما يقع بعدها أم المنقطعة فقط، فإذا جاءت أم بعد هل كانت منقطعة للإضراب.

وقبح "هل زيدًا ضربت1" لما سبق أن التقديم يستدعي حصول التصديق بنفس الفعل والشك فيما قدم عليه، ولم يقبح "هل زيدًا ضربته" لجواز تقدير المحذوف والمفسر مقدمًا كما مر2. وجعل السكاكي3 قبح "هل رجل عرف" لذلك4 أي لما قبح له "هل زيدًا ضربت"، ويلزمه أن لا يقبح نحو "هل زيد عرف5" لامتناع تقدير التقديم والتأخير فيه عنده على ما سبق6.

_ 1 أي من كل مثال تركيب هو مظنة للعلم بحصول أصل النسبة وهو ما يتقدم فيه المفعول على الفعل. وسر القبح كما ذكر أن التقديم يستدعي حصول التصديق بنفس الفعل فيكون هل لطلب حصول الحاصل وهو محال. وإنما لم يمتنع لاحتمال أن يكون زيدًا مفعول فعل محذوف أو أن تقديمه للاهتمام لا للتخصيص وحينئذ فلا يكون التقديم مستدعيًا للتصديق بحصول الفعل فلا تكون هل لطلب حصول الحاصل، لكن ذلك خلاف الظاهر -قال السعد: وفيه نظر؛ لأنه لا وجه لتقبيحه حينئذ سوى أن الغالب في التقديم هو الاختصاص وهذا يوجب أن يقبح "وجه الحبيب أتمنى" على قصد الاهتمام دون الاختصاص ولا قائل به، وعلى هذا يكون القبح مخصوصًا بتقدير الفعل وحينئذ يراعي ما حصل في نفس الأمر فإن قصد التخصيص امتنع وإن قصد تقدير الفعل قبح وإن قصد الاهتمام لم يقبح ولا يراعي في القبح المظنة كما في ابن يعقوب. 2 فيكون التقدير هل ضربت زيدًا ضربته فيكون السؤال حينئذ عن أصل ثبوت الفعل لا عن المفعول. 3 راجع 133 من المفتاح. 4 أي؛ لأن التقديم يستدعي حصول التصديق بنفس الفعل لما سبق من مذهبه من أن الأصل "عرف رجل" على أن "رجل" بدل من الضمير في "عرف" قدم للتخصيص. 5 لأن تقديم المظهر المعرفة ليس للتخصيص عنده حتى يستدعي حصول التصديق بنفس الفعل مع أنه قبيح بإجماع النحاة للفصل بين هل والفعل بالاسم مع أنها إذا رأت الفعل في حيزها لا ترضى إلا بوجوده بجوارها، قال الشاعر: مليحة عشقت ظبيا حوى حورا ... فمذ رأته سعت فورًا لخدمته كهل إذا ما رأت فعلًا بحيزها ... حنت إليه ولم ترض بفرقته 6 فإن التقديم فيه ليس للتخصيص المستدعي لحصول التصديق بأصل للفعل. بل للا هتمام قالوا: وفيه نظر؛ لأن ما ذكره من اللزوم ممتنع لجواز أن لا يقبح لعلة أخرى فانتفاء علة من علل القبح وهي كون التقديم للتخصيص لا يستلزم انتفاء جميع العلل بل يجوز أن يقول فيه بالقبح لعلة أخرى.

وعلل غيره1 القبح فيهما بأن أصل هل أن تكون بمعنى قد إلا أنهم تركوا الهمزة قبلها لكثرة وقوعها في الاستفهام2. وهل تخصص المضارع بالاستقبال3 فلا يصح أن يقال هل تضرب زيدًا وهو أخوك4 كما تقول "أتضرب زيدًا وهو أخوك5"؟

_ 1 أي غير السكاكي وهو الزمخشري في المفصل، وقوله القبح فيهما أي في هل رجل عرف "وهل زيد عرف". 2 أي وقوع هل في الاستفهام فأقيمت هي مقام الهمزة وقد تطفلت عليها في الاستفهام وقد من خواص الأفعال فكذا ما هي بمعناها وإنما لم يقبح "هل زيد قائم"؛ لأنها إذا لم تر الفعل في حيزها تسلت عنه بخلاف ما إذا رأته فإنها لا ترضى كما قلنا إلا بوجوده بجوارها. 3 بعد أن كان محتملًا له وللحال، وذلك بحكم الوضع كالسين وسوف، وأما الماضي والجملة الاسمية فيبقيان بعد هل على حالهما. 4 لأن الضرب واقع هنا في الحال على ما يفهم عرفًا من قوله: وهو أخوك. 5 قصدًا إلى إنكار الفعل الواقع في الحال بمعنى أنه لا ينبغي أن يكون. وذلك؛ لأن هل تخصص المضارع بالاستقبال فلا يصح مجيئها لإنكار الفعل الواقع في الحال، بخلاف الهمزة فإنها تصلح لإنكار الفعل الواقع؛ لأنها ليست مخصصة للمضارع بالاستقبال، وهذا الامتناع جار في كل ما يوجد فيه قرينة تدل على أن المراد إنكار الفعل الواقع في الحال سواء عمل ذلك المضارع في جملة حالية كقولك "أتضرب زيدًا وهو أخوك" - لأن الاستفهام هنا للتوبيخ والتوبيخ لا يكون إلا بالهمزة- أو لم يعمل في جملة حالية كقوله تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُون} وكقولك أتؤذي أباك، وأتشتم الأمير، فلا يصح وقوع فعل في هذه المواضع. هذا وقد أخطأ العلامة الشيرازي في تعليله للامتناع بأن الفعل المستقبل لا يجوز تقييده بحال، وهو سهو ظاهر لجواز أن تقول مثلًا سأدخل الامتحان غدًا. قال الشاعر -سعد بن ناشب- الحماسي: سأغسل عني العار بالسيف جالبًا ... على قضاء الله ما كان جالبَا وقال تعالى: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين} و {يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيْهِ الْأَبْصَار، مُهْطِعَيْنَ} .

ولهذين أعني اختصاصها بالتصديق وتخصيصها المضارع بالاستقبال كان لها مزيد اختصاص بما كونه زمانيًّا أظهر كالفعل1. أما الثاني فظاهر وأما الأول؛ فلأن الفعل لا يكون إلا صفة والتصديق حكم بالثبوت أو الانتفاء والنفي والإثبات إنما يتوجهان إلى الصفات لا الذوات. ولهذا2 كان قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُون} أدل على طلب الشكر من قولنا: "فهل تشكرون" و"فهل أنتم تشكرون"3 إن إبراز

_ 1 أي؛ لأن هل مختصة بطلب التصديق فلا تجيء لغير التصديق؛ ولأنها تخصص المضارع بالاستقبال كان لها مزيد اختصاص بما زمانيته ظاهرة وهو الفعل فلما كانت تخصص المضارع بالاستقبال دون الاسم كان لها مزيد اختصاص بالفعل دون الاسم؛ لأن الفعل المضارع نوع من مطلق الفعل واللازم للنوع لازم للجنس. والزمان جزء من مفهوم الفعل بخلاف الاسم فإنه إنما يدل عليه حيث يدل بعروضه له. وأما اقتضاء تخصيصها المضارع بالاستقبال لمزيد اختصاصها بالفعل فظاهر لما تقدم. وأما اقتضاء كونها لطلب التصديق لمزيد اختصاصها بالفعل؛ فلأن التصديق هو الحكم بالثبوت أو الانتفاء -أي هو إدراك أن النسبة الحكمية مطابقة للواقع أو غير مطابقة- والانتفاء أو الثبوت إنما يتوجهان إلى المعاني والأحداث التي هي مدلولات الأفعال لا إلى الذوات التي هي مدلولات الأسماء. وقوله بما كونه زمانيًّا أظهر أي بالشيء الذي زمانيته أظهر وهو الفعل، فما موصولة، وكونه مبتدأ خبره أظهر وزمانيًّا خبر الكون. 2 أي؛ لأن لها مزيد اختصاص بالفعل بحيث إذا عدل بها عن موالاته الفعل كان للاعتناء بالمعدول إليه. وراجع في ذلك 34 من المفتاح. 3 مع أنه مؤكد بالتكرير؛ لأن أنتم فاعل فعل محذوف.

ما سيتجدد1 في معرض الثابت2 أدل على كما ل العناية بحصوله من إبقائه على أصله3، وكذا من قولنا أفأنتم شاكرون" وإن كانت صيغته للثبوت4؛ لأن هل أدعي للفعل من الهمزة فتركه5 معها أدل على كما ل العناية بحصوله، ولهذا لا يحسن هل زيد منطلق إلا من البليغ. وهي6: قسمان بسيطة وهي التي يطلب بها وجود الشيء7 كقولنا هل الحركة موجودة، ومركبة وهي التي يطلب بها وجود شيء لشيء8 كقولنا هل الحركة دائمة. والألفاظ الباقية لطلب التصور فقط9.

_ 1 الذي هو مضمون الفعل وهو الشكر. 2 أي صورة الثابت، حيث دل عليه بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت. 3 كما في "هل تشكرون"؛ لأن هل في "فهل تشكرون" وفي "هل أنتم تشكرون" على أصلها لكونها داخلة على الفعل تحقيقًا في الأول وتقديرًا في الثاني. 4 باعتبار أن الجملة اسمية. 5 أي فترك الفعل مع هل. 6 أي هل. 7 أي أو لا وجوده كقولنا هل الحركة لا موجودة. وقوله وجود الشيء أي التصديق بوقوع وجود الشيء. 8 أي أو لا وجوده كقولنا هل الحركة لا دائمة. فإن المطلوب وجود الدوام للحركة أو لا وجوده لها، وقد اعتبر في هذا شيآن غير الوجود وفي الأولى شيء واحد فكانت مركبة بالنسبة إلى الأولى وهي بسيطة بالنسبة إليها. 9 فهي تشترك في أنها لطلب التصور وتختلف من جهة أن المطلوب بكل منها لتصور شيء آخر فالمطلوب تصوره بواحد منها خلاف المطلوب بالآخر.

أما "ما": فيطلب به: أما شرح الاسم2 كقولنا ما العنقاء. وأما ماهية المسمى3 كقولنا: "ما الحركة4" والقسم الأول يتقدم على قسمي5 هل جميعًا، والثاني 6 يتقدم على هل المركبة دون البسيطة، فالبسيطة7 في الترتيب واقعة بين قسمي ما 8. وقال السكاكي9: يسأل بما عن الجنس120 تقول ما عندك أي أجناس

_ 1 راجع 134 من المفتاح. 2 أي بيان مدلوله في الجملة، والمراد بالاسم هنا ما قابل المسمى فيشمل الفعل والحرف -فقولنا ما العنقاء؟ نطلب به أن يشرح هذا الاسم ويبين مفهومه فيجاب بإيراد لفظ أشهر. 3 أي حقيقته التي هو بها هو أي حقيقته الوجودية التي بها تحققت أفراد الشيء بحيث لا يزاد في الخارج عليها إلا العوارض ولم يرد بها الماهية التفصيلية. 4 أي ما حقيقة مسمى هذا اللفظ فيجاب بإيراد ذاتيَّاته من الجنس والفصل فيقال هي حصول الجرم حصولًا أو لا في الحيز الثاني، بعد أن يعرف أنها شيء موجود في نفسه لأجل أن يكون الجواب تعريفًا حقيقيًّا. 5 أي البسيطة والمركبة -والمرا د بالقسم الأول: ما التي يطلب بها شرح الاسم. 6 أي ما التي يطلب بها ما هية المسمى. 7 أي هل البسيطة. 8 إذ يطلب أو لًا شرح الاسم بما ثم يستفهم عن وجوده في نفسه بهل ثم يطلب بيان ماهية المسمى بها، ثم يستفهم بعد ذلك بهل المركبة عما يراد الاستفهام بها عنه: فالترتيب الطبيعي أن يطلب أو لًا شرح الاسم ثم وجود المفهوم في نفسه ثم ماهيته وحقيقته؛ لأن من لا يعرف مفهوم اللفظ استحال منه أن يطلب وجود ذلك المفهوم ومن لا يعرف أنه موجود ستحال منه أن يطلب حقيقته وماهيته إذ لا حقيقة للمعدوم ولا ما هية. 9 را جع 134 من المفتاح. 10 الجنس المراد به الحقيقة الكلية متفقة الأفراد أو مختلفتها مجملة أو مفصلة والمراد به الجنس اللغوي فيشمل جميع أقسام ما يقال في جواب ما هو من النوع والجنس والحقيقة الإجمالية والتفصيلية. فالفرق بين القولين أن ما على الأل يطلب بها شرح الاسم كليا كان أو جزئيًّا، وعلى قول السكاكي لا يطلب بها إلى الكلي، ولا يخفى أن السؤال بها عن الجزئي داخل في السؤال عن الوصف كما سيأتي فالحق أنه لا فرق في السؤال بما بين القولين.

الأشياء عندك، وجوابه إنسان أو فرس أو كتاب أو نحو ذلك، وكذلك تقول ما الكلمة وما الكلام؟، وفي التنزيل: {وَمَاْ خَطْبُكُمْ} أي أي أجناس الخطوب خطبكم، وفيه: {مَا تَعْبُدُوْنَ مِنْ بِعْدِيْ} أي أي من في الوجود تؤثرونه للعبادة أو عن الوصف تقول ما زيد وما عمرو وجوابه الكريم أو الفاضل ونحوهما وسؤال فرعون: {وَمَاْ رَبُ الْعَالَمِيْنَ} أما عن الجنس لاعتقاده لجهله بالله تعالى أن لا موجود مستقلًّا بنفسه سوى الأجسام كأنه قال أي أجناس الأجسام هو، وعلى هذا جواب موسى عليه السلام بالوصف للتنبيه على النظر المؤدي إلى معرفته، لكن لما لم يطابق السؤال عن فرعون عجب الجهلة الذين حوله من قول موسى بقوله لهم: {أَلِا تَسْمَعُوْن} ، ثم لما وجده مصرًّا على الجواب بالوصف إذ قال في المرة الثانية: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِين} استهزأ به وجننه بقوله: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُون} ، وحين رآهم موسى عليه السلام لم يقطنوا لذلك في المرتين غلظ عليهم في الثالثة بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُون} وإما عن الوصف، طمعًا في أن يسلك موسى عليه السلام في الجواب معه مسلك الحاضرين لو كانوا هم المسئولين مكانه لشهرته بينهم برب العالمين إلى درجة دعت السحرة إذ عرفوا الحق أن أعقبوا قولهم: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِين} بقولهم {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} نفعًا لاتهامهم أن عنوه وجهله بحال موسى إذ لم يكن جمعهما قبل ذلك مجلس بدليل قال أو لو جئتك بشيء مبين قال فائت به إن كنت من الصادقين فحين سمع الجواب تعداه عجب واستهزاء وجنن وتفيهق بما تفيهق من قوله: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِين} .

_ ملاحظات: الآية الكريمة موضع الشاهد في كلام السكاكي هي: {قَاْلَ فَرْعَوْنُ وَمَاْ رَبُ الْعَالَمِيْنَ، قَالَ رَبُ الْسَمَاوَاْتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إَنْ كُنْتُمْ مُوْقِنِيْنَ، قَاْلَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَاْ تَسْتِمِعُوْنَ، قَالَ رَبُكُمْ وَرَبُ آَبِائِكُمُ الأَوَلِيْنَ، قَالَ إَنَّ رَسُوْلَكُمُ الْذِيْ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُوْن ... } إلخ.

وأما "من": 1 فقال السكاكي هو للسؤال عن الجنس من ذوي العلم2، نقول من جبريل! بمعنى أبشر هو أم ملك أم جني، وكذا من إبليس ومن فلان، ومنه قوله تعالى حكاية عن فرعون: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} ؟ أي أملك هو أم بشر أم جني منكرًا لأن يكون لهما رب سواه لإدعائه الربوبية لنفسه، ذهابًا في سؤاله هذا إلى معنى ألكما رب سواي فأجاب موسى عليه السلام بقوله: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} كأنه قال نعم لنا رب سواك، هو الصانع الذي إذا سلكت الطريق الذي بين بإيجاده لما أو جد وتقديره إياه على ما قدر، واتبعت فيه الخريت الماهر- وهو العقل الهادي عن الضلال لزمك الاعتراف بكونه ربا وأن لا رب سواه، وأن العبادة له منى ومنك ومن الخلق أجمع حق لا يدفع له3 وقيل هو للسؤال عن العارض المشخص لذي4 العلم وهذا أظهر؛ لأنه إذا قيل من فلان، يجاب بزيد أو نحوه مما يفيد

_ 1 راجع 134 و135 من المفتاح. 2 المراد الجنس اللغوي فيشمل النوع والصنف. 3 وفي كلام السكاكي نظر؛ لأنا لا نسلم أنه سؤال عن الجنس وأنه مسح في جواب "من جبريل" أن يقال ملك، بل جوابه أنه ملك يأتي بالوحي إلى الرسل ونحو ذلك مما يفيد تشخصه وتعيينه، وأما ما ذكره السكاكي في قوله تعالى حكاية عن فرعون: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} أن معناه أبشر هو أم ملك أم جني ففساده يظهر من جواب موسى بقوله: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} فإنه قد أجاب بما يفيد تشخيصه وتعينه شيء ما ذكرنا. على أن فلانًا كناية عن العلم فكيف يجاب بذكر العلم، ولعل المراد إذا قال شخص فلان يعمل كذا فنقول من فلان؟ فيقال زيد، لكن في الاستفهام عن ذلك بمن فيه نظر فينبغي أن يقال ما فلان؟ كما قال ابن السبكي. 4 أي يطلب بمن الأمر الذي يعرض لدى العلم -أي العقل- فيفيد تشخصه وتعينه وهو خصوص الوصف.

التشخيص، ولا نسلم صحة الجواب بنحو بشر أو جني كما زعم السكاكي. وأما "أي" 1. فللسؤال عما يميز2 أحد المتشاركين في أمر يعمهما3 يقول القائل عندي ثياب، فتقول: أي الثياب هي فتطلب منه وصفًا يميزها عندك عما يشاركها في الثوبية، وفي التنزيل: أي الفريقين خير مقامًا أي أنحن أم أصحاب محمد عليه السلام4، وفيه: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} أي الإنسي أم الجني. وأما "كم": فللسؤال عند العدد، إذا قلت: كم درهمًا لك وكم رجلًا رأيت، فكأنك فكأنك قلت أم عشرون أم ثلاثون. أم كذا أو كذا، وتقول كم درهمك وكم مالك أي كم دانقًا أو كم دينارًا، وكم ثوبك أي كم شبرًا أو كم ذراعًا، وكم زيد ماكث؟ أي كم يومًا أو كم شهرًا، وكم رأيتك أي كم مرة، وكم سرت أي كم فرسخًا أو كم يومًا؟ قال الله تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُم} أي كم يومًا أو كم ساعة، وقال: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِيْ الْأَرْضِ عَدَدَ سِنَيْن} وقال: {سَلْ بَنِيْ إِسْرَائِيْلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ} .

_ 1 راجع 135 من المفتاح. 2 أي عن موصوف وصف يميز. 3 وهو مضمون ما أضيف إليه "أي" غالبا، وقد يكون غير ما أضيف مثل: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} فالمشترك كون الجميع من جنده. 4 فالمؤمنون والكافرون قد اشتركا في الفريقين وسألوا عما يميز أحدهما عن الآخر مثل الكون كافرين قائلين لهذا القول ومثل الكون أصحاب محمد عليه السلام غير قائلين.

بينة1؟ ومنه قول الفرزدق2: كم عمة لك يا جرير وخالة ... فدعاء قد حلبت علي عشاري فيمن روى بالنصب3، وعلى رواية الرفع تحتمل الاستفهامية والخبرية4. وأما "كيف": فللسؤال عن الحال، إذا قيل: كيف زيد؟ فجوابه صحيح أو سقيم أو مشغول أو فارغ ونحو ذلك. وأما "أين": 5 فللسؤال عن المكان، إذا قيل: أين زيد؟ فجوابه في الدار أو في المسجد أو في السوق ونحو ذلك.

_ 1 من "آية" مميز "كم" بزيادة "من" لما وقع من الفصل بفعل متعد بين كم ومميزه. فآية تميز كم ومفعول آتينا هم، وكم هنا للسؤال عن العدد لكن الغرض من هذا السؤال هو التوبيخ والتقريع من حيث دلالة الجواب على كثرة الآيات. 2 راجع البيت في 253 و293 و295 جـ1 من الكتاب لسيبويه، وفي ص135 من المفتاح -الفدع بفتح الدال: عوج في المفاصل كأنها قد زالت عن مواضعها. العشار: جمع عشراء كنفساء وزنًا ومعنى وهي الناقة التي مضى على حملها عشرة أشهر. 3 هذا "أي أنه على رواية النصب يتعين الاستفهام" غير مسلم، بل كم الخبرية قد تنصب المميز وعلى ذلك أنشد سيبويه البيت. 4 الكلام مع الاستفهام لا يحتمل الصدق والكذب ومع الخبرية يحتمل والذي يظهر أن كم في البيت خبرية. هذا وعلى رواية الجر تتعين الخبرية. 5 راجع 135 من المفتاح.

وأما "أنى": فتستعمل تارة بمعنى "كيف1"، قال تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم} 2، أي كيف شئتم، وأخرى بمعنى "من أين3" قال الله تعالى: {أَنَّى لَكِ هَذَا} 4؟، أي من أين لك5. وأما "متى" و"أيان" 6: فللسؤال عن الزمان7، إذا قيل. متى جئت؟ أو أيان جئت؟ قيل: يوم الجمعة أو يوم الخميس أو شهر كذا أو سنة كذا. وعن علي بن عيسى الربعي أن أيان تستعمل في مواضع التفخيم كقوله تعالى: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَة} ، {يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّين} ؟.

_ 1 ويجب أن يكون بعدها فعل إذ لم يرد أنى زيد بمعنى كيف هو. 2 قيل هي هنا شرطية، وقيل أنها بمعنى متى وأنه معنى ثالث لها. 3 ولا يجب أن يكون بعدها فعل. 4 فتتضمن الظرفية والابتدائية. 5 وليس المراد المكان حقيقة بل المراد من أي وجه نلت ما نلت؟ هذا وقوله "تستعمل" إشارة إلا أنه يحتمل أن يكون مشتركًا بين المعنيين اشتراكًا لفظيًّا وهو حقيقة فيهما، ويحتمل أن يكون في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجازًا، ويحتمل أن يكون معناه أين إلا أنه في الاستعمال يكون مع "من" ظاهرة كما في قوله: من أين عشرون لنا من أنى. أي: من أين، أو مقدرة كما في قوله تعالى: أنى لك هذا؟. أي من أنى لك، أي من أين على ما ذكره بعض النحاة. 6 راجع 135 من المفتاح. 7 وفي مختصر السعد تخصيص أيان بالزمان المستقبل، وتستعمل "أيان" في موضع التفخيم مثل: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَة} . وأخيرًا فالخلاصة أن أدوات الاستفهام ثلاثة أقسام: قسم مختص مطلب التصديق وهو "هل"، وقسم مختص بطلب التصور وهو ما عدا الهمزة وهل، وقسم يحتمل التصور والتصديق وهو الهمزة وذلك لعراقتها في الاستفهام. ولهذا يجوز أن يقع بعد أم سائر كلمات الاستفهام سوى الهمز كقوله تعالى: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّور} .

الأغراض البلاغية التي يخرج إليها أسلوب الاستفهام: ثم إن هذه الألفاظ كثيرًا ما تستعمل في معان غير الاستفهام بحسب ما يناسب المقام1، منها: الاستبطاء: نحو كم دعوتك2؟، وعليه قوله تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} ؟. ومنها التعجب: نحو قوله: {مَاْ لِيَ لَاْ أَرَىْ الْهُدْهُدَ} 3؟

_ 1 ودلالتها على هذه المعاني مجاز مرسل أو كناية أو من مستتبعات التركيب. 2 فالاستفهام عن عدد دعائه إياه للجهل به، المستلزم لاستنكاره عادة أو ادعاء؛ لأن القليل منه يكون معلومًا، واستكثاره يستلزم الإبطاء كذلك أي عادة أو ادعاء. فالاستفهام عن عدد دعائه إياه يستلزم الاستبطاء بهذه الوسائط فاستعمل لفظ الاستفهام في الاستبطاء. وكذلك قوله تعالى: {مَتَى نَصْرُ اللَّه} ؟، فالاستفهام عن زمان النصر يستلزم الجهل بزمانه، والجهل بما يستلزم استبعاده عادة أو ادعاء، واستبعاده يستلزم الاستبطاء. فخروج أداة الاستفهام إلى الاستبطاء إذا حمل على المجاز المرسل كانت علاقته السببية إذ هو من إطلاق اسم المسبب وإرادة السبب. 3 فالاستفهام عن سبب عدم رؤيته الهدهد سيستلزم الجهل به المناسب للتعجب عن المسبب أعني عدم الرؤية، فهو إذا حمل على المجاز المرسل من باب استعمال اسم الملزوم في اللازم؛ لأن سؤال العاقل عن حال نفسه مثلًا يستلزم جهله به والجهل به يستلزم التعجب منه؛ لأنه كان لا يغيب عن سليمان عليه السلام إلا بإذنه فلما لم يبصره مكانه تعجب من حال نفسه في وقت عدم إبصاره إياه، ولا يخفى أنه لا معنى الاستفهام العاقل عن حال نفسه. وقول صاحب الكشاف نظر سليمان إلى مكان =

ومنها: التنبيه على الضلال: نحو: {فَأَيْنَ تَذْهَبُون} 1؟.

_ =الهدهد فلم يبصره، فقال: مالي لا أراه؟ على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول أهو غائب كأنه يسأل عن صحة ما لاح له يدل على أن الاستفهام على حقيقته هذا ومن خروج أدوات والاستفهام إلى التعجب قول كثير عزة: فيا عجبًا للقلب كيف اعترافه ... وللنفس لما وطنت كيف لت؟ وقل أبي تمام: ما للخطوب طغت علي كأنها ... جهلت بأن نداك بالمرصاد وقول أبي الطيب وقد أصابته الحمى: أبنت الدهر عندي كل بنت ... فكيف وصلت أنت من الزحام وقول إحدى النساء تشكو ابنا لها: أنشا يمزق أثوابي يؤدبني ... أبعد شيبي يبتغي عندي الأدبا؟ وقول الآخر: ما أنت يا دنيا؟ أرؤيا نائم ... أم ليل عرس أم بساط سلاف ومن خروج أدوات الاستفهام إلى الاستبطاء قول البهاء: مولاي إني في هو اك معذب ... وحتام أبقى في العذاب وأمكث وقوله: يا أنعم الناس قل لي ... إلى متى فيك أشقى وقول ابن خفاجة الأندلسي: فحتى متى أبقى ويظعن صاحب ... أودع منها راحلًا غير آيب وحتى متى أرعى الكواكب ساهرًا ... فمن طالع أخرى الليالي وغارب وقول صفوت الساعاتي: وحتى متى وإلى كم طول وعدكمو ... أما له أجل قبل انقضا أجلي 1 وخروج أداة الاستفهام هنا إلى هذا المعنى من باب المجاز المرسل الذي علاقته اللزومية إذ هو من استعمال اسم الملزوم في اللازم، فالاستفهام عن الشيء يستلزم تنبيه المخاطب عليه وتوجيه ذهنه إليه وذلك يستلزم تنبيه للضلال، ويجوز أن يجعل اللفظ مستعملًا في الاستفهام ليتوصل به إلى ذلك على طريق الكناية أو أن يجعل من مستتبعات التراكيب فلا يكون مجازًا ولا كناية كما يجوز ذلك في سائر ما يخرج إليه الاستفهام من معان بلاغية. وراجع 136 من المفتاح.

ومنها: الوعيد: كقولك1 لمن يسيء الأدب: ألم أؤدب فلانًا؟ إذا كان عالمًا بذلك، وعليه قوله تعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَلِيْنَ} . ومنها الأمر 2: نحو قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون} ، ونحو {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر} ومنها التقرير 3:

_ 1 راجع 132 من المفتاح. هذا وخروج أداة الاستفهام إلى معنى الوعيد من باب المجاز المرسل والعلاقة هنا اللزوم من استعمال اسم الملزوم في اللا زم، ولك أن تجعل الكلام من قبيل الكناية فاللفظ مستعمل في الاستفهام لينتقل منه إلى الوعيد. أو مستعمل فيهما على أن الوعيد من مستتبعات التركيب. فالاستفهام في قولك: "ألم أؤدب فلانًا؟ " يستلزم تنبيه المخاطب على جزاء إساءة الأدب الصادرة عن غيره وهذا التنبيه يستلزم وعيده على إساءة الأدب. هذا وعلم المخاطب أنك أدبت فلانًا قرينة المجاز المرسل إذا حمل الكلام عليه. 2 إذا حمل على المجاز فهو من باب الإطلاق والتقييد على نحو ما يأتي في التقرير. 3 إذا حمل على المجاز المرسل كان من باب الإطلاق والتقييد إذ الاستفهام عن أمر معلوم للمخاطب يستلزم حمله على إقراره بما هو معلوم منه، فالاستفهام طلب الإقرار بالجواب مع سبق جهل لمستفهم فاستعمل في مطلق طلب الإقرار ثم في طلب الإقرار من غير سبق جهل- هذا وراجع في التقرير 102/ 1 كامل المبرد و23 ما اتفق لفظه للمبرد، 136 من المبرد، 88 من الدلائل. هذا والتقرير هو حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه والجئة إليه، وقد يقال: التقرير بمعنى التحقيق والتثبيت فيقال: أضربت زيدًا بمعنى أنك ضربته البتة.

ويشترط في الهمزة1 أن يليها المقرر به، كقولك: أفعلت إذا أردت أن تقرره بأن الفعل كان منه، وكقولك: أأنت فعلت، إذا أردت أن تقرره بأنه الفاعل2. وذهب الشيخ عبد القاهر والسكاكي وغيرهما إلى أن قوله: {أأنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إبْرَاهِيمُ} ، من هذا الضرب. قال الشيخ3: لم يقولوا ذلك له عليه السلام وهم يريدون أن يقر لهم بأن كسر الأصنام قد كان، ولكن أن يقر أنه منه كان، كيف وقد أشاروا له إلى الفعل في قولهم {أأنْتَ فَعَلْتَ هَذَا} . وقال عليه السلام: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيْرُهُمْ هَذَا} ، ولو كان التقرير بالفعل في قولهم "أأنت فعلت" لكن الجواب: فعلت أو لم أفعل، وفيه4 نظر لجواز أن تكون الهمزة فيه على أصلها إذ ليس في السياق ما يدل على أنهم كانوا عالمين بأنه عليه السلام هو الذي كسر الأصنام5. وكقولك أزيد ضربت، إذا أردت أن تقرره بأن مضروبه زيد.

_ 1 وخصت الهمزة بإيلائها المقرر به؛ لأن التفصيل المذكور لا يجري إلا فيها بخلاف هل مثلًا فهي للتقرير بنفس النسبة الحكمية وكذا ما سواها غير الهمزة فانتهت للتقرير بما يطلب تصوره بها، ولمثل ذلك خصت الهمزة بإيلائها المنكر. 2 أي المعنوي لا الاصطلاحي. 3 88 و89 من الدلا ئل. 4 أي فيما ذهب إليه عبد القاهر ومعه السكاكي. 5 أجيب على هذا بأنه يدل على أن الاستفهام ليس على حقيقته ما قبل الآية وهو أنه عليه السلام قد أقسم بقوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِين} ، ثم لما رأوا كسر الأصنام {قَالُوْا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إَنَّهُ لَمِنَ الْظَالِمِيْن، قَالُوْا سَمِعْنَا فَتَى يَذْكُرُهُمْ يُقَاْلُ لَهُ إبْرَاْهِيْم} ، فالظاهر أنهم قد علموا ذلك من حلفه وذمه الأصنام. هذا ولا تنسى أن خروج أدوات الاستفهام إلى التقرير من باب المجاز المرسل الذي علاقته الإطلاق أو التقييد وقيل اللزوم والتحقيق أنه على طريق الكتابة أو من مستتبعات التركيب.

ومنها الإنكار1، إما للتوبيخ: بمعنى ما كان ينبغي أن يكون2 نحو أعصيت ربك؟ أو بمعنى لا ينبغي أن يكون كقولك للرجل يضيع الحق. أتنسى قديم إحسان فلان؟ وكقولك للرجل يركب الخطر. أتخرج في هذا الوقت أتذهب في غير الطريق والغرض بذلك تنبيه السامع حتى يرجع إلى نفسه فيخجل أو يرتدع عن فعل ما هم به وإما للتكذيب3 بمعنى لم يكن4 كقوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُكُمْ بِالْبَنِيْنِ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إَنَاثَاً} وقوله: {أَصْطَفْى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِيْنِ} ، وبمعنى لا يكون نحو أنلزمكموها وأنتم لها كارهون، وعليه قول امرئ القيس: أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال5

_ 1 راجع 89 وما بعدها من الدلائل، 136 من المفتاح، وقوله للتوبيخ أي على أمر قد وقع في الماضي أو خيف وقوعه في المستقبل. 2 أي أن يحدث ويتحقق مضمون ما دخلت عليه الهمزة وذيك في المستقبل نحو أتعصي ربك؟ بمعنى لا ينبغي أن يتحقق العصيان، فهذا لا يقتضي عدم وقوع الموبخ عليه بالفعل وإنما يقتضي كون المخاطب بصدد الفعل. هذا وإذا حمل الإنكار على المجاز المرسل فالعلاقة بينه وبين الاستفهام أن المستفهم عنه مجهول والمجهول منكر والأولى حمله على الكناية أو جعله من مستتبعات التراكيب. 3 ويسمى الإنكار التكذيبي بالإنكار الإبطالي. 4 أي في الماضي -وقوله فيما يأتي: أو بمعنى لا يكون أي في المستقبل. وسكت عن الحال لعدم تأتيه إذ العاقل لا يدعي التلبس بما ليس متلبسًا به حتى يكذب بل يتأتى فيه نفي الانبغاء، وفي الأطول وابن يعقوب أن الإنكار الإبطالي إذا كان بمعنى لا يكون يكون للحال وللاستقبال. 5 راجع البيت في 91 من الدلائل. وسيأتي في الإيضاح أيضًا في باب التشبيه. المشرفي: السيف المنسوب إلى مشارف الشام. المسنونة: السهام المحدودة النصال، ووصفها بالزرقة لخضرتها وصفائها.

فيمن روى أيقتلني بالاستفهام وقول الآخر1: أأترك إن قلت دراهم خالد ... زيارته إني إذًا للئيم والإنكار كالتقرير يشترط أن يلي المنكر2 الهمزة، كقوله تعالى: {أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُوْن} ، {أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيَّاً} ؟ {أَبَشَرَاً مِنَّا وَاْحِدَاً نَتَّبِعُهُ} ، وكقوله: {وَقَالُوا لوْلا نزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} ، أي: ليسوا هم المتخيرين للنبوة من يصح لها المتولين لقسم رحمة الله التي لا يتولاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته، وعد الزمخشري قوله أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وقوله أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي من هذا الضرب، على أن المعنى أفأنت تقدر على إكراههم على الإيمان وأفأنت تقدر على هدايتهم على سبيل القسر والإلجاء، أي إنما يقدر على ذلك الله لا أنت. وحمل السكاكي3 تقديم الاسم في هذه الآيات الثلاث4 على

_ 1 هو عمارة بن عقيل بن جرير الشاعر يمدح خالد بن يزيد بن مزيد الشياني ويذم بني تميم بن خزيمة بن حازم النهشلي "راجع 149 جـ1 من الكامل للمبرد"، ومع البيت في الكامل أبيات كثيرة. ولعمارة أبيات في مدح خالد في الكامل "ص268 جـ2" هذا والبيت في الدلائل ص92. 2 فعلًا كان أو فاعلًا أو مفعولًا أو حالًا إلى غير ذلك. هذا ولا تنسى أن العلاقة بين الاستفهام والإنكار أن المستفهم عنه لمجهول والمجهول منكر، وقيل؛ لأن إنكار الشيء بمعنى كراهيته يستلزم عدم توجه الذهن إليه المستلزم للجهل به المقتضي للاستفهام. 3 136 من المفتاح. 4 أهم يقسمون رحمة ربك -أفأنت تكره الناس- أفأنت تسمع الصم. هذا ويلاحظ أنه إذا قدم المرفوع على الفعل فقد يكون للإنكار على نفس الفاعل بحمل التقديم على التخصيص وقد يكون لإنكار الحكم على أن يكون التقديم لمجرد التقوي وجعل صاحب المفتاح الآيتين الأخيرتين من قبيل تقوية حكم الإنكار نظرًا إلى أن المخاطب هو النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعتقد اشتراكه في ذلك ولا انفراده به من حيث جعلها صاحب الكشاف من قبيل التخصيص نظرًا إلى أنه عليه السلام لفرط شغفه بإيمانهم كأنه يعتقد قدرته على ذلك والكشاف يوافق في ذلك عبد القاهر فقد جعلها للتخصيص تنزيلًا "راجع ص94 من الدلائل".

البناء على الابتداء1 دون تقدير التقديم والتأخير كما مر في نحو أنا ضربت فلا يفيد في تقوي الإنكار. ومن مجيء الهمزة للإنكار نحو قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه} 2؟، وقول جرير: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح أي الله كاف عبده وأنتم خير من ركب المطايا؛ لأن نفي النفي إثبات، وهذا مراد من قال أن الهمزة فيه للتقرير أي للتقرير بما دخله للنفي لا للتقرير بالانتفاء3 وإنكار الفعل مختص بصورة أخرى4.

_ 1 فهي عنده للتقوي لا للتخصيص. 2 راجع ص25 ما اتفق لفظه للمبرد. 3 فالتقرير لا يجب أن يكون بالحكم الذي دخلت عليه الهمزة بل بما يعرف المخاطب من ذلك الحكم إثباتًا أو نفيًا، فالحكم السابق -وهو أن الهمزة يليها المقرر به- أغلبي لا كلي، وقيل هو كلي والمجيز لكونها للتقرير هو الزمخشري والمصنف ليس على مذهبه بل عقده للإنكار. ومثل قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه} ، قوله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّه} ؟ فالهمزة فيه للتقرير بما يعرفه عيسى عليه السلام مما يتعلق بهذا الحكم وهو أنه لم يقل: "اتخذوني وأمي إلهين من دون الله" لا بأنه قد قال ذلك -هذا وقد تكلم السبكي على الآية في "293 و307/ 2 من الشروح". 4 أي لا يلي فيها الفعل الهمزة التي هي للإنكار كالصورة السابقة -ومثل الفعل ما في معناه كاسم الفاعل- وهذه الصورة هي أن يلي الهمزة معمول الفعل ثم يعطف على ذلك المعمول بأم أو بغيرها.

وهي نحو قولك أزيدًا ضربت أم عمرًا، لمن يدعي أنه ضرب إما زيدًا وإما عمرًا دون غيرهما؛ لأنه إذالم يتعلق الفعل بأحدهما والتقدير أنه لم يتعلق بغيرهما فقد انتفي من أصله لا محالة وعليه قوله تعالى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْن} ؟ أخرج اللفظ مخرجه إذا كان قد ثبت تحريم في أحد الأشياء ثم أريد معرفة عين المحرم مع أن المراد إنكار التحريم من أصله. وكذا قوله: {آللهُ أَذِنَ لَكُمْ} ، إذ معلوم أن النهي على إنكار أن يكون قد كان من الله تعالى إذن فيما قالوه من غير أن يكون هذا الإذن قد كان من غير الله فأضافوه إلى الله، إلا أن اللفظ أخرج مخرجه إذا كان الأمر كذلك ليكون أشد لنفي ذلك وإبطاله، فإنه إذا نفي الفعل عما جعل فاعلًا له في الكلام ولا فاعل له غيره لزم فيه من أصله، قال السكاكي رحمه1 الله: وإياك أن يزول عن خاطرك التفصيل الذي سبق في نحو أنا ضربت وأنت ضربت وهو ضرب. من احتمال الابتداء واحتمال التقديم وتفاوت المعنى في الوجهين، فلا تحمل نحو قوله تعالى: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُم} على التقديم2، فليس المراد أن الإذن ينكر من الله دون غيره، ولكن أحمله على الابتداء مرادًا منه تقوية حكم الإنكار. وفيه نظر؛ لأنه إن أراد أن نحو هذا التركيب أعني ما يكون الاسم الذي يلي الهمزة فيه مظهرًا لا يفيد توجه الإنكار إلى كونه فاعلًا للفعل الذي بعده فهو ممنوع، وإن أراد أنه يفيد ذلك إن قدر تقديم وتأخير وإلا فلا على ما ذهب إليه فيما سبق فهذه الصورة مما منع هو ذلك فيه على ما تقدم3.

_ 1 136 من المفتاح. 2 اعترض على السكاكي بأن مذهبه يجيز في المعرف الحمل على التقديم فكيف يقول: "فلا تحمل على التقديم" فكأنه بنى هذا على مذهب القوم لا على مذهبه هو. 3 لأنه الاسم هنا ظاهر معرف فلا داعي عنده لتقدير التقديم والتأخير؛ لأنه يجوز الابتداء به دون هذا التقدير فيحمل عنده على الابتداء لإفادة التقوي.

لا يقال: قد يلي الهمزة غير المنكر في غير ما ذكرتم كما في قول "امرئ القيس": أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال فإن معناه أنه ليس بالذي يجيء منه أن يقتل مثلي، بدليل قوله: يغط غطيط البكر شد خناقه ... ليقتلني، والمرء ليس بقتال1

_ يعني فيلزم أن لا يحصل الإنكار في نحو الله أذن لكم على شيء من المقادير عنه. 1 قبل هذا البيت وصف امرؤ القيس دبيبه ومخالقته الحراس وتمتعه بمحبوبته ثم قال: فأصبحت معشوقًا وأصبح بعلها ... عليه القتام سيء الظن والبال يغط غطيط البكر شد خناقه ... ليقتلني والمرء ليس بقتال ليقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال وقوله يغط من غط البعير: هدر في الشقشقة. والبكر: الفتي من الإبل. الخناق: ما يخنق به كالحبل ونحوه. ومصب هذا الاعتراض أن الظاهر هنا أن الاستفهام المراد به إنكار أن يكون هو فاعل القتل لا إنكار القتل نفسه، فقد وليت الهمزة غير المنكر أيضًا في هذا المثال. هذا ومن مجيء الاستفهام للإنكار قولك: أتسيء لمن أحسن إليك وقوله تعالى: {أَتَعْبُدُوْنَ مَاْ تَنْحِتُوْنَ} ؟ وقول البحتري: أأكفرك النعماء عندي وقد نمت ... علي نمو الفجر والفجر ساطع وقول المتنبي: أتلتمس الأعداء بعد الذي رأت ... قيام دليل أو وضوح بيان وقد يجيء الاستفهام للنفي كقوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَان} ، وقول البحتري: هل الدهر إلا غمرة وانجلاؤها ... وشيكا وإلا ضيقة وانفراجها وقول الآخر: هل الدهر إلا ساعة ثم تنقضي ... بما كان فيها من بلاء ومن خفض ملاحظة: التوبيخ يشارك التكذيب في النفي، ويختلفان في توجه النفي: في التوبيخ لغير مدخول وهو الالبغاه ومدخولها واقع أو كالواقع، وفي التكذيب يتوجه لنفس مدخولها فمدخولها غير واقع.

لأنا نقول ليس ذلك معناه؛ لأنه قال والمشرفي مضاجعي، فذكر ما يكون منعًا من الفعل، والمنع إنما يحتاج إليه مع من يتصور صدور الفعل منه دون من يكون في نفسه عاجزًا منه. ومنها التهكم: نحو: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أو أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء 1} . ومنها التحقير2:

_ 1 فالاستفهام عن كون صلاته آمرة له بذلك يناسب ادعاء أن المخاطب معتقد له وادعاء اعتقاده إياه يناسب الاستهزاء والتهكم وبالجملة استعلام هذه الحال منه يناسب التهكم به. وإسناد الأمر إلى ضمير الصلاة مجاز عقلي باعتبار الإسناد للسبب في الجملة. أما أداة الاستفهام واستعمالها هنا في التهكم فذلك من باب المجاز المرسل الذي علاقته اللزوم؛ لأن الاستفهام عن الشيء يقتضي الجهل به وبفائدته والجهل بذلك يقتضى الاستخفاف به. كان شعيب عليه السلام كثير الصلاة وكان قومه إذا رأوه يصلي تضاحكوا فقصدوا بقولهم: أصلاتك تأمرك؟ الهزء والسخرية لا حقيقة الاستفهام. 2 راجع 135 من المفتاح -والتحقير عد الشيء حقيرًا. أما الاستهزاء فعدم المبالاة به وإن كان كبيرًا في نفسه، وربما اتحد محلًّا وإن اختلفا مفهومًا. واستعمال الاستفهام فيه مجاز مرسل علاقته اللزوم؛ لأن الاستفهام عن الشيء يقتضي الجهل به وهذا يقتضي عدم الاعتناء به وتحقيره؛ لأن التحقير لا يلتفت إليه فلا يعلم والأولى أن يكون من الكناية أو من مستتبعات التراكيب. ومن مثل التحقير قول الشاعر: فدع الوعيد فما وعيدك ضائري ... أطنين أجنحة الذباب يضير وقوله: من أية الطرق يأتي مثلك الكرم ... أين المحاجم يا كافور والجلم ونحوه: فما أنتم أنانسينا من أنتم ... وريحكم من أي ريح الأعاصر ونحوه: من علم الأسود الزوجي مكرمة ... أقومه البيض أم آباؤه الصيد أم أذنه في يد النخاس دامية ... أم قدرة وهو بالفلين مردود

كقولك: من هذا؟ وما هذا؟ ومنها التهويل 1: كقراءة ابن عباس رضي الله عنهما: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بنِي إِسْرائيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ} ، بلفظ الاستفهام، لما وصف الله تعالى العذاب بأنه مهين لشدته وفظاعة شأنه، أراد أن يصور كنهه، فقال: من فرعون2 أي أتعرفون من هو في فرط عتوه وتجبره، ما ظنكم بعذاب يكون هو المعذب به، ثم عرف حاله بقوله إنه كان عاليا من المسرفين3.

_ 1 راجع 82 من المفتاح، واستعمال الاستفهام في التهويل مجاز مرسل علاقته المسببية أو اللزوم على ما أرى. 2 فرعون مبتدأ ولفظ الاستفهام خبر أو بالعكس على اختلاف الرأيين في الاسم بعد من الاستفهامية، كالأخفش يذهب إلى الأول وسيبويه إلى الثاني. 3 فلا معنى لحقيقة الاستفهام هنا وهو ظاهر بل المراد أنه تعالى لما وصف العذاب بالشدة والفظاعة زادهم تهويلًا بقوله: {مِنْ فِرْعَوْن} أي هل تعرفون من هو في جبروته وطغيانه فما ظنكم بعذاب يكون هو المعذب به ولهذا قال: {إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} زيادة في تعريف حاله وتهويل عذابه.

ومنها الاستبعاد 1: نحو: {أَنَّى لَهُمُ2 الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} ؟ ومنها التوبيخ والتعجيب جميعًا: كقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أمْوَاتًا فَأحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: كيف تكفرون والحال أنكم عالمون بهذه القصة أما التوبيخ؛ فلأن الكفر مع هذه الحال ينبئ عن الإنهماك في الغفلة أو الجهل، وأما التعجب؛ فلأن هذه الحال تأبى أن لا يكون للعاقل علم بالصانع، وعلمه به يجعله يأبى أن يكفر، وصدور الفعل مع الصارف القوي مظنة تعجب ونظيره: {أَتَأْمُرُوْنَ الْنَّاْسَ

_ 1 أي عد الشيء بعيدًا. والفرق بينه وبين الاستبطاء أن متعلقه غير متوقع والاستبطاء متعلقه متوقع غير أنه بطيء. واستعمال الاستفهام في الاستبعاد مجاز مرسل علاقته المسببية أو اللزومية. 2 فلا يجوز حمل الاستفهام هنا على حقيقة الاستفهام وهو ظاهر بل المراد استبعاد أن يكون لهم الذكرى بقرينة قوله تعالى: {وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْه} ، أي كيف يذكرون ويتعظون ويوفون بما وعدوا من الإيمان عند كشف العذاب عنهم وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الأذكار، من كشف الدخان وما ظهر على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات من الكتاب المعجز وغيره فلم يذكروا وأعرضوا عنه. هذا ومن مثل خروج الاستفهام إلى الاستبعاد، قول ابن الفارض: أين منى ما رمت هيهات ... بل أين لعيني باللحظ لثم ثراكا وقول مهيار: وأبى كسرى علا إيوانه ... أين في الناس أب مثل أبي وقول الآخر: خليلي فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلًا بكى من حب قاتله قبلي وقول أبي تمام: من لي بإنسان إذا أغضبته ... وجهلت كان الحلم رد جوابه

بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَاب} 1.

_ 1 الحاصل أن كلمة الاستفهام إذا امتنع حملها على حقيقة تولد منه بمعونة القرائن ما يناسب المقام ولا ينحصر فيما ذكره الخطيب من المعاني بل حكم ذوقك فسترى أن الاستفهام يخرج إلى معان كثيرة. كالتحسر مثل قول البارودي: يا دهر فيم فجعتني بحليلة ... كانت خلاصة عدتي وعتادي وقول الشاعر: يا دار أين الساكنون وأين ذيا ... ك البهاء وذلك الإعظام يا دار أين زمان ربعك مونق ... وشعارك الإجلال والإكرام وكالتمني مثل: أم هل لها بتكلم عهد ... هل بالطلول لسائل رد وكالتوبيخ مثل قول شوقي: إلام الخلف بينكمو إلام ... وهذي الضجة الكبرى علاما ونحوه: حتى متى أنت في لهو وفي لعب ... والموت نحوك يهوي فاتحا فاه وكالتعظيم مثل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه} ؟ وقول الشاعر: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهه وسداد ثغر وقوله: من منكم الملك المطاع كأنه ... تحت الطوابغ تبع في حمير

"ثالثا - الأمر": ومن أنواع الإنشاء "الطلبي" الأمر: والأظهر1 أن صيغته -من المقترنة باللام نحو ليحضر زيد، وغيرهما نحو: أكرم عمرًا، ورويد بكر2- موضوعة لطلب الفعل3 استعلاء، لتبادر الذهن عند سماعها4 إلى ذلك5 وتوقف ما سواه على القرينة.

_ 1 راجع الكلام على الأمر في المفتاح ص137. هذا والمراد بالأمر اللفظي -لأن الكلام في الأشياء وهو لفظي- لا في الأمر النفسي. "والأمر هو طلب فعل غير كف على جهة الاستعلاء" بأن يعد المتكلم نفسه عاليًا -وذلك بأن يكون كلامه على جهة القوة لا التواضع. والمراد بالطلب الطلب اللفظي فقط. والمراد طلب فعل من حيث أنه فعل فدخل فيه: كف عن اللعب، وخرج عنه لا تلعب مثلًا. وصيغة الأمر تنحصر في معان كثيرة: فاختلفوا في حقيقته الموضوعة هي لها اختلافًا كثيرًا، ولما لم تكن الدلائل مفيدة للقطع بشيء قال الخطيب "والأظهر إلخ". 2 فصيغة الأمر على ما أشار إليه هنا هي: فعل الأمر -اسم فعل لأمر- المضارع المقرون بلام الأمر -المصدر النائب عن فعل الأمر نحو وبالوالدين إحسانًا فالمراد بصيغته ما دل على طلب فعل غير كف استعلاء، سواء كان اسمًا أو فعلًا ويخرج بالاستعلاء التمني والعرض والاستفهام. والاستعلاء طلب العلو بمعنى عد الآمر نفسه عاليًا بإظهار الغلطة سواء كان عاليًا في نفسه أم لا ويخرج بالاستعلاء الدعاء والالتماس- هذا والأمر يشترط فيه الاستعلاء إما التمني والعرض والاستفهام ففيها طلب على جهة الاستعلاء ولكن لا يشترط فيها الاستعلاء. 3 أي ولو ندبًا فهي عند المصنف موضوعة للقدر المشترك بين الوجوب والندب والجمهور على أنها حقيقة في الوجوب. 4 أي سماع صيغة الأمر. 5 أي إلى ذلك المعنى أعني الطلب استعلاء ولو على سبيل الندب. والتبادر إلى الفهم أقوى أمارات الحقيقة.

قال السكاكي1. ولا طباق أئمة اللغة على إضافتها إلى الأمر. بقولهم: صيغة الأمر، ومثال الأمر ولام الأمر2. وفيه3 نظر لا يخفى على المتأمل. ثم إنها -أعني صيغة الأمر- قد تستعمل في غير طلب الفعل بحسب مناسبة المقام. كالإباحة:4

_ 1 137 من المفتاح. 2 أي دون أن يقولوا صيغة الإباحة أو لام الإباحة مثلًا، وهذا مما يؤيد كونها حقيقة في الطلب على سبيل الاستعلاء؛ لأنه حقيقة الأمر. 3 أي في كلام السكاكي ووجه النظر هو أننا لا نسلم أن الأمر في قولهم صيغة الأمر مثلًا بمعنى طلب الفعل استعلاء، بل الأمر في عرفهم حقيقة في نحو قم وليقم ونحو ذلك، وإضافة الصيغة والمثال إلى الأمر من إضافة العام إلى الخاص بدليل أنهم يستعملون ذلك في مقابلة صيغة الماضي والمضارع وأمثالهما، ويمكن أن يجاب على هذا بأنا سلمنا ذلك لكن تسميتهم نحو قم وليقم أمرًا دون أن يموت إباحة مثلًا مما يؤيد ذلك في الجملة وإن لم يصلح دليلًا عليه. هذا والخلاصة أن الخطيب والسكاكي يريان أن صيغة الأمر للقدر المشترك بين الوجوب والندب، وهذا موضوع اختلاف بين الأصوليين: فقيل هي للوجوب وقيل هي للندب وقيل للقدر المشترك بينها وهو الطلب المشترك بينهما وقيل هي مشتركة بينهما لفظًا وقيل بالتوقف بين كونها للقدر المشترك بينهما وهو الطلب وبين الاشتراك اللفظي وقيل هي مشتركة بين الوجوب والندب والإباحة موضوعة لكل منها وقيل هو للقدر المشترك بين الثلاثة وهو الأذن. ويرى السيد في حاشيته على المطول أن كلام السكاكي في المفتاح يدل على أن الطلب على جهة الاستعلاء لا يتناول الندب. 4 خروج صيغة الأمر إلى غير معناها إما أن يكون لعلاقة مع قرينه مانعة فيكون مجازًا أو غير مانعة فيكون كناية. =

كقولك في مقام الإذن جالس الحسن أو ابن سيرين، ومن أحسن ما جاء فيه قول كثير: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت1 أي: لا أنت ملومة ولا مقلية ووجه حسنة إظهار الرضا بوقوع الداخل تحت لفظ الأمر حتى كأنه مطلوب، أي مهما اخترب في حقي من الإساءة والإحسان فأنا راض به غاية الرضا فعامليني بهما وانظري هل تتفاوت حالي معك في الحالين. والتهديد2 كقولك العبد شتم مولاه وقد أدبنه: اشتم مولاك

_ فإذا استعملت صيغة الأمر في غير طلب الفعل استعلاء -سواء كان الغير طلبًا على جهة غير الاستعلاء أو كان غير طلب- كان لك من خروج صيغة الأمر من غير معناها لغرض بلاغي. وراجع في هذا 132 و137 من المفتاح. هذا وخروج صيغة الأمر إلى الإباحة إذا استعملت الصيغة في مقام توهم السامع فيه حظر شيء عليه، والعلاقة بين الطلب والإباحة اشتراكهما في مطلق الإذن فهو من استعمال اسم الأخضر في الأعم. هذا ولا يجوز الجمع بين الأمرين في التخيير دون الإباحة فيجوز الجمع بينهما كما يجوز عدم الإتيان بشيء منهما. 1 ملومة بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي لا أنت ملومة. مقلية: من القلي وهو البغض. وتقلت. أبغضت وهو التفات من الخطاب إلى الغيبة. والبيت من قصيدة لكثير في زهر الآداب"70 و71/ 2 زهر"، وهو في العقد ص116 جـ2، وفي المفتاح ص129. هذا وصيغة الأمر هنا للإباحة وأو قرينة. 2 والعلاقة بين الطلب والتهديد ما بينهما من شبه النضاد، ومجيئها للتهديد إذا استعملت الصيغة في مقام عدم الرضا بالمأمورية. وراجع في ذلك المفتاح ص132- والتهديد التخويف وهو أعم من الإنذار؛ لأن الإنذار إبلاغ مع تخويف وفي الصحاح: الإنذار تخويف مع دعوة، والإنذار على ما في الصحاح، لا يكون إلا من رسول وعلى ما قبله يكون من الرسول وغيره وعلى الرأيين فالإنذار أخص من التهديد.

وعليه: {اِعْمَلُوْا مَاْ شِئْتُمْ} . والتعجيز 1: كقولك لمن يدعى أمرًا تعتقد أنه ليس في وسعه: افعله. وعليه: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِه} 2.

_ 1 والعلاقة بين الطلب والتعجيز ما بينها من شبه التضاد في متعلقة ما فإن التعجيز في المستحيلات والطلب في الممكنات - وتستعمل صيغة الأمر لتعجيز في مقام إظهار عجز من يدعي أن في وسعه أن يفعل ما يعجز عن فعله. هذا ومن خروج صيغة الأمر للتعجيز قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الجِنِّ والأنْسِ إنِ استَطَعْتُمْ أنْ تَنْفُذُوا مِنْ أقْطَارِ السَّمَاواتِ والأرْضِ فَانفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إلَّا بِسُلْطَان} . وقول الشاعر: أروني بخيلًا طال عمرًا ببخله ... وهاتوا كريمًا مات من كثرة البذل. وقول الشاعر: فارفع بكفك إن أردت بناءنا ... ثهلان ذا الهضبات هل يتحلحل وقول الآخر: أريني جوادًا مات هزلًا لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلًا مخلدًا ومن حروج صيغة الأمر للتهديد قوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّار} وقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت". 2 إذ ليس المراد طلب اتيانهم بسورة من مثله لكونه محالًا. والظرف أعني قوله: "من مثله" متعلق بـ"فأتوا" والضمير لعبدنا أو صفة لسورة والضمير لما نزلنا أو لعبدنا. فإن قيل: أم لا يجوز على الأول أن يكون الضمير لما نزلنا؟. فالجواب: أن ذلك يقتضي ثبوت مثل القرآن في البلاغة بشهادة الذوق، إذ أن التعجيز على هذا الاحتمال إنما يكون عن المأتي به وهو السورة أي عن الإتيان بها مع وجود المأتي منه وهو المثل، فكأنه مثل القرآن ثابت لكنهم عجزوا عن أن يأتوا من المثل بسورة خلاف ما إذا كان وصفًا للسورة فإن المعجوز عنه هو السورة الموصوفة باعتبار انتفاء الوصف. فإن قيل فليكن التعجيز على احتمال جعل الظرف متعلقًا بفأتوا وإعادة الضمير لما نزلنا -باعتبار انتفاء المأتي به منه، فيجعل التعجيز لا باعتبار انتفاء المأتي به لا باعتبار انتفاء المأتي منه وهو المثل. قلنا: هذا احتمال عقلي لا يسبق إلى الفهم ولا يوجد له مساغ في اعتبارات البلغاء واستعمالاتهم فلا اعتداد به هنا: وللطيبي كلام هنا طويل لا طائل تحته.

والتسخير: نحو: {كُوْنُوْا قِرَدَةً خَاسِئِيْنَ} 1. والإهانة 2: نحو كونوا حجارة أو حديدًا وقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيم} . والتسوية 3: كقوله: {أَنْفِقُوا طَوْعًا أو كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُم} . وقوله: {اصْبِرُوا أو لا تَصْبِرُوا} .

_ 1 والعلاقة هنا السببية. والتسخير جعل الشيء مسخرًا منقادًا لما أمر به. وذلك في مقام يكون فيه منقادًا للأمر بدون قدرة له والعلاقة هنا السببية وتحتمل أن تكون المشابهة في مطلق الإلزام. 2 والعلاقة هنا اللزوم؛ لأن طلب الشيء من غير قصد حصوله لعدم القدرة عليه مع كونه من الأحوال المهينة يستلزم إهانة المأمور، والفرق بين التسخير والإهانة أنه في التسخير يحصل الفعل المأمور به وفي الإهانة لا يحصل الفعل إذ ليس الغرض أن يطلب منهم كونهم قردة أو حجارة لعدم قدرتهم على ذلك بل المقصود قلة المبالاة بهم. 3 والعلاقة هنا التضاد، وقيل أن صيغة التسوية إخبارًا لا إنشاءًا وإفادة صيغة الأمر للتسوية في مقام توهم رجحان الأمرين على الآخر. ففي الإباحة كان المخاطب توهم أن الفعل محظور عليه فأذن له في الفعل مع عدم الحرج في الترك، وفي التسوية كأنه توهم أن أحد الطرفين من الفعل والترك أنفع له وراجح بالنسبة إليه فدفع ذلك وسوى بينهما.

والتمني1. كقول امرئ القيس: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... "بصبح، وما الإصباح منك بأمثل" والدعاء 2: إذا استعملت في طلب الفعل على سبيل التضرع نحو: رب اغفر لي ولوالدي. والالتماس: إذا استعملت فيه على سبيل التلطف، كقولك لمن يساويك في الرتبة: افعل، بدون الاستعلاء. والاحتقار 3:

_ 1 والعلاقة هنا السببية أو الضاد أيضًا. والتمني يكون في مقام طلب شيء محبوب لا قدرة للطالب عليه وذلك في مخاطبة ما لا يعقل، ومثل البيت قول الشاعر: يا قطر عم دمشق واخصص منزلًا ... في قاسيون وصلة بنبات وقول ابن زيدون: ربا نسيم الصبا بلغ تحيتنا ... من لو على البعد حيا كان يحيينا وقول المعري: فيا موت زر إن الحياة ذميمة ... ويا نفس جدي إن دهرك هازل وهنا اعتراض وهو أن التمني من أقسام الطلب فيكف يكون الأمر إذا كان لا طلب فيه للتمني والجواب أن الأمر هنا لم يخرج إلى إفادة عدم الطلب أصلًا بل إلى إفادة الطلب لا على سبيل الاستعلاء، وقال السيد في الجواب: "كأنه أراد أن القسم الأول وهو أن لا يفيد الطلب المعتبر في الأمر أصلًا أعني ما يستدعي إمكان المطلوب وما لا يفيد هذا الطلب أصلًا جاز أن يفيد نوعًا آخر من الطلب فلا إشكال". 2 أي الطلب على سبيل التضرع واختيار السبكي أن استعمال الطلب فيه حقيقة لا مجاز وكذلك الالتماس. 3 هو والإهانة قريبان من بعض فما قيل هناك في مقام التجوز وعلاقته يقال هنا. وهذا ومن خروج صيغة الأمر للدعاء قول الشاعر: أسلم يزيد في الدين من أود ... إذا سلمت، وما في الملك من خلل

نحو: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُون} . ثم الأمر قال السكاكي حقه الفور. أولًا: لأنه الظاهر من الطلب1. وثانيًا: ولتبادر الفهم عند الأمر بشيء بعد الأمر بخلافة إلى تغيير الأمر الأول دون الجمع وإرادة التراخي2. والحق خلافة لما تبين في أصول الفقه3.

_ = وللإرشاد. كذا فليسر من طلب الأعادي ومثل سراك فليكن الطلاب، وقول أبي العتاهية: واخفض جناحك إن منحت إمارة ... وارغب بنفسك عن ردى اللذات وقول الأرجاني: شاور سواك إذا نابتك نائبة ... يومًا وإن كنت من أهل المشورات وللالتماس قول الشاعر: عرج على الزهر يا نديمي ... ومل إلى ظله الظليل وقول ابن زيدون: دومي على العهد ما دمنا محافظة ... فالحر من دان انصافًا كما دينا أولى وفاء وإن لم تبذلي صلة ... فالذكر يقنعنا والطيف يكفينا هذا ويرد الأمر للنهي أيضًا. قال الجاحظ. قال رجل لابنه إذا أردت أن تعرف عيبك مخاصم شيخًا من قدماء جيرانك، فقال: يا أبت لو كنت إذا خاصمت جاري لم يعرف عيبي غيري كان ذلك رأيًا، قال الجاحظ وقد أخطأ الذي صنع هذا الحديث؛ لأن أباه نهاه ولم يأمره "125 جـ3 بيان". 1 كما في الاستفهام والنداء فإنه لا خفاء في أنهما يقتضيان الفور -وراجع كلام السكاكي في المفتاح ص137. 2 فإن المولى إذا قال لعبده: قم ثم قال له قبل أن يقوم: اضطجع حتى المساء، يتبادر الفهم إلى أنه غير الأمر بالقيام إلى الأمر بالاضطجاع ولم يرد الجمع بين القيام والاضجاع مع تراخي أحدهما. 3 وذلك؛ لأنا لا نسلم ما قاله السكاكي عن خلو المقام عن القرائن. والحاصل على الفورية والتراخي إنما يستفادان من القرائن فإذا انتفت كان المراد طلب الماهية مطلقًا. فعند خلو المقام من القرائن لا يكون مفهوم الأمر إلا الطلب استعلاء، والفور والتراخي مفوض إلى القرائن كالتكرار وعدمه فإنه لا دلالة للأمر على شيء منهما.

رابعا: النهي1. ومنها النهي2. وله حرف واحد، وهو "لا" الجازمة في نحو قولك: لا تفعل. وهو كالأمر في الاستعلاء3. وقد يستعمل في غير طلب الكف4 أو الترك5. كالتهديد: 6 كقولك لعبد لا يمتثل أمرك: لا تمتثل أمري7.

_ 1 راجع 137 من المفتاح -والنهي هو طلب الكف عن الفعل استعلاء والمراد بالطلب الطلب اللفظي هذا وقد اختلف في النهي هل هو للحرمة أو للكراهة أو للقدر المشترك بينها، فالأول هو قول الجمهور، والأخير قول الشارح. ولكن النهي يقتضي الفور بلا خلاف. 2 أي من أنواع الإنشاء الطلبي. 3 لأنه المتبادر إلى الفهم. 4 أي عن الفعل كما هو مذهب الأشاعرة. 5 كما هو مذهب المعتزلة الذين يقولون أن مدلوله عدم الفعل وهو المعبر عنه بالترك. فقد اختلف الأصوليون في أن مقتضى النهي كف النفس عن الفعل بالاشتغال بأحد أضداده، أو ترك الفعل وهو نفس أن لا تفعل أي نفس عدم الفعل. 6 والعلاقة بين الشيء والتهديد السببية أو استلزام النهي للتهديد. 7 ويخرج أيضًا إلى الدعاء والالتماس، إذ فيهما طلب كف لا على وجه الاستعلاء والعلاقة الإطلاق. ومثال خروج النهي للدعاء قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أو أَخْطَأْنَا} والالتماس كقول المعري: لا تطويا السر عني يوم نائبة ... فإن ذلك ذنب غير مغتفرا وقول ابن زيدون: لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا ... إن طالما غير النأي المحبينا كما يخرج إلى الإرشاد والتمني والتوبيخ والتهديد والتحقير وسوى ذلك.

واعلم1 أن هذه الأربعة -أعني التمني والاستفهام والأمر والنهي- تشترك في كونها قرينة دالة على تقدير الشرط2 بعدها، كقولك ليت لي ما لا أنفقه أي أن أرزقه وقولك أين بيتك أزرك أي أن تعرفنيه وقولك أكرمني أكرمك أي إن تكرمني، قال الله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي} ، بالجزم، فأما قراءة الرفع: فقد حملها الزمخشري على الوصف، وقال السكاكي الأولى حملها على الاستئناف دون الوصف لهلاك يحيى قبل زكريا عليهما السلام وأراد بالاستئناف أن يكون جواب سؤال مقدر تضمنه ما قبله، فكأنه لما قال فهب لي وليًّا قيل ما تصنع به؟، فقال: يرثني، فلم يكن داخلًا في المطلوب بالدعاء، وقولك: لا تشتم يكن خير لك أي إن لا تشتم. وأما العرض كقولك لمن تراه لا ينزل: ألا تنزل تصب خيرًا أي أن تنزل فمولد من الاستفهام وليس به؛ لأن التقدير أنه لا ينزل

_ 1 رجع 133 و137 و138 من المفتاح. 2 أي فعل الشرط أي مع الأداة - ويطلق الشرط أيضًا على الأداة وعلى التعليق. فإذا قصدت السببية وجب الجزم وإلا وجب الرفع على الصفة أو الحال أو الاستئناف على حسب المعنى المراد. وسر جواز تقدير الشرط بعد هذه الأربعة أن الحامل للمتكلم على الكلام الطلبي كون المطلوب مقصودًا للمتكلم أما لذاته أو لغيره لتوقف ذلك الغير على حصوله، وهذا معنى الشرط، فإذا ذكرت الطلب وذكرت بعده ما يصلح توقفه على المطلوب غلب على ظن المخاطب كون المطلوب مقصودًا لذلك المذكور بعده لا لنفسه، فيكون إذا معنى الشرط -وهو توقف الشيء على الشيء- ظاهرًا في الطلب -أي في الكلام الطلبي- مع ذكر ذلك الشيء. ولما جعل النحاة الأشياء التي يضمر حرف الشرط بعدها خمسة أشياء المصنف إلى ذلك بقوله: "وأما العرض فمولد من الاستفهام".

فالاستفهام من عدم النزول طلب للحاصل وهو محال1.. وتقدير الشرط في غير هذه المواضع لقرينة جائز أيضًا كقوله تعالى: {فَاللَّهُ هو الْوَلِي} 2 أي إن أرادوا وليًّا بالحق فالله هو الولي لا ولي سواه3. وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ ولَدٍ ومَا كَان مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ} ، أي لو كان معه إله إذًا لذهب.

_ 1 فالعرض مولد من الاستفهام وليس شيئًا آخر برأسه؛ لأن الهمزة فيه للاستفهام دخلت على فعل منفي امتنع حمله على حقيقة الاستفهام للعلم بعدم النزول مثلًا، فتولد عنه بمعونة قرينة الحال عرض النزول على المخاطب وطلبه منه. 2 راجع 121 و138 من المفتاح. 3 وقيل لا شك أن قوله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أو ْلِيَاء} إنكار توبيخ بمعنى أنه لا ينبغي أن يتخذ من دونه أو لياء وحينئذ يترتب عليه قوله تعالى: {فَاللَّهُ هو الْوَلِي} من غير تقدير الشرط كما يقال لا ينبغي أن يعبد غير الله فالله هو المستحق للعبادة. والفاء على الوجه الأول رابطة لجواب شرط مقدر وعلى الثاني للتعليل للنفي. ويرد على الرأي الثاني أنه ليس كل ما فيه معنى الشيء حكمه حكم ذلك الشيء والطبع المستقيم شاهد صدق على صحة قولنا "لا تضرب زيد فهو أخوك" بالفاء بخلاف "أتضرب زيدًا فهو أخوك" استفهام إنكار فإنه لا يصح إلا بالجملة الحالية.

خامسًا: النداء 1. ومنها النداء 2. وقد تستعمل صيغته في غير معناه3. كالإغراء 4. في قولك لمن أقبل يتظلم: يا مظلوم. والاختصاص5.

_ 1 راجع 138 من المفتاح. 2 أي من أنواع الإنشاء الطلبي. والنداء طلب الإقبال بحرف نائب مناب ادعوا لفظًا أو تقديرًا -أي طلب المتكلم إقبال المخاطب حسًّا أو معنى والمراد بالطلب الطلبي اللفظي؛ لأنه هو الذي من أقسام الإنشاء. فمفاد حرف النداء ومدلوله "أدعوا" ولذلك لا يجزم الفعل بعده وجوبًا، وأما الإقبال فهو مطلوب باللزوم فالنداء من أقسام الطلب لدلالته على طلب الإقبال لزومًا. وحروفه: أيا وهيا للبعيد وما نزل منزلته -وأي والهمزة لنداء القريب وما هو بمنزلته- ويا قيل هي حقيقة في البعيد ومجاز في القريب وقيل حقيقة في القريب والبعيد وهذا رأي ابن الحاجب والأول للزمخشري. 3 أي في غير معناه الأصلي وهو طلب الإقبال. 4 راجع 123 من المفتاح -والإغراء هو الحث على لزوم الشيء، فقولك للمظلوم يا مظلوم نقصد إغراءه وحثه على زيادة التظلم وبث الشكوى. ولست تقصد بذلك طلب إقباله؛ لأن الإقبال حاصل: فيكون اللفظ الموضوع لطلب الإقبال مستعمل فيه على المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق والتقيد. 5 هو لغة قصر الشيء على الشيء واصطلاحًا تخصيص حكم علق بضمير باسم ظاهر صورته صورة منادى أو معرف بأل أو بإضافة أو بالعلمية.

في قولهم: أنا أفعل كذا أيها الرجل1، ونحن نفعل كذا أيها القوم، واغفر اللهم لنا أيتها العصابة، أي متخصصًا من بين الرجال ومتخصصين من بين الأقوام والعصائب. "وقوع الخبر موقع الإنشاء2: ثم الخبر قد يقع موقع الإنشاء3 أما: للتفاؤل4، أو لإظهار

_ 1 فأي مبني على الضم في محل نصب مفعول لمحذوف وجوبًا أي أخص والرجل نعت لأي باعتبار لفظها والجملة في محل نصب على الحال، فقولك أنا أكرم الضيف أيها الرجل أفاد فيه قولنا أيها الرجل تخصيص الرجل بالإكرام الذي نسب لمدلول أنا وهو المتكلم ويلاحظ أن المجاز في أيها ونسب إلى حرف النداء؛ لأن "أيا" نزلت منزلة أدواته لكثرة استعمالها مع أدوات النداء فقولنا "أيها الرجل" أصله تخصيص المنادى بطلب إقباله عليك، فهو على المجاز المرسل لعلاقة الإطلاق والتقييد، فليس المراد بأي وبوصفه هو المخاطب بل ما دل عليه ضمير المتكلم، فأيها مضموم والرجل مرفوع والمجموع في محل النصب على أنه حال، ولهذا قال "أي متخصصًا" أي مختصًّا من بين الرجال. هذا وقد تستعمل صيغة النداء في الاستغاثة نحو "يا لله" مجازًا مرسلًا من استعمال ما للأعم في الأخص. وفي التعجب نحو يا للماء مجازًا مرسلًا لعلاقة المشابهة. وفي التحسر والتوجع لذلك كما في نداء الأطلال والمنازل والمطايا وما أشبه ذلك. 2 راجع 138 و129 من المفتاح. 3 مجازًا مرسلًا في استعمال الماضي في الطلب والعلاقة الضدية، أو مجازًا لاستعارة لتشبيه غير الحاصل بالحاصل للتفاؤل أو للحرص على وقوعه. أما استعمال المستقبل في الطلب فيجوز أن يجعل مجازًا ويجوز أن يجعل كناية بأن يقال حصول الفعل في الاستقبال لازم لطلب الفعل في الحال فذكر اللازم وأريد الملزوم، وقد منع السبكي أن يكون كناية؛ لأنه فيها يكون خبرًا لفظًا ومعنى مع أنه إنشاء بصيغة الخبر. 4 بلفظ الماضي دلالة على أنه كأنه وقع نحو وفقك الله للتقوي.

الحرص في وقوعه كما مر1، والدعاء بصيغة الماضي من البليغ يحتمل الوجهين2. أو للاحتراز عن صورة الأمر، كقول العبد للمولى إذا حول عنه وجهه: ينظر المولى إلى ساعة3. أو لحمل المخاطب على المطلوب، أن يكون المخاطب ممن لا يحب أن يكذب الطالب4. أو لنحو ذلك5.

_ 1 أي في بحث الشرط من أن الطالب إذا عظمت رغبته في شيء يكثر تصوره إياه فربما يخيل إليه حاصلًا نحو رزقني الله لقاءك. 2 أي التفاؤل وإظهار الحرص. وأما غير البليغ فهو ذاهل عن هذه الاعتبارات. 3 فلا يكون هذا وما بعده بلفظ الماضي بل بلفظ المضارع. فالمتكلم يقول "ينظر" دون انظر؛ لأنه في صورة الأمر وأن قصد بذلك الأمر الدعاء أو الشفاعة. 4 أي ينسب إلى الكذب، كقولك لصديقك الذي لا يحب تكذيبك "تأتيني غدا" مقام "أتتني" تحمله بألطف وجه على الإتيان؛ لأنه إذا لم يأتيك غدًا صرت كاذبًا من حيث الظاهر لكون كلامك في صور الخبر وإن كان من حيث نفس الأمر لا كذب؛ لأن كلامك في المعنى إنشاء. هذا واستعمال الخبر في الصور الأربعة مجاز مرسل، ويحتمل أن يكون كناية في الصورتين الأخيرتين، والعلاقة في الأولين الضدية مجازًا مرسلًا، فالوجهان الأخيران اللذان بصورة المضارع "الاحتراز عن صورة الأمر -وحمل المخاطب على المطلوب" يحملان على الكناية، وجعل السكاكي الوجه الثالث هو لقصد الكناية قال، ووجه حسنه أما نفس الكناية إن شئت وأما الاحتراز عن صورة الأمر وأما هما معًا "129 من المفتاح". 5 كالقصد إلى المبالغة في الطلب حتى كان المخاطب سارع في الامتثال، وكالقصد إلى استعجال المخاطب في تحصيل المطلوب، وكالتنبيه على كون المطلوب قريب الوقوع في نفسه لقوة الأسباب المتآخذة في وقوعه ونحو ذلك من الاعتبارات. هذا وقد يقع الإنشاء موقع الخبر لأغراض منها: الاهتمام بالشيء كقوله تعالى: {قُلْ أمَرَ رَبِّي بِالقِسْطِ وأقِيمُوا وجوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ، عدل فيه عن الخبر اهتمامًا بأمر الصلاة. وكالرضا بالواقع حتى كأنه مطلوب كقوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار". وكالاحتراز عن مساواة اللاحق بالسابق كقوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِهِ} ، عدل فيه عن: "وأشهدكم" فرارًا من مساواة شهادتهم بشهادته.

تنبيه: ما ذكرناه في الأبواب الخمسة السابقة1 ليس كله مختصًّا بالخبر. بل كثير منه حكم الإنشاء فيه حكم الخبر يظهر ذلك بأدنى تأمل فليعتبره الناظر2. "والله أعلم".

_ 1 الإسنا د - المسند إليه - المسند - متعلقات الفعل - القصر. 2 مثلًا الكلام الإنشائي أما مؤكدًا أو غير مؤكد، والمسند إليه فيها إما محذوف أو مذكور إلى غير ذلك. "والله أعلم".

القول في الوصل والفصل

القول في الوصل والفصل 1: ما هو الوصل والفصل؟: الوصل عطف بعض الجمل على بعض والفصل تركه2 وتمييز موضع أحدهما من موضع الآخر على ما تقتضيه البلاغة فن منها عظيم الخطر، صعب المسلك دقيق المأخذ لا يعرفه على وجهه، ولا يحيط علمًا بكنهه، إلا من أو تي في فهم كلام العرب طبعًا سليمًا، ورزق في إدراك أسراره ذوقًا صحيحًا، ولهذا قصر بعض العلماء البلاغة على معرفة الفصل من الوصل3، وما قصرها عليه؛ لأن الأمر كذلك، إنما حاول بذلك التنبيه على مزيد غموضه وأن أحدًا لا يكمل فيه إلا كمل. في سائر فنونها فوجب الاعتناء بتحقيقه على أبلغ وجه في البيان فنقول والله المستعان:

_ 1 راجع الباب في 108 من المفتاح، 170 وما بعدها من الدلائل هذا وبحوث هذا الباب تتلخص فيما يلي. التعريف - حكم المفردات - حكم الجمل التي لا محل لها من الإعراب - حكم الجمل التي لها محل من الإعراب - محسنات الوصل – الجامع - الجملة الحالية. 2 خص الجمل؛ لأنها أكثر أحكامًا وإن كان الوصل والفصل يجريان أيضًا في المفردات فإن وجد الجامع بينهما فالوصل وإلا فالفصل. وقوله "والفصل تركه" أي ترك عطف بعض الجمل على بعض مما شأنها العطف فلا يقال لترك عطف الجملة الحالية فصل -والترك مشعر بالقصد وهو المناسب للأحوال البلاغية. هذا وفي مختصر السعد عقد الترجمة للباب هكذا "الفصل والوصل" ثم جاء التعريف مبتدأ بذكر الوصل، فقالوا: بدأ بذكر الفصل؛ لأنه الأصل والوصل عارض حاصل بزيادة حرف من حروف العطف، لكن لما كان الوصل بمنزلة الملكة- التي هي عبارة عن الأمر الذي شأنه أن يقوم بالشيء باعتبار جنسه أو شخصه- والفصل بمنزلة عدم الملكة الذي هو نفي شيء عما من شأنه أن يتصف بذلك الشيء وعدم الملكة إنما يعرف بعد معرفة الملكة بدأ في التعريف بذكر الوصل. 3 راجع 109 من المفتاح، 170 دلائل الإعجاز.

حكم المفردات والجمل التي لها محل من الإعراب

حكم المفردات والجمل التي لها محل من الإعراب: إذا أتت جملة بعد جملة فالأولى منهما إما أن يكون لها محل من الإعراب1 أو لًا. وعلى الأول2 أن قصد التشريك بينها وبين الثانية في حكم الإعراب1 أولًا. وعلى الأول2 أن قصد التشريك بينها وبين الثانية. في حكم الإعراب3 عطفت عليها4 وهذا كعطف المفرد على5 المفرد؛ لأن الجملة لا يكون لها محل من الإعراب حتى تكون واقعة موقع المفرد، فكما يشترط في كون العطف بالواو ونحوه6 مقبولًا في المفرد أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه7 جهة جامعة8

_ 1 بأن تكون في محل رفع كالخبرية، أو نصب كالمفعولية، أو جر كالمضاف إليها -وقوله أو لا أي لا محل لها من الإعراب كالجملة الاستئنافية. 2 أي على تقدير أن يكون للأولى محل من الإعراب. 3 أي الذي للأولى مثل كونها خبر مبتدأ أو حالًا أو صفة أو نحو ذلك. 4 أي عطفت الثانية على الأولى ليدل العطف على التشريك المذكور. 5 فإنه إذا قصد تشريك المفرد لمفرد قبله في حكم إعرابه من كونه فاعلًا أو مفعولًا أو مجرورًا بحرف كالذي قبله، وجب عطفه عليه في الاستعمال الأغلب، وإن كانوا قد أجازوا ترك العطف في الأخبار والصفات المتعددة مطلقًا قصد التشريك وجب العطف. والفرق بينهما أن الصفات المفردة كالشيء الواحد من الموصوف لعدم استقلالها بخلاف الجمل فهي لاستقلالها لا يدل على تعلقها بما قبلها إلا العطف. 6 أي نحو الواو مما يقتضي التشريك في الحكم كالفاء وثم وحتى وهذا خطأ؛ لأن هذا الحكم مختص بالواو فقط ولا يشاركها فيه شيء من حروف العطف. 7 مفردين أو جملتين. 8 أي وصف له خصوص يجمعها في العقل أو الوهم أو الخيال وبقرب أحدهما من الآخر.

كما في قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} ، يشترط في كون العطف بالواو ونحوه مقبولًا في الجملة ذلك1، كقولك: زيد يكتب ويشعر2 أو يعطي ويمنع وعليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون} ، ولهذا عيب على أبي تمام قوله: لا والذي هو عالم أن النوى ... صبر وأن أبا الحسين كريم3

_ 1 أي وجود الجهة الجامعة. 2 لما بين الكتابة والشعر من التناسب الظاهر "جامع خيالي بين المسندين" مع اتحاد المسند إليه في الجملتين، وكذلك بين يعطي ويمنع من التضاد ما يجمع بينهما في العطف بخلاف نحو زيد يكتب ويمنع أو يعطي ويشعر، وذلك أي اشتراط الجامع بينهما لئلا يكون الجمع عند انتفاء الجهة الجامعة عبثًا لا طائل تحته كالجمع بين الضب وهو حيوان بري والنون -أي الحوت- وهو حيوان بحري ومثل هذا قول الكميت: أم هل ظعائن بالعلياء رافعة ... وإن تكامل فيها الدل والشنب 3 راجع البيت وشرحه في كتابي "شرح البديع لابن المعتز ص61"، وفي 443 من الصناعتين، 25 جـ3 زهر الآداب، 173 من الدلائل، 118 من المفتاح، 22 جـ2 ابن السبكي. والشاهد فيه عطف جملة "وأن أبا الحسين كريم" على جملة "أن النوى صبر" مع عدم المناسبة الظاهرة بين كرم أبي الحسين ومرارة النوى فهذا العطف غير مقبول سواء جعل عطف مفرد على مفرد كما هو الظاهر؛ لأن أن تؤول مع خبرها بمفرد مضاف لاسمها أو جعل عطف جملة على جملة باعتبار وقوعه موقع مفعولي عالم اللذين أصلهما المبتدأ والخبر؛ لأن وجود الجامع شرط في عطف المفرد وعطف الجملة. والبيت من قصيدة لأبي تمام منها: زعمت هو اك عفا الغداة كما عفا ... عنها طلال باللوى ورسوم لا والذي............. ... ........... ما زلت عن سنن الوداد ولا غدت ... نفسي على ألف سواك تحوم فقوله "لا، نفي لما زعمته الحبيبة من أندراس هو اه بدلالة البيت السابق - وجواب القسم "لا والذي" هو قوله في البيت الذي بعده: "ما زلت عن سنن الوداد. والصبر بكسر الباء: عصارة شجر مر. =

إذ لا مناسبة بين كرم أبي الحسين ومرارة النوى، ولا تعلق لأحدهما بالآخر.

_ = ملاحظات: 1- العطف بالفاء وثم وحتى في المفردات والجمل لا يشترط فيه وجود الجهة الجامع؛ لأن هذا هذا الشرط مختص بالواو؛ لأن بكل حرف من هذه الحروف معنى محصلًا غير التشريك والجمعية فإن تحقق هذا المعنى حسن العطف وإن لم يوجد جهة جامعة بخلاف الواو فليس بلازم في الربط بغير الواو من حروف العطف إلا تحقق معنى الحرف كالتعقيب والتراخي ونحوهما فمتى تحقق معنى حرف العطف عطفت سواء كان المعطوف مفردًا أو جملة وسواء كانت الجملة الأولى المعطوف عليها لها محل من الإعراب أم لا؛ لأن معاني هذه الحروف جامعة بنفسها في غنى عن الجهة الجامعة الأخرى وإن كان مع ذلك لا ضير في أن توجد جهة جامعة أخرى غير معاني هذه الحروف بل كثيرًا ما يوجد ذلك في أساليب البلغاء. فالعطف بالواو لا بد فيه من مناسبة خاصة "جهة جامعة" والعطف بغيرها لا يجب فيه ذلك وإن كان يكثر فيه ملاحظة تلك المناسبة الخاصة. 2- عطف المفردات غير الصفات بالواو يشترط فيه أمران: قصد التشريك ووجود الجهة الجامعة. وقصد التشريك يفهم تغاير المعنى بين المفردات واختلافه اختلافًا مقصودًا: وذلك مثل الآية: {يَعْلَمُ مَاْ يَلِجُ فَيْ الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَاْ يَنْزِلُ مِنَ الْسَّمَاْءِ وَمَاْ يَعْرُجُ فِيْهَا} ، لما بينهما من التقابل بالتضاد في الأولين، وعطف العارج في السماء والنازل فيها كذلك. 3- المفردات الواقعة صفات الأصل فيما عند عدم تقابلها ترك العطف نظرًا؛ لأنها جارية على موصوف واحد مع تلاؤمها وتناسبها. وقد تعطف مع عدم التقابل الصفة على الأخرى. أما إذا تقابلت الصفات فالواجب فيها العطف إلا إذا قصدت من الصفتين معنى واحدًا. وعلى أي حال فهذه الصفات من المفردات والحكم على أي حال في الجمع لا يكاد يختلف. 4 الجمل متى كان للأولى منها "المعطوف عليها" حكم من الإعراب كأن حكم العطف فيها كحكمه بين المفردات، فمتى قصد التشريك ووجدت الجهة، الجامعة فالوصل، وإلا فالفصل.

وإن لم يقصد1 ذلك ترك عطفها عليها كقوله تعالى: {وَإذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} ، أم يعطف الله يستهزئ بهم على إنا معكم؛ لأنه لو عطف عليه لكان من مقول المنافين2 وليس منه، وكذا قوله تعالى3: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ} ، وكذا قوله: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كما آمَنَ النَّاس قَالوا أَنُؤْمِنُ كما آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} .

_ 1 رجع 178 من الدلائل، 114 من المفتاح. وقوله إن لم يقصد ذلك، أي لم يقصد تشريك الثانية للأولى في حكم إعرابها سواء أكان بينهما جهة جامعة أم لا - ترك عطف الثانية على الأولى، لئلا يلزم من العطف التشريك في الحكم وهو ليس بمقصود بل المقصود الاستئناف. 2 فلو عطف عليه لزم تشريكه له في كونه مفعول قالوا فيلزم أن يكون مفعول قول المنافقين وليس كذلك وإنما قال: على {إنَّا مَعَكُمْ} دون {إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} ؛ لأن قوله: {إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} عطف بيان لقوله: {إنَّا مَعَكُمْ} فحكمه حكمه وأيضًا العطف على المتبوع هو الأصل وإن كان قد قيل أنه ليس في: {إنَّا مَعَكُمْ} إيهام واضح حتى يكون إنما نحن مستهزؤون بيانًا لها بل هي تأكيد لها أو بدل اشتمال منها أو مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، ولعل المراد بالبيان هنا البيان اللغوي وهو الإيضاح لا الاصطلاحي، ولكن كلام الشارح في شرح المفتاح يقتضي أن المراد بالبيان البيان الاصطلاحي. هذا هو الحاصل أن الجملة التي لها محل من الإعراب إن لم يقصد تشريك الثانية للأولى في حكم إعرابها وجب ترك العطف "وإن قصد فإن وجد الجامع عطفت" وإلا فلا فالمعتبر هو الجامع فلو جعله محل التقسيم لكان أنسب؛ لأن منع العطف لعدم قصد التشريك تكفل به النحو. 3 راجع 85 و114 من المفتاح في الكلام على الآية.

حكم الجمل التي لا محل لها من الإعراب

حكم الجمل التي لا محل لها من الإعراب 1: وعلى الثاني2 أن قصد بيان ارتباط الثانية بالأولى على معنى بعض حروف العطف سوى الواو عطفت عليها3 بذلك الحرف4 تقول: دخل زيد فخرج عمرو، إذا أردت أن تخبر أن خروج عمرو كان بعد دخول زيد من غير مهلة، وتقول: خرجت ثم خرج زيد، إذا أردت أن تخبر أن خروج زيد كان بعد خروجك بمهلة5، وتقول يعطيك زيد دينارًا أو يكسوك جبة، إذا أردت أن تخبر أنه يفعل واحدًا منهما لا بعينه، وعليه قوله تعالى: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِين} 6.

_ 1 راجع 172 من الدلائل، و109 من المفتاح. 2 أي على تقدير أن لا يكون للأولى محل من الإعراب. 3 أي عطفت الثانية على الأولى مطلقًا في الأحوال الستة الآتية "كمال الاتصال. كما ل الانقطاع إلخ" وسواء كان للأولى قيد قصد إعطاؤه للثانية أو قصد عدم إعطائه لها أو لم يكن لها قيد أصلًا. 4 أي العاطف من غير اشتراط أمر آخر -الجهة الجامعة. 5 هذا هو الأصل في الفاء وثم. وقد تكون الفاء للتعقيب الذكري ومنه عطف المفصل على المجمل، وكذلك ثم قد تكون لاستبعاد مضمون ما بعدها عما قبلها أو لمجرد التدرج في مدارج الكمال. 6 فعدم اشتراط أمر آخر لصحة العطف بغير الواو في -الفاء ثم ومثلهما حتى ولكن ولا وأو وبل- من الجهة الجامعة؛ لأن ما سوى الواو من حروف العطف يفيد مع الاشتراك معاني محصلة مفصلة في علم النحو، فإذا عطفت الثانية على الأولى بذلك العاطف ظهرت الفائدة بدون توقف على شيء آخر، فيحصل معاني هذه الحروف؟ بخلاف الواو فإنها لا تفيد إلا مجرد الاشتراك وهذا إنما يظهر فيما له حكم إعرابي كالمفردات والجمل التي لها محل إعرابي فإذا وجدت الجهة الجامعة -أي الوصف الخاص الذي يجمعهما ويقرب أحدهما من الآخر في العقل أو الوهم أو الخيال- عطفت على بعض وإلا فلا، وإما إفادة الواو الاشتراك في غير ماله حكم إعرابي ففيه خفاء وإشكال ودقة وهو السبب في صعوبة باب الفصل الوصل.

وإن لم يقصد ذلك1. 1- فإن كان للأولى حكم2 ولم يقصد إعطاؤه الثانية تعين الفصل، كقوله تعالى: {وَإذَا 3 خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} ، لم يعطف {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على {قََالُوْا} ، لئلا يشاركه في الاختصاص بالظرف المقدم وهو قوله: {وَإذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ} ، فإن استهزاء الله تعالى بهم وهو أن خذلهم فخلاهم وما سولت لهم أنفسهم مستدرجًا إياهم من حيث لا يشعرون، متصل لا ينقطع بكل حال: خلوا إلى شياطينهم أم لم يخلوا إليهم 4، وكذلك في الآيتين الأخيرتين5: فإنهم مفسدون في جميع

_ 1 راجع 114 من المفتاح، 179 من الدلائل أي وإن لم يقصد ربط الثانية بالأولى على معنى عاطف سوى الواو وهذا يصدق بصورتين: 1 أن لا يقصد ربط أصلًا فيتعين الفصل وهو ظاهر. 2 أن لا يقصد اجتماع حصول مضمونهما خارجًا لكن لا على معنى عاطف هو الواو وهذه الحالة الثانية هي التي فيها التفصيل المذكور. 3 أي قيد زائد على مفهوم الجملة كالاختصاص بالظرف في الآية وكالتقييد بحال أو ظرف أو شرط، وليس المراد الحكم الإعرابي؛ لأن أساس المسألة أن الأولى لا محل لها من الإعراب. 3 راجع 110 من المفتاح و188 من الدلائل في الكلام على الآية. 4 فإن قيل: إذا شرطية لا ظرفية فتقديمها؛ لأن لا الصدارة لا للتخصيص قلنا: 1 إذا الشرطية هي الظرفية في الأصل استعملت استعمال الشرط. 2 ولو سلم عدم كون الظرفية أصلًا لها فلا ينافي ما ذكرناه؛ لأنه اسم فضلة معناه الوقت -مع كونه شرطًا- فلا بد له من عامل وهو "قالوا إنا معكم" بدلالة المعنى، بناء على أن العامل في إذا الشرطية هو جوابها وهو مذهب الجمهور، لأشراطها كما ذهب إليه الرضي وأبو حيان. وإذا قدم متعلق الفعل وعطف عليه فعل آخر يفهم اختصاص الفعلين به كقولنا: يوم الجمعة سرت وضربت زيدًا، بدلالة الفحوى والذوق. هذا والجواب الثاني قريب من الأول وإنما يفترقان من جهة رعاية أصالة الظرفية له أو عدم أصالتها وهذا التفريق ليس له ثمرة. 5 وهما: قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إنما نحن مصلحون إلا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} ، وقوله تعالى: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كما آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كما آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} .

الأحيان -قيل لهم لا تفسدوا. أو لا، وسفهاء في جميع الأوقات قيل لهم آمنوا أو لا: 2- وإن لم يكن للأولى حكم كما سبق1: فإن كان بين الجملتين كما ل الانقطاع وليس في الفصل إيهام خلاف المقصود كما سيأتي، أو كما ل الاتصال2 أو كانت الثانية بمنزلة المنقطعة عن الأولى أو بمنزلة المتصلة بها، فكذلك يتعين الفصل 3: أما في الصورة الأولى؛ فلأن الواو للجمع والجمع بين الشيئين يقتضي مناسبة بينهما كما مر، وأما في الثانية؛ فلأن العطف فيها بمنزلة عطف الشيء على نفسه مع أن العطف يقتضي التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه وأما في الثالثة والرابعة فظاهر مما مر4.

_ 1 وذلك بأن لا يكون للأولى حكم زائد أي قيد زائد على مفهوم الجملة، أو يكون ولكن قصد إعطاؤه للثانية أيضًا. 2 يمكن أن تعتبر الإبهام مع كما الاتصال، والوجه فيه العطف مثل كما ل الانقطاع، وذكر عبد الحكيم تعين الفصل في كما ل الاتصال وإن كان فيه إبهام خلاف المقصود، مثل "لا تركت شربها" جوابًا لمن قال: هل تشرب الخمر. 3 فيه إشكال بالنسبة لإحدى الصورتين الداخلتين تحت قوله: وإلا، وهي ما إذا كان للأولى حكم قصد إعطاؤه للثانية، وذلك؛ لأنه إذا فصل مراعاة لكمال الانقطاع فات الحكم الذي قصد إعطاؤه، ولكن ذكر عبد الحكيم أنه يراعي كما ل الانقطاع فيفصل ويراعي الحكم فيصرح به مع ترك العاطف مثل يأتيك زيد يوم الجمعة، أكرمه فيه. 4 هذا وإن لم يكن بين الجملتين كما ل الانقطاع بلا إيهام ولا كما ل الاتصال ولا شبهة أحدهما فالوصل متعين لوجود الداعي وعدم المانع والمراد بالمانع أحد الأربعة السابقة وهو: وجود أحد الكمالين مع عدم الإبهام في كما ل الانقطاع أو موجود شبه أحدهما.

"كمال الانقطاع": وأما كما ل الانقطاع فيكون لأمر يرجع إلى الإسناد أو إلى طرفيه. الأول: أن تختلف الجملتان خبرًا وإنشاءً: لفظًا ومعنى1 كقولهم لا تدن من الأسد يأكلك، وهل تصلح لي كذا أدفع إليك الأجرة، وبالرفع فيهما، وقول الشاعر: وقال رائدهم أرسوا نزاولها ... فكل حتف امرئ يجري بمقدار2

_ 1 بأن تكون إحداهما خبرًا لفظًا ومعنى والأخرى إنشاء لفظًا ومعنى. 2 الرائد: هو الذي يتقدم القوم لطلب الكلأ والماء أرسوا: فعل أمر أي أقيموا من أرسيت السفينة أي حبستها بالمرساة "بفتح الميم: الميناء. وبكسر الميم: جديدة تلقى في الماء متصلة بالسفينة فتقف". نزاولها: أي نحاول تلك الحرب ونعالجها. والبيت للأخطل على ما في سيبويه ص450 جـ1. وهو في المفتاح ص117. فنزاولها بالرفع لا بالجزم جوابًا للأمر؛ لأن الغرض تعليل الأمر بالإرساء بالمزاولة لا جعل الإرساء علة للمزاولة الذي يفيده الجزم؛ لأن الشرط علة في الجزاء ولا يستقيم كونه بالرفع حالًا لئلا يفوت التعليل الذي هو المقصود. ومعنى البيت: أقيموا نقاتل، فإن موت كل نفس يجري بقدر من الله، لا الجبن ينجيه والإقدام يدريه. والشاهد: ترك العطف بين "أرسوا" "ونزاولها"؛ لأن الأولى إنشاء لفظًا ومعنى والثانية خبر لفظًا ومعنى. وهذا وراجع عطف الإنشائية على الخبرية وتفصيل الكلام على الآية وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، في السيد على المطول "ص12". هذا والاستشهاد بالبيت خطأ؛ لأن للجملة الأولى محلًّا من الإعراب؛ لأنها مفعول قال. اللهم إلا أن يقال أن المثال لكمال الانقطاع بين الجملتين باختلافهما خبرًا وإنشاء لفظًا ومعنى مع قطع النظر عن كون الجملتين مما ليس لهما محل من الإعراب أو لًا فكمال الانقطاع له نوعان: ما ليس له محل عن الإعراب وحكمه الفصل، وما له محل إعرابي وهذا لا يوجبه، والحاصل أن منع العطف بين الإنشاء والخبر له ثلاثة شروط: أن يكون بالواو، وفيما لا محل له من الإعراب، وأن لا يوهم خلاف المراد. هذا والفصل حينئذ إنما هو عند البيانيين. أما اللغويون فجوزوا الوصل بين الجملتين المختلفتين خبرًا وإنشاء وعليه: حسبنا الله ونعم الوكيل، وهذا زيد ومن عمرو.

أو معنى1 لا لفظًا كقولك مات فلان رحمه الله2. وأما قول اليزيدي: ملكته حبلي ولكنه ... ألقاه من زهد على غاربي

_ 1 أي أو لاختلافهما خبرًا وإنشاء معنى لا لفظًا بأن تكون إحداهما خبرية معنى والأخرى إنشائية معنى وإن كانتا خبريتين أو إنشائيتين لفظًا. فالصور أربع. 1 الأولى خبرية لفظًا إنشائية معنى. والثاني خبرية لفظًا ومعنى. 2 عكس الصورة الأولى. 3 الأولى إنشائية لفظًا خبرية معنى والثانية إنشائية لفظًا ومعنى. 4 عكس الصور السابقة. أو نقول بعبارة أخرى: الصور هي: 1 الأولى خبرية معنى والثانية إنشائية معنى خبريتان لفظًا. 2 الأولى خبرية معنى والثانية إنشائية معنى وهما إنشائيتان لفظًا. 3 الأولى إنشائية معنى والثانية خبرية معنى وهما خبريتان لفظًا. 4 الأولى إنشائية معنى والثانية خبرية معنى وهما إنشائيتان لفظًا. فخرج ما إذا اختلفا لفظًا فقط فلا يكون من كما ل الانقطاع، وبقي من صور اختلافهما صورتان. 1 الأولى خبر لفظًا ومعنى والثانية إنشاء معنى فقط. 2 عكس الصورة السابقة. 3 لم يعطف "رحمه الله" على "مات"؛ لأنه إنشاء معنى و"مات" خبر معنى وإن كانتا جميعًا خبريتين لفظًا، ومثال ما لفظهما إنشاء وهما مختلفان معنى: {أَلَيْسَ اللهُ بَكَاْفٍ عَبْدَهُ} ، اتق الله أيها الرجل"، فلفظهما إنشاء والأولى خبر معنى والثانية إنشاء معنى.

وقال إني في الهوى كاذب ... انتقم الله من الكاذب فعده السكاكي رحمه الله من هذا الضرب1 وحمله الشيخ عبد القاهر2 رحمه الله على الاستئناف بتقدير قلت3. الثاني: أن لا يكون بين الجملتين4 جامع كما سيأتي. "كمال الاتصال": وأما كمال الاتصال5 فيكون لأمور ثلاثة: الأول: أن تكون الثانية مؤكدة6 للأول والمقتضى للتأكيد دفع توهم التجوز7 والغلط وهو قسمان:

_ 1 حيث لم يعطف جملة "انتقم الله" على "إني في الهوى كاذب" لاختلافهما خبرًا وإنشاء معنى فالأولى خبر لفظًا ومعنى والثانية خبر لفظًا إنشاء معنى وراجع 117 من المفتاح. 2 راجع 183 من الدلائل. 3 أي قلت انتقم الله من الكاذب. 4 أي لا يكون بينهما -بين المسند فقط أو بين المسندين فقط أو بينهما معًا- جامع مع عدم الاختلاف في معنى الخبرية والإنشائية. فلا يصح العطف في مثل: "زيد طويل وعمرو نائم" مثلًا. 5 أي بين الجملتين المانع من العطف بالواو إذ عطف إحداهما على الأخرى كعطف الشيء على نفسه، وغير الواو له حكم خاص به سبق ذكره. 6 راجع 174 من الدلائل، 109 من المفتاح، 48 من طراز المجالس للشهاب الخفاجي. 7 قال السيد: التوكيد المعنوى في المفردات لا يكون لدفع توهم السامع النسيان والغلط بل لدفع توهم التجوز فقط فكذلك في الجمل. وعلى هذا قال ابن يعقوب: أن دفع توهم التجوز في التأكيد المعنوي في الجمل ودفع توهم الغلط في التأكيد اللفظي فيها. والذي حققه عبد الحكيم أن التأكيد المعنوي يكون لدفع توهم السهو والنسيان ولدفع توهم التجوز.

أحدهما أن ننزل الثانية من الأولى منزلة التأكيد المعنوي1 من متبوعة في إفادة التقرير مع الاختلاف2 في المعنى، كقوله تعالى3: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ4} ، فإن وزان لا ريب فيه في الآية وزان نفسه في قولك جاءني الخليفة نفسه، فإنه لما بولغ في وصف الكتاب ببلوغه الدرجة القصوى من الكمال، بجعل المبتدأ ذلك، وتعريف الخبر باللام5 كان عند السامع قبل أن يتأمله6 مظنة

_ 1 فهو من التوكيد المعنوي لغة لا اصطلاحًا، أو نقول كما هنا، أنه كالتأكيد المعنوي ومنزل منزلته. 2 بأن يختلف مفهوم الجملتين ولكن يلزم من تقرر معنى أحدهما تقرر معنى الأخرى. 3 راجع 142 جـ2 من الكامل للمبرد، 175 دلائل، 116 من المفتاح. 4 ومحل كون لا ريب فيه مؤكدة لما قبلها إذا جعلت جملة "ألم" طائفة من الحروف فتكون لا محل لها من الإعراب، أو إذا جعلت جملة مستقلة حذف أحد جزئيها -المبتدأ أو الخبر- إن جعلت اسمية، ويصح كونها جملة فعلية بتقدير اذكر أو أقسم، وجعلت "ذلك الكتاب" جملة ثانية لا محل لها من الإعراب، و"لا ريب فيه" جملة ثالثة. أما إذا جعلت "لاريب فيه" خبرًا لذلك الكتاب، أو خبرًا لجملة "ألم" وذلك الكتاب اعتراض، فإن {لا رَيْبَ فِيهِ} حينئذ يكون مما له محل من الإعراب. 5 الدال على كما ل العناية بتمييزه -من حيث إن الإشارة موضوع للمشاهد المحسوس- والتوسل ببعده إلى التعظيم وعلو الدرجة باعتبار أن اللام للبعد. 6 أي الدال على الانحصار؛ لأن تعريف الجزئين في الجملة الخيرية دال على الانحصار حقيقة أو مبالغة مثل حاتم الجواد، فمعنى ذلك الكتاب أنه الكتاب الكامل في الهداية كان ما عداه من الكتب السماوية في مقابلته ناقص بل ليس بكتاب فكثرة المبالغة تجوز توهم المجازفة وأن الكلام ليس على ظاهره. 7 أي قبل أن يتأمل كما لات الكتاب.

أنه1 مما يرمي به جزافًا2 من غير تحقق، فأتبعه3 لا ريب فيه، نفيًا لذلك، اتباع الخليفة نفسه، إزالة لما عسى أن يتوهم السامع أنك في قولك جاءني الخليفة، متجوز أو ساه، وكذا قوله: {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} الثاني مقرر لما أفاده الأول. كذا قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} ؛ لأن قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} معناه الثبات على اليهودية وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} رد للإسلام ودفع له منهم؛ لأن المستهزئ بالشيء المستخف به منكر له ودافع له، لكونه غير معتد به، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته، ويحتمل الاستئناف، أي فما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أصحاب محمد. وثانيهما أن تنزل الثانية من الأولى منزلة التأكيد اللفظي4 من متبوعه في إفادة التقرير مع اتحاد المعنى، كقوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ 5} ، فإن هدى للمتقين معناه أنه في الهداية بالغ درجة لا يدرك كنهها حتى كأنه هداية محضة6،

_ 1 أعني قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} . 2 الجيم مثلثة في "جزافا"، أي من غير صدور عن روية وبصيرة. 3 على لفظ المبني للمفعول والمرفوع المستتر عائد إلى {لا رَيْبَ فِيهِ} والمنصوب البارز إلى ذلك الكتاب، أي جعل {لا رَيْبَ فِيهِ} تابعًا لـ {ذَلِكَ الْكِتَابُ} وقوله: "نفيا لذلك" أي لذلك التوهم. ودفع هذا التوهم على تقدير كون الضمير في {لا رَيْبَ فِيهِ} عائدًا على ذلك الكتاب ظاهر أما إذا كان الضمير راجعًا للكتاب كما هو الظاهر فمبني على أنه إذا لم يكن ريب في غاية كما له لم يكن {ذَلِكَ الْكِتَابُ} بالمجازفة. 4 بأن يختلف مضمون الجملتين ولكن يلزم من تقرر معنى أحدهما تقرر معنى الأخرى. 5 خبر مبتدأ محذوف أي هو هدى - والمتقين مجاز مرسل علاقته ما يؤول إليه أي للضالين الصائرين إلى التقوى. 6 وذلك لما في تنكير هدى من الإبهام والتفخيم، وحيث قيل هدى، ولم يقل "هاد".

وهذا معنى قوله: {ذَلِكَ الْكِتَاب 1} ؛ لأن معناه كما مر الكتاب الكامل، والمراد بكماله كما له في الهداية؛ لأن الكتب السماوية بحسبها تتفاوت في درجات الكمال2 وكذا قوله تعالى3: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُون} ، فإن معنى قوله: {لا يُؤْمِنُون} معنى ما قبله، وكذا ما بعده4 تأكيد ثان؛ لأن عدم التفاوت بين الإنذار وعدمه لا يصح إلا في حق من ليس له قلب يخلص إليه حق، وسمع تدرك به حجة، وبصر تثبت به عبرة. ويجوز أن يكون {لا يُؤْمِنُون} خبرًا؛ لأن، فالجملة قبلها اعتراض. الثاني: أن تكون الثانية بدلًا من5 الأولى، والمقتضى للإبدال

_ 1 أي معناه المقصود لا المعنى المطابق الذي وضع له اللفظ. 2 فهل مثل زيد الثاني في جاءني زيد زيد لكون مقررًا لذلك الكتاب مع اتفاقهما في المعنى المراد منهما بخلاف لا ريب فيه فإنه يخالفه معنى فالجملتان في التوكيد اللفظي متحدتان معنى والثانية لدفع توهم غلط ونسيان؛ لأن اللفظي لدفع ذلك والمعنوي لدفع توهم التجوز، وقيل كل منهما لدفع توهم الغلط والنسيان ولدفع توهم التجوز، والاصطلاح على الأول. 3 راجع 117 من المفتاح، 175 من الدلائل. 4 وهو "ختم الله على قلوبهم". ملاحظة: وجه منع العطف في التأكيد كون التأكيد مع المؤكد كالشيء الواحد. والتأكيد اللفظي قد علم أن ليس المراد منه التكرير إذ لم يتعرضوا له؛ لأنه لا يتوهم فيه صحة العطف. 5 أي بدل بعض أو اشتمال، لا بدل غلط إذ لا يقع في فصيح الكلام، ولا بد كل إذ هو غير معتبر عند المصنف، وقيل هو من كما ل الاتصال أيضًا ومثلوا له بقولهم: قنعنا بالأسودين، قنعنا بالتمر والماء" ولم يقتصر على البدل دون المبدل منه للاعتناء بشأن النسبة وقصدها مرتين والبدل وإن كان فيه بيان إلا أن البيان فيه غير مقصود بالذات بل المقصود تقرير النسبة فهذا هو الفرق. ووجه عدم العطف في بدل البعض أو الاشتمال أن المبدل منه في نية الطرح من القصد الذاتي.

كون الأولى غير وافية بتمام المراد1 بخلاف الثانية2 والمقام يقتضى اعتناء بشأنه3 لنكتة ككونه4 مطلوبًا في نفسه5 أو فظيعًا6 أو عجيبًا7 أو لطيفًا8. وهو ضربان: أحدهما: أن تنزل الثانية من الأول منزلة بدل البعض9 من متبوعه، كقوله تعالى: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَام وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} ، فإنه مسوق للتنبيه على نعم الله تعالى عند المخاطبين10 وقوله: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَام وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} ، أو فى بتأديته11 مما قبله.

_ 1 أي أو كغير الوافية لكونها مجملة أو خفية الدلالة وقيل غير الوافية في بدلي البعض والاشتمال والتي كغير الوافية في بدل الكل بناء على اعتباره. هذا على مذهب غير المصنف، ويمكن جعل قولنا "أو كغير الوافية" للتوزيع الاعتباري فتكون الأمثلة المذكورة غير وافية باعتبار ووافية تشبه غير الوافية باعتبار آخر. 2 فإنها وافية كما ل الوفاء. 3 أي شأن المراد -وقوله "لنكتة" لا داعي له؛ لأن النكتة نفس المقام. 4 أي المراد. 5 كما في الآية الكريمة: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ..} إلخ. 6 فيؤتى به للتوبيخ مثل أن يقال للص يصلي: لا تجمع بين الأمرين لا تسرق وتصلي، بناء على ورود بدل الكل. 7 فيؤتى به لإعجاب المخاطب قصدًا لبيان غرابته مثل: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ، قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} . 8 أي طريفًا مستحسنًا فيؤتى به لطرافته مثل: محمد جمع بين أمرين، جمع بين عراقة المحتد ونبل النفس. 9 أي في المفرد وإلا فهي بدل حقيقة. 10 والمقام يقتضي اعتناء بشأنه لكونه مطلوبًا في نفسه وذريعة إلى غيره وهو التقوي. 11 أي بتأدية المراد الذي هو التنبيه على نعم الله تعالى. وقوله: لدلالته عليها أي لدلالة الثاني على نعم الله.

لدلالته عليها بالتفصيل من غير إحالة على علمهم من كونهم معاندين، والإمداد بما ذكر من الأنعام وغيرها بعض الإمداد بما يعلمون ويحتمل الاستئناف. وثانيهما 1: أن تنزل الثانية من الأولى منزلة بدل الاشتمال من متبوعه كقوله تعالى: {اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ، فإن المراد هو حمل المخاطبين على إتباع الرسل، وقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ، أو فى بتأدية ذلك؛ لأن معناه لا تخسرون معهم شيئًا من دنياكم وتربحون صحة دينكم فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة، وقول الشاعر: أقول له ارحل لا تقيمن عندنا ... وإلا فكن في السر والجهر مسلمًا فإن المراد به2 كما ل إظهار الكرامة لاقامته3 بسبب خلاف سره العلن وقوله: "لا تقيمن عندنا" أو فى بتأديته لدلالته4 عليه بالمطابقة مع التأكيد5، بخلاف "ارحل" ووازن الثانية من كل

_ 1 راجع 116 من المفتاح، 187 من الدلائل. 2 أي بقوله "ارحل". 2 أي المخاطب. 4 أي لدلالة لا تقيمن عندنا -وقوله عليه أي على كما ل إظهار الكراهة. 5 أي بالنون. وكونها مطابقة باعتبار الوضع العرفي حيث يقال "لا تقم عندي" ولا يقصد كفه عن الإقامة بل مجرد إظهار كرا هة حضوره فالحاصل أن الغرض من ارحل ولا تقيمن إظهار كما ل الكراهة والدليل على ذلك في ارحل الاستعمال الغالب مع قوله "وإلا فكن"، وفي "لا تقيمن" الاستعمال العرفي دائمًا مع زيادة النون وقوله "وإلا فكن" ولما كانت دلالة لا تقيمن أو فى وهو ليس مدلول "أرحل" ولا نفسه بل ملابسه لملازمة بينهما صار بدل اشتمال.

واحد من الآية والبيت وازن حسنها في قولك: "أعجبتني الدار حسنها"؛ لأن معناها مغاير لمعنى ما قبلها1 وغير داخل فيه2 مع ما بينهما3 من الملابسة. الثالث: أن تكون الثانية بيانًا للأولى4 وذلك بأن تنزل منها منزلة عطف البيان من متبوعه في إفادة الإيضاح، والمقتضى للتبيين أن يكون في الأولى نوع خفاء مع اقتضاء المقام إزالته كقوله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَان قَال يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} ، فصل جملة قال: عما قبلها لكونها تفسيرًا له وتبينًا، ووازنه وازن عمر في قوله: أقسم بالله أبو حفص عمر ... ما مسها من نقب ولا دبر5

_ 1 يخرج به التوكيد اللفظي؛ لأنه غير مغاير والمعنوي أيضًا؛ لأن المفهومين فيه وإن تغايرا لكن مغايرة قريبة. 2 فلا يكون بدل بعض. وهذا ظاهر بناء على أن الأمر بالشيء لا يتضمن النهي عن ضده وأما على رأي من يذهب إلى نقيضه بمعنى أن النهي عن ضده جزؤه فيكون "لا تقيمن عندنا" في حكم بدل البعض. 3 أي ما بين عدم الإقامة والارتحال من الملابسة اللزومية فيكون بدل اشتمال ولا يخفى أن الجملة الأولى "ارحل" لها محل من الإعراب فيكون النظر إلى المحكي لا إلى الحكاية. وإنما قال في مثالي بدل البعض والاشتمال أن الثانية أو فى؛ لأن الأولى وافية مع ضرب من القصور باعتبار الإجمالي في المثال الأول وعدم مطابقة الدلالة في المثال الثاني فصارت كغير الوافية، والأولى جعل غير الوافية بالنسبة لبدل الكل بناء على اعتباره وذلك؛ لأنا لوحملناها على بدل البعض والاشتمال فقط لكان فيهما ما هي غير وافية أصلًا وهو لا يكاد يوجد. 4 الفرق بين البيان والبدل مع أن في كل منهما خفاء أن المقصود في البدل الثانية وفي البيان الأولى والثانية توضيح لها. 5 هو لأعرابي. النقب: ضعف في أسفل الخف في الإبل: الدبر: جراحة الظهر.

وأما قوله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيم} ، فيحتمل التبيين والتأكيد: أما التبيين؛ فلأنه يمتنع أن يخرج من جنس البشر ولا يدخل في جنس آخر فإثبات الملكية له تبيين لذلك الجنس وتعيين، وأما التأكيد؛ فلأنه إذا كان ملكًا لم يكن بشرًا؛ ولأنه إذا قيل في العرف لإنسان ما هذا بشر حال تعظيم له وتعجب ما يشاهد منه من حسن حلق أو خلق كان الغرض أنه ملك بطريق الكناية. فإن قيل هلا نزلتم الثانية منزلة بدل الكل من متبوعه في بعض الصور، ومنزلة النعت من متبوعه في بعض قلنا،1؛ لأن بدل الكل لا ينفصل عن التأكيد إلا بأن، لفظه غير لفظ متبوعه وأنه مقصود بالنسبة دون متبوعه بخلاف التأكيد، والنعت لا يفصل عن عطف البيان2، إلا بأنه يدل على بعض أحوال متبوعه لا عليه، وعطف البيان بالعكس3 وهذه كلها اعتبارات لا يتحقق شيء منها فيما نحن بصدده4.

_ 1 منع السعد تنزيل الجملة الثانية من الأولى منزلة بدل الكل من الكل في الجمل مطلقًا لها محل من الإعراب أم لا: ومنعه السيد في الجمل التي لا محل لها وأجاز قوم وقوعه في الجمل مطلقًا ونزلوا استئناف حكم الجملة التي لا محل لها منزلة نقل الحكم إلى مضمون الثانية. 2 راجع 52 جـ3 السبكي. 3 فهو يدل على ذات المتبوع لا على وصف فيه. 4 أي من الجمل التي لا محل لها. ووجه عدم تحقق شيء منها في الجمل بالنسبة للنعت ولعطف البيان أن الجملة إنما تدل على النسبة ولا يتأتى أن تكون نسبة في جملة دالة على وصف شيء في جملة أخرى فلم تنزل الثانية من الأولى منزلة النعت من المنعوت وقد تكون النسبة في جملة موضحة لنسبة في جملة أخرى فصح أن تنزل الثانية من الأولى منزلة عطف البيان من المبين. وبالنسبة لبدل الكل والتأكيد أن البدل يقصد فيه نقل النسبة إلى مضمون الجملة الثانية دون التأكيد وهذا المعنى لا يتحقق في الجمل التي لا محل لها؛ لأنه لا نسبة بين الأولى منها وبين شيء أخر حتى ينتقل إلى الثانية وتجعل بدلًا من الأولى وإنما يقصد في تلك الجملة استئناف إثباتها وبعضهم اعتبره في الجمل التي لا محل لها من الإعراب كما قلنا سابقًا ونزل قصد استئنافها منزلة نقل النسبة فجعل بدل الكل من كما ل الاتصال ومثل له بقوله: قنعنا بالأسودين قنعنا بالتمر والماء. =

........................................................................

_ = فالخلاصة: أن بدل الكل لا يتميز عن التأكيد اللفظي في المفردات إلا بمغايرة اللفظين في البدل وأما في التوكيد اللفظي فلا يجب فيه المغايرة -وكون المقصود من البدل هو الثاني بنقل نسبة العامل إليه. وهذا لا يتحقق في الجمل لا سيما التي لا محل من الإعراب؛ لأن التوكيد اللفظي في الجمل فيه المغايرة بين اللفظين دائمًا وكل من الجمل مستقل فيكون مقصودًا فلو جرى بدل الكل في الجمل لما تميز عن التوكيد فأغنى التوكيد في الجمل عنه ولكن بعضهم جوز كما قلنا بدل الكل في الجمل مطلقًا لها محل أو لًا -ونزل استئناف حكم الجملة منزلة نقل الحكم إلى مضمون الثانية. وإذا كانت الجمل التي لا محل لها من الإعراب لا يتصور فيها أن تكون الثانية هي المقصودة بالنسبة إذ لا نسبة هناك بين الأولى وشيء آخر حتى تنقل للثانية وتجعل الثانية بدلًا من تلك الأولى، فهي أبعد من الجمل التي لها محل من الإعراب عن تصور وجود بدل الكل فيها. ملاحظات: 1- يكون التأكيد المعنوي بين الجملتين باختلاف المعنى الوضعي والمراد المقصود منهما مع إفادة التقرير. ويكون التأكيد اللفظي بين الجملتين باختلاف المعنى الوضعي واتحاد المعنى المقصود منهما مع إفادة التقرير. ويكون بدل البعض بين الجملتين يكون مدلول الثانية بعض مدلول الأولى مع كون الثانية أو فى بتأدية المراد من الأولى ويكون بدل الاشتمال بين الجملتين يكون مدلول الثانية مستلزمًا لمدلول الأولى مع كون الثانية أو فى بتأدية المراد من الأولى ويكون عطف البيان باتحاد معنى الجملتين مع وجود خفاء في الأولى تزيله الثانية. 2- التوكيد اللفظي عند البلاغين يشمل الجمل المكررة فهو عندهم قسمان: الأول من اتحد المعنى الوضعي فيه في الجملتين. والثاني ما كان فيه اتحاد معنى غير وضعي مقصود كذلك من الجملتين وقد سبق أن القسم الأول مثل: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} لا يعتبره جمهور البلاغيين من التأكيد اللفظي بل من التكرير وأن اعتبره النحويين توكيدًا لفظيًّا -أما التأكيد المعنوي في الجمل فيعتمد اختلاف المعنى المقصود من الجملتين مع تلازم المعنيين.

...........................................................................

_ ويرجح الشيخ نوار جعل التكرير توكيدًا لفظيًّا وسواه توكيدًا معنويًّا. وسر التوكيد في الجمل: 1- تقرير مضمون الأولى وبيان أنه واقع أو سيقع. 2- دفع توهم المبالغة في الجملة الأولى. 3- الفرق بين التأكيد وبدل الاشتمال في الجملة أن الجملة المؤكدة تدل على ما تدل عليه الأولى بدون أن تلاحظ فيها خصوصية بها تكون أو فى دلالة على المقصود من الأولى سواء أو جدت تلك الخصوصية أم لا. أما بدل الاشتمال فجملة تدل على ما تدل عليه جملة سبقتها ولوحظت فيها خصوصية بها تكون أو فى دلالة على المقصود من الأولى. 4- بدل البعض واضح والفرق بينه وبين ذكر الخاص بعد العام أن العموم في المبدل منه مراد منه الخصوص بعده وأما العموم في ذكر الخاص بعد العام فباق على حاله. هذا وبدل البعض في الجمل يعتمد أمرين: أن يكون مدلول الثانية بعض مدلول الأولى -وأن تكون في الثانية فائدة ليست في الأولى، وليس يلازم أن تكون الثانية أو فى بالغرض من الأولى كما في بدل الاشتمال. 5- عطف البيان يعتمد أمرين: اتحاد المعنى في المعطوف والمعطوف عليه -إيهام في الأولى تزيل الثانية وتوضحه. 6- سبق أن قلنا أن عطف الإنشاء على الخبر وعكسه صحيح إذا كان للأولى محل من الإعراب وإن لم يكن للأولى محل للإعراب فالبلاغيون يمنعونه والنحويون يجيزونه والتحقيق الجواز. 7- قد تعطف القصة على القصة وهو واضح وذلك أن تعطف مضمون كلام على مضمون كلام آخر إذا وجدت مناسبة بين هذين المضمونين وإن لم توجد تلك المناسبة بين جزاء الكلامين: فإذا لم تجد معطوفًا عليه صريحًا يناسب المعطوف فلك اعتبار العطف بين مضموني الكلامين أو تقدير معطوف عليه مناسب للمعطوف أو تقدير قول كذلك.

شبه كما ل انقطاع: وأما كون الثانية بمنزلة المنقطعة عن الأولى: فلكون عطفها عليها1 موهمًا لعطفها على غيرها2. ويسمى الفصل لذلك قطعًا، مثاله قول الشاعر: وتظن سلمى أنني أبغي بها ... بدلًا أراها في الضلال تهيم3

_ 1 أي عطف الثانية على الأولى. 2 أي مما ليس بمقصود العطف عليه لأداء العطف عليه إلى الخلل في المعنى وشبه هذا بكمال الانقطاع با عتبار اشتماله على مانع من العطف هو إيهام خلاف المقصود وإن كان فيه مصحح للعطف وهو التغاير الكلي أما كما ل الاتصال ففيه مانع من العطف مع أن المصحح فيه منتف لعدم التغاير الكلي بين الجملتين. هذا والمانع من العطف في كما ل الانقطاع لما كان خارجًا عن ذات الجملتين يمكن دفعه بنصب قرينة لم يجعل هذا من كما ل الانقطاع أما المانع في كما ل الانقطاع فهو ذاتي لا يمكن دفعه أصلًا وهو اختلاف الجملتين خبرية وإنشاء أو؛ لأنه لا جامع بينهما. 3 "أرى" مبني للمفعول والضمير المستتر فيه مفعول أو ل والهاء مفعول ثان وجملة تهيم مفعول ثالث. فبين الجملتين "أرى وتظن" مناسبة ظاهرة: لاتحاد المسندين؛ لأن معنى "أراها" أظنها، وكون المسند إليه في الجملة الأولى محبوبًا وفي الجملة الثانية محبا، فالجامع بين المسند إليهما في الجملتين ما بينهما من شبه التضايف لكنه ترك العطف بين الجملتين لئلا يتوهم أن الجملة الثانية عطف على "أبغي" فيكون من مظنونات سلمي وهو غير مراد، وما قيل من أن التوهم بعد القطع باق لجواز أن يكون "أراها" خبرًا؛ لأن أو حالًا أو بدلًا من "أبغي" ففي كل من الفصل والوصل إيهام خلاف المقصود. فجوابه أن الأصل في الجمل الاستقلال ولا يصار إلى كونها في حكم المفرد إلا إذا دل على ذلك دليل، على أن عبد القاهر نص على أن ترك العطف بين الجمل الواقعة أخبار لا يجوز.

لم يعطف "أراها" على "تظن" لئلا يتوهم السامع أنه معطوف على "أبغي" لقربه منه مع أنه ليس بمراد. ويحتمل الاستئناف1. وقسم السكاكي القطع إلى قسمين: أحدهما: القطع للاحتياط وهو ما لم يكن لمانع من العطف كما في هذا البيت. والثاني: القطع للوجوب، وهو ما كان لمانع، ومثله بقوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِم} قال: لأنه لو عطف لعطف إما على جملة {قَاْلُوْا} وإما على جملة: {إِنَّاْ مَعَكُمْ} ، وكلاهما لا يصح لما مر2 وكذا قوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء} . وفيه نظر: لجواز أن يكون المقطوع في المواضع الثلاثة معطوفًا على الجملة المصدرة بالظرف وهذا القسم لم يبين امتناعه.

_ 1 أي يحتمل أن يكون "أراها" جملة مستأنفة كأنه قيل: كيف تراها في هذا الظن؟ فقال: أراها خاطئة فيه تتحير في أو دية الضلال، وعلى هذا فيكون من شبه كما ل الاتصال والبيت في المفتاح ص114. هذا ومثل هذا البيت قول الشاعر: يقولون أنى أحمل الضيم عندهم ... أعوذ بربي أن يضام نظيري لم تعطف جملة أعوذ على "يقولون" لئلا يتوهم أنها معطوف على جملة "أحمل الضيم". فشبه كما ل الانقطاع إذا أن يكون العطف على جملة صحيحًا ومعقولًا إلا أنه معه احتمال عطف غير مقصود على جملة أخرى فيترك العطف بتاتًا دفعًا لهذا الاحتمال. 2 أجاز المطول عطفه على جملة "إذا" الشرطية ولكن منع من العطف توهم عطفه على جملة "قالوا" أو جملة أنا معكم وكلاهما فاسد كما مر. ثم قال المطول: فظهر أن قطعه أيضًا للاحتياط كما في هذا البيت، لا للوجوب كما زعم السكاكي، ورد السبكي على رأي السكاكي "52 جـ2 شروح التلخيص".

شبه كما ل الاتصال 1: وأما كونها2 بمنزلة المتصلة بما3 فلكونها جوابًا عن سؤاله اقتضته الأولى4، فتنزل منزلته5 فتفصل الثانية عنها6، كما يفصل الجواب عن السؤال7 وقال السكاكي8، فينزل ذلك9 منزلة الواقع10 ثم قالوا تنزيل السؤال بالفحوى منزلة الواقع لا يصار إليه إلا لجهات11 لطيفة، أما لتنبيه السامع على موقعه، أو لإغنائه أن يسأل12 أو لئلا يسمع منه شيء13، أو لئلا ينقطع كلامك بكلامه،

_ 1 راجع 110 من المفتاح، 181-187 من الدلائل. 2 أي الجملة الثانية. 3 أي بالجملة الأولى. 4 لكونها مجملة في نفسها باعتبار الصحة أو لكونها مجملة السبب. 5 أي فتنزل الجملة الأولى منزلة السؤال لكونها مشتملة عليه ومقتضية له. 6 أي عن الجملة الأولى. 7 لما بينهما من الاتصال الذاتي، أي كما ل الاتصال أو شبه كما ل الاتصال. وقيل لما بينهما من كما ل الانقطاع إذ السؤال إنشاء والجواب خبر. وقيل إن صورة الجواب والسؤال داخله في صورة البيان. 8 110 من المفتاح. 9 أي منزلة السؤال الواقع ويطلب بالكلام الثاني وقوعه جوابًا. 10 أي السؤال الذي تقتضيه الجملة الأولى وتدل عليه الفحوى. له فيقطع عن الكلام الأول لذلك. فمذهب المصنف أن الجملة الأولى منزلة منزلة السؤال المقدر، ومذهب السكاكي أن السؤال المقدر ينزل منزلة الواقع والذي تعلق به التنزيل عنده إنما هو السؤال المقدر الذي اقتضته الجملة الأولى فينزل منزلة السؤال الواقع، فالجملة الثانية جواب للجملة الأولى عند المصنف وللسؤال المقدر عند السكاكي. 11 أي لنكته وكذلك التنزيل أيضًا لا يكون إلا لنكتة عند المصنف. 12 تعظيمًا له أو شفقة عليه. 13 أي تحقير للسامع وكراهة لكلامه.

أو للقصد إلى تكثير المعنى بتقليل اللفظ وهو تقدير السؤال وترك العاطف، أو لغير ذلك مما ينخرط في هذا السلك1. ويسمى الفصل لذلك2 استئنافًا، وكذا الجملة الثانية أيضًا تسمى استئنافًا3. والاستئناف4 ثلاثة أضرب: لأن السؤال الذي تضمنته الجملة5 الأولى: "1-" إما عن سبب الحكم فيها مطلقًا 6، كقوله:

_ 1 مثل التنبيه على فطانة السامع أو على بلادته. هذا وليس في كلام السكاكي دلالة على أن الجملة الأولى تنزل منزلة السؤال المقدر فكان المصنف نظر إلى أن قطع الثانية عن الأولى مثل قطع الجواب عن السؤال إنما يكون على تقدير تنزيل الأولى منزلة السؤال وتشبيهها به، لا على تنزيل السؤال المقدر منزلة الواقع كما ذهب إليه السكاكي. وقيل إن مذهبيهما مآله واحد والاختلاف في التعبير، والتلازم حاصل في الكل. ومذهب السكاكي على أي حال أو ضح إذ لا حاجة إلى تنزيل الأولى منزلة السؤال، بل مجرد كون الأولى منشأ للسؤال كاف في ذلك، كما أشار إليه صاحب الكشاف حيث قال في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} بعد قوله: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} أن سبيله الاستئناف وأنه مبني على تقدير السؤال. 2 أي لكونه جوابًا لسؤال اقتضته الأولى. 3 وتسمى مستأنفة أيضًا. 4 سواء أريد به فصل الجملة الثانية أو الجملة الثانية نفسها. 5 أي على رأيه، أو السؤال المقدر على رأي السكاكي. 6 أي حال كون السبب مطلقًا أي لم ينظر فيه لتصور سبب معين، بل لمطلق سبب لكون السامع يجهل السبب من أصله بأن يكون التصديق لوجود السبب حاصلًا للسائل والمطلوب بالسؤال حقيقة السبب، ولذا يسأل عنه بما طلبا لشرح ماهيته، واسمية الجملة في الجواب ليست مؤكدًا حتى يكون السؤال عن السبب الخاص، وسبب عدم كونها مؤكدًا أنه لم ينضم إليه مؤكدًا آخر.

قال لي: كيف أنت؟ قلت عليل ... سهر دائم وحزن طويل1 أي ما بالك عليلًا أو ما سبب علتك2، وقوله3. وقد غرضت من الدنيا فهل زمني ... معط حياتي لغر بعد ما غرضا جريت دهري وأهليه فما تركت ... لي التجارب في ود أمري غرضا أي لم تقول هذا ويحك، وما الذي اقتضاك أن تطوي عن الحيا ة إلى هذا الحد كشحك. 2- وإما عن سبب خاص له4، كقوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} ، كأنه قيل: هل النفس أما رة بالسوء5؟ فقيل: إن النفس لأمارة بالسوء6. وهذا الضرب.

_ 1 البيت قد سبق في حذف المسند إليه. وهو في الدلائل ص184. 2 بقرينة العرف والعادة؛ لأنه إذا قيل فلان مريض فإنما يسأل عن مرضه وسببه، لا أن يقال هل سبب علته كذا وكذا لا سيما السهر والحزن حتى يكون السؤال عن السبب الخاص الكائن في الجملة الأولى. 3 البيتان للمعري: غرض: ضجر. الغر: الغافل. الأولى فعل ماض وألفها زائدة للروي و"غرضا" الثانية بمعنى حاجة. والأبيات في المفتاح ص115. 4 أي لهذا الحكم الكائن في الجملة الأولى. بمعنى أنه تصور نفي جميع الأسباب إلا سببًا خاصًّا تردد في حصوله ونفيه فسأل عنه. 5 أي هل هذا سبب التبرئة -فالسائل يسأل عن البيت الخاص هل هو حاصل أو غير حاصل فيكون المقام مقام تردد في ثبوته، ولذا يؤتى بالجواب مؤكدًا. 6 بقرينة التأكيد، فالسؤال عن السبب الخاص بهذه القرينة، فالتأكيد دليل على أن السؤال عن السبب الخاص فإن الجواب عن مطلق السبب لا يؤكد.

يقتضي تأكيد الحكم1 كما مر في باب أحوال الإسناد2 وأما عن غيرهما3 كقوله تعالى4: {فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ} ، كأنه قيل: فماذا قال إبراهيم عليه السلام فقيل: قال سلام، ومنه قول الشاعر: زعم العواذل أنني في غمرة ... صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي5 فإنه لما أبدي الشكاية من جماعات العذال، كان ذلك مما يحرك السامع ليسأل أصدقوا في ذاك أم كذبوا؟ فأخرج الكلام مخرجه إذا كان ذلك قد قيل له، ففصل. ومثل قول جندب بن عمار6:

_ 1 أي الجواب الذي هو في الجملة الثانية؛ لأن السائل متردد في هذا السبب الخاص هل هو سبب الحكم أم لا. 2 أي من أن المخاطب إذ كان طالبًا مترددًا أو نزل منزلة الطلب المتردد حسن تقوية الحكم له بمؤكد. ولا يخفى أن المراد الاقتضاء استحسانًا لا وجوبًا والمستحسن في باب البلاغة بمنزلة الواجب. 3 أي غير السبب المطلق والخاص بأن ينبههم عليه شيء مما يتعلق بالجملة الأولى إما عام كالآية أو خاص كالبيت. 4 راجع الكلام على الآية الكريمة في الدلائل ص185. 5 العواذل جمع عاذلة بمعنى جماعة عاذلة الغمرة: الشدة، تنجلي: تنكشف. والبيت في الدلائل ص172، وفي المفتاح ص114. والشاهد في البيت فصل صدقوا عما قبلها؛ لأنها جواب لسؤال اقتضه الجملة قبلها وهذا السؤال ليس عن سبب مطلق أو خاص بل عن غيرهما. 6 راجع البيتين في الحماسة ص18 ج1 شرح الرافعي، ص115 من المفتاح و182 من الدلائل. خبت اسم موضع عريت: أزيل عنها رحلها. أجمعت تركت فلم تركب، وكلاهما كناية عن قعوده بهذا المكان دون غرضه. والقادسية مدينة بالعراق. لج: جد في السير. ذلت: انقادت له. والشاهد فصل البيت الثاني عما قبله؛ لأنه جواب عن سؤال تضمنه ما قبله. وهذا السؤال عن غير السبب المطلق والخاص.

زعم العواذل أن ناقة جندب ... بجنوب خبت عريت وأجمت كذب العواذل، لو رأين مناخنا ... بالقادسية قلن: لج وذلت وقد زاد هنا أمر الاستئناف تأكيدًا بأن وضع الظاهر موضع المضمر1 من حيث وضعه وضعًا لا يحتاج فيه إلى ما قبله، وأتي به مأتى ما ليس قبله كلام ومن الأمثلة قول الوليد2: عرفت المنزل الخالي ... عفا من بعد أحوال عفاه كل حنان ... عسوف الويل هطال3 فإنه لما قال عفا، وكان العفاء مما لا يحصل للمنزل بنفسه، كان مظنة أن يسأل عن الفاعل، ومثله قول أبي الطيب4: وما عفت الرياح له محلًّا ... عفاه من حدا بهم وساقا فإنه لما نفي الفعل الموجود عن الرياح، كان مظنة أن يسأل عن الفاعل وأيضًا من الاستئناف ما يأتي بإعادة اسم ما استؤنف عنه5 كقوله: "أحسنت إلى زيد. زيد حقيق بالإحسان6".

_ 1 حيث قال: كذب العواذل ولم يقل "كذبوا". 2 الوليد بن يزيد. والبيتان في المفتاح ص115، وفي الدلائل ص184. 3 عفا: درس. الحنان: السحاب. عسوف الوبل: شديد المطر. 4 البيت والكلام عليه في الدلائل ص184 والمفتاح ص115. عفا: محا، من حدابهم وساقا، أي من غنى الإبل التي سارت بهم وساقا، 5 أي وقع الاستئناف عنه وأصل الكلام. ما استؤنف عنه الحدث فحذف المفعول ونزل الفعل منزلة اللازم. 6 بإعادة اسم "زيد" والسؤال المقدر هنا هو: لماذا أحسن إليه.

ومنه ما يبنى على صفته1 كقولك "أحسنت إلى زيد"، صديقك القديم أهل لذلك7. وهذا أبلغ لانطوائه على بيان السبب3. وقد يحذف صدر الاستئناف4 لقيام قرينة، كقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، رِجَال} ، فيمن قرأ "يسبح" مبنيا للمفعول5، وعليه نحو قولهم: "نعم الرجل أو رجلًا زيد، وبئس الرجل أو رجلًا عمرو"، على القول بأن المخصوص خبر مبتدأ محذوف، أي هو زيد6 كأنه لما قيل ذلك فأيهم الفاعل بجعله معهودًا ذهنيًّا مظهرًا أو مضمرًا، سئل عن تفسيره، فقيل: هو زيد ثم حذف المبتدأ.

_ 1 أي صفة ما استؤنف عنه دون اسمه والمراد بالصفة صفة تصلح لترتيب الحديث عليه. 2 والسؤال المقدر هنا "هل هو حقيق بالإحسان". 3 أي أن الاستئناف المبني على الصفة أبلغ لاشتماله على بيان السبب الموجب للحكم كالصداقة القديمة في المثال المذكور، لما يسبق إلى الفهم من ترتيب الحكم على الأمر الصالح للعلية أنه علة له، وقد اعترض على الأبلغية العلة بما ذكر بأن السؤال إن كان عن السبب فالجواب يشتمل على بيانه لا محالة سواء كان بإعادة الاسم أو الصفة، وإلا فلا وجه لاشتماله عليه كما في قوله "زعم العوازل إلخ" سواء كان بإعادة الاسم أو الصفة، والجواب أن السؤال عن سبب الحكم قد يكون بإعادة الاسم وقد يكون بإعادة الصفة وليس يجري هذا في سائر صور الاستئناف، ويرد على هذا أن الحكم الذي معنا هو إحسان المخاطب لزيد وليس السؤال هنا عن سببه بل عن استحقاقه للحكم. 4 راجع ص97 من المفتاح، وقد سبق ذلك مفصلًا في حذف المسند، وقوله الاستئناف أي الجملة الاستئنافيه، ولا مفهوم للصدر بل العجز كذلك كما في نعم الرجل زيد على أن زيد مبتدأ خبره محذوف وحذف الصدر سواء كان الصدر اسمًا أو فعلًا. 5 كأنه قال فمن يسبحه؟ فقيل: رجال، أن يسبحه رجال. 6 ويجعل الجملة استئنافًا جوابًا للسؤال عن تفسير الفاعل المبهم.

وقد يذدف الاستئناف كله، ويقام ما يدل عليه مقامه كقول الحماسي1: زعمتم أن أخوتكم قريش ... له ألف وليس لهم آلاف حذف الجواب الذي هو كذبتم في زعمكم، وأقام قوله "لهم ألف وليس لكم آلاف" مقامه، لدلالته عليه، ويجوز أن يقدر قوله: "لهم ألف وليس لكم آلاف" جوابًا لسؤال اقتضاه الجواب المحذوف كأنه لما قال المتكلم كذبتم، قالوا لم كذبنا؟ فقال: لهم ألف وليس لكم آلاف، فيكون في البيت استئنافان. وقد يحذف ولا يقام شيء مقامه1 كقوله تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ} أي أيوب أو هو، لدلالة ما قبل الآية وما بعدها عليه، ونحوه قوله: {فَنِعْمَ الْمَاْهِدُوْن} . أي نحن3.

_ 1 هو مساور بن هند يهجو بني أسد "راجع 178 جـ2 شرح الحماسة للرافعي". ألف: أي إيلاف في الرحلتين المعروفتين لهم في التجارة: رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى الشام. آلاف أي مؤالفة في الرحلتين المعروفتين. كأنه قيل اصدقنا في هذا الزعم لم كذبنا، فقيل: كذبتم. وحذف هذا الاستئناف كله وأقيم قوله: لهم ألف وليس لكم آلاف مقامه لدلالته عليه. ويجوز أن يكون لهم ألف جوابًا لسؤال اقتضاه الجواب المحذوف أي كذبتم؛ لأنهم لهم ألف إلخ. هذا والبيت في الدلائل ص183، وفي المفتاح ص114. 2 أي اكتفاء بالقرينة. 3 على قوله من يجعل المخصوص خبر المبتدأ أي هم نحن.

مواضع الوصل

مواضع الوصل1: وإن لم يكن بين الجملتين شيء من الأحوال الأربع تعين الوصل "الوصل لدفع الإيهام": إما لدفع إيهام خلاف المقصود2، كقول البلغاء. لا وأيدك الله3.

_ 1 انتهى الكلام على الأحوال الأربعة المقتضية للفصل وهي: كما ل الانقطاع بلا إيهام، وكمال الاتصال، وشبه كل منهما. وهذا شروع في مواضع الوصل وهي حالتان: كما ل الانقطاع مع الإيهام، والتوسط بين الكمالين. 2 أي مع صرف النظر عما بين الجملتين من كما ل انقطاع، لأجل دفع إيهام السامع خلاف مراد المتكلم لولم يعطف -وراجع في ذلك المفتاح ص139. 3 مر رجل بأبي بكر، ومع الرجل ثوب فقال له: أتبيع الثوب؟ فقال الرجل: لا. عافاك الله، فقال أبو بكر: لقد علمتم لو كنتم تعلمون، قل: لا وعافاك الله "179 جـ1 البيان والتبيين للجاحظ، 358 الأدب الإسلامي لمحمود مصطفى". وبين المأمون وابن المبارك حوار في "لا وجعلني الله فداك" "راجع ذلك في ص154 من أدب الكتاب للصولي". والوصل هنا نظير الفصل لدفع الإيهام الكائن في الوصل في قوله "أراها في الضلال تهيم" وقال السبكي: والظاهر أن الواو ليست هنا للعطف بل هي زائدة لدفع الإيهام وليست عاطفة ففي ذكر هذا القسم في باب الوصل إيهام. وأيدك الله: قولهم لا رد لكلام سابق كما إذا قيل هل الأمر كذلك فيقال لا، أي ليس الأمر كذلك، فهذه جملة إخبارية وأيدك الله جملة إنشائية دعائية فبينهما كما ل الانقطاع لكن عطفت عليها؛ لأن ترك العطف يوهم أنه دعاء على المخاطب بعدهم التأييد مع أن المقصود الدعاء له بالتأييد، فأينما وقع هذا الكلام فالمعطوف عليه هو مضمون قولهم لا. والزوزني لما لم يقف على المعطوف عليه في هذا الكلام نقل عن الثعالبي حكاية مشتملة على قوله "قلت لا وأيدك الله" وزعم أن قوله "وأيدك الله" عطف على قوله "قلت" ولم يعرف أنه لو كان كذلك لم يدخل الدعاء تحت القول، وأنه لو لم يحك الحكاية فحين قال للمخاطب "لا وأيدك الله" فلا بد له من معطوف عليه.

وهذا عكس للقطع. "الوصل للتوسط بين الكمالين": وأما1 للتوسط بين حالتي كما ل الانقطاع وكمال الاتصال. وهو ضربان. أحدهما أن يتفقا خبرًا أو إنشاء لفظًا ومعنى، كقوله تعالى: {إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} 2، وقوله: {يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ} 3، وقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وهو خَادِعُهُمْ} 4، وقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} 5.

_ 1 عطف على قوله: "إما لدفع إيهام خلاف المقصود" هذا ووجود الجامع هنا أمر لا بد منه في جميع صور التوسط بين الكمالين؛ لأنه إذا لم يكن بينهما جامع فبينهما كما ل الانقطاع. 2 الجامع التضادين المسندين والمسند إليهما في الجملتين. والمثال الجملتان فيه خبريتان لفظًا ومعنى مع التناسب في الاسمية -الجامع في الآية وهمي. 3 المثال الجملتان فيه خبريتان لفظًا ومعنى مع التناسب في الفعلية. 4 الجامع بينهما اتحاد المسند فيهما فهو جامع عقلي وكون المسند إليه فيهما أحدهما مخادع والآخر مخادع فبينهما شبه التضايف فالجامع عقلي وشبه التضاد لما تشعر به المخادعة من العداوة فالجامع وهمي. والجملتان خبريتان لفظًا ومعنى مع عدم التناسب بينهما في الفعلية والاسمية. 5 الجمل الثلاث كل منها إنشائية لفظًا ومعنى والجامع بينما اتحاد المسند إليه فيهما فهو عقلي وتناسب المسند لما بين الأمر بالأكل والشرب وعدم الإسراف من تقارب في الخيال فالجامع بينهما خيالي.

والثاني: أن يتفقا كذلك1 معنى لا لفظًا 2، كقوله تعالى: {وَإِذْ أخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالوَالدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي القُرْبَى وَالْيَتَامى وَالمَسَاكِينِ وَقُولُوا} ، عطف قوله "وقولوا" على قوله: {لا تَعْبُدُونَ} ؛ لأنه بمعنى لا تعبدوا3 وأما قوله: {وَبِالوَالدَيْنِ}

_ 1 أي خبرًا وإنشاء. 2 الجملتان المتفقتان خبرًا أو إنشاء لفظًا ومعنى قسمان: لأنهما إما إنشائيتان أو خبريتان. أما المتفقتان معنى فقط فهما ستة أقسام؛ لأنهما إن كانتا إنشائيتين معنى فاللفظان أما خبران أو الأولى خبر والثانية إنشاء أو بالعكس، وإن كانتا خبريتين معنى فاللفظان إما إنشاءان أو الأولى إنشاء والثانية خبر أو بالعكس. والمصنف أو رد للقسمين الأولين أمثلتهما، وأورد للاتفاق معنى فقط مثالًا واحدًا يمكن تطبيقه على قسمين من أقسامه الستة هما الخبريتان لفظًا مع كونهما إنشائيتين معنى، والإنشائيتان معنى مع كون الأولى خبرية في اللفظ والثانية إنشائية فيه. ويمكننا أن نمثل لجميع أقسام التوسط بين الكمالين: الجملتان المتفقتان لفظًا ومعنى: الخبريتان: حضر أخي وسافر صديقه. الإنشائيتان: اجتهدوا ولا تتوانوا عن العمل. المتفقتان معنى فقط. 1 إنشائيتان معنى. خبريتان لفظًا. أيدك الله وهداك. الأولى خبرية والثانية إنشائية في اللفظ. أيدك الله وليرعك برعايته العكس. يكتب لك التوفيق وأمدك بعنايته. 2- خبريتان معنى. إنشائيتان: ألم أساعدك وألم أضح في سبيلك. الأولى إنشائية والثانية خبرية في اللفظ: ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك. العكس: ساعدتك طويلًا وهل في ذلك شك. 3 فهما مع اختلافهما لفظًا -لأن الأولى إنشائية في اللفظ والثانية خبرية في اللفظ- إنشائيتان في المعنى؛ لأن "لا تعبدون" أخبار في معنى الإنشاء -هذا والجامع بينهما اتحاد المسند إليه فيهما واتحاد المسند أيضًا فيهما؛ لأن لا من تخصيص الله بالعبادة والإحسان للوالدين والقول الحسن للناس عبادة مأمور بها -وإنما أو ل لا تعبدون بلا تعبدوا؛ لأن أخذ الميثاق يقتضي الأمر والنهي وإذا وقع بعده خبر أو ل بالأمر أو بالنهى كما هنا.

{إِحْسَانًا} فتقديره: إما وتحسنون بمعنى وأحسنوا، وإما وأحسنوا، وهذا أبلغ من صريح الأمر؛ لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء فهو يخبر عنه1. وأما قوله2 في سورة البقرة: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} ، فقال الزمخشري فيه: فإن قلت علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهي يصح عطفه عليه؟ قلت: المراد ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه، إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين، فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين، كما تقول "زيد يعاقب بالقيد والإرهاق وبشر عمرًا بالعفو

_ 1 قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} المصدر هنا لا بد له من فعل فإما أن يقدر "وتحسنون، بقرينة: لا تعبدون، فيكون خبرًا في معنى الطلب إذ هو بمعنى وأحسنوا، فتكون الجملتان خبرًا لفظًا إنشاء معنى، وفائدة تقدير الخبر ثم جعله بمعنى الإنشاء إما لفظًا فالملاءمة مع قوله لا تعبدون، وإما معنى فالمبالغة باعتبار أن المخاطب كأنه سارع إلى الامتثال فهو يخبر عنه، كما تقول: تذهب إلى فلان نقول له كذا تريد الأمر، أي اذهب إليه فقل كذا، وهو أبلغ من الصريح. وإما أن يقدر الفعل من أو ل الأمر بصريح الطلب، أي "وأحسنوا" بقرينة "وقولوا". وذلك على ما هو الظاهر؛ لأن الأصل في الطلب أن يكون بصيغته الصريحة، أما قرينة "وقولوا" فيعارضها قرينة "لا تعبدون". فتكون الجملتان إنشائيتين معنى مع أن لفظ الأولى إخبار ولفظ الثانية إنشاء. فقوله: "هذا أبلغ من صريح الأمر"، اسم الإشارة يعود إلى تقدير الفعل المحذوف على أنه "وتحسنون" بمعنى أحسنوا. 2 راجع 113 من المفتاح.

والإطلاق"1 ولك أن تقول هو معطوف على فاتقوا كما تقول يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم هذا كلامه. وفيه نظر لا يخفى على المتأمل2. وقال3 أيضًا في قوله تعالى في سورة الصف: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِيْنَ} أنه معطوف على "تؤمنون"؛ لأنه بمعنى آمنوا. وفيه أيضًا نظر: لأن المخاطبين في "تؤمنون" هم المؤمنون وفي "بشر" هو النبي عليه السلام، ثم قوله "تؤمنون" بيان لما قبله على سبيل الاستئناف فكيف يصح عطف "بشر المؤمنين" عليه4. وذهب السكاكي5، إلى أنهما معطوفان على "قل" مرادًا قبل "يا أيها الإنسان، ويا أيها الذين آمنوا"؛ لأن إرادة القول بواسطة انصباب الكلام إلى معناه غير عزيزة في القرآن، وذكر صورًا كثيرة.

_ 1 فهو عطف قصة على قصة أو عطف مضمون كلام على مضمون كلام آخر. 2 قيل وجه النظر أنه ليس بينهما اتحاد في المسند إليه. ويرد على ذلك بأن بين المسند إليهما تناسبًا. 3 أي الزمخشري -راجع 113 و139 من المفتاح في الكلام على الآية. 4 والجواب عن الاعتراض الأول هو أن بين المسند إليهما تناسبًا فلا يمنع اختلاف المخاطبين هنا من العطف مع أن يجوز أن تكون خطابًا لكل واحد. 5 ص113 المفتاح.

منها قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا} ، وقوله: {وَإِذْ أخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا} ، وقوله: {وَإِذاْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابةً لِلنَّاس وَأمْنًا وَاتَّخِذُوا} ، أي وقلنا أو قائلين. والأقرب1 أن يكون الأمر في الآيتين معطوفًا على مقدر يدل عليه ما قبله، وهو في الآية الأولى: {فَأَنْذِر} أو نحوه أي: فأنذرهم وبشر الذين آمنوا، وفي الآية الثانية: {فَأَبْشِرُ} أو نحوه" أي: فأبشر يا محمد وبشر المؤمنين. وهذا كما قدر الزمخشري قوله تعالى: {وَاْهْجُرْنِيْ مَلِيَّا} معطوفًا على محذوف يدل عليه قوله: {لَأَرْجُمَنَّكَ} أي: فاحذرني واهجرني؛ لأن: {لَأَرْجُمَنَّكَ} تهديد.

_ 1 هذا هو رأي الخطيب. فالخلاصة: أن الزمخشري يجعل العطف من عطف قصة على قصة أو من عطف فعل على فعل مع تقدير، والسكاكي يجعل العطف على فعل قول مقدر. والخطيب يجعل العطف على فعل مقدر يدل عليه ما قبله.

الجامع

"الجامع 1 ": والجامع بين الجملتين2 يجب أن يكون باعتبار المسند إليه في هذه والمسند إليه في هذه، وباعتبار المسند في هذه والمسند في هذه جميعًا3 كقولك يشعر زيد ويكتب ويعطي ويمنع5 وقولك زيد شاعر وعمرو كاتب، وزيد طويل وعمرو قصير إذا كان بينهما مناسبة كان يكونا أخوين أو نظيرين6، بخلاف قولنا زيد شاعر وعمرو كاتب إذا لم يكن بينهما مناسبة7.

_ 1 راجع ص172-174 دلائل 110 مفتاح، والجامع هو الوصف الذي يقرب بين الشيئين ويقتضي الجمع بينهما. 2 لهما محل من الإعراب أم لا. 3 سواء اتحد المسندان أو المسند إليهما أم تغايرا. هذا والمتعلقات يجب الجامع أيضًا فيها إن كانت مقصودة بالذات في الجملتين وإلا فلا. 4 للمناسبة الظاهرة بين الشعر والكتابة وتقاربهما في خيال أصحابهما مع اتحاد المسند إليه فيهما، فالجامع بين المسند إليه فيهما عقلي، وبين المسند فيهما عقلي باعتبار المناسبة والمماثلة بين الشعر والكتابة أو خيالي باعتبار التقارن في الخيال. 5 لتضاد الإعطاء والمنع فالجامع بينهما وهمي. 6 فلا بد من مناسبة وعلاقة خاصة ولا تكفي المناسبة العامة. 7 فإنه لا يصح وإن تحد المسندان، ولعدم المناسبة الخاصة المشترطة عند التغاير حكموا بامتناع "خفي ضيق وخاتمي ضيق" ولا عبرة بكونهما ملبوسين لبعدهما ما لم يوجد بينهما تقارن في الخيال لأجل ذلك أو لغيره أو يكن المقام مقام ذكر الأشياء المتفقه في الضيق من حيث هي ضيقة والإجاز العطف. وفي عبد الحكيم أن محل المنع إذا كان المقام مقام الاشتغال بذكر الخواتم أما إن كان مقام بيان الأمور المتعلقة بالشخص فيجوز.

وقولنا: "زيد شاعر وعمرو طويل" كان بينهما1 مناسبة أو لا. وعليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُون} ، فقطع عما قبله؛ لأنه كلام في شأن الذين كفروا وما قبله كلام في شأن القرآن. وأما ما يشعر به ظاهر كلام السكاكي في مواضع من كتابه أنه يكفي أن يكون الجامع باعتبار المخبر عنه أو الخبر أو قيد من قيودهما فإنه منقوض بما مر وبنحو قولك هزم الأمير الجند يوم الجمعة وخاط زيد ثوبي، ولعله سهو فإنه صرح في موصع آخر منه بامتناع عطف قول القائل: "خفي ضيق" على قوله: "خاتمي ضيق" مع اتحادهما في الخبر2. ثم قال3: الجامع بين الشيئين عقلي وهمي وخيالي:

_ 1 أي بين زيد وعمرو، فعدم صحة العطف لعدم تناسب الشعر وطول القامة فالمناسبة معدومة بين المسندين في الجملتين قطعًا، وكذلك بين المسند إليهما فيهما إذا لم تكن بينها مناسبة فهي معدومة من جهة أو جهتين -وراجع في هذا الدلائل ص173. ملاحظة: راجع نقد البيت: "تكامل فيها الدل والشنب". 2 هذا وقد ذهب السيد إلى أن مجرد الاتحاد أو التناسب في الغرض الذي تصاغ له الجملة يكفي في صحة العطف ولولم يتحد الطرفان في الجملتين مثل أن تذكر ما وقع في يوم من الأيام فتقول، فيه اعتدل الجو وسافر الضيف ومرضت شقيقتي وهكذا. وقال العسكري: ومثل هذا قول القائل لو قال: "خلق فلان حسن وشعره جعد"، ليس هذا من تأليف البلغاء ونظم الفصحاء "371 الصناعين". 3 أي السكاكي إذ ذكر أنه يجب أن يكون بين الجملتين ما يجمعهما في القوة المفكرة جمعا من جهة العقل وهو الجامع العقلي، أو من جهة الوهم وهو الجامع الوهمي أو من جهة الخيال وهو الجامع الخيالي. =

........................................................................

_ = فالجامع العقلي هو الجامع الذي يجمع العقل بين الجملتين بسببه في القوة المفكرة والجامع الوهمي هو أمر يجمع بين الشيئين في القوة المفكرة جمعًا ناشئًا من جهة الوهم وذلك بأن يتحيل بسبب ذلك الجامع على جمعيهما في المفكرة وذلك كالتضاد وشبه التماثل. والجامع الخيالي أمر يجمع بين الشيئين في القوة المفكرة جمعًا ناشئًا من جهة الخيال بأن يتحيل على جمعهما في المفكرة وذلك كالتقارن. هذا وإنما كان الجمع في المفكرة؛ لأن الجمع من باب التركيب وهو شأنها. هذا والقوى الباطنية المدركة أربعة: فالقوة العاقلة قائمة بالنفس تدرك الكليات والجزئيات المجردة عن عوارض المادة المعروضة للصور وعن الأبعاد. وخزانتها العقل الفياض المدبر لفلك القمر. والقوة الوهمية قوة مدركة للمعاني الجزئية الموجودة التي لا تتأتى إلى مدركها من جهة الحواس كإدراك صداقة زيد وعداوة عمرو. ومحل تلك القوة أو ل التجويف الآخر من الدماغ. وخزانتها الذاكرة والحافظة وهي قائمة بمؤخر تجويف الوهم. أما الحس المشترك: فهو القوة التي تصل إلى الصور المحسوسة الجزئية من الحواس الظاهرة فتدركها وهي قائمة بأول التجويف الأول من الدماغ من جهة الجبهة، والمراد بالصور المدركة بها ما يمكن إدراكه بالحواس الظاهرة ولو كان مسموعًا والمراد بالمعاني الجزئية المدركة للوهم ما لا يمكن إدراكه. وخزانة الحس المشترك الخيال وهو قوة قائمة بآخر تجويف الحس المشترك تبقى فيه تلك الصور بعد غيبتها عن الحس المشترك. وأما المفكرة فقوة في التجويف المتوسط بين الخزانتين تتصرف في الصور الخيالية وفي المعاني الجزئية الوهمية وفي العقلية، فإذا حكمت بين تلك الصور والمعاني بواسطة العقل كانت مفكرة في الحقيقة وإن حكمت بواسطة الخيال فمتخيلة أو بواسطة الوهم فمتوهمة. وليس لها خزانة بل خزانتها جميع خزائن القوى الأخرى. هذا وعبارة السكاكي: أن يكون بين الجملتين اتحاد في تصور مثل الاتحاد في المخبر عنه أو الخبر أو في قيد من قيودهما، وذلك يقتضي أن الجملتين يكفي في الجامع بينهما الاتحاد في واحد ومن هذه الأشياء وقد سبق بيان ضرورة وجود الجامع بين المسندين والمسند إليهما في الجملتين، وقد أجيب عن السكاكي بأن كلامه هنا في بيان الجامع في الجملة لا في بيان القدر الكافي بين الجملتين فقد ذكره في موضع آخر أو أن مراده أن الاتحاد في واحد منها كاف حيث يقصد الاجتماع فيه بالذات وأما المصنف فحمل كلامه على ظاهره ودفع اختلاله بإبداله الجملتين بالشيئين وتعريفه كلمة "تصور" الواردة في كلام السكاكي منكرة، وإن كان ذلك قد أدى إلى خلل في كلام المصنف في قوله: "الوهمي أن يكون بين تصوريهما شبه تماثل أو تضاد أو شبه تضاد، والخيالي أن يكون بين تصوريهما تقارن في الخيال؛ لأن التضاد مثلًا إنما هو بين نفس السواد والبيان لا بين تصوريهما أعني العلم بهما وكذا التقارن في الخيال إنما هو بين نفس الصور.

"الجامع العقلي": أما العقلي فهو: أن يكون بينهما اتحاد في التصور1 أو تماثل2: فإن العقل بتجريده المثلين عن التشخص في الخارج يرفع التعدد، أو تضايف3 كما بين العلة والمعلول4 والسبب والمسبب والسفل والعلو الأقل والأكثر فإن العقل يأبى أن لا يجتمعا في الذهن.

_ 1 الذي أو جب الجمع عند المفكرة قوة العقل والمدركة بسبب الاتحاد أو التماثل مثلًا فلذا يسمى كل منهما جامعًا عقليًّا فتسمية الاتحاد في التصور مثلًا جامعًا عقليًّا لكونه سببًّا في جمع العقل بين الشيئين، فالجامع العقلي هو السبب في جمع العقل سواء كان مدركًا بالعقل أو بالوهم وليس المراد ولا يكفي الاتحاد في متصور واحد. والمراد بالاتحاد في التصور أن يكون به ما كان مدركًا بالعقل وقوله اتحاد في التصور أي في جنس المتصور الثاني هو الأول. 2 بأن يتفقا في الحقيقة ويختلفا في العوارض. فالمراد بالتماثل ههنا اشتراكهما في وصف له مزيد اختصاص بهما. 3 وهو كون الشيئين بحيث لا يمكن تعقل كل منهما إلا بالقياس إلى تعقل الآخر فيكون تصور أحدهما لازمًا لتصور الآخر. 4 أي كالتضايف الذي بين مفهوم العلة -وهي كون الشيء سببًا- ومفهوم المعلول -وكون الشيء مسببًا عن ذلك الشيء أو بين ما صدق العلة وما صدق المعلول باعتبار مفهومها. هذا وسمي جمع الاتحاد والتماثل والتضايف عقليًّا؛ لأن العقل يدرك بها الأمور على حقائقها.

"الجامع الوهمي": وأما الوهمي1: فهو أن يكون بين تصوريهما: 1- شبه تماثل2 كلون بياض ولون صفرة. فإن الوهم يبرزهما في معرض المثلين ولذلك حسن الجمع بين الثلاثة في قوله: "محمد بن وهيب". ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر2 2- أو تضاد4 كالسواد والبياض والهمس والجهارة والطيب والنتن والحلاوة والحموضة والملاسة والخشونة وكالتحرك

_ 1 هو أمر بسببه يحتال الوهم في اجتماع الشيئين عند المفكرة بخلاف العقل فإنه إذا خلى ونفلسه لم يحكم بذلك الاجتماع لهذا الأمر؛ لأن العقل يدرك الأمور على حقائقها بخلاف الوهم فمن شأنه خلاف ذلك. فالجامع الوهمي ليس أمر جامعًا في الواقع بل باعتبار أن الوهم جعله جامعًا كشبه التماثل والتضاد وشبه التضاد. 2 المراد بالتماثل الاتحاد في النوع بأن يكون بين الشيئين تقارب وتشابه باعتبار وتباين باعتبار آخر. 3 فالوهم يتوهم الثلاثة من نوع واحد وإنما اختلفت العوارض، والعقل يعرف أنها أمور متباينة. والبيت من عطف المفردات، وهي كالجمل يشترط فيها الجامع. 4 وهو التقابل بين أمرين وجوديين يتعاقبان على محل واحد. خرج بالوجود بين تقابل الإيجاب والسلب وتقابل العدم والملكة وهو ثبوت شيء وعدمه عما من شأنه ذلك كتقابل العمى للبصر، والمراد بالوجودي هنا ما ليس العدم داخلًا في مفهوميته فيشمل الأمور الاعتبارية فيدخل المتضايقان فلا بد إذا من زيادة قيد "لا يتوقف تعقل أحدهما على تعقل الآخر". و"يتعاقبان على محل واحد" أي يمكن ذلك لا أن ذلك بالفعل؛ لأن الضدين قد يرتفعان.

والسكون القيام والقعود والذهاب والمجيء والإقرار والإنكار والإيمان والكفر1 وكالمتصفات بذلك كالأسود والأبيض والمؤمن والكافر. 3- أو شبه تضاد2 كالسماء والأرض والسهل والجبل والأول والثاني، فإن الوهم ينزل المتضادين والشبيهين بهما منزلة المتضايقين فيجمع بينهما في الذهن ولذلك تجد الضد أقرب خطورًا بالبال مع الضد.

_ 1 هذا بناء على أن الكفر وجودي وهو الجحد. والحق أن بين الإيمان والكفر تقابل العدم والملكة؛ لأن الكفر عدم التصديق عما من شأنه التصديق. وقد يقال الكفر إنكار شيء من ذلك فيكن وجوديًّا فيكونان متضادين. 2 بأن لا يكون أحد الشيئين ضد للآخر، ولا موصوفًا بضد ما وصف به الآخر ولكن يستلزم كل منهما معنى ينافي ما يستلزمه الآخر. ملاحظة: وأنواع التقابل أربعة: التماثل - التضاد - التناقض - العدم والملكة.

"الجامع الخيالي1": والخيالي أن يكون بين تصوريهما تقارن في الخيال2 سابق3. وأسبابه مختفة4- ولذلك اختلفت الصور الثابتة في الخيالات ترتبًا ووضوحًا5، فكم صور تتعانق في خيال وهي في آخر لا تتراءي، وكم صورة لا تكاد تلوح في خيال وهي في غيره نار على علم، كما يحكي1 أن صاحب سلاح ملك وصائغًا وصاحب بقر ومعلم صبية سافروا ذات يوم وواصلوا سير النهار بسير الليل، فبينما هم في وحشة الظلام ومقاساة خوف التخبط والضلال، طلع عليهم البدر

_ 1 راجع 154 جـ1 زهر الآداب، 135 جـ2 البيان، 70، 74 طراز المجالس، 111 من المفتاح. وهو أمر بسببه يقتضي الخيال اجتماعهما في المفكرة ولو كان في أصله عقليًّا لكونه كليًّا أو وهميا لكونه جزئيًّا. فالجامع الخيالي ما يتعلق بالصور الخيالية ولو كان عقليًّا أو وهميًّا في أصله، والجامع الوهمي ما يحتال بسببه الوهم على الجمع عند المفكرة ولو سبق إليه الخيال لكونه مدركًا به الخصوص أو لًا فأخذ منه العقل. هذا والحس المشترك هو القوة المدركة للصور الحسية والخيال خزانته فنسب هنا الإدراك إلى الخانة لا إلى القوة المدركة تساهلًا. فاصل الكلام هنا "يقتضي الحس المشترك الذي خزانته الخيال" بدلًا من "يقتضي الخيال". 2 أي خيال السامع على ما هو الغالب مع مراعاة حال المخاطب. 3 أي على العطف، لأسباب مؤدية إلى ذلك. والمراد بتقارنهما في الخيال تقارنهما فيه عند التذكر والإحضار. 4 باختلاف البيئة والصناعة والأشخاص والعصور. 5 المراد بالوضوح عدم غيبتها عن الخيال وبالترتب اجتماعها في الخيال بحيث لا تنفك عن بعض والأولى تفسير الترتيب بأن يكون حضور الصور على وجه مخصوص لا يكون في آخر كذلك؛ لأنه بالمعنى الأولى هو والوضوح مثلًا زمان. 6 راجع 111 من المفتاح.

بنوره فأفاض كل منهم في الثناء عليه وشبهه بأفضل ما في خزانة صوره، فشبهه السلاحي بالترس المذهب يرفع عند الملك، والصائغ بالسبيكة من الإبريز تفتر عن وجهها البتوقة، والبقار بالجبن الأبيض يخرج من فالبه طريا والمعلم برغيف أحمر يصل إليه من بيت ذي مروءة، وكما يحكى1 عن وراق يصف حاله: عيشي أضيق من محبرة وجسمي أدق من مسطرة وجاهي أرق من الزجاج، وحظي أخفى من شق القلم وبدني أضعف من قصبة وطعامي أمر من العفص وشرابي أشد سوادًا من الحبر وسوء الحال لي ألزم من الصمغ. ولصاحب1 علم المعاني فضل احتياج إلى التنبيه لأنواع الجامع لا سيما الخيالي فإن جمعه على مجرى الألف والعادة بحسب ما تنعقد لأسباب في ذلك3 كالجمع بين الإبل والسماء والجبال والأرض في قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَت، وَإِلَى الجِبَال كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} ، بالنسبة إلى أهل الوبر فإن جل انتفاعهم في معاشهم من الإبل فتكون عنايتهم مصروفة إليها، وانتفاعهم منها لا يحصل إلا بأن ترعى وتشرب وذلك بنزول المطر فيكثر تقلب وجوههم في السماء ثم لا بد لهم من مأوى يؤويهم وحصن يتحصنون به ولا شيء لهم في ذلك كالجبال ثم لا غنى لهم لتعذر طول مكثهم في منزل عن التنقل من أرض إلى سواها فإذا فتش البدوي في خياله وجد صور هذه الأشياء حاضرة فيه على الترتيب المذكور بخلاف الحضري فإذا تلا قبل الوقوف على ما ذكرنا ظن النسق لجهله معيبًا.

_ 1 راجع 112 من المفتاح، 222 جـ2 زهر الآداب. 2 راجع 112 من المفتاح. 3 أي بحسب انعقاد ووجود الأسباب في إثبات الصور في خزانة الخيال، وتباين الأسباب مما يفوته الحصر.

محسنات الوصل

"محسنات الوصل 1 ": ومن محسنات الوصل1 تناسب الجملتين في الاسمية والفعلية2 وفي المضي والمضارعة3، إلا لمانع4 كما إذا أريد بإحداهما التجدد وبالأخرى الثبوت كما إذا كان زيد وعمرو قاعدين ثم قام زيد دون عمرو فقلت قام زيد وعمرو قاعد5 كما سبق.

_ 1 راجع 118 من المفتاح. 2 أي بعد وجود المصحح للعطف لاتفاق الجملتين خبرًا وإنشاءً لفظًا ومعنًى أو معنى فقط مع وجود الجامع. 3 ظاهر هذا أن العطف صحيح بدون التناسب المذكور في الاسمية والفعلية والماضوية والمضارعية فيصح عطف الاسمية على الفعل والعكس، وإنما يعدل للتناسب المذكور لإفادة الحسن فقط، وليس كذلك إذ التناسب قد يكون واجبًا وقد يكون ممنوعًا فإذا قصد تجريد النسبة في الجملتين عن الخصوصية بأن أريد مطلق الحصول تعين التناسب فيقال زيد قائم وعمرو قاعد أو قام زيد وجلس صديقه، بناء على أن الاسمية لا تفيد الدوام إلا بالقرائن والفعلية لا تفيد التجدد إلا بها ولا دلالة لها على أكثر من الثبوت، وكذا يتعين التناسب إذا أريد الدوام فيهما أو التجدد فيهما بناء على إفادة الاسمية للدوام والفعلية للتجدد أما إذا قصد الدوام في إحداهما والتجدد في الأخرى امتنع التناسب وتعين أن يقال عند قصد الدوام في الأولى والتجدد في الثانية: زيد قائم وجلس صديقه وعند قصد العكس قام زيد وصديقه جالس -فالنسبة الواقعة في الجملتين ثلاثة أقسام: مجردة عن الخصوصية في القصد من دوام أو تجدد، وما قصد الدوام في إحداهما والتجدد في الأخرى والتناسب في هذين القسمين واجب في الأول وممنوع في الثاني، والثالث أن تقصد النسبة في ضمن أي خصوصية وهذا هو محل الاستحسان. 4 فإذا أردت مجرد الإخبار من غير قصد تعرض للتجدد في إحداهما والثبوت في الأخرى وإن كان ذلك موجودًا بالفعل لا بالقصد قلت قام زيد وقعد عمرو وكذلك زيد قائم وعمرو قاعد، فلا يترك هذا التناسب إلا لمانع. 5 مثل أن يراد في إحداهما التجدد وفي الأخرى الثبوت فيقال قام زيد وعمرو قاعد. =

.........................................................................

_ = أو يراد في إحداهما المضي وفي الأخرى المضارعة فيقال زيد قام وعمرو يقعد أو يراد في إحدهما الإطلاق وفي الأخرى التقييد بفعل الشرط كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْر} ، فالجملة الأولى مطلقة والثانية مقيدة بفعل الشرط وقد عطفا على بعض. ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} ، فقوله: وهو الأظهر أم على {لا يَسْتَأْخِرُونَ} مأخوذًا مع قيده على جعل الشرط وهو الأظهر أم على {لا يَسْتَأْخِرُونَ} مأخوذًا مع قيده على جعل الشرط قيدًا للجزاء بأن تجعل الشرطية جملة مقيدة وهذا كالأول وإن تخالفا اعتبارًا: أو ليست عطفًا على الجزاء {لا يَسْتَأْخِرُونَ} وحده من حيث هو جزاء، وإلا لكان هو أيضًا جوابًا إذ المعطوف على الجواب جواب فيرد عليه أنه معنى لقولنا: "إذا جاء أجلهم لا يستقدمون"؛ لأنه لا يتصور التقدم بعد مجيء الأجل وحينئذ فلا فائدة في نفيه. واشتراك المعطوف في القيد الخاص بالمعطوف عليه هو الظاهر ولكنه قد يخالف لدليل أقوى من الظاهر كما في الآية وأجاز بعضهم العطف على "لا يستأخرون" للمبالغة في انتفاء التأخير، وقال بعضهم أن جملة: {وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} جملة استئنافية. فالمعطوف في الآية مطلق والمعطوف عليه مقيد بالشرط بعكس الآية السابقة والجامع في الآية السابقة أن نزول الملك على تقدير وجوده سبب في نظرهم لنجاتهم وإيمانهم وهذا هو ما تضمنته الجملة الأولى أما الجملة الثانية فقد تضمنت أن نزوله سبب هلاكهم وعدم إيمانهم وسوق الجملتين لإفادة غرض واحد يتحقق فيه الجامع عند السبك مما يصحح العطف عندهم ولو كان إحداهما في اللفظ خبرًا والأخرى لفظًا إنشاء فأخرى الشرطية وغيرها ولا يخفى تحقق الجامع بما ذكر من التأويل. وعليه قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} ، راجع 118 مفتاح 168 دلائل الإعجاز.

الجملة الحالية

"الجملة الحالية 1 ": ومما يتصل بهذا الباب القول في الجملة إذا وقعت حالًا منتقلة2، فإنها تجيء تارة بالواو وتارة بغير الواو، فنقول: أصل3 الحال المنتقلة أن تكون بغير واو لوجوه: الأول: أن إعرابها ليس بتبع وما ليس إعرابه بتبع لا يدخله الواو وهذه الواو إن كانت تسمى واو الحال فإن أصلها العطف. الثاني: أن الحال في المعنى حكم على ذي الحال كالخبر بالنسبة إلى المبتدأ4 إلا أن الفرق بينه وبينها أن الحكم به يحصل بالأصالة لا في ضمن شيء آخر والحكم بها إنما يحصل في ضمن غيرها5 فإن الركوب مثلًا في قولنا جاء زيد وراكبًا محكوم به على زيد لكن لا بالأصالة بل بالتبعية، بل وصل بالمجيء وجعل قيدًا له بخلافه في قولنا زيد راكب,

_ 1 راجع 119 من المفتاح، 156-172 من الدلائل. 2 حاصل ما ذكر هنا خمسة أقسام: ما يتعين فيه الواو، ما يتعين فيه الضمير ما يجوز فيه الأمران على السواء، ما يترجح فيه الضمير، ما يترجح فيه الواو. والحال المنتقلة هي الغير اللازمة لصاحبها. 3 أي الكثير الراجح فيها كما يقال الأصل في الكلام الحقيقة، أو الأصل بمعنى مقتضى الدليل. واحترز بالمنتقلة عن اللازمة مثل هذا أبوك عطوفًا وخلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها وكذلك عن المؤكدة المقررة لمضمون الجملة فإنها يجب أن تكون بغير واو لشدة ارتباطها بما قبلها. 4 وإن كان الخبر حكمًا في اللفظ أيضًا بخلاف الحال في ذلك فإنه حكم في المعنى فقط. 5 من حيث أنه فضله يستقيم الكلام بدونها والمسند هو المقصود بالذات من حيث إنه مسند وركن لا يستقيم الكلام إلا به وذلك لا ينافي أن المقصود للبليغ هو القيد.

الثالث: أنها في الحقيقة وصف لذي الحال فلا يدخلها الواوكالنعت1. فثبت أن أصلها أن تكون بغير واو لكنه خولف الأصل فيها إذا كانت جملة؛ لأنها بالنظر إليها من حيث هي جملة2؛ مستقلة بالإفادة تحتاج3 إلى ما يربطها بما جعلت حالًا عنه، وكل واحد من الضمير4 والواو صالح للربط، والأصل5 الضمير بدليل الاقتصاد عليه في الحال المفردة والخبر والنعت6. وإذا تمهد هذا فنقول: الجملة التي تقع حالًا ضربان: خالية عن ضمير ما تقع حالًا عنه، وغير خالية.

_ 1 أي بالنسبة للمنعوت إلا أن المقصود في الحال كون صاحبها على هذا الوصف حال مباشرة الفعل فهي قيد للفعل وبيان لكيفية وقوعه بخلاف النعت فإنه لا يقصد به ذلك بل مجرد اتصاف المنعوت به، وإذا كانت الحال مثل الخبر والنعت فكما أنهما يكونان بدون الواو فكذلك الحال، وأما ما أو رده بعض النحويين من الأخبار والنعوت المصدرة بالواو كالخبر في باب كان مثل مصبحًا وهو عريان والجملة الوصفية المصدرة بالواو التي تسمى واو تأكيد لصوق الصفة بالموصوف مثل وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم فعلى سبيل التشبيه والإلحاق بالحال. 2 قال "من حيث هي جملة"؛ لأنها من حيث هي حال غير مستقلة بل متوقفة على الارتباط بكلام سابق قصد تقييده بها فلا تحتاج إلى رابط. 3 أي الجملة الواقعة حالًا. 4 أي ضمير صاحب الحال. 5 أي الذي لا يعدل عنه مالم تمس حاجة إلى زيادة ارتباط فحينئذ يؤتى بالواو؛ لأنها أقوى. 6 أي مفردين أو جملتين، والحاصل أن الضمير أصل في الربط بحسب الاستعمال لا من حيث الوضع، وأما الواو فهي أصل باعتبار الوضع، ثم يرد على كلامه أن الحال المفردة الضمير فيها ليس للربط، وأجاب عبد الحكيم: بأن المراد ما كان مثل أكرمت زيدًا قائمًا أبوه وكذا في الخبر والنعت.

أما الأولى: فيجب أن نكون1 بالواو لئلا تصير منقطعة عنه غير مرتبطة2 به، وكل جملة خالية عن ضمير ما يجوز3 أن ينتصب عنه حال يصح أن تقع حالًا عنه إذا كانت مع الواو، إلا المصدرة بالمضارع المثبت كقولك "جاء زيد ويتكلم عمرو" على أن يكون "ويتكلم عمرو" حالًا عن زيد، لما سيأتي أن ارتباط مثلها يجب أن يكون بالضمير وحده.

_ 1 لفظًا أو تقديرًا، والفرق بينهما وبين الخبرية والنعتية أن الخبر جزء الجملة وذلك كاف في الربط فلم تناسبها الواو التي أصلها العطف الذي لا يكون للخبر والنعتية تدل على معنى في المنعوت فصارت كأنها من تمامه فلم تناسبها الواو أيضًا فاكتفي فيهما بالضمير بخلاف الحالية فهي فضله مستغنى عنها فاحتيجت إلى الرابط "الضمير وإلا تعينت الواو". 2 فلا يجوز خرجت زيد قائم بدون واو. ولما ذكر أن كل جملة خلت عن الضمير وجبت فيها الواو أراد أن يبين أن أي جملة يجوز فيها ذلك وأي جملة لا يجوز، فإن من الجمل الخالية عن الضمير ما يصح أن تقع حالًا فتجب الواو ومنها ما لا يصح وقوعها حالًا. 3 أي عن ضمير الاسم الذي يجوز وقوع الحال عنه، وذلك بأن يكون الاسم فاعلًا أو مفعولًا: معرفين أو منكرين مخصوصين بنعت أو إضافة أو نفي أو استفهام أو نهي، لا نكرة محضة خالية من التخصيص أو مبتدأ أو خبرًا فإنه لا يجوز أن ينتصب عن هذه الثلاثة حال على الأصح. وإنمالم يقل عن ضمير صاحب الحال؛ لأن قوله "كل جملة" مبتدأ خبره قوله بعد "يصح أن تقع حالًا عنه بالواو" أي يصح أن تقع تلك الجملة حالًا عما يجوز أن ينتصب عنه الحال، ومالم يثبت له هذا الحكم -أعني وقوع الحال عنه لم يصح إطلاق اسم صاحب الحال عليه إلا مجازًا باعتبار ما يؤول. وإنما قال: ينتصب عنه حال، ولم يقل "يجوز أن تقع تلك الجملة حالًا عنه"، لتدخل فيه الجملة الخالية عن الضمير المصدرة بالمضارع المثبت، ودخولها مطلوب لأجل إخراجها بعد ذلك بالاستثناء- لأن ذلك الاسم مما لا يجوز أن تقع تلك الجملة حالًا عنه؛ لأنه مما يجوز أن ينصب عنه حال في الجملة، وحينئذ يكون قوله "كل جملة خالية عن ضمير ما يجوز أن ينتصب عنه حال" متناولًا للمصدرة بالمضارع الخالية عن الضمير المذكور فيصح استثناؤها بقوله: "إلا المصدرة بالمضارع المثبت" وذلك مثل "جاء زيد ويتكلم عمرو"، فإنه لا يجوز أن يجعل "ويتكلم. عمرو" حالًا عن زيد وإنما يصح جعلها معطوفة على الجملة الأولى عند وجود الجامع. وذلك؛ لأن ربط الجملة المضارعية المثبتة يجب أن يكون بالضمير فقط، فلو قيل "جاء زيد ويتكلم عمرو معه" لصح. ولا يخفى أن المراد بقوله "كل جملة" الجملة الصالحة للحالية، وهي الخبرية بخلاف الإنشائيات، ومثله الشرطيات فإنها لا تقع حالًا عنه لا بالواو، ولا بدونها إلا بتقدير قول يتعلق بها أصلًا كالنعت بخلاف الخبر فيقع إنشاء على الأصح وإنما شبهت في ذلك بالنعت دون الخبر؛ لأن الحال قيد والقيود ثابتة باقية مع ما قيد بها، والإنشاء ليس كذلك بل وجوده باللفظ فقط.

وأما الثانية 1: فتارة يجب أن تكون بالواو، وتارة يمتنع ذلك، وتارة يترجح أحدهما وتارة يستوي الأمران، والواو غير مناف للضمير في إفادة الرابط، فتعين التنبيه على أسباب الاختلاف، فنقول: 1- الجملة إن كانت فعلية والفعل مضارع مثبت امتنع الواو2، كقوله تعالى: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون} وقوله: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر 3} وقوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} ؛ لأن أصل الحال.

_ 1 هي الجملة الحالية غير الخالية عن ضمير صاحبها وهي إما اسمية فتجب فيها الواو في بعض الأحوال، أو فعلية، والفعلية فعلها إما مضارع: مثبت فيجب فيه الضمير، أو منفي فيستوي فيه الأمران، وإما ماضي لفظًا فحكمه كذلك والاسمية قد يترجح فيها أحدهما في بعض الأحوال. 2 أي ووجب الاكتفاء بالضمير. 3 على قراءة الرفع، أما على قراءة الجزم، فليس فيها شاهد؛ لأنها بدل اشتمال "من تمنن" لاحال، ولا يصح جزمه جوابًا للنهي لعدم صحة تقدير "أن لا" قبله. المعنى لا تعط حال كونك تعد ما تعطيه كثيرًا. وراجع الكلام على الآية في كامل المبرد ص136 جـ1.

المفردة أن تدل على حصول صفة1 غير ثابتة2، مقارن3 لما جعلت قيدًا له، والمضارع المثبت كذلك4: أما دلالته على حصول صفة غير ثابتة؛ فلأنه فعل5 مثبت6، والفعل المثبت يدل على التجدد وعدم الثبوت كما مر، وأما دلالته على المقارنة فلكونه مضارعًا7 فوجب أن يكون بالضمير وحده كالحال المفردة، ولهذا امتنع نحو "جاء زيد ويتكلم عمر".

_ 1 أي صراحة أو باللزوم كما في: جاء غير ماش، وقوله: "صفة" أي معنى قائم بالغير؛ لأنها لبيان الهيئة التي عليها الفاعل أو المفعول والهيئة وهي معنى قائم بالغير، فالمراد معنى الصفة اللغوي لا النحوي. 2 بأن تنفك عن صاحبها، وذلك؛ لأن الكلام في الحال المنتقلة، وهي كذلك. 3 أي مقارن ذلك الحصول لما جعلت الحال قيدًا له يعني العامل؛ لأن الغرض من الحال تخصيص وقوع مضمون عاملها بوقت حصول مضمون الحال وهذا التخصيص هو معنى المقارنة اللازمي لا المطابقي. 4 أي يدل على حصول صفة غير ثابتة. 5 فيدل على التجدد أي بصفته التي هي معنى الفعل، والمراد بتجددها حدوثها في الزمان ووجوده بعد عدم -وعدم الثبوت أي عدم الدوام ودلالة الفعل عليه بطريق اللزوم العادي؛ لأن الشأن في كل طارئ عدم بقائه. 6 فيدل على الحصول. 7 فيصلح للحال كما يصلح للاستقبال وهي حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال فعلى ذلك يكون مضمونه مقارنًا للعامل إذا وقع حالًا وقوله فيصلح للحال هو روح العلة. وفي قوله "وأما المقارنة إلخ" نظرًا؛ لأن الحال التي يدل عليها المضارع هو زمان التكلم وحقيقته أجزاء متعاقبة من أو اخر الزمان وأوائل المستقبل والحال التي نحن بصددها يجب أن يكون مقارنًا لزمان مضمون الفعل المفيد بالحال ماضيًا كان أو حالًا أو استقبالًا فلا دخل للمضارعة في المقارنة؛ لأن زمان المقارنة أعم من زمان التكلم الذي يدل عليه المضارع الواقع حالًا، فليس للمضارعة إذا دخل فإفادة المقارنة المرادة هنا، فالأولى أن يعلل امتناع الواو في المضارع المثبت بأنه على وزن اسم الفاعل لفظًا لتوافقهما في الحركات والسكنات وبتقديره معنى لصحة استعمال كل منهما مكان الآخر فيمتنع دخول الواو فيه مثله.

وأما ما جاء من نحو قول بعض العرب: قمت وأصك عينه أو وجهه وقول عبد الله بن همام السلولي1: فلما خشيت أظافيرهم ... نجوت وأرهنهم مالكًا فقيل: على حذف المبتدأ2 أي وأنا أصك عينه، وأنا أرهنهم، وقيل الأول شاذ3 والثاني4 ضرورة، قال5 الشيخ عبد القاهر: ليست الواو فيهما للحال بل هي للعطف، وصك "أرهن" معنى صككت ورهنت، ولكن الغرض من إخراجهما على لفظ الحال أن يحكيا الحال في أحد الخبرين ويدعا الآخر على أصله6 كما في قوله "عميرة بن جابر الحنفي": ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثم قلت7 لا يعنيني يبين ذلك أن الفاء لا تجيء مكان الواو في مثله كما في خبر عبد الله بن عتيك8 فإنه ذكر دخوله على أبي رافع اليهودي حصنه، ثم قال: فانتهى إليه فإذا هو في بيت مظلم لا أدري أين هو من البيت؟ قلت.

_ 1 راجع البيت في الدلائل ص159، أظافيرهم أي أسلحتهم. والشاهد في البيت وقوع الفعل المضارع المثبت "أرهنهم" حالًا بالواو. وهذا على قراءة الأصمعي بالرفع. 2 فتكون الجملة اسمية وهي يصح ارتباطها بالواو. 3 أي مخالف للقياس النحوي فلا ينافي الفصاحة -والأول هو "قمت وأصك وجهه". 4 أي "نجوت وأرهنهم مالكًا". 5 159 من الدلائل. 6 فالعدول عن الماضي إلى المضارع لحكاية الحال الماضية فالحكاية مانعة من رعاية التناسب بين المعطوفين، ومعنى حكاية الحال الماضية أن يفرض ما كان في الزمان الماضي واقعًا في هذا الزمان فيعبر عنه بلفظ المضارع. 7 البيت سبق شرحه في تعريف المسند إليه باللام. وتجده في الدلائل ص159. 8 تجده في الكامل لابن الأثير ص60 جـ2.

أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه بالسيف وأنا دهش، فإن قوله فأضربه مضارع عطفه بالفاء على ماض؛ لأنه في المعنى ماضي. 2- وإن كان الفعل مضارعًا منفيًّا1 فيجوز فيه الأمران من غير ترجيح2، لدلالته على المقارنة لكونه مضارعًا، وعدم دلالته على الحصول لكونه منفيًّا. أما مجيئه بالواو فكقراءة ابن ذكوان: فاستقيما ولا تتبعان، بتحقيق النون3 وقول بعض العرب: كنت ولا أخشى بالذيب، وقول مسكن الدارمي:

_ 1 أي بغير لن؛ لأن الجملة المنفية بها لا تقع حالًا؛ لأن "لن" تخلص الفعل للاستقبال، وهذا ينافي الجملة الحالية إذ يجب فيها أن لا تصدر بعلم استقبال، فالمراد بالنفي هنا النفي بما أو لا. 2 وبعضهم رجح الترك. 3 أي بتخفيف نون "ولا تتبعان" فتكن "لا" للنفي دون النهي لثبوت النون التي هي علامة الرفع فلا يصح عطفه على الأمر قبله فتكون الواو للحال بخلاف القراءة "ولا تتبعان" بتشديد النون فإنه نهي مؤكد بنون التوكيد الثقيلة والفعل مجزوم بحذف نون الرفع، ولا يجوز أن تكون على هذه القراءة نفيا، ونون الرفع محذوفة لتوالي الأمثال؛ لأن تأكيد الفعل المنفي بلا شاذ. أما على القراءة الأولى فواضح أن لا للنفي فاستقيما انشاء ولا تتبعان بالتخفيف خبر فالواو غير عاطفة لامتناع عطف الخبر على الإنشاء لما بين الجملتين من كما ل الانقطاع المانع من العطف وهذا على الوجه الظاهر في ولا تتبعان، من أن الفعل معرب مرفوع بثبوت النون في موضع الحال. وهناك أو جه غير ظاهرة مثل ما ذهب إليه يونس من أن الفعل إنشاء؛ لأنه نهي والنون فيه نون التوكيد الخفيفة، وتطرق مثل هذا الاحتمال لا يضر في الاستشهاد؛ لأنه مبني على الظاهر والاحتمال المذكور خلاف الظاهر. قيل أن لا تتبعان على أن نون علامة الرفع تكون حالًا مؤكدة مع أن كلامنا هنا في الحال المنتقلة.

أكسبته الورق البيض أبا ... ولقد كان ولا يدعى لأب1 وقول مالك بن رفيع: هو كان قد جنى جناية فطلبه مصعب بن الزبير: بغاني مصعب وبنو أبيه ... فأين أحيد عنهم لا أحيد أقادوا من دمي وتوعدوني ... وكنت وما ينهنهني الوعيد2 وأما مجيئه بعير واو كقوله تعالى: {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّه} 3 وقول عكرشة العبسي4: مضوا لا يريدون الرواح، وغالهم ... من الدهر أسباب جرين على قدر وقول خالد بن يزيد بن معاوية: لو أن قومًا لارتفاع قبيلة ... دخلوا السماء دخلتها لا أحجب

_ 1 راجع البيت في ص160 من الدلائل، وص120 من المفتاح. الورق بكسر الراء: المال من الدراهم ويجمع على أو راق وقد وصف هنا بالجمع كما يقال الدرهم البيض لتعدده معنى. 2 بغاني: طلبني. أحيد: أتنحى. أقادوا من دمي: قتلوا بدل قليلهم. ينهنهني: يزجرني. 3 أي أي شئت ثبت لنا حال كوننا غير مؤمنين، فالاستفهام إنكار لحصول شيء في هذه الحالة وهو مستلزم لإنكارها على سبيل المبالغة إذ حصول شيء ما لازم في هذه الحالة، وإذا كان منكرًا كانت تلك الحال منكرة، فالفعل المنفي حال بدون الواو، والعامل في الحال هو العامل في "لنا" المقدر وصاحب الحال هو الضمير المجرور وهو معمول محلا للعامل في الحال فهو على القاعدة من أن العامل في الحال هو العامل في صاحبها. 4 راجع البيت في الحماسة 144/ 1"، وفي ص161 من الدلائل وفي 119 من المفتاح. الرواح: الرجوع، غال: أهلك قدر بسكون الدال من قدرته قدرًا بمعنى قدرته تقديرًا يعني أسبابًا مقدرة.

وقول الأعشي1: أتينا أصبهان فهزلتنا ... وكنا قبل ذلك في نعيم وكان سفاهة مني وجهلًا ... مسيري لا أسير إلى حميم2 كأنه قال: سفاهة مني وجهلا أن سرت غير سائر إلى حميم3. 4- وإن كان ماضيًا لفظًا4 أو معنى5 فكذلك يجوز الأمران من غير ترجيح. أما مجيئه بالواو فكقوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} ، وقوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} ، وقال امرئ القيس: أتقتلني وقد شعفت فؤادها ... كما شعفت المهنوءة الرجل الطالي6

_ 1 أعشى همدان في خالد بن عتاب كما في البيان والتبيين ص239 جـ3 والبيتان في الدلائل ص161. 2 قيل أن الأعشى صحب عباد بن ورقاء إلى أصبهان فلم يحمدها. هزلتنا: أضعفتنا الحميم: الصديق. 3 راجع ص162 من الدلائل. 4 أي ومعنى معًا. 5 وهو المضارع المنفي بلم أو بلما فإنهما يقلبان معنى المضارع التضمني - وهو الزمان إلى المضي. 6 شعفت فؤادها أي غلب حبي قلبها وخالطه حتى وصل إلى شعاف القلب المهنوءة المطلية بالقطران. شعفها: طلاها به، يعني أن حبه بلغ منها كما يبلغ القطران من الناقة المهنوءة فإنه يسري في جسمها حتى يوجد طعمه في لحمها.

وقوله1: فجئت وقد نضت لنوم ثيابها ... لدى الستر إلا لبسة المتفضل وقوله تعالى: {أَو قَالَ أو حِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} ، وقوله: {يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} ، وقول كعب: لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... أذنب وإن كثرت في الأقاويل وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا منْ قَبْلِكُمْ} ، وقول الشاعر: دانت قطام ولما يحظ ذو مقة ... منها بوصل ولا إنجاز ميعاد2 وقول الشاعر: وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلله القطر وقوله: أتيناكم قد عمكم حذر العدا ... فنلتم بنا أمنا ولم تعدموا نصرا3 وقوله4: حتى أرى الصبح قد لاحت مخايله ... والليل قد مزقت عنه السرابيل وكقوله تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْل لَمْ يَمْسَسْهُمْ

_ 1 أي امرئ القيس أيضًا. نضا: نزع. اللبسة بكسر اللام اسم هيئة. المتفضل الذي يبقى في ثوب واحد لينام أو ليعمل عملًا. 2 قطام اسم امرأة، المقة: الحب من ومقه ومقاومته أحبه. 3 حذر العدا أي خوف الأعداء من إضافة المصدر إلى مفعوله والعدى بكسر العين وضمها: الأعداء. 4 هو حندج بن حندج المري من أبيات مطلعها: في ليل صول تناهى العرض والطول "راجع 162 من الدلائل، 362 جـ2 الحماسة، والأمالي". مخايل الصبح: طلائعه. سرابيل الليل: ظلامه شبه بها.

سوء1 وقوله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} ، وقول امرئ القيس: فأدرك لم يجهد ولم يئن شأوه ... يمر كخذروف الوليد المثقب2 وقول زهير: كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا، لم يحطم3 والسبب في أن جاز الأمران فيه إذا كان مثبتًا4 دلالته على حصول صفة غير ثابتة لكونه فعلًا، وعدم دلالته على المقارنة لكونه ماضيًا5. ولهذا6 اشترط أن يكون مع7 قد ظاهرة أو مقدرة حتى تقربه إلى الحال فيصبح وقوعه حالًا.

_ 1 حال من الواو في "انقلبوا". 2 البيت من قصيدته "خليلي مرا بي على أم جندب": وهو في وصف الفرس يعني أنه أدرك طريدته بغير مشقة في أو ل شأوه. والشأو. الطلق. الخذروف: لعبة كالدوارة التي يلعب بها الصبيان. 3 البيت من معلقة زهير: "أمن أم أو فى دمنة" "لم تكلم". الفتات اسم لما انفت وتقطع من الشيء. العهن: الصوف المصبوغ. الفنا، عنب الثعلب، واحدة فناة. يريد تشبيه قطع الصوف المصبوغ الذي زينت به الهوادج بحب عنب الثعلب في حمرته قبل تحطيمه؛ لأنه إذا حكم تزول حمرته. 4 وهو الماضي لفظًا ومعنى. 5 فلا يقارن مضمون الماضي الحال التي هي زمان التكلم. 6 أي ولعدم دلالته على المقارنة. 7 أي إذالم يكن الماضي تاليًا لا لا ولا متلوا بأو، وإلا فلا يقترن بها. والظاهرة مثل "وقد بلغني". والمقدرة مثل "حصرت صدورهم". هذا و"وقد" تقرب الماضي من الحال والمقارنة في حكم المقارنة والإشكال السابق وارد هنا وهو أن الحال التي نحن بصددها وهي الحال النحوية غير الحال التي تقابل الماضي وتقرب قد الماضي منها، وإذا كانت غيرها فتجوز مقارنة مضمون الحال النحوية لمضمون عاملها في الزمان. إذا كان الحال والعامل ماضيين، وحينئذ فمقتضاه امتناع الواو لمشابهة تلك =

وظاهر هذا يقتضي وجوب الواو في المنفي1 لانتفاء المعنيين، لكنه لم يجب فيه، بل كان مثله: أما لمنفي بلما؛ فلأنها للاستغراق2 وأما المنفي بغيرها3؛ فلأنه لما دل على انتفاء متقدم4 وكان الأصل استمرار ذلك5، حصلت الدلالة على المقارنة عند إطلاقه6، بخلاف.

_ = الحال الماضية المفردة في الدلالة على المقارنة في الحصول، فقولهم في الماضي المثبت أنه لا يفيد المقارنة غير مناسب. وهذا ولفظ قد إنما يقرب الماضي من الحال التي هي زمان التكلم، وربما يبعده عن الحلال التي نحن بصددها كما في قولهم جاء زيد في الأسبوع الماضي وقد ركب فرسه. والاعتذار عن اشتراطهم دخول قد على الماضي الواقع حالًا هو أنهم استبشعوا لفظ الماضي والحالية التنافي الماضي والحال في الجملة فأتوا بلفظ قد لظاهر الحالية لمجرد استحسان لفظي، وهو منقول من الرضى، والسيد لا يرضى ذلك ويرى أن الركوب في قولك: "جاء زيد ركب" متقدم على المجيء فتأتي قد لتقربه من زمان المجيء. ملاحظة: لم يورد المصنف مثالًا للفعل المضارع المنفي بلما والواقع حالًا مع ترك الواو فيه، ومثال ذلك البيت: فقالت له العينان سمعًا وطاعة ... وحدرتا كالدر لما يثقب 1 أي الماضي المنفي لفظًا ومعنى أو معنى فقط. 2 أي لامتداد النفي من حيث الانتفاء إلى زمن التكلم فقد وجدت مقارنة مضمون الحال المنفية بها لزمن التكلم ويرد عليه أن تلك المقارنة غير مرادة وإنما المطلوب في الحال مقارنتها لعاملها. 3 أي غير لما، مثل لم، وما، فما مع الماضي بدليل تخصيصه المضارع المنفي بلم ولما فيما مر وليست "ما" مع الماضي لنفي الحال بل مع المضارع. 4 أي حدث متقدم على زمن التكلم. 5 أي استمرار ذلك الانتفاء لوقت التكلم حتى تظهر قرينة على الانقطاع كما في قولنالم يضرب زيد أمس لكنه ضرب اليوم" فالقرينة هنا مخصصة للأصل لا مناقضة له. 6 بعدم التقييد بما يدل على انقطاع ذلك الانتفاء قبل زمن التكلم.

المثبت1 فإن وضع الفعل على إفادة التجدد2. وتحقيق هذا3 أن استمرار العدم4 لا يفتقر إلى سبب5 بخلاف استمرار الوجود6 كما يبين في غير هذا العلم.

_ 1 أي الماضي المثبت فإنه لا يفيد الاستمرار، كالماضي المنفي. 2 الذي هو مطلق الثبوت بعد الانتفاء، من غير أن يكون الأصل استمراره فإذا قلت "ضرب" مثلًا كفى في صدقه وقوع الضرب في جزء من أجزاء الزمان الماضي، وإذا قلت "ما ضرب" أو "لم يضرب" أفاد استغراق النفي لجميع أجزاء الزمان الماضي أي من حيث أن تلك الأجزاء ظرف للأحداث التي تعلق بها النفي وإلا فالنفي إنما هو كل فرد من أفراد الحدث الواقعة في أجزاء الزمان الماضي لكان أو ضح، وإفادته الاستغراق إما لمراعاة الأصل أو؛ لأن الفعل في سياق النفي كالنكرة المنفية بلا فنعم. والأوجه في إفادة المقارنة أن يقال أن الأصل في النفي بعد تحققه استمراره. 3 أي وهو أن الأصل في النفي بعد تحققه استمراره بخلاف الإثبات. 4 الذي هو مفاد الماضي المنفي. 5 أي موجود مؤثر بل يكفي فيه انتفاء سبب الوجود فلذلك سهل فيه استصحاب الاستمرار المؤدي للمقارنة. 6 فيفتقر إلى وجود سبب مؤثر. ومن جملة أفراد "استمرار الوجود" استمرار وجود مفاد الماضي المثبت فلذا لم يستصحب فيه الاستمرار. ففي الجملة: لما كان الأصل في المنفي الاستمرار حصل من إطلاقه -أي كونه غير مقيد بما يدل على انقطاع ذلك الانتفاء- الدلالة على المقارنة التي ذكروها هنا وقد سبق أن المطلوب في الحال مقارنة مضمونها لمضمون عاملها في الزمان لا مقارنة مضمونها لزمن التكلم الذي يستلزمه الاستمرار المذكور، فأين هذا من ذاك؟. فالخلاصة أن الماضي المنفي يشبه الحال المفردة في إفادة المقارنة فاستحق بذلك الاتيان به، وذلك جاز الأمران فيه كما جاز في المثبت.

5- وإن كانت الجملة1 اسمية فالمشهور أنه يجوز فيها الأمران2 ومجيء الواو أو لى. أما الأول3 فلعكس ما ذكرناه في المصدرة الماضي المثبت4. فمجيء الواو كقوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون} ، وقوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد} ، وقول امرئ القيس: أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال. وقوله: ليالي يدعوني الهوى وأجيبه ... وأعين من أهوى إلى رواني6 والخلو منها كما رواه سيبويه، كلمته فوه إلى7 في، ورجع عوده على بدئه8 بالرفع، وما أنشده أبو علي9 في الإغفال:

_ 1 أي الواقعة حالًا سواء كان خبرها فعلًا أو ظرفًا أو غير ذلك. وراجع في ذلك ص119 من المفتاح. 2 أي فيجوز الإتيان بها كما يجوز الترك سواء كان المبتدأ في تلك الجملة عين ذي الحال أو غيره، وإن كان جواز الترك مختلفًا فيه. وذهب الفراء إلى أن ترك الواو نادر وتبعه ابن الحاجب والزمخشري، وقال الأخفشن كان خبر المبتدأ اسمًا متقدمًا مشتقًّا وجب تركها مثل جاء زيد حسن وجهه. 3 وهو جواز الأمرين. 4 أي لدلالة الاسمية على المقارنة لكونها مستمرة لا على حصول صفة غير ثابتة لدلالتها على الدوام. والثبوت فهي من أجل ذلك تدل على حصول صفة ثابتة. 5 سبق شرح البيت في الاستفهام. 6 البيت لامرئ القيس. رواني: جمع رانية: وهن مديمات النظر. 7 رجع 158 و168 من الدلائل، 119 المفتاح. 8 راجع 135 جـ2 من الكمال للمبرد. 9 هو أبو علي الفارسي م 392هـ. والبيت في الدلائل ص158 والمفتاح ص119.

ولولا جنان الليل ما آب عامر ... إلى جعفر، سرباله لم يمزق وقول الآخر: ما بال عينك دمعها لا يرقأ1. وقول الآخر2: ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هداب الأزر وأما الثاني:3 فلعدم دلالة الاسمية على عدم الثبوت4، مع ظهور الاستئناف فيها5. فحسن زيادة رابط6 ليتأكد الربط. وقال الشيخ عبد القاهر7:

_ 1 البال: الحال. رقأ الدمع أو الدم: جف وانقطع. 2 هو طرفة بن العبد. والبيت في "325 جـ1 العقد الفريد 431 و422 جـ4 العقد الفريد أيضًا". عبق المسك مصدر عبق بمعنى فاحت رائحته. هداب الأزر ما استرسل منها إلى الأرض. 3 وهو أن مجيء الواو في الجملة الاسمية حالًا أو لى. 4 أي فدلاتها على الثبوت فهي تدل على حصول صفة ثابتة. 5 أي دون الفعلية. 6 الحاصل أن الجملة الاسمية بعدت عن الحال المفردة من حيث دلالتها على الثبوت، ومن حيث ظهور الاستئناف فيها فلذا ترجح فيها الإتيان بالواو، نحو {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون} . 7 هذا مقابل الرأي المشهور السابق ذكره راجع 157 من الدلائل". وهذا رأي عبد القاهر في الجملة الاسمية فقط. أما الفعلية فهو مع الجمهور فيها، ولكن تعليله لثبوت الواو ولعدم ثبوتها يخالف تعليلهم لذلك من أن كل جملة حالية امتنع فيها الواو فذلك؛ لأنك عمدت إلى الفعل الواقع في صدرها فضممته إلى الفعل الأول في إثبات واحد، وكل جملة حالية اقتضت الواو فذلك؛ لأنك مستأنف بها خيرًا وغير قاصد أن تضمها إلى الفعل الأول في الإثبات إلخ، "راجع 164 و165 من الدلائل".

1- إن كان المبتدأ ضمير ذي الحال وجب الواو1 كقولك جاء زيد وهو يسرع أو وهو مسرع، ولعل وهو يسرع أم "وهو مسرع" ولعل السبب فيه2 أن أصل الفائدة كان يحصل بدون هذا الضمير بأن يقال جاءني زيد يسرع أو مسرعًا، فالإتيان به3 يشعر بقصد الاستئناف المنافي للاتصال فلا يصلح4؛ لأن يستقل بإفادة الربط فتجب الواو5.

_ 1 سواء كان خبره فعلًا أو اسمًا. هذا والخلاصة أن مذهب عبد القاهر في الاسمية أن غير المبدوءة بحرف الابتداء وغير المبدوءة بالظرف وغير المعطوفة على مفرد يجب فيها الإتيان بالواو فيمتنع تركها إلا لظهور تأويلها بالمفرد، وفيما عدا ذلك يجوز الإتيان بها والراجح تركها. ومذهب المصنف في الجملة الاسمية جواز ترك الواو وجواز الإتيان بها مع أو لوية ذلك من غير تفصيل بين ما فيه ظرف مقدم وما لا وبين ما يظهر تأويلها بمفرد وما لا يظهر وبين ما فيه حرف ابتداء مقدم وما لا وبين ما عطفت على مفرد ومالم تعطف عليه. وخلاصة مذهب عبد القاهر كما سبق أن أمر الواو وجودًا وعدمًا في الجملة يدور على كونها ليست في حكم المفرد أو هي في حكمها. 2 راجع 164 وما بعدها من الدلائل. 3 أي بالضمير "وهو". 4 أي بالضمير "هو". 5 ويعلل عبد القاهر ذلك بظهور الاستئناف في الجملة الحالية في قولك "جاء زيد هو يسرع" فتأتي الواو للربط وتأكيده. وعلى هذا بالأصل أن لا تجيء الجملة الاسمية حالًا إلا مع الواو وما جاء بدونها في سبيل الشيء الخارج عن قياسه وعن أصله بضرب من التأويل المفرد -كما في: كلمته فوه إلى في أي مشافها، واهبطوا بعضكم لبعض عدو أي متعادين- أو نوع من التشبيه به كما في "فجاءها بأسنا بياتًا أو هم قائلون" فجملة "أو هم" حال تركت الواو فيها لتشبيه واو الحال بواو العطف ولو أتى بالواو لاجتمعت مع حرف عطف آخر وهو "أو". وهذا مشعر بوجوب الواو في "نحو جاء زيد وزيد يسرع، أو مسرع"، وفي "جاء زيد وعمرو يسرع أو مسرع أمامه" بالطريق الأولى، ووجه الأولوية أن الاستئناف في المثالين المذكورين أظهر؛ لأن الضمير أقرب للاسم من الظاهر ومن الاسم الأجنبي. أما "جاءني زيد وعمرو أمامه" مثلًا فقد صرح عبد القاهر بأن الأرجح فيه الواو.

ب- وقال أيضًا1: أن جعل نحو "على كتفه سيف" بتقديم الظرف حالًا عن شيء كما في قولنا "جاء زيد على كتفه سيف" كثر فيها أن تجيء بغير واو، كقول بشار2: إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها ... خرجت مع البازي. علي سواد يعني: على بقية من الليل، وقول أبي الصلت عبد الله الثقفي يمدح ابن ذي يزن3: فاشرب هنيئًا، عليك التاج، مترفقًا ... في رأس غمدان دارا منك مجلالا

_ 1 157 من الدلائل. 2 من قصيدة له في مدح خالد بن برمك "راجعها في الأدب العباسي لمحمود مصطفى ص420". والبيت في الدلائل ص157. أنكر ونكر بكسر للعين واستنكر بمعنى كره. خروجه مع البازي كناية عن تبكيره، وجملة "على سواد" حال مؤكدة له، والحال المؤكدة لا كلام لنا فيها إنما الكلام في الحال المتنقلة- وقوله على سواد يعني بقية من الليل. يعني: إذالم يعرف قدري أهل بلدة أو لم أعرفهم خرجت منهم مصاحبًا البازي الذي هو أبكر الطيور مشتملًا على شيء من ظلمة الليل غير منتظر لطلوع الصباح. فقوله: "على سواد" حال ترك فيها الواو؛ لأن جعل الاسم مرتفعًا بالظرف لاعتماده على ما قبله تكون الحال عليه مفردة لا جملة اسمية وحينئذ فلا يستنكر ترك الوار. 3 البيت ينسب لأمية بن أبي الصلت. ونسبة ابن قتيبة إلى أبيه الصلت وكذلك ابن عبد ربه "176 جـ1 العقد" وهو الأقرب وتجد البيت في الكامل للمبرد ص201 جـ1، 157 من الدلائل. مرتفقًا: متكئًا. مجلالًا: كثيرًا حلولها لكرم صاحبها.

وقول الآخر: لقد صبرت للذل أعواد منبر ... تقوم عليها، في يديك قضيب ثم قال:1 والوجه أن يقدر اسم في الأمثلة مرتفعًا بالظرف2 فإنه جائز باتفاق من صاحب الكتاب وأبي الحسن لاعتماده على ما قبله3، ثم اختار أن يكون الظرف ههنا خاصة4 في تقدير اسم فاعل5 وجوز أيضًا في أن يكون في تقدير فعل ماض مع قد6، ومنع أن يكون في تقدير فعل مضارع7 ولعله اختار تقديره باسم فاعل لرجوع الحال حينئذ

_ 2 هو وائلة السدوسي "45 جـ3 من البيان والتبيين" يهجو عبد الملك بن المهلب "221 و222/ 2 البيان" وراجع كلام الجاحظ على أبي وائلة بن خليفة "196 جـ1 من البيان". والبيت في الدلائل ص157. والخلاصة أن الجملة الاسمية التي خيرها جار ومجرور مقدم إذا وقعت حالًا من معرفة قبلها كثير فيها أن تجيء بغير واو. فلو كان الجار والمجرور مؤخرًا وجب قرنها بالواو، وكذلك لو كانت حالًا من نكرة وجب الواو لئلا يلتبس الحال بالنعت. ومذهب المصنف في ذلك أنه، يكثر قرنها بالواو مطلقًا. وذكر صدر الأفاضل أن ترك الواو قليل في الجملة الحالية التي خبرها غير جار ومجرور ومفهومه أن الخبر إذا كان جارًا ومجرورًا كثر فيه الترك. 1 ص169 من الدلائل. 2 أي فاعلًا مرفوعًا به. 3 أي لاعتماده على ذي الحال. 4 أي بالخصوص لا في مقام وقوع الظرف خبرًا أو نعتًا؛ لأنه يقدر بالفعل أيضًا. وقوله "ههنا" أي في مقام وقوع الظرف حالًا. 5 فهو في تأويل المفرد فيكثر فيه الترك. 6 لأن الترك أكثر فيه أيضًا. 7 لوجوب الترك فيه. هذا ويعلل السعد كثرة ترك الواو في هذا الموضع بأن مثل "على كتفه سيف" يحتمل أن يكون: 1 في تقدير المفرد بتقدير اسم الفاعل فتمتنع الواو. 2 وأن يكون جملة اسمية قدم خبرها فلا تجب الواو. 3 وأن يكون جملة فعلية مقدرة بالماضي فلا تجب الواو. 4 أو مقدرة بالمضارع فتمتنع الواو. فعلى تقديرين تمتنع الواو وعلى تقديرين تجب الواو. فمن أجل هذا -وجوب الواو في تقديرين وجوازها في تقديرين- كثر ترك الواو.

إلى أصلها في الأفراد ولهذا كثر مجيئها بلا واو، وإنما جوز التقدير بفعل ماض أيضًا لمجيئها بالواو قليلًا وإنما منع التقدير بفعل مضارع؛ لأنه لو جاز التقدير به لامتنع مجيئها بالواو. جـ- ثم قال:1 وربما يحسن مجئ الاسمية بلا واو لدخول حرف على المبتدأ، وكما في قوله2: فقلت عسى أن تبصريني كأنما ... بني حوالي الأسود الحوارد3 فإنه لولا دخول كأن عليه لم يحسن الكلام إلا بالواو وكقولك: عسى أن تبصريني وبين حوالي الأسود. ثم قال4 وشبيهه بهذا أن تقع.

_ 1 ص163 من الدلائل. 2 البيت للفرزدق يخاطب امرأة عزلته في اعتناقه ببنيه. الحوارد: الغضاب من حرد إذا غضب. والشاهد وقوع الجملة الاسمية وهي قوله: "بني حوالي الأسود الحوارد" حالًا من مفعول "تبصريني" وهو ياء المتكلم بلا واو وذلك حسن في هذا الموضع لدخول "كانا" على الجملة؛ لأن هذا الحرف قد حصل به نوع من الارتباط بين تلك الجملة والتي قبلها. ولولا دخول "كأنما" عليهالم يحسن الكلام إلا بالواو لما مر من أن الجملة الاسمية لا تجيء حالًا إلا مع الواو، فدخول كأنما أو جب استحسان ترك الواو لئلا يتوارد على الجملة حرفان زائدان. وقوله: "حوالي" أي في أكنافي وجوانبي حال من "بني" والفاعل فيه "كأنما" لما في حرف التشبيه من معنى الفعل وهو "أشبه" فجاز أن تكون هي العامل في الحال وصاحبها. 4 راجع ص163 من الدلائل.

حالًا بعقب مفرد فيلطف1 مكانها بخلاف ما لو أفردت كقول ابن الرومي: والله يبقيك لنا سالما ... برداك تبجيل وتعظيم2

_ 1 يعني بغير الواو. 2 فقوله: "برداك تبجيل وتعظيم" حال من الكاف في "يبقيك" فهي حال مترادفة، أو من الضمير في "سالما" فهي متداخلة، والاستشهاد إنما هو على الاحتمال الأول، وقد تركت الواو هنا استحسانًا لسبق الحال المفردة عليها، ولو لم يتقدمها قوله "سالما" لم يحسن فيها ترك الواو، فترك الواو في الجملة لمناسبة الحال المفردة قبلها إذ لا يؤتى معها بالواو. وقال الخلخالي: حسن تركها لئلا يتوهم أنها عاطفة لتلك الجملة على المفرد المتقدم والشاعر يدعو لممدوحه بأن يبقى سالما مشتملًا عليه التبجيل والتعظيم اشتمال البرد على لابسه، وقد ثناه باعتباره لفظ التجيل والتعظيم وإن كان معناهما واحدًا. هذا وقد بقي من الأقسام الجملة الشرطية والواو فيها لازمة خلافًا لابن جني نحو "جاء زيد وإن سأل يعط"، فليس فيها حصول ولا مقارنة فلذلك لزمت الواو لفقد خاصتي الحال المفردة ولا فرق بين أن يكون جوابها خبرًا أو إنشاء، أما لأول فظاهر؛ لأنه إذا كان جوابها خبرًا كانت خبرية وأما الثاني فمشكل؛ لأن الجملة الشرطية حينئذ تكون إنشائية والإنشاء لا يقع حالًا وأجيب بأن الشرطية إذا وقعت حالًا انسلخت الأداة فيها عن معنى الشرط فلا تكون الجملة حينئذ إنشائية. ملاحظة: هذا كله إذالم يكن صاحب الحال نكرة مقدمة عليها وإلا وجبت الواو لئلا تشتبه بالنعت ولذا جعل السكاكي في "وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم"، جملة ولها "كتاب معلوم" حال من قرية لكونها في حكم الموصوفة أي وما أهلكنا من قرية من القرى: لا وصف كما ذهب إليه الزمخشري حيث قال أنها صفة قرية. والقياس ألا تتوسط الواو بينهما ولكنها زيدت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، ثم قال السكاكي من عرف السبب في تقديم الحال إذا أريد إيقاعها عن النكرة مع الواو في مثل جاءني رجل وعلى كتفه سيف ولمزيد جوازه في "وما أهلكنا من قرية الآية" على ما قدمت، والسكاكي بنى خلافه في الجملة الواقعة حالًا على أصول مضطربة. =

........................................................................

_ = فآثرنا الإعراض عن نقل كلامه والتعرض لما فيه من الخلل خوف الإطالة. ملاحظات: 1 الأولى جعل بحث الجملة الحالية في باب متعلقات الفعل؛ لأن الحال سواء كانت مفردة أو جملة من متعلقات الفعل فهي قيد من قيود المسند. ب- في مذكرة الشيخ نوار في الفصل والوصل أن الجملة الحالية: 1 الخالية من ضمير صاحب الحال تجب فيها الواو مثل جاء محمد وقد انتصف الليل. 2 المبدوءة بمضارع مثبت يتعين فيها ترك الواو مثل رجعوا يضحكون. 3 أما المبدوءة بمضارع مثبت مسبوق بقيد فيجب اقترانها بالواو مثل لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم. 4 والمبدوء بماض مثبت نقد يجوز فيها الواو وعدمها مثل سافر وقد غلبه التأثر. 5 أما المبدوءة بماض متبوع بأو أو واقع بعد إلا، مثل لا تصادقه أخلص أو لم يخلص. ومثل: وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين" فيغلب فيهما ترك الواو وقيل يجب تركها. 6 المبدوء بمضارع بلا أو بما مثل "يقول الحق لا يخشى فيه لومة لائم" وعهدتك ما تصبو وفيك شيبة يغلب فيها ترك الواو. وكذلك المبدوءة بمضارع منفي بلما مثل جاءني لما يسترح من السفر بعد. 7 الاسمية المبدوءة بضمير ذي الحال أو باسمه يجب فيها الواو. 8 أما الاسمية المبدوءة باسم أجنبي عن صاحب الحال فيغلب اقترانها بالواو مثل يحرج الوزير والجند حوله. 9 والاسمية الواقعة بعد عطف يتعين فيها ترك الواو مثل: فجاءها بأسنا بياتًا أو هم قائلون. 10 أما الاسمية المبدوءة بظرف يغلب فيها ترك الواو مثل خرج محمد في يده كتاب.

الجملة الحالية1. الفكرة العامة في البحث: الجملة التي تقع حالًا إما أن تكون فعلية: مبدوءة بفعل مضارع مثبت أو منفي أو بماض مثبت أو منفي، وإما أن تكون جملة اسمية، وفي هذه الأنواع كلها قد يجب أن تقرن الجملة الحالية بالواو وقد يجب تركها وقد يجوز الأمران: فما السر في ذلك؟ هناك أصلان ينبني عليهما معرفة أحكام الجملة الحالية بالتفصيل، وهما: الأول: الجملة التي تقع حالًا تحتاج إلى رابط يربطهما بصاحب الحال لاستقلالها بالإفادة فيصل هذا الرباط بينها وبين صاحبها بصلة وثيقة، وهذا الربط إما: 1- الضمير وهو الأصل في الربط بدليل الاقتصار عليه في الحال المفردة وفي الخبر والنعت. 2- أو الواو وهي وإن كانت واو الحال إلا أن أصلها العطف فهي شبيهة بحرف العطف ولذلك بحثنا عن أحكام الجملة الحالية في باب الفصل والوصل. 3- أو الضمير والواو معًا. الثاني: أن الحال المفردة المنتقلة الأصل فيها أن تكون بغير الواو، لشبهها بالخبر والنعت، وهي تدل على أمرين: 1- حصول صفة غير ثابتة. 2- مقارنة لعاملها. فإذا شبهت الجملة الواقعة حالًا الحال المفردة في إفادتها الأمرين: الحصول والمقارنة أعطيت الجملة حينئذ حكم الحال المفردة في امتناع اقترانها بالواو: وإذا أشبهتها في أحد هذين الأمرين جاز الاتيان بالواو وجاز تركها وربما رجح أحدهما.

_ 1 خلاصة لبحث الجملة الحالية لخفاجي.

التفصيل

التفصيل: أ- مواضع وجوب الإتيان بالواو في بدء الجملة الحالية: ب- يجب الإتيان بالواو في موضع واحد: وهو ما إذا خلت الجملة الحالية من ضمير صاحب الحال، لوجوب الرابط وحيث لا ضمير وجبت الواو وذلك وفق ما ذكر في الأصل الأول - المثال خرجت وزيد قائم. ب- مواضع وجوب ترك الواو: ويجب ترك الواو في موضع واحد أيضًا: وهو ما إذا كانت الجملة الحالية مبدوءة بفعل مضارع مثبت، وذلك لشبهها بالحال المفردة تمام المشابهة؛ لأنها تدل حصول صفة؛ "لأن الفعل مثبت" وهذه الصفة غير ثابتة؛ "لأن الحال فعل" والمقارنة موجودة؛ لأن الفعل مضارع فتعطي حينئذ حكم الحال المفردة ي وجوب ترك الواو -المثال: حضر محمد يضحك. جـ- مواضع جواز الواو وتركها: 1- الجملة الحالية المبدوءة بمضارع منفي بغير لم ولما لدلالة الفعل حينئذ على المقارنة؛ لأنه مضارع دون الحصول؛ لأنه منفي -المثال: سافر الأصدقاء لا يريدون السفر، أو ولا يريدون. 2- المبدوءة بمضارع منفي بلم ولما أو المبدوءة بماض منفي لدلالة الفعلين حينئذ على المقارنة لاستغراق النفي أو استمراره دون الحصول؛ لأن الفعل منفي -مثل: فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء، أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر، نال محمد طلبه ما ذهب كثيرًا أو وما تعب. 3- المبدوءة بماض مثبت لدلالته على الحصول؛ لأنه فعل مثبت وعد دلالته على المقارنة؛ لأنه ماض ولذلك اشترط أن يكون مع قد ظاهرة أو مقدرة لتقربه إلى الحال -المثال. أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر - كما انتقض العصفور بلله القطر. 4- الجملة الاسمية مطلقًا مع ترجيح ذكر الواو والسر في جواز الأمرين فيها "الواو وعدمها" دلالتها على المقارنة دون حصول صفة غير

ثابتة، والسر في ترجيح ذكر الواو ظهور الاستئناف في الجملة الاسمية -المثال: نجحت وأنا واثق من النجاح، فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون، ثم راحوا عبق السمك بهم، ما بال عينك دمعها لا يرقأ. مذهب عبد القاهر في الجملة الاسمية: ولعبد القاهر رأي خاص في الجملة الاسمية يخالف الرأي السابق الذي ذهب إليه الخطيب وخلاصة مذهبه. 1- المبتدأ إذا كان ضمير صاحب الحال وجبت الواو لظهور الاستئناف. المثال جاءني خالد وهو يسرع ومن باب أو لى إذا كان المبتدأ اسمًا ظاهرًا. "اسم صاحب الحال" أو سببًا له مثل جاءني خلد وخالد يسرع أو "وعمرو" معه. 2- الجملة الاسمية التي خبرها جار ومجرور مقدم فالأرجح فيها ترك الواو مثلي جاءني الخادم على رأسه الغذاء. 3- الجملة الاسمية المصدرة بحرف غير الواو يحصل به نوع من الارتباط بالأرجح فيها أيضًا ترك الواو مثل سرت كأنما أشعر بتعب شديد. 4- الجملة الاسمية الواقعة حالًا بعقب حال مفردة فالأرجح فيها الترك أيضًا مثل سافرت مغتبطًا، نفسي متفائلة بالخير.

القول في الإيجاز والإطناب والمساواة

القول في الإيجاز والإطناب والمساواة تعريفه ... القول في الإيجاز والإطناب والمساواة 1: "تعريف السكاكي": قال السكاكي2: أما الإيجاز والإطناب3 فلكونهما نسبيين4 لا يتيسر الكلام

_ 1 الإيجاز لغة التقصير من أو جز لازمًا ومتعديًا. وجد الكلام فهو وجيز. والإطناب المبالغة من أطنب. 2 أي معتذرًا عن ترك تعريفهما -راجع ص120 من المفتاح. 3 قال السيد: ترك المساواة وإن كانت نسبة أيضًا؛ لأنه لا فضيلة لكلام الأوساط فما يصدر عن البليغ مساويًا له لا يكون بليغًا إذ ليس فيه نكتة يعتد بها. وبحث فيه بأن عدم الاعتداد إنما هو عند قصد البليغ تجريده عن النكت وليس بمتعين لجواز أن تكون في المقام مقتضيات وخصوصيات لا يراعيها غير البليغ وأما البليغ فمن حقه أن يراعيها ويشير إليها مع كون لفظهما متطابقين. وقال عبد الحكيم: المراد أنه ليس بليغًا من حيث مساواته لكلام الناس وإن كان بليغًا من حيث اشتماله على المزايا والخصوصيات التي يقتضيها المقام. 4 أي من الأمور النسبية -والمنسوب إليه مختلف القدر والأمور النسبية أي النسوبة إلى غيرها كالأبوة والبنوة- التي يكون تعلقها بالقياس إلى تعقل شيء آخر فإن الموجز إنما يكون موجزًا بالنسبة إلى كلام أزيد منه وكذا المطنب إنما يكون مطنبًا بالنسبة إلى ما هو أنقص منه. فتعقل كل منهما متوقف على تعقل الآخر ضرورة توقف تعقل المنسوب على تعقل المنسوب إليه لأخذه في مفهومه.

فيهما إلا بترك التحقيق1 والبناء على شيء عرفي2، مثل جعل كلام الأوساط على مجرى متعارفهم في التأدية للمعاني فيما بينهم. ولا بد من الاعتراف بذلك مقيسًا عليه ولنسمه متعارف الأوساط3.

_ 1 أي التعريف المبين لمعناهما. والسعد فهم أنه تعيين مقدار كل بحيث لا يزيد عليه ولا ينقص عنه. أي لا يمكن التنصيص على أن هذا المقدار من الكلام فيه إيجاز وذلك فيه إطناب إذ رب كلام موجز يكون مطنبًا بالنسبة إلى كلام آخر وبالعكس. فزيد المنطلق موجز بالنسبة لزيد هو المنطلق ومطنب بالنسبة لزيد منطلق فلا يمكن تعيين مقدار من الكلام للإيجاز والإطناب؛ لأنهما نسبيين والمنسوب إليه مختلف المقدار فلذلك نجد الكلام الواحد بالنسبة إلى قدر إيجاز وإلى قدر آخر إطنابًا. 2 أي يعرفه أهل العرف في أداء المقاصد من غير رعاية بلاغة ومزية -فهو مضبوط في الجملة؛ لأن أفراده وإن تفاوتت لكنها متقاربة ومعرفة مقداره لا تتعذر غالبًا. فإذا كان المنسوب إليه وهو الأمر العرفي مضبوطًا في الجملة "وهو الأمر العرفي" كان المنسوب كذلك. 3 أي الذين ليسوا في مرتبة البلاغة ولا في غاية الفهامة بل كلامهم يؤدي أصل المعنى المراد أعني المطابقي من غير اعتبار مطابقة مقتضى الحال ولا اعتبار عدمها ويكون صحيح الإعراب فالأوساط هم العارفون باللغة وبوجوه صحة إعرابها دون الفصاحة والبلاغة فيعبرون عن مرادهم بكلام صحيح الإعراب من غير ملاحظة النكات التي يقتضيها الحال فهم إنما يعرفون اللفظ الموضوع للمعنى فعبارتهم محدودة بذلك في قدرتهم اختلاف العبارات بالطول والقصر إذ ذلك إنما يكون من البلغاء بسبب تصرفهم في لطائف العبارات. راجع في ذلك 105/ 1 من البيان والتبيين.

وأنه في باب البلاغة لا يحمد منهم1 ولا يذم2. فالإيجاز هو أداء المقصود من الكلام بأقل من عبارات3 متعارف الأوساط. والإطناب هو أداؤه بأكثر من عباراته. سواء كانت القلة أو الكثرة راجعة إلى الجمل أو إلى غير الجمل4. ثم قال5، الاختصار6 لكونه من الأمور النسبية يرجع في بيان دعواه7 إلى ما سبق تارة8 وإلى كون المقام9 خليقًا بأبسط مما ذكر10.

_ 1 لعدم رعاية مقتضيات الأحوال. 2 لأن غرضهم تأدية أصل المعنى بدلالات وضعية وألفاظ كيف كانت ومجرد تأليف يخرجها عن حكم الفهاهة وذلك لسبب مطابقته للنحو والصرف واللغة فقط. 3 كلمة "عبارات" زائدة أو تجعل الإضافة بيانية. 4 والمساواة هي أداء المقصود بعبارة قدر المتعارف. 5 أي السكاكي -راجع ص124 من المفتاح. 6 أي الإيجاز. ملاحظة: مقام المساواة هو مقام الإتيان بالأصل حيث لا مقتضى للعدول عنه. ومقام الإيجاز هو مقام حذف أحد المسندين أو المتعلقات. ومقام الإطناب هو مقام ذكر ما لا يحتاج إليه في أصل المعنى كقصد البسط حيث الإصغاء مطلوب وكرعاية الفاصلة. 7 المراد: ينظر في تعريفه. 8 أي إلى كون عبارة المتعارف أكثر منه. 9 أي إلى اعتبار كون المقام الذي أو رد فيه الكلام الموجز. 10 أي أكثر بسطًا من الكلام الموجز الذي ذكره المتكلم سواء كان ما ذكره المتكلم أقل من عبارة المتعارف أو أكثر منها أو مساويًا لها. وتوهم بعضهم وهو الخلخالي أن المراد بما ذكر ثانيًا في قول الخطيب "بأبسط إلخ" هو متعارف الأوساط وهو غلط لا يخفى؛ لأنه تحكم ويلزم عليه التكرار والتداخل في كلام الخطيب. يعني كما أن الكلام يوصف بالإيجاز لكونه أقل من المتعارف كذلك يوصف به لكونه أقل مما يقتضيه المقام بحسب ظاهر المقام. وإنما قلنا "بحسب الظاهر"؛ لأنه لو كان أقل مما يقتضيه المقام.

وفيه نظر1: 1- لأن كون الشيء نسبيًّا لا يقتضي أن لا يتيسر الكلام فيه إلا بترك التحقيق والبناء على شيء عرفي2. 2- ثم البناء على: متعارف الأوساط. والبسط الذي يكون المقصود جديرًا به3. رد إلى جهالة4 فكيف يصلح للتعريف.

_ ظاهرًا وتحقيقًالم يكن في شيء من البلاغة مثاله قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} الآية. فإنه إطناب بالنسبة إلى المتعارف أعني قولنا: "يا رب شخت" وإيجاز بالنسبة إلى مقتضى المقام ظاهرًا؛ لأنه مقام بيان انقراض الشباب وإلمام المشيب فينبغي أن يبسط فيه الكلام غاية البسط. فللإيجاز معنيان: هما كونه أقل من المتعارف. وكونه أقل مما يقتضيه ظاهر المقام. ويكون للإطناب أيضًا معنيان. هذا وبين معنى الإيجاز عموم وخصوص من وجه وذلك؛ لأن كون الكلام أقل من متعارف الأوساط أعم من أن يكون أقل ما يقتضيه ظاهر المقام أو لا وكون الكلام أقل مما يقتضيه ظاهر المقام كذلك أعم من أن يكون أقل من المتعارف أو لا فيتصادقان فيما إذا كان الكلام أقل من عبارة المتعارف ومن مقتضى المقام جميعًا كما إذا قيل "رب شخت". وينفرد الأول في: إذا قال "الخميس نعم" أي هذه نعم. وينفرد الثاني في "رب إني وهن العظم مني". فمثل "هي عصاي" إيجاز بالنسبة لكلام الناس. و"شاكر لك هذا الجميل" إيجاز بالنسبة لهما. و"نعم سافر" إيجاز بالنسبة لكلام الأوساط. وكذلك بين معنيين الإطناب العموم والخصوص الوجهي. 1 أي فيما ذكره السكاكي أو لًا وثانيًا. 2 إذ كثيًرا ما تحقق معاني الأمور النسبية وتعرف بتعريفات تليق بها كالأبوة والأخوة والبنوة. وجواب هذا أنه لم يرد تعسر بيان معناهما بالتعريف الضابط لكل واحد منهما؛ لأن ما ذكر بيان لمعناهما بل أراد بتعسر التحقيق تعسر التعريف المحتوي على تعيين المقدار لكل بحيث لا يزاد عليه ولا ينقص عنه. 3 بأن يقال الإيجاز هو الأداء بأقل من المتعارف أو مما يليق بالمقام من كلام أبسط من الكلام المأكور. 4 إذ لا تعرف كمية متعارف الأوساط -أي عدد كلمات عبارتهم وكيفيتها، التي هي عبارة عن تقديم بعض الكلمات وتأخير بعضها - لاختلاف طبقاتهم. ولا يعرف أن كل مقام أي مقدار يقتضي من البسط حتى يقاس عليه ويرجع إليه. وجواب هذا أن الألفاظ قوالب المعاني فهي على قدرها بحسب الوضع والأوساط الذين لا يقدرون في تأدية المعاني على اختلاف العبارات والتصرف في وظائف الاعتبارات لهم عبارة محدودة معلومة في الكلام تجري فيهما بينهم في المحاورات والمعاملات. وهذا معلوم للبلغاء وغيرهم، فالبناء على المتعارف واضح بالنسبة إليهما جميعًا. وأما البناء على البسط الموصوف فإنما هو معلوم للبلغاء العارفين بمقتضيات الأحوال بقدر ما يمكن نعم البسط فلا يجهل عندهم ما يقتضيه كل مقام من مقدار البسط.

"تعريف الخطيب": والأقرب1 أن يقال: المقبول من طرق التعبير عن المعنى هو تأدية أصل المراد2 بلفظ مساو2 له أو ناقص4 عنه واف5 أو زائد عليه6، لفائدة7 والمرد بالمساواة أن يكون اللفظ بمقدار أصل المراد لا ناقصًا عنه بحذف أو غيره كما سيأتي ولا زائدًا عليه بنحو تكرير أو تتميم أو اعتراض

_ 1 إلى الصواب، أو إلى الفهم كما قدره ابن يعقوب. 2 والإضافة بيانية أي الأصل الذي هو المراد، وزاد لفظ "الأصل" إشارة إلى أن المعتبر في المساواة والإيجاز والإطناب المعنى الأول أعني المعنى الذي قصد المتكلم أفادته للمخاطب ولا يتغير بتغير العبارات واعتبار الخصوصيات. 3 وذلك بأن يؤدي وضع لأجزائه مطابقة. 4 أي عن المعنى المراد بأن يؤدى بأقل مما وضع لأجزائه مطابقة. 5 أي بذلك المعنى المراد إما باعتبار اللزوم إذالم يكن هنا حذف أو باعتبار الحذف الذي يتوصل إليه بسهولة من غير تكلف فخرج الإخلال فإن التوصل إلى المحذوف فيه بتكلف. 6 بأن يكون أكثر مما وضع لأجزائه مطابقة. 7 قال ابن السبكي: "لفائدة" تتعلق بالثلاثة من جهة المعنى. وما اقتضته عبارته من تعلقها بالزائد فليس كذلك.

كما سيأتي1 وقولنا واف احتراز عن الإخلال. وهو أن يكون اللفظ قاصرًا عن أداء المعنى2 كقول عروة بن الورد3: عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم ... ومقتلهم عند الوغى كان أعذرا فإنه أراد إذ يقتلون نفوسهم في السلم. وقول الحارث بن حلزة: والعيش خير في ظلا ... ل النوك ممن عاش كدا4 فإنه أراد5 العيش الناعم في ظلال النوك خير من العيش الشاق في ظلال العقل. الحل كما ترى. وقولنا "الفائدة" احتراز عن شيئين:

_ 1 والمراد بالإيجاز أن يكون اللفظ ناقصًا عن أصل المراد وافيًا به. والمراد بالإطناب أن يكون زائدًا عليه لفائدة. 2 بأن يكون ناقصًا عن أصل المراد غير واف به لخفاء الدلالة بحيث يحتاج فيها إلى تكلف وتعسف. فالمراد بالوفاء أن تكون الدلالة على ذلك المراد مع نقصان اللفظ واضحة ظاهرة لا خفاء فيها. 3 العبسي. والبيت في الصناعتين ص182. والعقد الفريد ص319 جـ2. وتاريخ الكامل لابن الأثير ص271 جـ1. 4 البيت في الصناعتين ص27 وص171 وص182. النوك: الحمق والجهالة وإضافة الظلال إليه من إضافة المشبه به إلى المشبه. الكد: المشقة والتعب. 5 يعني أن أصل المراد أن العيش الناعم في ظلال النوك خير من العيش الشاق في ظلال العقل ولفظه غير واف بذلك؛ لأن اعتبار المحذوف لا دليل عليه إذ كل منهما لا يعلم من الكلام ولا يدل عليه دلالة واضحة إذ لا يفهم السامع هذا المراد من البيت حتى تتأمل في ظاهر الكلام فتجده غير صحيح فيقدر المحذوف لأجل صحة هذا الكلام بعد مزيد نظر وتأمل. وذكر السيوطي أنه لا إخلال فيه بل فيه نوع بديعي هو الاحتباك حيث حذف من كل ما أثبت مقابله في الآخر فما ذكر في كل محل قرينة معينة للمحذوف من المحل الآخر.

أحدهما: التطويل1 وهو أن لا يتعين الزائدة في الكلام كقوله2: "وقددت الأديم لراهشيه" ... وألفى قولها كذبا3 ومينا فإن الكذب والمين واحد4. وثانيهما: ما يشتمل على الحشو. والحشو ما يتعين أنه الزائد5 وهو ضربان: أحدهما ما يفسد المعنى كقول أبي الطيب: ولا فضل فيها للشجاعة والندى ... وصبر الفتى لولا لقاء شعوب6

_ 1 أي والإسهاب أيضًا وهو أعم من الإطناب أي هو التطويل مطلقًا لفائدة أو لغيرها. والتطويل هو أن يزيد اللفظ على أصل المراد لا لفائدة ولا يكون اللفظ الزائد متعينًا. 2 البيت لعدي بن الأبرش. يذكر غدر الزباء بجذيمة بن الأبرش، وقيل هو لعدوي بن يزيد يعظ النعمان ويذكره بغدر الزباء ونتائجه. 3 قددت: قطعت. الأديم: الجلد. الراهشان عرقان في باطن الذراعين. أي قطعت الجلد إلى أن وصل القطع للراهشين. والضمير في "راهشيه" وفي "ألفي" لجذيمة -بفتح الجيم مكبرًا وبضمها مصغرًا- ابن الأبرش، وفي "قددت" وفي "قولها" للزباء. 4 فلا فائدة في الجمع بينهما وليس مقام هذا الكلام مقتضيًا للتأكيد حتى يقال أن عطف هذين المترادفين للتأكيد ولا يقال أن الأول واقع في موضعه فالزائد هو الثاني؛ لأن مدار التعين وعدمه أنه إن لم يتغير المعنى بإسقاط أيهما كان الزائد غير متعين وإن تغير بإسقاط أحدهما دون الآخر فالزائد هو الآخر ولا يعتبر في ذلك كون أحدهما متقدمًا والآخر متأخرًا. 5 فهو الزيادة المعينة لا لفائدة. 6 أي لا فضل في الدنيا للشجاعة والندى والصبر لولا لقاء الموت. والشعوب بالفتح علم جنس للمنية جرها بالكسر من غير تنوين -مع أنها ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث- للضرورة أي موافقة القوافي.

فإن لفظ الندى فيه حشو يفسد المعنى؛ لأن المعنى أنه لا فضل في الدنيا للشجاعة والصبر والندى لولا الموت. وهذا الحكم صحيح في الشجاعة1 دون الندى؛ لأن الشجاع لو علم أن يخلد في الدنيالم يخش الهلاك في الإقدام فلم يكن لشجاعته فضل2 بخلاف الباذل ما له، فإنه إذا علم أنه يموت هان عليه بذله. ولهذا يقول إذا عوتب فيه: كيف لا أبذل ما لا أبقى له؟ أنى أثق بالتمتع بهذا المال. وعليه قوله طرفة: فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي ... فذرني أبادرها بما ملكت يدي وقول مهيار: فكل إن أكلت وأطعم أخاك ... فلا الزاد يبقى ولا الآكل فلو علم أنه يخلد ثم جاد بماله كان جوده أفضل. فالشجاعة لولا الموت لم تحمد والندى بالضد. وأجيب عنه: بأن المراد بالندى في البيت بذل النفس لا بذل المال.

_ 1 أي وفي الصبر. فلولا حرف امتناع لوجود أي امتناع الجواب "هو هنا لا فضل" لوجود الشرط وهو لقاء الموت ولما كان الجواب منفيًّا في ذاته بلا فإذا نفي بمقتضى لولا كان إثباتًا؛ لأن النفي إثبات فيصير منطوق الكلام ثبوت الفضل للأمور المذكورة على تقدير الموت، ومفهومه عدم الفضيلة لها على تقدير عدم الموت، وهذا مسلم في غير الندى. 2 وكذلك الصبر لتيقن الصابر بزوال المكروه فالصبر على الشدائد استلزام وجود الموت بفضله واستلزام نفي الموت لنفي فضله صحيح؛ لأنه إذا انتفي الموت لم يكن له فضل؛ لأن الناس كلهم إذا علموا أنه لا موت بتلك الشدة صبروا حرصًا على فضيلة نفي الجزع إذ ليست تلك الشدة مفضية إلى الموت الذي هو أعظم مصيبة بخلاف ما إذا أعلم أن تلك الشدة ربما أفضت إلى الموت ومع ذلك يصير عليها فهذا لا يتصف به إلا القليل.

كما قال مسلم بن الوليد "يمدح داود بن حاتم المهلبي": يجود بالنفس من ضن الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود1 ورد بأن لفظ الندى لا يكاد يستعمل في بذل النفس، وإن استعمل على وجه الإضافة فأما مطلقًا فلا يفيد إلا بذل المال. والثاني: مما لا يفسد المعنى2 كقوله3: ذكرت أخي فعاودني ... صداع الرأس والوصب.

_ 1 البيت في ديوان مسلم ص25، وفي العقد 56/ 1 ولابن المقفع: الجود بالمجهود منتهى الجود "104/ 3 بيان". وللمفضل بن المهلب بن أبي صفرة: هل الجود إلا أن تجود بأنفس ... على كل ماضي الشفرتين قضيب وبيت مسلم نسبه العقد لأبي تمام "147/ 1 عقد". وهذا الجواب نقله الخفاجي في سر الفصاحة عن المرتضى، وفيه نظر لعوده إلى الشجاعة فيكون في البيت تكرار. واعتذر ابن جني عن البيت بأن في الخلود وتنقل الأحوال في الخلود ما يسر إلى عسر ومن شدة إلى رخاء حسبما جرب به عادة الزمان الطويل ما يسكن النفوس ويسهل الشدائد فلا يظهر لبذل المال كبير فضل؛ لأنه عند تيقن الخلود ينفق وهو موقن بالخلف وانتقال حاله من العسر إلى اليسر بخلاف ما إذا أيقن بالموت فإنه لا يوقن بالخلف لاحتمال أن يأتيه الموت فجأة قبل تغير حاله. ورد رأي ابن جني بأن تيقن الخلود يدعو إلى الحرص على المال ويقوي احتياج الشخص إليه ويجعله أشد تعلقًا به فيكون لبذله حينئذ فضل. 2 في ص434 و435 من الصناعتين مثل لذلك. 3 البيت لأبي العيال "105 الصناعتين" الخفاجي. ونقده العسكري نقدًا شديدًا، وراجعه في الصناعتين أيضًا ص37. الصداع: وجع الرأس. الوصب: المرض الدائم. وقد نقد البيت بأن الذاكر لما فات من محبوبه يوصف بألم القلب واحتراقه لا بصداع الرأس.

فإن لفظ "الرأس فيه حشو لا فائدة فيه؛ لأن الصداع لا يستعمل إلا في الرأس وليس بمفسد للمعنى، وقول زهير: وأعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكني عن علم ما في غد عمي1 أن قوله قبله مستغنًى عنه غير مفسد، وقول أبي عدي2: نحن الرءوس وما الرءوس إذا سمت ... في المجد للأقوام كالأذناب. فإن قوله: "للأقوام" حشو لا فائدة فيه مع أنه غير مفسد. "ملاحظة": واعلم أنه قد تشتبه الحال على الناظر لعدم تحصيل معنى الكلام وحقيقته، فيعد من الزائد على أصل المراد ما ليس منه كما مثله بعض الناس بقول القائل3: ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح وشدت على دهم المهاري رحالنا ... ولم ينظر الغادي الذي هو رائح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسألت بأعناق المطي الأباطح4

_ 1 والبيت في الصناعتين ص430. فقبله حشو -زائد على أصل المراد لا فائدة؛ لأن الأمس يدل على القبلية لليوم- غير مفسد. أما مثل "رأيته بعيني" فالتأكيد هنا إن اقتضاه المقام كان فائدة لا حشوًا وإلا كان حشوًا. 2 هو عبد الله بن عمرو الأموي. 3 هو كثير، ونسبت ليزيد بن الطئرية، ونسبها الحصري لكثير "66 جـ2. وراجعها في 16 من أسرار البلاغة وكل ما هنا منقول منه، وفي 58 و60 و228 و229 من الدلائل، وفي 10 الشعر والشعراء لابن قتيبة، 58 صناعتين، 137 المثل السائر، 22 نقد الشعر. 4 والأبيات من المساواة عند الخطيب كما يقول السبكي. وزعم البعض أنه من الزائد على أصل المراد، وأن أصل المراد فيه، ولما رجعنا من منى أخذنا في الكلام. دهم المهاري: سودها جمع مهرية؛ لأن أصلها من مهرة. الغادي: السائر في أو ل النهار ضد الرائح. الأباطح: جمع بطحاء كل مسيل واسع فيه رمل ودقاق الحصى.

يبين أنه ليس منه ما ذكره الشيخ1 عبد القاهر في شرحه قال: أو ل ما يتلقاك من محاسن هذا الشعر أنه قال: "ولما قضينا من منى كل حاجة" فعبر عن قضاء جميع المناسك فرائضها وسننها بطريق العموم الذي هو أحد طرق الاختصار، ثم نبه بقوله: "ومسح بالأركان من هو ماسح" على طواف الوداع الذي هو آخر الأمر ودليل المسير الذي هو مقصود من الشعر ثم قال: "وشدت ... البيت" فتوصل بذكر مسح الأركان ما وليه من زم الركاب وركوب الركبان، ثم دل بلفظ الأطراف على الصفة التي تختص بها الرفاق في السفر من التصرف في فنون القول وشجون الحديث أو ما هو عادة المتظرفين من الإشارة والتلويح والرمز والإيماء، وأنبأ بذلك عن طيب النفوس وقوة النشاط وفضل الارتباط كما توجبه ألفة الأصحاب وأنسة الأحباب ويليق بحال من وفق لقضاء العبادة الشريفة ورجا حسن الإياب وتنسم روائح الأحبة والأوطان واستماع التهاني والتحايا من الخلان والإخوان، ثم زان ذلك كله باستعارة لطيفة، حيث قال: وسالت بأعناق المطي الأباطح، فنبه بذلك على سرعة السير ووطأة الظهر وفي ذلك ما يؤكد ما قبله؛ لأن الظهور إذا كانت وطيئة وكان سيرها سهلًا زاد ذاك في نشاط الركبان فيزداد الحديث طيبًا، ثم قال: بأعناق المطي، ولم يقل: والمطي؛ لأن السرعة والبطء في سير الإبل يظهران غالبا في أعناقها ويتبين أمرها من هو ادبها وصدورها، وسائر أجزائها تستند إليها في الحركة وتتبعها في الثقل والخفة.

_ 1 "16 و17" من الأسرار.

أقسامه

أقسامه: القسم الأول: المساواة 1: كقوله تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} 2 وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} ، وقول النابغة الذبياني: فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع3.

_ 1 قدمها؛ لأنها الأصل المقيس عليه. قال العسكري: المساواة أن تكون المعاني بقدر الألفاظ والألفاظ بقدر المعاني، لا يزيد بعض على بعض، وهو المذهب المتوسط بين الإيجاز والإطناب وإليه أشار القائل بقوله: فإن ألفاظه قوالب لمعانيه "173 صناعتين". 2 راجع الكلام على الآية في: 230/ 2 الدسوقي، 231/ 2 ابن يعقوب وعد العسكري الآية من الإيجاز "169 صناعتين". 3 المنتأى: موضع البعد شبهه في سخطه وهو له بالليل، قيل: في الآية حذف المستثني منه، وفي البيت حذف جواب الشرط؛ لأنه عند البصريين لا يتقدم فيكون كل منهما إيجازًا لامساواة. وفيه نظر؛ لأن اعتبار هذا الحذف رعاية لأمر لفظي لا يفتقر إليه في تأدية أصل المراد حتى لو صرح به لكان إطنابا إن كان لفائدة أو تطويلا لغويا إن كان لا لفائدة، والتطويل اللغوي الزائد لا لفائدة وإن كان متعينا، وإذا لم نقيد التطويل بكونه لغويا كان حشوا؛ لأن الزائد هنا متعين.

القسم الثاني: الإيجاز 1. وهو ضربان: أحدهما إيجاز القصر وهو ما ليس بحذف، كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، فإنه لا حذف فيه مع أن معناه كثير يزيد على لفظه؛ لأن المراد به أن الإنسان إذا علم أنه متى قَتَل قُتِل كان ذلك داعيا له قويا إلى أن لا يقدم على القتال، فارتفع بالقتل الذي هو قصاص كثير من قتل الناس بعضهم لبعض، فكان ارتفاع القتل حياة لهم، وفضله على ما كان عندهم أو جز كلام في هذا المعنى وهو قولهم: القتل أنفى للقتل من وجوه:

_ 1 اللفظ قد يُنظر فيه إلى كثرة معناه بدلالة الالتزام من غير أن يكون في نفس التركيب حذف، فيسمي بهذا الاعتبار إيجاز قصر؛ لوجود الاقتصار في العبارة مع كثرة المعنى، وقد ينظر فيه من جهة أن التركيب فيه حذف فهو إيجاز حذف. والفرق بين إيجاز الحذف والمساواة ظاهر، وكذا الفرق بين مقاميهما، وأما الفرق بين إيجاز القصر والمساواة فهو أن المساواة ما جرى به عرف الأوساط الذين لا ينتبهون لإدماج المعاني الكثيرة في لفظ يسير والإيجاز بالعكس، ومقام الإيجاز والمساواة معلوم. ملاحظة: إيجاز القصر هو تقليل الألفاظ وتكثير المعاني كما يقول أبو هلال ص169 صناعتين: والقصر كعنب وإن كان المشهور فيه فتح القاف وسكون الصاد. وراجع بحث الإيجاز في الصناعتين الباب الخامس، 169 سر الفصاحة. 2 راجع الكلام على الآية في ص202 و224 و298 و381 من الدلائل، وفي ص83 و120 من المفتاح، 169 و341 من الصناعتين. فالآية ليس فيها حذف شيء مما يؤدي به أصل المراد، واعتبار الفعل الذي يتعلق به الظرف رعاية لأمر لفظي حتى لو ذكر لكان تطويلا.

أحدهما: أن عدو حروف ما يناظره1 منه2 وهو في القصاص حياة عشرة في التلفظ وعدة حروفه أربعة عشر. وثانيهما: ما فيه التصريح بالمطلوب الذي هو الحياة بالنص عليها فيكون أزجر عن القتل بغير حق لكونه أدعى إلى الاقتصاص. وثالثها: ما يفيده تنكير حياة من التعظيم3 أو النوعية4 كما سبق5. ورابعها: إضراره 6 بخلاف قولهم، فإن القتل الذي ينفي القتل هو ما كان على وجه القصاص لا غيره7.

_ 1 أي اللفظ الذي يناظر قولهم: "القتل أنفى للقتل". 2 أي من قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، وما يناظره منه هو قوله: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ؛ لأن قوله: {وَلَكُمْ} زائد على معنى قولهم: "القتل أنفى للقتل"؛ فحروف: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أحد عشر، وحروف: "القتل أنفى للقتل" أربعة عشر، أعني الحروف الملفوظة؛ إذ بالعبارة يتعلق الإيجاز لا بالكتابة، فلا يقال أن: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ثلاثة عشر حرفًا، "والقتل أنفى للقتل" لأكثم بن صيفي. 3 أي حياة عظيمة لمنع القصاص إياهم عما كانوا عليه في الجاهلية من قتل جماعة بواحد. 4 أي: ولكم في القصاص نوع من الحياة؛ وهي الحياة الحاصلة للمقتول والقاتل بالارتداع عن القتل للعالم بالقصاص. 5 في تنكير المسند إليه. 6 أي عمومه لأفراده، و: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} مطرد؛ إذ القصاص في كل وقت وزمن وفي كل فرد سبب للحياة. 7 وهو ما كان مثلا ظلما.

متعلق بثبوته نفيًا الملزوم بنفي اللازم1 وكذا قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاع 2} أي لا شفاعة ولا طاعة على أسلوب قوله3: على لاحب لا يهتدي بمناره ... "إذا ساقه العود النباطي جرجرا" أي: لا منار ولا اهتداء، وقوله4: لا يفزع الأرنب أهوالها ... ولا ترى الضب به ينجحر أي: لا ضب ولا انجحار. ومن أمثلة الإيجاز أيضا قوله تعالى فيما يخاطب به النبي عليه الصلاة والسلام: {خُذِ الْعَفْوَ5 وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} ، فإنه جمع فيه مكارم الأخلاق؛ لأن قوله: {خُذِ الْعَفْوَ} أمر بإصلاح قوة الشهوة فإن العفو ضد الجهل؛ قال الشاعر: خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطفي في سورتي حين أغضب6 أي: خذ ما تيسر أخذه وتسهل، وقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} أمر بإصلاح قوة الغضب أي: أعرض عن السفهاء واحلم عنهم ولا تكافئهم

_ 1 وهو وجوب كونه معلوما للعالم الأعلى لوكان له ثبوت. 2 راجع ص122 من المفتاح. 3 البيت لأمرئ القيس: "189 المثل السائر" وهو في المفتاح ص122. 4 اللاحب: الطريق بمشي على جهة، مناره ما يجعل عليه من علامة. سافه: شمه، العود: الجمل المسن. النباطي: الضخم نسبة إلى النبط. جرجر: رغا وضج؛ لمعرفته ببعد الطريق. 4 البيت لأوس بن حجر يصف مفازة بأنها غير مطروقة للناس، فلا يوجد ما يفزع أرانبها أو ينجحر بها ضبها أي: يدخل في جحره. 5 أي الفضل. 6 البيت لأسماء بن خارجة الفزاري. سورة الشيء: شدته.

على أفعالهم، هذا يرجع إليه منها. وأما ما يرجع إلى أمته فدل عليه بقوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أي: بالمعروف والجميل من الأفعال، ولهذا قال جعفر الصادق رضي الله عنه فيما روي عنه: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لها من هذه الآية ومنها1 قول الشريف الرضي: مالوا إلى شعب الرحال وأسندوا ... أيدي الطعان إلى قلوب تخفق3 فإنه لما أراد أن يصف هؤلاء القوم بالشجاعة في أثناء وصفهم بالغرام، عبر عن ذلك بقوله: أيدي الطعان، ومنه3 ما كتب عمرو بن مسعدة عن المأمون لرجل يعني به، إلى بعض العمال، حيث أمره أن يختصر كتابه ما أمكن: كتابي إليك كتاب واثق ممن كتب إليه معني بمن كتب له، ولن يضيع بين الثقة والعناية حاملة. الضرب الثاني إيجاز الحذف4: وهو ما يكون بحذف: والمحذوف أما جزء جملة وجملة أو أكثر من جملة.

_ 1 أي من أمثلة الإيجاز أيضا. 2 شعب الرحال: خشبها. وميلهم إليها عبارة عن ارتحالهم وركوبهم عليها، تخفق: تضطرب؛ لفراق الأحبة. 3 أي من الإيجاز. راجع 170 من الصناعتين: 253/ 2 الكامل للمبرد. 4 راجع في 198 جـ3 البيان والتبيين "باب من الكلام المحذوف".

وخامسها: سلامته من التكرار الذي هو من عيوب الكلام خلاف قولهم1. وسادسا: استغناؤه عن تقدير محذوف، بخلاف قولهم، فإن تقديره: القتل أنفى للقتل من تركه2. وسابعها: أن القصاص ضد الحياة فالجمع بينهما طباق كما سيأتي3. وثامنها: جعل القصاص كالمنبع والمعدن للحياة بإدخال "في" عليه على ما تقدم. ومنه4 قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِين} ، أي: هدى للصالحين الصائرين إلى الهدى بعد الضلال، وحسنه التوصل إلى تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه وإلى تصدير السورة بذكر أو لياء الله تعالى، وقوله: {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ} 5 أي بما لا ثبوت له ولا علم الله

_ 1 فإنه يشتمل على تكرار القتل ولا يخفى أن الخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه، وإن لم يكن مخلا بالفصاحة، فكلامهم بالنظر إلى أن التكرار معيب، وإن كان منه حسن من جهة ما فيه من رد العجز على الصدر، ولهذا قالوا: الأحسن في رد العجز على الصدر أن لا يؤدي إلى التكرار بأن لا يكون كل من اللفظين بمعنى الآخر. 2 راجع السيد علي "المطول": ص145. 3 والطباق الجمع بين معنيين متقابلين في الجملة، سواء كان التقابل على جهة التضاد أو السلب والإيجاب أو غير ذلك، وقولنا في الجملة إذا كان تقابلهما بحسب ذاتهما فلوكان تقابلهما في الجملة أي بحسب ما استلزماه كالقصاص المستلزم للقتل، والقتل يشتمل على الموت الذي هو مقابل للحياة. 4 أي من الإيجاز راجع 120 مفتاح. 5 ص121 من المفتاح. ملاحظة: في البيان والتبيين: 223/ 2 إشارة للفرق بين الآية والحكمة. وفي الصناعتين مقارنة بينهما "169 صناعتين" نقلها المتأخرون ومنهم الخطيب ويزيد العسكري مزية أخرى وهي إبانة العدل بذكر القصاص ثم حسن التأليف وشدة التلازم في الآية الكريمة.

والأول1 إما مضاف2 كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَة} أي أهلها3، وكقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة} . أي تناولها؛ لأن الحكم الشرعي إنما يتعلق بالأفعال دون الإجرام، وقوله: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُم} أي: تناول طيبات أحل لهم تناولها، وتقدير التناول أو لى من تقدير الأكل؛ ليدخل فيه شرب ألبان الإبل فإنها من جملة ما حرمت عليهم، وقوله: {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها} ، أي: منافع ظهورها وتقدير المنافع أو لى من تقدير الركوب؛ لأنهم حرموا ركوبها وتحميلها، وكقوله تعالى: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّه} ، أي: رحمة الله، وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُم} أي: عذاب ربهم وقد ظهر هذان المضافان في قوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَه} . وإما موصوف كقوله4: أنا أبن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني أي أن ابن رجل جلا5.

_ 1 أي جزء الجملة والمراد به ما ليس مستقلا كالشرط وجوابه، والجملة ما كان مستقلا، والمراد الجزء مطلقا فضله أو عمدة، والعمدة ما يتوقف عليه أصل الإفادة. 2 راجع 175 صناعتين، 175 الصاحبي. 3 هو من باب الحذف إذا لم تجعل القرية مرادا بها أهلها مجاز مرسلا لعلاقة الحالية والمحلية وإلا فلا حذف وكذا على ما قاله داود الظاهري من أن اسم القرية مشترك بين المكان وأهله. 4 هو المعرجي كما في المطول والصحيح أنه لسحيم بن وثيل الرياحي وهو شاعر مخضرم. وراجعه في 7 جـ2 الكتاب لسيبويه، 107 و282، 183 جـ1 الكامل للمبرد، 422 جـ3 العقد. الثنايا: جمع ثنية وهي الطريق في أعلى الجبال. العمامة هي عمامة الحرب "البيضة". فلان طلاع الثنايا أي: ركَّاب لصعاب الأمور. 5 يريد المنكشف الأمر "الكامل". فيكون جلا لازما. جلا: انكشف أمره أو كشف الأمور لازما ومتعديا. وقيل: "جلا" هنا علم، وعليه لا يكون في البيت شاهد؛ لعدم الحذف فيه، وحذف تنوينه باعتبار أنه منقول عن الجملة -أعني الفعل مع الضمير المستتر- لا عن الفعل وحده وإلا لنون؛ إذ ليس فيه وزن الفعل المانع من الصرف ولا زيادة كزيادة الفعل، والحاصل أن المنقول للعلمية إن "أعتبر معه ضمير فاعله وجعلت الجملة علما فهو محكي وأن لم يعتبر معه الضمير فحكمه حكم المفرد في الانصراف وعدمه، فإن كان على وزن يخص الفعل أو في أو له زيادة كزيادة الفعل منع الصرف وإلا فلا.

وأما صفة نحو: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} ، أي سفينة صحيحة أو صالحة أو نحو ذلك؛ بدليل ما قبله1 وقد جاء ذلك مذكورًا في بعض القراءات، قال سعيد بن جبير: كان ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ "وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا" وأما شرط كما سبق2. وأما جواب شرط 3 وهو ضربان: أحدهما: أن يُحذف لمجرد الاختصار4، كقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوامابيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . أي اعرضوا؛ بدليل قوله بعده: {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِين} . وكقوله تعالى5: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أو قُطِّعَتْ بِهِ

_ 1 وهو قوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} لدلالته على أن الملك كان لا يأخذ المعيبة. 2 إن كان المراد بالشرط فعل الشرط فقد سبق أو ل باب المسند، وإن كان المراد أداة الشرط فقد سبقت في باب الإنشاء عند قوله: وهذه الأربعة يجوز تقدير الشرط بعدها راجع السبكي 322 جـ2. 3 راجع 176 صناعتين، 29 ما اتفق لفظه للمبرد. 4 أي لنكتة لفظية فقط وهي الاختصار، بخلاف الحذف؛ فإنه لنكتتين كما يأتي، والاختصار نكتة موجبة للحذف فرارًا من العبث، ونكتة الحذف قد تكون غير ما ذكر كاختبار تنبه السامع أو مقدار تنبهه إلخ. 5 راجع 30 ما اتفق لفظه للمبرد. ملاحظة: الفرق بين الآية الكريمة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وبين: فإنك كالليل الذي هو مدركي حيث جعل حذف الجواب هنا من إيجاز الحذف، وهنا ليس منه بل رعاية لأمر لفظي فقط، هو أن الجواب في البيت تقدم ما يدل عليه فأغني عرفا عن إعادته وفي الآية هنا دل عليه متأخر فضعفت دلالته عليه، فكأنه لم يذكر.

الْأَرْضُ أو كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} أي: لكان هذا القرآن، وكقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} ، أي ألستم ظالمين بدليل قوله بعده: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . والثاني: أن يحذف للدلالة على أنه شيء لا يحيط به الوصف1، أو لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن، فلا يتصور مطلوبا أو مكروها إلا يجوز أن يكون الأمر أعظم منه، ولو عين شيء اقتصر عليه، وربما خف أمره عنده كقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} وكقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّار} ، {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} ، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 2. قال السكاكي3: رحمه الله: "ولهذا المعنى حذف الصلة من قولهم: "جاء بعد اللتيا والتي، أي أشار إليه بهما وهي المحنة والشدائد

_ 1 وذلك عند قصد المبالغة لكونه أمرا مرهوبا منه أو مرعوبا فيه، والقرائن تدل على هذا المعنى، ويلزم من كونه كذلك ذهاب نفس السامع إن تصدى لتقديره كل مذهب، وكونه لا يحيط به الوصف وذهاب نفس السامع فيه كل مذهب ممكن مفهومهما مختلف ومصدوقهما متحد، قد يقصدهما البليغ معا وقد يخطر بباله أحدهما فقط، ولتبيانهما مفهوما عطف الناس بأو مصدوقا مثل لهما بمثال واحد. 2 بناء على أن "لو" للشرط لا للتمني. 3 راجع ص121 من المفتاح.

قد بلغت شدتها وفظاعة شأنها مبلغا يبهت الواصف معه حتى لا يحير ببنت شفة ... " وأما غير ذلك1 كقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} . أي: ومن أنفق من بعده وقاتل بدليل ما بعده2. ومن هذا الضرب قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ 3 شَيْبًا} ؛ لأن أصله: يا رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس مني شيبًا4. وعده السكاكي5 من القسم الثاني من الإيجاز6 على ما فسره، ذاهبا إلى أنه وإن اشتمل على بسط فإن انقراض الشباب وإلمام المشيب جديران بأبسط منه، ثم ذكر فيه لطائف يتوقف بيانها على النظر في أصل المعنى ومرتبته الأولى، ثم أفاد أن مرتبته الأولى: "يا رب قد شخت" فإن الشيخوخة مشتملة على ضعف البدن وشيب الرأس، ثم تركت هذه المرتبة؛ لتوخي مزيد التقرير إلى تفصيلها في: "ضعف بدني وشاب رأسي" ثم ترك التصريح بضعف بدني إلى الكناية بوهنت عظام بدني؛ لما سيأتي أن الكناية أبلغ من التصريح، ثم لقصد مرتبة رابعة أبلغ من التقرير بنيت الكناية على المبتدأ فحصل: أنا وهنت عظام بدني، ثم لقصد مرتبة خامسة أبلغ أدخلت إن على المبتدأ فحصل: "إن وهنت عظام بدني" ثم لطلب تقرير أنا الواهن عظام بدنه قصد مرتبة سادسة وهي سلوك طريقي الإجمال والتفصيل، فحصل أني وهنت العظام من بدني، ثم لطلب مزيد اختصاص العظام به قصد مرتبة سابعة وهي ترك توسيط البدن، فحصل

_ 1 عطف على "مضاف" أي أو أن يكون المحذوف جزء جملة غير ما ذكر. 2 وهو قوله تعالى: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} . 3 راجع الكلام على الآية في: ص79 و301 و309 و312 و428 من الدلائل، وفي ص94 و124 من المفتاح. 4 راجع 263 صناعتين، 165/ 3 من شروح التلخيص. 5 راجع 124 من المفتاح. 6 وهو الذي يكون مقامه خليقا بأبسط مما ذكر فيه.

أني وهنت العظام مني، لم أطلب شمول الوهن العظام فردًا فردًا، قصدت مرتبة ثامنة وهي ترك الجمع إلى الإفراد1؛ لصحة حصول وهن المجموع بوهن البعض دون كل فرد، فحصل ما ترى، وهكذا تركت الحقيقة في: شاب رأسي إلى الاستعارة في: اشتعل شيب رأسي لما سيأتي أن الاستعارة أبلغ من الحقيقة. ثم تركت هذه المرتبة إلى تحويل الإسناد إلى الرأس وتفسيره ب"شيبا"؛ لأنها أبلغ من جهات: إحداها إسناد الاشتعال إلى الرأس؛ لإفادة شمول الشيب الرأس؛ إذ وزان اشتعل شيب رأسي واشتعل رأسي شيبا وزان اشتعل النار في بيتي واشتعل بيتي نارا والفرق كبير، وثانيتهما: الإجمال والتفصيل في طريق التمييز، وثالثهما: تنكير "شيبا" لإفادة المبالغة: ثم ترك اشتعل رأسي شيبا؛ لتوخي مزيد التقرير إلى "اشتعل الرأس مني شيبا" على نحو وهن العظم مني، ثم ترك لفظ مني؛ لقرينة عطف: واشتعل الرأس، على وهن العظم مني، لمزيد التقرير وهي إيهام حوالة تأدية مفهومه على العقل دون اللفظ. ثم قال2 عقيب هذا الكلام: واعلم أن الذي فتق أكمام هذه الجهات عن أزاهير القبول في القلوب هو أن مقدمة هاتين الجملتين وهي "رب" اختصرت ذلك الاختصار، بأن حذفت كلمة النداء وهي "يا"، وحذفت كلمة المضاف إليه وهي ياء المتكلم، واقتصر من مجموع الكلمات على كلمة واحدة فحسب وهي المنادى، والمقدمة للكلام كما لا يخفى على من له قدم صدق في نهج البلاغة نازلة منزلة الأساس للبناء، فكما أن البناء الحاذق لا يرمي الأساس إلا بقدر ما يقدر من البناء عليه كذلك البليغ يصنع بمبدأ كلامه. فمتى رأيته قد اختصر المبدأ فقد آذنك باختصار ما يورد.

_ 1 و"أل" في "العظم" للاستغراق. 2 أي السكاكي راجع 124 من المفتاح.

انتهى كلامه، وعليك أن تنتبه لشيء وهو أن ما جعله سببا للعدول عن لفظ العظام فيه نظر؛ لأنا لا نسلم صحة حصول وهن المجموع بوهن البعض دون كل1 فرد، فالوجه في ذكر العظم دون سائر ما تركب منه البدن وتوحيده ما ذكره الزمخشري2 قال: إنما ذكر العظم لأنه عمود البدنه وبه قوامه وهو أصل بنائه، وإذا وهن تداعى وتساقطت قوته ولأنه أشد ما فيه وأصلبه فإذا وهن كان ما وراءه أو هن، ووحده لأن الواحد الدال على معنى الجنسية، وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن، ولو جمع لكان قصدًا إلى معنى آخر وهو أنه لم يهن بعض عظامه ولكن كلها2 وأعلم أن المراد بشمول الشيب الرأس أن يعم جملته حتى لا يبقى من السواد شيء أو لا يبقى منه إلا ما لا يعتد به. والثاني4 أعني ما يكون جملة: أما مسبب ذكر سببه كقوله تعالى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِل} أي: فعل ما فعل5 وقوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أي: اخترناك، وقوله: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاء} أي: كان الكف ومنع التعذيب، ومنه قول أبي الطيب:

_ 1 لأنه إذا كانت "أل" في "العظم" للاستغراق فقد سبق أنه لا فرق بين استغراق المفرد واستغراق الجمع في الإثبات. 2 راجع الكلام بتفصيل في المطول ص85 و86. 3 راجع 339 جـ1 السبكي. 4 راجع 121 من المفتاح؛ والجملة الكلام المستقل بالإفادة الذي لا يكون جزء كلام آخر ولو عرض له في هذه الحالة ترتيبه بالفاء أو ترتب شيء عليه. 5 فهذا مذكور حذف مسببه ويقدر المسبب قبل السبب عند ابن يعقوب وبعده عند السبكي، وفي الآية تقدير ثانٍ وهو أن المذكور متعلق: بـ"يَقْطَع" قبله فلا شاهد فيها على هذا.

أتي الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم أي: فساءنا. أو بالعكس1 كقوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي: فامتثلتم، فتاب عليكم، وقوله: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَت} ، أي: فضربه بها، فانفجرت2، ويجوز أن يقدر: فإن ضربت بها فقد انفجرت3 أو غير ذلك4 كقوله تعالي: {فَنِعْمَ الْمَاهِدُون} على ما مر5. والثالث6 كقوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} وقوله: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ، يُوسُفُ} ، أي: فأرسلوني إلى يوسف؛ لاستعبره الرؤيا، فأرسلوه إليه، فأتاه8 وقال له: يا يوسف7، وقوله: {فَقُلْنَا

_ 1 أي السبب محذوف والمذكور هو مسببه. 2 صراحة، وبعضهم يتبين من داخله فيصلي ويصوم وقد. 3 الماضي الواقع جوابًا لا يقترن بالفاء إلامع: "قد" ولهذا قدر "قد" وعلى هذا فالمحذوف جزء وهو فعل الشرط مع أداته. ملاحظة: الفاء في مثل هذا وما ماثلها من كل فاء اقتضت الترتيب تسمى: فاء الفصيحة وهي الدالة على محذوف قبلها هو سبب لما بعدها وسميت فصيحة لإفصاحها عما قبلها أو لأنها تدل على فصاحة المتكلم فوصف بالفصاحة إسنادا مجازيا. قيل على التقدير الأول وهو رأي الطيبي وظاهر المفتاح، وقيل على التقدير الثاني وهو ظاهر كلام الكشاف، وقيل على التقديرين وهو اختيار السيد السبكي الذي قال: هي فصيحة على التقديرين: عاطفة أو جزائية. 4 أي غير المسبب وغير السبب. 5 أي: في بحث الاستئناف من أنه على حذف المبتدأ والخبر على قول من يجعل المخصوص مبتدأ محذوف الخبر أي: "نحن هم". 6 وهو ما كان المحذوف أكثر من جملة. 7 فقد حذف هنا خمس جمل مع ما لها من المتعلقات.

اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} أي: فأتياهم، فأبلغاهم الرسالة، فكذبوهما، فدمرناهم، وقوله: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بنِي إِسْرائيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ} ، أي: فأتياه أبلغاه ذلك، فلما سمعه: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ} ، ويجوز أن يكون التقدير فأتياه فأبلغاه ذلك ثم يقدر: فماذا قال؟ فيقع قوله: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ} استئنافا، ونحوه قوله: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ، قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ} ، أي: ففعل ذلك، فأخذت الكتاب، فقرأته، ثم كأن سائلا قال: فماذا قالت؟ فقيل: قالت: يا أيها الملأ. وأما قوله تعالى2: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ} فقال الزمخشري في تفسيره: هذا موضع الفاء كما يقال: أعطيته فشكر، ومنعته فصبر، وعطفه بالواو إشعارًا بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما العلم، كأنه قال: فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة وقالا: الحمد لله، وقال السكاكي2: يحتمل عندي أنه تعالى أخبر عما صنع بهما وعما قالا، كأنه قال: نحن فعلنا إيتاء العلم وهما فعلا الحمد من غير بيان ترتبه عليه اعتمادا على فهم السامع كقولك: قم يدعوك، بدل: قم فإنه يدعوك. واعلم أن الحذف على وجهين: أحدهما أن لا يقام شيء مقام المحذوف3 كما سبق 4. والثاني أن يقام مقامه ما يدل عليه كقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُم} ليس إلا بلاغ هو الجواب؛ لتقدمه على توليهم5، والتقدير فإن تولوا فلا لوم علي لأني قد أبلغتكم، أو فلا عذر لكم عند ربكم، وقوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَد

_ 1 راجع 121 من المفتاح. 2 راجع 121 من المفتاح. 3 فيكتفى فيه بالقرينة اللفظية أو الحالية كما سبق في الأمثلة. 4 أي في الأمثلة السابقة لحذف جزء الجملة. 5 وجزاء الشرط يجب أن يكون مضمونه مترتبا على مضمون الشرط.

كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِك} أي: فلا تحزن1 واصبر فإنه قد كذبت رسل من قبلك، وقوله: {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِين} أي فيصيبهم مثل ما أصاب الأولين. وأدلة الحذف2 كثيرة3 منها4: أن يدل العقل على الحذف والمقصود الأظهر5 على تعيين المحذوف كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} الآية، وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآية، فإن العقل يدل على الحذف لما مر6 والمقصود الأظهر يرشد إلى أن التقدير حرم عليكم تناول الميتة وحرم عليكم نكاح أمهاتكم؛ لأن الغرض الأظهر من هذه الأشياء تناولها ومن النساء نكاحهن. ومنها أن يدل العقل على الحذف والتعيين.

_ 1 فقد كذبت "ليس جزاء الشرط؛ لأن تكذيب الرسل متقدم على تكذيبه وجزاء لشرط يجب أن يكون مضمونه مترتبًا على مضمون الشرط، فهو سبب لمضمون الجواب المحذوف وهو عدم الحزن فأقيم ذلك السبب مقام الجواب. 2 أي الذي لم يقم فيه شيء مقام المحذوف، فهو راجع للقسم الأول، وقول النحاة "الاقتصار الحذف لا لدليل" اصطلاح، والحق أن الفعل فيه صار قاصرًا وإنما يسمونه حذفًا اعتبارًا بالفعل قبل جعله قاصرًا. 3 كثرتها من حيث الدلالة على تعيين المحذوف وأما دليل الحذف فهو شيء واحد هو العقل ولما كان ما دل على التعيين يدل على الحذف وإن كان العقل وحده قد يدل على الحذف صح التعبير بالجمع "أدلة" والوصف بالكثرة. 4 عبر بمنها إشارة إلى أن هناك أدلة أخرى لم يذكرها كالقرائن اللفظية. 5 أي بحسب العرف في الاستعمال. 6 فالعقل مدرك لذلك إذ الأحكام الشرعية إنما تتعلق بأفعال المكلفين دون الذوات وذلك مذهب المعتزلة والعراقيين السنيين لا الحنفية فعندهم يجوز تعلقها بالأعيان.

كقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} ، أي أمر ربك أو عذابه أو بأسه1 وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَام} أي: عذاب الله أو أمره. ومنها: أن يدل العقل على الحذف والعادة2 على التعيين، كقوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيه} دل العقل على الحذف؛ لأن الإنسان إنما يلام على كسبه، فيحتمل أن يكون التقدير في حبه لقوله: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا 3} ، وأن يكون في مراودته لقوله: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِه} ، وأن يكون في شأنه وأمره فيشملهما، والعادة دلت على تعيين: المراودة؛ لأن الحب المفرط لا يلام الإنسان عليه في العادة لقهره صاحبه وغلبته، وإنما يلام على المراودة الداخلة تحت كسبه التي يقدر أن يدفعها عن نفسه. ومنها: أن تدل العادة على الحذف والتعيين كقوله تعالى: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُم} ، مع أنهم كانوا أخبر الناس بالحروب، فكيف يقولون بأنهم لا يعرفونها؟ فلا بد من حذف قدره مجاهد رحمه الله مكان قتال، أي أنكم تقاتلون في موضع لا يصلح للقتال ويخشى عليكم منه، ويدل عليه أنهم أشاروا إلى رسول الله أن لا يخرج من المدينة وأن الحزم البقاء. ومنها الشروع في الفعل4 كقول المؤمن: "بسم الله الرحمن

_ 1 فالعقل يدل على امتناع مجيء الرب ويدل على تعيين المراد أيضًا. 2 أي المقررة لا العادة في استعمال الكلام بخلاف ما سبق في "والمقصود الأظهر". 3 أي أصاب حبه شغاف قلبها وغلافه. 4 راجع 98 من المفتاح، يعني من أدلة تعيين المحذوف بعد دلالة العقل على أصل الحذف، لا من أدلة الحذف، فدليل الحذف هنا هو العقل بسبب إدراكه أن الجار والمجرور لا بد أن يتعلق بشيء والشروع في الفعل دل على أنه ذلك الفعل الذي شرع فيه.

الرحيم"، كما إذا قلت عند الشروع في القراءة: "بسم الله" فإنه يفيد أن المراد بسم الله أقرأ وكذا عند الشروع في القيام والقعود أو أي فعل كان فإن المحذوف يقدر ما1 جعلت التسمية مبدأ له2. ومنها3: اقتران الكلام بالفعل، فإنه يفيد تقديره كقولك لمن أعرس: بالرفاء4 والبنين5 فإنه يفيد: بالرفاء والبنين أعرست. القسم الثالث: الإطناب. وهو إما: 1- الإيضاح بعد الإبهام": أما بالإيضاح بعد الإبهام: ليرى المعنى في صورتين مختلفتين6: أو ليتمكن في النفس فضل تمكن7 فإن المعنى إذا ألقى على سبيل الإجمال والإبهام تشوقت نفس السامع إلى معرفته على سبيل التفصيل والإيضاح فتتوجه إلى ما يرد بعد ذلك فإذا ألقي كذلك تمكن فيها فضل تمكن وكان شعورها به أتم،

_ 1 أي الفعل الذي. 2 أي لمعناه. 3 أي من أدلة تعيين المحذوف بعد دلالة العقل على أصل الحذف. 4 أعرس: تزوج. 5 الجملة خبرية لفظًا إنشائية معنًى. والرفاء: الالتحام والاتفاق والباء للملابسة. فمقارنة هذا الكلام لأعراس المخاطب دل على تعيين المحذوف أي أعرست، أو مقارنة المخاطب بالأعراس وتلبسه به دل على ذلك. 6 أحدهما مبهمة والأخرى موضحة، وعلمان خير من علم واحد. 7 في مقام كون المعنى ينبغي أن يملأ القلب لرغبة أو لرهبة أو أن يحفظ لتعظيم أو لعمل به.

أو لتمكن اللذة بالعلم به1 فإن الشيء إذا حصل كمال العلم به دفعة لم يتقدم حصول اللذة به ألم، وإذا حصل الشعور به من وجه دون وجه تشوقت النفس إلى العلم بالمجهول، فيحصل لها بسبب المعلوم لذة، وبسبب حرمانها من الباقي ألم، ثم إذا حصل لها العلم به حصلت لها لذة أخرى، واللذة عقيب الألم أقوى من اللذة التي لم يتقدمها ألم أو لتفخيم الأمر وتعظيمه كقوله2 تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} ، فإن قوله اشرح لي يفيد طلب شرح لشيء ما له3، وقوله: {صَدْرِي} يفيد تفسيره وبيانه4 وكذلك قوله: ويسر لي أمري، والمقام مقتض للتأكيد للإرسال المؤذن بتلقي المكاره والشدائد. وكقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِين} ، ففي إبهامه وتفسيره تفخيم للأمور وتعظيم له.

_ 1 أي بالمعنى لما لا يخفى من أن نيل الشيء بعد الشوق والطلب ألذ. 2 التركيب في ذاته من شأنه أن يفيد الأغراض الثلاثة فهو بحيث لو خوطب به غير الله أمكن فيه ما ذكر. 3 أي للطالب، "فلي" ظرف مستقر وقع صفة لمحذوف. أي اشرح شيئًا كائنًا لي، ثم فسر الشيء بالبدل منه بقوله: {صَدْرِي} ويصح أن المجرور متعلق بالشرح أي اشرح لأجلي، فالمقصود زيادة ربط اشرح بنفسه، فلا إجمال. أو أنه من قبيل الإجمال والتفصيل؛ لأن اشرح يفيد طلب شيء يشرح؛ لأن الشرح يستدعي مشروحًا لكنه مبهم، ثم فسر بصدري، وذلك أن تخصيص المطلوب بالطالب يفيد تعينه عنده، وإنما يتعين بمتعلق هو المفعول، لعلم الإنسان بأحوال نفسه غالبًا وتعلق غرضه بمصالحه الخاصة غالبًا، فيكون ذكره يعد إيضاحًا بعد إبهام، أما إذا لم يكن متخصصًا بالطالب فلا يفيد ذلك. 4 أي تفسير ذلك الشيء وبيانه.

ومن الإيضاح بعد الإبهام باب نعم وبئس1 على أحد القولين2 إذ لو لم يقصد الإطناب لقيل: نعم زيد وبئس عمرو3 ووجه حسنه4 سوى الإيضاح بعد الإبهام5 أمران آخران؛ أحدهما: إبراز الكلام في معرض الاعتدال، نظرا إلى إطنابه من وجه وإلى اختصاره من آخر، وهو حذف المبتدأ في الجواب، والثاني إبهام الجمع بين المتنافيين6.

_ 1 أي أفعال المدح والذم- راجع في ذلك ص123 من المفتاح. 2 وهو قول من يجعل المخصوص مبتدأ خبره محذوف والجملة مستأنفة للبيان. أما على من يجعل المخصوص مبتدأ قدم خبره عليه، فليس من الإيضاح؛ لأن الكلام عليه جملة واحدة والمخصوص فيها مقدم في التقدير، وأل في الفاعل حينئذٍ للعهد، وما ذكره الشارح إنما يأتي إذا كان المقصود مدح زيد ومدح الجنس من أجله، أما إذا قلنا: المقصود مدح الجنس فيه فلا، والسكاكي كلامه يدل على أنه يرى جعل اللام للجنس"123 مفتاح". 3 أي بالنسبة إلى متعارف الأوساط، وإن كان هذا التركيب في نفسه ممتنعًا؛ لأن فاعل نعم لا بد أن يكون بأل أو مضاف لما فيه أل أو ضمير مفسرا بتمييز. 4 أي حسن باب نعم. 5 للأغراض الثلاثة المتقدمة. 6 أي الإيجاز والإطناب، وقيل: الإجمال والتفصيل، ولا شك أن إيهام الجمع بين المتنافيين من الأمور المستغربة التي تُدخل على النفس اللذة، وإنما قال: "إيهام الجمع بين المتنافيين" لأن حقيقة جمع المتنافيين أن يصدق على ذات واحدة وصفان يمتنع اجتماعهما على شيء واحد في زمان واحد من جهة واحدة، وهنا الجهة ليست كذلك؛ لأن الإيجاز من جهة حذف المبتدأ والإطناب من جهة ذكر الخبر بعد ذكر ما يعمه، هذا والجمع المذكور إن كان الإتيان به مناسبا للمقام لنكتة كالتأكيد في إمالة قلب السامع كان من المعاني، وإن قصد به التحسين لا غير كان من البديع.

ومنه1 التوشيع2 وهو: أن يؤتى في عجز الكلام3 بمثنى4 مفسر باسمين أحدهما معطوف على الآخر5 كما جاء في الخبر: "يشيب ابن آدم ويشب6 فيه خصلتان: الحرص وطول الأمل7" وقول الشاعر8: سقتني في ليل شبيه بشعرها ... شبيهة خديها بعير رقيب فما زلت في ليلين: شعر وظلمة ... وشمسين: من خمر ووجه حبيب وقول البحتري:9 لما مشين بذي الأراك تشابهت ... أعطاف قضبان به وقدودِ في حلتي حبر وروض فالتقى ... وشيان: وشي ربىً ووشي برودِ

_ 1 أي من الإيضاح بعد الإبهام. 2 هو لغة جمع القطن المندوف. واصطلاحا يطلق على المعنى المصدري وهو الإتيان في عجز الكلام إلى آخر ما ذكره الخطيب كما يطلق على المعنى الأسمي أي على الكلام وراجع ص214 من الصناعتين في باب التطريز. 3 أي أو في أوله أو في وسطه؛ لأن تخصيصه بالعجز ليس له وجه. 4 أو بجمع. 5 وفي الجمع يفسر بأسماء. 6 أي ينمو. 7 تجد هذا الخبر في البيان والتبيين ص95 جـ3. 8 هو ابن المعتز. شبيهة خديها هي الخمر. الرقيب: الذي يراقبهما, وراجع البيتين في 227 جـ1 الأمالي، 15 جـ3 زهر الأداب، وفي هذا الموضع من الزهر أبيات للشعراء في هذا المعنى. وفي العقد112 جـ4 قال: قال المعتز "لعلها ابن المعتز": فأمسيت في ليلين: للشعر والدجا ... وشمسين: من كأس ووجه حبيب 9 من قصيدة له في مدح المتوكل "126 ديوان البحتري، 499 الأدب العباسي". الأعطاف: الجوانب. القضبان: الأغصان. القدود: القامات. الحلة: الثواب أو الجديد منه. الحبر: ضرب من برود اليمن. الوشي: النقش. الربى: جمع ربوة ما ارتفع من الأرض. البرود جمع برد وهو كساء مخطط. الجني مصدر جنى الثمر: تناوله من الشجر.

2- ذكر الخاص بعد العام": وأما ذكر الخاص بعد العام1 للتنبيه على فضله2 حتى كأنه ليس من جنسه3 تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات، كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} وقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، وقوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} 4. 3- التكرير 5: وأما بالتكرير لنكتة6: كتأكيد الإنذار في قوله تعالى: {كَلَّا 7

_ 1 المراد الذكر على سبيل العطف لا على سبيل الوصف أو الإبدال فلو كان الذكر على غير سبيل العطف كان من الإيضاح بعد الإبهام، ووجهه أنه مع الوصف أو الإبدال يكون ذلك الخاص هو المراد من العام، فليس في ذكره بعد إفراد العام تنبيه على فضله؛ لجعل العام بمنزلة الجنس للآخر. 2 أي على مزية الخاص. 3 أي العام. 4 أي الوسطى من الصلوات أو الفضلى من قولهم للأفضل: الأوسط وهي صلاة العصر عند الأكثر. 5 راجع في ص247 من المفتاح الرد على من يعيب القرآن بالتكرار. 6 ليكون إطنابا لا تطويلا. 7 فقوله: "كَلَّا" ردع وزجر عن الانهماك في الدنيا وتنبيه على الخطأ في الاشتغال بها، و: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} إنذار وتخويف، وفي تكريره تأكيد للزجر والإنذار.

{سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ 1} ، وفي ثم2 دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ وأشد3، كزيادة التنبيه على ما ينفي التهمة، ليكمل تلقي الكلام بالقبول. في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَن يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا متَاعٌ} وقد يكرر اللفظ لطول في الكلام كما في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وفي قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} . وقد يكرر؛ لتعدد المتعلق كما كرره الله تعالى من قوله4: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان} ؛ لأنه تعالى ذكر نعمة عقيب نعمة غير الغرض من ذكره عقيب نعمة أخرى، فإن قيل: قد عقب بهذا القول ما ليس بنعمة كما في قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ} ، وقوله: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ، يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} ، قلنا: العذاب وجهنم وأن لم يكونا من آلاء الله تعالى فإن ذكرهما ووصفهما على طريق الزجر عن المعاصي والترغيب في الطاعات من آلائه تعالى: ونحوه قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين} لأنه تعالى ذكر قصصا مختلفة وأتبع كل قصة بهذا القول، فصار كأنه عقب كل قصة: ويل يومئذ للمكذبين بهذه القصة".

_ 1 أي في العطف بها. وراجع الكلام على الآية وما فيها من تكرير في ص3969 من كتاب الإسكافي "درة التنزيل". 2 أي أوكد وأقوى من الأول ووجه الأبلغية هي باعتبار زيادة المنذر به لاباعتبار أنه شيئا في المفهوم، وذلك بتنزيل بعد المرتبة منزلة بعد الزمان واستعمال لفظ ثم في مجرد التدرج في مراتب الارتقاء. 3 راجع 187 صناعتين، 356 الأسكافي. 4 راجع 391 من كتاب الأسكافي.

4 الإيغال 1: وإما بالإيغال، واختلف في معناه: 1- فقيل هو ختم البيت بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها كزيادة المبالغة2 في قول الخنساء: وأن صخرًا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار3 لم ترضَ أن تشبهه بالعلم الذي هو الجبل المرتفع المعروف بالهداية حتى جعلت في راسه نارًا وقول ذي الرمة:

_ 1 راجع الكلام على الإيغال في ص100 نقد الشعر، 372 صناعتين و296 المثل السائر، 432 من الصناعتين أيضا. 2 أي في التشبيه. 3 العَلَم: الجبل. رأسه، قمته والضمير في الرأس يعود للجبل. تأتم: تقتدي وتتبع. الهداة: الذين يهدون الناس جمع هاد. وراجع الكلام على البيت في: 69 جـ4 زهر الآداب، 84 رسالة الغفران، 44 و280 جـ3 الكامل للمبرد، 108 و382 صناعتين والبيت من قصيدة ترثي بها الخنساء أخاها صخرا. والشاهد في البيت قولها: "في رأسه تنار" فإنها زيادة للإيغال، وجيء بهذه الزيادة لغرض المبالغة في التشبيه فإن قوله "كأنه" علم وافٍ بالمقصود أعني التشبيه بما يُهتدى به وهو الجبل إلا أن قولها "في رأسه نار" زيادة مبالغة. ملاحظة: الإيغال: من أوغل في البلاد إذا أبعد فيها وسمي المعنى الاصطلاحي إيغالا؛ لأن المتكلم قد تجاوز حد المعنى. والذي يقع إيغالا في آخر البيت يكون جملة أو مفردا، والنكتة في الإيغال يتم أصل المعني بدونها، والنكتة لا تختص بما يتم المعنى بدونه بل يجوز أن يتوقف عليها كما يتوقف أحيانا على بعض الفضلات. وهي: -أي النكتة- أما المبالغة في التشبيه بأن يؤتى بشيء يفيد كون المشبه به غاية في كمال وجه الشبه الكائن فيه فينجز ذلك الكمال إلى المشبه الممدوح بوجه الشبه، وإما تحقيق التشبيه وسيأتي.

قف العيس في أطلال مية واسألِ ... رسوما كأخلاق الرداء المسلسلِ1 أظن الذي يجدي عايك سؤالها ... دموعا كتبذير الجمان المفصل وكتحقيق التشبيه2 في قول امرئ القيس 3: كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقبِ فإنه: لما أتى على التشبيه قبل ذكر القافية واحتاج إليها جاء بزيادة حسنة في قوله: "لم يثقب" لأن الجزع إذا كان غير مثقوب كان أشبه بالعيون، ومثل قوله زهير:

_ 1 البيت في الصناعتين ص372. العيس: الأبل البيض يخالط بياضها سواد خفيف. الأطلال جمع طلل وهو الشاخص من الآثار. الرسوم جمع رسم وهو ما كان لاحقا بالأرض منها، الأخلاق جمع خلق بفتحتين وهو البالي. المسلسل الردئ النسج. يجدي: يعطي. التبذير: التفريق. الجمان المفصل: اللؤلؤ المنظم. والشاهد في البيت "المسلسل" و"المفصل" فإنهما زيادتان للإيغال جئ بهما للمبالغة في التشبيه. 2 أي بيان التساوي بين الطرفين في وجه الشبه بأن يذكر في الكلام ما يدل على أن المشبه مساوٍ للمشبه به في وجه الشبه. 3 من قصيدة تقرؤها في الأدب والعصر الجاهلي لمحمد هاشم ص172، وهو في 36 جـ2 من الكامل للمبرد، 233 و373 صناعتين. الخباء: ما كان من وبر أو صوف -الشعر- على عمر ودين أو ثلاثة وما فوق ذلك بيت. الجزع بفتح الجيم: الخرز اليماني الذي فيه سواد وبياض وهو عقيق فهي دوائر البياض والسواد شبه به عيون الوحش بعد موتها، وأتى بقوله: "لم يثقب" تحقيق للتشبيه؛ لأنه إذا كان غير مثقوب كان أشبه بالعيون، قال الأصمعي: الظبي والبقرة إذا كانا حيين فعيونهما كلها سواد فإذا ماتا بدأ بياضها، وإنما شبهها بالجزع وفيه سواد وبياض بعد ما مات والمراد كثر الصيد، يعني مما أكلنا كثرت العيون عندنا، كما في شرح ديوان امرئ القيس.

كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا1 لم يحطم فإن حب الفنا أحمر الظاهر أبيض الباطن فهو لا يشبه الصوف الأحمر إلا ما لم يحطم، وكذا قول امرئ القيس2: حملت ردينيا كأن سنانه ... سنا لهب لم يتصل بدخان ب- وقيل لا يختص بالنظم3، ومثل بقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 4. 5- التذليل 5:

_ 1 قال المبرد: الفنا: شجر يثمر ثمرا أحمر ثم يتفرق في هيئة النبق الصغار، فهذا من أحسن التشبيه، وإنما وصف ما يسقط من أنماطهن إذا أنزلن، والعهن: الصوف الملون، وقال الأصمعي: كل صوف عهن "69 جـ2 كامل". والبيت في الكامل للمبرد ص68 جـ2، وفي الصناعتين ص273. 2 وينسب لعميرة بن جعيل "ص125 من المفضليات". وسيأتي الكلام عليه في التشبيه. الرديني: الرمح منسوب إلى ردينة وهي امرأة اشتهرت بتقويم الرماح سنا اللهب ضؤوه. وسيأتي البيت في التشبيه. والشاهد فيه قوله: "لم يتصل بدخان" فهي زيادة أتي بها إيغالا لتحقيق التشبيه وقوله بعد البيت "كما سيأتي" أي في باب التشبيه. 3 فالإيغال على الوجه الأول مختص بالنظم وعلي هذا لا يختص به فهو على هذا ختم الكلام شعرا أو نثرا بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها أي بدون التصريح بها لا بدونها أصلا. 4 فقوله: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} مما يتم المعنى بدونه؛ لأن الرسول مهتدٍ لا محالة؛ إلا أن في التصريح به زيادة حيث على الاتباع وترغيب في الرسل. 5 راجع الكلام عليه في الصناعتين ص364 و403 والتذليل لغة جعل الشيء ذيلا للشيء.

وإما بالتذليل، وهو تعقيب الجملة بجملة1 تشتمل2 على معناها3 للتوكيد4: وهو ضربان: 1- ضرب لا يخرج مخرج المثل لعدم استقلاله بإفادة.

_ 1 أي بجملة أخرىلا محل لها من الإعراب. 2 أي تلك الجملة المعقب بها. 3 أي على معنى الجملة الأولى ولو مع الزيادة فالمراد باشتمالها على معناها إفادتها بفحواها لما هو المقصود من الأولى، وليس المراد إفادتها لنفس معنى الأولى بالمطابقة وإلا كان ذلك تكرارا فلا بد أن يقع: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُون} فلا يكون ذلك تذليلا، فإن قوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} مضمونه أن آل سبأ جزاهم الله بكفرهم، ومعلوم أن الجزاء بالكفر عقاب كما دلت عليه القصة ومضمون قوله تعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} ذلك العقاب المخصوص لا يقع إلا للكفور ولكن اختلاف مفهومها لا يمنع تأكيد أحدهما بالأخرى للزوم بينهما معنى. 4 أي بقصد التقوية بتلك الجملة الثانية عند اقتضاء المقام للتوكيد فالتذليل أعم من الإيغال عموما وهما يجتمعان فيما يكون في ختم الكلام لنكتة التأكيد بجملة كما في: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ} الآية، فهذا إيغال من جهة أنه ختم الكلام بما فيه نكتة يتم المعنى بدونها، وتذييل من جهة أنه تعقيب الجملة بأخرى تشتمل على معناها للتأكيد، وينفرد بالإيغال فيما يكون بغير جملة وفيما هو لغير التأكيد سواء كان بجملة أم بمفرد كما في قوله: "لم يثقب" وينفرد التذييل فيما يكون في غير ختم الكلام بجملة كقولك: مدحت زيدا، أثنيت عليه بما فيه فأحسن إلي. فالتذليل يكون في آخر الكلام وغير آخر الكلام بخلاف الإيغال فإنه لا يكون إلا في الآخر، والإيغال قد يكون بغير الجملة أما التذليل فلا يكون إلا بالجملة وللتوكيد.

المراد1 وتوقفه على ما قبله كقوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} ، إن قلنا: إن المعنى وهل يجازى ذلك الجزاء2، وقال الزمخشري: وفيه وجه آخر: وهو أن الجزاء عام لكل مكافأة تستعمل تارة في معنى المعاقبة وأخرى في معنى الإثابة، فلما استعمل في معنى المعاقبة في قوله: {جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} بمعنى عاقبناهم بكفرهم، قيل: وهل يجازى إلا الكفور؟ بمعنى وهل يعاقب؟ فعلى هذا يكون من الضرب الثاني3، وقول الحماسي4. فدعوا: نزال فكنت أول نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل؟ وقول أبي الطيب: وما حاجة الأظنان حولك في الدجى ... إلى قمر ما واجد لك عادمه5

_ 1 بأن يتوقف على ما قبله واستقل ولم يفشُ استعماله أي لم يكثر استعماله. هذا والمثل لا بد فيه من الاستقلال؛ لأنه كلام تام نقل عن أصل استعماله لكل ما يشبه حال الاستعمال الأول. 2 أي المخصوص إلا الكفور فيتعلق بما قبله فحينئذ لا يكون جاريا مجرى المثل. 3 وهو ما أخرج مخرج المثل وذلك على أن يراد: وهل يعاقب -أي بمطلق عقاب لا يعاقب مخصوص- إلا الكفور، بناء على أن المجازاة هي المكافأة إن خيرا فخير وأن شرا فشر، وأما على الوجه الأول، فبناء على أن الجزاء بمعنى العقوبة. 4 هو ربيعة بن مقروم الضبي "22 جـ1 الحماسة". وراجع البيت في الصناعتين ص366. نزال اسم فعل بمعنى انزل بريد النزول إلى الحرب. 5 الظعينة: المرأة في الهودج. ما نافية والمعنى: ليس الواجد لك عادم القمر لأنك تقومين مقامه.

وقوله أيضا: تمسي الأماني صرعي دون مبلغه ... فما يقول لشيء ليت ذلك لي1 وقول ابن نباتة السعدي: لم يبق جودك لي شيئا أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أملِ قيل: نظر فيه إلى قول أبي الطيب وقد أربى عليه في المدح والأدب مع الممدوح؛ حيث لم يجعله في حيز من تمنى شيئا. ب- وضرب يخرج مخرج المثل2، كقوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} . وقول الذبياني: ولست مبستبق أخا لا تلمه ... على شعث، أي الرجال المهذب3

_ 1 المعنى أن الأماني لا تصل إلى مدى غاياته وآماله فهو لا يتمنى أمنية؛ لأنه يدرك أكثر ما يتمناه أمثاله فلا تجده يتمنى شيئا يناله. 2 بأن يقصد بالجملة الثانية حكم كلي منفصل عما قبلها جارٍ مجرى الأمثال في الاستقلال وفشو الاستعمال أي استعمال اللفظ الدال على كل منهما. وفي ابن يعقوب: فشو الاستعمال لا دليل على اشتراطه فيه فالأولى حذف. 3 لا تلمه أي لا تضمه أو لا تصلحه، حال مما قبله -أخًا- لعمومه لوقوعه في حيز النفي، أو حال من ضمير المخاطب في "لست". الشعث: انتشار الرأس وتغيره وكثرة وسخه والمراد به هو الأدران المعنوية كالتفريق وذميم الخصال والاستفهام في شطره الثاني للإنكار. والبيت في: 56 صناعتين، 14 حسن التوسل إلى صناعة الترسل للحلبي.

وقول الحطيئة: تزور فتى يعطي على الحمد ماله ... ومن يعطَ أثمان المكارم يحمدِ1 وقد اجتمع الضربان في قوله2: تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ} فإن قوله: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} من الأول3 وما بعده من الثاني، وكل منهما تذييل على ما قبله. وهو4 أيضا: إما لتأكيد منطوق كلام كقوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ} الآية5 وإما لتأكيد مفهومه6 كبيت النابغة، فإن صدره دل بمفهومه على نفي الكامل من الرجال فحقق ذلك وقرره بعجزه. 6- التكميل 7: وأمابالتكميل -ويسمى الاحتراس أيضا8- وهو أن يؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه9.

_ 1 راجع البيت في 50/ 4 زهر الآداب. 2 راجع 365 صناعتين. 3 لارتباطه بما قبله بالفاء الدالة على الترتيب. 4 أي التذييل مطلقا سواء كان من الضرب الأول أو الثاني. 5 فإن زهوق الباطل في قوله: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} منطوق به في قوله: {وَزَهَقَ الْبَاطِل} ، والمراد بالمنطوق هنا المعنى الذي نطق بمادته. 6 أي مفهوم الكلام "الجملة الأولى". 7 راجع 380 صناعتين. 8 جعله العسكري ضربان من ضروب الاستثناء "397 صناعتين". وسمي الاحتراس؛ لأن فيه التوقي والاحتراز عن توهم خلاف المقصود. 9 والتذييل وإن كان فيه أيضًا دفع التوهم؛ لأنه للتأكيد إلا أنه =

وهو ضربان: ضرب يتوسط الكلام، كقول طرفة: فسقى ديارك -غير مفسدها- ... صوب الربيع وديمة1 تهمي

_ = مختص بالجملة وبالآخر ولدفع التوهم في النسبة والتكميل لا يختص بشيء من ذلك. وسيأتي أنه يجامع الاعتراض فيكون في الإثناء. وقوله: بما يدفعه أي يدفع إيهام خلاف المقصود سواء كان ذلك القول مفردا أو جملة، كان للجملة محل من الإعراب أم لا. وذلك الدافع قد يكون في وسط الكلام، وقد يكون في آخره وقد يكون في أوله، وفي كل هو أما جملة أو مفرد، فبينه وبين الإيغال عموم وخصوص وجهي، لاجتماعهما فيما يكون في الأخر لدفع إيهام خلاف المقصود وانفراد الإيغال فيما ليس فيه دفع الإيهام مثل: "علم على رأسه نار" وانفراد التكميل بما في الوسط مثل "غير مفسدها" وبينه وبين التذييل عموم وخصوص وجهي إن صح أن التأكيد الكائل بالتذليل قد يدفع إيهام خلاف المقصود، وذلك لانفراد التكميل بما يكون بعد جملة، وانفراد التذييل بما يكون لمجرد التأكيد الخالي عن دفع الإيهام، وأما إن كان التأكيد الكائن بالتذييل لا يجامع دفع الإيهام فهما متباينان، والحق أن التذييل لا يستلزم التكميل بل هو أعم من التذييل مطلقا وبينه وبين التكرير والإيضاح المباينة كمباينة الإيغال والتذييل لهما. 1 هو من قصيدة يمدح بها قتادة الحنفي. وراجع الكلام على البيت في 397 و381 صناعتين، 162 جـ1 البيان، 302 وساطة، 31 الموازنة. تهمي: تسيل. صوب الربيع: مطره غير مفسدها نصب على الحال من فاعل سقي. الديمة: المطر المسترسل. لما كان نزول المطر قد يؤول إلى خراب الديار وفسادها أتي بقوله: "غير مفسدها" نفعا لذلك. والاحتراس هنا في وسط الكلام بين الفعل وفاعله وقوله: "ديارك" بفتح الكاف لأنه يخاطب به ممدوحه. وقد عيب قول الشاعر: ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر لأن نزول المطر باستمرار قد يؤدي إلى خراب الديار وقيل: لا عيب فيه لأن الدعاء قرينة على أن المراد ما لا يضر وللشاعر أن يكتفي بذلك فلا يحترس فيه.

وقول الآخر1: لو أن عزة خاصمت شمس الضحى ... في الحسن عند موفق لقضى لها إذ التقدير عند حاكم موفق، فقوله: "موفق" تكميل، وقول ابن المعتز: صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيدٍ سراع وأرجلُ2 وضرب يقع في آخر الكلام، كقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين} 3 فإنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة على المؤمنين لتوهم أن ذلتهم لضعفهم فلما قيل: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين} علم أنها منهم تواضع لهم، ولهذا عدي الذل بعلي بتضمينه معنى العطف، كأنه قيل عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع، ويجوز أن تكون التعدية بعلي لأن المعنى أنهم مع شرفهم وعلو طبقاتهم

_ 1 هو كثير عزة، وقضى لها: حكم لها على الشمس. 2 والضمير في عليها للإبل وفي "بها" للسياط. قوله: "ظالمين" تكميل؛ لأن ضربها إنما يكون غالبا من تثاقل في السير فدفعه بذلك. قال الحصري: في قول زهير: سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم ... فلم يفعلوا، ولك يليموا، ولم يألوا قال بعض أهل المعاني: أعجب بقوله: "ولم يألوا" لأنه لما ذكر السعي بعدهم والنخاف عن بلوغ مساعيهم جاز أن يتهم السامع أن لك لتقصير الطالبين في طلبهم فأخبر أنهم لم يألوا وأنهم كانوا غير مقصرين وأنهم مع الاجتهاد في المتأخرين إلخ 88/ 1 زهر الآداب. 3 قوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين} إطناب حيث دفع توهم غيره، وإن كان له معنى مستقل في نفسه؛ لأنه لا يشترط في الإطناب أن لا يكون فيه معنى مستقل بل يجوز وجود الإطناب إذا استقل لفظه بإفادة المعنى وكان في إفادته دقة مناسبة لا يراعيها إلا البلغاء. فلما كان يتوهم في ذلتهم على المؤمنين؛ لضعف فيهم دفعة بقوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين} تنبيها على أن ذلك تواضع منهم للمؤمنين.

وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم1 ومنه قول ابن الرومي2 فيما كتب به إلى صديق له: أني وليك الذي لا يزال تنقاد إليك مودته، من غير طمع ولا جزع، وإن كنت لذي الرغبة مطلبا ولذي الرهبة مهربا، وكذا قول الحماسي3: رهنت يدي بالعجز عن شكر بره ... وما فوق شكري للشكور مزيدُ وكذا قول كعب بن سعد الغنوي4: حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيبُ فإنه لو اقتصر على وصفه بالحلم لأوهم أن حمله عن عجز فلم يكن صفة مدح فقال: إذا ما الحلم زين أهله، فأزال هذا الوهم وأما بقية البيت فتأكيد للازم ما يفهم من قوله: إذا ما الحلم زين أهله من كونه غير حليم حين لا يكون الحلم زينا لأهله فإن من يكون حليما حين لا يحسن الحلم لأهله لا يكون مهيبا في عين العدو لا محالة فعلم أن بقية البيت ليست تكميلا كما زعم بعض5 الناس، ومنه قول الحماسي:

_ 1 فعلي الأول التوسع بتضمين الذل معنى العطف، "وعلى" باقية على معناها. وعلى الثاني "الذل" على معناه والتجوز في استعمال "على" موضع اللام للإشارة إلى أنهم في رفعة واستعلاء على غيرهم من المؤمنين وأن تذللهم تواضعٌ منهم لا عجز. 2 راجع 204 جـ4 زهر الآداب. 3 راجع 257/ 2 حماسة، وهي غير منسوبة لقائلها، وراجع البيت أيضا في 39 جـ2 زهر الآداب. 4 يرثي أخاه أبا المغوار، راجع 88/ 3 البيان والتبيين، 270/ 2 الأمالى. 5 فهي عند المصنف تذييل لتأكيد المفهوم. وفيه نظر لأنا لا نسلم أن من لا يكون حليما حين لا يحسن الحلم يكون مهيبا في عين العدو لجواز أن يكون غضبه مما لا يهاب ويعبأ به، والذي يفهم هنا أن معنى البيت ألطف مما يشعر به كلام المصنف وأن المصراع الثاني تكميل وذلك لأن كونه حليما في حال يحسن فيه الحلم يوهم أنه في تلك الحالة ليس مهيبا لما به من البشاشة وطلاقة الوجه وعدم آثار الغضب والمهابة فنفى ذلك الوهم بالشطر الثاني.

وما مات منا سيد في فراشه ... ولا طلَّ منا حيث كان قتيل1 فإنه لو اقتصر على وصف قومه بشمول القتل إياهم لأوهم أن ذلك لضعفهم وقلتهم، فأزال هذا الوهم بوصفهم بالانتصار من قاتلهم وكذا قول أبي الطيب: أشد من الرياح الهوج بطشا ... وأسرع في الندى منها هبوبا فإنه لو اقتصر على وصفه بشدة البطش لأوهم ذلك أنه عنف كله ولا لطف عنده، فأزال هذا الوهم بوصفه بالسماحة، ولم يتجاوز في ذلك كله صفة الريح التي شبه بها، وقال: إنه أسرع في الندى منها هبوبا كأنه من قول ابن عباس رضي الله عنهما: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان كأنه كالريح المرسلة". "التتميم" 3: وإما بالتميم وهو أن يؤتى في كلام3 لا يوهم خلاف المقصود4

_ 1 البيت للسموأل "38 جـ1 الحماسة شرح الرافعي". طل: أهدر دمه. 2 راجع 371 و380 صناعتين. 3 سواء كان في وسطه أو آخره. 4 هذا مخرج لتتميم ذكره في كلام يوهم خلاف المقصود؛ لأن النكتة في التتميم غير دفع خلاف المقصود لا بأنه لا يكون في كلام يوهم خلاف المقصود إذ لا مانع من اجتماع التتميم والتكميل.

بفضله1 تفيد نكتة، كالمبالغة في قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه} ، أي مع حبه والضمير للطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه2، ونحوه: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّه} ، وكذا: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون 3} ، وعن الفضل بن عياض: "على حب الله"، فلا يكون مما نحن فيه4، وفي قول الشاعر: إني على ما ترين من كبري ... أعرف من أين تؤكل الكتفُ5 وفي قول زهير: من يلق يوما على علاته هرمًا ... يلق السماحة منه والندى خلقا6

_ 1 ولو كان معنى الكلام لا يتم إلا بها والفضلة مثل مفعول أو حال أو نحو ذلك كالتمييز والمجرور مما ليس بجملة مستقل ولا ركن كلام بأن كان مفردا أو جملة غير مستقلة. وكلام المصنف يدفع أن يكون المراد بالفضلة هنا ما يتم أصل المعنى بدونه "والقائلون بذلك يقولون به لأجل دخول الجملة الزائدة على أصل المراد" إذ لا تخصيص لذلك بالتتميم، حيث ذكر المصنف: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} الآية مثالا ولا شك أن مما تحبون ليس فضلة بهذا المعنى فلا يكون تتميمًا؛ لأن الإنفاق مما يحبون لا يتم أصل المعنى بدونه وكون الشيء مقصودا في الكلام لا يتم المراد إلا به لا ينافي كونه إطنابا. والتتميم مباين للتكميل؛ لأن شرطه أن يكون الكلام معه غير موهم خلاف المراد بخلاف لتكميل. 2 وإن جعل الضمير لله تعالى أي: على حب الله أي لأجله فهو لتأدية أصل المراد فيكون غير تتميم؛ لأنه يكون مساواة لا إطنابًا. 3 لأن أصل المعنى يتم بقوله: {حَتَّى تُنْفِقُوا} أي يقع إنفاق. 4 لأنه على هذا يدخل في تأدية أصل المراد. 5 الكتف تؤكل من أسفلها، وهو تكميل للأول يريد أن عجزه عن ذلك ليس لتقصير منه. 6 العلات جمع علة وهي ما يتعلل به، وأصله من عل إذا شرب مرة بعد مرة. والشاهد قوله: "على علاته" فهي تتميم. ومثله قول زهير: "ولكن الجواد على علاته هرم".

8- الاعتراض 1: وهو أن يؤتى في أثناء الكلام، أو بين كلامين متصلين معنى2 بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب3 لنكتة سوى ما ذكر في تعريف التكميل4:

_ وراجع الكلام على البيت في 438 صناعتين 128 و130/ 3 زهر الآداب وص61 البديع لابن المعتز، شرح محمد عبد المنعم الخفاجي، 94 جـ1 الكامل للمبرد و215 طراز المجالس للشهب الخفاجي، 146 جـ1 العقد. ملاحظة: التتميم كما ذكرنا مباين للتكميل، وهو مباين أيضا للتذليل أن شرطنا في الجملة أن لا يكون لها محل من الإعراب؛ لأن الفضلة لا بد أن يكون لها محل من الإعراب وإن لم نشترط ذلك كان بينه وبين التذييل عموم وخصوص وجهي لاجتماعهما في الجملة التي لا محل لها، وانفراد التتميم بغير الجملة، وانفراد التذييل بالتي لا محل لها وبينه وبين الإيغال عموم وخصوص وجهي يجتمعان في فضله لم تدفع إيهام خلاف المقصود وينفرد الإيغال بالجملة التي لا محل لها وما فيه دفع إيهام خلاف المقصود وينفرد التتميم بما يكون في أثناء الكلام مما ليس يختم شعر ولا يختم كلام. ثم التتميم قسمان: تتميم المعاني وهو ما ذكر، وتتميم اللفظ ويسمى حشوا وهو ما يقوم على الوزن ولا يحتاج إليه المعنى مثل: "وخفوق قلب البيت". 1 راجع 180 المفتاح، 385 صناعتين، 52 شرح لامية العجم. 2 يخرج الإيغال لأنه آخر. 3 خرج التتميم لأن له محلا من الإعراب. هذا ولم يرد بالكلام مجموع المسند إليه والمسند فقط، بل مع جميع ما يتعلق بهما من الفضلات والتوابع المفردة ولو تأويلا. هذا والمراد باتصال الكلامين أن يكون الثاني بيانا للأول، أو تأكيدا أو بدلا منه أو معطوفا عليه. 4 خرج التكميل، هذا وشمل الكلام بعض صور التذليل وهو ما إذا كانت الجملة المعترضة مشتملة على ما قبلها وكانت النكتة التأكيد لأن سوى دفع الإيهام شامل للتأكيد.

كالتنزيه والتعظيم في قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ 1 وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} . والدعاء في قول أبي الطيب: وتحتقر الدنيا احتقار مجرب ... يرى كل ما فيها -وحاشاك- فانيا فإن قوله: "وحاشاك" دعاء حسن في موضعه، ونحوه قول عوف بن محلم الشيباني: إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان2 والتنبيه في قول الشاعر3: واعلم فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا4

_ 1 قوله: {سُبْحَانَهُ} جملة؛ لأنه مصدر بتقدير الفعل، وقعت في أثناء الكلام لأن قوله: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} عطف على قوله: {لِلَّهِ الْبَنَاتِ} من قبيل عطف المفردات، وجعل: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} حالا لا يفيد التشنيع عليهم المستفاد من العطف المؤكد بالتنزيه. 2 الترجمان: الذي يفسر لغة بلغة أخرى، والمراد به مطلق المفسر والمكرر. والبيت من قصيدة في 17 جـ1 مقدمة البيان والتبيين وراجعه في 380 صناعتين، 203 رسالة الغفران، ونسبه العسكري لجرير "ص49 صناعتين". والشاهد فيه قوله: "بلغتها" فهي جملة اعتراضية في أثناء الكلام لقصد الدعاء للمخاطب والواو في مثله تسمى اعتراضية ليست بعاطفة ولا حالية، هذا والواو الحالية ما قصد بالكلام الواقعة فيه كون الجملة بعدها قيد للعامل، والاعتراضية ما لم يقصد فيها ذلك. 3 أي تنبيه المخاطب على أمر يؤكد الإقبال على ما أمر به. 4 البيت أنشده أبو على الفارسي ولم ينسبه لأحد وقوله: "فعلم المرء ينفعه" جملة اعتراضية للتنبيه وقعت بين "اعلم" ومفعولية والفاء اعتراضية فيها شائبة من السببية، وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف. هذا والاعتراض يكون مع الواو ومع الفاء وبدونهما.

وتخصيص أحد المذكورين بزيادة التأكيد في أمر علق بهما، كقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} 1. والمطابقة مع الاستعطاف في قول أبي الطيب: وحقوق قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لرأيت فيه جهنما2 والتنبيه: على سبب أمر فيه غرابة، كما في قول الآخر3:

_ 1 فقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي} تفسير لـ: {وَصَّيْنَا} وقوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} اعتراض بينهما إيجابا للتوصية بالوالدة. 2 فقوله: "يا جنتي" اعترض للمطابقة -مع جهنم- والاستعطاف. 3 هو الرماح بن ميادة 385 صناعتين. والبيت في 3 جـ3 شرح الدسوقي والشاهد فيه قوله: "وفي اليأس راحة" فهو اعتراض. هجر الحبيب كونه مطلوبا للمحب أمر غريب، فبين سببه بأن في اليأس راحة. هذا والاعتراض يباين التتميم؛ لأنه إنما يكون بفضلة والفضلة لا بد لها من إعراب والاعتراض إنما يكون بجملة لا محل لها. ويباين التكميل لأنه يقع لدفع إيهام خلاف المقصود بخلاف الاعتراض فإنما يكون لغير ذلك الدفع ويباين الإيغال لأنه لا يكون إلا في آخر الكلام والاعتراض يكون في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين. لكنه يشمل بعض صور التذييل وهو ما يكون بجملة لا محل لها وقت بين جملتين متصلتين معنى لأنه كما لم يشترط في التذييل أن يكون بين كلامين لم يشترط فيه أن لا يكون بين كلامين والنكتة وإن كانت في الاعتراض غير دفع الإيهام وفي التذييل التأكيد إلا أن التأكيد أعم من دفع الإيهام؛ لحصوله مع غيره فلا يلزم من نفي دفع الإيهام نفي التأكيد مطلقا وكفى هذا في صحة أهمية الاعتراض، فبينهما عموم وخصوص وجهي، أيجتمعان في هذه الصورة وينفرد التذييل فيها لا يكون بين كلامين متصلين والاعتراض فيما لا يكون للتأكيد، والنسبة بين الاعتراض وكل من الإيضاح والتكرير هي العموم والخصوص الوجهي يجتمع الاعتراض والإيضاح في الجملة التي لا محل لها الواقعة في الأثناء وينفرد الإيضاح فيما يكون بغير الجملة لو التي لها محل أو التي لا محل لها ولكنها في الآخر، وينفرد الاعتراض فيما يكون لغير باب الإيضاح، ويجتمع الاعتراض مع التكرير في الجملة التي لا محل لها الواقعة في الأثناء للتقرير وينبغي الاعتراض في الجملة المذكورة إذا كانت لغير توكيد وينفرد التكرير فيما يكون في الأثناء.

فلا هجره يبدو وفي اليأس راحة ... ولا وصله يبدو لنا فنكارمه فإن قوله: "فلا هجره يبدو" يشعر بأن هجر الحبيب أحد مطلوبيه وغريب أن يكون هجر الحبيب مطلوبًا للمحب، فقال: وفي اليأس راحة، لينبه على سببه، وقوله تعالى: {لَوْ تَعْلَمُونَ} في قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَو تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيم} ، اعتراض؛ لأنه اعترض به بين الموصوف والصفة، واعترض بقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَو تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} ، بين القسم والمقسم عليه. ومما جاء بين كلامين متصلين1 معنى قوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُم} 2، فإن قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} بيان لقوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} يعني أن المأتي الذي أمركم به هو مكان الحرث، دلالة على أن الغرض

_ يكون بغير الجملة لو التي لها محل أو التي لا محل لها ولكنها في الآخر، وينفرد الاعتراض فيما يكون لغير باب الإيضاح، ويجتمع الاعتراض مع التكرير في الجملة التي لا محل لها الواقعة في الأثناء للتقرير وينبغي الاعتراض في الجملة المذكورة إذا كانت لغير توكيد وينفرد التكرير فيما يكون في الأثناء. 1 أي ومن الاعتراض الذي وقع بين كلامين متصلين وهو أكثر من جملة أيضًا أي أن الكلام الذي وقع الاعتراض بينه أكثر من جملة. 2 قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين} ، اعتراض وهو أكثر من جملة؛ لأنه كلام يشتمل على جملتين. بناء على أن الجملة ما اشتمل على المسند والمسند إليه، أما إن قلنا هي ما يستقل بالإفادة وهو الأقرب، فيكون كذلك إذا قدر عطف {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} على مجموع: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} أي: وهو يحب المتطهرين، أما إذا قدر على هذا البناء عطفها على: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} ، فيكون ليس هنا فصل بأكثر من جملة واحدة. وهذا الاعتراض واقع بين كلامين: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُم} {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُم} والكلامان متصلان معنى؛ لكون الجملة الثانية منهما عطف بيان للأولى فإن قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُم} بيان لحيث من قوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُم اللهُ

الأصلي في الإتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة، فلا تأتوهم إلا من حيث يأتي فيه هذا الغرض، وهو مما جاء في أكثر من جملة أيضا. ونحوه في كونه أكثر من جملة قوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مرْيَمَ} ، فإن قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} ليس من قول أم مريم، وكذا قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أوتُوا نصِيبًا منَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا، مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} أن جعل {مِنَ الَّذِينَ} بيانا للذين أوتوا نصيبا من الكتاب؛ لأنهم يهود ونصارى أو لأعدائكم، فإنه على الأول يكون قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} اعتراضا، وعلى الثاني يكون {وَكَفَى بِاللَّهِ} اعتراضا، ويجوز أن يكون {مِنَ الَّذِينَ} صلة، لـ: {نَصِيرًا} أن ينصركم من الذين هادوا كقوله: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا} وأن يكون كلاما مبتدأ على أن: {يُحَرِّفُونَ} صفة مبتدأ محذوف تقديره من الذين هادوا قوم يحرفون، كقوله1: وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى ابتغي العيش أكدح وقد علم مما ذكرنا أن الاعتراض كما يأتي بغير واو ولا فاء قد يأتي بأحدهما ووجه حسن الاعتراض على الإطلاق حسن الإفادة مع أن مجيئه مجيء ما لا معول عيه في الإفادة فيكون مثله مثل الحسنة تأتيك من حيث لا ترتقبها. ومن الناس من لا يقيد فائدة الاعتراض بما ذكرنا، بل يجوز أن

_ 1 هو تميم ابن أبي ابن مقبل 27 ما اتفق لفظه للمبرد، 115/ 2 الكامل للمبرد، 276/ 1 الكتاب لسيبويه". أكدح: أجهد نفسي في العمل، ونقد الكلام فتارة منهما أموت.

تكون دفع توهم ما يخالف المقصود1. وهؤلاء فرقتان: فرقة لا تشترط فيه أن يكون واقعا في أثناء كلام أو بين كلامين متصلين معنى، بل تجوز أن يقع في آخر كلام2 أو يليه غير متصل به معنى، وبهذا يشعر كلام الزمخشري في مواضع من الكشاف فالاعتراض عند هؤلاء1 يشمل التذليل، ومن التكميل ما لا محل له من الإعراب جملة كان أو أكثر من جملة.

_ 1 فيجيزون في النكتة في الاعتراض أن تكون لدفع إيهام خلاف المقصود. 2 فلا يليه جملة متصلة به، وذلك بأن لا تلي الجملة التي اعترض بعدها جملة أخرى أصلا فيكون الاعتراض في آخر الكلام. ولعل أظهر مثل إذا وقع آخرًا قول أبي العتاهية في عتبة: وإلا ففيم تجنت وما ... جنيت، سقى الله أطلالها ألا إن جارية للإمام ... قد أمكن الحب سربالها والحديث: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر". 1 فالاعتراض عند هؤلاء هو أن يؤتى في أثناء الكلام أو في آخره أو بين كلامين متصلين أو غير متصلين بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب لنكتة. 2 كقول السموأل: وما مات منا سيد في فراشه ... ولا طل منا حيث كان قتيل فإن المصراع الثاني تكميل وكلامه ههنا دال على أن الجملة في التذييل يجب أن لا يكون لها محل من الإعراب وهذا مما لم يشعر به تفسيره. اللهم إلا أن يقال: إنه اعتمد في الاشتراط على الأمثلة. والاعتراض بهذا التفسير يباين التتميم لأن التتميم إنما يكون بفضلة والفضلة لا بد لها من الإعراب أما الاعتراض فإنما يكون بجملة لا محل لها. أما التذييل فيشمله الاعتراض على هذا التفسير الصادق على ما لا محل له من الجمل المؤكدة لما قبلها سواء كانت في آخر الكلام وفي وسطه، وذلك لأنه يجب أن يكون التذييل -كالاعتراض- بجملة لا محل لها من الإعراب وإن لم يذكره المصنف في تفسير التذييل فيكون التذييل على هذا تعقيب جملة بأخرى لا محل لها تشتمل على معناها للتأكيد كانت تلك =

وفرقة1 تشترط فيه ذلك2 لكن لا تشترط أن يكون جملة أو أكثر من جملة3. فالاعتراض عند هؤلاء يشمل من التتميم ما كان واقعا في أحد الموقعين4، ومن التكميل ما كان واقعا في أحدهما.

_ = الجملة في الآخر أو بين كلامين متصلين أو غير متصلين، ولا شك أن الاعتراض على هذا القول صادق عليه إذ لا يخرج منه ما يكون في آخر الكلام من التذييل بخلافه على القول السابق في الاعتراض ويزيد الاعتراض -على هذا القول- عن التذييل، بما ليس للتأكيد، فهو أعم منه عموما مطلقا، فيجتمعان فيما إذا كانت الجملة المعترضة مشتملة على معنى ما قبلها وكانت النكتة للتأكيد وينفرد الاعتراض فيما إذا كانت النكتة غير التأكيد. هذا وقول المصنف: "ومن التكميل ما لا محل له من الإعراب" يعني أن الاعتراض بهذا التفسير يشمل بعض صور التكميل وهو ما يكون بجملة لا محل لها من الإعراب لدفع الإيهام سواء كانت تلك الجملة آخرا أو بين كلامين متصلين أو غير متصلين، فإن التكميل قد يكون بجملة وقد يكون بغير الجملة بأن يكون بمفرد "وهذا لا يكون اعتراضا"، والجملة التكميلية قد تكون ذات إعراب فلا تدخل في الاعتراض، وقد لا تكون فلا تدخل، وعلي هذا فبين التكميل والاعتراض عموم وخصوص وجهي يجتمع أن فيما يكون بجمل لا محل لها؛ لدفع الإيهام إذ لا يشترط في الاعتراض على هذا القول أن يكون لنكته غير دفع للإيهام، وينفرد الاعتراض بما يكن من الجمل لغير دفع الإيهام، وينفرد التكميل بغير الجملة وبالجملة التي لا محل لها وعلى القول السابق بين التكميل والاعتراض الباين كما تقوم. 1 أي من القائلين أيضا بأن النكتة في الاعتراض قد تكون لدفع إيهام خلاف المقصود. 2 أي أن يكون واقعا في أثناء كلام أو بين كلامين متصلين معنى. 3 فيجيزون كونه غير جملة يعني من غير تجويز كونه آخرا فالاعتراض عندهم أن يؤتى في أثناء الكلام إذ لا يكون في الآخر على هذا القول كالأول بخلافه على الثاني، أو بين كلامين متصلين معنى فلا يقع بين كلامين لا اتصال بينهما كالقول الأول بخلافه على الثاني -جملة أو غيرها- بخلافه على القولين الأولين، فإنه عليهما لا يكون بمفرد فلم يخالفوا الجمهور إلا في التعميم في النكتة وفي كون الاعتراض جملة لا محل لها أو غيرها بأن يكون: جملة لا محل لها من الإعراب أو مفردا. 4 وهو ما كان بغير جملة في أثناء الكلام.

ولا محل لها من الأعراب جملة كان أو أقل من جملة أو أكثر1. 9- "مواضع أخرى للإطناب غير ماسبق": وأما بغير ذلك، كقولهم: "رأيته بعين"، ومنه قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ ما ليس لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي هذا الإفك ليس إلا قولا يجرى على ألسنتكم ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم في القلب كما هو شأن المعلوم إذا ترجم عنه اللسان، وكذا قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَة} لإزالة توهم الإباحة كما في نحو قولنا: جالس الحسن أو ابن سيرين2، ويعلم العدد جملة كما علم تفصيلا ليحاط به من جهتين، فيتأكد العلم وفي أمثال العرب: علمان خير من

_ 1 فيدخل فيه إذًا بعض صور التكميل، وهو ما يكون واقعا في أثناء الكلام مفردا أو جملة أو بين كلامين متصلين، فيكون بينه وبين التتميم عموم وخصوص وجهي يجتمعان في هذه الصورة المشمولة للاعتراض، وينفرد عن التتميم بما يكون غير فضلة، وينفرد التتميم عنه بما يكون آخرا. والاعتراض على القولين السابقين مباين للتتميم، وكذلك بين الاعتراض بهذا المعنى والتكميل عموم وخصوص وجهي: يجتمعان فيما ذُكر، وينفرد الاعتراض بما يكون لغير دفع الإيهام وهو غير فضلة، وينفرد التكميل بما يكون آخرا، وهو جملة لدفع الإيهام. هذا والنسبة بين الاعتراض على هذا القول وبين الإيغال التباين؛ لأنه اشترط في الاعتراض أن يكون في الأثناء وفي الإيغال أن يكون في الآخر، وبينه وبين التذييل عموم وخصوص وجهي، يجتمعان فيما يكون في الآخر، وبينه وبين التذييل عموم وخصوص وجهي، يجتمعان فيما يكون في الأثناء وهو جملة لا محل لها على تفسير التذييل بذلك أو مطلقا أن لم يفسر بذلك كما هو ظاهر تفسير المصنف سابقان وينفرد الاعتراض بما يكون لغير التوكيد أو فضلة، وينفرد التذييل بما يكون آخرا. وكذلك النسبة بينه وبين كل من الإيضاح والتكرير. أما ذكر الخاص بعد العام فمباين لغير التتميم والإيغال والاعتراض ويجامع هذه الثلاثة في بعض الصور. 2 فيه نظر؛ لأنه حينئذ يكون من باب التكميل، أعني الإتيان بما يدفع خلاف المقصود.

علم، وكذا قوله: {كَامِلَةٌ} تأكيدا آخر، وقيل: أريدَ بالتأكيد الكيفية لا الكمية حتى لو وقع صوم العشرة على غير الوجه المذكور لم تكن كاملة، وكذا قوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} 1، فإنه لو لم يقصد الإطناب لم يذكر: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} لأن إيمانهم ليس مما ينكره أحد من مثبتيهم، وحسن ذكره2 إظهار شرف الإيمان ترغيبا فيه، وكذا قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} فإنه لو اختصر لترك قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} لأن مساق الآية لتكذيبهم في دعوى الإخلاص في الشهادة كما مر وحسنه دفع توهم أن التكذيب للمشهود به في نفس الأمر3، ونحوه قول البلغاء: "لا، وأصلحك الله"، وكذا قوله تعالى4: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} ، وحسنه أنه عليه السلام فهم أن السؤال يعقبه أمر عظيم يحدثه الله تعالى في العصا، فينبغي أن يتنبه لصفاتها حتى يظهر له التفاوت بين الحالين، وكذا قوله: {نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِين} ، وحسنه إظهار الابتهاج بعبادتها والافتخار بمواظبتها؛ ليزداد غيظ السائل.

_ 1 راجع الآية والكلام عليها في المفتاح ص122. 2 أي ذكر: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} . هذا وكون هذا الإطناب بغير ما ذكر من الوجه السابقة ظاهر بالتأمل فيها: وقد يقال: إنها للاعتراض والواو اعتراضية، والجواب أن المتبادر كونها للعطف. 3 وفيه نظر لأنها أيضا من قبل التكميل أو الاعتراض عند من يجوز كون النكتة فيه دفع الإيهام. 4 ص122 مفتاح.

معنى آخر للإيجاز والإطناب 1: وأعلم أنه قد يوصف الكلام بالإيجاز والإطناب باعتبار كثرة حروفه وقلتها بالنسبة إلى كلام آخر مساوٍ له في أصل المعنى، كالشطر الأول من قول أبي تمام: يصد عن الدنيا إذا عنَّ سؤدد ... ولو برزت في زي عذراء ناهد2 وقول الآخر2: ولست بنظار إلى جانب الغنى ... إذا كانت العلياء في جانب الفقرِ ومنه قول الشماخ: إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمينِ وقول بشر بن أبي خازم: إذا ما المكرمات رفعن يوما ... وقصر مبتغوها عن مداها

_ 1 راجع 129 مفتاح. 2 يصد: يعرض، العذراء: البكر. الناهد: بارزة الثدي. 3 أبو سعيد المخزومي الشاعر "260 معجم الشعراء للمرزباني" وينسب أيضا إلى المعذل بن غيلان "309 المثل السائر، 231 الأدب العباسي لمحمود مصطفي" وقال الجاحظ عن أحمد بن المعذل: أنشدني أعرابي من طيئ: ولست بميال إلى جانب الغنى ... إذا كانت العلياء في جانب الفقر وأني لصبار على ما ينوبني ... وحسبك أن الله أثنى على الصبر "218 جـ2 البيان". فالبيت: "وليست بنظار" إلخ إطناب بالنسب إلى الشطر الأول من بيت أبي تمام وهذا الشطر إيجاز بالنسبة للبيت وإن كان يمكن أن يدعى أن كلا منهما مساواة باعتبار ما جرى في المتعارف من مثل العبارتين.

وضاقت أذرع المثرين عنها ... سما أوس إليها فاحتواها1 ويقرب من هذا الباب قوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون} . وقول الحماسي: وننكر أن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول3 وكذا ما ورد في الحديث: "الحزم سوء الظن"، وقول العرب: الثقة بكل أحد عجز4 والله تعالى أعلم. تم الفن الأول وهو علم المعاني.

_ 1 مبتغوها: طالبوها، مداها: غايتها. المثرين: أرباب الغنى والثروة، فبيت الشماح إيجاز بالنسبة لبيتي بشر، وبيتا بشر بالنسبة لبيت الشماخ إطناب، وراجع بين الشماخ والكلام عليه في الكامل للمبرد 62 و63 جـ1. 2 يصف رياستهم ونفاذ حكمهم أي نحن نغير ما نريد من قول غيرنا وليس أحد يجرؤ على الاعتراض علينا والبيت للسموأل "39/ 1 شرح الحماسة. فالآية إيجاز بالنسبة إلى البيت، وإنما قال: "يقرب" لأن ما في الآية يشمل كل فعل والبيت مختص بالقول فالكلامان لا يتساويان في أصل المعنى بل كلام الله عز وجل أبلغ وأعلى؛ لأن الآية الموجودة فيها نفي السؤال وفي البيت نفي الإنكار ونفي السؤال أبلغ لأنه إذا كان لا ينكر ولو بلفظ السؤال فكيف ينكر جهارا بخلاف الإنكار فقد يكون هو المستعظم المتروك دون الإنكار بصورة السؤال، وما في الآية حق وصدق دون ما في البيت. 4 فالآية إيجاز بالنسبة لقول العرب، هذا وقد قال ابن السبكي أن هذا المعنى للإيجاز والإطناب يستغنى عن ذكره، لقول السكاكي فيما تقدم إن الاختصار قد يكون باعتبار أن الكلام خليق بأبسط منه.

ملحق للجزء الثالث

ملحق للجزء الثالث: أهم كتب البلاغة في مختلف العصور: مجاز القرآن لأبي عبيدة م208هـ. صنعة البلاغة للسيرافي م 368هـ. البديع لابن المعتز م 296هـ. أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز لعبد القاهر م 471هـ. سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي 466هـ. العمدة لابن رشيق م 460. الصناعتين للعسكري م 395. المفصل في البيان والفصاحة للمزرباني م 278هـ. البديع لابن منقذ م 584هـ. نهاية الإيجاز للرازي م 606هـ. المفتاح للسكاكي م 626هـ1. قوانين البلاغة لعبد اللطيف البغدادي م 629هـ. المثل السائر لابن الأثير م 637هـ2. التبيان لابن الزملكاني م 651هـ. المعيار للزنجاني م 654هـ.

_ 1 شرحه: الشيرازي م 710هـ، والخلخالي م 745هـ، والسعد م 792هـ، والسيد م 816هـ، وابن كمال باشا م 940هـ. وعلي شرح السيد حواش: للبسطامي م 871هـ، ولمولي اللطفي م 900هـ، ولحميد الدين م 908هـ، ولأسعد الناجي م 922هـ، ولمحيي الدين الفنري م 954هـ، ولشهاب الدين الخفاجي م 1069هـ. 2 شرحه عز الدين أبي الحديد م 655هـ "الفلك الدائر على المثل السائر". م 15- الإيضاح جـ3".

المصباح لبدر الدين ابن ابن مالك م 8686هـ1. الأقصى القريب للتنوخي 698هـ. بديع القرآن لابن أبي الأصبع م 654هـ. الإيضاح للخطيب2 القزويني م 739. تلخيص المفتاح2 له أيضا. الفوائد الغياثية للعضد م 756هـ، وشرحها الكرماني م 786هـ. التبيان لشرف الدين الطيبي م 743هـ. الطراز ليحيى بن حمزة العلوي م 749هـ. عروس الأفراح للسبكي م 773هـ. السمرقندية للسمرقندي وهي رسالة في الاستعارات، وتوفي السمرقندي عام 880هـ4. المطول للسعد م 792هـ5. عقود الجمان للسيوطي م 911هـ.

_ 1 ولابن النحوية م 708هـ ضوء الصباح في مختصر المصباح، ولمحمد بن خضر: مصباح الزمان في شرح المصباح. 2 شرحه: الأقصرائي م 800هـ، وحيدرة م 820هـ، وشرح شواهده عالم ومن هذا الشرح نسخة خطية بمكتبة الأزهر، ثم شرح الإيضاح أستاذنا الشيخ عبد المتعالِ الصعيدي. وشرحته أنا أخيرًا في ستة أجزاء. 3 شرحه: الخلخالي م 745هـ، وناظر الجيش م 778هـ، والبابرني م 786هـ، وشمس الدين القونوي م 788هـ، والسعد 792هـ "ليسن الحمصي م 961هـ، ولابن يعقوب م 1108هـ، وللدسوقي م1230هـ شروح عليه"، وجلال الدين التيزيتي م 793هـ، والسيد عبد الله م 800هـ، وعصام الدين م 951هـ. ولزكريا الأنصاري م 926هـ مختصر تلخيص المفتاح، وللعباسي م 963هـ شرح لشواهد التلخيص "معاهد التنصيص". 4 شرحها وحشي عليها. عصام الدين م 951هـ، والحفني م 1181هـ والملوي م 1181هـ والدمنهوري في 1192هـ والأمير 1232هـ، والخضري م 1288هـ والباجوري م 1276هـ. 5 للسيد م 816هـ، وعز الدين بن جماعة م 819هـ، والبساطي م 842هـ، والسمرقندي م 880هـ، وملاخسروم م 885هـ، والفنري م 86هـ، وعبد الحكيم السيلاكوتي م 1061هـ، وحواش عليه.

الجوهر المكنون لعبد الرحمن الأخضري م 950هـ1، وقد شرحه الشيخ أحمد الدمنهوري م 1192هـ. الأعواز في علاقات المجاز للسجاعي م 1197هـ. تحفة الإخوان في علم البيان لدردير م 1201هـ. الرسالة البيانية للصبان م 1026هـ وله حاشية على السعد. التجريد للبناني م 1211هـ. حسن الصنيع للشيخ البسيوني م 1313هـ. زهر الربيع للحملاني م 1352هـ. البلاغة الواضحة للمرحوم الجارم بك م 8 فبراير سنة 1949. هذا وأهم الشروح على متن التلخيص للخطيب القزويني المطول ومختصره السعد والأطول للعصام.

_ 1 شرحه ابن يعقوب م 1108هـ.

الموازنة للأمدي والبلاغة العربية

الموازنة للأمدي والبلاغة العربية: أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي البصري المتوفي عام 371هـ من أعلام الأدب والنقد والبيان في القرن الرابع. وكتابه الموازنة سجل حافل لشتى مناهج النقد، ومذاهب النقد في تحليل شاعرية أبي تمام والبحتري وإن كان الآمدي ينصر البحتري في مواقف كثيرة. والصلة بين الآمدي والقاضي أبي الحسن الجرجاني صاحب الوساطة م 392هـ كبيرة، اتفقا في كثير من الآراء في النقد والأدب والبيان، وكثيرا ما نرى أسلوبهما في شرح الأبيات واحدًا، أو متقاربا. على أن اتجاه الرجلين في النقد واحد أيضا، فاتجاه الجرجاني في نقد شعر المتنبي هو اتجاه الآمدي في نقد شعر الطائيين فهو يحصى ما أخذ على المتنبي من سرقات، وما أخذ عليه من أخطاء ترجع إلى التكلف والتعقيد، أو إلى الإفراط والمبالغة، أو إلى بعد الاستعارة وعدم وضوحها، أو غموض المعنى والتعثر في أدائه، أو إلى اللحن في الأداء والخطأ في التركيب، وهذا هو الاتجاه الذي اتجهه الآمدي في موازنته مع فوارق ضئيلة، وهو رجوع بالنقد إلى النهج العربي والذوق الأدبي دون ما عداهما، وكل ذلك يدلنا على وجود صلة أدبية بين الرجلين رغم تباين موطنيهما "البصرة وجرجان". ومن المرجح عندي أن صاحب الوساطة قد تأثر بالموازنة دون العكس، وأن الموازنة كانت خطوة أولى في النقد الادبي كعلم، ثم تلتها الوساطة كخطوة ثانية في مضماره يرشدنا إلى ذلك دراسة فن التأليف في كلا الكتابين، فالرقي التأليفي في كتاب الوساطة المتجلي في جمال عرضها وتهذيب تأليفها وحسن أسلوبها أكبر دليل على ما أذهب إليه، ويصعب علينا أن نفسر ما بين الرجلين من تقارب كثير بأنهما عاشا في عصر واحد وتثقفا بثقافة عصرهما المتحدة؛ فإن اختلاف بيئة الرجلين وحياتهما مما لا يجعل لذلك التفسير قوته ولا وجاهته. أثر الموازنة في كتب البيان: وأثر الموازنة في النقد، وكيف كانت أصلا عظيما من أصول الموازنة والنقد الأدبي أثر كبير، وكذلك كان الكتاب مرجعا لعلماء البيان، ومصدرا من مصادرهم العلمية:

أ- فعبد القاهر الجرجاني "م سنة 471" ينهج نهج صاحب الموازنة ويقتبس منه في الشرح الأدبي للنصوص، وينقل عنه كثيرا، ويستدل بآرائه في كتبه1، وقد ينقده أحيانا2. ب- وابن سنان الخفاجي "م سنة 466" يأخذ عنه كثيرًا، ويشيد بعلمه ورأيه ودقة نظره وسعة علمه في مواضع كثيرة من كتابه، وقد ينقده في بعض الأحيان، وقد يرد على من نقده كالمرتضي في أحيان أخرى، وسر الفصاحة للخفاجي أكبر شاهد عند من يطالعه على مدي تأثر صاحبهابعيد بالموازنة ومؤلفها، وعلي أن الموازنة كان مصدرا لابن سنان. جـ- وابن رشيق "م سنة 456" ينوه في عمدته بالموازنة أعظم تنويه2، وإن كان لم يتأثر به في بحوث البلاغة كثرا كما تأثر بقدامة بن جعفر وكتابه نقد الشعر. د- أما ابن الأثير "م سنة 637" فقد نوه في أول مثله السائر بالموازنة ككتاب بيان، وبصاحبها كعالم من علماء البيان. وعلي كل حال فأثر الموازنة في علم البيان لا يُجحد، وهو أظهر من أن يحتاج إلى دليل. البديع والبيان عند الآمدي: تكلم الآمدي على كثير من مباحث علم البيان وأصوله إجمالا وفرضا، وذلك حين كان يعرض لنقد بيت أو شرح معنى إلى غير ذلك، فلنعرض آراءه في البيان لنقف على قيمة الكتاب من هذه الناحية العلمية. أ- تكلم الآمدي "في ص6، 7" على نشأة البديع وتطوره، وكيف كان يقع نادرا في الشعر العربي عن غير عمد وكيف فطن المحدثون لجماله فطلبوه وتكلفوه وكيف بالغ أبو تمام في طلبه وتكلفه. ب- وتكلم على البلاغة وتحدث عنها وعن عناصرها في إيجاز، وأقامها على أساس الجمال اللفظي وسحر الأسلوب ورقة الطبع، وإيراد الألفاظ في مواضعها، وإيراد المعنى بالعبارة المألوفة فيه، مع السلامة من التكلف والهذر والإخلال، وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له وغير منافرة لمعانيها "181 موازنة"، وجعل صحة التأليف في الشعر والنثر

_ 1 329، 349 أسرار البلاغة 2 "425، 426" دلائل الإعجاز. 3 205 جـ1 عمدة.

أقوى عناصر البلاغة. واستدل على ذلك برأي الفلاسفة ورأي يزر جمهر الحكيم الفارسي في عناصر البلاغة: من صدق الكلام، ووقوعه موقع الانتفاع به، وأن يتكلم به في حينه، وأن يحسن تأليفه، وأن يستعمل منه مقدار الحاجة، ثم طبق الآمدي ذلك الرأي على الشعر "181-183 موازنة ". جـ- كما تكلم الآمدي على سوء النظم وفساد التعقيد، وعلي المعاظلة والحوشية في أكثر من موضع "ص125 موزانة". د - وتكلم على أسلوب القلب وحلل ما ورد منه، ورأى أن ما جاء على أسلوب القلب في القرآن صحيح لا قلب فيه وهو جارٍ على التأليف الصحيح، وعرض لما ورد منه في الشعر العربي فزعم أن بعضه لا قلب فيه، وأن الآخر قبيح في ذلك الأسلوب، ولم يجز القلب لمتأخر بحجة أن القلب إنما جاء في كلام العرب على السهو، والمتأخر وإن احتذاهم فلا ينبغي أن يهم فيما سهوا فيه، ويناقش رأي المبرد في جواز القلب للاختصار "96 و97 موازنة". فلنقف مع الآمدي وقفة قصيرة نناقشه وننقد رأيه. لقد جعل سبب القلب هو السهو ومن ثم لم يجزه المتأخر، ونحن لا نسلم له الأمرين جميعا، فليس صحيحا أن سبب القلب هو السهو، بل إن له سببا آخر غير ما ذكره وهو المبالغة في أداء المعنى وإظهار فضل كمال الأمر فيه، فقول أبي تمام: لعاب الأفاعي القاتلات لعابه مثلا، لم يكن هذا القلب فيه عن سهو ونسيان، إنما قصده أبو تمام وطلبه، والقلب في ذلك البيت هو سر روعته وجماله، وهو الذي أعطاك من المبالغة في المعنى ما لا يعطيك إياه لو جرى الكلام على سننه المألوف. وكيف أذن نمنع المتأخرين عنه والعرب قد استعملته لتؤدي به فضل المبالغة في المعنى على أكل وجه وأتمه، وإن ضل الشعراء أحيانا النهج الصحيح في القلب فأحالوا وأخطأوا. هـ- وحلل الأسلوب الذي يقع فيه المصدر نفسه وصفا الأسماء الذوات مثل هند الحسن كله. ودعد الجمال أجمعه "76 موازنة"، وتكلم على أسلوب التشبيه البليغ عرضًا في بعض المواضع "69، 72". و كما بحث المجاز المرسل وذكر بعض علاقاته وأفاض في ذكر أمثلته "15، 165". ز- وتكلم على الاستعارة حين كان بصدد بيان ما في شعر أبي تمام من قبيح الاستعارات "112-120 موازنة" فذكر قبيح استعاراته وبين سبب كثرتها في شعره بأنه احتذى القدماء فيما رآه من بعيد استعاراتهم اليسيرة حبا للإبداع "117" والإغراق، ولا شك أن هذا تعليل غريب،

فنحن لا نشك أن في شعر الرجل استعارات بعيدة غريبة على الذوق العربي، ولكنا نثق أن باعثها عند أبي تمام هو أنه كان في شغل بالمعاني والإغراق في استنباطها وتدقيق النظر في أجزائها وحواشيها والإلمام بأصولها، فكان كثيرا ما تجيء من أجل ذلك في شعره استعارات بعيدة المعنى لا يستسيغها الطبع المطبوع. ثم بين الآمدي النهج العربي في أسلوب الاستعارة وأن العرب إنما تستعير لمعنى ما ليس له إذا كان يقاربه أو يدانيه أو يشبهه في بعض أحواله، فتكون اللفظة المستعارة حينئذ لائقة بالشئ الذي استعيرت له وملائمة لمعناه "114 موازنة "، وهو بهذا يشرح الاستعارة ويبين الحد الفاصل بين جميلها وقبيحها، وقد ذكر الآمدي عقب ذلك نصوصا ونماذج يتجلى فيها النهج العربي في أسلوب الاستعارة شارحًا أسباب الجمال فيها بأسلوب تتجلى روحه في كتابة عبد القاهر فيها في كتابه دلائل الإعجاز. ومن المناسب أن نبحث رأي الآمدي في الاستعارة ونعرف ما فيه من تجديد: أهم شيء ذكره الآمدي عن الاستعارة هو أن للعرب نهجا خاصا في أسلوبها، وأنها تراعي قرب الشبه وظهور المشاكلة والمناسبة بين المستعار له ومنه، وأن على البليغ أن يحافظ على هذا النهج ولا يتعداه حتى تكون استعاراته جميلة غير قبيحة ومفهومة غير غامضة. وأساس هذه الفكرة قديم، فقد ورد في خطابة أرسطو: "أنه ينبغي إذا أراد الخطيب أن يستعير أن يأخذ الاستعارة من جنس مناسب لذلك الجنس مُحاكٍ َله غير بعيد منه ولا خارج عنه"1، ونقل هذه الفكرة قدامة في نقد الشعر، فتكلم على حسن الاستعارة وقبيحها وسبب الحسن والقبيح بما لا يخرج عن هذا الرأي3 ثم أخذها عنه الآمدي في موازنته2 حيث جعل جمال الاستعارة بقرب معناها من الحقيقة وأن بعد الاستعارة يجعلها قبيحة، وعلي نهج الآمدي سار صاحب الوساطة، فملاك الاستعارة عنده "تقريب الشبه ومناسبة المستعار له للمستعار منه4 وإنما تحسن بأن تجيء على وجه من المناسبة وطرف من الشبه والمقاربة"5، وعلى هذا مشى ابن رشيق6، وعبد القاهر7 وابن سنان الذي أخذ الفكرة ووافق.

_ 1 المقالة الرابعة من الفن الثامن - الشفاء. 2 "104-106" نقد الشعر. 3 "114". 4 "43 وساطة". 5 "324 وساطة". 6 240 جـ1 عمدة. 7 أسرار البلاغة

عليها وإن كان قد ضم إليها شطرا آخر وهو ألا تكون الاستعارة مبنية على غيرها، فقد قرأ في المقالة الرابعة من الفن الثامن من كتاب الشفاء عن أرسطو ما نصه: "أما الاستعارة فيجب أن تكون غير كثيرة التداخل وهو أن "تدخل الاستعارة في الاستعارة" فضم هذا إلى الفكرة، وأوجب في الاستعارة أن تكون قريبة من الحقيقة وغير مبنية على استعارة أخرى، وبهذا يتم حسنها وإلا كانت قبيحة، فالاستعارة القبيحة عنده نوعان: استعارة بعيدة عن الحقيقة واستعارة مبنية على أخرى، ولذلك جعل ابن سنان بيت امرئ القيس: فقلت له لما تمطي بصلبه ... إلخ" ليس من جيد الاستعارات بل من وسطها1 لأن الاستعارة فيه مبنية على استعارة أخرى، وهو لذلك ينقد الآمدي الذي استحسن هذه الاستعارة، وماذا على ابن سنان لو ترك هذا القيد الثاني الذي اقتبسه من سواه؟ ولكنه عرض نفسه لنقد لاذع من رجل كابن الأثير2، وإن كان ابن الأثير يخلط في رده عليه الإساءة بالإحسان، كما فعل ابن سنان حين نقد رأي الآمدي في بيت امرئ القيس. وبعد فماذا يريد الآمدي من كلمة استعارة؟ يطلق الآمدي هذه الكلمة مريدا في بعض الأحيان مجرد معناها اللغوي، وهو مطلق النقل لا لعلاقة التشبيه3 وهو بذلك يجاري أهل اللغة فيها، ولكنه حين يذكرها في معرض الكلام العلمي يريد منها معناها الاصطلاحي الخاص المعروف4، ولكن الآمدي يجعل من الاستعارة الآية الكريمة: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَاب} ويقول في شرح الاستعارة فيها: لما كان الضرب بالسوط من العذاب استعير للعذاب سوط5، وذلك عند المتأخرين من المجاز المرسل. ح- وتكلم الآمدي على الجناس وعرفه بأنه ما اشتق بعضه من بعضه، وذكر نماذج له من الشعر العربي وأن أبا تمام احتذى هذه الأمثلة فأتى بالجيد والساقط من الجناس "120-123 موازنة.

_ 1 "114" سر الفصاحة. 2 "149، 150" مثل سائر 3 "169 س4 و5 موازنة". 4 راجع 349 أسرار البلاغة. 5 "115 موازنة" طبع صبيح.

ط- وتكلم على الطباق فذكر حقيقته وحده وبعض ما وقع لأبي تمام من جيده ورديئه، ونقد رأي قدامة في تسمية الطباق تكافؤ وفي خلطه بين الجناس والطباق "123 و124 موازنة". ي- كما تكلم على السرقات الشعرية وأنها لا تكون إلا في المعاني الخاصية وفي البديع المخترع منها مما يظهر فيه فضل شاعر على شاعر، لا في المعاني العامية التي هي مشتركة بين الناس "149 موازنة". هذه خلاصة لأهم آراء الآمدي في البيان، وبالإطلاع عليها نرى أن الآمدي كان له ولكتابه الأثر البليغ في البيان العربي.

كلمات الأساتذة

كلمات الاساتذة: الإيضاح في علوم البلاغة للخطيب القزويني "666-739": كتاب الخطيب: "الإيضاح" أهم كتب البلاغة، وأحفلها بالبحوث والدارسات والآراء والمذاهب. وهو فوق ذلك أمثل كتب البلاغة أسلوبا، وأجملها بيانا، وأوفاها بحثا، وقد جمع فيه المؤلف كثيرا من آراء ونظريات المتقدمين في البلاغة، وخاصة: عبد القاهر الجرجاني أمام البلاغة م 741هـ، والسكاكي فيلسوفها المتوفى عام 626هـ. وكتاب الإيضاح هو الكتاب الدراسي المقرر في شتى كليات اللغة والأدب في الشرق العربي. وقد قام الأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي بعمل جليل، وهو شرح الكتاب شرحا جديدا صافيا، في ستة أجزاء كبيرة. وقد حرص في شرحه على تلخيص آراء المتقدمين وتوضحيها ودراستها ونقدها. وأعظم عمل في هذا الكتاب فوق ذلك هو ذكر جميع المصادر والمراجع وشرح الشواهد وذكر مصادرها وموضع الشاهد فيها فوق ما فيه من تحقيقات علمية واسعة وتعليقات في غاية الأهمية لعلماء البلاغة ودارسيها وفي آخر كل جزء من أجزاء هذا الشرح بحوث إضافية ودراسات جديدة في البلاغة ومؤلفاتها وعلمائها، مما لم يسبق إليه أحد. عبد الله الشربيني. الأستاذ بكلية اللغة العربية.

الإيضاح في البلاغة: أهدى إلى صفي الصبا، وصديق الشباب، وعضد الكهولة والشيخوخة أن شاء الله، فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبد المنعم خفاجي فيما أهدى إلي من كتبه النفيسة شرحه القيم للإيضاح، فوجدته كجميع كتبه صورة بينه لهذه النفس الفاصلة التي أعرف من مواهبها العلمية أو الأدبية في أكثر من عشرين عاما ما لا يعرف كثير من الناس وهي تبدو لنظارها في مظهرين: أولهما راجع إلى عبارته التأليفية، والثاني إلى مداركه العقلية والعلمية. أما الأول فآيته هذه البساطة الآخذه بسياق لفظه، المشرقة بوضوح أسلوبه واتساق نظمه، إلى حد يقرب البعيد ويوضح الغامض ويهون المصاعب ويحل المشاكل، مما ينبئ عن ملكة مسيطرة آخذه بعنان الكلم مهيمنة على ضروب القول وجأش رابط، وجنان ثابت جريء على ما يقتحم من مفاوز وما يعالج من معضلات. وأما الثاني فآيته هو هذا العجب العجاب الآخذ بمجامع الأفئدة والألباب من هذه الحافظة الواعية والذاكرة اليقظة التي جمعت الأخبار والآثار إلى المذاهب والأفكار إلى التحصيل والنقد والابتكار جميعًا، لا يزال يتزايد وينمو وينتظم ويتسق إلى الحد الذي جعله لا يجد ما يجده كثير من محاولي التأليف من وعورة التأليف ومشقة التوضيح والتلخيص، ومما جعله آية من آيات المواهب الإلهية العليا وسبحان الفتاح العليم الذي يهب بفضله ما يشاء لمن يشاء. محمود فرج العقدة. الأستاذ في كلية اللغة العربية.

فهرست الجزء الثالث

فهرست الجزء الثالث: الموضوع الصفحة الكلمة الأولى 3 أسلوب القصر 4 أسلوب الإنشاء 33 أسلوب الوصل والفصل 93 الجامع بين الجملتين 132 الجملة الحالية 141 الإيجاز والإطناب والمساواة 167 مصادر البلاغة 225 الموازنة للآمدي 228 كلمات الأساتذة 234، 235

§1/1