الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين

أبو البركات الأنباري

المجلد الأول

المجلد الأول مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، الذي بعثه الله بالحنِيفِيّة الواضحة والدين القويم، فهدى الناس من الضلالة وبصَّرهم من العمى وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وعلى آله مصابيح الظلام وهُداة الأنام، وصَحْبه القادة المَغَاوير أولي الآراء الراجحة والحجج الواضحة والمنهاج المستقيم، وعلى من سلك طريقه واقتفى أثره وتبع سنّته إلى يوم الدين. وأما بعد؛ فإني منذ أكثر من خمسة عشر عامًا كنت قد عُنِيتُ بتخريج كتاب"الإنصاف، في مسائل الخلاف، بين النحويين البصريين والكوفيين" الذي صنفه الإمام الحجة والعالم الثبت كمال الدين أبو البركات عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد، الأنباري، النحوي، المولود في سنة 531، والمتوفى في سنة 577 من الهجرة، بعد أن قرأت بعض مسائله لأبنائي من طلبة الدراسات العليا في كلية اللغة العربية إحدى كليات الجامع الأزهر، وعَلَّقت عليه تعليقات ذات شأن، ثم رأيت أن أذيع الكتاب مع شرحي عليه الذي أسميته "الانتصاف من الإنصاف" ليكون بين يَدَي قرّاء العربية "كتاب لطيف، يشتمل على مشاهير المسائل الخلافية بين نحويِّي البصرة والكوفة، على ترتيب المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة"1، وكان أن قدّمت الكتاب للنشر، ولكن أزمة الورق في أعقاب الحرب العالمية الثانية وقفت حائلًا منيعًا بين نشر الكتاب مع شرحي عليه، وكنت بين اثنتين: إما أن أنشر الكتاب وحده وأترك شرحي الذي كَابَدْت فيه ما لا يعلمه إلا الله من الجهد والعناء، وإما أن أتركهما جميعًا حتى يأذن الله بنشرهما معًا، وترددت كثيرًا فيما عسى أن أختار من هاتين الخلّتين، وصحّ العزم آخر الأمر على أن أرضى بنشر كتاب "الإنصاف" غُفْلًا مما كتبته عليه؛ رغبة في أن يعرفه قرّاء العربية ويَرَوْا أنه من أفضل ما صنّف علماؤنا في فنون العربية، فيُقْبِلوا عليه ويرتاحوا له. وظهر الكتاب كما

_ 1 من كلام مؤلف "الإنصاف" في وصف كتابه.

أراد الناشرون، فإذا أماثل العلماء يَرْضَوْنَ عنه ويجدون فيه طلبة طالما تاقت إليها أنفسهم، وإذا هم يقبلون على قراءته ويستنجزون الوعد بإخراج "الانتصاف" معه. وهأنذا أعود إلى أوراقي التي كنت كتبتها يومئذ فأختار منها ما لا أجد مناصًا من إذاعته مما يؤيّد رأيًا أو يدفع رأيًا، ومما يشرح شاهدًا أو يذكر شاهدًا من أشباه ما ذكره المؤلف وأمثاله، أو مما يقوي حجَّته ويؤيدها، أو مما يقع حجة للخصم الآخر عليه، أو مما يوجّه الشاهد على غير ما رآه، ونحو ذلك مما ستقف عليه إن شاء الله تعالى، وقد تركت كثيرًا مما كنت أعددته وقت القراءة الأولى مخافة الملَال والسَّأم، ولعلِّي عائد إلى هذا الذي تركته اليوم فباسطٌ فيه القول وناشره، والله المسئول أن يوفّق إلى ذلك ويهيئ له أسبابه، ويدفع عنه موانعه، إنه ولي الإجابة، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. وقد وضعت لكل مسألة عنوانًا وجعلته بين قوسين معقوفين هكذا [] . اللهم إنك تعلم ما نخفي وما نعلن، وما يخفى عليك شيء في الأرض ولا في السماء، ربّ اجعلني ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، ربّ اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، ربّ تقبل مني واقبلني، وتجاوز عني، إنك أنت البرّ الرءوف الرحيم؟ كتبه المعتز بالله محمد محيي الدين عبد الحميد

بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الإمام، العالم، الزاهد، كما الدين عبد الرحمن بن أبي سعيد الأنباري وفّقه الله: الحمد لله الملك الحق المبين، والصلاة [والسلام] على صفوته النبي العربي المبعوث بالدين المتين، وعلى آله وأصحابه وعِتْرَتِه البررة المتقين. وبعد؛ فإن جماعة من الفقهاء المتأدّبين، والأدباء المتفقّهين، المشتغلين عليّ بعلم العربية، بالمدرسة النِّظامية – عَمَرَ الله مبانيها! ورحم الله بانيها! سألوني أن ألخص لهم كتابًا لطيفًا، يشتمل على مشاهير المسائل الخلافية بين نحويي البصرة والكوفة، على ترتيب المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة؛ ليكون أول كتاب1 صُنّف في علم العربية على هذا الترتيب، وأُلِّف على هذا الأسلوب؛ لأنه ترتيب لم يصنف عليه أحد من السلف، ولا ألف عليه أحد من الخلف. فتوَخَّيْتُ2 إجابتهم على وَفْقِ مسألتهم، وتَحَرَّيت إسعافهم لتحقيق طَلِبَتِهم؛ وفتحت في ذلك الطرق، وذكرت من مذهب كل فريق ما اعتمد عليه أهل التحقيق، واعتمدت في النصرة على ما أذهب إليه من مذهب أهل الكوفة أو البصرة على سبيل الإنصاف، لا التّعصّب والإسراف، مستجيرًا بالله، مستخيرًا له فيما قصدتُ إليه؛ فالله تعالى ينفع به؛ إنه قريب مجيب.

_ 1 يذكر لنا التاريخ أن أبا جعفر النحاس المصري، تلميذ الأخفش الصغير وأبي العباس المبرد والزجاج، والمتوفى سنة 338 "أي قبل مولد المؤلف بنحو 165 عامًا" قد ألف كتابًا في اختلاف البصريين والكوفيين، وسماه" المبهج" ولعل المؤلف لم يطلع عليه، ولم يسمع به. 2 توخيت: قصدت.

مسألة الاختلاف في أصل اشتقاق الاسم

1- مسألة: [الاختلاف في أصل اشتقاق الاسم] 1 ذهب الكوفيون إلى أن الاسم مشتق من الوَسْم وهو العلامة وذهب البصريون إلى أنه مشتق من السُّمُوِّ وهو العُلُوّ. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه مشتق من الوَسْم لأن الوَسْم في اللغة هو العلامة، والاسم وَسْمٌ على المسمى، فصار كالوسم عليه؟ فلهذا قلنا: إنه مشتق من الوَسْمِ، ولذلك قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: الاسم سمةٌ تُوضَع على الشيء يعرف بها. والأصل في اسم وسم، إلا أنه حذفت منه الفاء التي هي الواو في وَسْم، وزيدت الهمزة في أوله عِوَضًا عن المحذوف، ووزنه إِعْلٌ؛ لحذف الفاء منه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه مشتق من السُّمُوِّ لأن السُّمُوَّ في اللغة هو العلو، يقال: سما يَسْمُو سُمُوًّا، إذا علا، ومنه سمّيت السماء سماء لعلوّها، والاسم يَعْلُو على المسمّى، ويدل على ما تحته من المعنى، ولذلك قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرِّد: الاسم ما دلَّ على مسمّى تحته، وهذا القول كافٍ في الاشتقاق، لا في التّحديد، فلمّا سَمَا الاسم على مُسمّاه وعَلَا على ما تحته من معناه دلَّ على أنه مشتقُّ من السُّمُوِّ، لا من الوَسْمِ. ومنهم من تمسك بأن قال: إنما قلنا إنه مشتق من السمو وذلك لأن هذه الثلاثَةَ أقسام2، التي هي الاسم والفعل والحرف لها ثلاثُ مراتب؛ فمنها ما

_ 1 انظر في هذه المسألة: لسان العرب "س م و" وشرح موفق الدين بن يعيش على مفصل الزمخشري "ص26 ط أوروبة" وكتاب "أسرار العربية" لصاحب الإنصاف "ص3 ليدن" وأوضح المسالك لابن هشام "شرح الشاهد رقم 5 بتحقيقنا". 2 اقرأ كلمة "الثلاثة" بالنصب على أنها بدل من اسم الإشارة، واقرأ كلمة "الأقسام" بالنصب أيضًا على أنها بدل من الثلاثة، ولا تضف الثلاثة إلى الأقسام كما كنت تضيف لو قلت "ثلاثة الأقسام" فإن إضافة اسم العدد المقترن بأل إلى المعدود المقترن بها أيضًا مذهب كوفي يرى المحققون من النحاة أنه بمعزل عن السماع والقياس.

يُخْبَر به ويُخْبَر عنه وهو الاسم نحو" اللهُ ربُّنا، ومحمدٌ نبيُّنا" وما أشبه ذلك، فأخبرتَ بالاسم وعنه، ومنها ما يُخْبَر به ولا يُخْبَر عنه، وهو الفعل، نحو "ذهب زيد، وانطلق عمرو" وما أشبه ذلك، فأخبرت بالفعل، ولو أخبرت عنه فقلت "ذهب ضرب، وانطلق كتب" لم يكن كلامًا؛ ومنها ما لا يخبر به ولا يخبر عنه، وهو الحرف، نحو "من، ولن، وبل" وما أشبه ذلك؛ فلما كان الاسم يخبر به ويخبر عنه، والفعل يخبر به ولا يخبر عنه، والحرف لا يخبر به ولا يخبر عنه، فقد سما [الاسم] على الفعل والحرف: أي عَلَا، فدلَّ على أنه من السُّمُوِّ والأصل فيه سِمْوٌ على وزن فِعْلٍ1 – بكسر الفاء سكون العين– فحذف اللام التي هي الواو وجعلت الهمزة عوضًا عنها، ووزنه إِفْعٌ؛ لحذف اللام منه. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: قولهم "إنما قلنا إنه مشتق من الوَسْم لأن الوَسْم في اللغة العلامة، والاسم وَسْمٌ على المسمَّى وعلامة عليه يعرف به" قلنا: هذا وكان صحيحًا من جهة المعنى إلا أنه فاسد من جهة اللفظ، وهذه الصناعة لفظية، فلا بدَّ فيها من مراعاة اللفظ. ووجه فساده من جهة اللفظ من خمسة أوجه: الوجه الأول: أنَّا أجمعنا على أن الهمزة في أوله همزة التعويض، وهمزة التعويض إنما تقع تعويضًا عن حذف اللام، لا عن حذف الفاء2، ألا ترى أنهم

_ 1 اعلم أولًا أن العرب قد قالوا "اسم" بكسر همزة الوصل وبضمها أيضًا، وقالوا "سم" بكسر السين وضمها أيضًا وجعل حركات الإعراب على الميم، وقالوا "سما" مقصورًا على مثال هدى وتقى وضحى، وستأتي هذه اللغات مع الشواهد التي ساقها المؤلف، ثم اعلم أن النحاة قد اختلفوا في وزن "سمو" على مذهب البصريين؛ فمنهم من قال: أصله سمو -بكسر السين وسكون الميم- ونظيره من الصحيح حمل وجذع، ومن المعتلّ قنو، فمن حذف الواو ولم يعوّض من المحذوف شيئًا أبقى السين على كسرتها التي كانت لها، ومن حذف الواو وعوّض من المحذوف همزة الوصل ألقى كسرة السين على الهمزة فصارت السين ساكنة، ومنهم من قال: أصله سمو-بضم السين وسكون الميم- ونظيره من الصحيح قُفْل وقُرْط، ومن المعتل عُضْو، فمن حذف الواو ولم يعوّض أبقى ضمه السين على حالها، ومن حذف الواو وعوض منها همزة الوصل ألقى ضمة السين على الهمزة، ثم اعلم أن جمع الاسم على "أسماء" لا يقوي أحد هذين الرأيين ولا يرشحه، وذلك لأن أفعالًا من أوزان الجموع يكون لفعل المكسور أوله الساكن ثانيه كما يكون لفعل المضموم أوله الساكن ثانيه الصحيح والمعتل في ذلك سواء، فأنت تقول: أحمال، وأجذاع، وأقناء، وأقفال، وأقراط، وأعضاء. 2 اعلم أولًا أن العرب قد حذفوا فاء الكلمة أحيانًا، وحذفوا لام الكلمة أحيانا أخرى، وأن هذا الحذف قد يكون لعلّة تصريفية، وقد يكون اعتباطًا لا لعلّة تصريفية اقتضته ولا لسبب أوجبه إلا مجرد التخفيف، وأنهم قد يحذفون ويعوضون من المحذوف شيئًا، وقد يحذفون ولا يعوضون من المحذوف شيئًا أصلًا، فأما المحذوف لعلّة تصريفية فلا نريد أن نتعرض له لأنه مبين في كتب التصريف بعلله وأسبابه التي اقتضته، وأما الحذف لغير علّة تصريفية استوجبته فهو موضوع حديثنا =

لما حذفوا اللام التي هي الواو من بَنَوٍ عوَّضوا عنها الهمزة في أوله فقالوا: ابْنٌ، ولما حذفوا الفاء التي هي الواو من وِعْدٍ لم يعوِّضوا عنها الهمزة في أوله فلم يقولوا إِعْدٌ، وإنما عوضوا عنها الهاء في آخره فقالوا: عِدَة؛ لأن القياس فيما حُذِفَ منه لامُه أن يُعَوَّض بالهمزة في أوله، وفيما حذف منه فاؤه أن يعوض بالهاء في آخره، والذي يدل على صحة ذلك أنه لا يوجد في كلامهم ما حذف فاؤه وعوِّض بالهمزة في أوله، كما لا يوجد في كلامهم ما حذف لامه وعُوِّض بالهاء في آخره1، فلما وجدنا في أول "اسم" همزة التعويض علمنا أنه محذوف اللام، لا محذوف الفاء؛ لأن حمله على ما له نظير أولى من حمله على ما ليس له نظير؛ فدلَّ على أنه مشتق من السُّمُوِّ لا من الوَسْم.

_ = الآن؛ إذ كانت كلمة "اسم" من هذا النوع، فنقول: أما حذف الفاء لغير علة مع عدم التعويض عنها فنحو "سم" على مذهب الكوفيين الذين يقولون إن أصله "وسم" فحذفت الواو التي هي فاء الكلمة بدون علة اقتضت هذا الحذف ولم يعوض من هذا المحذوف شيء أصلًا، وأما حذف الفاء من غير علّة تصريفيّة مع التعويض عنها فنحو "اسم" على مذهب الكوفيين أيضًا، فقد حذفت الواو التي هي فاء الكلمة وعوض عنها همزة الوصل في مكانها، ونحو "لدة" للترب المساوي في السن فإن أصله ولد بدليل أنه من الولادة، و"حشة" اسم للأرض الموحشة التي لا أنيس فيها فإن أصله من الوحش، و "رقة" اسم للفضة فإن أصله واوي الفاء بدليل الورق بفتح الواو وكسر الراء بمعناه، ونحوه "جهة" اسم للمكان الذي تتوجه إليه، فإن الاشتقاق يدل على أن أصله من واوي الفاء نحو الوجهة والتوجه وتوجهت تلقاء كذا، وما أشبه ذلك. وأما ما حذفت لامه اعتباطًا ولم يعوض منها شيء فنحو غد، ويد، ودم، وأب، وأخ، وحم، ومنه "سم" عند البصريين الذين يقولون: إن أصله "سمو" فحذفت الواو ولم يعوض منها شيء، وأما ما حذفت لامه اعتباطًا وعوض منها شيء فنحو "اسم" عند البصريين أيضًا؛ فقد حذفت لامه وهو الواو وعوض منها همزة الوصل، ونظيره "ابن" فإن أصله "بنو" فحذفت لامه اعتباطًا وعوض منها همزة الوصل، ومن ذلك "سنة" و "شفة" و "عزة" و "ثبة" و "كرة" و "عضة" و "ثبة" و "إرة" وأخواتها، فقد حذفت لامات هذه الكلمات وعوض من هذه اللام تاء التأنيث في مكان المحذوف. وإنما بسطنا لك هذا الموضوع لتعلم أنه ليس هناك ضابط لا ينخرم للحذف والتعويض، ثم نقول: حاصل الوجه الأول مما رد به المؤلف على ما ذهب إليه الكوفيون أنه إذا عوض حرف من حرف لزم أن يكون حرف العوض في غير مكان الحرف المعوض منه، وللكوفيين أن يمنعوا ذلك، وأن يقولوا: لا، بل يجوز الأمران جميعًا: أن يكون العوض في مكان المعوض منه، وأن يكون حرف العوض في غير مكان الحرف المعوض منه، وقد عرفت أمثلة ذلك في محذوف الفاء وفي محذوف اللام، كما عرفت فساد قول المؤلف "كما لا يوجد في كلامهم ما حذف لامه وعوض بالهاء في آخره". 1 قد علمت أنه وجد في كلامهم ما حذف لامه وعوض بالهاء في آخره، وذلك مثل: عزة، وعضة، وإرة بكسر أوائلهنَّ وفتح ثانيهنَّ مخففًا ومثل: كرة، وقلة، وثبة بضم أوئلهنَّ وفتح ثانيهنَّ مخففًا ومثل: سنة، وشفة بفتح أولهما وثانيهما كما وجد في كلامهم ما حذفت فاؤه وعوض منها التاء في آخره نحو لدة ورقة وحشة وجهة من أسماء الأعيان، ونحو عدة وزنه وهبة وصفة وجدة من المصادر.

والوجه الثاني: أنك تقول "أسْمَيتُه" ولو كان مشتقًّا من الوَسْم لوجب أن تقول "وَسَمْتُه" فلما لم تقل إلا "أسميت" دلَّ على أنه من السُّمُوِّ، وكان الأصل فيه "أَسْمَوتُ"1، إلا أن الواو التي هي اللام لما وقعت رابعة قلبت ياء، كما قالوا: أَعْلَيْتُ، وأدعيت، والأصل: أعلوت، وأدعوت، إلا أنه لما وقعت الواو رابعة قلبت ياء، فكذلك ها هنا. وإنما وجب أن تُقْلَب الواو ياء رابعة من هذا النحو حَمْلًا للماضي على المضارع، والمضارع يجب قلب الواو فيه ياء نحو "يُعْلِي، ويُدْعِي، ويُمْسِي" والأصل فيه "يُعْلِوْ، ويُدْعِوْ، ويُسْمِوْ" وإنما وجب قلبها ياءً في المضارع لوقوعها ساكنة مكسورًا2 ما قبلها؛ لأن الواو متى وقعت ساكنة مكسورًا ما قبلها وجب قلبها ياء، ألا ترى أنهم قالوا: ميقات، وميعاد، وميزان، والأصل: مِوْقَات، ومِوْعَاد، ومِوْزَان؛ لأنه من الوَقْت، والوَعْد، والوَزْن؛ إلا أنه لما وقعت الواو ساكنة مكسورًا ما قبلها وجب قلبها ياء؛ فكذلك ها هنا. وإنما حملوا الماضي على المضارع مراعاة لما بَنَوْا عليه كلامهم من اعتبار حكم المشاكلة، والمحافظة على أن تجري الأبواب على سَنَن واحدة، ألا ترى أنهم حملوا المضارع على الماضي إذا اتصل به ضمير جماعة النسوة نحو

_ 1 للكوفيين أن يدعوا أن هذه الكلمة قد حصل فيها قلب مكاني، وأنهم قالوا أول الأمر "أوسمت" على وزن أفعلت، ثم نقلوا الواو التي هي فاء الكلمة إلى موضع اللام فقالوا "أسموت" على وزن أعلفت، ثم قلبوا هذه الواو -بعد أن صارت في آخر الكلمة- ياء فصارت "أسميت" وبهذه الطريقة نفسها يجيبون عن الوجوه الآتية الثالث والرابع والخامس، وقد تنبه موفق الدين بن يعيش إلى ذلك فقال "فإن أدعى القلب فليس ذلك بالسهل؛ فلا يصار إليه وعنه مندوحة" ا. هـ. 2 في كلام المؤلف ما يدل على أنه يشترط لقلب الواو ياء أن تكون هذه الواو ساكنة، وليس ذلك بمستقيم على إطلاقه؛ فإن الواو المتطرفة -أي الواقعة في آخر الكلمة- تنقلب ياء إذا انكسر ما قبلها، مطلقًا، أي سواء أكانت ساكنة أم متحركة بل هي لا تكون ساكنة في آخر الكلمة إلا لعارض لا دخل له في قلبها؛ وذلك، من قبل أن آخر الكلم المتمكنة هو محل الإعراب، وانظر إلى قولهم "رضي" وهو فعل ماضٍ من الرضوان، فإن أصل يائه واو مفتوحة، وانظر إلى قولهم "غزى" و"دعى" بالبناء للمفعول؛ فإن أصل يائهما الواو، بدليل قولهم: دعاه يدعوه، وغزاه يغزوه، وقد انقلبت واوهما ياء لمجرد كونها طرفًا مكسورًا ما قبلها، ثم انظر بعد ذلك إلى قولهم "الداعي، والغازي، والراضي" فإنك ستجد أن أصل هذه الياءات واو، بدليل الاشتقاق الذي أشرنا إليه، وقد انقلبت الواو في الكلمات الثلاث ياء لوقوعها في آخر الكلمة وكسر ما قبلها وأما سكون هذه الكلمات في حالة الرفع وحالة الجر فلعله أخرى، وهي استثقال الضمة والكسرة على الواو والياء، والذي يؤكد لك ذلك أن هذه الواوات تقلب ياء في حالة النصب أيضًا مع ظهور الفتحة على الواو، وعلى الياء. وإنما يشترط سكون الواو مع انكسار ما قبلها لقلبها ياء إذا كانت في وسط الكلمة نحو ميعاد وميقات وميزان، وقد بين المؤلف أصل هذه الكلمات.

"تَضْرِبْنَ" وحذفوا الهمزة من أخوات "أُكْرِمُ" نحو "نُكْرِم، وتُكْرِم، ويُكْرِم" والأصل فيه "نُؤَكْرِم، وتُؤَكْرِم، ويُؤَكْرِم" كما قال: [1] فإنه أهل لأن يُؤَكْرَما حملًا على أُكْرِم وإنما حذفت إحدى الهمزتين من"أُكرم" لأن الأصل فيه "أُأَكْرِم" فلما اجتمع فيه همزتان كرهوا اجتماعهما؛ فحذفوا إحداهما تخفيفًا، ثم حملوا سائر أخواتها عليها في الحذف، وكذلك حذفوا الواو من أخوات يَعِدُ، نحو "أَعِدُ، ونَعِدُ، وتَعِدُ" والأصل فيها: "أَوْعِد، ونَوْعِد، وتَوْعِد، حملًا على يَعِد، وإنما حذفت الواو من"يعد" لوقوعها بين1 ياء وكسرة ثم حملوا سائر أخواتها عليها

_ [1] هذا البيت من الرجز المشطور، وهو لأبي حيّان الفقعسي، ومع كثرة ترديد النحاة وأهل اللغة لهذا الشاهد فإني لم أقف له على سوابق أو لواحق، وقد استشهد به ابن هشام في أوضحه"رقم 580" والأشموني "رقم 1252" وأنظره في اللسان أيضًا "ك ر م" وقوله "أهل" معناه مستحق وذو أهلية، و "يؤكرم" بالبناء للمجهول، وأراد يكرم. والشاهد فيه قوله "يؤكرم" فإن هذه الكلمة قد جاءت على الأصل الأصيل، لكنها مخالفة للاستعمال المُتْلَئِب، لأنهم يحذفون الهمزة من مضارع أفعل كأكرم وأورد وأوفى وذلك لأنهم استثقلوا وجود همزتين متواليتين في أول الكلمة في قولهم "أأكرم" وحملوا "نؤكرم" و "تؤكرم" و"يؤكرم" على المبدوء بهمزة المضارعة قصدًا إلى التجانس ومعاملة للأشباه معاملة واحدة، وإن لم يكن في المبدوء بالنون والياء والتاء من الثقل مثل ما في المبدوء بالهمزة، وقد عاود هذا الراجز الأصل المهجور حين اضطر لإقامة الوزن، ونظيره قول خطام المجاشعي، وانظره في اللسان "ث ف ى": لم يبقَ منْ آي بها يُحَلَّيْن" ... غيرُ خِطَامٍ ورمادٍ كِنْفَيْنِ وصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤَثْفَيْن

في الحذف، كلُّ ذلك لتحصيل التشاكل والفرار من نَفْرة الاختلاف، فكذلك ههنا حملوا الماضي على المضارع، وبل أولى، وذلك لأن مراعاة المشاكلة بالقلب أَقْيَسُ من مراعاة المشاكلة بالحذف؛ لأن القلب تغيير يعرض في نفس الحرف، والحذف إسقاط لأصل الحرف، والإسقاط في باب التغيير أتمُّ من القلب، فإذا جاز أن يُرَاعُوا المشاكلة بالحذف فبالقلب أولى. وأما قلب الواو ياء في الماضي في نحو "تغازَيْتُ، وترجَّيبت" وإن لم تقلب ياء في المضارع لأن الأصل في تغازيت: غازيت، وفي ترجَّيت: رجَّيت، فزيدت التاء فيهما لتدلَّ على المطاوعة، وغازيت ورجَّيت يجب قلب الواو فيهما ياء في المضارع، ألا ترى أنك تقول في المضارع: أُغَازِي، وأُرَجِّي، فكذلك في الماضي، وإذا لزم هذا القلب قبل الزيادة في "غازيت أغازي، ورجَّيت أرجِّي" فكذلك بعد الزيادة في تغازيت وترجَّيتُ، حملًا لتغازيت على غازيت، وترجَّيتُ على رجَّيت، مراعاة للتشاكل، وفرارًا من نفرة الاختلاف. والوجه الثالث: أنك تقول في تصغيره "سُمَيّ" ولو كان مشتقّا من الوَسْم لكان يجب أن تقول في تصغيره "وُسَيْم" كما يجب أن تقول في تصغير زِنَة: وُزَيْنَة، وفي تصغير عِدَة: وُعَيْدَة؛ لأن التصغير يردُّ الأشياء إلى أصولها، فلما لم يجز أن يقال إلا سُمَي دلَّ على أنه مشتق من السُّمُوّ، لا من الوَسْمِ. والأصل في سُمَيّ: سُمَيْو، إلا أنه لما اجتمعت الياء والواو والسابق منهما ساكن قلبوا الواو ياء، وجعلوهما ياء مشدّدة، كما قالوا: سيِّد وجيِّد وهيِّن وميِّت. والأصل فيه: سَيْود وجَيْود وهَيْون ومَيْوِت؛ لأنه من السودد والجودة والهوان والموت، إلا أنه لما اجتمعت الياء والواو والسابق منهما ساكن قلبوا الواو ياء، وجعلوهما ياء مشددة، وكذلك أيضًا قالوا: طَوَيْتُ طَيًّا، ولَوَيَتُ لَيًّا، وشَوَيَتُ شَيًّا، والأصل فيه: طَوْيًا ولَوْيًا وشَوْيًا، إلا أنه لما اجتمعت الواو والياء والسابق منهما ساكن قلبوا الواو ياء، وجعلوهما ياء مشددة، وإنما وجب قلب الواو إلى الياء دون قلب الياء إلى الواو لأن الياء أَخْفُّ من الواو؛ فلما وجب قلب أحدهما إلى الآخر كان قلبُ الأثْقَلِ إلى الأخفِّ من قلب الأخَفِّ إلى الأثقل. والوجه الرابع: أنك تقول في تكسير "أَسْمَاء1" ولو كان مشتقًّا من الوَسْمِ

_ 1 وقد جمعوا "أسماء" على "أساميّ" بتشديد الياء وأصله على مذهب البصريين "أساميو" مثل قراطيس وعصافير، أما الياء فهي منقلبة عن حرف اللين الذي هو الألف في أسماء وقرطاس والواو في عصفور، وما الواو فهي لام الكلمة على مذهبهم، فلما اجتمعت الواو والياء في كلمة واحدة وكان السابق منهما ساكنًا قلبوا الواو ياء ثم أدغموا الياء في الياء، وربما حذفوا الياء المنقلبة عن حرف اللين وأبقوا الواو فانقلبت ياء لتطرفها إثر كسرة فقالوا "الأسامي" وتحذف هذه الياء الخفيفة في حالتي الرفع والجر، ومن ذلك قول الشاعر: ولنا أسام ما تليق بغيرنا ... ومشاهد تهتل حين ترانا

لوجب أن تقول: أوسام، وأواسيم؛ فلما لم يجز أن يقال إلا أسماء دلَّ على أنه مشتقّ من السُّمُوِّ، لا من الوَسْمِ. والأصل في أسْمَاء أسْمَاو، إلا أنه لما وقعت الواو طرفًا وقبلها ألف زائد قلبت همزة كما قالوا: سَمَاء، وكَسَاء، ورَجَاء، ونَجَاء. والأصل فيه: سماو، وكساو، ورجاو، ونجاو؛ لقولهم: سَمَوْت وكَسَوْت ورَجَوْت ونَجَوْت، إلا أنه لما وقعت الواو طرفًا وقبلها ألف زائدة قلبت همزة. ومنهم من قال1: إنما قلبت ألفًا لأن الألف التي قبلها لما كانت ساكنة خفية زائدة -والحرف الساكن حاجزٌ غيرُ حصين- لم يعتدُّوا بها، فقدُّروا أن الفتحة التي قبل الألف قد وليت الواو2 وهي متحركة، والواو متى تحركت وانفتح ما قبلها وجب أن تقلب ألفًا، ألا ترى أنهم قالوا: سَمَا، وعَلَا، ودَعَا، وغَزَا، والأصل فيها سَمَوَ وعَلَوَ ودَعَوَ وغَزَوَ؛ لقولهم: سَمَوْت وعَلَوْت ودَعَوْت وغَزَوْت، إلا أنه لمَّا تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فكذلك ههنا قلبوا الواو في أسْمَاوٍ ألفًا، فاجتمع فيه ألفان: ألف زائدة، وألف منقلبة عن لام الكلمة، والألفان ساكنان، وهما لا يجتمعان، فقلبت الألف الثانية المنقلبة عن لام الكلمة همزة لالتقاء الساكنين، وإنما قلبت إلى الهمزة دون غيرها من الحروف لأنها أقربُ الحروف إليها؛ لأن الهمزة هَوَائية، كما أن الألف هَوَائية، فلما كانت أَقْرَبَ الحروف إليها؛ كان قلبها إليها أولى من قلبها إلى غيرها. والوجه الخامس: أنه قد جاء عن العرب أنهم قالوا في اسم: سُمًى، على مثال عُلًى، والأصل فيه سُمَوٌ، إلا أنهم قلبوا الواو منه ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار سُمًى، قال الشاعر: [2] واللهُ أَسْمَاكَ سُمًى مُبَارَكًا ... آثرَكَ الله به إيثَارَكَا

_ [2] هذا بيت من الرجز المشطور يقوله ابن خالد القناني نسبة إلى القنان بفتح القاف هو جبل لبني أسد فيه ماء يُسَمّى العسيلة – وقد أنشده في اللسان "س م و" وأنشده ابن يعيش، وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 5 بتحقيقنا" و "أسماك" أراد ألهم آلك أن يسموك، و "سما" =

وفيه خمس لغات: اسم بكسر الهمزة، واسم بضمها، وسِمٌ بكسر السّين وسُمٌ بضمها. قال الشاعر: [3] وعامنا أَعْجَبَنَا مُقَدَّمُه ... يُدْعَى أَبَا السَّمح وقِرْضَابٌ سُمُه مُبْتَرِكًا لِكُلِّ عظم يَلْحُمُه وقال: [4] باسم الذي في كل سورة سِمُه ... قد وردت على طريق تَعْلَمُه

_ = أي اسما "مباركًا" أي ذا بركة "آثرك" ميزك واختصك، و"إيثارك" هو مصدر مضاف إلى ضمير المخاطب، ويجوز أن يكون هذا الضمير فاعل المصدر، كم يجوز أن يكون مفعوله؛ فعلى الأول يكون المعنى: آثرك الله بهذا الاسم المبارك إيثارًا مثل إيثارك أنت الناس بالمعروف والعطاء وعلى الوجه الثاني يكون المعنى: آثرك الله بالاسم المبارك إيثارًا مثل إيثاره إيَّاك بالفضل ومكارم الأخلاق. والاستشهاد به في قوله "سما" فقد زعم المؤلف أن هذه الكلمة مقصورة مثل هُدَى وتُقَى وضحى، وعلى هذا يكون نصبها بفتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، كما تقول: استيقظت ضحى، واتقيت تقى، واتبعت هدى، ولكن هذا الذي ذكره المؤلف ليس بمتعين، فإنه يجوز أن تكون كلمة "سما" في هذا البيت قد جاءت على لغة من يقول "سم" بكسر السين أو ضمها وآخره صحيح مثل غد ويد ودم وأب وأخ، ويكون منصوبًا منونًا كما تقول: أزورك غدًا، واتخذت عندك يدًا، وقد أرقت دمًا، وما أشبه ذلك، ومتى جاز في هذا الشاهد هذان الوجهان لم يصلح أن يكون دليلًا على إحدى اللغتين بعينها؛ لأن الدليل متى تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال، كما يقولون، ونظير هذا البيت في احتمال اللغتين ما أنشده أبو العباس: فدعْ عنك ذكر اللهو، واعمدْ بمدحه ... لخير معد كلها حيثما انتمى لأعظمها قدرًا، وأكرمها أبًا، ... وأحسنها وجهًا، وأعلنها سما والذي يتعين أن يكون مقصورًا ما حكاه صاحب الإفصاح من قول بعضهم "ما سماك" فإنه قد أثبت الألف مع الإضافة، وذلك يفيد كونه مقصورًا؛ إذ لو كان عنده صحيح الآخر كيد وغد لقال "ما سمك" بضم الميم، فتأمل ذلك. [3] هذه ثلاثة أبيات من الرجز المشطور أنشدها كلها صاحب اللسان "ق ر ض ب -برك- س م و" من غير عزو، وأنشد موفق الدين بن يعيش أولهما وثانيها من غير عزو أيضًا، وأنشدهما ابن جني في شرح تصريف المازني "1/ 60" وتقول "قرضب الرجل فهو قرضاب" إذا أكل شيئًا يابسًا، وتقول "رجل مبترك" إذا كان معتمدًا على الشيء ملحًا فيه، يريد أنهم ظنوا في مقدم العام أنه سيكون عام رخاء، فإذا هو يكون عام شدة وجدب، يلح على أموالهم بالإفناء حتى يأتي عليها، والاستشهاد فيه بقوله "سمه" وهو يروى بكسر السين وضمها، فيكون دليلًا على أن من العرب من يقول في الاسم "سم" بحذف لامه من غير تعويض ومعاملته معاملة الصحيح الآخر كغد ويد ودم وأخ وأب، وذلك ظاهر. [4] هذان بيتان من الرجز المشطور أنشدهما ابن منظور في اللسان "س م و"، وأنشدهما موفق =

ويروى سُمُهْ بضم السّين، وسُمًى على وزن عُلًى، على ما بيّنّا. والله أعلم.

_ = الدين بن يعيش من غير عزو، وأنشدهما ابن جني في شرح تصريف المازني "1/ 60" وحكي في اللسان روايتهما عن ابن بري عن أبي زيد، وقال: إنهما لرجل من كلب، لكن الرواية هناك هكذا: أَرْسَلَ فيها بازلًا يُقَرِّمُهْ ... وهو به ينحو طريقًا يعلمُهْ باسم الذي في كل سورة سُمُهْ والاستشهاد به في قوله "سمه" وهو نظير ما ذكرناه في الشاهد السابق.

مسألة الاختلاف في إعراب الأسماء الستة

2- مسألة: [الاختلاف في إعراب الأسماء الستة] 1 ذهب الكوفيّون إلى أن الأسماء الستة المعتلّة وهي: أبُوكَ، وأخُوكَ وحَمُوكَ، وهَنُوكَ، وفُوكَ، وذو مال مُعْرَبَة من مكانين. وذهب البصريون إلى أنها معربة من مكان واحد، والواو والألف والياء هي حروف الإعراب. وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش في أحد القولين. وذهب في القول الثاني إلى أنها ليست بحروف إعراب، ولكنها دلائلُ الإعرابِ، كالواو والألف والياء في التثنية والجمع، وليست بلام الفعل. وذهب علي بن عيسي الرَّبَعِي إلى أنها إذا كانت مرفوعة ففيها نقل بلا قلب، وإذا كانت منصوبة ففيها قلب بلا نقل، وإذا كانت مجرورة ففيها نقل وقلب. وذهب أبو عثمان المازني إلى أن الباء2 حرف الإعراب، وإنما الواو والألف والياء نشأت عن إشباع الحركات. وقد يحكى عن بعض العرب أنهم يقولون: هذا أَبُك، ورأيت أَبَك، ومررت بِأَبِك -من غير واو ولا ألف ولا ياء- كما يقولون في حالة الإفراد من غير إضافة3. وقد يحكى أيضًا عن بعض العرب أنهم يقولون: هذا أَبَاك، ورأيت

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني "1/ 36-43 بتحقيقنا" وأوضح المسالك "الشواهد 6-9 بتحقيقنا" وشرح التوضيح للشيخ خالد "1/ 72-77 بولاق" وشرح موفق الدين بن يعيش على مفصل الزمخشري "ص60-63 أوروبة" وشرح رضي الدين على كافية ابن الحاجب "1/ 23 وما بعدها". 2 الباء: أراد الباء التي في قولك "جاء أبوك" ومعنى كونها حرف الإعراب أن الإعراب واقع عليها، يعني أنها مرفوعة بالضمة الظاهرة التي على الباء والواو للإشباع. 3 وقد جاء على هذه اللغة قول الشاعر: بأبه اقتدى عدي في الكرم ... ومن يشابه أبه فما ظلم وقوله الآخر: سوى أبك الأعلى وأن محمدًا ... علا على كل عالٍ يا ابن عمّ محمد

أبَاكَ، ومررت بأبَاكَ -بالألف في حالة الرفع والنصب والجر- فيجعلونه اسمًا مقصورًا، قال الشاعر: [5] إن أَبَاهَا وأَبَا أَبَاهَا ... قَدْ بَلَغَا في المَجْدِ غَايَتَاهَا ويحكى عن الإمام أبي حنيفة أنه سئل عن إنسان رَمَى إنسانًا بحجر فقتله: هل يجب عليه القَوَدُ؟ فقال: لا، ولو رماه بِأَبَا قُبَيْسٍ -بالألف، على هذه اللغة- لأن أصله أبَوٌ، فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبوها ألفًا بعد إسكانها إضعافًا لها، كما قالوا: عَصًا، وقَفًا، وأصله عَصَو وقَفَوا، فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبوها ألفًا، فكذلك ههنا. والذي يعتمد عليه في النُّصْرَة أهل الكوفة والبصرة القولان الأولان؛ فهذا منتهى القول في تفصيل المذاهب واللغات؛ فلنبدأ بذكر الحجَجِ والاستدلالات: أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: أجمعنا على أن هذه الحركات -التي هي الضمة والفتحة والكسرة- تكون إعرابًا لهذه الأسماء في حال الإفراد، نحو قولك: هذا أبٌ لك، ورأيت أبًا لك، ومررت بأبٍ لك، وما أشبه ذلك، والأصل فيه أبَوٌ، فاستثقلوا الإعراب على الواو، فأوقَعُوه على الباء وأسقطوا الواو؛ فكانت الضمة علامة للرفع، والفتحة علامة للنصب، والكسرة علامة للجر، فإذا قلت في الإضافة: هذا أبوك، وفي النصب: رأيت أبَاكَ، وفي الجر: مررت بِأَبِيك، والإضافة طارئة على الإفراد كانت الضمة والفتحة والكسرة باقية على ما كانت عليه في حال الإفراد؛ لأن الحركة التي تكون إعرابًا للمفرد في حال الإفراد هي بعينها تكون إعرابًا له في حال الإضافة، ألا ترى أنك تقول: هذا غلام، ورأيت غلامًا، ومررت بغلام، فإذا أضفته قلت: هذا غلامك، ورأيت غلامك، ومررت

_ [5] هذان بيتان من الرجز المشطور ينسبهما قوم إلى أبي النجم الفضل بن قدامة العجلي، وينسبهما قوم آخرون إلى رؤبة بن العجاج، وهما من شواهد الأشموني "رقم 16" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 9" وابن عقيل "رقم 6" وابن يعيش "ص62" ولاشاهد فيه قوله "أباها" وأنت ترى أنه قد ذكر الأب بالألف ثلاث مرات في البيت الأول فأما في المرتين الأولى والثانية فلا تتعين في واحدة منهما لغة من يجيء بالأسماء الستة بالألف في الأحوال كلها، بل يجوز أن يكون الراجز قد جاء بالكلمتين على هذه اللغة، ويجوز أن يكون قد جاء بهما على اللغة المشهورة عند جمهرة العرب، وذلك لأن الكلمتين في موضع النصب لكون الأولى اسم إن والثانية معطوفة على اسم إن، وفي حالة النصب تستوي لغة التمام ولغة القصر، أما الكلمة الثالثة فتتعين فيها لغة القصر بسبب كونها في موضع الجر وقد أتي بها بالألف، والأولى أن تحمل الأولى والثانية على لغة القصر بقرينة الكلمة الثالثة؛ ليكو الكلام جاريًا على مهيع واحد.

بغلامِكَ؛ فتكون الضمة والفتحة والكسرة التي كانت إعرابًا له في حال الإفراد هي بعينها إعرابًا له في حال الإضافة، فكذلك ههنا، والذي يدلُّ على صحة هذا تغيُّر الحركات على الباء في حال الرفع والنصب والجر، وكذلك الواو والألف والياء بعد هذه الحركات تجري مجرى الحركات في كونها إعرابًا؛ بدليل أنها تتغير في حال الرفع والنصب والجر؛ فدلّ على أن الضمة والواو علامة للرفع، والفتحة والألف علامة للنصب، والكسرة والياء علامة للجر، فدلّ على أنه معرب من مكانين1. ومنهم من تمسّك بأن قال: إنما أعربت هذه الأسماء الستة من مكانين لقلّة حروفها، تكثيرًا لها، وليزيدوا بالإعراب في الإيضاح والبيان؛ فوجَبَ أن تكون معربة من مكانين على ما ذهبنا إليه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا "إنه معرب من مكان واحد" لأن الإعراب إنما دخل الكلام في الأصل لمعنًى وهو الفَصْل، وإزالة اللَّبْسِ، والفَرْقُ بين المعاني المختلفة بعضها من بعض، من الفاعلية والمفعولية إلى غير ذلك وهذا المعنى يحصل بإعراب واحد؛ فلا حاجة إلى أن يجمعوا بين إعرابين؛ لأن أحد الإعرابين يقوم مقام الآخر، فلا حاجة إلى أن يجمع بينهما في كلمة واحدة. ألا ترى أنهم لا يجمعون بين علامتي تأنيث في كلمة واحدة نحو مسلمات وصالحات، وإن كان الأصل فيه مسلمتات وصالحتات؛ لأن كل واحدة من التاءين تدلّ على ما تدلّ عليه الأخرى من التأنيث، وتقوم مقامَهَا، فلم يجمعوا بينهما؛ فكذلك ههنا. والذي يدلّ على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهبوا إليه أن ما ذهبنا إليه له نظير في كلام العرب؛ فإن كل معرب في كلامهم ليس له إلا إعراب واحد، وما ذهبوا إليه لا نظير له في كلامهم؛ فإنه ليس في كلامهم معرب له إعرابان2، فَبَانَ

_ 1 ونظير هذا ما قالوه في امرئ وابنم؛ فإنه يقال "جاء امرؤ" بضم كل من الراء والهمزة، ومنه قوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} ويقال"رأيت امرأ" بفتح كل من الراء والهمزة، ومنه قول الله تعالى: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} وقول الشاعر: إن امرأ غرّه منكن واحدة ... بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور ويقال "مررت بامرئ" بكسر كل من الراء والهمزة، ومنه قول الله جلّ ذكره: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} وكذلك يصنعون مع "ابنم". 2 قد حدثناك حديث صنيع العرب في "امرئ" و "ابنم" وأنهم -في ظاهر الأمر- يعربونهما من مكانين: الحرف الآخر، والحرف الذي قبل الآخر، فللكوفيين أن يقولوا: لن نسلّم أن هذا لا نظير له في كلام العرب، بل له نظير من الصحيح الآخر وهو امرؤ وابنم، فإنا رأينا العرب تعربهما من مكانين

أن ما ذهبنا إليه له نظير في كلامهم، وما ذهبوا إليه لا نظير له في كلامهم، والمصِيرُ إلى ما له نظِيرُ أولى من المصير إلى ما ليس له نظير. ومنهم من تمسّك بأن قال: لو جاز أن يجتمع في اسم واحد إعرابان مختلفان لجاز أن يجتمع فيه إعرابان مختلفان؛ فكما يمتنع أن يجتمع فيه إعرابان مختلفان فكذلك يمتنع أن يجتمع فيه إعرابان متفقان؛ لامتناع اجتماع إعرابين في كلمة واحدة. والاعتمادُ على الاستدلال الأول، وهذا الاستدلال عندي فاسدٌ؛ لأن الإعراب في الأصل إنما دخل للفَصْل بين المعاني بعضها من بعض من الفاعلية والمفعولية على ما بَيَّنَّا؛ فلو جوَّزنا أن يُجْمَع في اسم واحد إعرابان مختلفان لأدَّي ذلك إلى التناقض؛ لأن كل واحد من الإعرابين يدلُّ على نقيض ما يدلُّ عليه الآخر؛ ألا ترى أنَّا لو قدَّرنا الرفع والنصب في اسم واحد لدلَّ الرفع على الفاعلية والنصب على المفعولية، وكل منهما نقيض الآخر، بخلاف ما لو قدرنا إعرابين متفقين فإنه لا يدلُّ أحد الإعرابين على نقيض ما يدل عليه الآخر؛ فبان الفرق بينهما، وأن الاعتماد على الاستدلال الأول. وأما من ذهب إلى أنها ليست بحروف إعراب1، ولكنها دلائل الإعراب، فقال: لأنها لو كانت حروفَ إعرابٍ كالدال من "زيد" والراء من "عمرو" لما كان فيها دلالة على الإعراب، ألا ترى أنك إذا قلت: "ذهب زيد، وانطلق عمرو" لم يكن في نفس الدال والراء دلالة على الإعراب، فلما كان ههنا هذه الأحرف تدلُّ على الإعراب دلَّ على أنها دلائل الإعراب، وليست بحروف إعراب. وهذا القول فساد؛ لأنّا نقول: لا يخلو أن تكون هذه الأحرفُ دلائلَ الإعراب في الكلمة أو في غيرها؛ فإن كانت تدل على الإعراب في الكلمة فوجَبَ أن يكون الإعراب فيها؛ لأنها آخر الكلمة، فيئُول هذا القول إلى قول الأكثرين، وإن كانت تدل على إعراب في غير الكلمة فيؤدي إلى أن تكون الكلمة مبنية، وليس من مذهب هذا القائل أنها مبنية، فسنبيّن فساد مذهبه أن الواو والألف والياء في التثنية والجمع ليست بحروف إعراب، ولكنها دلائل الإعراب، مستقصًى في موضعه، إن شاء الله تعالى.

_ 1 قد حكى المؤلف هذا القول أحد قولين لأبي الحسن الأخفش، والعلامة أبو الحسن الأشموني يحكي القولين وينسبهما إلى هشام، وهو هشام بن معاوية أحد أصحاب الكسائي كما سماه المؤلف ابن الأنباري في المسألة الحادية عشرة من هذا الكتاب.

فأما من ذهب إلى أنها إذا كانت مرفوعة ففيها نقل بلا قلب، وإذا كانت منصوبة ففيها قلب بلا نقل، وإذا كانت مجرورة ففيها نقل وقلب؛ فقال: لأن الأصل في قولك هذا أبوه "هذا أبَوُهُ" فاستثقلت الضمة على الواو، فنقلت إلى ما قبلها1، وبقيت الواو على حالها، فكان فيه نقل بلا قلب، والأصل في قولك رأيت أباه "رأيت أبَوَهُ" فتحركت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفًا؛ فكان فيه قلب بلا نقل، والأصل في قولك مررت بأبيك "مررت بِأَبَوِك" فاستثقلت الكسرة على الواو، فنقلت إلى ما قبلها2، فقلبت الواو ياء لسكونها3 وانكسار ما قبلها، فكان فيه نقل وقلب. وأما مَنْ ذهب إلى أن الباء حرف الإعراب، وإنما الواو والألف والياء نشأت عن إشباع الحركات؛ فقال: لأن الباء تختلف عليها الحركات في حالة الرفع والنصب والجر كما تختلف حركات الإعراب على سائر حروف الإعراب؛ فدلّ على أن الباء حرف الإعراب، وأن هذه الحركات -التي هي الضمة والفتحة والكسرة- حركات إعراب، وإنما أشبعت فنشأت عنها هذه الحروف -التي هي الواو والألف والياء- فالواو عن إشباع الضمة، والألف عن إشباع الفتحة، والياء عن إشباع الكسرة، وقد جاء ذلك كثيرًا في استعمالهم، قال الشاعر في إشباع الضمة: [6] الله يعلم أنَّا في تَلَفُّتِنَا ... يوم الفِرَاقِ إلى إخواننا صُوَرُ

_ [6] أنشد ابن منظور هذين البيتين في اللسان "ش ر ى" وأنشد أولهما في "ص ور" من غير عزو، وأنشدهما ابن جني في سر الصناعة "1/ 29" من غير عزو أيضًا وأنشدهما الرضي، وقد شرحهما البغداديّ في الخزانة "1/ 58 بولاق" ولم يعزهما، وكلهم يروي البيتين ببعض اختلاف في بعض ألفاظهما، وسننبّه عليه، وصور: جمع أصور، وهو وصف فعله صور يصور صورًا -على مثال فرح يفرح فرحًا- ومعناه المائل العين، وروى ابن منظور "وأنني حوثما يشرى الهوى بصري" وحوثما: لغة في حيثما، و"يشرى" مضارع أشراه إلى ناحية كذا بمعنى أماله، وهو بمعنى "يثني" في رواية المؤلف، يريد أنه كان دائم التلفت إلى أحبابه يوم الفراق، وأنه كان يتجه في التفاته إلى الجهة التي يسلكها أحبته، ومحلّ الاستشهاد قوله "فأنظور" فإنه أراد "فأنظر" لكنه لما كان محتاجًا إلى الواو في القافية أشبع الضمة التي على الظاء فنشأت الواو. وأقول: قال أبو الطيب المتنبي: ويطعمه التوراب قبل فطامه ... ويأكله قبل البلوغ إلى الأكل =

وأنني حيثما يَثْنِي الهوى بصري ... من حيثما سلكوا أدنو فَأَنْظُورُ أراد "فَأَنْظُرُ" فأشبع الضمّ، فنشأت الواو، وقال الآخر: [7] هجَوْتَ زَبَّان ثمَّ جِئْتَ معتذرا ... من هَجْوِ زِبَّانَ لم تَهْجُو ولم تَدَعِ أراد "لم تَهْجُ"، وقال الآخر: [8] كأنَّ في أنيابها القَرَنْفُولُ

_ = وضبط الشرّاح قوله "التوراب" بفتح التاء وسكون الواو، ثم راحوا ينددون بها ويقولون: إنه يخترع لكلام العرب أوزانًا لم يقولوها، ولو أنهم ضبطوا الكلمة بضم التاء لوجدوا لها مساغًا ونظائر في كلام من يحتجون بكلامه ويخرجونه، فإن العرب يقولون "التراب" بضم التاء ... الغراب، ثم إذا أشبعت التاء نشأت واو مثل واو "أنظور". [7] نسب جماعة هذا البيت إلى أبي عمرو بن العلاء، يقوله للفرزدق الشاعر، وكان الفرزدق قد هجاه ثم اعتذر له، والبيت من شواهد الأشموني "رقم 44" و "زبان" بفتح الزاي وتشديد الباء اسم رجل، وقد ذكر المجد في القاموس جماعة ممن تسموا بهذا الاسم منهم أبو عمرو بن العلاء المازني النحوي اللغوي المقرئ قيل، هذا اسمه، وقيل: بل لقبه واسمه العريان أو يحيى، والاسشتهاد به في قوله "لم تهجو" فإن حق العربية عليه أن يقول" لم تهج" بحذف الواو التي هي لام الفعل، لأن الفعل المضارع المعتل اللام يجزم بحذف لامه، وللعلماء في تخريج مثل ذلك رأيان: أولهما أن هذه الواو هي لام الفعل التي يحذفها جمهرة العرب من المضارع في حالة الجزم، ولم يحذفها هذا الشاعر اكتفاء بحذف الحركة كما يصنع في الفعل الصحيح الآخر، والرأي الثاني هو الذي ذكره المؤلف هنا، وتلخيصه من الواو التي هي لام الكلمة قد حذفت، وأما هذه الواو فإنها واو أخرى نشأت عن إشباع ضمة الجيم، نظير الواو في "أنظور" في الشاهد السابق، وانظر الشاهدين 11 و 17. [8] هذا بيت من الرجز المشطور، وقد أنشد ابن منظور في اللسان "ق ر ن ف ل" رجزين كل واحد منهما يشتمل على هذا البيت مع مغايرة طفيفة، أما أول الرجزين فقول الراجز: وا، بأبي ثغرك ذاك المعسول ... كأن في أنيابه القرنفول وأما الثاني فقول الآخر: خود أناة كالمهاة عطبول ... كأن في أنيابها القرنفول و"القرنفول" هو القرنفل الذي ورد في قول امرئ القيس: إذا التفت نحوي تضوَّع ريحها ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل يريد الراجز أن يصف ثغر هذه الجارية الناعمة التي يتغزل فيها بأنه طيب الريح جميل النكهة، ومحل الاستشهاد فيه قوله "القرنفول" فإن أصل الكلمة "القرنفل" فلما اضطر إلى الواو لإقامة الوزن الذي بنى عليه رجزه أشبع ضمة الفاء فنشأت الواو عن هذا الإشباع.

أراد"القَرَنْفُلْ" وقال الشاعر في إشباع الفتحة: [9] وأنتِ من الغوائل حين تُرْمَى ... ومِنْ ذَمِّ الرجال بِمُنْتَزَاح أراد "بِمُنْتَزَح" فأشبع الفتحة فنشأت الألف، وقال الآخر: [10] أقول إذا خرَّت على الْكَلْكَالِ ... يا نَاقَتَا ما جُلْتِ من مَجَالٍ أراد" الكَلْكَلَ"، وقال الآخر: [11] إذا العجوز غضبت فَطَلِّقِ ... ولا تَرَضَّاهَا ولا تمَلَّقِ

_ [9] هذا البيت من كلام ابن هرمة، واسمه إبراهيم بن علي، شاعر من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، وهو من كلمة يرثي فيها ابنه، وقد أنشده ابن منظور "ن ز ح" ونسبه إليه، وأنشده ابن جني في سر الصناعة "1/ 29" وقال قبل إنشاده "وأنشدنا أبو علي لابن هرمة يرثي ابنه" ا. هـ، و "منتزاح" مصدر ميمي فعله "انتزح ينتزح" أي بعد وتقول "أنت بمنتزح من كذا" تريد أنت ببعد منه، أو أنت في مكان بعيد منه، والاستشهاد بالبيت في قوله "بمنتزاح" فإن أصله "بمنتزح" لكنه لما اضطر لإقامة وزن البيت أشبع فتحة الزاي فنشأت من هذا الإشباع ألف. [10] هذان بيتان من الرجز المشطور، وقد أنشدهما ابن منظور "ك ل ل" من غير عزو. و "الكلكال" والكلكل: الصدر من كل شيء، وقيل: هو باطن الزور، وقيل: هو ما بين الترقوتين، وقوله "يا ناقتا" هو ناقة مضاف لياء المتكلم، وقد قلب الكسرة التي قبل الياء فتحة ثم قلب الياء ألفًا، وقد جاء في لسان العرب "يا ناقتي" على الأصل، والاستشهاد بالبيت في قوله "الكلكال" فإن أصله "الكلكل" كما هو الوارد في قول امرئ القيس: فقلت له لما تمطي بصلبه ... وأردف أعجازًا وناء بكلكل لكن الراجز لما اضطر أشبع فتحة الكاف الثانية فنشأت عن هذا الإشباع ألف، كما أن راجزًا آخر -وهو منظور بن مرثد الأسدي- اضطر إلى تضعيف اللام الأخيرة فقال: كأن مهواها على الكلكل ... موضع كفي راهب يصلي [11] هذان بيتان من الرجز المشطور، وقد أنشدهما ابن منظور "ر ض ى" من غير عزو، وقوله "لا ترضاها" معناه لا تتطلب رضاها، وقوله "لا تملق" أصله لا تتملق، فحذف إحدى التاءين، ومعناه لا تتكلف الملق بها، والاستشهاد به في قوله "ولا ترضاها" فقد كان من حق العربية عليه أن يقول "ولا ترضها" فيكون الفعل المضارع مجزومًا بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف الألف، وللعلماء في هذه الألف قولان: أحدهما: أن هذه الألف هي لام الكلمة التي كان يجب عليه حذفها للجازم، لكنه اكتفي بحذف الحركة كما يكتفي بحذف الحركة في الفعل الصحيح الآخر، والقول الثاني: أن لام الفعل قد حذفت كما هو مقتضى الجزم، وهذه الألف ناشئة عن إشباع فتحة الضاد، فالفعل مجزوم بحذف الألف والفتحة قبلها دليل عليها، وقد ذكرنا هذين الرأيين في شرح الشاهد "رقم 7" وانظر أيضًا الشاهد17. ونظير هذين البيتين قول عبد يغوث بن وقاص الحارثي: وتضحك مني شيخة عبشمية ... كأن لم تري قبلي أسيرًا يمانيًا =

أراد "ولا ترضها"، وقال عنترة: [12] يَنْبَاع مِنْ ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ ... زَيَّافَةٍ مثل الفَنِيقِ المُكْدَمِ أراد "يَنْبَع". وقال الشاعر في إشباع الكسرة: [13] تَنْفِي يداها الحصى في كلِّ هَاجِرَةٍ ... نَفْيَ الدَّرَاهِيمِ تَنْقَادُ الصَّيَارِيفِ

_ = فإن قوله "كأن لم تري" يجري فيه الرأيان اللذان ذكرناهما، ويزيد هذا البيت وجهًا ثالثًا، وحاصله أن قوله "تري" بفتح التاء والراء وسكون الياء، وهذه الياء هي ياء المؤنثة المخاطب، وليست لام الكلمة ولا ألف إشباع، وكأنه بعد أن ذكر ضحكها منه التفت إليها فقال مخاطبًا لها: كأنك لم تري قبل هذه المرة أسيرًا يمانيًا. [12] هذا البيت -كما قال المؤلف- لعنترة بن شداد العبسي، من قصيدته المعلقة المشهورة، وهو من شواهد الرضي، وقد شرحه البغدادي في الخزانة "1/ 59" وقوله "ينباع" معناه ينبع، تقول "نبع الماء، والعرق، ونحوهما، ينبع" من باب فتح يفتح، ويأتي أيضًا من بابي نصر وضرب -إذا خرج، والذفرى بكسر الذال سكون الفاء- العظم الذي خلف الأذن، و"غضوب" هي الناقة و"جسرة" الطويلة العظيمة الجسم، و "زيافة" هي السريعة السير، و"الفنيق" الفحل المكرم الذي لا يؤذي لكرامته على أهله، و"المكدم" الفحل القوي، وقالوا "بعير مكدم" يريدون أنه غليظ شديد، وقالوا أيضًا "قدح مكدم" يريدون أن زجاجه غليظ، والاستشهاد به في قوله "ينباع" فإن أصله -على ما قال المؤلف- ينبع، مثل يقطع ويفتح، فلما اضطر لإقامة الوزن أشبع فتحة الباء فنشأت عن هذا الإشباع ألف، وعلى هذا يكون وزن ينباع يفعال، وهذا أحد وجهين للنحاة في هذه الكلمة، والثاني أن الياء ياء المضارعة كما في الرأي الأول، لكن النون التي بعدها ليست أصلًا، ولكنها زائدة، والحروف الأصلية هي الباء وما بعدها، وأصل هذه الألف ياء، فقلبت ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فوزن ينباع على هذا ينفعل، مثل ينقاد وينداح، وهذا بعيد لا يقره الاشتقاق ولا المعنى المراد ونظير هذه الشواهد التي أثرها المؤلف لإشباع الفتحة حتى تنشأ ألف قول الراجز: أعوذ بالله من العقراب ... الشائلات عقد الأذناب أراد "العقرب" فأشبع فتحة الراء فنشأت ألف، ومثله قول الراجز الآخر وأنشده ابن منظور "د ر هـ م". لو أن عندي مائتي درهام ... لجاز في آفاقها خاتامي أراد "مائتي درهم" فأشبع فتحه الهاء فنشأت ألف، ومثل ذلك في قوله "خاتامي" فإنه أراد "خاتمي" فأشبع فتحة التاء فتولدت ألف، ونظيره قول الراجز الآخر، وأنشده ابن منظور أيضًا "خ ت م" لبعض بني عقيل: لئن كان ما حدثته اليوم صادقًا ... صم في نهار القيظ للشمس باديا أوأركب حمارًا بين سرج وفروة ... وأعر من الخاتام صغرى شماليا أراد أن يقول "وأعر من الخاتم" فأشبع فتحة التاء فتولدت من ذلك الإشباع ألف. [13] هذا البيت من كلام الفرزدق همام بن غالب، وقد أنشد ابن منظور "ص ر ف - د ر هـ م" =

أراد "الدراهم" و "الصيارف" فأشبع الكسرة فنشأت الياء، ويحتمل أن يكون الدراهيمُ جمعَ دِرْهَام، ولا يحتمل الصياريف هذا الاحتمال، وقال الآخر: [14] كأني بِفَتْخَاء الجناحين لقوة ... على عَجَل منِّي أُطَأْطِئُ شِيمَالي أراد "شِمَالِي"، وقال الآخر: [15] لمَّا نزلنا نصبنا ظل أخْبِيَةٍ ... وفار للقوم باللحم المَرَاجِيلُ

_ = منسوبًا له، وأنشده ابن جني في سرّ الصناعة "1/ 28" وهو من شواهد سيبويه "1/ 10"، وهو من شواهد ابن هشام في أوضح المسالك "رقم 567 بتحقيقنا" والأشموني "رقم 689 بتحقيقنا" وابن عقيل "رقم 253 بتحقيقنا" وقوله "تنفي" معناه تطرد وتبعد، و"يداها" أي يدا الناقة التي يصفها، و "هاجرة" هي القوت حين ينتصف النهار ويشتد الحر، و "تنقاد" أحد مصادر نقد الدراهم ينقدها نقدًا؛ إذا ميّز رديئها من جيدها، و"الصياريف" جمع صيرف -بوزن جعفر- وهو الخبير بالنقد الذي يبادل على بعضه ببعض. والاسشهاد به في قوله "الدراهيم" و "الصياريف" فإن الأصل الدراهم والصيارف، فأشبع كسرة الهاء في الدراهم وكسرة الراء في الصيارف فتولدت عن كل إشباع منهما ياء، وهذا تام الدلالة في الصياريف، أما في الدراهيم فقد يقال: إنه جمع درهام لا درهم -كما نبه إليه المؤلف- فالإشباع والتوليد في المفرد، والخطب في ذلك سهل، ونظير ذلك قول ابن مقبل: قد كنت أحجو أبا عمرو أخاثقه ... حتى ألمت بنا يومًا ملمات فقلت والمرء تخطيه عطيته ... أوفى عطيته إياي ميئات أراد أن يقول "مئات" فأشبع كسرة الميم فتولدت ياء، وقد استباح الشعراء المحدثون لأنفسهم أن يرتكبوا مثل هذه الضرورات فقال أحد الخالديين شاعري سيف الدولة الحمداني: خولتنا شمسًا وبدرًا أشرقت ... بهما لدينا الظلمة الحنديس فإنه أراد أن يقول "الحندس" فأشبع كسرة الدال فتولدت ياء، والحندس: الشديد الظلام. [14] هذا البيت لامرئ القيس بن حجر الكندي، وقد أنشده ابن منظور "ش م ل". وقوله "فتخاء الجناحين" هي العقاب اللينة الجناح، وذلك أسهل لطيرانها، و"لقوة" بفتح اللام أو كسرها، مع سكون القاف فيهما هي الخفيفة السريعة. يصف ناقته التي ارتحلها بالسرعة، فشبهها بالعقاب. والاستشهاد بالبيت في قوله "شيمالي" فإن أصلها شمالي، فلما اضطر لإقامة الوزن أشبع كسرة الشين فتولدت ياء، وهذه إحدى روايتين في هذه الكلمة في هذا البيت، والرواية الأخرى "أطأطئ شملالي" والشملال لغة في الشمال، ومن العلماء من يجعل الشيمال بالياء لغة أخرى في الشمال، ومن العلماء من ينكر أنها لغة ويذهب إلى ما ذهب المؤلف إليه من أن الشاعر اضطر فأشبع الكسرة، والخطب في ذلك سهل؛ فإن الذي أثبتها لغة اعتمد على قول الشاعر أو مثله ممن يستشهد بقوله. [15] هذا البيت لعبدة بن الطبيب، من قصيدة له ثابتة في المفضليات "المفضلية 26" وقد أنشد هذا البيت ابن عبد ربه في العقد الفريد "1/ 192" وله عنده قصة، والأخبية: جمع خباء - =

أراد "المراجِلَ"، وقال الآخر: [16] لا عهد لي بنِيضَال ... أصبحت كالشِّنِّ البَال أراد "بِنِضَال"، وقال الآخر: [17] ألم يأتِيكَ والأنباء تَنْمِي ... بما لَاقَتْ لَبُونُ بني زِيَاد

_ = بوزن كساء وأكسية، ورداء وأردية والمراجيل: جمع مرجل، وهو القدر التي يطبخ فيها الطعام، يقول: إنهم حين حطوا رحالهم أسرعوا فنحروا الذبائح وأوقدوا عليها ففارت قدورهم باللحم، يصف أنفسهم بالكرم، والاستشهاد بالبيت في قوله "المراجيل" فإن أصله المراجل؛ لأنه جمع مرجل على وزن منبر، ولكنه لما اضطر أشبع كسرة الجيم فتولدت عنها ياء. 16 هذان بيتان من الرجز، وقد أنشدهما ابن منظور "ن ض ل" غير معزو، والنيضال: مصدر "ناضله يناضله" إذا باراه في الرمي، و"الشن" القربة الصغيرة، والبال: أي البالي. ومحلّ الاستشهاد بهذا الشاهد قوله "بنيضال" فإنه مصدر ناضله كما بيّنا لك، والأصل أن يقول "بنضال" كما تقول: قاتل قتالًا ومقاتلة، ولكنه لما اضطر أشبع كسرة النون فتولدت ياء، وهذا الذي حكاه المؤلف في هذه الكلمة هو رأي أبي العباس ثعلب، وأما سيبويه فإنه ذهب إلى أن مصدر الفعل الذي على فاعل كقاتل وشارك يأتي على فعال بكسر الفاء غالبًا، وربما جاء على فيعال بزيادة ياء بعد الفاء تقابل الألف الزائدة في الفعل لئلا يكونوا قد تركوا من حروف الفعل شيئًا. [17] هذا البيت من كلام قيس بن زهير بن جذيمة العبسي، وقد أنشده ابن منظور "أت ى" منسوبًا إليه، وهو من شواهد الأشموني "رقم 43" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 20" وفي مغني اللبيب "رقم 156 بتحقيقنا" والأنباء: جمع نبأ، وهو كالخبر وزنًا ومعنًى، وقيل: النبأ خاص بذي الشأن من الأخبار، وتنمي: تزيد وتكثر، وهو من بابي ضرب ونصر، واللبون: الإبل ذوات اللبن، وبنو زياد: هم الكملة من الرجال الربيع وعمارة وقيس وأنس، بنو زياد بن سفيان بن عبد الله العبسي، وأمهم فاطمة بنت الخرشب الأنمارية، وكان قيس بن زهير قد طرد إبلًا للربيع بن زياد في قصة مشهورة. والاستشهاد بالبيت في قوله "ألم يأتيك" فإن "يأتي" فعل مضارع معتل الآخر، وقد دخل عليه الجازم، وجمهرة العرب يجزمونه بحذف حرف العلة -وهو هنا الياء- فيقولون "ألم يأتك" وللعلماء في هذه الياء رأيان أحدهما: أنها لام الفعل، وأن الشاعر اكتفى بحذف الحركة كما يفعل مع الفعل الصحيح الآخر؛ فيكون "يأتي" مجزومًا وعلامة جزمه السكون، والرأي الثاني: أن الشاعر جزم "يأتي" بحذف حرف العلة كما يصنع جمهرة العرب، إلا أنه اضطر لإقامة الوزن فأشبع كسرة التاء فتولدت عنها ياء، فهذه الياء ياء الإشباع وليست لام الكلمة، وهذا الرأي الأخير هو الذي ذهب إليه المؤلف، قال ابن منظور "وأما قول قيس بن زهير العبسي ألم يأتيك ... فإنما أثبت الياء ولم يحذفها للجزم ضرورة، وردّه إلى أصله، قال المازني: ويجوز في الشعر أن تقول: زيد يرميك برفع الياء، ويغزوك برفع الواو، وهذا قاضي =

أراد "ألم يأتِكَ" فأشبع الكسر فنشأت الياء. وإشباعُ الحركات حتى تنشأ عنها هذه الحروف كثير في كلامهم1، فكذلك ههنا. وهذا القول ظاهر الفساد؛ لأن إشباع الحركات إنما يكون في ضرورة الشعر كما أنشدوه من الأبيات، وأما في حال اختيار الكلام فلا يجوز ذلك بالإجماع، وههنا بالإجماع تقول في حال الاختيار: هذا أبُوكَ، ورأيت أبَاكَ، ومررت بِأَبِيكَ؛ وكذلك سائِرُها، فدلّ على أنها ليست للإشباع عن الحركات، وأن الحركات ليست للإعراب، على ما سنبيّن في الجواب عن كلمات الكوفيين. أما الجواب عن كلمات الكوفيّين: أما قولهم "إن هذه الحركات تكون حركات إعراب في حال الإفراد فكذلك في حال الإضافة" قلنا: هذا فاسد؛ لأن حرف الإعراب في حال الإفراد هو الباء؛ لأن اللام التي هي الواو من "أبَو" لمّا حذفت من آخر الكلمة صارت العين التي هي الباء بمنزلة اللام في كونها آخر الكلمة؛ فكانت الحركات عليها حركات إعراب، فأما في حال الإضافة فحرف الإعراب هو حرف العلة؛ لأنهم لما أرادوا أن يجعلوا اختلاف الحروف بمنزلة اختلاف الحركات ردُّوا اللام في الإضافة؛ ليدلوا على أن من شأنهم الإعراب بالحروف توطئة لما يأتي من باب التثنية والجمع، وإذا كان حرف الإعراب هو حرف العلة لم تكن هذه الحركات على الباء في حال الإضافة حركات إعراب؛ لأن حركات الإعراب لا تكون في حَشْو الكلمة، وصار هذا بمنزلة تاء التأنيث إذا

_ = بالتنوين، فتجري الحرف المعتل مجرى الحرف الصحيح من جميع الوجوه في الأسماء والأفعال جميعًا لأنه الأصل" ا. هـ. وكلام المازني هو الرأي الأول الذي ذكرناه لك، وقد ذكرنا مثلهما في شرح الشاهدين 7 و 11 فتأمل والله يرشدك.

اتصلت ببناء الاسم نحو قائم وقائمة فإنها تصير حرف الإعراب؛ لأنها صارت آخر الكلمة وتخرج ما قبلها عن تلك الصفة؛ لأنه قد صار بمنزلة حَشْوِ الكلمة؛ فكذلك ههنا، وبَلْ أولى؛ فإن تاء التأنيث زائدة على بناء الاسم وليست أصلية، وحرف العلة ههنا أصليٌّ في بناء الاسم وليس زائدًا، وإذا تُرِكَ ما قبل الزائد حَشْوًا فلَأن يترك ما قبل الأصليّ حشوًا كان ذلك من طريق الأولى. وأما قولهم "إن الحركة التي تكون إعرابًا للمفرد في حال الإفراد هي بعينها تكون إعرابًا له في حال الإضافة نحو: هذا غلامٌ، وهذا غلامك "قلنا: إنما تكون الحركة فيهما واحدة إذا كان حرف الإعراب فيهما واحدًا، نحو "هذا غلام، وهذا غلامك" وقد بيّنا اختلاف حرف الإعراب فيهما؛ فلا يُقَاسُ أحدهما على الآخر، وإن ادَّعَوْا أن حرف الإعراب فيهما واحد -على خلاف التحقيق من مذهبهم- وزعموا أن الحرف للإعراب وليس بلام الكلمة، وأنه والحركة مَزِيدَانِ للإعراب، فقد بيّنا أن ذلك لا نظير له في كلامهم، وأن أحدهما زيادة بغير فائدة، وأوضحنا فساده بما يغني عن الإعادة. وأما قولهم "تغيّر الحركات على الباء في حال الرفع والنصب والجر يدلّ على أنها حركات إعراب" قلنا: هذا لا يدل على أنها حركات إعراب؛ لأنها إنما تغيرت توطئة للحروف التي بعدها؛ لأنها من جنسها، كما قلنا في الجمع السالم نحو "مسلمون ومسلمين" فإن ضمة الميم في الرفع تتغيّر إلى الكسرة في حال الجر والنصب، وليس ذلك بإعراب، وإنما جعلت الضمة تَوْطِئة للواو، والكسرة توطئة للياء، فكذلك ههنا، وإذا بطل أن تكون هذه الحركات حركات إعراب، وأجمعنا على أن هذه الحروف -التي في الواو والألف والياء- تدل على الرفع والنصب والجر الذي هو جملة الإعراب؛ فلا حاجة إلى أن يكون معربًا من مكان آخر. وأما قولهم"إنما أعربت هذه الأسماء الستة من مكانين لقلة حروفها" قلنا: هذا ينتقض بغدٍ ويدٍ ودمٍ؛ فإنها قليلة الحروف [و] لا تعرب في حال الإضافة إلا من مكان واحد. وأما قولهم "ليزيدو بالإعراب في الإيضاح والبيان" قلنا: الإيضاح والبيان قد حصل بإعراب واحد، فصار الإعراب الزائد لغير فائدة، والحكم لا يزيد شيئًا لغير فائدة؛ فوجب أن تكون معربة من مكان واحد كسائر ما أعرب من الكلام، والله أعلم.

مسألة القول في إعراب المثنى والجمع على حده

3- مسألة: [القولُ في إعراب المثنَّى والجمع على حَدِّه] 1 ذهب الكوفيُّون إلى أن الألف والواو والياء في التثنية والجمع بمنزلة الفتحة والضمة والكسرة في أنها إعراب، وإليه ذهب أبو عليّ قُطْرُبُ بن المستنير، وزعم قوم أنه مذهب سيبويه، وليس بصحيح. وذهب البصريّون إلى أنها حروف إعراب. وذهب أبو الحسن الأخفش وأبو العباس المبرّد وأبو عثمان المازني إلى أنها ليست بإعراب ولا حروف إعراب، ولكنها تدل على الإعراب، وذهب أبو عمر الجَرْمِي إلى أن انقلابها هو الإعراب، وحُكي عن أبي إسحاق الزجاج أن التثنية والجمع مبنيان، وهو خلاف الإجماع. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنها إعراب كالحركات أنها تتغير كتغير الحركات، ألا ترى أنك تقول: قام الزيدان، ورأيت الزيدين، ومررت بالزيدين. وذهب الزيدون، ورأيت الزيدين، ومررت بالزيدين، فتتغير كتغير الحركات، نحو "قام زيد، ورأيت زيدًا، ومررت بزيد" وما أشبه ذلك، فلما تغيرت كتغير الحركات دلّ على أنها إعراب بمنزلة الحركات، ولو كانت حروفَ إعراب لما جاز أن تتغير ذَوَاتُها عن حالها؛ فلما تغيرت تغير الحركات دلّ على أنها بمنزلتها، ولهذا سماها سيبويه حروف الإعراب؛ لأنها الحروف التي أعرب الاسم بها، كما يقال: حركات الإعراب -أي الحركات التي أعرب الاسم بها- والذي يدل على ذلك أنه جعل الألف في التثنية رفعًا فقال: يكون في الرفع ألفًا، وجعل الياء فيها جرًّا فقال: يكون في الجر ياء مفتوحًا ما قبلها، وجعل الياء أيضًا نصبًا حملًا على الجر فقال:

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح الرضي على كافية ابن الحاجب "2/ 160" وشرح موفق الدين بن يعيش على المفصل "ص63 و 588 أوروبة" وشرح الأشموني "1/ 44 بتحقيقنا" وحاشية الصبان "1/ 80 بولاق" وتصريح الشيخ خالد "1/ 77 بولاق".

ويكون في النصب كذلك، وهكذا جَعَل الواو والياء في الجمع رفعًا وجرًّا نصبًا، والرفع والجر والنصب لا يكون إلا إعرابًا؛ فدلّ على أنها إعراب. قالوا: ولا يجوز أن يقال "إن هذا يؤدي إلى أن يكون معربًا لا حرفَ إعراب له وهذا لا نظير له، وذلك لا يجوز" لأنّا نقول هنا: إنما لا يجوز فيما يكون إعرابه بالحركة لا بالحرف؛ لأن الحركة تدخل في الحرف، بخلاف ما إذا كان معربًا بالحرف؛ لأن الحرف لا يدخل في الحرف، والذي يدل على ذلك الخمسة الأمثلة وهي: يَفْعَلَانِ، وتَفْعَلَانِ، ويَفْعَلُونَ، وتَفْعَلُونَ، وتَفْعَلِينَ يا امرأة فإنها لما كانت معربة بالحرف لم يكن لها حرف إعراب، ألا ترى أن النون علامة الرفع كالضمة في تَضْرِبُ؟ وإذا جاز أن تكون هذه الخمسة الأمثلة معربة ولا حرفَ إعرابٍ لها لأن إعرابها بالحرف، فكذلك ههنا يجوز أن يكون الاسم في التثنية والجمع معربًا ولا حرف إعراب له؛ لأن إعرابه بالحرف. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنها حروف إعراب وليست بإعراب لأن هذه الحروف إنما زيدت للدلالة عَلَى التثنية والجمع؟ ألا ترى أن الواحد يدل على مفرد؛ فإذا زيدت هذه الحروف دلّت على التثنية والجمع؟ فلما زيدت بمعنى التثنية والجمع صارت من تمام صيغة الكلمة التي وُضِعَتْ لذلك المعنى؛ فصارت بمنزلة التاء في قائمة والألف في حُبْلَى، وكما أن التاء والألف حرفا إعراب فكذلك هذه الحروف ههنا. وأما من ذهب إلى أنها ليست بإعراب ولا حروف إعراب ولكنها تدل على الإعراب فقال: لأنها لو كانت إعرابًا لما اخْتَلّ معنى الكلمة بإسقاطها كإسقاط الضمة من دال زيد في قولك "قام زيد" وما أشبه ذلك، ولو أنها حروف إعراب كالدال من "زيد" لما كان فيها دلالة على الإعراب، كما لو قلت "قام زيد" من غير حركة، وهي تدل على الإعراب؛ لأنك إذا قلت "رجلان" علم أنه رفع؛ فدلّ على أنها ليست بإعراب ولا حروف إعراب، ولكنها تدلّ على الإعراب. وهذا القول فساد، وذلك لأن قولهم "إن هذه الحروف تدل على الإعراب لا يخلو: إما أن تدل على إعراب في الكلمة، أو في غيرها؛ فإن كانت تدل على إعراب في الكلمة فوجب أن تقدر في هذه الحروف، لأنها أواخر الكلمة، فيئول هذا القول إلى أنها حروف الإعراب كقول أكثر البصريين، وإن كانت تدل على إعراب في غير الكلمة فوجب أن تكون الكلمة مبنيّة، وليس من مذهب أبي الحسن الأَخْفَش وأبي العبّاس المبرد وأبي عثمان المازنيّ أن التثنية والجمع مبنيّان.

وأما مَنْ ذهب إلى أن انقلابها هو الإعراب فقد أفسده بعض النحويين من وجهين؛ أحدهما: أن هذا يؤدي إلى أن يكون الإعراب بغير حركة ولا حرف، وهذا لا نظير له في كلامهم. والوجه الثاني: أن هذا يؤدي إلى أن يكون التثنية ولجمع في حال الرفع مبنيين؛ لأن أولَ أحوال الاسم الرفعُ ولا انقلاب له، وأن يكونا في حال النصب والجر معربين؛ لانقلابهما. وليس من مذهب أبي عمر الجَرْمِي أن التثنية والجمع مبنيان في حال من الأحوال. وأما مَنْ ذهب إلى أنهما مبنيان فقال: إنما قلت ذلك لأن هذه الحروف زيدت على بناء المفرد في التثنية والجمع، فنزِّلا منزلة ما ركب من الاسمين نحو "خَمْسَةَ عَشَرَ" وما أشبهه. وهذا القول أيضًا يفسد من وجهين؛ أحدهما: أن التثنية والجمع وضعًا على هذه الصيغة لأن يَدُلَّا على معنييهما من التثنية والجمع، وإنما يفرد المفرد في الحكم لوجود لفظه، وإذا كان كذلك لم يجرِ أن يُشَبَّهَا بما ركب من شيئين منفصلين كخمسة عشر وما أشبهه، والوجه الثاني: أنهما لو كانا مبنيين لكان يجب أن لا يختلف آخرهما باختلاف العوامل فيهما؛ لأن المبني ما لا يختلف آخره باختلاف العوامل فيه، فلما اختلف ههنا آخر التثنية والجمع باختلاف العوامل فيهما دلّ على أنهما معربان لا مبنيان. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أمّا قولهم "إنها هي الإعراب كالحركات بدليل أنها تتغير تغيُّر الحركات" فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن القياس كان يقتضي أن لا تتغير كقراءة من قرأ: "إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ" على لغة بني الحارث بن كعب، إلا أنهم عَدَلُوا عن هذا القياس لإزالة اللَّبْس، ألا ترى أنك لو قلت "ضرب الزيدان العمران" لوقَع الالتبَاسُ، وليس هذا بمنزلة المقصور في نحو "ضرب موسى عيسى" لأن المقصور يزول عنه اللبس بالوصف والتوكيد؛ لأنه ليس من شرط وصف المقصور أن يكون مقصورًا، وكذلك التوكيد؛ بخلاف المثنى والمجموع؛ لأنه من شرط وصف المثنى أن يكون مثنى، ومن شرط وصف المجموع أن يكون مجموعًا1، وكذلك التوكيد، فَبَانَ الفرق بينهما؛ والذي يدل على أن هذه الأحرف ليست إعرابًا كالحركات أنها لو كانت هي الإعراب كالحركات لكان يجب أن لا يُخِلَّ سقوطُها بمعنى الكلمة كما لو

_ 1 لكن لا يلزم أن يكون وصف جمع المذكر جمعًا مذكرًا؛ بل يجوز أن يكون جمع تكسير نحو" هؤلاء الزيدون الأفاضل" فيزول عنه اللبس بالوصف، وزواله بالتوكيد ظاهر؛ فلم يتم الفرق.

سقطت الحركات؛ لأن سقوط الإعراب لا يخلُّ بمعنى الكلمة، ألا ترى أنك لو أسقطت الضمة والفتحة والكسرة من الاسم نحو "قام زَيْدْ، ورأيت زَيْدْ، ومررت بزَيْدْ" لم يخلّ بمعنى الاسم، ولو أسقطت الألف والواو والياء من التثنية والجمع لأخلّ بمعنى التثنيه والجمع؟ فلما أخَلَّ سقوط هذه الحروف بمعنى التثنية والجمع بخلاف الحركات دلَّ على أنها ليست بإعراب كالحركات. والوجه الثاني: أن هذه الحروف إنما تغيرت في التثنية والجمع؛ لأن لهما خاصية لا تكون في غيرها استحَقّا من أجلها التغيير، وذلك أن كل اسم معتل لا تدخله الحركات –نحو "رَحًى، وعَصًا، وحُبَلي، وبُشْرى" له نظير من الصحيح يدل على مثل إعرابه، فنظير رحًى وعصًا: جمَل وجَبَل، ونظير حُبْلى وبُشْرى: حمراء وصحراء، وأما التثنية وهذا الجمع الذي على حدها، فلا نظير لواحد منهما إلا بتثنية أو جمع، فعوضا من فقد النظير الدالّ على مثل إعرابها تغيُّر هذه الحروف فيهما. والوجه الثالث: أن هذا ينتقض بالضمائر المتصلة والمنفصلة؛ فإنها تتغير في حال الرفع والنصب والجر، وليس تغيرها إعرابًا، ألا ترى أنك تقول في المنفصلة "أنا، وأنت" في حال الرفع، و "إياي، وإياك" في حال النصب، وتقول في المتصلة "مررت بك" فتكون الكاف في موضع جر وهي اسم مخاطب، و "رأيتك" فتكون في موضع نصب، وتقول "قمت، وقعدت" فتكون التاء في موضع رفع، فتتغير هذه الضمائر في هذه الأحوال وإن لم يكن تغيرها إعرابًا. وأما قولهم "إن سيبويه سماها حروف الإعراب" قلنا: هذه حجة عليكم؛ لأن حروف الإعراب هي أواخر الكلم، وهذه الحروف هي أواخر الكلم؛ فكانت حروف الإعراب، قولهم "إنما سماها حروف الإعراب، لأنها التي أُعْرِبَ الاسم بها، كما تقول: حركات الإعراب قلنا: هذا خلاف الظاهر؛ فإن الظاهر في اصطلاح النحويين أنه إذا أطلق حرف الإعراب إنما يطلق على آخر حرف من الكلمة، نحو الدال من "زيد" والراء من "عمرو" لا على الحرف الذي يكون إعرابًا للكلمة، ألا ترى أن الخمسة الأمثلة أعربت بالحرف، ولا حرفَ إعرابٍ لها؟ وأما قولهم "إنه جعل الألف والواو والياء في التثنية والجمع رفعًا وجرًّا ونصبًا إلى آخر ما ذكروه" قلنا: معنى قوله "يكون في الرفع ألفًا، ويكون في الجر ياء، وفي النصب كذلك" أي أنه يقع موقع المرفوع، وإن لم يكن مرفوعًا ويقع موقع المجرور وإن لم يكن مجرورًا، ويقع موقع المنصوب وإن لم يكن منصوبًا، كما يقال: ضمير المرفوع، وضمير المنصوب، وضمير المجرور، وإن لم يكن

شيء منها مرفوعًا ولا منصوبًا ولا مجرورًا، وإنما المرفوع والمنصوب والمجرور ما يقع موقعها من الأسماء المعربة؛ فكذلك هذه الحروف تقع موقع ما يحلّ فيه الإعراب وإن لم يكن فيها إعراب لوقوعها موقع ما يحلّ فيه الإعراب إذا وجد، وصار هذا كقول علماء العربية "حروف الزوائد عشرة يجمعها لا أنسيتموه" وإن كانت هذه الحروف قد تقع زائدة وأصلية، ألا ترى أن اللام أصلية في"جَبَل، وجَمَل" كما هي زائدة في "زَيْدَلٍ، وعَبْدَلٍ" وكذلك سائرها، ثم سُمِّيتْ بذلك لأن الحروف الزوائد لا تخرج عنها، فكذلك ههنا؛ فدلّ على أنها حروف الإعراب، والذي يدل على أنها ليست هي الإعراب أنا لو قلنا إنها هي الإعراب لأدّى إلى أن يكون معرب لا حَرْفَ إعراب له، وهذا لا نظير له. قولهم:"هذا إنما لا يجوز فيما يكون إعرابه بالحركة لا بالحرف" قلنا: لا نسلم، بل الأصل في كل معرب أن يكون له حرف إعراب، سواء كان معربًا بالحركة أو معربًا بالحرف، فأما الخمسة1 أمثلة فمنهم من ذهب إلى أن لها حرف إعراب وهي الألف في "يفعلان" والواو في "يفعلون والياء في "تفعلين" فعلى هذا لا نسلم، ولئن سلّمنا على المذهب المشهور فإنما أعربت ولا حرف إعراب لها على خلاف الأصل، وذلك لأنّا لو قدَّرْنَا لها حرف إعراب لم يَخْلُ: إما أن يكون اللام، أو الضمير، أو النون؛ بطل أن يكون حرف الإعراب اللام؛ لأن من الإعراب الجزم؛ فلو جعلناه اللام لوجب أن يسكن في حالة الجزم؛ فكان يؤدّي إلى أن يحذف ضمير الفاعل2، وذلك لا يجوز، وبطل أيضًا أن يكون الضمير حرف الإعراب؛ لأن الضمير في الحقيقة ليس جزءًا من الفعل، وإنما هو اسم قائم بنفسه في موضع رفع؛ لأنه فاعل؛ فلا يجوز أن يكون إعرابًا لكلمة أخرى، وعلى هذا تخرج الألف والواو والياء في تثنية الأسماء وجمعها؛ فإنها حروف لا تقوم بنفسها ولا موضع لها من الإعراب؛ فجاز أن تكون حروف الإعراب، وبطل أن تكون النون حرف الإعراب؛ لأنها ليست كحرف من الفعل، وإنما هي بمنزلة الحركة التي هي الضمة، ولهذا تحذف في الجزم والنصب، ولا يُخِلُّ حذفها بمعنى الفعل، ولو كانت حرف الإعراب لما حذفت مع تحركها ولأخلّ حذفها بمعنى الفعل، ولكان الإعراب جاريًا عليها؛ فلذلك لم يجز أن تكون حرف الإعراب، وعلى هذا تخرج الألف والواو والياء في التثنية والجمع؛ فإنها بمنزلة حروفها، ويختلُّ معناهما بحذفها؛ فلذلك جاز أن تكون حروف الإعراب على ما بينَّا، والله أعلم

_ 1 هذا التعبير غير جائز عند البصريين والكوفيين جميعًا؛ والصواب أن يقال "فأما خمسة الأمثلة". 2 للتخلّص من التقاء الساكنين: اللام حالة الجزم، والألف أو الواو أو الياء اللائي هنّ ضمائر الفاعلين.

مسألة هل يجوز جمع العلم المؤنث بالتاء جمع المذكر السالم

4- مسألة: [هل يجوز جَمْعُ العلم المؤنث بالتاء جَمْعَ المذكر السالم؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن الاسم الذي آخره تاء التأنيث إذا سميتَ به رجلًا يجوز أن يجمع بالواو والنون، وذلك نحو طَلْحَة وطَلْحُون، وإليه ذهب أبو الحسن بن كَيْسَان، إلا أنه يفتح اللام فيقول الطَّلَحُون -بالفتح- كما قالوا "أَرَضُون" حملًا على أَرَضَاتٍ، وذهب البصريون إلى أن ذلك لا يجوز. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا: إنه يجوز جمعه بالواو والنون وذلك لأنه في التقدير جمع طَلْح؛ لأن الجمع قد تستعمله العرب على تقدير حذف حرف من الكلمة، قال الشاعر: [18] وعُقْبَةُ الأَعْقَابِ في الشَّهر الأَصَمْ فكسره على ما لا هاء فيه، وإذا كانت الهاء في تقدير الإسقاط جاز جمعه بالواو والنون كسائر الأسماء المجموعة بالواو والنون؛ والذي يدل على صحة مذهبنا أنا أجمعنا على أنك لو سميتَ رجلًا بِحَمْرَاء أو حُبْلَى لجمعته بالواو والنون قلت "حمراؤون، وحُبْلَوْن" ولا خلاف أن ما في آخره ألف التأنيث أشدّ تمكّنا في التأنيث مما في آخره تاء التأنيث؛ لأن ألف التأنيث صيغت الكلمة عليها، ولم تُخْرِج الكلمة من تذكير إلى تأنيث، وتاء التأنيث ما صيغت الكلمة عليها وأخرجت الكلمة من التذكير إلى التأنيث، ولهذا المعنى قام التأنيث بالألف في منع الصرف مقام شيئين، بخلاف التأنيث بالتاء، وإذا جاز أن يجمع بالواو والنون ما في

_ [18] لم أقف لهذا البيت -مع طويل البحث- على نسبة، ولا تكملة، ولا وجدت أحدًا أثر غيره المؤلف، والاستشهاد به في قوله "الأعقاب" فإنه جمع عقبة بعد تقدير سقوط التاء فيصير مثل قفل، وهو يجمع على أقفال.

آخره ألف التأنيث -وهي أوْكَدُ من التاء- فَلأَن يجوز ذلك فيما آخرُهُ التاءُ كان ذلك من طريق الأوْلى. وأما ابن كسيان فاحتج على ذلك بأن قال: إنما جوَّزنا جمعه بالواو والنون وذلك لأن التاء تسقط في الطَّلْحَات، فإذا سقطت التاء وبقيَ الاسم بغير تاء جاز جمعه بالواو والنون، كقولهم "أرْض وأَرَضُون" وكما حركت العين من أَرَضُون بالفتح حملًا على أَرَضَات فكذلك حركات العين من"الطَّلَحُون" حملًا على الطَّلَحَات؛ لأنهم يجمعون ما كان على "فَعْلة" من الأسماء دون الصفات على "فَعَلَاتٍ". وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على امتناع جواز هذا الجمع بالواو والنون وذلك لأن في الواحد علامة التأنيث، والواو والنون علامة التذكير، فلو قلنا إنه يجوز أن يجمع بالواو والنون لأدّى ذلك إلى أن يجمع في اسم واحد علامتان متضادتان، وذلك لا يجوز، ولهذا إذا وصفوا المذكر بالمؤنث فقالوا "رجل رَبْعة" جمعوه بلا خلاف فقالوا "رَبْعَات" ولم يقولوا: رَبْعُون، والذي يدل على صحة هذا القياس أنه لم يسمع من العرب في جمع هذا الاسم أو نحوه إلا بزيادة الألف والتاء، كقولهم في جمع طلحة "طَلَحَات" وفي جمع هبيرة "هُبَيْرَات" قال الشاعر: [19] رحم الله أَعْظُمًا دَفَنُوها ... بِسِجِسْتَان طَلْحَةَ الطّلَحَات ولم يسمع عن أحد العرب أنهم قالوا الطلحون ولا الهبَيرون، ولا في شيء من هذا النحو بالواو والنون، فإذا كان هذا الجمع مدفوعًا من جهة القياس معدومًا من جهة النقل فوجب أن لا يجوز. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنه في التقدير جمع طَلْح" قلنا: هذا فاسد؛ لأن الجمع إنما وقع على جميع حروف الاسم، لأنا إيَّاه نَجْمَعُ، وإليه نقصد، وتاء التأنيث من جملة حروف هذا الاسم، فلم ننزعها عنه قبل الجمع وإن كان اسمًا لمذكر؛ لئلا يكون بمنزلة ما سُمِّي به ولا علامة فيه، فالتاء في جمعه مكان التاء في واحدة.

_ [19] هذا البيت من كلام عبيد الله بن قيس الرقيات، من كلمة له يقولها في طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، وقد أنشده ابن منظور "ط ل ح" وقد اختلف في سبب تسميته "طلحة الطلحات" فيقل: كان كريما وأنه زوّج مائة عربي بمائة عربية وأمهرهنَّ من ماله، فولد لكل واحد ولد فسمّاه طلحة، فأضيف إليهم، لأن يده كانت السبب فيهم، وقيل: بل لأن أمه صفية بنت الحارث بن طلحة، واسم عمّها طلحة، واسم أخيها طلحة، فلما اكتنفه هؤلاء الطلحات أضافوه إليهم.

وأما ما استشهدوا به من قوله: وعقبة الأعقاب في الشهر الأصم [18] فهو مع شذوذه وقلته فلا تعلق له بما وَقَعَ الخلاف فيه؛ لن جمع التصحيح ليس على قياس جمع التكسير ليحمل عليه. وأما قولهم "إنا أجمعنا على أنك لو سميت رجلًا بحمراء وحُبْلَى لقلت في جمعه: حَمْرَاؤون وحُبْلَوْنَ إلى آخر ما قدَّروا" قلنا: إنما جمع ما في آخره ألف التأنيث بالواو والنون لأنها يجب قلبها إلى بدل، لأنها صيغت عليها الكلمة، فنزلت منزلة بعضها، فلم تفتقر إلى أن تُعَوَّض بعلامة تأنيث الجمع، بخلاف التاء، فإنها يجب حذفها إلى غير بدل، لأنها ما صيغت عليها الكلمة، وإنما هي بمنزلة اسم ضُمّ إلى اسم، فجعلت علامة تأْنيث الجمع عوضًا منها. وأما قول ابن كيسان "إن التاء تسقط في الطَّلَحَاتِ، فإذا سقطت التاء جاز أن تجمع بالواو والنون" قلنا: هذا فاسد؛ لأن التاء وإن كانت محذوفة لفظًا إلا أنها ثابتة تقديرًا؛ لأن الأصل فيها أن تكون ثابتة، ألا ترى أن الأصل أن تقول في جمع مسلمة "مسلمتات" وصالحة "صالحتات" إلا أنهم لما أدخلوا تاء التأنيث في الجمع حذفوا هذه التاء التي كانت في الواحد؛ لأنهم كرهوا أن يجمعوا بينهما، لأن كل واحدة منهما علامة تأنيث، ولا يجمع في اسم واحد علامتا تأنيث، فحذفوا الأولى فقالوا "مسلمات، وصالحات" وكان حذف الأولى أَوْلى لأن في الثانية زيادة معنى، ألا ترى أن الأولى تدلّ على التأنيث فقط، والثانية تدل على التأنيث والجمع، وهي حرف الإعراب، فلما كان في الثانية زيادة معنى كان تَبْقيتها وحذفُ الأولى أولى، فهي وإن كانت محذوفة لفظًا إلا أنها ثابتة تقديرًا؛ فصار هذا بمنزلة ما حذف لالتقاء الساكنين؛ فإنه وإن كان محذوفًا لفظًا إلا أنه ثابتًا تقديرًا، فكذلك ههنا. وإذا كانت التاء المحذوفة ههنا في حكم الثابت فينبغي أن لا يجوز أن تجمع بالواو والنون كما لو كانت ثابتة. والذي يدل على فساد ما ذهب إليه فتح العين من قول "الطّلَحُون" لأن الأصل في الجمع بالواو والنون أن يَسْلَمٍ فيه لفظ الواحد في حروفه وحركاته، والفتح قد أدْخَلَ في جمع التصحيح تكسيرًا. فأما قوله "إن العين حركت من أَرَضُون بالفتح حملًا على أَرَضَات" قلنا: لا نسلم، وإنما غُير فيه لفظ الواحد؛ لأنه جمع على خلاف الأصل؛ لأن الأصل في الجمع بالواو والنون أن يكون لمن يعقل، ولكنهم لما جمعوه بالواو والنون غيَّرُوا.

فيه لفظ الواحد تعويضًا عن حذف تاء التأنيث منه تخصيصًا له بشيء لا يكون في سائر أخواته، مع أن هذا التعويض تعويض جواز، لا تعويض وجوب، ألا ترى أنهم لا يقولون في جمع شمس شمسون ولا في جمع قِدْر قِدْرُون، فلما كان هذا الجمع في أرض على خلاف الأصل أُدْخِلَ فيه ضَرْبٌ من التغيير، ففتحت العين منه إشعارًا بأنه جمع بالواو والنون على خلاف الأصل. فأما إذا جمع مَنْ يعقل بالواو والنون فلا يجوز أن يجعل بهذه المَثَابة؛ لأن جمعه بالواو والنون بحكم الأصل لا بحكم التعويض؛ فلا يجوز أن يدخله ضرب من التغيير كما كان ذلك في أرضون ويُخَرَّج على هذا حذف التاء وفتح العين من طَلَحات: أما حذف التاء فلأن التاء الثانية صارت عوضًا عنها لأنها للتأنيث كما أنها للتأنيث، وأما أنتم فحذفتم من غير عوض، فَبَانَ الفرقُ؛ وأما فتح العين فلأجل الفصل بين الاسم والصفة، فإن ما كان على فَعْلَة من الأسماء فإنه يفتح منه العين نحو قَصَعَات وجَفَنَات، وما كان صفة فإنه لا تحرك منه العين نحو خَدْلَات وصَعْبَات. وأما جمع التصحيح بالواو والنون فلا يدخله شيء من هذا التغيير، ألا ترى أنه لا يفْرق فيه بين الاسم والصفة؛ فلا يقال في الاسم بالفتح نحو عَمَرَون وبَكَرَون. وإنما يقال بالسكون نحو عَمْرُون وبَكْرُون، كما يقال في الصفة نحو خَدْلُون وصَعْبُون؛ فَبَانَ الفرقُ بينهما، والله أعلم.

مسألة القول في رافع المبتدأ ورافع الخبر

5- مسألة: [القولُ في رافع المبتدأ ورافع الخبر] 1 ذهب الكوفيون إلى أن المبتدأ يرفع الخبر، والخبر يرفع المبتدأ؛ فهما يترافعان، وذلك نحو "زيد أخوك، وعمرو غلامك". وذهب البصريون إلى أن المبتدأ يرتفع بالابتداء، وأما الخبر فاختلفوا فيه: فذهب قوم إلى أنه يرتفع بالابتداء وحده، وذهب آخرون إلى أنه يرتفع بالابتداء والمبتدأ معًا، وذهب آخرون إلى أنه يرتفع بالمبتدأ والمبتدأ يرتفع بالابتداء. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن المبتدأ يرتفع بالخبر والخبر يرتفع بالمبتدأ لأنَّا وجدنا المبتدأ لا بدّ له من خبر، والخبر لا بدّ له من مبتدأ، ولا ينفك أحدهما من صاحبه، ولا يتم الكلام إلا بهما، ألا ترى أنك إذا قلت "زيد أخوك" لا يكون أحدهما كلامًا إلا بانضمام الآخر إليه؟ فلما كان كل واحد منهما لا ينفك عن الآخر ويقتضي صاحبه اقتضاءً واحدًا عمل كل واحد منهما في صاحبه مثل ما عمل صاحبه فيه؛ فلهذا قلنا: إنهما يترافعان، كل واحد منهما يرفع صاحبه. ولا يمتنع أن يكون كل واحد منهما عاملًا ومعمولًا، وقد جاء لذلك نظائر كثيرة، قال الله تعالى: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] فنصب "أيَّا ما" بـ "تَدْعُوا"، وجزم "تدعوا" بـ "أيّا ما"، فكان كل واحد منهما عاملًا ومعمولًا، وقال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} [النساء: 78] فأينما منصوب بتكونوا وتكونوا مجزوم بأينما، وقال تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ} [البقرة: 115] إلى غير ذلك من المواضع 2، فكذلك ههنا.

_ 1 انظر في هذه المسألة: تصريح الشيخ خالد "1/ 189 بولاق" وشرح الأشموني "1/ 254 بتحقيقنا" وحاشية الصبان عليه "1/ 186 بولاق" وأسرار العربية للمؤلف "ص31 ليدن" وابن عقيل "1/ 174 بتحقيقنا" وقد قال بعد ذكر المذاهب: "وهذا خلاف مما لا طائل فيه". 2 هي عند التأمل موضع واحد، ولكن أمثلته متعددة، ويجمع الكل أن بعض أسماء الشرط تعمل في الشرط والجواب جميعا، والجواب أو الشرط يعمل فيها.

قالوا: ولا يجوز أن يقال أن المبتدأ يرتفع بالابتداء، لأنا نقول: الابتداء لا يخلو: إما أن يكون شيئًا من كلام العرب عند إظهاره، أو غير شيء؛ فإن كان شيئًا فلا يخلو من أن يكون اسمًا أو فعلًا أو أداة من حروف المعاني؛ فإن كان اسمًا فينبغي أن يكون قبله اسم يرفعه، وكذلك ما قبله إلى ما لا غاية له، وذلك محال، وإن كان فعلًا فينبغي أن يقال زيد قائمًا كما يقال "حضر زيد قائمًا" وإن كان أداة فالأدوات لا ترفع الأسماء على هذا الحد. وإن كان غير شيء فالاسم لا يرفعه إلا رافع موجود غير معدوم، ومتى كان غير هذه الأقسام الثلاثة التي قدمناها فهو غير معروف. قالوا: ولا يجوز أن يقال إنا نعني بالابتداء التَّعَرِّي من العوامل اللفظية، لأنا نقول: إذا كان معنى الابتداء هو التعري من العوامل اللفظية فهو إذًا عبارة عن عدم العوامل، وعدم العوامل لا يكون عاملًا. والذي يدل على أن الابتداء لا يوجب الرفع أنَّا نجدهم يبتدئون بالمنصوبات والمسكنات والحروف، ولو كان ذلك مُوجبًا للرفع لوجب أن تكون مرفوعة، فلما لم يجب ذلك دلّ على أن الابتداء لا يكون موجبًا للرفع. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن العامل هو الابتداء وإن كان الابتداء هو التعري من العوامل اللفظية لأن العوامل في هذه الصناعة ليست مؤثرة حسية كالإحراق للنار والإغراق للماء والقطع للسيف، وإنما هي أمارات ودلالات، وإذا كانت العوامل في محلّ الإجماع إنما هي أمارات ودلالات فالأمارة والدلالة تكون بعدم شيء كما تكون بوجود شيء، ألا ترى أنه لو كان معك ثوبان وأردت أن تميز أحدهما من الآخر فصبغْتَ أحدهما وتركت صبغ الآخر لكان تَرْكُ صبغ أحدهما في التمييز بمنزله صبغ الآخر؟ فكذلك ههنا. وإذا ثبت أنه عامل في المبتدأ وجب أن يعمل في خبره، قياسًا على غيره من العوامل، نحو "كان" وأخواتها و"إن وأخواتها" و "ظننت" وأخواتها فإنها لما عملت في المبتدأ عملت في خبره فكذلك ههنا. وأما من ذهب إلى أن الابتداء والمبتدأ جميعا يعملان في الخبر فقالوا: لأنا وجدنا الخبر لا يقع إلا بعد الابتداء والمبتدأ؛ فوجب أن يكونا هما العاملين فيه، غير أن هذا القول وإن كان عليه كثير من البصريين إلا أنه لا يخلو من ضعف، وذلك لأن المبتدأ اسم، والأصل في الأسماء أن لا تعمل، وإذا لم يكن له تأثير في العمل، والابتداء له تأثير، فإضافة ما لا تأثير له إلى ما له تأثير لا تأثير له. والتحقيق فيه عندي أن يقال: إن الابتداء هو العامل في الخبر بواسطة

المبتدأ؛ لأنه لا ينفكُّ عنه، ورتبتُه أن لا يقع إلا بعده، فالابتداء يعمل في الخبر عند وجود المبتدأ، لا به، كما أن النار تُسَخِّنِ الماء بواسطة القِدْر والحَطَبِ، فالتسخين إنما حصل عند وجودهما، لا بهما؛ لأن التسخين إنما حصل بالنار وحدها، فكذلك ههنا، الابتداء وحده هو العامل في الخبر عند وجود المبتدأ، إلا أنه عامل معه؛ لأنه اسم، والأصل في الأسماء أن لا تعمل. وأما مَنْ ذهب إلى أن الابتداء يعمل في المبتدأ، والمبتدأ يعمل في الخبر، فقالوا: إنما قلنا إن الابتداء يعمل في المبتدأ، والمبتدأ يعمل في الخبر دون الابتداء؛ لأن الابتداء عامل معنوي، والعامل المعنوي ضعيف؛ فلا يعمل في شيئين كالعامل اللفظي. وهذا أيضًا ضعيف؛ لأنه متى وجب كونه عاملًا في المبتدأ وجب أن يعمل في خبره؛ لأن خبر المبتدأ يتنزل منزلَةَ الوَصْفِ، ألا ترى أن الخبر هو المبتدأ في المعنى، كقوله: "زيد قائم، وعمرو ذاهب" أو منزل منزلته، كقوله "زيد الشمسُ حُسْنًا، وعمرو الأسدُ شدةً" أي يتنزل منزلته، وكقولهم "أبو يوسف أبو حنيفة" أي يتنزل منزلته في الفقه، قال الله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي تتنزّل منزلتهن في الحرمة والتحريم؛ فلما كان الخبر هو المبتدأ في المعنى، أو منزّلًا منزلته تنزل منزلة الوصف؛ لأن الوصف في المعنى هو الموصوف. ألا ترى أنك إذا قلت "قام زيدٌ العاقلُ، وذهب عمروٌ الظريفُ" أن العاقل في المعنى هو زيد، والظريف في المعنى هو عمرو؟ ولهذا لما تنزل الخبر منزلة الوصف كان تابعًا للمبتدأ في الرفع؛ كما تتبع الصفة الموصوف، وكما أن العامل في الوصف هو العامل في الموصوف، سواء كان العامل قويًّا أو ضعيفًا، فكذلك ههنا. وأما قولهم "إن المبتدأ يعمل في الخبر" فسنذكر فساده في الجواب عن كلمات الكوفيين. أما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنهما يترافعان؛ لأن كل واحد منهما لا بُدّ له من الآخر ولا ينفكّ عنه" قلنا: الجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن ما ذكرتموه يؤدِّي إلى محال، وذلك لأن العامل سبيله أن يُقَدَّرَ قبل المعمول، وإذا قلنا إنهما يترافعان وجب أن يكون كل واحد منهما قَبْلَ الآخر، وذلك مُحَال، وما يؤدي إلى المحال محال. والوجه الثاني: أن العامل في الشيء ما دام موجودًا لا يدخل عليه عامل غيره؛ لأن عاملًا لا يدخل على عامل، فلما جاز أن يقال:"كان زيد أخاك، وإن

زيدًا أخوك، وظننت زيدًا أخاك" بطل أن يكون أحدهما عاملًا في الآخر. وأما ما استشهدوا به من الآيات فلا حجة لهم "فيه" من ثلاثة أوجه: أحدها: أنا لا نسلّم أن الفعل بعد أيّا ما وأينما مجزوم بأيّا ما وأينما، وإنما هو مجزوم بإِنْ، وأيّا ما وأينما نابا عن إنْ لفظًا، وإن لم يعملا شيئًا. والوجه الثاني: أنا نسلم أنها نَابَتْ عن إنْ لفظًا وعملًا، ولكن جاز أن يعمل كل واحد منهما في صاحبه لاختلاف عملهما، ولم يعملا من وجه واحد؛ فجاز أن يجتمعا ويعمل كل واحد منهما في صاحبه، بخلاف ما هنا. والوجه الثالث: إنما عمل كل واحد منهما في صاحبه لأنه عامل؛ فاستحق أن يعمل، وأما ههنا فلا خلاف أن المبتدأ والخبر نحو: "زيد أخوك" اسمان باقيان على أصلهما في الاسمية، والأصل في الأسماء أن لا عمل؛ فَبَانَ الفرقُ بينهما. وأما قولهم "إن الابتداء لا يخلو من أن يكون اسمًا أو فعلًا أو أداة إلى آخر ما قرروا "قلنا: قد بيّنا أن الابتداء عبارة [عن التَّعَرِّي] عن العوامل اللفظية. وقولهم "فإذا كان معنى الابتداء هو التعرّي عن العوامل اللفظية هو إذًا عبارة عن عدم العوامل، وعدم العوامل لا يكون عاملًا" قلنا: قد بيّنا وجه كونه عاملًا في دليلنا بما يغني عن الإعادة ههنا، على أن هذا يلزمكم في الفعل المضارع؛ فإنكم تقولون "يرتفع بتعرِّية من العوامل الناصبة والجازمة"، وإذا جاز لكم أن تجعلوا التعرّي عاملًا في الفعل المضارع جاز لنا أيضًا أن نجعل التعرّي عاملًا في الاسم المبتدأ. وحكي أنه اجتمع أبو عمر الجَرْمِي وأبو زكريا يحيى بن زياد الفَرَّاء، فقال الفراء للجرمي: أخبرني عن قولهم "زيد منطلق" لم رفعوا زيدًا1؟ فقال له الجرمي: بالابتداء، قال له الفراء: ما معنى الابتداء؟ قال: تَعْرِيته من العوامل، قال له الفراء: فأظهره، قال له الجرمي: هذا معنى لا يُظْهَر قال له الفراء: فمثله إذًا، فقال الجرمي: لا يتمثل، فقال الفراء: ما رأيت كاليوم عاملًا، لا يُظْهَر ولا يتمثل! فقال له الجرمي: أخبرني عن قولهم: "زيد ضربته" لم رفعتم1 زيدًا؟ فقال: بالهاء العائدة على زيد، فقال الجرمي: الهاء اسم فكيف يرفع الاسم؟ فقال الفراء: نحن لا نبالي من هذا؛ فإنا نجعل كل واحد من الاسمين إذا قلت "زيد منطلق" رافعًا

_ 1 لعل أصل العبارة "بم رفعوا زيدًا؟ " وكذلك "بم رفعتم زيدًا؟ "

لصاحبه، فقال الجرمي: يجوز أن يكون كذلك في "زيد منطلق" لأن كل اسم منهما مرفوع في نفسه فجاز أن يرفع الآخر، وأما الهاء في "ضربته" ففي محل النصب، فكيف ترفع الاسم؟ فقال الفراء: لا نرفعه بالهاء، وإنما رفعناه بالعائد على زيد، قال الجرمي: ما معنى العائد؟ قال الفراء: معنى لا يظهر، قال الجرمي: أظهره، قال الفراء؛ لا يمكن إظهاره، قال الجرمي: فمثله، قال: لا يتمثل، قال الجرمي: لقد وقعت فيما فَرَرْتَ منه. فحُكي أنه سئل الفراء بعد ذلك فقيل له: كيف وجدت الجرمي؟ فقال: وجدته آية، وسئل الجرمي، فقيل له: كيف وجدت الفراء؟ فقال: وجدته شيطانًا. وأما قولهم "إنا نجدهم يبتدئون بالمنصوبات والمسكنات والحروف ولو كان ذلك موجبًا للرفع لوجب أن تكون مرفوعة" قلنا: أما المنصوبات فإنها لا يتصور أن تكون مبتدأة؛ لأنها وإن كانت متقدمة في اللفظ إلا أنها متأخرة في التقدير؛ لأن كل منصوب لا يخلو إما أن يكون مفعولًا أو مشبهًا بالمفعول، والمفعول لا بدّ أن يتقدمه عامل لفظًا أو تقديرًا، فلا تصح له رتبة الابتداء، وإذا كانت هذه المنصوبات متقدمة في اللفظ متأخرة التقدير لم يصح أن تكون مبتدأة؛ لأنه لا اعتبار بالتقديم إذا كان في تقدير التأخير، وأما المسكنات إذا ابتدئ بها فلا يخلو إما أن تقع مُقَدَّمة في اللفظ دون التقدير أو تقع مقدمة في اللفظ والتقدير: فإن وقعت متقدمة في اللفظ دون التقدير كان حكمها حكم المنصوبات؛ لأنها في تقدير التأخير. وإن وقعت متقدمة في اللفظ والتقدير فلا تخلو: إما أن تستحق الإعراب في أول وضعها، أو لا تستحق الإعراب في أول وضعها: فإن كانت تستحق الإعراب في أول وضعها نحو "مَن، وكم" وما أشبه ذلك من الأسماء المبنية على السكون فإنا نحكم على موضعها بالرفع بالابتداء، وإنما لم يظهر في اللفظ لعلة عارضة منعت من ظهوره، وهي شَبَهُ الحرف1 أو تضمُّن معنى الحرف. وإن كانت لا تستحق الإعراب في أول وضعها -نحو الأفعال والحروف المبنية على السكون- فإنا لا نحكم على موضعها بالرفع بالابتداء؛ لأنها لا تستحق شيئًا من الإعراب في أول الوضع، فلم يكن الابتداء موجبًا لها الرفع؛ لأنه نوع منه. وهذا هو الجواب عن قولهم: "إنهم يبتدئون بالحروف، فلو كان ذلك موجبًا للرفع لوجب أن تكون مرفوعة" وعدم عمله في محل لا يقبل العمل لا يدل على عدم عمله في محل يقبل العمل، ألا ترى أن السيف يقطع في محلٍّ ولا يقطع في

_ 1 المراد بشبه الحرف ههنا الشبه الوضعي، بدليل ذكره الشبه المعنوي بعده.

محلٍّ آخر؟! وعدم قطعه في محلّ لا يقبل القطع لا يدل على عدم قطعه في محل يقبل القطع؛ لأن عدم القطع في محلّ لا يقبل القطع إنما كان لنُبُوِّهِ في المحل، لا لأن السيف غير قاطع، فكذلك ههنا: عدم عمل الابتداء في محل لا يقبل العمل إنما كان لعدم استحقاق المعمول ذلك العمل، لا لأن الابتداء غير صالح أن يعمل ذلك العمل، والله أعلم.

مسألة في رافع الاسم الواقع بعد الظرف والجار والمجرور

6- مسألة: [في رافع الاسم الواقع بعد الظرف والجار والمجرور] 1 ذهب الكوفيون إلى أن الظرف يرفع الاسم إذا تقدم عليه، ويسمُّون الظرف المحلّ، ومنهم من يسميه الصفة، وذلك نحو قولك "أمامك زيد، وفي الدار عمرو" وإليه ذهب أبو الحسن الأَخْفَش في أحَدِ قَوليه وأبُو العباس محمد بن يزيد المُبَرِّد من البصريين، وذهب البصريون إلى أن الظرف لا يرفع الاسم إذا تقدم عليه، وإنما يرتفع بالابتداء. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن الأصل في قولك: "أمامك زيد، وفي الدار عمرو" حلّ أمَامَكَ زيد، وحلّ في الدار عمرو، فحذف الفعل واكتفى بالظرف منه، وهو غير مطلوب، فارتفع الاسم به كما يرتفع بالفعل. والذي يدلّ على صحة ما ذهبنا إليه أن سيبويه يساعدنا على أن الظرف يرفع إذا وقع خبرًا لمبتدأ، أو صفة لموصوف، أو حالًا لذي حال، أو صلةً لموصول، أو معتمدًا على همزة الاستفهام أو حرف النفي، أو كان الواقع بعده "أنَّ" التي في تقدير المصدر؛ فالخبر كقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ} [سبأ: 37] فجزاء مرفوع بالظرف، والصفة كقولك "مررت برجل صالح في الدار أبوه"، والحال كقولك "مررت بزيد في الدار أبوه" وعلى ذلك قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ} "فهدى ونور" مرفوعان بالظرف لأنه حال من الإنجيل، ويدل عليه قوله تعالى {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [المائدة: 46] فعطف "مصدقا" على حال قبله، وما ذاك إلا الظرف، والصلة كقوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] والمعتمد

_ 1 انظر في هذه المسألة: مغني اللبيب لابن هشام "ص423 بتحقيقنا" وانظر في بعض ما ذكره المؤلف شروح الألفية في مبحث وقوع الخبر ظرفًا أو جارًّا ومجرورًا "التصريح للشيخ خالد 1/ 198 وحاشية الصبَّان على الأشموني 1/ 193 بولاق" وشرح الرضي على الكافية "1/ 83" وشرح موفق الدين بن يعيش على مفصل الزمخشري "ص108 أوروبة".

على الهمزة كقوله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم: 10] ، وحرف النفي كقولك: "ما في الدار أحدٌ"، وأنَّ كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ} [فصلت: 39] فأنَّ وما عملت فيه في موضع رفع بالظرف، وإذا عمل الظرف في هذه المواضع كلها فكذلك فيم وقع الخلاف فيه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا أن الاسم بعده يرتفع بالابتداء لأنه قد تعرَّى من العوامل اللفظية، وهو معنى الابتداء، فلو قُدِّرَ ههنا عامل لم يكن إلا الظرف، وهو لا يصلح ههنا أن يكون عاملا لوجهين: أحدهما: أن الأصل في الظرف أن لا يعمل، وإنما يعمل لقيامه مقام الفعل، ولو كان ههنا عاملًا لقيامه مقام الفعل ما جاز أن تدخل على العوامل فتقول "إن أمامك زيدًا، وظننت خلفك عمرًا"، وما أشبه ذلك؛ لأن عاملًا لا يدخل على عامل؛ فلو كان الظرف رافعًا لزيد لما جاز ذلك، ولما كان العامل يتعداه إلى الاسم ويُبْطِلُ عمله، كما لا يجوز أن تقول "إنَّ يقوم عمرًا، وظننت ينطلق بكرًا" فلما تعدّاه العامل إلى الاسم كما قال تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا} [المزمل: 12] ولم يُرْو عن أحد من القراء أنه كان يذهب إلى خلاف النصب دلّ على ما قلناه. والثاني: أنه لو كان عاملا لوجب أن يُرْفَعَ به الاسم في قولك "بك زيد مأخوذ" وبالإجماع أنه لا يجوز ذلك. اعترضوا على هذين الوجهين من وجهين: أما الوجه الأول فاعترضوا عليه بأن قالوا: قولكم "إن العامل يتعدَّاه إلى الاسم بعده" ليس بصحيح؛ لأن المحلّ عندنا اجتمع فيه نَصْبَان: نصب المحل في نفسه، ونصب العامل، ففاض أحدهما إلى "زيد" فنصبه. وأما الوجه الثاني فاعترضوا عليه بأن قالوا: قولكم "إنه لو كان عاملا لوجب أن يرفع الاسم في قولك: بك زيد مأخوذ" ليس بصحيح، وذلك لأن "بك" مع الإضافة إلى الاسم لا يفيد، بخلاف قولنا "في الدار زيد" إذا أضيف إليه الاسم فإنه يفيد ويكون كلامًا. وما اعترضوا به على الوجهين باطل: أما اعتراضهم على الوجه الأول: قولهم "إنه اجتمع في المحل نصبان: نصب المحل في نفسه، ونصب العامل" قلنا: هذا باطل من وجهين: أحدهما: أن هذا يؤدي إلى أنه يجوز أن يكون الاسم منصوبًا من وجهين.

وذلك لا يجوز، ألا ترى أنك لو قلت "أكرمت زيدًا وأعطيت عمرًا العاقلين" لم يجز أن تنصبه على الوصف؛ لأنك تجعله منصوبًا من وجهين، وذلك لا يجوز، فكذلك ههنا. والوجه الثاني: أن النصب الذي فاض من المحلّ إلى الاسم لا يخلو: إما أن يكون نصب المحل، أو نصب العامل؛ فإن قلتم نصب الظرف فقولوا إنه منصوب بالظرف، وهذا ما لا يقول به أحد؛ لأنه لا دليل عليه، وإن قلتم إنه نَصْبُ العامل فقد صح قولنا: إن العامل يتعدَّاه إلى ما بعده ويُبْطل عمله. وأما اعتراضهم على الوجه الثاني: قولهم "إن بِكَ مع الإضافة إلى الاسم لا يفيد، بخلاف قولك في الدار إذا أضيف إليه الاسم فإنه يفيد" فباطل أيضًا؛ وذلك لأنه لو كان عاملا لما وقع الفرقُ بينهما في هذا المعنى، ألا ترى أن قولك "ضَارَبَ زَيْدٌ" لا يفيد، و"سار زيد" يفيد، ومع هذا فكل منهما عامل كالآخر، فكذلك كان ينبغي أن يكون ههنا. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن الأصل في قولك أمامك زيد وفي الدار عمرو: حَلَّ أمامك زيد، وحلّ في الدار عمرو؛ فحذف الفعل، واكتفى بالظرف منه" قلنا: لا نسلم؛ أنَّ التقدير في الفعل التقديم، بل الفعل وما عمل فيه في تقدير التأخير؛ وتقديم الظرف لا يدل على تقديم الفعل؛ لأن الظرف معمول الفعل، والفعل هو الخبر، وتقديم معمول الخبر لا يدل على أن الأصل في الخبر التقديم، ولأن المبتدأ يخرج عن كونه مبتدأ بتقديمه، ألا ترى أنك تقول "عمرًا زَيْدٌ ضَارِبٌ" ولا يدل ذلك على أن الأصل في الخبر التقديم وإن كان يجوز تقديمه على المعمول، فكذلك ههنا. والذي يدل على أن الفعل ههنا في تقدير التأخير والاسم في تقدير التقديم مسألتان؛ إحداهما: أنك تقول "في داره زيد" ولو كان كما زعمتم لأدَّى ذلك إلى الإضمار قبل الذكر، وذلك لا يجوز، والثانية: أنَّا أجمعنا على أنه إذا قال "في داره زيد قائم" فإن زيدًا لا يرتفع بالظرف، وإنما يرتفع عندكم بقائم، وعندنا يرتفع بالابتداء، ولو كان مقدّمًا على زيد لوجب أن لا يلغى. وأما قولهم "إنَّ الفعل غير مطلوب" قلنا: لو كان الفعل غير مطلوب ولا مقدر لأدَّى ذلك إلى أن يبقى الظرف منصوبًا بغير ناصب، وذلك لا يجوز، وسنبيّن فساد ذلك في موضعه. وأما قولهم "إن سيبويه يساعدنا على أن الظرف يَرْفَعُ إذا وقع خبرًا لمبتدأ، أو صفة لموصوف، أو حالًا لذي حال، أو صلة لموصول، أو معتمدًا على همزة

الاستفهام إلى غير ذلك" فإنما كان كذلك لأن هذه المواضع أولى بالفعل من غيره، فَرَجَحَ جانبهُ على الابتداء، كما قلنا في اسم الفاعل إذا جرى خبرًا لمبتدأ، أو صفة لموصوف، أو حالًا لذي حال، أو صلة لموصول، أو معتمدًا على همزة الاستفهام أو حرف النفي، فالخبر كقولك "زيد قائم أبوه" والصفة كقولك "مررت برجل كريم أخوه" والحال كقولك: "جاءني زيد ضاحكًا وجْهُه" والصلة كقولك: "رأيت الذاهِبَ غُلَامُه" والمعتمد على الهمزة نحو: "أَذَاهِبٌ أَخَوَاكَ" وحرف النفي نحو: "ما قائم غلامُك" وإنما كان ذلك لأن هذه الأشياء أولى بالفعل من غيره؛ فلهذا غَلَبَ جانب تقديره، بخلاف ما وقع الخلاف فيه، والله أعلم.

مسألة القول في تحمل الخبر الجامد ضمير المبتدأ

7- مسألة: [القول في تحمُّلِ الخبر الجامد ضميرَ المبتدأ] 1 ذهب الكوفيون إلى أن خبر المبتدأ إذا كان اسمًا محضًا2 يتضمّن ضميرًا يرجع إلى المبتدأ، نحو "زيد أخوك، وعمرو غُلَامُكَ" وإليه ذهب علي بن عيسى الرُّمَّانِيّ من البصريين. وذهب البصريون إلى أنه لا يتضمّن ضميرًا. وأجمعوا على أنه إذا كان صفة أنه يتضمن الضميرَ، نحو "زيد قائمٌ، وعمرو حسنٌ" وما أشبه ذلك. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يتضمن ضميرًا -وإن كان اسمًا غير صفة لأنه في معنى ما هو صفة، ألا ترى أن قولك "زيد أخوك" في معنى زيد قريبك، و"عمرو غلامك" في معنى عمرو خادمك، وقريبك وخادمك يتضمن كل واحد منهما الضمير، فلما كان خبر المبتدأ ههنا في معنى ما يتحمل الضمير وجب أن يكون فيه ضمير يرجع إلى المبتدأ. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يتضمن ضميرًا، وذلك لأنه اسم محض غير صفة، وإذا كان عاريًا عن الوصفية فينبغي أن يكون خاليًا عن الضمير؛ لأن الأصل في تضمن الضمير أن يكون للفعل، وإنما يتضمن الضميرَ من

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني "1/ 260 بتحقيقنا" وحاشية الصبان عليه "1/ 191 بولاق" والتوضيح للشيخ خالد "1/ 191 بولاق" وشرح موفق الدين بن يعيش "ص106 أوروبة" وشرح رضي الدين على الكافية "1/ 86". 2 أراد المؤلف بالاسم المحض: الاسم الجامد، ووجه أن الاسم المشتق يتضمن معنى الفعل، فهو مشوب برائحة الفعل، أما الجامد فخالص للاسمية لا تشوبه شائبة الفعل ولا يتضمّن معناه، وسيتّضح ذلك من كلام المؤلف غاية الاتضاح، وقد جاءت هذه العبارة في كلام موفق الدين بن يعيش وفسرها بما ذكرنا، في الموضع الذي دللناك عليه، ونصه "وأما القسم الثاني وهو ما لا يتحمل الضمير من الأخبار وذلك إذا كان الخبر اسمًا محضًا غير مشتق من فعل، نحو زيد أخوك وعمرو غلامك؛ فهذا لا يتحمل الضمير، لأنه اسم محض عارٍ من الوصفية" ا. هـ.

الأسماء ما كان مُشَابِهًا له ومتضمّنًا معناه كاسم الفاعل والصفة المشبهة به نحو "ضارب، وقاتل، وحَسَن، وكريم" وما أشبه ذلك، وما وقع الخلاف فيه ليس بينه وبين الفعل مشابهة بحال، ألا ترى أنك إذا قلت "زيدٌ أخُوكَ" كان أخوك دليلا على الشخص الذي دل عليه زيد، وليس فيه دلالة على الفعل، فكذلك إذا قلت "عمرو غلامك" كان غلامك دليلا على الشخص الذي دل عليه عمرو، وليس فيه دلالة على الفعل؛ فوجب أن لا يجوز الإضمار فيه، كما لا يجوز في زيد وعمرو. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: قولهم "إنما قلنا إنه يتضمن الضمير وإن كان اسمًا محضًا لأنه في معنى ما يتضمن الضمير لأن أخوك في معنى قريبك، وغلامك في معنى خادمك" قلنا: هذا فاسد؛ لأنه إنما جاز أن يكون قريبك وخادمك متحملا للضمير لأنه يشابه الفعل لفظًا ويتضمنه معنًى، وهو الأصل في تحمل الضمائر، ولا شُبْهَةَ في مشابهة اسم الفاعل والصفة المشبهة به للفعل، ألا ترى أن "خَادِم" على وزن "يَخْدم" في حركته وسكونه وأن فيه حروف خدَمَ الذي هو الفعل، وكذلك "قريب" فيه حروف قَرُبَ الذي هو الفعل؛ فجاز أن يتضمن الضمير، فأما أخوك وغلامك فلا شبهة في أنه لا مشابهة بينه وبين الفعل بحالٍ، فينبغي أن لا يتحمل الضمير، وكونه في معنى ما يشبه الفعل لا يوجب شبهًا بالفعل، ألا ترى أن حروف "أخوك، وغلامك" عارية من حروف الفعل الذي هو قَرُبَ وخَدَمَ؛ فينبغي أن لا يتحمل الضمير، ألا ترى أن المصدر إنما عَمِلَ عَمَلَ الفعل نحو "ضَرْبِي زيدًا حسنٌ" لتضمنه حروفَه، فلو أقمت ضمير المصدر مقامه فقلت "ضَرْبِي زيدا حسن وهو عمرًا قبيح" لم يجز وإن كان ضمير المصدر في معناه1؛ لأن المصدر إنما عمل الفعل لتضمنه حروفه، وليس في ضمير المصدر لفظ الفعل؛ فلا يجوز أن يعمل عمله، فكذلك ههنا: إنما جاز أن يتحمل نحو "قريبك، وخادمك" الضمير لمشابهته للفعل وتضمنه لفظه، ولم يجز ذلك في نحو "أخوك" و"غلامك" لأنه لم يشابه الفعل ولم يتضمن لفظه، والله أعلم.

_ 1 هذه مسألة خلافية بين الفريقين، وما كان ينبغي أن يحتج عليهم بما هو مذهبه دون مذهبهم.

مسألة في إبراز الضمير إذا جرى الوصف على غير صاحبه

مسألة في إبراز الضمير إذا جرى الوصف على غير صاحبه ... 8- مسألة: [القول في إبراز الضمير إذا جرى الوصف على غير صاحبه] 1 ذهب الكوفيون إلى أن الضمير في اسم الفاعل إذا جرى على غير مَنْ هو له نحو قولك "هند زيد ضاربتُهُ هي" لا يجب إبرازه. وذهب البصريون إلى أنه يجب إبرازه، وأجمعوا على أن الضمير في اسم الفاعل إذا جرى على مَنْ هو له لا يجب إبرازه. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه لا يجب إبرازه في اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له أنه قد جاء عن العرب أنهم قد استعملوه بترك إبرازه فيه إذا جرى على غير من هو له، قال الشاعر: [20] وإنَّ امْرَأً أسرَى إليك ودونه ... من الأرض مُومَاةٌ وبيداءُ سَمْلَقُ

_ [20] هذان البيتان من كلام الأعشى ميمون بن قيس، وقد أنشد أولهما رضي الدين في باب الحال، وأنشدهما معًا في باب الضمير، وانظر الخزانة "1/ 551"وقد أنشدهما ابن منظور "ح ق ق" منسوبين إليه. و"أسرى" سار ليلًا، وموماة: أي صحراء واسعة، والبيداء: هي الصحراء أيضًا، سموها بذلك لأن سالكها يبيد فيها، أي يهلك، وسموها أيضًا مفازة من الفوز تفاؤلًا لسالكها بأن ينجو من الهلكة، وسملق: أي قفر لا نبات فيها، ويقال للرجل: أنت حقيق أن تفعل كذا، وأنت محقوق أن تفعله، ويقال للمرأة: أنت حقيقة لذلك، وأنت محقوقة أن تفعلي ذلك، ومعنى ذلك أنت جديرة وخليقة وحرية، والمراد أنه يلزمك فعله لأن فعله حق من الحقوق التي لزمتك. والاستشهاد به في قوله "لمحقوقة" فإن هذه الكلمة وقعت خبرا لإن في أول البيتين، وهذا الخبر جار على غير مبتدئه، نعني أنه وصف لغير المبتدأ الذي وقع هو خبرا عنه، ومع ذلك لم يبرز الضمير معه، ولو أبرزه لقال: لمحقوقة أنت، وما أشبه ذلك، فلما لم يبرزه دلّ على أن إبرازه ليس بضربة لازب، وسيأتي للمؤلف فيما يلي إخراج هذا الشاهد عن أصل المسألة فيجعل قوله لمحقوقة مبتدأ خبره المصدر المؤول من "أن تستجيبي" أو مبتدأ و "أن تستجيبي" فاعل أغنى عن خبر المبتدأ وسننبه على ذلك هناك.

لمحقوقة أَنْ تستجيبي دعاءَه ... وأن تعلمي أن المُعَانَ مُوَفَّقُ فترك إبراز الضمير، ولو أبرزه لقال "محقوقة أنت" وقال الآخر: [21] يرى أَرْبَاقَهُم مُتَقَلِّدِيهَا ... كما صَدِئَ الحديد على الكُمَاة فترك إبرازه، ولو أبرزه لقال "متقلديها هم" فلما أضمره ولم يبرزه دلّ على جوازه، ولأن الإضمار في اسم الفاعل إنما جاز إذا جرى على من هو له لشبه الفعل، وهو مشابه له إذا جرى على غير من هو له، كما إذا جرى على من هو له؛ فكما جاز الإضمار فيه إذا جرى على من هو له فكذلك يجوز إذا جرى على غير من هو له. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه يجب إبرازه فيه إذا جرى على غير من هو له أنا أجمعنا على أن اسم الفاعل فَرْعٌ على الفعل في تحمل الضمير؛ إذ كانت الأسماء لا أصل لها في تحمل الضمير وإنما يُضْمَرُ فيما شَابَهَ منها الفعل كاسم الفاعل نحو "ضارب، وقاتل" والصفة المشبهة به نحو "حسن، وشديد" وما أشبه ذلك؛ فإذا ثبت أن اسم الفاعل فرع على الفعل فلا شك أن المشبه بالشيء يكون أضعف منه في ذلك الشيء، فلو قلنا إنه يتحمل الضمير في كل حالة -إذا جرى على من هو له، وإذا جرى على غير من هو له- لأدّى ذلك إلى التسوية بين الأصل والفرع، وذلك لا يجوز؛ لأن الفروع أبدًا تنحطُّ عن درجة الأصول، فقلنا: إنه إذا جرى على غير من هو له يجب إبراز الضمير؛ ليقع الفرقُ بين الأصل والفرع. ومنهم من تمسك بأن قال: إنما قلنا يجب إبراز الضمير فيه إذا جرى على غير من هو له لأنا لو لم نبرزه لأدّى ذلك إلى الالتباس، ألا ترى أنك لو قلت "زيد أخوه ضارب" وجعلت الفعل لزيد ولم تبرز الضمير لأدّى ذلك إلى أن يسبق إلى فَهْمِ السامع أن الفعل للأخ دون زيد، ويلتبس عليه ذلك؟ ولو أبرزت الضمير لزال هذا الالتباس؛

_ [21] لم أقف لهذا الشاهد على نسبة ولا تكملة، ولا وجدت من أنشده غير المؤلف. والأرباق: جمع ربق -بكسر الراء وقد تفتح، والباء ساكنة- وأصله الحبل والحلقة التي تشد بها الغنم الصغار لئلا ترضع، ومتقلديها: أي جاعليها في أعناقهم في موضع القلادة، والكماة: جمع كمي، وهو الشجاع المتكمي، أي المستتر الذي غطى وجهه، وكانوا يفعلون ذلك إذا كان عليهم ثارات، مخافة أن يتلمس أحد أعدائهم غفلتهم فيفتك بهم، والاستشهاد في البيت بقوله "متقلديها" فإن هذه الكلمة قد وقعت في هذا البيت مفعولًا ثانيًا لترى، وأنت خبير أن أصل المفعول الثاني لأرى خبر مبتدأ، وأن المفعول الأول هو مبتدأ ذلك الخبر، وأنت ترى أن الخبر جار على غير مبتدئه، لأن "متقلديها" وصف للابسي ما عبر عنه بالأرباق، لا للأرباق نفسها، ومع ذلك لم يبرز معه الضمير، ولو أبرزه لقال "متقلديها هم" فدل ذلك على أن إبراز الضمير إذا جرى الوصف على غير من هو له ليس واجبًا لا معدى عنه.

فوجب إبرازه؛ لأنه به يحصل إفهامُ السامع ورفع الالتباس؛ ويخرج على هذا إذا جرى على من هو له؛ فإنه إنما لم يلزمه إبراز الضمير لأنه لا التباس فيه، ألا ترى أنك لو قلت "زيد ضارب غلامه" لم يسبق إلى فهم السامع إلا أن الفعل لزيد؛ إذ كان واقعًا بعده فلا شيء أولى به منه، فبان بما ذكرنا صحة ما صرنا إليه. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما البيت الأول وهو قوله: [20] لمحقوقةٌ أن تستجيبي دعاءَه فلا حُجَّة لهم فيه؛ لأنه محمول عندنا على الاتّساع والحذف، والتقدير فيه: لمحقوقة بك أن تستجيبي دعاءه1، وإذا جاز أن يُحْمَل البيت على وجه سائغ في العربية فقد سقط الاحتجاج به. وأما البيت الثاني، وهو قول الآخر: [21] ترى أَرْبَاقَهُم مُتَقَلِّدِيهَا فلا حجة لهم فيه أيضًا؛ لأن التقدير فيه ترى أصحاب أرباقهم، إلا أنه حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كما قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي: أهل القرية، وقال تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93] ومنه قولهم: "الليلَةَ الهِلَالُ" أي: طلوعُ الهلالِ؛ لأن ظروف الزمان لا تكون إخبارًا عن الجُثَثِ. قال الشاعر: [22] وشرُّ المنايا ميِّت وَسْطَ أهْلِهِ ... كَهُلْكِ الفَتَى قد أسلم الحَيَّ حَاضِرُهْ

_ [22] هذا البيت من كلام الحطيئة، وهو من شواهد سيبويه "1/ 109". والمنايا: جمع منية، وهي الموت، وأصلها فعيله بمعنى مفعوله، وفعلها "منى الله الأمر يمينه" على مثال قضاه يقضيه، ومعناه قدره وهيأ له الأسباب، سمى الموت بذلك لأنه من تقدير الله تعالى، والحاضر: الحي العظيم أو القوم، وقال ابن سيده: هو الحي إذا حضروا الدار التي بها مجتمعهم، ومنه قول الشاعر: في حاضر لجب بالليل سامره ... فيه الصواهل والرايات والعكر =

أي منية ميت. وقال الآخر: [23] وكيف تواصل من أصبحت ... خَلَالَتُهُ كأبي مَرْحَبِ؟ أي: كخَلَالة أبي مرحب، وقال الآخر: [24] أَكِلَّ عَامٍ نَعَمٌ تَخْوُونَهُ ... يُلْقِحُهُ قوم وتُنْتِجُونَهُ؟

_ = والاستشهاد بالبيت في قوله "ميت وسط أهله" فإن هذه الكلمة خبر عن قوله "شر المنايا" وأنت تعلم أن الخبر يجب أن يكون عين مبتدئة، وهذا الخبر ليس عين مبتدئة، فوجب أن يكون الكلام على تقدير مضاف يصح معه الكلام ويتم به للخبر ما وجب فيه، والتقدير: وشر المنايا منية ميت وسط أهله، هذا أصل الكلام، فحذف المبتدأ وأقيم المضاف إليه مقامة فارتفع ارتفاعه. [23] هذا البيت من كلام النابغة الجعدي، وهو من شواهد سيبويه "1/ 110" وقد أنشده ابن منظور "خ ل ل" ثالث ثلاثة أبيات ونسبها إليه، والبيتان قبله هما: أدوم على العهد ما دام لي ... إذا كذبت خلة المخلب وبعض الأخلاء عند البلا ... ء والرزء أروغ من ثعلب والخلة -بضم الخاء- والخلالة -بفتح الخاء أو كسرها أو ضمها- والخلولة، كل ذلك يقال على الصداقة المختصة التي ليس فيها خلل، تكون في عفاف الحب ودعارته، والمخلب: من الخلابة -بكسر الخاء- وهي الخديعة باللسان، والإخلاء: جمع خليل، وهو الصديق، وأبو مرحب: كنية الظل، وهو سريع التحول، وقيل: هي كنية عرقوب الذي يضرب به المثل في خلف الوعد، والذي قيل فيه: مواعيد عرقوب. والاستشهاد بالبيت في قوله "كأبي مرحب" فإن هذا الجار والمجرور خبر لأصبح، واسمها هو قوله خلالته، وأصل معمولي أصبح مبتدأ وخبر، ولا يصلح أن يكون "كأبي مرحب" خبرًا عن الخلالة التي هي الصداقة؛ لأن هذا الخبر ليس هو عين المبتدأ فلزم أن يكون ثمه مضاف محذوف وأن أصل الكلام: أصبحت خلالته كخلالة أبي مرحب، على نحو ما بيّناه في البيت السابق. [24] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 65" ولم ينسب في أصل الكتاب ولا في شرح شواهده للأعلم، وهو أيضًا من شواهد الرضي "1/ 84" وقد شرحه البغدادي في الخزانة "1/ 196" والأشموني "رقم 145" وقد نسبه قوم إلى رجل من ضبة، ولم يعينوه، وقال البغدادي: هو لقيس بن حصين بن يزيد الحارثي، والنعم -بفتح النون والعين جميعا- اسم جنس لفظه مفرد ومعناه جمع، ونظيره غنم وبقر، قال الفراء: هو مفرد لا يؤنث، يقال: هذا نعم وارد، وقال الهروي: النعم والأنعام يذكران ويؤنثان، وقال الراغب: النعم مختص بالإبل، والأنعام يقال للإبل والبقر والغنم، ويلقحه: كضارع ألقح الفحل الناقة؛ إذا أحبلها، وتنتجونه: أي تستولدونه، يريد أنهم يكثرون من شن الغارات فيأخذون ممن يغيرون عليه النوق الحوامل فتلد عندهم. والاستشهاد بالبيت في قوله "أكل عام نعم" فإن قوله "كل عام" ظرف زمان متعلق بمحذوف يقع خبرًا مقدمًا، وقوله "نعم" مبتدأ مؤخر، والنعم: اسم =

أي: إِحْرَاز نَعَم. وقال الآخر: [25] كأن عَذِيرَهُم بجنوب سِلَّى ... نَعَامٌ قَاقَ في بلد قَفِارِ أي: كأن عذيرهم عذير نعام. والعذير: الحال، والحال لا يُشَبَّه بالنعام وقال الآخر: [26] قليلٌ عيبهُ، والعيب جمٌّ ... ولكنَّ الغِنَى ربٌّ غَفُورٌ

_ = من الأسماء الدالة على الذات، ومن المقرر عند النحاة أن ظرف الزمان لا يكون خبرًا عن اسم الذات، وللتخلص من ذلك قدر المؤلف مضافًا هو اسم معنى يكون هو المبتدأ وأصل الكلام عنده: أكل عام إحراز نعم، وقد تبعه في هذا التقدير ابن صاحب الألفية، وقدره الرضي: أكل عام حواية نعم، وقوم يقدرونه: أكل عام نهب نعم، والخطب في ذلك سهل؛ فإن هؤلاء جميعا يسيرون في فلك واحد؛ وخلاصته أنه لا بدّ من تقدير مضاف يكون اسم معنى، وهذا أحد وجهين في هذا البيت، والوجه الثاني لأبي العباسي المبرد، وخلاصته أنه يتعين تقدير المضاف إذا كان اسم الذات الواقع مبتدأ مخبرًا عنه بظرف زمان ليس له تجد وحدوث مرة بعد مرة، أما إذا كان له تجدد وحدوث مرة بعد مرة فلا يلزم تقدير مضاف يكون اسم معنى، والكلام هنا من هذا القبيل، وانظر إلى قول ابن مالك في التسهيل "ولا يغني ظرف زمان غالبًا عن خبر اسم عين، ما لم يشبه اسم المعنى بالحدوث وقتًا دون وقت، أو تَنْوِ إضافة اسم معنى إليه، أو يعم واسم الزمان خاص أو مسئول به عن خاص، ويغني عن خبر اسم عنى مطلقا" ا. هـ. [25] أنشد ابن منظور هذا البيت "س ل ل" ولم ينسبه، وأنشده في "ق وق" ونسبه إلى النابغة، وحكى عن ابن بري نسبته إلى شقيق بن جزء بن رباح الباهلي. وهو من شواهد سيبويه "1/ 109" والغدير: القطعة من الماء يغادرها السيل، أي يتركها، فهو فعيل بمعنى مفعول مشتق من المغادرة على تقدير طرح الحروف الزائدة، والعذير -بالعين المهملة والذال المعجمة- الحال، وسلى -بكسر السين وتشديد اللام- اسم موضع بالأهواز كثير التمر، وقاق: أي صوت، وبلد قفار: أي خالية موحشة، وأصل القفار جمع قفر -بالفتح- لكنه توههم سعة البلد وجعل كل جزء منها بلدًا فوصف البلد -وهو في الأصل مفرد- بالجمع على هذا. والاستشهاد بالبيت في قوله "كأن عذيرهم نعام" فإن الخبر في هذه الجملة ليس هو عين المبتدأ، ولهذا كان الكلام على تقدير مضاف يتم به كون الخبر هو المبتدأ، وأصل الكلام: كأن عذيرهم عذير نعام، قال ابن منظور بعد أن أنشد البيت "أراد عذير نعام، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، ومعناه أي كأن حالهم في الهزيمة حال نعام تغدو مذعورة" ا. هـ. [26] لم أعثر لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين، ولا وقفت له على سوابق أو لواحق تتصل به. والجم -بفتح الجيم وتشديد الميم- الكثير. وقد زعم المؤلف أن قول الشاعر "ولكن الغنى رب" على تقدير مضاف، وأصل الكلام: ولكن الغنى غنى رب، وهذا كلام فاسد من وجهين: الأول أن كلمة "رب" ههنا معناها المصلح، فإنك تقول "رب فلان الشيء =

أي: ولكن الغنى غنى رب غفور، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. والشواهد على هذا النحو أكثر من أن تُحْصَى؛ فعلى هذا يكون قد أجرى قوله "متقلديها" -وهو اسم فاعل- على ذلك المحذوف، فلا يفتقر إلى إبراز الضمير. وأما قولهم "إن الإضمار في اسم الفاعل إنما كان لشبه الفعل وهو يشابه الفعل إذا جرى على غير مَنْ هو له" قلنا: فلكونه فرعًا على الفعل وجب فيه إبراز الضمير ههنا؛ لئلا يؤدي إلى التسوية بين الأصل والفرع، ولما يؤدي إليه تركُ الإبراز من اللَّبس على ما بيّنا، والله أعلم.

_ = يربه" تعني أنه أصلحه، ومن ذلك قول الشاعر: يرب الذي يأتي من العرف أنه ... إذا سئل المعروف زاد وتمما ومعنى قول الشاعر "ولكن الغنى رب غفور" ولكن الغنى مصلح لفساد أموره ساتر لمساويه، وهذا معنى مستقيم من غير تقدير، والوجه الثاني: أنا نسلم جدلًا أن كلمة الرب على المعنى الذي تبادر إلى ذهن المؤلف، لكن لا نسلم مع ذلك أن الكلام يحتاج إلى تقدير المضاف، بل تقدير المضاف يفسد المعنى، وذلك لأن الشاعر يريد تشبيه الغنى بالرب الغفور، والمعنى على هذا أن الناس يرون عيوب الرجل الغني قليلة ولو كانت أكثر من زبد البحر، وذلك لأن غناه يغطي عليها ويسترها، وتأمل ذلك جيدًا، ولا تكن أسير التقليد.

مسألة القول في تقديم الخبر على المبتدأ

9- مسألة: [القول في تقديم الخبر على المبتدأ] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز تقديم خبر المبتدأ عليه، مفردًا كان أو جملة؛ "فالمفرد" نحو "قائم زيد، وذاهب عمرو" والجملة نحو "أبوه قائم زيد، وأخوه ذاهب عمرو". وذهب البصريون إلى أنه يجوز تقديم خبر المبتدأ عليه المفرد والجملة. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز تقديم خبر المبتدأ عليه مفردًا كان أو جملة لأنه يؤدّي إلى أن تَقَدُّمِ ضميرَ الاسم على ظاهره، ألا ترى أنك إذا قلت: "قائم زيد" كان في قائم ضمير زيد؟ وكذلك إذا قلت "أبوه قائم زيد" كانت الهاء في أبوه ضمير زيد؛ فقد تقدم ضمير الاسم على ظاهره، ولا خلاف أن رتبة ضمير الاسم بعد ظاهره؛ فوجب أن لا يجوز تقديمُهُ عليه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما جوّزنا ذلك لأنه قد جاء كثيرًا في كلام العرب وأشعارهم؛ فأما ما جاء من ذلك في كلامهم فقولهم في المثل "في بيته يُؤْتَى الحكم" وقولهم "في أكفانه لُفّ الميت" و "مَشنُوءٌ من يَشْنَؤُكَ" وحكى سيبويه "تميميٌّ أنا" فقد تقدم الضمير في هذه المواضع كلها على الظاهر؛ لأن التقدير فيها: الحَكَمُ يُؤْتَى في بيته، والميت لف في أكفانه، ومن يَشْنَؤكَ مَشْنُوء، وأنا تميميٌّ، وأما ما جاء من ذلك في أشعارهم فنحو ما قال الشاعر: [27] بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وبَنَاتُنَا ... بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الأَبَاعِدِ

_ [27] ينسب قول هذا البيت للفرزدق همام بن غالب، والأكثرون على أنه لا يعرف قائله مع كثرة استشهاد العلماء به في كتب النحو والبلاغة والفرائض، وألفاظه ومعناه في غاية الوضوح. وقد استشهد به الرضي في شرح الكافية "1/ 87" والأشموني في شرح الألفية "رقم 153" =

ويروى "الأكارم" وتقديره: بنو أبنائنا بنونا. وقال الآخر: [28] فتًى ما ابنُ الأغَرِّ إذا شَتَوْنَا ... وحبُّ الزَّاد في شَهْرَيْ قُمَاح وتقديره: ابنُ الأغر فتًى ما إذا شَتَوْنَا، وقال الشَّمَّاخ: [29] كِلَا يومي طُوَالَةَ وَصْلُ أَرْوَى ... ظُنُونٌ، آن مُطَّرَحُ الظُّنُونِ

_ = وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 71 بتحقيقنا" وفي مغني اللبيب "رقم 702 بتحقيقنا" والاستشهاد به في قوله "بنونا بنو أبنائنا" فإن هذه الجملة اشتملت على مبتدأ وخبر، وقد تقدم الخبر -وهو قوله بنونا- على المبتدأ -وهو قوله بنو أبنائنا- وقد استساغ الشاعر تقديم الخبر على المبتدأ مع كونهما في رتبة واحدة من التعريف وكل واحد منهما صالح للابتداء به لوجود قرينة معنوية مرشدة إلى المبتدأ وإلى الخبر، معينة أحدهما للابتداء به والآخر للإخبار به، وذلك أنه يريد تشبيه أبناء الأبناء بالأبناء، في المحبة والعطف عليهم، ولا يمكن أن يتسرب إلى فهم أحد أن غرضه تشبيه الأبناء بأبناء الأبناء، فإن أصل المحبة والحنان والعطف للأبناء والغرض إثبات أن أبناء الأبناء مثلهم في هذه الخلال، لا العكس. [28] هذا البيت من كلام مالك بن خالد الهذلي، وقد أنشده ابن منظور "ق م ح" ونسبة إليه. وقوله "فتى ما" معناه فتى أي فتى، فما هذه صفة لفتى، والشتاء عندهم زمن الجدب والقحط، ولهذا يكون الكرم فيه نادرًا، ومن يطعم قليلا، وهو ممدوح أشد المدح، وقوله "حب" هو بضم الحاء -مثل نعم في المدح، وشهرا قماح- بضم القاف بزنة غراب أو بكسرها بزنة كتاب هما كانون الأول وكانون الثاني، سموهما بذلك لأنهما يكره فيهما شرب الماء، وقد قالوا "قمح البعير، وقامح" إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع من الشرب، والاستشهاد به في قوله "فتى ما ابن الأغر" فإن هذه جملة من مبتدأ وخبر، وقد تقدم فيها الخبر على مبتدئه، ولا يجوز لك أن تجعل المتقدم وهو قوله فتى ما، مبتدأ، والمتأخر -وهو قوله ابن الأغر- خبرًا عنه، وذلك لأن المتقدم نكرة والمتأخر معرفة، والأصل في المبتدأ أن يكون معرفة ولا يكون نكرة إلا بمسوغ، والأصل في الخبر أن يكون نكره؛ لأنه يكون مجهولا للمخاطب حتى يفيده الكلام فائدة جديدة لم تكن عنده قبل الكلام. [29] هذا البيت للشماخ بن ضرار الغطفاني -كما قال المؤلف- وقد أنشده ابن منظور "ط ول" وأنشده ياقوت في معجم البلدان "طوالة". وطوالة -بضم الطاء وفتح الواو مخففة- قال ياقوت: موضع ببرقان فيه بئر، وقال نصر: بئر في ديار فزارة لبني مرة وغطفان، وأروى: من أسماء النساء، وظنون: مظنون غير مقطوع به، ومطرح -بضم الميم وتشديد الطاء مفتوحة- مصدر ميمي بمعنى الاطراح. والاستشهاد به في قوله "كلا يومي طوالة وصل أروى ظنون" فإن قوله "وصل أروى" مبتدأ، وقوله "ظنون" خبر المبتدأ، وقد تقدم المبتدأ وتأخر الخبر على ما هو الأصل فيهما، ولكن قوله "كلا يومي طوالة" ظرف متعلق بظنون الذي هو الخبر، وقد تقدم هذا الظرف على المبتدأ كما هو ظاهر، وقد استقر عند النحاة أن تقديم المعمول يدل على أن العامل فيه يجوز أن يتقدم فيكون في موضع هذا المعمول، =

ووجه الدلالة من هذا البيت هو أن قوله "وَصْلُ أَرْوَى" مبتدأ، و"ظَنُون" خَبرُه، و "كِلَا يومي طوالة" ظرف يتعلق بـ "ظنون" الذي هو خبر المبتدأ، وقد تقدم معموله على المبتدأ؛ فلو لم يجز تقديم خبر المبتدأ عليه وإلا لما جاز تقديم معمول خبره عليه؛ لأن المعمول لا يقع إلا حيث يقع العامل، ألا ترى أنك لو قلت "القتال زيدًا حين تأتي" فنصبت زيدا بتأتي لم يجز، لأنه لا يجوز أن تقدم تأتي على "حين" فتقول: القتال تأتي حين؛ فلو كان تقديم خبر المبتدأ ممتنعًا كما امتنع ههنا تقديم الفعل لامتنع تقديم معموله على المبتدأ؛ لأن المعمول لا يقع إلا حيث يقع العامل؛ لأن المعمول تَبَعٌ للعامل، فلا يفوقه في التصرف، بل أجمل أحواله أن يقع موقعه؛ إذ لو قلنا إنه يقع حيث لا يقع العامل لقدَّمْنَا التابع على المتبوع؛ ومثال ذلك أن يجلس الغلام حيث لا يجلس السيد، فتجعل مرتبته فوق مرتبة السيد، وذلك عدول عن الحكمة، وخروج عن قضية المَعْدَلَة، وإذا ثبت بهذا جواز تقديم معمول خبر المبتدأ فَلأَن يجوز تقديم خبر المبتدأ عليه أولى؛ لأن رتبة العامل قبل رتبة المعمول، وهذا لا إشكال فيه. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: وقولهم "لو جوَّزنا تقديمه لأدَّى ذلك إلى أن تُقَدِّمَ ضمير الاسم على ظاهره" قلنا: هذا فاسد، وذلك لأن الخبر وإن كان مقدمًا في اللفظ إلا أنه متأخر في التقدير، وإذا كان مقدما لفظًا متأخرًا تقديرًا، فلا اعتبار بهذا التقديم في منع الإضمار؛ ولهذا جاز بالإجماع "ضَرَبَ غُلَامَهُ زَيْدٌ" إذا جعلت زيدًا فاعلًا وغلامه مفعولًا؛ لأن غلامه، وإن كان متقدمًا عليه في اللفظ إلا أنه في تقدير التأخير؛ فلم يمنع ذلك من تقديم الضمير، قال الله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67] فالهاء عائدة إلى موسى وإن كان متأخرًا لفظًا؛ لأن موسى في تقدير التقديم، والضمير في تقدير التأخير، قال زهير: [30] مَنْ يَلْقَ يومًا على عِلَّاتِهِ هَرِمًا ... يَلْقَ السَّمَاحَةَ منه والنَّدَى خُلُقَا

_ = فلما تقدم الظرف وهو معمول للخبر دلّ على أن الخبر العامل في هذا الظرف يجوز أن يقع في الموضع الذي وقع فيه الظرف. [30] هذا البيت لزهير بن أبي سلمى المزني -كما قال المؤلف- من قصيدة يمدح فيها هرم بن سنان المري. وقوله "على علاته" المراد منه على كل حال، ومن ذلك قول زهير أيضًا: إن البخيل ملوم حيث كان ولـ ... كن الجواد على علاته هرم و"السماحة" الجود والعطاء، تقول: سمح -بوزن كرم- سماحًا، وسماحة وسموحة وهو رجل سمح: أي جواد كريم. والندى: الكرم، والخلق: الطبيعة والسجية. والاستشهاد بالبيت في قوله "علاته" فإن هذه الهاء ضمير غيبة يعود إلى هرم، وهو متأخر في اللفظ عن الضمير، ونظير ذلك في البيت الآخر الذي أنشدناه، وذلك يدلّ على أن العرب ما كانوا يرون بأسًا في الإتيان بضمير =

وقال الأعشى: [31] أَصَابَ الملوك فأفناهم ... وأخرج من بيته ذا جَدَنْ ويروى "ذَا يَزَنْ". وكذلك أجمعنا على جواز تقديم خبر "كان" على اسمها، نحو "كان قائمًا زيد" وإن كان قد قُدِّم فيه ضمير الاسم على ظاهره، إلا أنه لما كان في تقدير التأخير لم يمنع ذلك من تقديم الضمير، ولهذا لو فقد هذا التقدير من التقديم والتأخير لما جاز تقديم الضمير، ألا ترى أنه لا يجوز "ضَرَبَ غُلَامُهُ زيدًا" إذا جعلت غلامه فاعلًا وزيدًا مفعولًا؛ لأن التقدير إنما يخالف اللفظ إذا عُدِلَ بالشيء عن الموضع الذي يستحقه؛ فأما إذا وقع في الموضع الذي يستحقه فمحال أن يقال إن النيّة به غير ذلك. وههنا قد وقع الفاعل في رتبته والمفعول في رتبته، فلم يمكن أن تجعل الضمير في تقدير التأخير، بخلاف ما إذا قلت: ضرب: "ضَرَبَ غَلَامَهُ زيدٌ" فجعلت غلامه مفعولًا وزيدًا فاعلًا، فأما قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124] فإنه وإن كان بتقدير التأخير يصير إلى قولك وإذا ابتلى ربه إبراهيم، فيكون إضمارًا قبل الذكر كقولك: "ضرب غلامُهُ زيدًا" إلا أن بينهما فرقًا، وذلك لأن قولك "ضرب غلامه زيدًا" تقدم فيه ضمير الاسم على ظاهره لفظًا وتقديرًا، وقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} [البقرة: 124] تقدم فيه ضمير الاسم على ظاهره تقديرًا لا لفظًا، والضمير متى تقدم تقديرًا لا لفظًا أو تقدم لفظًا لا تقديرًا فإنه يجوز، بخلاف ما إذا تقدم عليه لفظًا وتقديرًا، والله أعلم.

_ = الغيبة قبل مرجعه في بعض المواضع، وقد جاءوا بذلك في النثر أيضًا ومنه قولهم في مثل "في بيته يُؤْتَى الحكم" وقولهم "في أكفانه لف الميت" وقد ذكرهما المؤلف. [31] هذا البيت من كلام أبي بصير صناجة العرب الأعشى ميمون بن قيس -كما قال المؤلف- من كلمة له ثابتة في ديوانه "ص13 ط فينا" وذو يزن -بفتح الياء والزاي جميعا- ملك من ملوك حمير، وإليه تنسب الرماح اليزنية، ويقال: يزن اسم موضع في اليمن، أضيف إليه ذو، فصار معناه صاحب يزن، وأطلق على هذا الملك، ونظيره: ذو رعين -بزنة المصغر- وذو جدن، أي صاحب رعين وصاحب جدن، وهما قصران. والاستشهاد بالبيت في قوله "بيته" فإن هذه الهاء ضمير غيبة يعود إلى ذي يزن، وهو متأخر عن الضمير، وذلك يدل على أن العرب كانوا يرون أنه يجوز في بعض المواضع أن يكون مرجع ضمير الغائب متأخرًا عن ذلك الضمير، ومتى كانوا يرون ذلك جائزًا بطل قول الكوفيين إن تقديم الخبر يشتمل على محظور وهو تقدم ضمير الغائب على مرجعه؛ لأن الخبر يشتمل على ضمير يعود إلى المبتدأ، وهذا واضح إن شاء الله.

مسالة القول في العامل في الاسم المرفوع بعد لولا

10- مسألة: [القول في العامل في الاسم المرفوع بعد لَوْلَا] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "لولا" ترفع الاسم بعدها، نحو "لولا زيدٌ لأكرمْتُكَ"، وذهب البصريون إلى أنه يرتفع بالابتداء. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنها ترفع الاسم بعدها لأنها نائب عن الفعل الذي لو ظَهَرَ لرفع الاسم؛ لأن التقدير في قولك "لولا زيد لأكرمتك" لو لم يمنعني زيد من إكرامك لأكرمتك، إلا أنهم حذفوا الفعل تخفيفًا، وزادوا "لا" على"لو" فصار بمنزلة حرفٍ واحدٍ، وصار هذا بمنزلة قولهم "أما أنت منطلقا انطلقتُ معك" والتقدير فيه: إن كنت منطلقا انطلقت معك، قال الشاعر: [32] أبا خُرَاشَةَ أمَّا أنت ذا نفر ... فإن قوميَ لم تأكُلْهُم الضّبُعُ والتقدير فيه: إن كنت ذا نفر، فحذف الفعل، وزاد "ما" على أنْ عوضًا عن

_ [32] هذا البيت للعباس بن مرداس السلمي، وقد أنشده سيبويه "1/ 148" وابن منظور "ض ب ع" ونسبه له، وهو من شواهد الأشموني "رقم 207" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 97" وابن عقيل "رقم 74" وأبو خراشة: كنية خفاف بن ندبة أحد أغربه العرب، وقد أسلم وشهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حنينًا، وقيل: شهد فتح مكة. وذا نفر: يريد به ذا رهط كثير العدد، وأصل الضبع الحيوان المعروف ثم استعير للسنة المجدبة، يقول: إن كنت تفخر علينا بكثرة عدد قومك، فإن لا فخر لك في ذلك؛ لأن قومي لم تكن قلتهم بسبب موتهم في القحط والمجاعة، والاستشهاد بالبيت في قوله "أما أنت" فإن أصل هذه العبارة "أن كنت" فحذفت كان ثم عوض عنها "ما" وأدغمت ميم ما في نون أن، فناب هذا الحرف الذي هو ما مناب فعل هو كان، قالوا: وإذا ناب منابه أدّى ما كان الفعل يؤدّيه، وقد كان هذا الفعل يرفع الاسم الذي بعده، فما رافعة له، وقد أوضح المؤلف هذا الكلام.

الفعل، كما كانت الألف في اليَمَاني1 عوضًا عن إحدى ياءي النسب، والذي يدل على أنها عوض عن الفعل أنه لا يجوز ذكر الفعل معها؛ لئلا يُجْمَع بين العوض والمعوض، ونحن وإن اختلفنا في أنَّ "أنْ" ههنا هل بمعنى إن الشرطية أو أنها في تقدير لأنْ فما اختلفنا في أن "ما" عوض عن الفعل، وكذلك أيضًا قولهم "إما لا فافعل هذا" تقديره: إن لم تفعل ما يلزمك فافعل هذا؛ لأن الأصل في هذا أن الرجل تلزمه أشياء، فيطالَبُ بها، فيمتنع منها، فيُقْنَعُ منه ببعضها، فيقال له "إِمَّا لا فافعل هذا" أي: إن لم تفعل ما يلزمك فافعل هذا، ثم حذف الفعل لكثرة الاستعمال وزيدت "ما" على "إنْ" عوضًا عنه فصار بمنزلة حرف واحد، والذي يدل على أنها صارت عوضًا عن الفعل أنه يجوز إمالَتُهَا فيقال "إما لا" بالإمالة كما أمالوا "بلى" و "يا" في النداء، فلو لم تكن كافية من الفعل وإلا لما جازت إمالتها؛ لأن الأصل في الحروف أن لا تدخلها الإمالة، فلما جاز إمالتها ههنا دلّ على أنها كافية من الفعل، كما كانت "بلى" و "يا" كذلك، وكذلك أيضًا قالوا "من سلم عليك فسلم عليه ومن لا فلا تَعْبَأْ به" وتقديره: ومن لا يسلم عليك فلا تعبأ به، وقال الشاعر: [33] فطلِّقها فلست لها بندٍّ ... وإلَّا يَعْلُ مَفْرقَكَ الحسام أراد: وإلا تطلقها يَعْلُ، وكذلك قالوا "حينئذ الآن" تقديره: واسْمَع الآن، ومعناه أن ذاكرًا ذكر شيئًا فيما مضى يستدعي في الحال مثله فقال له المخاطب "حينئذ الآن" أي: كان الذي تذكره حينئذ، واسمع الآن، أو دَعِ الآن ذكره أو نحو ذلك من التقدير، وكذلك قالوا "ما أغفله عنك شيئًا" وتقديره: انظر شيئًا، كأن قائلا قال "ليس بغافل عني" فقال المجيب: ما أغفله عنك شيئًا، أي انظر شيئًا، فحذف. والحذف في كلامهم لدلالة الحال وكثرة الاستعمال أكثر من أن يُحْصَى؛

_ [33] هذا البيت من كلام الأحوص، واسمه محمد بن عبد الله الأنصاري، وهو من شواهد الأشموني "رقم 1090" وأوضح المسالك "رقم 516" ومغني اللبيب "رقم 905" وابن عقيل "رقم 345" وقوله "طلقها" أمر من التطليق وهو فصم عروة الزواج وحل العصمة "ند" أي مكافئ، ويروى "بكفء" وهو بضم الكاف وسكون الفاء وآخره همزة المساوي في نسب وغيره مما تعتبره الشريعة صفات لازمة للتكافؤ بين الزوجين "مفرقك" المفرق -بزنة المجلس والمقعد- وسط الرأس "الحسام" السيف، والاستشهاد به في قوله "وإلا" فإن هذه الكلمة مؤلفة من حرفين أولهما إن الشرطية، والثاني لا النافية، وقد حذف فعل الشرط، وأصل الكلام: وإن لا تطلقها يعل إلخ.

فدل على أن الفعل محذوف ههنا بعد "لولا" وأنه اكتفى بلولا، على ما بيّنا؛ فوجب أن يكون مرفوعا بها. والذي يدل على أن الاسم يرتفع بها دون الابتداء أن "أنَّ" إذا وقعت بعدها كانت مفتوحة نحو قولك "لولا أنَّ زيدا ذاهب لأكرمتك" ولو كانت في موضع الابتداء لوجب أن تكون مكسورة؛ فلما وجب الفتح دلّ على صحة ما ذهبنا إليه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يرتفع بالابتداء دون "لولا" وذلك لأن الحرف إنما يعمل إذا كان مختصًّا، ولولا لا تختصُّ بالاسم دون الفعل، بل قد تدخل على الفعل كما تدخل على الاسم، قال الشاعر: [34] قالت أمامة لما جئتُ زائِرَها: ... هلَّا رمَيْتَ بِبَعْضِ الأَسْهُم السُّودِ لا دَرَّ دَرُّكِ؛ إنِّي قد رميتُهُمُ ... لولا حُدِدْتُ ولا عُذْرَى لمَحْدُودِ

_ [34] أنشد ابن يعيش هذين البيتين، ونسبهما إلى الجموح، وأنشدهما الرضي من غير عزو، وشرحهما البغدادي في الخزانة 1/ 221، وأنشدهما ابن منظور "ع ذ ر" ونسبها للجموح الظفري، ثم قال: "يقال: هذا الشعر لرشاد بن عبد ربه، وكان اسمه غاويًا، فسماه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- راشدًا" ا. هـ، وأمامة: اسم امرأة، والأسهم السود: يقال هي كناية عن الأسطر المكتوبة، يعني هلا كتبت لي كتابا، ويقال: الأسهم السود نظر مقلتيه، وكلا هذين التفسيرين مما لا أستسيغه، ولا هو مما يلتئم مع البيت التالي، وحددت: معناه حرمت ومنعت وفارقني الجد والحظ، والعذرى -بضم العين وسكون الذال- المعذرة، واستشهاد المؤلف بهذا البيت للبصريين في قوله "لولا حددت" حيث دخلت لولا على الفعل، وقد دخلت على الاسم في شواهد كثيرة، وذلك يدل على أنها ليست مختصة بالاسم ولا هي مختصة بالدخول على الفعل، بل تدخل على كل واحد من القبيلين، ومتى سلم أنها ليست مختصة بأحد القبيلين لم تكن عاملة؛ لأن من المقرر عندهم أن كل حرف مشترك لا يعمل في أحد القبيلين، وهذا الكلام منقوض من ثلاثة أوجه: الأول: أنا لا نسلم أن "لولا" في هذا الشاهد هي لولا التي نقول نحن يا معشر الكوفيين إنها ترفع الاسم الذي يليها، بل هي مؤلفة من حرفين الأول لو التي هي حرف امتناع لامتناع. والثاني لا النافية، وهذا هو الوجه الذي ذكره المؤلف، وسيأتي في شرح الشاهد 37 كلام على هذا الوجه. والوجه الثاني: نسلم أن "لولا" التي في هذا الشاهد هي لولا التي وقع الخلاف بيننا وبينكم بشأنها، لكن لا نسلم أنها داخلة على الفعل في اللفظ والتقدير جميعا، بل هي داخلة على الفعل في اللفظ والتقدير جميعًا، بل هي داخلة على الاسم عند التحقيق، وذلك أن الكلام على تقدير أن المصدرية التي تنسبك مع هذا الفعل بالاسم، وأصل الكلام لولا أن حددت، فحذف الشاعر أن وهو ينويها، والتقدير: لولا الحد، أي لولا المنع والحرمان، وحذف أن المصدرية مع نيتها واقع في كلام العرب، والوجه الثالث: أنا لا نسلم ما أصلتموه من القاعدة القائلة إن الحرف المشترك لا يعمل في أحد القبيلين، فكم من الحروف المشتركة وهو عامل، مثل ما ولا النافيتين، وبعض الحروف المختصة لا يعمل شيئًا مثل أل، فالقاعدة غير مطردة ولا منعكسة.

فقال "لولا حُدِدْتُ" فأدخَلَهَا على الفعل؛ فدلّ على أنها تختصّ؛ فوجب أن لا تكون عاملة، وإذا لم تكن عاملة وجب أن يكون الاسم مرفوعا بالابتداء. والذي يدل على أنه ليس مرفوعا بلولا بتقدير لو لم يمنعني زيد لأكرمتك أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن يُعْطَفَ عليها بوَلَا؛ لأن الجَحْدَ يعطف عليه بوَلَا، قال الله تعالي: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ، وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ، وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} [فاطر: 19-22] ثم قال الشاعر: [35] فما الدنيا بِبَاقَاةٍ لحيٍّ ... ولا حيٍّ على الدنيا بباقِ قوله: "بباقاة" أراد بباقية، فأبدل من الكسرة فتحة، فانقلبت الياء ألفًا، وهي لغة طيّئ، وقال الآخر: [36] وما الدنيا بباقية بِحُزْنٍ ... أَجَلْ، لا، لا، ولا بِرَخَاء بَالِ فلما لم يجز أن يقال "لولا أخوك ولا أبوك" دلّ على فساد ما ذهبوا إليه. والصحيح ما ذهب إليه الكوفيون. وأما الجواب عن كلمات البصريين: أما 39 قولهم "إن الحرف إنما يعمل إذا كان مختصًّا، ولولا حرف غير مختصّ" قلنا: نسلم أن الحرف لا يعمل إلا إذا

_ [35] قول الشعر "بباقاة" أراد بباقية، اسم فاعل من البقاء، ولغة جمهرة العرب تقتضي بقاء هذه الياء على حالها مثل راغية وثاغية وراضية وحامية؛ لأنهم لا يقلبون الواو والياء المتحركتين ألفا إلا أن يكون ما قبلهما مفتوحًا نحو سما وعدا وغدا وبدا ونحو الندى والهدى والتقى؛ فإن انكسر ما قبلهما أو انضم سلمتا نحو العوض والحيل والسور، وإنما يقلبها لمجرد تحركها طيّئ وحدهم، وقد ورد عنهم في كل فعل واوي اللام أو يائي اللام وهو مكسور العين قلب واوه أو يائه ألفا فيقولون: رضا وبقى وحيا بفتح العين وقلب اللام ألفا، وجمهور العرب يقولون: رضي وبقي وحيي بكسر العين وبقاء الياء إن كانت اللام ياء أو قلب الواو ياء لتطرفها وانكسار ما قبلها كما في نحو رضي. والاستشهاد بالبيت في قوله "ولا حي ... إلخ" فإن هذه الكلمة معطوفة على قوله "فما الدنيا ... إلخ" والمعطوف عليه منفي بما؛ فلزم إدخال حرف النفي الذي هو لا على المعطوف بعد واو العطف. [36] أصل الرخاء سعة العيش، وفعله من أبواب كرم ودعا وسعى ورضى، وهو راخٍ ورخي، ويقولون "فلان رخي البال" يريدون أنه في نعمة وأنه واسع الحال، والاستشهاد بهذا البيت في قوله "ولا برخاء بال" فإن هذه الكلمة معطوفة على قوله "بحزن" وقد قرن بواو العطف حرف النفي كما نرى.

كان مختصًّا، ولكن لا نسلم أن لولا غير مختص، قولهم "إنه يدخل على الفعل كما يدخل على الاسم، كما قال الشاعر: [34] لولا حددت ولا عُذْرَى لمحدود فأدخلها على الفعل "قلنا: لو التي في هذا البيت ليست مركبة مع "لا" كما هي مركبة مع لا في قولك "لولا زيد لأكرمتك" وإنما لو حرفٌ باقٍ على أصله من الدلالة على امتناع الشيء لامتناع غيره، و "لا" معها بمعنى لم؛ لأن لا مع الماضي بمنزلة لم مع المستقبل، فكأنه قال: قد رميتهم لو لم أحدّ، وهذا كقوله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11] أي: لم يقتحم العقبة، وكقوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} [القيامة: 31] أي: لم يصدق ولم يصلّ، وكقول الشاعر: [37] أن تغفر اللهم تغفر جَمًّا ... وأيُّ عبد لك لا ألَمَّا

_ [37] أنشد هذا البيت ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 406" وقال قبل إنشاده" وقال أبو خراش الهذلي وهو يطوف بالبيت" وأنشده ابن منظور "ل م م" ونسبه إلى أمية بن أبي الصلت، ثم قال "قال ابن بري: الشعر لأمية بن أبي الصلت، قال: وذكر عبد الرحمن عن عمه "الأصمعي" عن يعقوب عن مسلم بن أبي طرفة الهذلي، قال: مرّ أبو خراش يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول: لا هم هذا خامس إن تما ... أتمه الله، وقد أتما إن تغفر الله تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما" ا. هـ وتقول "ألم الرجل" إذا أتى بصغار الذنوب، مأخوذ من اللمم وهو صغار الذنوب، والاستشهاد بالبيت في قوله "لا ألما" فإن المؤلف زعم أن لا في هذا البيت بمعنى لم، والماضي بمعنى المضارع، وكأن الشاعر قد قال "وأي عبد لك لم يأت بصغار الذنوب"، والسر في ذلك هو أن النحاة يرون أن النافية إذا دخلت على فعل ماض لفظًا ومعنًى وجب تكراراها، مثل ما في قوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} ومثل ما جاء في الحديث: "فإن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى" ومثل قول الهذلي: "كيف أغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل": فإن كان الفعل ماضي اللفظ دون المعنى لم يجب التكرار، نحو قول الشاعر: حسب المحبين في الدنيا عذابهم ... تالله لا عذبتهم بعدها سقر فإن عذاب سقر مستقبل لا سابق، ومن هذا الباب فعل الدعاء نحو قولهم "لا فض الله فاك" وقول الشاعر: لا بارك الله في الغواني! هل ... يبتن إلا لهن مطلب؟ فلما ورد على النحاة بيت الشاهد والبيت الذي يليه "رقم 38" وقول السفاح ابن بكير اليربوعي: من يك لا ساء فقد ساءني ... ترك أبينيك إلى غير راع =

وكقول الآخر: [38] وأيُّ أمر سيِّئٍ لا فَعَلَهْ أي: لم يفعله، فكذلك ههنا قوله "لولا حددت" أي لو لم أحدّ؛ فدلّ على أن "لولا" هذه ليست لولا التي وقع فيها الخلاف، فدل على أنها مختصة بالأسماء دون الأفعال، فوجب أن تكون عاملة على ما بيّنا. وأما قولهم"لو كانت لولا هي العاملة لأن التقدير لو لم يمنعني زيد لكان فيها معنى الجَحْدِ، فكان ينبغي أن يعطف عليها بولا: لأن الجحد يعطف عليه بولا إلى آخر ما قرروه "قلنا: إنما لم يجز ذلك لأن "لولا" مركبة من لو ولا، فلما ركبتا خرجت لو من حدها ولا من الجحد؛ إذ ركبتا فصُيِّرتا حرفًا واحدًا؛ فإن الحروف إذا ركب بعضها مع بعض تغيَّر حكمها الأول، وحدث لها بالتركيب حكم آخر، كما قلنا في "لولا" بمعنى التحضيض، ولو ما وألَّا وما أشبهه، وكذلك ههنا؛ فلهذا لم يجز العطف عليها بولا، والله أعلم.

_ = وذلك من قبل أن لا النافية في قول الشاعر "لا ألما" وقول الآخر "لا فعله" وقول الثالث "لا ساء" قد دخلت على أفعال ماضية في اللفظ والمعنى لما رأى النحاة ذلك انطلقوا يلتمسون لأنفسهم مخرجًا، فأما المؤلف فقد سمعت كلامه، وأما قوم آخرون فقد زعموا في بعض ذلك أن "لا" مكررة في المعنى وإن لم تتكرر في اللفظ، ومن أمثلة ذلك ما قاله الزمخشري في قوله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} قال: "فإن قلت: قلما تقع لا الداخلة على الماضي إلا مكررة؛ فما لها لم تكرر في الكلام الأفصح؟ قلت: هي متكررة في المعنى؛ لأن المعنى: فلا فك رقبة ولا أطعم مسكينا، ألا ترى أنه فسر العقبة بذلك" ا. هـ، وتفسر العقبة هو قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} وذهب قوم في الشواهد التي ذكرناها إلى أنها شاذة لا يقاس عليها ولا تنبني عليها قاعدة. [38] هذا بيت من الرجز المشطور، وقد أنشده ابن منظور "ز ن ي" ولم يعزه، وقد استشهد به رضي الدين في شرح الكافية في باب حروف الجر، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 228" ونسبه لشهاب بن العيف، وهو أيضًا من شواهد الكشاف في تفسير سورة البلد، ومن شواهد مغني اللبيب "رقم 405" وقبله قول الراجز لا هم إن الحارث بن جبلة ... زنى على أبيه ثم قتله وكان في جاراته لا عهد له وقوله: "زنى على أبيه" يروى بتخفيف النون ويروى بتشديدها، ومعناها ضيق على أبيه، وقال ابن هشام "أصله زنى بامرأة أبيه، فحذف المضاف، وأناب على عن الباء" ا. هـ، وهو تكلف لا مبرر له، والاستشهاد بالبيت في قوله "لا فعله" حيث دخلت لا النافية على الفعل الماضي لفظًا ومعنًى ولم تتكرر، والمؤلف يذكر أن لا بمعنى لم والماضي بمعنى المضارع، على نحو ما أسلفناه لك في شرح الشاهد السابق.

مسألة القول في عامل النصب في المفعول

11- مسألة: [القول في عامل النصب في المفعول] 1 ذهب الكوفيون إلى أن العامل في المفعول النصب الفعلُ والفاعلُ جميعًا، نحو "ضرب زيدٌ عمرًا". وذهب بعضهم إلى أن العامل هو الفاعل، ونصَّ هشام بن معاوية صاحب الكسائي على أنك إذا قلت "ظننت زيدًا قائمًا" تنصب زيدًا بالتاء وقائمًا بالظن. وذهب خلف الأحمر من الكوفيين إلى أن العامل في المفعول معنى المفعولية، والعامل في الفاعل معنى الفاعلية. وذهب البصريون إلى أن الفعل وحده عمل في الفاعل والمفعول جميعًا. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن العامل في المفعول النصب الفعل والفاعل وذلك لأنه لا يكون مفعول إلا بعد فعل وفاعل، لفظًا أو تقديرًا، إلا أن الفعل والفاعل بمنزلة الشيء الواحد، والدليل على ذلك من سبعة أوجه: الأول: أن إعراب الفعل في الخمسة الأمثلة يقع بعده نحو "يفعلان، وتفعلان، ويفعلون، وتفعلون، وتفعلين، يا امرأة" ولولا أن الفاعل بمنزلة حرف من نفس الفعل وإلا لما جاز أن يقع إعرابُهُ بعده. والوجه الثاني: أنه يُسَكَّن لام الفعل إذا اتصل به ضمير الفاعل، نحو "ضربتَ، وذهبتَ" لئلا يجتمع في كلامهم أربعُ حركات متواليات في كلمة واحدة، ولولا أن ضمير الفاعل بمنزلة حرف من نفس الفعل وإلا لما سكنت لام الفعل لأجله. والوجه الثالث: أنه يلحق الفعل علامة التأنيث إذا كان الفاعل مؤنثًا، فلولا أنه يتنزل منزله بعضِهِ وإلا لما أُلْحِقَ علامة التأنيث؛ لأن الفعل لا يؤنَّث، وإنما يؤنث الاسم.

_ 1 انظر في شرح هذه المسألة: شرح المفصل "ص153 وشرح الكافية "1/ 115" وأسرار العربية للمؤلف "ص37 ط ليدن" والتصريح للشيخ خالد الأزهري "1/ 374 بولاق".

والوجه الرابع: أنهم قالوا "حَبَّذَا" فركبوا حَبَّ وهو فعل مع ذا وهو اسم؛ فصار منزلة شيء واحد، حُكِم على موضعه بالرفع على الابتداء. والوجه الخامس: أنهم قالوا في النسب إلى كُنْتُ "كُنْتِيُّ" فأثبتوا التاء1 ولو لم يتنزل ضميرُ الفاعل منزلة حرفٍ من نفس الفعل وإلا لما جاز إثباتها. والوجه السادس: أنهم قالوا "زيد ظننت منطلق" فألغوا ظننت، ولولا أن الجملة من الفعل والفاعل بمنزلة المفرد وإلا لما جاز إلغاؤها؛ لأن العمل إنما يكون للمفردات لا للجمل. والوجه السابع: أنهم قالوا للواحد "قِفَا" على التثنية؛ لأن المعنى قِفْ قِفْ، قال الله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] فَثَنَّى وإن كان الخطابُ لملك واحد وهو مالكٌ خازنُ النار؛ لأن المعنى: أَلْقِ أَلْقِ، والتثنية إنما تكون للأسماء لا للأفعال؛ فدلّ على أن الفاعل مع الفعل بمنزلة الشيء الواحد. وإذا كان الفعل والفاعل بمنزلة الشيء الواحد، وكان المفعول لا يقع إلا بعدهما؛ دلّ على أنه منصوب بهما، وصار هذا كما قلتم في الابتداء والمبتدأ إنهما يعملان في الخبر؛ لأنه لا يقع إلا بعدهما. والذي يدل على أنه لا يجوز أن يكون الناصب للمفعول هو الفعل وحده أنه لو كان هو الناصب للمفعول لكان يجب أن يليه، ولا يجوز أن يُفْصَلَ بينه وبينه؛ فلما جاز الفصل بينهما دلّ على أنه ليس هو العامل فيه وحده، وإنما العامل فيه الفعل والفاعل. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن الناصب للمفعول هو الفعل دون الفاعل وذلك لأنا أجمعنا على أن الفعل له تأثير في العمل، أما الفاعل فلا تأثير له في العمل؛ لأنه اسم، والأصل في الأسماء أن لا تعمل، وهو باقٍ على أصله في الاسمية؛ فوجب أن لا يكون له تأثير في العمل، وإضافة ما لا تأثير له في العمل إلى ما له تأثير ينبغي أن يكون لا تأثير له. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن الناصب للمفعول الفعل والفاعل لأنه لا يكون إلا بعدهما إلى آخر ما قرروا" قلنا: هذا لا يدل على أنهما العاملان فيه؛ لما بيّنا أن الفاعل اسم، والأصل في الأسماء أن لا تعمل، وبهذا يبطل قول من ذهب منهم إلى أن الفاعل وحده هو العامل، والكلام عليه كالكلام على مَنْ ذهب من البصريين إلى أن الابتداء والمبتدأ يعملان في الخبر لهذا المعنى.

_ 1 مثل ما في قول الشاعر: فأصبحت كنتيا، وأصبحت عاجنا ... وشر خصال المرء كنت وعاجن

وقد بيّنا فساد ذلك مستقصى في مسألة المبتدأ والخبر؛ فلا نعيده ههنا. وأما قولهم: "لو كان الفعل هو العامل في المفعول لكان يجب أن يليه ولا يفصل بينه وبينه" قلنا: هذا يبطل بإنَّ؛ فإنا أجمعنا على أنه يجوز أن يقال "إن في الدار لزيدًا، وإن عندك لعمرًا" قال الله سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [البقرة: 248] وقال تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا} [المزمل: 12] فنصب الاسم بإنَّ وإن لم تَلِهِ فكذلك ههنا؛ وإذا لم يلزم ذلك في الحرف -وهو أضعف من الفعل؛ لأنه فرع عليه في العمل- فلأن لا يلزم ذلك في الفعل وهو أقوى كان ذلك من طريق الأولى، على أنا نقول: إن الفعل قد وَلِيَ المفعول؛ لأن الفعل لما كان أقوى من حرف المعاني صار يعمل عملين؛ فهذا بذاته رافع للفاعل وناصب للمفعول؛ لزيادته على حروف المعاني؛ فتقديره تقدير ما عمل وليس بينه وبين معموله فاصل، وإذا لم يكن بينه وبين معموله فاصل بان أنه قد وليه العامل1، فدلّ على أن العامل هو الفعل وحده. وأما ما ذهب إليه الأحمر من إعمال معنى المفعولية والفاعلية فظاهر الفساد؛ لأنه لو كان الأمر كما زعم لوجب أن لا يرتفع ما لم يُسَمَّ فاعله نحو"ضُرِبَ زَيْدٌ" لعدم معنى الفاعلية، وأن يُنْصَبَ الاسم في نحو "مات زيدًا" لوجود معنى المفعولية، فلما ارتفع ما لم يسم فاعله مع وجود معنى المفعولية وارتفع الاسم في نحو "مات زيد" مع عدم معنى الفاعلية؛ دلّ على فساد ما ذهب إليه. والله أعلم.

_ 1 كذا، ولعل الصواب"بان أنه قد وليه المعمول".

مسألة القول في ناصب الاسم المشغول عنه

12- مسألة: [القول في ناصب الاسم المشغول عنه] 1 ذهب الكوفيون إلى أن قولهم "زيدًا ضَرَبْتُهُ" منصوب بالفعل الواقع على الهاء، وذهب البصريون إلى أنه منصوب بفعل مقدر، والتقدير فيه: ضربت زيدًا ضربته. أما الكوفيون فاتجهوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه منصوب بالفعل الواقع على الهاء، وذلك لأن المَكْنِىَّ -الذي هو الهاء العائد- هو الأول في المعنى؛ فينبغي أن يكون منصوبًا به، كما قالوا "أكرمت أباك زيدًا، وضربت أخاك عَمْرًا". وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه منصوب بفعل مقدر وذلك لأن في الذي ظهر دلالة عليه، فجاز إضماره استغناء بالفعل الظاهر عنه، كما لو كان متأخرًا وقبله ما يدل عليه. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: قولهم "إنما قلنا إنه منصوب بالفعل الواقع على الهاء لأن المكنِي هو الأول في المعنى، فينبغي أن يكون منصوبًا به كقولهم: "أكرمت أباك زيدًا" على البدل، وجاز أن يكون بدلًا لأنه تأخر عن المبدل عنه؛ إذ لا يجوز أن يكون البدل إلا متأخرًا عن المبدل منه، وأما ههنا فقد تقدم زيد على الهاء؛ فلا يجوز أن يكون بدلًا منها؛ لأنه لا يجوز أن يتقدم البدل على المبدل منه، على أنا نقول: إن العامل في البدل عندنا غير العامل في المبدل منه، وإن العامل في المبدل منه على تقدير التكرير في البدل، والذي يدل على ذلك إظهاره في البدل كما أظهر في المبدل منه، قال الله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [لأعراف: 75] فقوله: {لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} بدل من قوله: {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} فأظهر العامل في البدل كما

_ 1 انظر في هذه المسألة: التصريح للشيخ خالد "1/ 350 بولاق" وحاشية الصبان على الأشموني "2/ 57 وما بعدها" وشرح المفصل "ص198 وما بعدها" وشرح الرضي على الكافية "1/ 148"

أظهره في المبدل منه، وقال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] فقوله: "لبيوتهم" بدل من قوله: {لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} فأظهر العامل في البدل كما أظهره في المبدل منه، فدلّ على أنه في تقدير التكرير، وأن العامل في البدل غير العامل في المبدل منه، والله أعلم.

مسألة القول في أولى العاملين بالعمل في التنازع

13- مسألة: [القول في أولى العاملين بالعمل في التنازع] 1 ذهب الكوفيون في إعمال الفعلين، نحو "أَكْرَمَنِي وأكرمتُ زيدًا، وأكرمتُ وأكرمنِي زيدٌ" إلى أن إعمال الفعل الأول أولى، وذهب البصريون إلى أن إعمال الفعل الثاني أولى. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن إعمال الفعل الأول أولى النقلُ، والقياسُ. أما النقل فقد جاء ذلك عنهم كثيرًا، قال امرؤ القيس: [39] فَلَوْ أنَّ ما أَسْعَى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ ... كَفَانِي، ولم أَطْلُبْ، قَلِيلٌ من المال

_ [39] البيت كما قال المؤلف من قصيدة لامرئ القيس بن حجر الكندي؛ مطلعها قوله: ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي؟ وقد استشهد بالبيت رضي الدين في باب التنازع، وشرحه البغدادي "1/ 158" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 417 بتحقيقنا" وفي شرح قطر الندى "رقم 81" والأشموني "رقم 407" وسيبويه "1/ 41" وابن يعيش "ص95" وسيذكر المؤلف فيما يلي البيت التالي لهذا البيت من القصيدة، و "لو" حرف شرط يدل على امتناع الشرط، وفهم الامتناع منه كالبديهي، فإن كل من سمع قائلا يقول "لو كان كذا" أو "لو فعل فلان كذا" فهم عدم وقوع الفعل من غير تردد، ولهذا يصح في كل موضع استعملت فيه لو أن تعقبه بحرف الاستدراك داخلًا على فعل الشرط منفيًّا لفظًا أو معنًى، تقول "لو جاءني أكرمته، لكنه لم يجئ" ومنه قول الشاعر: فلو كان حمد يخلد الناس لم تمت ... ولكن حمد الناس ليس بمخلد وقول الحماسي: ولو طار ذو حافر قبلها ... لطارت، ولكنه لم يطر =

فَأَعْمَلَ الفعل الأول، ولو أعمل الثاني لنصب "قليلا" وذلك لم يَرْوِه أحد، وقال رجل من بني أسد: [40] فَرَدَّ على الفُؤَادِ هَوًى عميدًا ... وَسُوئِل لو يُبِينُ لنا السُّؤَالَا

_ = ومثلهما قول الحماسي أيضًا، وهو قريط بن أنيف أحد بني العنبر: لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا ثم قال بعد ذلك: لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... لبسوا من الشر في شيء وإن هانا وذلك أن معنى هذا البيت الأخير: لكنني لست من مازن، ونظير هذا قول الله تعالى: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} [الأنفال: من الآية43] ومن هنا تعلم أن قول الشلوبين وابن هشام الخضراوي: إن "لو" لا يدل على امتناع شرط ولا جوابه ولكنه يدل على التعليق في الماضي كلام غير مستقيم، والاستشهاد بالبيت في قوله "كفاني ولم أطلب قليل من المال" فإن المؤلف نقل عن الكوفيين أنهم زعموا أن هذا البيت من باب التنازع لتقدم فعلين على اسم واحد، وقد أعمل الشاعر أول الفعلين -وهو قوله "كفاني"- في الاسم المتأخر فرفعه به، والدليل على ذلك أنه لو أعمل الثاني وهو أطلب لنصب الاسم به؛ لأنه يطلب مفعولًا، وهذا الكلام غير صحيح؛ لأن شرط التنازع أن يكون كل واحد من العاملين المتقدمين طالبًا للمعمول مع صحة المعنى على فرض عمل أيهما فيه، وفي هذا البيت لا يتم ذلك؛ فإنك لو قلت: لو ثبت كون سعيي لأدنى معيشة كفاني قليل من المال ولم أطلب ذلك القليل، لكان كلامًا متناقضا لا محصول له، وإنما يتم معنى بيت امرئ القيس إذا قدرت لقوله "ولم أطلب" مفعولًا يدل عليه البيت بعده، وتقديره "ولم أطلب الملك" وإذا انحل البيت إلى قولك: ولو ثبت كون سعيي لأدنى معيشة كفاني قليل من المال ولم أطلب الملك، كان كلاما صحيحا مقبولا، ولم أجد من المؤلفين من بين ذلك بيانًا شافيًا كافيًا كابن هشام في كتابه شرح قطر الندى، فارجع إليه إن شئت. [40] هذان البيتان من كلام المرار الأسدي، وهما من شواهد سيبويه "1/ 40" والهوى: العشق، وعميد: أي فادح يبهظ صاحبه ويدنفه ويسقمه، فعيل بمعنى فاعل، وأصله قولهم "عمده المرض" أي أضناه وأوجعه، و"نغنى" مضارع "غنى بالمكان" من مثال رضى؛ أي أقام فيه وتوطنه، ومنه سمي منزل القوم ومحل إقامتهم المغنى، والخرد -بضم الخاء والراء جميعا- جمع خريدة، وهي المرأة الحيية الطويلة السكوت، أو هي البكر التي لم تمس، والخدال -بكسر الخاء- جمع خدلة -بفتح فسكون- وهي الغليظة الساق المستديرتها، والاستشهاد بالبيتين في قوله "ونرى يقتدننا الخرد الخدالا" حيث كانت هذه العبارة من باب التنازع لتقدم فعلين هما نرى ويقتاد، وتأخر معمول هو الخرد الخدال، وقد أعمل الشاعر الفعل الأول في هذا المعمول بدليل أنه نصبه وأتى بضميره معمولا للفعل الثاني وهو نون النسوة، ولو أنه أعمل الفعل الثاني لقال: نرى يقتادنا الخرد الخدال، فيرفع المعمول على أنه فاعل ليقتاد ويحذف ضميره لكون الأول يطلب معمولًا فضلة، وهذا يدل على أن إعمال العامل الأول أولى، وهو مذهب الكوفيين، والحق أن هذه الشواهد كلها لا تدل على أكثر من أن إعمال العامل الأول جائز، وهو ما لا يختلف فيه أحد، فما أولويته فلا.

وقد نَغْنَى بها ونرى عُصُورًا ... بها يَقْتَدْنَنَا الخُرُدَ الخِدَالَا فأَعْمَلَ الأول، ولذلك نَصَبَ "الخرد الخدالا" ولو أعمل الفعل الثاني لقال: "تقتادنا الخردُ الخدالُ" بالرفع، وقال الآخر: [41] ولما أَنْ تَحَمَّل آلُ لَيْلَى ... سمعت ببينهم نَعَبَ الغُرَابَا فأعمل الأول، ولذلك نصب الغراب، ولو أعلم الثاني لوجب أن يرفع. وأما القياس فهو أن الفعل الأول سابق الفعل الثاني، وهو صالح للعمل كالفعل الثاني، إلا أنه لما كان مبدوءًا به كان إعماله أولى؛ لقوة الابتداء والعناية به؛ ولهذا لا يجوز إلغاء "ظننت" إذا وقعت مبتدأة، نحو "ظننت زيدًا قائمًا" بخلاف ما إذا وقعت متوسطة أو متأخرة، نحو "زيد ظننت قائم، وزيد قائم ظننت" وكذلك لا يجوز إلغاء "كان" إذا وقعت مبتدأة نحو "كان زيد قائما" بخلاف ما إذا كانت متوسطة، نحو "زيد كان قائم" فدل على أن الابتداء له أثر في تقوية عمل الفعل. والذي يؤيد أن إعمال الفعل الأول أولى من الثاني أنك إذا أعملت الثاني أدَّي إلى الإضمار قبل الذِّكر، والإضمار قبل الذِّكر لا يجوز في كلامهم. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن الاختيار إعمال الفعل الثاني النقلُ، والقياسُ. أما النقل فقد جاء كثيرًا، قال الله تعالى: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96]

_ [41] تحمل آل ليلى: وضعوا حمولهم وهموا بالارتحال، والبين -بالفتح- البعد والفراق. والاستشهاد بالبيت في قوله "سمعت ببينهم نعب الغرابا" فإن هذه العبارة من باب الاشتغال، حيث تقدم عاملان -وهما سمعت، ونعب- وتأخر عنهما معمول واحد وهو قوله الغراب، والأول يطلبه مفعولًا لأنه استوفى فاعله، والثاني يطلبه فاعلا لأنه فعل لازم ولم يستوفِ فاعله ظاهرًا، وقد أعمل الشاعر العامل الأول في هذا المعمول فنصبه به، ولو أنه أعمل العامل الثاني لرفعه، فكان يقول "سمعت ببينهم نعب الغراب" وقد زعم الكوفيون أن هذا يدل على أن إعمال العامل الأول أولى من إعمال العامل الثاني، ولكن الحقيقة أن هذا الشاهد ونحوه يدل على جواز إعمال العامل الأول، فأما الدلالة على أولوية ذلك فلا دلالة للبيت ولا لغيره عليه، وورود شواهد أخرى فيها إعمال العامل الثاني دون الأول يدل على جواز إعمال الثاني، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنها تدل على أولويته، فليكن المقرر أن إعمال الأول جائز وإعمال الثاني جائز أيضًا. وليس إعمال أحدهما بأولى من إعمال الآخر، وستأتي لهذا الكلام بقية مع الشواهد 42 و 44 و 48. ونظير هذا قول رياح الزنجي: أن الفرزدق صخرة عادية ... طالبت، فليس تنالها الأجبالا يريد طالت الأجبال، أي غلبتها في الطول، فليس تنالها الأجبال.

فأعمل الفعل الثاني، وهو أفرغ، ولو أعمل الفعل الأول لقال: أفرغه عليه، وقال تعالى: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] فأعمل الثاني وهو اقرءوا، ولو أعمل الأول لقال: اقرءوه، وجاء في الحديث "ونَخْلَعُ ونَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ" فأعمل الثاني، ولو أعمل الأول لأظهر الضمير بُدًّا، وقال الشاعر وهو الفرزدق: [42] ولكنَّ نَصْفًا لو سَبَبْتُ وسَبَّنِي ... بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ مِنْ مَنْافٍ وهَاشِم فأعمل الثاني، ولو أعمل الأول لقال "سببت وسبوني بني عبد شمس" بنصب "بني" وإظهار الضمير في سبني، وقال طُفَيْل الغَنَوِي: [43] وكُمْتًا مُدَمَّاةً كأن مُتُونَهَا ... جَرَى فوقها واستشعرت لون مُذْهَبِ

_ [42] هذا البيت كما قال المؤلف للفرزدق همام بن غالب، وهو من شواهد سيبويه "1/ 39" وابن يعيش "ص94" وهو في ديوان الفرزدق "ص844" ثاني بيتين، والبيت الذي قبله هو قوله: وليس بعدل أن سببت مجاشعا ... بآبائي الشم الكرام الخضارم وقوله فيما روى المؤلف "ولكن نصفا" أي إنصافًا وعدلًا، وفي الديوان "ولكن عدلًا" وقوله "بنو عبد شمس من مناف وهاشم" ليس بمستقيم؛ فإن هاشمًا ليس بابن عبد شمس، وإنما هو ابن عبد مناف، وقد جاء الفرزدق بهذه العبارة على وجها الصحيح مرارًا، من ذلك قوله من قصيدة يمدح فيها يزيد بن عبد الملك: وإن لكم عيصا ألف غصونه ... له ظل بيتَي عبد شمس وهاشم ومن ذلك قوله من قصيدة يهجو فيها أحد بني باهلة: وهل في معد من كفاء نعده ... لنا غير بيتي عبد شمس وهاشم ومن ذلك قوله من قصيدة يهجو فيها باهلة وبني عامر بن صعصعة وجريرًا: ولو سُئِلْتُ مَنْ كُفْؤُ الشَّمْسِ أومأتُ ... إلى ابنَي مناف عبد شمس وهاشم والاستشهاد بالبيت في قوله "سببت وسبني بني عبد شمس" فإن هذه العبارة من باب الاشتغال حيث تقدم فيها عاملان -وهما قوله سببت وقوله سبني- وتأخر عنهما معمول واحد هو قوله "بنو عبد شمس" والأول يطلبه مفعولا والثاني يطلبه فاعلا، وقد أعمل فيه الثاني، ولو أنه أعمل الأول لقال "سببت وسبوني بني عبد شمس" وهذا يدل على أن إعمال العامل الثاني في باب التنازع جائز، ولكنه كما قلنا من قبل لا يدل على أنه أولى من إعمال العامل الأول؛ وإذا كانت الشواهد الواردة عن العرب المحتج بكلامهم قد أعمل العامل الأول في بعضها وأعمل العامل الثاني في بعضا الآخر، فقد تكافأ العاملان في جواز الإعمال، ولم يبقَ أحدهما أولى من أخيه، فأما سبق الأول صاحبه وقرب الآخر من المعمول فلا يفيد، فإنا نعلم أن الأفعال تعمل متقدمة على المعمول ومتأخرة عنه، وتعمل متصلة بمعمولها ومنفصلة منه، وذلك كله واقع في أفصح كلام، ولهذا نرى أن الخلاف في هذه المسألة مما لا طائل له. [43] هذا البيت -كما قال المؤلف- من قصيدة لطفيل بن كعب الغنوي، وهو من شعراء =

وقال الآخر، وهو رجل من باهلة: [44] ولقد أرى تَغْنَى به سَيْفَانَةٌ ... تُصْبِي الحليم ومثلها أصْبَاهُ

_ = الجاهلية، وقد اشتهر بوصف الخيل، حتى قال عبد الملك بن مروان: من أراد أن يتعلم ركوب الخيل فليرو شعر طفيل، والبيت الشاهد في وصف الخيل أيضًا، وهو من شواهد سيبويه "1/ 39" وشرح المفصل "ص94" والأشموني "رقم 416" والمكمت: جمع أكمت وإن لم يكن هذا المفرد مستعملًا، وإنما المستعمل "كميت" بزنة المصغر، قال شارح الجمل: الكميت من الأسماء المصغرة التي لا تكبير لها، وهو مصغر أكمت تصغير الترخيم بمنزلة حميد من أحمد غير أن أكمت لم يستعمل، والكميت: الذي لونه الحمرة يخالطها سواد، ومدماة: شديدة الحمرة حتى كأنها قد طليت بالدم، والمتون: جمع متن، وهو الظهر، وجرى: سال، واستشعرت لون مذهب: جعلت هذا اللون شعارها وأصل الشعار -بزنة الكتاب- العلامة يتخذها المحارب ليعرف بها، أو هو ما يلي الجسد من الثياب، والمذهب -بزنة المكرم- المموه بالذهب. والاستشهاد به في قوله "جرى فوقها واستشعرت لون مذهب" فإن هذا الكلام من باب التنازع؛ فقد تقدم عاملان -وهما قوله جرى وقوله استشعرت- وتأخر عنهما معمول واحد -وهو قوله لون مذهب- وكل واحد من هذين العاملين يطلب هذا المعمول، وقد أعمل الشاعر العامل الثاني منهما في لفظ المعمول، ولو أعمل الأول منهما لرفع "لون مذهب" لأن الأول يطلبه فاعلًا، ولأني بضمير المعمول بارزا مع العامل الثاني، فكان يقول: جرى فوقها واستشعرته لون مذهب. [44] هذا البيت من شواهد سيبويه أيضًا "1/ 39" ولم يزد في نسبته عما نقله المؤلف، وتغنى به: مضارع "غني بالمكان يغنى على مثال رضي يرضى" أي أقام، وتصبي الحليم: تورثه الصبوة، وهي الميل إلى شهوات الصبا وملذاته والاستشهاد به في قوله "أرى تغنى به سيفانة" فإن هذه العبارة من باب التنازع لتقدم عاملين -وهما قوله أرى وقوله تغنى به- وتأخر عنهما معمول واحد -وهو قوله سيفانة- وأول العاملين يطلب هذا المعمول مفعولا، وثانيهما يطلبه فاعلا، وقد أعمل الشاعر العامل الثاني في هذا المعمول؛ بدليل مجيئه مرفوعا، ونظير هذه الشواهد في إعمال العامل الثاني قول الشاعر: إذا كنت ترضيه ويرضيك صاحب ... جهارًا فكن في الغيب أحفظ للود وقول الآخر: هوينني وهويت الغانيات إلى ... أن شبت فانصرفت عنهن آمالي قول الآخر: جفوني ولم أجف الأخلاء؛ إنني ... لغير جميل من خليلي مهمل ثم نقول: قد تبين لك أن كلام العرب قد جاء بإعمال أول العاملين في لفظ المعمول المتأخر عنهما، وبإعمال العامل الثاني في لفظه أيضًا، ومن إعمال العامل الأول الشواهد التي استدل بها الكوفيون، ومن إعمال الثاني الشواهد التي استدل بها البصريون؛ فليس لواحد من الفريقين أن يدعي أن الاستعمال العربي يؤيده وحده؛ لأن الاستعمال العربي يؤيد كل واحد منهما، وكل ما هناك أنه يبقى سؤال، وهو هل العامل الأول أولى بالعمل =

وقال الآخر: [45] قَضَي كل ذي دين فَوَفَّى غَرِيمَهُ ... وعزَّة مَمْطُولٌ مُعَنَّى غَرِيمُهَا

_ = لكونه متقدما وقد طلب المعمول قبل أن يطلبه الثاني، أم العامل الثاني أولى لكونه أقرب إلى المعمول ومجاورًا له، وأما العامل الأول فهو مفصول من المعمول بالعامل الثاني على الأقل؟ ولا نرى لك أن تحاول ترجيح إحدى هاتين القضيتين؛ فإن لكل منهما مستندًا من التعليل والقياس، لا من الاستعمال العربي. [45] هذا البيت لكثيّر بن عبد الرحمن المشهور بكثير عزة، وهو من شواهد الأشموني "رقم 411" وأوضح المسالك "رقم 241" وممطول: اسم المفعول من قولك "مطل المدين دائنه يمطله -من باب نصر-" وذلك إذا لواه بدينه وسوّف في قضائه ولم يؤده، و"معنى" اسم المفعول من قولك "عنى الأمر الفلاني فلانًا -بتضعيف عين الفعل وهي النون هنا-" وذلك إذا شق عليه الأمر وكان سببًا في عنائه وشقوته، والاستشهاد في هذا البيت في موضعين: الأول في قوله "قضى كل ذي دين فوفّى غريمه" فإن هذه العبارة من باب التنازع، فقد تقدم عاملان -وهما قوله "قضى" وقوله "وفّى"- وتأخر عنهما معمول واحد وهو قوله "غريمه" وكل واحد من العاملين المتقدمين يطلب المعمول المتأخر مفعولًا، وقد أعمل الشاعر المعمول الثاني منهما في لفظ المعمول، والدليل على أنه أعمل الثاني هنا أنه لم يصل ضمير المعمول بالعامل الثاني، لأنه لو كان قد أعمل الأول لوجب أن يقول "قضى كل ذي دين فوفاه غريمه" على أن يكون تقدير الكلام: قضى كل ذي دين غريمه فوفاه، والموضع الثاني من موضعي استشهاد المؤلف بالبيت قوله "ممطول معنى غريمها" فإن ظاهر هذه العبارة أنها من باب التنازع؛ لتقدم عاملين وهما قوله "ممطول" وقوله "معنى" وتأخر عنهما معمول واحد وهو قوله "غريمها" وكل واحد من هذين العاملين يطلبه نائب فاعل؛ لأن كل واحد منهما اسم مفعول على ما بيّنا، وأنت تعلم أن اسم المفعول يعمل عمل الفعل المبني للمجهول. وقد اغتر المؤلف بهذا الظاهر؛ فخيل إليه أن العبارة من باب التنازع، وأن الشاعر قد أعمل العامل الثاني، لأنه لو كان قد أعمل العامل الأول لوجب عليه أن يقول: وعزة ممطول معنى هو غريمها؛ فيكون "هو" نائب فاعل معنى، وغريمها: نائب فاعل ممطول، فإن قلت: فلماذا لا يكون في "معنى" ضمير مستتر جوازًا تقديره هو ويكون هذا الضمير نائب فاعل معنًى على تقدير إعمال ممطول في لفظ المعمول المتأخر؟ فالجواب على هذا أن نقول: إن قوله "وعزة" مبتدأ، وخبره قوله "ممطول" والمطول وصف الغريم لا وصف عزة، فقد جرى ضمير الخبر على غير مبتدئه، وإذا جرى ضمير الخبر على غير المبتدأ وجب إبراز ذلك الضمير، هكذا خيل للمؤلف، وهو كلام منقوص من ثلاثة أوجه؛ الوجه الأول: أن وجوب إبراز الضمير من الخبر إذا جرى هذا الضمير على غير مبتدئه هو مذهب البصريين، ومذهب الكوفيين أنه لا يجب إبراز الضمير من الوصف إذا جرى على غير موصوفه، كما بينه المؤلف نفسه في المسألة رقم 8 السابقة، وإذا كان الأمر كذلك لم يجز أن يحتج على مذهب قوم بمذهب قوم آخرين كما هو مقرر في علم الجدل، والوجه الثاني: أن الشاعر لو كان قد أعمل العامل الثاني لوجب =

فأعمل الثاني في هذا البيت في مكانين: أحدهما "وَفّى" ولو أعمل الأول لقال: وفَّاه، والثاني "مُعَنًّى" ولو أعمل الأول لوجب إظهار الضمير بعد معنى؛ فيقول "وعزة ممطول معنى هو غريمها" وتقديره: وعزة مطول غريمها معنى هو؛ لأنه قد جرى على عزة، وهو فعل الغريم؛ فقد جرى على غير مَنْ هو له، واسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له وجب إظهار الضمير فيه، فلما لم يظهر الضمير دلّ على أنه قد أعمل الثاني، إلا أنهم يقولون على هذا: يجوز أن يكون قد أعمل الأول ولم يظهر الضمير وذلك جائز عندنا، وقد بينا فساد ذلك في اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له مستقصًى في موضعه. وأما القياس فهو أن الفعل الثاني أقرب إلى الاسم من الفعل الأول؛ وليس في إعماله دون الأول نَقْصُ معنًى، فكان إعماله أولى، ألا ترى أنهم قالوا: "خشنت بصدره وصدر زيد" فيختارون إعمال الباء في المعطوف، ولا يختارون إعمال الفعل فيه؛ لأنها أقرب إليه منه؛ وليس في إعمالها نقض معنى؛ فكان إعمالها أولى. والذي يدل على أن للقرب أثرًا أنه قد حملهم القربُ والجوارُ حتى قالوا: "جُحْرُ ضَبّ خَرِب" فأجروا خربٍ على ضبٍّ، وهو في الحقيقة صفة للجحر؛ لأن الضب لا يوصف بالخراب؛ فههنا أَوْلَى. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قول امرئ القيس: [39] فلو أن ما أسعى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ ... كَفَانِي، ولم أطلب، قليلٌ من المال

_ = عليه أن يقول: وعزة ممطول هو معنى غريمها؛ فيبرز الضمير المستكن في الخبر الأول لنفس السبب الذي احتج به على الكوفيين، وهو أن الضمير المستكن في الخبر جارٍ على غير مبتدئة، وهذا الاحتجاج ملزم للبصريين لأنه مذهبهم وغير ملزم للكوفيين لأنهم لا يذهبون إليه كما قدمنا، والوجه الثالث: -وهو مترتب على الوجهين السابقين- أن النحارير من العلماء كابن مالك رحمه الله ذهبوا إلى أن هذه العبارة ليست من باب التنازع أصلًا؛ لأنه لا يصح أن يكون الشاعر قد أعمل العامل الأول كما لا يصح أن يكون قد أعمل العامل الثاني؛ لأنه لو أعمل أحدهما أيًا كان لوجب على مذهب البصريين أن يبرز ضمير المعمول مع العامل الذي لم يعمله في لفظ المعمول لكونه جاريًا على غير من هو له، وعلى هذا يكون قوله "عزة" مبتدأ أول وقوله "غريمها" مبتدأ ثانيًا، وقوله "ممطول" خبر المبتدأ الثاني تقدم عليه، وقوله "معنى" خبرًا ثانيًا للمبتدأ الثاني، وجملة المبتدأ الثاني وخبريه في محل رفع خبر المبتدأ الأول، ومن هذا تعلم أن الاسمين المتقدمين -وهما قوله "ممطول" وقوله "معنى"- ليسا عاملين لأنهما خبران، والاسم المتأخر -وهو قوله "غريمها"- ليس معمولا؛ لأنه مبتدأ، والمبتدأ ليس معمولا لخبره إلا على قول ضعيف، وكأن الشاعر قد قال: وعزة غريمها ممطول معنى.

فنقول: إ نما أعمل الأول منهما مراعاة للمعنى؛ لأنه لو أعمل الثاني لكان الكلام متناقضًا، وذلك من وجهين؛ أحدهما: أنه لو أعمل الثاني لكان التقدير فيه: كفاني قليل ولم أطلب قليلًا من المال، وهذا متناقض؛ لأنه يخبر تارة بأن سعيه ليس لأدنى معيشة، وتارة يخبر بأنه يطلب القليل، وذلك متناقض؛ والثاني: أنه قال في البيت الذي بعده: ولَكِنَّمَا أسعى لمجد مُؤَثّلِ ... وقد يُدْرِكُ المجد المُؤَثّلَ أمثالي فلهذا أعمل الأول ولم يعمل الثاني. وأما قول الآخر: [40] وقد نغنى بها ونرى عصورًا ... بها يُقْتَدْننا الخردَ الخِدالا فنول: إنما أعمل الأول مراعاة لحركة الرويّ؛ فإن القصيدة منصوبة، وإعمال الأول جائز، فاستعمل الجائز ليخلص من عيب القافية، ولا خلاف في الجواز، وإنما الخلاف في الأولى، وكذلك أيضًا قول الآخر: [41] "ولما أن تحمل آل ليلى" ... سمعت ببينهم نعب الغرابا يدل على الجواز، وهو مُعَارض بأمثاله. وأما قولهم "إن الفعل الأول سابق فوجب إعماله للعناية به" قلنا: هم وإن كانوا يُعْنَوْنَ بالابتداء إلا أنهم يعنون بالمقاربة والجِوَار أكثر، على ما بيّنا في دليلنا. وأما قولهم "لو أعملنا الثاني لأدَّى إلى الإضمار قبل الذكر" قلنا: إنما جوزنا ههنا الإضمار قبل الذكر لأن ما بعده يفسّره؛ لأنهم قد يتسغنون ببعض الألفاظ عن بعض إذا كان في الملفوظ دلالة على المحذوف لعلم المخاطب، قال الله تعالي: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا َالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] فلم يعمل الآخر فيما أعمل فيه الأول استغناء عنه بما ذكره قبلُ، ولعلم المخاطب أن الثاني قد دخل في حكم الأول، وقال الله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] فاستغنى بذكر خبر الأول عن ذكر خبر الثاني؛ لعلم المخاطب أن الثاني قد دخل في ذلك، قال ضابئ البُرْجُمِيُّ: [46] فمن يَكُ أمسى بالمدينةِ رَحْلُةُ ... فإنِّي وقَيَّارٌ بها لغريبُ

_ [46] هذا البيت -كما قال المؤلف- لضابئ بن الحارث البرجمي، وقد استشهد به سيبويه "1/ 38" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 735" وفي أوضح المسالك "رقم 142" والأشموني "رقم 274" وقوله "رحله" هو هنا بمعنى منزله، ويروى في مكانه "رهطه" ورهط الرجل: أهله وقومه الأقربون، و"قيار" ذكر أبو زيد في نوادره أنه اسم جمل الشاعر، ونقل عن الخليل بن أحمد أنه اسم فرس الشاعر، والاستشهاد بالبيت في قوله "إني وقيار لغريب" =

فاستغنى بذكر خبر الآخر عن خبر الأول، وقال دِرْهَمُ بن زيد الأنصاريّ: [47] نحن بما عندنا، وأنت بما ... عندك راضٍ، والرأيُ مختلف

_ = حيث ذكر الشاعر إن واسمها، ثم ذكر مبتدأ مرفوعًا، وهو قوله "وقيار" وذكر بعد ذلك خبر إن وهو قوله "لغريب" وحذف خبر المبتدأ -وهو قوله "وقيار"- لأن معرفة هذا الخبر المحذوف لا تعسر على سامع هذا الكلام، بل هو متبادر إلى ذهنه من غير تكلف ولا مشقة، وأصل الكلام: فإني لغريب وقيار كذلك، أو غريب، أو مثلي، أو ما أشبه هذا، ولا يجوز في هذا البيت أن يكون قوله "لغريب" خبرًا لقوله "وقيار" لوجود لام الابتداء في هذا الخبر، ولام الابتداء تدخل في خبر إن، ولا تدخل في خبر المبتدأ إلا شذوذًا، كما لا يجوز أن يكون قوله "وقيار" معطوفًا على اسم إن، وذلك من ثلاثة أوجه: الأول: أن اسم إن منصوب، وهذا مرفوع، ومن شرط صحة العطف اتفاق المتعاطفين في الإعراب، والوجه الثاني: أن الذين صح رأيهم ممن جوزوا عطف الاسم المرفوع على اسم إن المنصوب لكون اسم إن مبتدأ في الأصل والمبتدأ مرفوع، إنما جوزوا ذلك إذا وقع الاسم المرفوع بعد استكمال إن معموليها الاسم والخبر كما في قول الشاعر: فمن يك لم ينجب أبوه وأمه ... فإن لنا الأم النجيبة والأب فقد جاء بالاسم المرفوع -وهو قوله "والأب"- بعد أن أوفى جملة إن حقها، والوجه الثالث: أنا لو جرينا على القول المرجوح الذي يجوز مجيء الاسم المرفوع معطوفًا على اسم إن باعتبار أصله ولو لم تستوفِ إن معموليها؛ لم يجز لنا في هذا البيت أن نعطف قوله "وقيار" على اسم إن؛ لأنه لو عطف على اسم إن لوجب أن يقال: فإني وقيار بها لغريبان، لأنه حينئذ يكون خبرًا عن اثنين. [47] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 38" ومغني اللبيب لابن هشام "رقم 873" وشواهد إيضاح القزويني "رقم 95 بتحقيقنا" وليس هو لدرهم بن زيد الأنصاري كما ذكر المؤلف، ولكنه من كلام قيس بن الخطيم، والاستشهاد به في قوله "نحن وأنت راض" فإن قوله "نحن" مبتدأ، وخبره محذوف، وقوله "وأنت" مبتدأ آخر، وخبره هو قوله "راضٍ" وقد حذف الشاعر خبر المبتدأ المتقدم لدلالة خبر المبتدأ الذي بعده عليه، وتقدير الكلام: نحن راضون بما عندنا وأنت راض بما عندك، ولا يجوز أن يكون قوله "راض" خبرًا عن المبتدأ المتقدم وحده، ولا أن يكون خبرًا عن "نحن" و"أنت" جميعًا، لكون هذا الخبر مفردًا، ولا يخبر بالمفرد عن الجمع، ونظير هذا البيت في حذف خبر السابق وذكر خبر الثاني قول الشاعر: خليلي هل طب فإني وأنتما ... -وإن لم تبوحا بالهوى- دنفان؟ فإن قوله "دنفان" يتعين أن يكون خبرًا عن "أنتما" ولا يجوز أن يكون خبرًا لإن وحدها، ولا أن يكون خبرًا لإن والاسم المرفوع بعدها معًا، وذلك لأن "دنفان" مثنى واسم إن مفرد، وهو مع الاسم المرفوع بعده جمع، ولا يجوز أن يخبر بالمثنى عن المفرد ولا عن الجمع.

واستغنى بذكر خبر الآخر عن ذكر خبر الأول، وقال الفرزدق: [48] إني ضَمِنْتُ لِمَنْ أَتَانِي ما جَنَى ... وأَبَى، فكنتُ وكان غَيْرَ غَدُورِ فاستغنى بخبر الثاني عن الأول، والشواهدُ على هذا النحو كثيرة؛ فدلّ على جواز الإضمار ههنا قبل الذكر؛ لأن ما بعده يفسره، وإذا جاز الإضمار مع عدم تقدم ذكر المظهر لدلالة الحال عليه كما قال تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] يعني الشمس وإن لم يجرِ لها ذكر، وكما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] يعني الأرض، وكما قال الشاعر: [49] على مثلها أَمْضِي إذا قال صاحبي: ... ألا لَيْتَنِي أَفْدِيكَ منها وأَفْتَدِي يعني الفلاة وإن لم يجرِ لها ذكر؛ لدلالة الحال، فلأن يجوز ههنا الإضمار قبل الذكر لشريطة التفسير ودلالة اللفظ كان ذلك من طريق الأولى، ثم إن كان هذا ممتنعًا فينبغي أن لا يجوز عندكم، ولا خلاف بين جميع النحويين أنه جائز، إلا فيما لا يعدُّ خلافًا، فدلّ على فساد ما ذكرتموه، والله أعلم.

_ [48] لم أجد هذا البيت في نسخ ديوان الفرزدق المطبوعة، وهو من شواهد سيبويه "1/ 38" ومفرداته ومعناه مما لا يحتاج إلى شرح، والاستشهاد به في قوله "فكنت وكان غير غدور" فإن المؤلف قد زعم أن قوله "غير غدور" خبر لكان الثانية، وأن الشاعر قد حذف خبر كان الأولى ارتكانًا على انفهام المعنى وأن السامع سيفهم أن أصل الكلام فكنت غير غدور وكان غير غدور، فحذف خبر كان الأول لدلالة خبر كان الثانية عليه، فصار كما جاء في كلام الشاعر، لكن الذي ذكره المؤلف ليس بلازم، بل يجوز أن يكون المذكور هو خبر كان الأولى، وأن الشاعر قد حذف خبر كان الثانية لدلالة خبر الأولى عليه، بل هذا -وهو أن يكون المذكور خبر كان الأولى والمحذوف هو خبر كان الثانية- هو الأولى؛ لأنه هو الأكثر دورانًا على ألسنة العرب وهذا في المواضع التي يحتمل الكلام فيها الوجهين جميعًا كما في هذا البيت، أما المكان الذي يتعين فيه أحد الأمرين كالشواهد السابقة فإن الكلام يحمل على ما يتعين فيه، وهذه اللفتة ترجح مذهب الكوفيين في كون العامل المتقدم أولى بالإعمال في لفظ المعمول، نعني فيما لو احتمل الكلام إعمال كل منهما، فتنبه لذلك. [49] هذا البيت هو البيت التاسع والثلاثون من معلقة طرفة بن العبد البكري، وهو من أبيات في وصف ناقته. وقوله "على مثلها" يريد على مثل هذه الناقة الموصوفة، وأمضي: أي أسير، وقوله "ألا ليتني أفديك منها" الضمير عائد على الفلاة أي الصحراء وقد أتى بضمير الفلاة وإن لم يجر لها ذكر في الكلام قبل هذا؛ لأن المراد يفهم من سياق الكلام، ونظيره كما قال المؤلف قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} فإن المراد -والله أعلم- حتى توارت الشمس وراء الأفق، فأضمر في الفعل ضميرا يعود إلى الشمس وإن لم يجرِ لها ذكر في الكلام ارتكانًا على أن السامع سيفهم المقصود ويعرف المراد من سياق الكلام، وقول طرفة "ألا ليتني ... إلخ" واقع موقع قوله: إنا هالكون لأن السير في هذه الصحراء شاق عسير لا يتيسر لأحد أن يمضي فيه ويستمر عليه.

مسألة القول في نعم وبئس، أفعلان هما أما اسمان

مسألة القول في نعم وبئس، أفعلان هما أما اسمان ... 14- مسألة: [القول في نِعْمَ وبِئْسَ، أَفِعْلَانِ هما أم اسمان؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "نِعْمَ، وبِئْسَ" اسمان مُبْتَدَآن. وذهب البصريون إلى أنهما فعلان ماضيان لا يتصرَّفَان، وإليه ذهب علي بن حمزة الكسائي من الكوفيين. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنهما اسمان دخول حرف الخفض عليهما؛ فإنه قد جاء عن العرب أنها تقول "ما زيد بنعم الرجُلُ" قال حسّان بن ثابت: [50] ألستُ بِنِعْمَ الجارُ يُؤْلِفُ بَيْتَهُ ... أخَا قِلَّةٍ أو مُعْدِمَ المال مُصْرِمَا

_ [50] هذا البيت كما قال المؤلف لحسان بن ثابت الأنصاري، والجار: أراد به هنا الذي يستجير به الناس من الفقر والحاجة فينزلون في حماه ويستظلون بظله ويجعلون عليه قضاء حاجاتهم، ويؤلف بيته ببناء الفعل للمعلوم: أي يجعل المقل يألف بيته، وذلك ببسط الكف وبذل العرف وبشاشة الوجه ونحو ذلك، وأخو القلة: الفقير الذي لا يجد كفايته، والمصرم: أراد به المعدم الذي لا يجد شيئًا، وأصله من الصرم الذي هو القطع، ومنه قالوا: ناقة صرماء، وناقة مصرمة، للتي انقطع لبنها وجفَّ، وذلك أن يصيب الضرع شيء فيكوى بالنار فلا يخرج منه لبن أبدًا والاستشهاد بالبيت في قوله "بنعم الجار" فإن الكوفيين استندوا إلى ظاهر هذه العبارة فزعموا أن "نعم" اسم بمعنى الممدوح بدليل دخول حرف الجر عليه، وقد علمنا أن حرف الجر لا يدخل إلا على الأسماء، وربما استدلوا بقول الراجز: صبحك الله بخير باكر ... بنعم طير وشباب فاخر والبصريون يقولون: إن نعم وبئس فعلان جامدان، بدليل دخول تاء التأنيث عليهما، في =

وحُكي عن بعض فُصَحَاء العرب أنه قال "نِعْمَ السَّيْرُ على بِئْسَ العَيْرُ" وحكى أبو بكر بن الأنباري عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب عن سلمة عن الفراء أن أعرابيًّا بُشِّرَ بمولودة فقيل له: نعم المولودة مولودتك! فقال "والله ما هي بنعم المولودة: نُصْرَتُهَا بكاء، وبِرُّها سرقة" فأَدْخَلُوا عليها حرف الخفض، ودُخُولُ حرف الخفض يدل على أنهما اسمان؛ لأنه من خصائص الأسماء. ومنهم من تمسّك بأن قال: الدليل على أنهما اسمان أن العرب تقول: "يا نعم المولى ويا نعم النصير" فنداؤهم نعم يدل على الاسمية؛ لأن النداء من خصائص الأسماء، ولو كان فعلا لما تَوَجَّهَ نحوه النداء. قالوا: ولا يجوز أن يقال: إن المقصود بالنداء محذوف للعلم به -والتقدير فيه: يا ألله نعم المولى ونعم النصير أنت- فحذف المنادى لدلالة حرف النداء عليه كما حذف حرف النداء لدلالة المنادى عليه؛ لأنا نقول: الجواب عن هذا أن المنادى إنما يقدر محذوفًا إذا ولي حرفَ النداء فعلُ أمر وما جرى مجراه، كقراءة الكسائي وأبي جعفر المدني ويعقوب الحضرمي وأبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري وحميد الأعرج:

_ = نحو قوله -صلى الله عليه وسلم: "من توضأ يوم الجمعة؛ فبها ونعمت" وأنت تقول: بئست المرأة حمالة الحطب، وبدليل اقتران ضمائر الرفع المتصلة بهما، تقول: نعما، ونعموا، وضمائر الرفع المتصلة لا تقترن بغير الأفعال، وأما حرف الجر فقد يدخل في اللفظ على الفعل وعلى الحرف أيضًا، ولكنه في التقدير داخل على الاسم، فمثال دخوله على الفعل المتفق على فعليته قول الراجز "انظر الشاهد رقم 64 الآتي": والله ما ليلي بنام صاحبه ... ولا مخالط الليان جانبه ومثال دخوله على الحرف قولك "عجبت من أن تلعب" والفريقان متفقان على مجيء مثل ذلك عن العرب، وهما أيضًا متفقان على أن هذا الظاهر غير مرضي، وأن الباء في قول الراجز "بنام صاحبه" لا بدّ أن تكون داخلة في التقدير على اسم محذوف، وتقدير الكلام والله ما ليلي بليل مقول فيه نام صاحبه، فمدخول الباء في البيت جملة تقع مقول قول محذوف، وهذا القول المحذوف صفة لموصوف محذوف أيضًا، وهذا الموصوف المحذوف هو مدخول الباء عند التحقيق، فإذا كان هذا تأويل الفريقين في قول الراجز "بنام صاحبه" فليكن هو تأويل قول حسان "بنعم الجار" أي بجار مقول فيه نعم الجار، وليكن هو تأويل قول الآخر "بنعم طير" إن سلمنا صحة هذه الرواية، أي بطير مقول في نعم طير، ولكن هذه الرواية غير صحيحة، والرواية الصحيحة "بنعم طير" بضم النون وسكون العين وهي رواية الكسائي، وإذا كان دخول حرف الجر في ظاهر اللفظ على كلمة لا يدل دلالة قاطعة على كونها اسمًا، وكذلك غير حرف الجر من الحروف التي قلنا: إنها من خصائص الأسماء كحروف النداء، وقد رأينا الاستعمال العربي الذائع يصل تاء التأنيث وضمائر الرفع الساكنة بكلمتي نعم وبئس من غير ضرورة ولا حاجة إلى تأويل؛ فليكن الصحيح في هذه المسألة هو مذهب البصريين، فاعرف ذلك.

"أَلَا يَسْجُدُوا لِلَّهِ" أراد يا هؤلاء اسجدوا، وكما قال الأخطل: [51] ألَا يا اسْلَمِي يا هندُ هندَ بنِي بَدْرِ ... وإنْ كَانَ حيَّانَا عِدًى آخر الدَّهْرِ وقال الآخر، وهو ذو الرُّمَّة: [52] ألا يا اسلمِي يا دار ميَّ على البِلَى ... ولا زال مُنْهَلًّا بِجَرْعَائِكِ القَطْرُ

_ [51] هذا البيت كما قال المؤلف من كلام الأخطل التغلبي، واسمه غياث من الغوث، وقد أنشده ابن منظور "ع د ى" ونسبه إليه، وقوله "عدى" أراد به متباعدين لا أرحام بينهم ولا حلف، وقد روي في بيت الأخطل هذا اللفظ بكسر العين وبضمها، وأنكر الأصمعي الضم إلا أن تقول "عداة" بالتاء في آخره، وقوله "آخر الدهر" منصوب على تقدير نزع الخافض وأصله إلى آخر الدهر، فحذف الحرف وأوصل الاسم الذي يشبه الفعل إلى المجرور فنصبه، والاستشهاد بالبيت في قوله "ألا يا اسلمي" فإن الفريقين الكوفيين والبصريين متفقون على أن "يا" حرف نداء، وعلى أن حرف النداء مما يختص بالدخول على الاسم، وقد د خل في هذا البيت على ما هو فعل أمر بالاتفاق، فوجب أن يكون التقدير دخوله على اسم محذوف، وكأنه قد قال: ألا يا هند، اسلمي، يا هند هند بني بكر، ونظير ذلك مما لم ينشده المؤلف قول الآخر: ألا يا اسلمي ذات الدماليج والعقد ... وذات الثنايا الغر والفاحم الجعد وقول الكوفيين "إن هذا خاص بما إذا وقع بعد حرف النداء فعل أمر" غير صحيح فقد دخلت "يا" في اللفظ على أفعال غير فعل الأمر، وعلى الحرف أيضًا، نحو قول الراجز: يا ليتني وأنت يا لميس ... في بلدة ليس بها أنيس وقول الآخر: ياليت زوجك قد غدا ... متقلدًا سيفًا ورمحًا وقول الآخر: يا ليت أنا ضمنا سفينه ... حتى يعود الوصل كينونه وقول الآخر: يا رب مثلك في النساء غريرة ... بيضاء قد متعتها بطلاق وقد ورد مثل ذلك في أفصح الكلام، فمن دخول "يا" على فعل الأمر قول الله تعالى: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} ومن دخول "يا" على الحرف قوله سبحانه: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} وقوله: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ} وقوله: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ} وقوله: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} . [52] هذا البيت من كلام ذي الرمة، واسمه غيلان بن عقبة، وهو من شواهد الأشموني "رقم 11 وابن هشام في المغني "رقم 402" وفي أوضح المسالك "رقم 82" وابن عقيل "رقم 62" والبلى -بكسر الباء مقصورًا- مصدر بلي الثوب ونحوه يبلى بلاء وبلى؛ إذا رث وقدم، ومنهلًا: اسم الفاعل من قولك انهل المطر، أي انسكب وانصب، والجرعاء: رملة مستوية لا تنبت شيئًا، والقطر: المطر، والاستشهاد به في قوله "يا اسلمي" حيث دخل =

وقال الآخر، وهو المرقِّش: [53] أَلَا يا اسلمي لا صَرْمَ لي اليَوْمَ فَاطِمَا ... ولا أبدًا ما دام وَصْلُكِ دائما وقال الآخر: [54] ألَا يا اسلمي قبل الفراق ظَعِينَا ... تحيَّة من أَمْسَى إليك حَزِينَا وقال الآخر: وهو الكُمَيْتُ: [55] ألا يا اسلمي يا تِرْبَ أسماء من تِرْبِ ... ألا يا اسلمي حُيِّيتِ عنِّي وعن صَحْبِي

_ = حرف النداء في اللفظ على الفعل المتفق على فعليته، ولم يخرجه ذلك عن الفعلية؛ لأن الكلام على تقدير اسم يدخل يا عليه، وأصل الكلام: ألا يا دار مية أسلمي دار مي إلخ، وهو نظير ما ذكرناه في شرح الشاهد السابق. [53] هذا البيت كما قال المؤلف للمرقش، والصرم -بالفتح وبالضم أيضًا- الهجران والقطعية وبتّ أواصر المحبة والألفة، و"فاطما" أراد يا فاطمة، فحذف حرف النداء ورخم المنادى بحذف التاء، والاستشهاد به في قوله "ألا يا اسلمي" حيث دخل حرف النداء -وهو"يا"- في اللفظ على فعل متفق على فعليته، وقد اتفق الفريقان على أن حرف النداء مما يختص به الاسم. فلزمهم أن يقدروا اسمًا يكون حرف النداء داخلًا عليه، وأصل الكلام: ألا يا فاطمة اسلمي لا صرم لي إلخ، وهذا مما يؤنس بأن يكون قول حسّان بن ثابت "ألست بنعم الجار" الذي استدل به الكوفيون على أن نعم اسم ليس مما يصح التمسك به؛ لأن الباء داخلة على اسم مقدر، وأصل الكلام: ألست بجار مقول فيه نعم الجار، على ما قررناه سابقًا. [54] لم أقف لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين، وظعين: أراد يا ظعينة، فحذف حرف النداء ورخم الاسم المنادى بحذف التاء، وجاء به على لغة من ينتظر الحرف المحذوف فأبقى فتحة النون التي كانت لها قبل الحذف، وهذه الألف للإطلاق، والظعينة: المرأة ما دامت في الهودج، وقد تطلق على المرأة مطلقًا، وتحية: يجوز فيه النصب على أن يكون مفعولًا مطلقًا عامله محذوف يدل عليه سابق الكلام، وكأنه قال: أحييك تحية، ويجوز فيه الرفع على أن يكون خبر مبتدأ محذوف، وكأنه قال: هذه تحية إلخ، والاستشهاد به في قوله "يا اسلمي" حيث اقترن حرف النداء -وهو "يا"- بكلمة وقع الإجماع على أنها فعل؛ فدل على أن اقتران حرف النداء في اللفظ بكلمة ما لا يقطع بأنها اسم، ويكون نظير ذلك أن اقتران حرف الجر بالكلمة لا يدل دلالة قاطعة على أن هذه الكلمة اسم؛ لجواز أن يكون مدخول حرف الجر محذوفًا من اللفظ، كما أن مدخول حرف النداء في هذا البيت محذوف. [55] هذا البيت -كما قال المؤلف- من كلام الكميت بن زيد الأسدي، والترب -بكسر التاء وسكون الراء- الذي يساويك في سنك. والاستشهاد بالبيت في قوله "يا اسلمي" والقول فيه كالقول في الأبيات السابقة.

وقال الآخر، وهو العجاج: [56] يا دار سلمى يا اسلمي ثم اسلمي ... بِسَمْسَمِ وعن يمين سَمْسَمِ وقال الآخر: [57] أمسلم يا اسمع يابْنَ كلّ خليفةٍ ... ويا سائِسَ الدنيا ويا جبل الأرض أراد "يا هذا اسمع". وقال الآخر: [58] وقالت: ألا يا اسمع نَعِظْكَ بِخُطَّةٍ ... فقلتُ: سمعيًا فانطقِي وأصيبِي

_ [56] هذان بيتان من الرجز المشطور للعجاج بن رؤبة، الراجز المشهور، وقد أنشدهما ابن منظور "س م م" ونسبهما إليه، ووقع عنده "بسمسم أو عن يمين سمسم" وسمسم: اسم موضع بعينه، وقال ابن السكيت: هو رملة معروفة، وفيها يقول طفيل الغنوي: أسف على الأفلاج أيمن صوبة ... وأيسره يعلو مخارم سمسم وموطن الاستشهاد قوله "يا اسلمي" حيث اقترن حرف النداء بكلمة اتفق الفريقان على أنها فعل، فكان مما لا بدّ منه تقدير اسم يقترن به حرف النداء ليصح قولهم: إن حرف النداء مما يختص بالأسماء وقد أرشد العجاج نفسه إلى هذا الاسم المقدر، فأنت تراه قد قال في صدر الشاهد "يا دار سلمى" ثم قال "يا اسلمي" فكأنه قال: يا دار سلمى يا دار سلمى اسلمي ثم اسلمي" والكلام فيه كالكلام فيما مر من الأبيات. [57] ورد هذا البيت في اللسان "ن ف ض" منسوبا إلى أبي نخيلة، وقوله "أمسلم" الهمزة فيه لنداء القريب، ومسلم -بفتح الميم الأولى- مرخم مسلمة، وقوله "يا جبل الأرض" أراد به أن الذي يحفظ توازن هذه الأرض من أن ترتجف بها الراجفة وتزعزعها أعاصير الاضطرابات، أخذه من قوله تعالي: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِي أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} . والاستشهاد بالبيت في قوله "يا اسمع" فإن حرف النداء -وهو "يا"- قد اقترن في هذه العبارة بكلمة اتفق الطرفان جميعًا على أنها فعل -وهي قوله "اسمع"- والكلام فيه نظير ما قلناه فيما قبله، ورواية اللسان "أمسلم إني يا ابن ... إلخ" ولا شاهد فيها. [58] وهذا البيت مما لم نعثر له على نسبة إلى قائل معين، وقوله "نعظك" مجزوم في جواب الأمر السابق عليه، وكأنه قال: إن تسمع نعظك، والخطة -بضم الخاء وتشديد الطاء- شبه القصة، وهو أيضًا الأمر، ويقال: سمته خطة سوء، وقال تأبط شرًّا: هما خطتا إما إسار ومنة ... وإما دم، والقتل بالحر أجدر وقوله "فقلت سميعا" ينتصب على أنه مفعول ثانٍ لفعل محذوف أو على أنه حال حذف عامله، وتقدير الكلام: وجدتني سمعيًا، أو لقيتني سميعًا، ونحو ذلك. والاستشهاد بالبيت في قوله: "ألا يا اسمع" والقول فيه كالقول في نظائره من الأبيات السابقة ونحوها، وكلها يدل على أن اقتران علامة من العلامات الدالة على اسمية الكلمة في اللفظ لا يدل دلالة قاطعة على اسميَّتها في اللفظ وفي التقدير جميعًا، فالاقتران في اللفظ وحده غير كافٍ في القطع باسميه الكلمة؛ لجواز أن يكون قد حذف من الكلام شيء يكون هو المقترن بهذه =

أراد "وقالت يا هذا اسمع" فحذف المنادى لدلالة حرف النداء عليه. وإنما اختصّ هذا التقدير بفعل الأمر دون الخبر لأن المنادَى مخاطبٌ، والمأمور مخاطبٌ، فحذفوا الأول من المخاطَبَيْنِ اكتفاء بالثاني عنه، وإذا كان هذا المنادى إنما يقدر محذوفًا فيما إذا ولي حرفَ النداء فعلُ أمرٍ فلا خلاف أن "نعم المولى" خبر؛ فيجب أن لا يقدَّر المنادى فيه محذوفًا، يدل على أن النداء لا يكاد ينفكُّ عن الأمر أو ما جرى مجراه من الطلب والنهي، ولذلك لا يكاد يوجد في كتاب الله تعالى نداء ينفك عن أمر أو نهي، ولهذا لما جاء بعده الخبر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ} [الحج: 73] شَفَعه الأمر في وقوله: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} فلما كان النداء لا يكاد ينفكُّ عن الأمر وهما جملتا خطاب جاز أن يحذف المنادى من الجملة الأولى، وليس كذلك "يا نعم المولى ونعم النصير" لأن نِعْمَ خبر؛ فلا يجوز أن يقدَّر المنادى فيه محذوفًا. ومنهم من تمسّك بأن قال: الدليل على أنهما ليسا بفعلين أنه لا يحسن اقتران الزمان بهما كسائر الأفعال، ألا ترى أنك لا تقول "نعم الرجل أمْسِ" ولا "نعم الرجل غدًا" وكذلك أيضًا لا تقول "بئس الرجل أمس" ولا "بئس الرجل غدًا" فلما لم يحسن اقتران الزمان بهما عُلم أنهما ليسا بفعلين. ومنهم من تمسّك بأن قال: الدليل على أنهما ليسا بفعلين أنهما غيرُ متصرفين، لأن التصرف من خصائص الأفعال، فلما لم يتصرَّفَا دلّ على أنهما ليسا بفعلين. ومنهم من تمسّك بأن قال: الدليل على أنهما ليسا بفعلين أنه قد جاء عن العرب "نعيم الرجلُ زيدٌ" وليس في أمثلة الأفعال فعيل أَلبتة، فدلّ على أنهما اسمان، وليسا بفعلين. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليلُ على أنهما فعلان اتصالُ الضمير المرفوع بهما على حدِّ اتصاله بالفعل المتصرف؛ فإنه قد جاء عن العرب أنهم قالوا "نِعْمَا رجلين، ونِعْمُوا رجالًا" وحكى ذلك الكسائي، وقد رفعا مع ذلك المُظْهَرَ في نحو "نعم الرجلُ، وبئس الغلامُ" والمضمر في نحو "نعم رجلًا زيدٌ، وبئس غلامًا عمرو" فدلّ على أنهما فعلان. ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أنهما فعلان اتصالهما بتاء التأنيث

_ = العلامة، كما كان اقتران حرف النداء في هذه الشواهد واقتران حرف الجر في بيت حسان غير دليل على اسمية ما دخل عليه حرف النداء وحرف الجر؛ لأن الكلام على تقدير محذوف ألبتة.

الساكنة التي لا يقلبها أحدٌ من العرب في الوقف هاء كما قلبوها في نحو رحمة وسنة وشجرة، ولك قولهم "نعمتِ المرأةُ، وبئست الجاريةُ" لأن هذه التاء يختصّ بها الفعل الماضي لا تَتَعَدَّاه، فلا يجوز الحكم باسمية ما اتصلت به. اعترضوا على هذا بأن قالوا: قولكم "إن هذه التاء يختصّ بها الفعلُ" ليس بصحيح؛ لأنها قد اتصلت بالحرف في قولهم "رُبَّتَ، وثُمَّتَ، ولَاتَ" في قوله تعالى: {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [صّ: 3] قال الشاعر: [59] مَاوِيَّ بل رُبَّتَمَا غَارَةٍ ... شَعْوَاءَ كاللَّذْعَةِ بِالمِيسَمِ

_ [59] هذا البيت لضمرة بن ضمرة النهشلي، ويروى صدره: ماوي يا ربتما غارة وهو من شواهد ابن عقيل "رقم 216" وأنشده ابن منظور "ر ب ب". والغارة: الاسم من قولك "أغار القوم" أي أسرعوا السير إلى الحرب، وقوله "شعواء" يريد متفرقة منتشرة، و"اللذعة" مأخوذ من قولك "لذعته النار تلذعه" من باب قطع -أي أحرقته- و"الميسم" بكسر الميم أوله: اسم الآلة من الوسم، وبها توسم الإبل، توضع في النار ثم تمس بها الإبل لتكون علامة على أصحابها، وكان لكل قبيلة ميسم على هيئة وشكل مخصوص يعلمون بها إبلهم حتى يعرفها الناس ويفسحوا لها المجال لتشرب الماء. وموطن الاستشهاد بهذا البيت هنا قوله "ربتما" حيث اقترنت تاء التأنيث برب، وقد علم أن تاء التأنيث لا تقترن إلا بالأفعال، وقد اتفق الفريقان على أن رب ليس فعلًا، فيكون اقتران رب بتاء التأنيث كاقتران حرف النداء بالفعل وبالحرف فيما مضى من الشواهد، ونظير اقتران تاء التأنيث برب في هذا البيت اقترانها بها في قول الآخر وأنشده ابن منظور: وربت سائل عني حفي ... أعارت عينه أم لم تعارا وبعض الكوفيين ينشد هذه الأبيات ونحوها لنقض دليل البصريين الذي استدلوا به على أن نعم وبئس فعلان، فيقولون: أنتم تستدلون على أن نعم وبئس فعلان باقتران كل واحدة من هاتين الكلمتين بتاء التأنيث، وتزعمون أن تاء التأنيث مختصة بالدخول على الأفعال، ولكنا لا نسلم أن كل ما تدخل عليه تاء التأنيث يكون فعلا، بدليل أن هذه التاء قد دخلت على "ثم" وهو حرف عطف بالإجماع، كما دخلت على "لا" وهو حرف نفي بالإجماع، ودخلت على "رب" ونحن وأنتم متفقون على أنه ليس فعلًا، فيكون هذا نظير ما نقضتم به مذهبنا حيث قلتم: إن دخول حرف الجر على الكلمة لا يكون دليلًا قطعًا على اسميه الكلمة؛ لأن حرف الجر قد دخل في اللفظ على الفعل وعلى الحرف وإن حرف النداء الذي هو من خصائص الأسماء قد دخل في اللفظ على الفعل المتفق على فعليته وعلى الحرف المتفق على حرفيته، وإذن فلم يتم دليلكم كما لم يتم دليلنا، فما المرجح لمذهبكم على مذهبنا؟. وهذا كلام ظاهره صحيح، ولكنه عند البحث والتحقيق لا ينهض ولا يستقيم، وبيان ذلك من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن تاء التأنيث التي تلحق الفعل والتي هي خاصة من خصائصه ساكنة، تقول: قامت، وقعدت، وأقامت، وسافرت، فتجد تاء =

وقال الآخر: [60] ثُمَّتَ قُمْنَا إلى جُردٍ مُسَوَّمَةٍ ... أَعْرَافُهُنَّ لِأَيْدِينَا مَنَادِيلُ فلحاقها بالحرف يبطل ما ادّعَيْتُمُوهُ من اختصاص الفعل بها، وإذا بطل الاختصاص جاز أن تكون نعم وبئس اسمين لحقتهما هذه التاء كما لحقت رُبَّتَ وثُمَّتَ. هذا على أن نعم وبئس لا تلزمهما التاء بوقوع المؤنث بعدهما كما تلزم الأفعال، ألا ترى أن قولك "قام المرأة، وقعد الجارية" لا يجوز في سَعة الكلام،

_ = التأنيث اللاحقة لهذه الأفعال ساكنة، بخلاف تاء التأنيث في ثمت وفي ربت وفي لات، فإنها متحركة مفتوحة، فلما اختلفت التاء في هذه الكلمات عن التاء اللاحقة للأفعال دلّ على أنها ليست هي التاء التي نجعلها خاصة من خصائص الأفعال، بدليل أننا نقول: إن تاء التأنيث المختصة بالأفعال هي تاء التأنيث الساكنة، والوجه الثاني: أن تاء التأنيث اللاحقة للأفعال والتي هي خاصة من خصائص الفعل الماضي إنما تلحق الفعل لتدل على أن فاعله مؤنث؛ فأنت تقول: قامت هند، وقعدت فاطمة، وأقامت سلمى، وسافرت سعدى، فتأتي بهذه التاء ألبتة مع الفاعل المؤنث للفرق بين الفعل المذكر وفعل المؤنث؛ لأن بعض الأسماء يشترك في التسمية بها المذكر والمؤنث فلا يكفي ذكر هذه الأسماء من غير تأنيث الفعل للدلالة على أن المراد بها مؤنث، أما التاء اللاحقة لرب وثم ولا ليست بهذه المنزلة، بل المراد بها تأنيث اللفظ، فلتكن التاء التي هي من خصائص الأفعال هي التاء الدالة على تأنيث الفاعل الذي يسند الفعل المقترن بها إليه، والوجه الثالث: أنا نقول: إن لحاق هذه التاء لهذه الحروف شاذ عن القياس بالإجماع منا ومنكم، والحكم فيما عدا هذه الكلمات المحفوظة باقٍ على أصله لا ينقضه شيء. [60] هذا البيت من قصيدة مستجادة لعبدة بن الطبيب، وهو شاعر مخضرم، وقصيدته التي منها بيت الشاهد هي المفضلية رقم 26، والجرد: جمع أجرد أو جرداء، والأجرد من الخيل: القصير الشعر، والمسومة: المعلمة، والأعراف: جمع عرف -بالضم- وهو الشعر الذي في عنق الفرس، والمناديل: جمع منديل، وهو الذي تمسح به يديك من وضر الطعام ونحوه، يقول: إنهم بعد أن طعموا ركبوا الخيل الجرداء المعلمة ومسحوا أيديهم من آثار الطعام بأعرافها، والاستشهاد بالبيت في قوله "ثمت" حيث اتصلت تاء التأنيث بثم، ومن المتفق عليه بين الفريقين أن ثم حرف من حروف العطف، وقد بينا وجه الاستشهاد بذلك في شرح البيت السابق، ونظير بيت عبدة هذا في اقتران ثم بتاء التأنيث قول شمر بن عمرو الحنفي، وهو من شعر الأصمعيات: ولقد مررت على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت: لا يعنيني وقول الآخر وأنشده ابن منظور "ب ي ع - ث م م": ثمت ينباع انبياع الشجاع وقول عمر بن أبي ربيعة "د 258 بتحقيقنا": اسأليه ثمت استمعي ... أينا أحق بالظلم؟

بخلاف قولك: "نعم المرأة، وبئس الجارية" فإنه حَسَن في سَعَة الكلام؟ فبان الفرق بينهما. وهذا الاعتراض الذي ذكروه ساقط، وأما التاء التي اتصلت برُبَّتَ وثَمَّتَ وإن كانت للتأنيث إلا أنها ليست التاء التي في نعمت وبئست، والدليل على ذلك من وجهين؛ أحدهما: أن التاء في "نعمت المرأةُ، وبئست الجاريةُ" لحقت الفعل لتأنيث الاسم الذي أسند إليه الفعل، كما لحقت في قولهم "قامت المرأة" لتأنيث الاسم الذي أسند إليه الفعلُ، والتاء في "ربت، وثمت" لحقت لتأنيث الحرف؛ لا لتأنيث شيء آخر، ألا ترى أنك تقول "رُبَّتَ رجل أَهَنْتُ" كما تقول "رُبَّتَ امرأة أكرمت" ولو كانت كالتاء في نعمت وبئست لما جاز أن تثبت مع المذكر كما لا يجوز أن تثبت مع المذكر في قولك "نعمت الرجل، وبئست الغلام"؛ فلما جاز أن تثبت التاء في رُبَّتَ مع المذكر دلّ على الفرق بينهما، والوجه الآخر: أن التاء اللاحقة للفعل تكون ساكنة، وهذه التاء التي تلحق هذين الحرفين تكون متحركة، فبان الفرق بينهما، وأما "لاَتَ" فلا نسلم أن التاء مزيدة فيها، بل هي كلمة على حيالها، وإن سلمنا أن التاء مزيدة فيها فالجواب من أربعة أوجه: وجهان ذكرناهما في ربت وثمت، ووجهان نذكرهما الآن؛ أحدهما: أن الكسائي كان يقف عليها بالهاء؛ فاحتجَّ بأنه سأل أبا فَقْعَس الأسديّ عنها فقال: "وَلَاهْ" فإذًا لا تكون بمنزلة التاء في ربت وثمت، ولا بمنزلة التاء في نعمت وبئست، والوجه الثاني: أن تكون التاء في "لات حين" متصلة بحين، لا بلا، كذلك ذكره أبو عُبيد القاسمُ بن سَلَّام، وحكى أنهم يزيدون التاء على حين وأوان والآن؛ فيقولون: "فعلت هذا تَحِينَ كذا، وتأوَانَ كذا، وتألآنَ" أي: حين كذا، وأوان كذا، والآن. وقال الشاعر وهو أبو وَجْزَةَ السعدي: [61] العاطفون تَحِينَ ما مِنْ عاطفٍ ... والمُطْعِمُون زمان أين المُطْعِمُ

_ [61] هذا البيت لأبي وجزة كما قال المؤلف، وقد أنشده ابن منظور "ح ي ن" عن ابن سيده وعن الجوهري، ونسبه في المرتين لأبي وجزة، وقد لفق كل واحد من هؤلاء الأئمة البيت من بيتين، وصواب الإنشاد هكذا: العاطفون تحين ما من عاطف ... والمسبغون يدًا إذا ما أنعموا والمانعون من الهضيمة جارهم ... والحاملون إذا الشعيرة تغرم واللاحقون جفانهم قمع الذرى ... والمطعمون زمان أين المطعم والاسشتهاد بالبيت في قوله "العاطفون تحين" وللعلماء في هذه العبارة رأيان: أحدهما: وهو الذي ذكر المؤلف ههنا أن هذه التاء زائدة في أول كلمة "حين" وأصل هذا الرأي لأبي زيد، زعم أنه سمع من بعض العرب زيادة التاء في أوائل بعض الظروف مثل الحين =

وقال أبو زبيد الطّائي: [62] طلبوا صلحنا ولا تأَوَانٍ ... فَأَجَبْنَا أنْ ليس حين بَقَاء

_ = والآن، قال أبو زيد "سمعت من يقول: حسبك تلان، يريد الآن، فزاد التاء" ا. هـ. والرأي الثاني: أن هذه التاء زائدة في قوله "العاطفون" وأصلها هاء الوقف، ثم أجرى الكلمة في حال الوصل مجراها في حال الوقف، ثم قلب الهاء تاء مبسوطة، وعلى ذلك ينبغي أن تكتب "العاطفونت حين ... إلخ" وقد ذكر هذا الرأي ابن سيده بعد أن ذكر الرأي الأول عن أبي زيد، قال: "وقيل: أراد العاطفونه، فأجراه في الوصل على حد ما يكون عليه في الوقف، وذلك أنه يقال في الوقف: هؤلاء مسلمونه، وضاربونه، فتلحق الهاء لبيان حركة النون كما أنشدوا: أهكذا يا طيب تفعلونه ... أعللا ونحن منهلونه فصار التقدير: العاطفونه، ثم إنه شبه هاء الوقف بهاء التأنيث، فلما احتاج لإقامة الوزن إلى حركة الهاء قلبها تاء، كما تقول: هذا طلحة، فإذا وصلت صارت الهاء تاء فقلت: هذا طلحتنا، فعلى هذا قال: العاطفونه، وفتحت التاء كما فتحت في آخر ربت وثمت وذيت وكيت" ا. هـ. وقال ابن بري في بيت أبي وجزة:"هذه الهاء هي هاء السكت اضطر إلى تحركها، قال: ومثله: هم القائلون الخير والأمرونه ... إذا ما خشوا من محدث الأمر معظمًا" ا. هـ ونريد أن نبين لك أن هذه الهاء في قول أبي وجزة "العاطفونه" وفي تمثيل ابن سيده بقوله "هؤلاء مسلمونه" و "ضاربونه" ليست هاء ضمير الغائب على ما قد يتسرب إلى ذهنك، وذلك أن هذه الهاءات لو كانت ضمائر لكان الاسم مضافًا إليها، فكان يجب أن تحذف النون التي تلي علامة الإعراب وهي الواو في كل هذه الأمثلة، لما تعرف من أنه يحذف للإضافة تنوين الاسم المفرد ونون المثنى وجمع المذكر السالم، فتنبه لهذا، على أن من هذه الأمثلة ما لا يتعدى بنفسه مثل "الآمرونه" في البيت الذي أنشده ابن بري، وإنما يتعدى بالباء إلى المأمور به، فتقول: أمرته بكذا، ولا تقول: أمرته كذا، إلا على التوسع كما جاء في قول الشاعر: أمرتك الخير، فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب [62] هذا البيت من قصيدة لأبي زبيد الطائي، كما قال المؤلف، وهو من شواهد مغني اللبيب "رقم 416" وشواهد الأشموني "رقم 229" والاستشهاد بهذا البيت في قوله "ولات أوان" وفي هذه التاء رأيان للنحاة؛ أحدهما: أنها مزيدة على لا النافية، وأنها نظير التاء في ربت وثمت، وقد مضى بيان ذلك، والرأي الثاني: أن هذه التاء مزيدة في أول كلمة "أوان" كما زيدت في أول الآن فقيل: تالآن، وقيل: تلان، على ما رواه أبو زيد، وقد ذكرنا ذلك في شرح الشاهد السابق "رقم 61" وهذا هو الوجه الذي روى المؤلف البيت في هذا الموضع لتقريره. ثم إن في جر "أوان" أربعة آراء للعلماء، الأول: أن "لات" في هذا ونحوه عاملة الجر، وكلمة "أوان" مجرورة بالكسرة الظاهرة، وتنوينها تنوين التمكين الذي يلحق الأسماء المعربة، وهذا رأي الفراء، ولا يجري إلا على أن التاء متصلة بلا، والرأي الثاني: أن =

وقال الآخر: [63] نَوِّلِي قبل يوم نَأْيِي جِمَانَا ... وصِلِينَا كما زعمت تَلَانَا واحتجَّ بحديث ابن عمر حين ذكر لرجل مَنَاقِب عثمان فقال له "اذهب بها تَالآنَ إلى أصحابك" واحتج بأنه وجدها مكتوبة في المصحف الذي يقال له الإمام "تَحِينَ" فدلّ على ما قلناه. وقولهم "إن التاء لا تلزم نعم وبئس إذا وقع المؤنث بعدهما" فليس بصحيح، لأن التاء تلزمهما في لغة شطر العرب، كما تلزم في قام، ولا فرق عندهم بين "نعمت المرأة"، و "قامت المرأة" وإنما جاز عند الذين قالوا "نعم المرأة" ولم يجز عندهم "قام المرأة" لأن المرأة في قولهم "نعم المرأة هند" واقعة على الجنس كقولهم "الرجل أفضل من المرأة" أي جنسُ الرجال أفضل من جنس النساء، وكقولهم "أهلك الناس الدينارُ والدرهمُ" أي الدراهم والدنانير، وكوقوع الإنسان على الناس، قال الله تعالي: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] أراد الناس، وإذا كان المراد بالمرأة استغراق الجنس فلا خلاف أن أسماء الأجناس والجموع يجوز تذكيرُ أفعالِها وتأنيثُها؛ فلهذا المعنى حذف تاء التأنيث من حذفها من "نعم المرأة" وإذا كانوا قد حذفوها في حال السعة من فعل المؤنث الحقيقي من قولهم "حضر القاضيَ اليوم امرأةٌ" فلا يبعد أن يحذفوها من فعل المؤنث الواقع

_ = "لات" ههنا حرف نفي يعمل عمل إن ويدل على نفي الجنس، و "أوان" في هذا البيت مبني لا معرب، وبناؤه على السكون الذي هو الأصل في المبنيّات، ولكنه لما اجتمع ساكنان: سكون البناء، وسكون الألف السابقة، كسر آخره على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، ثم نوّن للضرورة، والرأي الثالث: أن "لات" حرف نفي، و "أوان" مبني على الكسر تشبيهًا له بنزال ونحوه لأنه على وزنه، وتنوينه للضرورة أيضًا، وهذان الرأيان يجريان على أن التاء مزيدة على "لات" ويجريان أيضًا على أن التاء مزيدة أيضًا على أوان، وعليه يكون العامل هو "لا" النافية للجنس، والرأي الرابع: أن تكون "لا" نافية، والتاء مزيدة على "أوان" وتأوان: مجرور بحرف جر محذوف، وحرف الجر هو من الاستغراقية، وكأنه قال: لا من أوان صلح لهم، وفي هذا القدر كفاية ومقنع. [63] لم أقف لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين. وقد أنشده ابن منظور "ح ي ن" ولم يعزه لقائل معين، و "نولي" أصل معناه أعطي وامنحي، وأراد هنا صليني وكفي عن الهجر، وما يؤدي هذا المعنى، والنأي: البعد والفراق، و"جمانا" اسم امرأة، وهو منادى بحرف نداء محذوف، وأصله "جمانة" فرخمه الشاعر بحذف التاء، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "تلانا"حيث زاد على "الآن" تاء في أوله وفي حديث ابن عمر "اذهب بها تالآن معك" قال أبو زيد: سمعت من يقول "حسبك تلان" يريد الآن، فزاد التاء، وقال ابن سيده في بيت الشاهد: أراد الآن، فزاد التاء، وألقى حركة الهمزة على ما قبلها. ا. هـ.

على الجنس. وقد قالوا "ما قعد إلا المرأة، وما قام إلا الجارية" فحذفوا تاء التأنيث ألبتة، ولم تأتِ مثبتة إلا في ضرورة. فإن قالوا: إنما حذفت تاء التأنيث ههنا تنبيهًا على المعنى؛ لأن التقدير: ما قعد أحد إلا المرأة، وما قام أحد إلا الجارية. قلنا: هذا مُسَلَّم، ولكن اللفظ يدل على أن المرأة والجارية غير بدل من أحد، وإن كان المعنى يدل على أنهما بدل، كما أن اللفظ يدل على أن "شَحْمًا" في قولك "تَفَقّأ الكبشُ شحمًا" غير فاعل، وإن كان المعنى يدل على أنه فاعل، فكما أنهم حذفوا تاء التأنيث من قولهم "ما قعد إلا المرأة" تنبيهًا على المعنى فكذلك حذفوها من قولهم "نعم المرأة" تنبيهًا على أن الاسم يراد به الجنس. ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أنهما فعلان ماضيان أنهما مبنيان على الفتح، ولو كانا اسمين لما كان لبنائهما وجه؛ إذ لا علة ههنا توجب بناءهما. وهذا تمسّكٌ باسْتِصْحَاب الحال، وهو من أضعف الأدلة، والمعتمد عليه ما قدمناه. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "الدليل على أنهما اسمان دخول حرف الجر عليهما في قوله: ألست بنعم الجارُ يُؤْلَفُ بيتَهُ وقول بعض العرب: نعم السير على بئس العير، وقول الآخر: والله ما هي بنعم المولودة" فنقول: دخول حرف الجر عليهما ليس لهم فيه حجة؛ لأن الحكاية فيه مقدَّرة، وحرف الجر يدخل مع تقدير الحكاية على ما لا شُبْهَة في فعليته، قال الراجز: [64] والله ما ليلي بنامَ صاحِبُهْ ... ولا مخالط اللّيانِ جانِبُهْ

_ [64] لم أقف لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين، وقد أنشده ابن منظور "ن وم" ولم يعزه، وهو من شواهد الأشموني في باب نعم وبئس "رقم 744" وابن هشام في شرح قطر الندى "رقم 8" والرضي في باب أفعال المدح، وانظر الخزانة "4/ 106" ويروى صدره: والله ما زيد بنام صاحبه والليان -بفتح اللام والياء جميعًا- أحد مصادر "لان" تقول: لان فلان يلين لينًا وليانًا؛ إذا سهل. ومحل الاستشهاد بالبيت قول "بنام" حيث دخل عليه حرف الجر -وهو الباء- على الفعل، في اللفظ، وقد علم أن حرف الجر مختص بالدخول على الأسماء فلزم تقدير اسم يكون معمولًا لحرف الجر، وتقدير الكلام: ما ليلي بليل مقول فيه نام صاحبه، وقد روى البصريون هذا البيت لإبطال حجة الكوفيين القائلين إن نعم وبئس اسمان بدليل دخول =

ولو كان الأمر كما زعمتم لوجب أن يحكم لنام بالاسمية؛ لدخول الباء عليه، وإذا لم يجز أن يحكم به بالاسمية لتقدير الحكاية فكذلك ههنا لا يجوز أن يحكم لنعم وبئس بالاسمية لدخول حرف الجر عليهما لتقدير الحكاية، والتقدير في قولك: [50] ألست بنعم الجار يؤلف بيته ألست بجارٍ مقولٍ فيه نعم الجار، وكذلك التقدير في قول بعض العرب "نعم السير على بئس العير" "نعم السير على عَيْرٍ مقول فيه بئس العير" وكذلك التقدير في قول الآخر "والله ما هي بنعم المولودة" والله ما هي بمولودة مقول فيها نعم المولودة، وكذلك أيضًا التقدير في البيت الذي ذكرناه "والله ما ليلي بليل مقول فيه نام صاحبه" إلا أنهم حذفوا منها الموصوف وأقاموا الصفة مُقَامة. كقوله تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 11] أي دُرُوعًا سابغات، وكقوله تعالى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] أي المِلَّة القيمة؛ فصار التقدير فيها ألست بمقول فيها نعم الجار، ونعم السير على مقول فيه بئس العير، وما هي بمقول فيها نعم المولودة، وما ليلى بمقول فيه نام صاحبه، ثم حذفوا الصفة التي هي "مقول" وأقاموا المحكيَّ بها مُقَامَهَا، لأن القول يحذف كثيرًا كما يذكر كثيرًا، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] أي

_ = حرف الجر عليهما، ووجه الأبطال أنه لا يلزم من دخول حرف الجر في اللفظ على كلمة ما أن تكون هذه الكلمة اسمًا؛ لأن حرف الجر قد يدخل في اللفظ على كلمة قد اتفقنا على أنها فعل مثل نام في هذا البيت. وهذا الذي ذكرناه وذكره مؤلف الكتاب في هذا البيت أحد رأيين للعلماء في هذا الشاهد، والرأي الآخر حكاه ابن منظور، وخلاصته أن "نام" ليس فعلًا باقيًا على فعليته، ولكنه صار مع ما بعده علمًا، فهو من باب الأعلام المحكية عن الجمل، وأنت خبير أن الأعلام المحكية عن الجمل تدخل عليها عوامل الأسماء، ويجوز أن تضاف إليها الأسماء كما قال الشاعر: كذبتم وبيت الله لا تنكحونها ... بني شاب قرناها تصر وتحلب فقول الشاعر هنا "نام صاحبه" مثل قول الشاعر "شاب قرناها" وهذا التخريج إنما ذهب إليه من روى في بيت الشاهد: والله ما زيد بنام صاحبه فكأنه قال: ما زيد بهذا الرجل المسمى نام صاحبه، إلا أن قوله بعد ذلك "ولا مخالط الليان" لا يلتئم مع الكلام السابق، على هذا التخريج، فإنه يسأل: على م يعطف قوله "ولا مخالط الليان"؟ فإنه لا يجوز حينئذ أن يعطف على "نام صاحبه" لكونه في هذه الحالة ليس صفة، إلا إذا لحظت معناه الأول قبل أن يصير علمًا، ولهذا استبعد جماعة من العلماء أن يكون "نام صاحبه" في هذا البيت علمًا.

يقولون: ما نعبدهم، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] أي: يقولون ربنا، وقال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23، 24] أي يقولون: سلام عليكم، وقال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: 127] أي يقولون: ربنا؛ وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 106] أي يقال لهم: أكفرتم، وقال تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} [الواقعة: 65-66] أي تقولون: إنا لمغرمون. وهذا في كلام الله تعالى وكلام العرب كثيرًا جدًا، فلما كثر حَذْفه كثرة ذكره حذفوا الصّفة التي هي مقول؛ فدخل حرف الجر على الفعل لفظًا وإن كان داخلًا على غيره تقديرًا، كما دخلت الإضافة على الفعل لفظًا وإن كانت داخلة على غيره تقديرًا في قوله: [65] ما لك عندي غيرُ سهم وحَجَر، ... وغير كبدَاءَ شديدة الوَتَر جادت بِكَفَّيْ كان من أَرْمَى البشر أي: بكفَّيْ رجل كان من أرمى البشر، فحذف الموصوف الذي هو "رجل" وأقام الجملة مقامه، فوقعت الإضافة إلى الفعل لفظًا وإن كانت داخلة على غيره تقديرًا، فكذلك ههنا: دخل حرف الجر على الفعل لفظًا، وإن كان داخلًا على غيره تقديرًا.

_ [65] لم أعثر لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين، وهو من شواهد مغني اللبيب "رقم 266" والأشموني "رقم 791 بتحقيقنا" وشواهد الرضي، وقال البغدادي "2/ 312" "لم يعرف له قائل" والسهم: واحد السهام، وهي النبال، وهو أيضًا حجر يوضع فوق باب بيت يبنى لاصطياد الأسد فإذا دخل الأسد هذا البيت وقع الحجر فسد الباب عليه، والكبداء -بفتح فسكون- القوس إذا كانت واسعة المقبض، والوتر: مجرى السهم من القوس، والضمير المستتر في "ترمي" راجع على الكبداء التي هي القوس، وأرمى البشر: أشدهم رميًا وأكثرهم إصابة للهدف، والاستشهاد بالبيت في قوله "بكفي كان من أرمى البشر" حيث حذف الموصوف وأبقى صفته، وأصل الكلام: بكفي رجل كان من أرمى البشر، أما الموصف فهو "رجل" الذي يضاف قوله "بكفي" إليه، وأما الصفة فهي جملة "كان من أرمى البشر" ويجوز لك أن تعتبر "كان" زائدة لا تعمل شيئًا؛ لوقوعها بين شيئين متلازمين ليسا جارًّا ومجرورًا وهما النعت ومنعوته، وعلى هذا يكون قوله "من أرمى البشر" جارًّا ومجرورًا متعلقًا بمحذوف نعت للمنعوت المحذوف.

ونحو هذا من الاتّساع مجيء الجملة الاستفهامية وَصْفًا في نحو قوله: جاءوا بِضَيْحٍ هل رأيت الذئب قطّ فقوله "هل رأيت الذّئب قط" جملة استفهامية في موضع وَصْف لضيح، وإن كانت لا تحتمل صدقًا ولا كذبًا، ولكنه كأنه قال: جاءوا بضيح يقول مَنْ رآه هل رأيت الذئب قط، فإنه يشبهه. ونحو ذلك أيضًا من الاتساع مجيء الجملة الأمرية حالًا في قوله: [67] بئس مَقَامُ الشَّيخ أَمْرِسْ أَمْرِسِ ... إمَّا على قَعْوٍ، وإمَّا اقْعَنْسِسِ

_ [66] ينسب بعض الناس بهذا الرجز إلى العجاج بن رؤبة الراجز المشهور، ولكن الأكثرين على أنه لراجز لا يعلم، وكان قد نزل بقوم وانتظر طويلا عساهم أن يجيئوه بقراه، ثم جاءوه بلبن مشوب بكثير من الماء فقال فيهم: بتنا بحسّان ومعزاه تئط ... تلحس أذنيه، وحينا تمتخط ما زلت أسعى بينهم وألتبط ... حتى إذا جن الظلام واختلط جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط وقد أنشده ابن منظور "ض ي ح" ولم يعزه إلى معين، والبيت من شواهد الأشموني "رقم 874" وابن عقيل "رقم 287" وأوضح المسالك "رقم 294" ومغني اللبيب "رقم 408" والرضي في باب المبتدأ والخبر وفي باب النعت، وشرحه البغدادي "1/ 275". وحسان: جعله البغدادي اسم رجل، وقيل: هو موضع بين دير العاقول وواسط، والصواب ما قاله البغدادي؛ لقوله فيما بعد "تلحس أذنيه" وتئط: تصوّت، وجن الظلام: ستر كل شيء، والمذق اللبن إذا كثر خلطه بالماء، ويروى "بضيح" وهي الرواية التي حكاها المؤلف، والضيح -بفتح الضاد وسكون الياء- هو اللبن الرقيق الذي خلط كثيرًا بالماء، ومحل الاستشهاد بالبيت في قوله "بضيح هل رأيت ... إلخ فإن ظاهر هذه العبارة يفيد أن الجملة الإنشائية وهي جملة الاستفهام التي هي قوله "هل رأيت الذئب قط" قد وقعت نعتًا للنكرة التي هي قوله "مذق" أو "ضيح" ولما كان العلماء جميعا متفقين على أن الجملة الإنشائية لا يجوز أن تقع نعتا للنكرة فإنهم اتفقوا جميعًا على أن هذا الظاهر في هذا البيت ونحوه غير مراد، ومن أجل ذلك اتفقوا على أن جملة الاستفهام معمولة لعامل مقدر هو الذي يقع نعتًا لهذه النكرة، وأصل الكلام: جاءوا بضيح مقول عند رؤيته هل رأيت الذئب قط. [67] أنشد ابن منظور هذين البيتين "ق ع س - م ر س" ولم يعزهما إلى معين والمقام: اسم مكان الإقامة، و "أمرس" فعل أمر أصله المرس، والمرس: مصدر "مرس الحبل يمرس مرسًا" وهو أن يقع الحبل في أحد جانبي البكرة بين الخطاف والبكرة، وتقول "أمرس الحبل يمرسه، مثل أكرمه يكرمه" إذا أعاده إلى موضعه وتأمر من ذلك فتقول "أمرس حبلك على مثال أكرم ضيفك" أي أعده إلى مجراه، والقعو -بفتح القاف وسكون العين =

أراد بئس مقام الشيخ مقولا فيه أمرس أمرس، ذمَّ مقامًا يقال له ذلك فيه، و "أمرس" أعِدِ الحبل إلى موضعه من البكرة. وإنما جاءت هذه الأشياء في غير أماكنها لسَعَة اللغة؛ وحَسَّنَ ذلك ما ذكرناه من إضمار القول؛ فدلّ على أن ما تمسّكوا به من دخول حرف الجر عليهما ليس بحجة يُسْتَنَدُ إليها، ولا يعتمد عليها. وأما قولهم "إن العرب تقول: يا نعم المولى ويا نعم النصير" فنقول: المقصود بالنداء محذوف للعلم به، والتقدير فيه: يا الله نعم المولي ونعم النصير أنت. وأما قولهم: "إن المنادى إنما يقدر محذوفًا إذا ولي حرف النداء فعل أمر" فليس بصحيح؛ لأنه لا فرق بين الفعل الأمريّ والخبريّ في امتناع مجيء كل واحد منهما بعد حرف النداء، إلا أن يقدَّر بينهما اسم يتوجه النداء إليه، والذي يدلُّّّ على أنه لا فرق بينهما مجيء الجملة الخبرية بعد حرف النداء بتقدير حذف المنادى كما

_ = المهملة- هو أحد خشبتين يكتنفان البكرة وفيهما المحور، وهما قعوان، وقيل: القعوان الحديدتان اللتان تجري البكرة بينهما، وقال الأصمعي: إذا كان ما تجري البكرة وتدور فيه من حديد فهو خطاف، وإن كان من خشب فهو القعو، واقنسس: تأخر وارجع إلى خلف، ومعنى قوله "إما على قعو وإما اقعنسس" قال ابن منظور: إن استقى المستقي ببكرة فوقع حبلها في غير موضعه قيل له: أمرس، أي أعد حبلك إلى موضعه، وإن كان يستقي بغير البكرة ومتح حتى أوجعه ظهره فيقال له: اقعنسس واجذب الدلو، والاستشهاد بالبيت في قوله "بئس مقام الشيخ أمرس أمرس" فإن قوله "أمرس" جملة إنشائية لكونها مؤلفة من فعل أمر وفاعله وهو الضمير المستتر فيه وجوبًا، وقد وقعت هذه الجملة حالًا في ظاهر الأمر، ولما كان العلماء لا يجيزون مجيء الجملة الإنشائية حالا، إلا من لا يعتد بقوله، فقد جعلوا هذه الجملة معمولة لعامل محذوف هو الذي يقع حالا، وتقدير الكلام: بئس مقام الشيخ مقولا فيه: أمرس أمرس، وصاحب الحال هو قوله "الشيخ" المضاف إليه، وفي كلام ابن منظور ما يفيد أن هذه الجملة الإنشائية معمولة لعامل محذوف يقع نعتًا لمخصوص بالذم، وكأنه قال: بئس مقام الشيخ مقام مقول له فيه أمرس أمرس، وهو كلام مستقيم؛ فإن مجيء بئس وقائلها في أول الكلام يرشح لمجيء المخصوص بالذم؛ لأنه هو الذي جرت عادتهم في هذا الأسلوب أن يأتوا به، ولو قلت: إن هذه الجملة معمولة لقول محذوف يقع تمييزا، وإن التقدير: بئس مقام الشيخ مقاما مقولا فيه أمرس أمرس، لم تكن قد أبعدت، والاستشهاد على أية هذه الأحوال الثلاثة جارٍ مؤدٍ للغرض الذي يريده المؤلف، فإنه يقصد إلى أن يقول: إن من سنن العرب في كلامهم أن يحذفوا الكلمة من الكلام -وخاصة ما كان من مادة القول- وهم يريدونها، وإن ذلك واقع في أساليب كثيرة من أساليبهم.

تجيء الجملة الأمرية بعد حرف النداء بتقدير حذف المنادى، قال الشاعر: [68] يا لعَنْةَ ُالله والأقوام كلهمُ ... والصالحين على سِمْعَانَ من جَارِ أراد: يا هؤلاء لعنة الله على سمعان، وقال الآخر: [69] يا لعْنَةُ الله على أهل الرَّقَم ... أَهْلِ الحَمِير والوَقِيزِ والخُزُمْ وقال الآخر: [70] يا لعنَ الله بني السِّعْلَاتِ ... عمرو بن مَيْمُونٍ شِرَارِ النَّاتِ

_ [68] هذا البيت من شواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 620" وهو من شواهد سيبويه "1/ 320" وابن يعيش "ص1173". والاستشهاد به في قوله "يا لعنة الله" فقد وقع بعد حرف النداء جملة مؤلفة من مبتدأ هو قوله "لعنة الله" وخبر وهو الجار والمجرور الذي هو قوله "على سمعان" وذلك مبني على أن الرواية برفع "لعنة الله" فلو رويته بنصب اللعنة كان الكلام على تقدير عامل يعمل النصب وعلى تقدير المنادى بيا أيضًا، وتقدير الكلام على هذا: يا هؤلاء أستدعي لعنة الله، ويكون الجار والمجرور متعلقًا باللعنة، وهذا أحد تخريجات ثلاثة في البيت، والتخريج الثاني: أن تعتبر "يا" لمجرد التنبيه، والثالث: ولا يتم إلا على رواية النصب أن تكون اللعنة نفسها هي المنادى، وكأنه قال: يا لعنة الله انصبي على سمعان، كما نودي الأسف في قوله تعالى: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} وكما نوديت الحسرة في قوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} وفي قوله سبحانه {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} . [69] هذا البيت لابن دارة، واسمه سالم بن مسافع، ودارة أمه، وقد أنشده ابن منظور "خ زم" ونسبه إليه. والرقم -بفتح الراء والقاف جميعا- جمع رقمة، والرقمة: نبات يقال إنه الخبازى، وقيل: الرقمة من العشب العظام تنبت متسطحة وهي من أول العشب خروجًا، تنبت في السهل، ولا يكاد المرء يأكلها إلا من حاجة، والحمير: جمع حمار، وهو معروف، والوقير: صغار الشاء، وقال أبو النجم: نبح كلاب الشاء عن وقيرها والخزم -بضم الخاء والزاي جميعًا- جمع خزومة، وهي البقرة، والاستشهاد به في قوله "يا لعنة الله" وهي نظير ما ذكرناه في شرح الشاهد السابق. [70] هذان بيتان من الجرز المشطور، وهما لعلباء بن أرقم اليشكري أحد شعراء الجاهلية، وهما من شواهد شرح الرضي على شافية ابن الحاجب "رقم 223" وشرح المفصل لموفق الدين ابن يعيش "ص1380 أوروبة" وقد أنشدهما مع ثالث ابن منظور تبعا للجوهري "ن وت - س ي ن" ونسبهما في المرتين لعلباء بن أرقم، والرواية عنده -وهي المشهورة في كتب الصرف- هكذا: يا قبح الله بني السعلات ... عمرو بن يربوع شرار النات غير أعفاء ولا أكيات =

أراد بالنات الناس فحول السين تاء، وقال الآخر: [71] يا قَاتَلَ الله صِبْيَانًا تجيء بهم ... أم الهُنَيْبِر من زَنْدٍ لها وَارِي وهي جملة خبرية، فدل على أنه لا فرق في ذلك بين الجملة الأمرية والخبرية، فوجب أن يكون المنادى محذوفًا في قولهم "يا نعم المولى ويا نعم النصير". والذي يدل على فساد ما ذهبوا إليه أنا أجمعنا على أن الجمل لا تُنَادى؛ وأجمعنا على أن "نعم الرَّجُلُ" جملة، وإن وقع الخلاف في نعم هل هي اسم وفعل، وإذا امتنع للإجماع قولنا "يا زيد منطلق" فكذلك يجب أن يمتنع "يا نعم الرجل" إلا على تقدير حذف المنادى على ما بينَّا. وأما قولهم "إن النداء لا يكاد ينفك عن الأمر أو ما جرى مجراه، ولذلك لا

_ = و "قبح الله فلانا" أي نحاه وأبعده عن الخير، ويروى "يا قاتل الله" وهو دعاء بالهلكة، و "السعلاة" -بكسر السين وسكون العين المهملة- أنثى الغول، ويقال: هي ساحرة الجن، وقد زعموا أن عمر بن يربوع تزوج سعلاة فأقامت دهرًا في بني تميم وأولدها عمرو أولادًا، و "عمرو بن يربوع" قالوا: هو بدل من السعلاة، ولو جعلته معطوفًا عليه بعاطف محذوف لم تكن قد أبعدت، و"النات" أرادبه الناس، و "أكيات" أراد به الأكياس: جمع كيس، وهو الحاذق الفطن. ومحل الاستشهاد به ههنا قوله "يا قبح الله" حيث اقترن حرف النداء بجملة فعلية دعائية، وقد اتفق الفريقان على أن المنادى لا يكون جملة؛ فلزمهما جميعا أن يقدرا اسمًا مفردًا ليكون هو المنادى بهذا الحرف، وأصل الكلام عندهم: يا قوم قبح الله، أو يا هؤلاء قبح الله، وما أشبه ذلك. وهذا أحد توجيهين في هذا البيت ونحوه، والثاني: أن "يا" ههنا حرف تنبيه، لا حرف نداء، وحرف التنبيه يدخل على الجمل الفعلية والاسمية، ونظير هذا البيت قول جرير: يا حبذا جبل الريان من بلد ... وحبذا ساكن الريان من كانا وقول الفرزدق: يا أرغم الله أنفًا أنت حامله ... يا ذا الخنى ومقال الزور والخطل [71] هذا البيت للقتال الكلابي، واسمه عبيد بن المضرجي، وقد أنشده ابن منظور "هـ ن ب ر" ونسبه إليه، وأنشد بعده: من كل أعلم مشقوق وتيرته ... لم يوف خمسة أشبار بشبار وقال بعد إنشاد البيتين "ويروى يا قبح الله ضبعانًا، وفي شعره: من زند لها حاري، والحاري: الناقص، والواري: السمين، والأعلم: المشقوق الشفة العليا، والوتيرة: إطار الشفة، وأبو الهنبر: الضبعان، ثم قال: وأم الهنبر: الضبع، وقيل: هي الحمارة الأهلية، والهنبر -بوزن الخنصر، بكسر أوله وثالثة- ولد الضبع، ويقال الهنبر الجحش" ا. هـ. ومحل الاستشهاد قوله "يا قاتل الله ... إلخ" والقول فيه كالقول في الشاهد السابق.

يكاد يوجد في كتاب الله تعالى نداء ينفك عن أمر أو نهي" قلنا: لا نسلم، بل يكثر مجيء الخبر والاستفهام مع النداء كثرة الأمر والنهي، أما الخبر فقد قال الله تعالى: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف: 68] ، وقال تعالى في موضع آخر: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45] ، وقال تعالى في موضع آخر: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} [يوسف: 4] وقال تعالى في موضع آخر: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100] ، وقال تعالى في موضع آخر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23] وقال تعالى في موضع آخر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15] إلى غير ذلك من المواضع، وأما الاستفهام فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] ، وقال تعالى في موضع آخر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] ، وقال تعالى في موضع آخر {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم: 42] ، وقال تعالى في موضع آخر: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر: 41] إلى غير ذلك من المواضع؛ فإذا كثر مجيء الخبر والاستفهام كثرة الأمر والنهي فقد تكافآ في الكثرة؛ فلا مزية لأحدهما عن الآخر. وأما قولهم "إنه لا يحسن اقتران الزمان بهما؛ فلا يقال: نعم الرجل أمس، ولا بئس الغلام غدًا، ولا يجوز تصرفهما" فنقول: إنما امتنعا من اقترانهما بالزمان الماضي، وما جاء التصرف لأن "نعم" موضوع لغاية المدح و "بئس" موضوع لغاية الذم؛ فجعل دلالتهما مقصورة على الآن؛ لأنك إنما تمدح وتذم بما هو موجود في الممدوح أو المذموم، لا بما كان فزال، ولا بما سيكون ولم يقع. وأما قولهم "إنه قد جاء عن العرب نَعِيْمَ الرَّجُلُ" فهذا مما ينفرد بروايته أبو علي قُطْرُب، وهي رواية شاذة، ولئن صحت فليس فيها حجة؛ لأن نِعْمَ أصله نَعِمَ على وزن فعل -بكسر العين- فأشبع الكسرة فنشأت الياء كما قال الشاعر: [13] تَنْفِي يَدَاهَا الحَصَى في كل هَاجِرَةٍ ... نَفْيَ الدَّرَاهِيم تَنْقَادُ الصَّيَارِيفِ أراد الدرهم والصيارفَ، والذي يدلّ على أن أصل نِعْمَ نَعِمَ أنه يجوز فيها أربع لغات: نعم -بفتح النون وكسر العين- على الأصل، ونعم -بفتح النون وسكون العين- ونعم -بكسر النون والعين- ونعم -بكسر النون وسكون العين. فمن قال نعم -بفتح النون وكسر العين- أتى بها على الأصل كقراءة ابن

عامر وحمزة والكسائي والأعمش وخلفٍ "فَنَعِمَّا" -بفتح النون وكسر العين- وكما قال طرفة: [72] ما أَقَلَّت قَدَم نَاعِلَهَا ... نَعِمَ السَّاعُونَ في الأمر المُبِرّ

_ [72] هذا البيت من كلام طرفة بن العبد البكري "د 73" وقد أنشده الرضي في شرح الكافية "2/ 290" وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 101" وابن منظور في اللسان "ن ع م" وقد اختلفت الرواية في صدر هذا البيت اختلافًا كثيرًا؛ فيروى: ما أقلت قدم ناعلها وهي رواية المؤلف هنا، ويروى: ما أقلت قدماي إنهم وهي رواية ابن منظور، ويروى: ما أقلت قدمي إنهم وعلى الروايتين الأخيرتين يكون مفعول أقلت محذوفًا، والتقدير، ما أقلتني قدماي، أو ما أقلتني قدمي، و "ما" مصدرية ظرفية، وأقلت: معناه حملت أو رفعت، والقدم -بالتحريك- الرجل، والناعل: لابس النعل، وجملة "إنهم نعم الساعون ... إلخ" للتعليل، والساعون: جمع ساع، والأمر المبر: الذي يعجز الناس عن دفعه؛ لأنه يفوق طاقتهم ويزيد على قدر ما يحتملونه، ويروى: نعم الساعون في القوم الشطر والشطر -بضم الشين والطاء جميعًا- جمع شطير، ويراد به هنا الغرباء، وأصل الشطير الناحية، وسُمِّي الغريب به لأن كل من بعد عن أهله يأخذ في ناحية من نواحي الأرض والاستشهاد به في قوله "نعم الساعون" حيث استعمل هذا الفعل على ما هو الأصل فيه بفتح النون وكسر العين، على مثال علم وفهم وضحك، وإنما قالوا فيه "نعم" بسكر النون وسكون العين للتخفيف، وذلك أن حرف الحلق في ذاته ثقيل، والكسرة ثقيل أيضًا، ولهذا يفر العرب في كل كلمة ثلاثية مفتوحة الأول مكسورة الثاني إذا كان الحرف الثاني من حروف الحلق -وهي الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء- إلى تغيير هذه الزنة إلى واحد من ثلاثة أوزان: الأول: أن يسكنوا الحرف المكسور ويبقوا ما عداه على حاله، فيقولون: نعم، وضحك، وفهم، وبأس بفتح أوائل هذه الأفعال وسكون ثانيها، والثاني: أن يسكنوا الحرف المكسور بعد أن ينقلوا كسرته إلى الحرف الأول، فيقولون: نعم، وضحك، وفهم، وبئس -بكسر أوائل هذه الكلمات وسكون ثانيها- والثالث: أن يبقوا الثاني مكسورًا على حاله، ويكسروا الأول اتباعًا لثانيه، فيقولون: نعم، وضحك، وفهم، وبئس بكسر أوائل هذه الكلمات وكسر ثانيها أيضًا، فإن قلت: فقد ذكرت أن الكسرة ثقيلة، وهم إنما خرجوا بهذا النوع من الكلمات عن أوزانها الأصلية إلى أوزان أخرى غير أصلية قصدًا إلى التخفيف، وفرارًا من الثقل الذي جلبه أمران: كون ثاني الكلمة من حروف الحلق المستفلة التي يشبه النطق بها التهوع، وكون هذا الحرف مكسورًا، فكيف يجيئون بكسرة أخرى وهي ثقيلة فيزيدوا الكلمة ثقلًا؟ فالجواب عن هذا أن من أسباب =

ومَنْ قال نعم -بفتح النون وسكون العين- حذف كسرة العين، كقراءة يحيى بن وَثَّاب "فَنَعْمَ عُقْبَى الدَّار" بفتح النون وسكون العين، وكما قال الشاعر: [73] فَإِنْ أَهْجُهُ يضْجَرْ كما ضَجْرَ بَازِلٌ ... من الأُدْمِ دَبْرَتَ صَفْحَتَاه وَغَارِبُهْ أراد "ضجر، ودَبِرَت" فحذف، وقال الآخر: [74] إذا هَدَرَتْ شَقَاشِقُهُ ونَشَبَتْ ... له الأَظْفَارُ تُرْكَ له المَدَار ُ

_ = الثقل الخروج من الشيء إلى ما يخالفه؛ ففي "نعم" بكسر النون والعين جميعًا نوع من الثقل ونوع من التخفيف، أما الثقل فناجم عن الكسر، وأما التخفيف فمنشؤه أن اللسان حين ينطق بالنون مكسورة ثم يأتي بالعين مكسورة أيضًا قد خرج من شيء إلى ما يشبهه ويوائمه فليس بحاجة إلى تغيير ضغطه وحركته، أما حين ينتقل من النون المفتوحة إلى العين المكسورة فإنه ينتقل من الشيء إلى ما يغايره ويخالفه فهو مضطر إلى أن يغير ضغطه وحركته؛ فلهذا كان نعم بكسر أوله وثانيه أخف من نعم بفتح أوله وكسر ثانيه، فاعرف ذلك وتنبّه له والله يرشدك. [73] هذا البيت للأخطل التغلبي، من قصيدة يهجو فيها كعب بن جعيل، وقد أنشده صاحب اللسان "ض ج ر" وصاحب الكشاف في تفسير سورة النساء "1/ 183 بولاق" وضجر -بوزن علم في الأصل، وخفف هنا بإسكان ثانيه- أي قلق وتبرم وضاقت نفسه، والبازل: من الجمال الذي انشقت نابه وذلك إذا بلغ سنه التاسعة، والأدم: جمع آدم أو أدماء، والآدم: الأسمر اللون، ودبرت: أصله بوزن فرح، وخفف هنا بإسكان ثانيه، ومعناه جربت، والدبر والجرب واحد في الوزن وفي المعنى، وصفحتاه: جانباه، وغاربه: أعلاه، والاستشهاد به في قوله "ضجر" وقوله "دبرت" فإن أصل كل واحد من هذين الفعلين مفتوح الأول مكسور الثاني، وقد خففه الشاعر بإسكان ثانيه؛ لأن الكسرة كما قلنا ثقيلة وهم يطلبون التخفيف ما أمكن، ولهذا لو كان ثاني الكلمة الثلاثية مفتوحًا مثل كتب وضرب ونصر لم يلجأوا إلى تخفيفها بإسكان ثانيها؛ لأن الفتحة في نفسها خفيفة وأول الفعل مفتوح فالخفة حاصلة، فلا يرون أن بهم حاجة إلى تغير زنة الكلمة. [74] لم أقف لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين، وهدرت: أصله قولهم "هدر البعير" إذا ردد صوته في حنجرته، والشقاشق: جمع شقشقة -بكسر الشينين جميعًا- وأصله شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج، ويقولون للفصيح البليغ الذي يخطب فيجيد: هدرت شقشقته، هدرت شقاشقه، وخطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خطبة مشتملة على كثير من الحكم، فقال له ابن عباس: لو اضطردت خطبتك من حيث أفضيت، فقال له: هيهات: تلك شقشقة هدرت ثم قرت، وسموا هذه الخطبة "الشقشقية" بسبب هذه العبارة، وقالوا "فلان شقشقة قومه" يريدون أنه شريفهم وفصيحهم، ونشبت: أصله بفتح النون وكسر الشين ومعناه علقت، وقد خففه هنا بإسكان شينه، والمدار: أراد مدار الأمر، وهو ما يجري عليه غالبًا. والاستشهاد بالبيت في قوله "ونشبت" وقوله "ترك" فإن أصل الفعل الأول مكسور الشين مبنيًّا للمعلوم فسكن الشاعر شينه قصدًا إلى التخفيف، وأصل الفعل الثاني "ترك" بضم أوله وكسر ثانيه مبنيا للمجهول، فسكن الراء للتخفيف أيضًا.

أراد "نَشِبَتْ، وتُرِكَ" وقال الآخر وهو أبو النجم: [75] هَيَّجَهَا نَضْحٌ من الطّلِّ سَحَرْ وهَزَّتِ الرِّيحُ النَّدَى حين قَطَرْ ... لو عُصْرَ منها البَان والمسكُ انْعَصَرْ أراد "عُصِرَ" وقال الآخر: [76] رُجِمَ به الشيطان من هَوَائِه أراد "رجم" وقال الآخر: [77] ونُفْخُوا في مَدَائِنِهم فَطَارُوا أراد "ونُفِخُوا". ومن قال نعم -بكسر النون والعين- كسر النون إتباعًا لكسرة العين، كقراءة زيد بن علي والحسن البصري ورؤبة "الْحَمْدِ لِلَّهِ" بكسر الدال إتباعًا لكسرة اللام، وكقراءة إبراهيم بن أبي عبلة "الْحَمْدُ لُلَّهِ" بضم اللام إتباعًا لضمة الدال، وكقولهم "مِنْتِن" بكسر الميم إتباعًا لكسرة التاء، وكقولهم أيضًا "مُنْتُن" بضم التاء إتباعا لضمة الميم.

_ [75] هذه ثلاثة أبيات من الرجز المشطور قائلها أبو النجم العجلي كما قال المؤلف وقد أنشد ثالثها -وفيه محلّ الاستشهاد- ابن منظور "ع ص ر" ونسبه إلى أبي النجم، والنضح -بالفتح- أصله رشاش الماء، والطل: المطر الضعيف، والندى -بفتح النون مقصورًا- المطر، والبان: شجر سبط القوام لين الورق يشبه به قدود الحسان، له زهرة طيبة الريح، والمسك معروف، والاستشهاد بالبيت في قوله "عصر" فإن أصله بضم العين وكسر الصاد، ولكن الشاعر خففه بإسكان الصاد. [76] لم أقف لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين، ورجم: فعل ماضٍ مبني للمجهول، وأصله بضم الراء وكسر الجيم، ولكن الشاعر خففه بتسكين الجيم، على نحو ما ذكرنا في شرح الشواهد السابقة، ومعنى الرجم الرمي بالحجارة، وكانوا في جاهليتهم إذا أرادوا أن يقتلوا رجلا رموه بالحجارة حتى يقتلوه، ثم قيل لكل قتل رجم، وقد ورد في القرآن الكريم الرجم بمعنى القتل في مواضع كثيرة، ومحلّ الاستشهاد بهذا البيت قوله "رجم" وقد بيَّنَّا وجهه. [77] هذا عجز بيت من كلام القطامي، وصدره قوله: ألم يخز التفرق جند كسرى وقد أنشده ابن منظور "ن ف خ" ونسبه للقطامي، والمدائن: جمع مدينة، ومحلّ الاستشهاد في هذا البيت قوله "ونفخوا" فإن أصله فعل ماضٍ مبني للمجهول بضم النون وكسر الفاء، ولكن الشاعر خففه بإسكان الفاء.

ومن قال نِعْمَ -بكسر النون وسكون العين- نقل كسرة العين من نَعِمَ -بفتح النون وكسر العين- إلى النون، وعليها أكثر القراء؛ فلما جاز فيها هذه الأربع اللغات دلّ على أن أصلها نَعِمَ على وزن فَعِلَ؛ لأن كل ما كان على وزن فَعِلَ من الاسم والفعل وعينهُ حرف من حروف الحلق فإنه يجوز فيه أربع لغات، فالاسم نحو: فَخِذ وفِخِذ وفَخْذ وفِخْذ، والفعل نحو: قد شَهِدَ وشِهِدَ وشَهْدَ وشِهْدَ، على ما بيَّنَّا في نعم، وإذا ثبت أن الأصل في نِعْمَ نَعِمَ كانت الياء في "نَعِيم الرجل" إشباعًا؛ فلا يكون فيه دليل على الاسمية؛ فدلّ على أنهما فعلان لا اسمان، والله أعلم.

مسألة القول في أفعل في التعحبب، اسم هو أو فعل

مسألة القول في أفعل في التعحبب، اسم هو أو فعل ... 15- مسألة: [القول في "أفعل" في التعجب، اسم هو أو فعل] 1 ذهب الكوفيون إلى أن أفعل في التعجب نحو "ما أَحْسَنَ زيدًا" اسمٌ. وذهب البصريون إلى أنه فعل ماضٍ، وإليه ذهب أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي من الكوفيين. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه اسم أنه جامد لا يتصرّف، ولو كان فعلًا لوجب أن يتصرّف؛ لأن التصرّف من خصائص الأفعال، فلما لم يتصرّف وكان جامدًا وجب أن يلحق بالأسماء. ومنهم من تمسّك بأن قال: الدليل على أنه اسم أنه يدخله التصغير، والتصغير من خصائص الأسماء، قال الشاعر: [78] يَامَا أُمَيْلِحَ غِزْلَانًا شَدَنَّ لنَا ... مِنْ هَاؤُليَّائكُنَّ الضَّالِ والسَّمُر

_ [78] استشهد بهذا البيت كثير من النحاة وأهل اللغة منهم ابن منظور "م ل ح" وابن يعيش "ص1042" والأشموني "رقم 735" وابن هشام في المغني "رقم 937" والرضي، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 45 و 4/ 95"، وقد عثرت به ثاني ثلاثة أبيات في دمية القصر للباخرزي "ص29 ط حلب" وقد نسبها إلى بدوي اسمه كاهل الثقفي. والغزلان: جمع غزال، وأصله ولد الظبية، ويشبه العرب به حسان النساء، وشدن: أصله قولهم "شدن الظبي يشدن شدونا من باب قعد" إذا قوي وترعرع واستغنى عن أمه، وهؤلياء: تصغير هؤلاء على غير قياس، والضال: السدر البري: واحدته ضالة، والسمر -بفتح السين وضم الميم- شجر الطلح، واحدته سمرة، والاستشهاد بالبيت ههنا في قوله "أميلح" فإنه تصغير أملح، وأصل التصغير من خصائص الأسماء، ولهذا قال الكوفيون إن صيغة أفعل في التعجب اسم بدليل =

فأميلح: تصغير أملح، وقد جاء ذلك كثيرًا في الشعر وسَعَةِ الكلام. قالوا: ولا يجوز أن يقال: "إن فعل التعجب لزم طريقة واحدة، وضارع الاسم، فلحقه التصغير "لأنا نقول: هذا ينتقض بليس وعسى فإنهما لزما طريقة واحدة، ومع هذا لا يجوز تصغيرهما، وأبلغ من هذا النقض وأَوْكَد مثال "أَفْعِل به" في التعجب فإنه فعل لزم طريقة واحدة، ومع هذا فإنه لا يجوز تصغيره. ومنهم من تمسّك بأن قال: الدليل على أنه اسم أنه تَصِحّ عينه نحو "ما أَقْوَمَهُ، ولا أَبْيَعَهُ" كما تصح العين في الاسم في نحو "هذا أقوم منك، وأبيع منك" ولو أنه فعل كما زعمتم لوجب أن تُعَلّ عينه بقلبها ألفًا، كما قلبت من الفعل في نحو: قام وباع وأقام وأباع في قولهم "أَبَعْتُ الشيء" إذا عرّضته للبيع، وإذا كان قد أُجْرِي مجرى الأسماء في التصحيح مع ما دخله من الجمود والتصغير وجب أن يكون اسمًا. والذي يدل على أنه ليس بفعل وأنه ليس التقدير فيه: شيء أَحْسَنَ زيدًا قولهم "ما أَعْظَمَ الله" ولو كان التقدير فيه ما زعمتم لوجب أن يكون التقدير: شيء أعظم الله، والله تعالى عظيم لا بِجَعْلِ جاعل، وقال الشاعر: [79] ما أَقْدَرَ اللهَ أنْ يُدْنِي على شَحَطٍ ... مَنْ دَارُهُ الحَزْنُ مِمَّن دَارُهُ صُولُ

_ = مجيئها مصغرة في هذا البيت، والبصريون لا يرتضون ذلك، ويقولون إن تصغير "أملح" في هذا البيت شاذ، ألا ترى هذا الشاعر قد صغر هؤلاء في نفس البيت مع أننا متفقون على أن التصغير من خصائص الأسماء المعربة؛ فهذا وجه، ومنهم من يسلك في الرد مسلكًا آخر، فيقول: إن صيغة التعجب لما أشبهت صيغة التفضيل في الوزن وكان فعل التعجب -مع ذلك- جامدًا أعطوا فعل التعجب حكم اسم التفضيل؛ فأجازوا تصغيره، وقد ذكر ذلك ابن منظور في اللسان وابن هشام في المغني قال ابن هشام في المغني، "الثالث -مما أعطي حكم الشيء لمشابهته له لفظًا ومعنًى- نحو اسم التفضيل وأفعل في التعجب؛ فإنهم منعوا التفضيل أن يرفع الظاهر لشبهه بأفعل في التعجب وزنًا وأصلًا وإفادة للمبالغة، وأجازوا تصغير أفعل في التعجب لشبهه بأفعل التفضيل فيما ذكرنا، وقال: يا ما أميلح غزلانا.. ولم يسمع ذلك إلا في أحسن وأملح، ذكره الجوهري، ولكن النحويين مع هذا قاسوه" ا. هـ. [79] هذا البيت من كلمة لحندج بن حندج المري يصف فيها طول ليله وما يقاسيه من فرقة أحبابه، وهي من شعر الحماسة أبي تمام" انظر شرح المرزوقي ص1828"، والبيت من شواهد الأشموني "رقم 41" والشحط -بفتح الشين والحاء جميعًا- هو البعد، و "الحزن" بفتح الحاء وسكون الزاي موضع بعينه، وفي بلاد العرب موضعان بهذا الاسم: أحدهما: حزن بني يربوع، والثاني: ما بين زبالة فما فوق ذلك مصعدًا في بلاد نجد، وصول: =

ولو كان الأمر كما زعمتم لوجب أن يكون التقدير فيه: شيءٌ أَقْدَرَ اللهَ، والله تعالى قادر لا بِجَعْلِ جاعل. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه فعل أنه إذا وُصِلَ بياء الضمير دخلت عليه نون الوقاية، نحو "ما أَحْسَنَنِي عندك، وما أظرفني في عينك، وما أعلمني في ظنك" ونون الوقاية إنما تدخل على الفعل لا على الاسم، ألا ترى أنك تقول في الفعل "أَرْشَدَنِي، وأسعدني، وأبعدني" ولا تقول في الاسم "مرشدني" ولا "مُسْعِدني" فأما قوله: [80] وَلَيْسَ حَامِلَني إلَّا ابن حَمَّالِ

_ = مدينة من بلاد الخزر في نواحي باب الأبواب، والاستشهاد به هنا في قوله "ما أقدر الله" فإن بعض الكوفيين زعم أن مثل هذه العبارة تدل على أن أفعل في التعجب ليس فعلًا؛ إذ لو كان فعلًا لكان فيه ضمير مستتر يكون هو فاعله، ويكون لفظ الجلالة منصوبًا بهذا الفعل، فيكون المعنى: شيء أقدر "هو، أي ذلك الشيء" الله تعالى، أي جعله قادرًا وقد قام الدليل العقلي والنقلي على أن الله تعالى قادر من غير جعل جاعل؛ فيكون هذا المعنى باطلا، وإنما أدّى إلى هذا المعنى الباطل ذهابكم إلى أن أفعل في باب التعجب فعل، فوجب ألا نصير إليه. [80] هذا عجز بيت من البسيط، وصدره قوله: ألا فتى من بني ذبيان يحملني وقد استشهد بهذا البيت رضي الدين في شرح الكافية في باب الإضافة، وفي باب المضمرات، وشرحه البغدادي في خزانة الأدب "2/ 185 بولاق" وأنشده أبو العباس الْمُبَرِّد في الكامل ثالث خمسة أبيات، وقال قبل إنشادها "أنشدنا أبو محلم السعدي". و "ألا" في أول البيت حرف دال على العرض، و "فتى" منصوب بفعل محذوف، والتقدير: ألا ترونني فتى، و "بني ذبيأن" أراد بني ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر، "يحملني" أراد يعطيني دابة تحملني إلى المكان الذي أقصده، و "حمال" صيغة مبالغة لحامل. ومحلّ الاستشهاد بهذا البيت قوله: "حاملني" حيث لحقت نون الوقاية الاسم عند إضافته إلى ياء المتكلم، وذلك شاذ، والقياس أن يقترن الاسم بياء المتكلم من غير توسط النون بينهما، سواء أكان هذا الاسم جامدًا نحو: غلامي وكتابي وداري، أم كان مشتقًّا نحو: حاملي وضاربي ومكتوبي ومضروبي وما أشبه ذلك؛ لأن النون إنما توسطت بين الفعل وياء المتكلم لأن ياء المتكلم تستوجب كسر ما قبلها، ولما كان الفعل لا يدخله الجر، وكان الكسر أخا الجر؛ تحاموا أن يقرنوا الفعل بياء المتكلم؛ لئلا ينكسر آخره فيدخلوا عليه ما ليس منه في شيء، لكن الجر يدخل على الأسماء بغير نكير، فلم يجدوا أنفسهم محتاجين إلى نون الوقاية معه حين يضيفونه إلى ياء المتكلم، هذا، والرواية عند أبي العباس الْمُبَرِّد "وليس يحملني ... " وعلى ذلك يكون البيت مستقيمًا لا شذوذ فيه؛ لأن نون الوقاية حينئذ متوسطة بين الفعل والياء كما هو الأصل.

فمن الشّاذ الذي لا يُلْتَفَتْ إليه ولا يُقَاسُ عليه، وإنما دخلت هذه النون على الفعل لتقي آخره من الكسر؛ لأن ياء المتكلم لا يكون ما قبلها إلا مكسورًا، وإذا كانوا قد منعوه من كسرة الإعراب لثقلها وهي غير لازمة فَلأَن يمنعوه من كسرة البناء وهي لازمة كان ذلك من طريق الأولى، فلما منعوه من الكسر أدخلوا هذه النون لتكون الكسرة عليها؛ فلو لم يكن أفعل في التعجب فعلًا وإلا لما دخلت عليه نون الوقاية كدخولها على سائر الأفعال. اعترضوا على هذا بأن قالوا: نون الوقاية قد دخلت على الاسم في نحو "قَدْنِي وقَطْنِي" أي حسبي، قال الشاعر: [81] امتَلَأَ الحوض وقال: قَطْنِي ... مهلًا، رُوَيْدًا، قد مَلَأْتَ بَطْنِي ولا يدل ذلك على الفعلية، فكذلك ههنا. وما اعترضوا فيه ليس بصحيح؛ لأن "قدني، وقطني" من الشاذ الذي لا يعرج عليه؛ فهو في الشذوذ بمنزلة مِنّي وعَنِّي، وإنما حَسُنَ دخول هذه النون على قد وقط لأنك تقول "قَدْكَ من كذا، وقَطْكَ من كذا" أي اكْتَفِ به، فتأمر بهما كما تأمر بالفعل؛ فلذلك حسن دخول هذه النون عليهما، على أنهم قالوا "قَطِي وقَدِي" من غير نون كما قالوا "قطني وقدني" بالنون، قال الشاعر: [82] قدني من نصر الخُبَيْبَيْنِ قَدِي ... ليس الإمام بالشَّحِيح المُلْحِدِ

_ [81] هذان بيتان من الرجز المشطور، ولم أجد أحدًا نسبهما إلى قائل معين، وقد استشهد به ابن منظور وشارح القاموس "ق ط ط"، ومن النحاة: الأشموني "رقم 63" وابن الناظم، وابن يعيش "ص318 و 443". وقوله "امتلأ الحوض وقال" أطلق القول ههنا على ما يشهد به الحال وتدل عليه الطبيعة، و "قطني" هو اسم بمعنى حسب، أو اسم فعل بمعنى يكفي، و "مهلًا" هو مصدر نائب عن الفعل، تقول: مهلًا يا رجل، ومهلًا يا رجلان، ومهلًا يا رجال، وتقول في التأنيث كذلك، بلفظ واحد، والمراد أمهل وتريث ولا تعجل و "رويدًا" يأتي على واحد من أربعة أوجه: الأول: أن يكون اسم فعل بمعنى أرود، أي أمهل، والثاني: أن يكون مصدرًا نائبًا عن فعله كالذي قلناه في مهلًا، والثالث: أن يقع صف كما تقول: ساروا سيرًا رويدًا، والرابع: أن يقع حالا كما تقول: ساروا رويدا بحذف المصدر الذي نصبته على المفعولية الطلقة في الاستعمال الثالث. ومحلّ الاستشهاد بالبيت ههنا قوله "قطني" حيث وصل نون الوقاية بقط عندما أراد أن يضيفه إلى ياء المتكلم وليس "قط" فعلًا؛ فيدل ذلك على أن نون الوقاية قد تلحق بعض الأسماء لغرض من الأغراض، والغرض ههنا المحافظة على سكون "قط" حتى لا يذهب ما بني عليه اللفظ وهو السكون، وإذا كان الأمر كذلك لم يكن لحاق نون الوقاية لكلمة من الكلمات دالًّا على أن هذه الكلمة فعل، وهذا ظاهر إن شاء الله. [82] هذان بيتان من الرجز المشطور، وقد رواهما الجوهري في الصحاح "ل ح د" ونسبهما =

ولا خلاف أنه لا يجوز أن يقال "ما أَكْرَمِي" بحذف النون كما يقال "ما أكرمني" كما يقال "قَدْنِي، وقَدِى" فلما لم يجز ذلك بَانَ الفرقُ بينهما. ومنهم من تمسّك بأن قال: الدليل على أن أفعل في التعجب فعلٌ أنه ينصب المعارف والنكرات، وأَفْعَلُ إذا كان اسمًا لا ينصب إلا النكرات خاصة على التمييز، نحو قولك "زيد أَكْبَرُ منك سنًّا، وأكثر منك علمًا" ولو قلت "زيد أكبر منك السنّ، أو أكثر منك العلم" لم يجز، ولما جاز أن يقال "ما أكبر السن له، وما أكثر العلم له" دلّ على أنه فعل. اعترضوا على هذا بأن قالوا: قد ادّعيتم أن أفعل إذا كان اسمًا لا ينصب إلا

_ = لحميد بن ثور الهلالي، وقال ابن منظور "ل ح د" بعد أن رواهما عن الجوهري: "قال ابن بري: البيت المذكور لحميد بن ثور هو لحميد الأرقط، ولس هو لحميد بن ثور كما زعم الجوهري" ا. هـ. ورواهما ابن منظور "خ ب ب - ق د د" منسوبين لحميد الأرقط، وأنشدهما ابن يعيش في شرح المفصل "ص442" ونسبهما لأبي بحدلة، وهما من شواهد سيبويه "1/ 387" وشواهد رضي الدين في شرح الكافية، والأشموني "رقم 62" وقد قال البغدادي في خزانة الأدب "2/ 453": "قال ابن المستوفي: ولم أرَ البيت الأول في ديوانه "يريد ديوان حميد الأرقط" وكذلك أورد الأبيات القالي في أماليه، ولم يورد بيت: قدني من نصر الخبيبين قدي ا. هـ. المقصود من كلام البغدادي، وقد: تأتي اسمًا بمعنى حسب، وتأتي اسم فعل بمعنى يكفي، مثل قط في الوجهين، و "الخبيبين" يروى بصورة المثنى وبصورة جمع المذكر السالم، فأما روايته بصورة المثنى فقيل: عنى عبد الله بن الزبير بن العوام الذي كان قد خرج على دولة مروان بن الحكم وتملك الحجازيين وابنه خبيب بن عبد الله بن الزبير، وقيل: عنى عبد الله وأخاه مصعب بن الزبير، وأما روايته بصورة جمع المذكر السالم فالمعنى به عبد الله وشيعته كلهم، وقوله: ليس الإمام بالشحيح الملحد يروى في مكانه: ليس أميري بالشحيح الملحد والشحيح: البخيل، وكان عبد الله بن الزبير متهمًا بالبخل، والملحد: مأخوذ من قولهم: "ألحد فلان في الحرم" إذا استحل حرمته وانتهكها. والاستشهاد بالبيت في قوله "قدني"، وقوله: "قدي" فقد وصل الشاعر "قد" بنون الوقاية في المرة الأولى عندما أضاف الكلمة إلى ياء المتكلم، ولم يأتِ بهذه النون في المرة الثانية، وهذا يدل على أن الوجهين جائزان في هذه الكلمة، أما اقترانها بالنون فلقصد المحافظة على ما بنيت عليه الكلمة وهو السكون، وأما حذف النون فلكون الكلمة اسمًا، وفي هذا الكلام مقال لنا ذكرناه في شرحنا المطول على شرح أبي الحسن الأشموني "1/ 112 وما بعدها" فأرجع إليه هناك.

النكرة، وقد وجدنا العرب قد أعملته في المعرفة، قال الحارث بن ظالم: [83] فما قومي بثعلبة بْنِ بَكْرٍ ... ولا بِفَزَارَةَ الشُّعْرِ الرِّقَابَا فنصب الرقاب بالشعر، وهو جمع أَشْعَر، ولا خلاف أن الجمع في باب العمل أضعف من واحدهِ؛ لأن الجمع يباعده عن مشابهة الفعل؛ لأن الفعل لا يجمع، وإذا بَعُد عن مشابهة الفعل بَعُد عن العمل، وإذا عمل جمع أَفْعَلَ مع بُعده عن العمل؛ فالواحد أَوْلى أن يعمل، وقال الآخر: [84] ونَأْخُذُ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عيشٍ ... أَجَبَّ الظّهْرَ ليس له سَنَامُ

_ [83] هذا البيت من قصيدة للحارث بن ظالم المري، وكان قد فتك بخالد بن جعفر بن كلاب وهو في جوار النعمان بن المنذر ثم هرب يستجير القبائل، والبيت من شواهد سيبويه "1/ 103" وابن يعيش "ص843" والأشموني "رقم 729" وقوله "بثعلبة بن بكر" المحفوظ "بثعلبة بن سعد" وكذلك هو في رواية سيبويه وابن يعيش، وكذلك هو في نسب ثعلبة؛ فإنه ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان، وفزارة هو فزارة بن ذبيان أخو سعد بن ذبيان أبي ثعلبة، والشاعر في هذا البيت ينتفي من بني سعد بن ذبيان، والشعر -بضم الشين وسكون العين- جمع أشعر، والأشعر: الكثير الشعر، والرقاب: جمع رقبة، والعرب ترى من علامات الغباء أن يكون الرجل كثير شعر القفا، ويسمون ذلك الغمم، وقال في ذلك شاعرهم: ولا تنكحي إن فرّق الدهر بيننا ... أغم القَفَا والوجه ليس بأنزعا ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "الشعر الرقابا" حيث نصب قوله "الرقابا" بقوله "الشعر" والشعر جمع أشعر وهو هنا صفة مشبهة، واتفق الفريقان الكوفيون والبصريون على أنه يجوز أن يكون انتصابه على التشبيه بالمفعول به، وزاد الكوفيون أنه يجوز أيضًا أن يكون انتصابه على التمييز، وذلك لأن الكوفيين يجوزون أن يجيء التمييز معرفة، فأما علماء البصر فلكونهم يوجبون كون التمييز نكرة لم يجيزوا انتصاب "الرقاب" في هذا البيت على التمييز، فاعرف هذا، ويروى في هذه العبارة "الشعرى رقابا" بتجريد المعمول من أل، والبصريون لا يرون بأسًا في نصبه حينئذ على التمييز، وقد روى سيبويه البيت بالروايتين جميعًا. [84] هذا البيت من كلام النابغة الذبياني، وهو من شواهد سيبويه "1/ 100" وابن يعيش "ص841" والأشموني "رقم 722" والرضي، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 95" وقبل بيت الشاهد قوله: فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والبلد الحرام وقوله: "ربيع الناس" شبه الملك النعمان بالربيع الذي تترادف فيه الخيرات لكثرة عطائه ووفرة بره، و "البلد الحرام" شبهه أيضًا بالبلد الحرام لأن رحابه موضع الأمن من كل مخافة وفي كنفه يلجأ اللاجئون فلا تجسر يد على أن تمتد إليهم بسوء، وقوله "بذناب =

فنصب الظَّهْرَ بأجبَّ، وقال الآخر: [85] ولقد أَغْتَدِي وما صَقَعَ ... الدِّيكُ على أدهم أجَشَّ الصَّهِيلَا فنصب الصَّهِيل بأجشَّ، فبطل ما ادّعيتموه. وما اعترضوا به ليس بصحيح: أما بيتُ الحارث بن ظالم: [83] ولا بفزارة الشُّعْرِ الرّقابا

_ = عيش" ذناب كل شيء -بكسر الذال المعجمة- عقبه وما يأتي في أواخره، و "أجب الظهر" مقطوع الظهر كأنه جمل قد قطع سنامه، ويقال: بعير أجب، وناقة جباء؛ إذا كان قد قطع سنامهما. والاستشهاد بالبيت في قوله "أجب الظهر" وهذه العبارة تروى على ثلاثة أوجه: برفع الظهر، وتخريج هذه الرواية أن تجعل الظهر فاعلًا لأجب، وبنصب الظهر، وتخريج هذه الرواية أن تجعل فاعل الصفة التي هي أجب ضميرًا مستترًا وتنصب الظهر على أنه مشبه بالمفعول به، وهذه الرواية هي محلّ الخلاف بين الكوفيين والبصريين، وبجر الظهر، وتخريج هذه الرواية أن يكون أجب مضافًا والظهر مضافًا إليه. والوجه الأول: قبيح، والثاني: ضعيف، والثالث: حسن. [85] لم أعثر على نسبة هذا البيت إلى قائل معين، وقوله "أغتدي" معناه أخرج في وقت الغداة، والغداة -بفتح الغين- ما بين انبثاق الفجر وطلوع الشمس، ويقال "غديه" بوزن قضية، و "غدوة" بضم فسكون، وربما قيل "غديه" بضم الغين وفتح الدال، وهو تصغير الغدوة أو الغداة، ومراد الشاعر أنه يخرج من داره مبكرًا، وقوله "وما صقع الديك" معناه صاح، وهذا تأكيد لما استفيد منمعنًى "أغتدي" وقوله "على أدهم" أراد على فرس أدهم، وهو الذي لونه الدهمة، والدهمة -بضم الدال وسكون الهاء- لون قريب من الأسود، و "أجش" الغليظ الصوت من الإنسان والخيل، وقال النجاشي: ونجى ابن حرب سابح ذو علالة ... أجش هزيم، والرماح دواني ومحل الاستشهاد بالبيت قول "أجش الصهيلا" حيث نصب الصهيل بقوله أجش، وأجش هذا صفة مشبهة، ومعمولها مقترن بالألف واللام، وبه استدل الكوفيون على أنه يجوز أن ينتصب بعد "أفعل" كل من المعرفة والنكرة، وقد سوى المؤلف في التمثيل والاستشهاد بين أفعل الذي هو اسم تفضيل وأفعل الذي هو صفة مشبهة؛ فهو يمثل أولًا بقوله "زيد أكبر منك سنا، وأكثر منك علما" ثم يستشهد بأجب الظهر، والشعر الرقابا، وأجش الصهيلا، ثم يلزم الكوفيين الحجة بأن المنصوب في هذه الشواهد منصوب على التشبيه بالمفعول به، لا على التمييز، وكأنه ينكر أن يكون التمييز مقترنًا بأل، وقد ورد التمييز مقترنًا بأل من غير أن يكون العامل أفعل التفضيل ولا أفعل الصفة المشبهة، وذلك في قول الشاعر: رأيتك لما أن عرفت وجوهنا ... صددت وطبت النفس يا قيس عن عمرو ولكن البصريين لم يرقهم أن يجيء هذا البيت ونحوه على غير ما أصلوا من القواعد، فذهبوا إلى أن "ال" في "طب النفس" زائدة، وليست معرفة؛ فيكون على ما ذهبوا إ ليه مدخول أل نكرة كالمجرد منها، وهذا هو المسلك الذي سلكوه في هذه الشواهد.

فقد روي "الشُّعْرَى رِقَابًا": حكى ذلك سيبويه عن أبي الخطاب عن بعض العرب أنهم ينشدون البيت كذلك، على أنا وإن لم ننكر صحة ما رويتموه، فلا حجة لكم فيه؛ لأنه من باب "الحسن الوجه، والحسان الوُجُوه" وقد قالوا "الحسن الوجهَ" بنصب الوجه تشبيها بالضارب الرجل، كما قالوا "الضارب الرجلِ" بالجر تشبيها بـ "الحسن الوجه" وقد ذهب بعض البصريين إلى زيادة الألف واللام فيه، فلما كان في تقدير التنكير جاز نصبُه على التمييز، فبان أن ما عارضتم به ليس بشيء. وأما قول النابغة: [84] أَجَبَّ الظهر ليس له سَنَامُ بفتحهما قد روي "أجب الظهر" بجرهما، وروي "أجب الظهر" برفع الظهر لأنه فاعل والتقدير فيه عندنا: أجب الظهرُ منه، وعندكم الألف واللام قامتَا مَقَام الضمير العائد؛ فلا حجة لكم في هذا البيت، والجر فيهما هو القياس، وإن صحت رواية النصب؛ فيكون على التشبيه بالمفعول على ما بيَّنَّا في البيت الأول، لا على تقدير زيادة الألف واللام ونصبه على التمييز على ما ذهبتم إليه، ولئن سلمنا على قول بعض البصريين، وهو الجواب عن جميع ما احتججتم به؛ لأنكم إذا قدرتم أن الألف واللام فيه زائدة فهو عندكم نكرة، فإذن ما عمل في معرفة، وإنما عمل في نكره، والخلاف ما وقع في أنَّ "أفعل" تعمل في النكرة، وإنما وقع الخلاف في أنها تعمل في المعرفة. وأما قول الآخر: [85] عَلَى أَدْهَم أَجْشَّ الصَّهيلا فالوجه جر "الصهيلا" إلا أنه نَصَبَه على التشبيه بالمفعول، أو على زيادة الألف واللام على ما قَدَّمنا. ثم لو سلمنا لكم صحة ما ادّعيتموه في هذه الأبيات، وأجريناها في ذلك مُجْرَى "ما أحسن الرجلَ" فهل يمكنكم أن توجدونا أَفْعَلَ وصفًا نَصَبَ اسمًا مضمرًا وعلمًا أو اسمًا من أسماء الإشارة؟ وإذا لم يمكن ذلك ووجدنا أفعل في التعجب تعمل في جميع أنواع المعارف النصب دلّ على بطلان ما ذهبتم إليه من دعوى الاسمية. ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أنه فعل ماضٍ أنا وجدناه مفتوح الآخر، ولولا أنه فعل ماضٍ لم يكن لبنائه على الفتح وجه؛ لأنه لو كان اسمًا لارتفع لكونه خبرًا لـ "ما" على كلا المذهبين، فلما لزم الفتح آخرُهُ دلّ على أنه فعل ماضٍ.

اعترضوا على هذا من وجهين؛ أحدهما: أنهم قالوا: ما احتججتم به من فتح آخره ليس فيه حجة؛ لأن التعجب أصله الاستفهام، ففتحوا آخر أفعل في التعجب ونصبوا زيدًا فرقًا بين الاستفهام والتعجب. والثاني: أنهم قالوا: إنما فتح آخر أفعل في التعجب لأنه مبني لتضمنه معنى حرف التعجب؛ لأن التعجب كان يجب أن يكون له حرف كغيره من الاستفهام والشرط والنفي والنهي والتمني والترجي والتعريف والنداء والعطف والتشبيه والاستثناء، إلى غير ذلك؛ إلا أنهم لما لم ينطقوا بحرف التعجب وضمّنوا معناه هذا الكلام استحقَّ البناء، ونظير هذا أسماء الإشارة؛ فإنها بنيت لتضمنها معنى حرف الإشارة، وإن لم ينطق به فكذلك ههنا. وما اعترضوا به ليس بصحيح: أما قولهم "إن التعجب أصله الاستفهام ففتحوا آخر أفعل في التعجب للفرق بين الاستفهام والتعجب" فمجرد دعوى لا يقوم عليها دليل، إلا بوحي وتنزيل، وليس ذلك سبيل، مع أنه ظاهر الفساد والتعليل؛ لأن التفريق بين المعاني لا توجب إزالة الإعراب عن وجهه في موضع ما، فكذلك ههنا ولأن التعجب إخبار يحتمل الصدق والكذب، والاستفهام استخبار لا يحتمل الصدق والكذب؛ فلا يصح أن يكون أصلًا له. وأما قولهم "إنه بني لتضمنه معنى حرف التعجب وإن لم ينطق به"؛ فكذلك نقول: كان يجب أن يوضع له حرف كما وضع لغيره من المعاني، ولكن لما لم يفعلوا ذلك ضمّنوا "ما"معنًى حرفه فبنوها، كما ضمّنوا "ما" الاستفهاميةمعنًى الهمزة، وضمّنوا "ما" الشرطية معنى أن التي وضعت للشرط، وبنوهما وإن لم يكن للكلمة التي بعدهما تعلق بالبناء؛ فكذلك ما بعد "ما" التعجبية لا يكون له تعلق بالبناء، فبان بذلك فساد اعتراضهم، وأنه إنما فتح لأنه فعل ماضٍ على ما بيَّنَّا. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "الدليل على أنه اسم أنه لا يتصرف" قلنا: عدم تصرفه لا يدل على أنه اسم؛ فإنا أجمعنا على أن "ليس، وعسى" فعلان، ومع هذا فإنهما لا يتصرفان، وإنما لم يتصرف فعل التعجب لوجهين؛ أحدهما: أنهم لما لم يَضَعُوا للتعجب حرفًا يدل عليه جعلوا له صيغة لا تختلف؛ لتكون أمارة للمعنى الذي أرادوه، وأنه مُضَمن معنى ليس في أصله، والثاني -وهو الصحيح- إنما لم يتصرف لأن المضارع يحتمل زمانين الحال والاستقبال، والتعجب إنما يكون مما هو موجود مشاهد، وقد يتعجب من الماضي، ولا يكون التعجب مما لم يكن، فكرهوا أن يستعملوا لفظًا يحتمل الاستقبال؛ لئلا يصير اليقين شكًا، وأما قولهم "ما أملح ما يَخْرُجُ هذا الغلام، وما أطولَ ما يكون هذا" فلا يقال ذلك حتى يُرَى فيه مَخِيلَة ذلك، فدلّك ما رأيت في

وقتك على ما يكون بعد ذلك، فكأنك قد شاهدته موجودًا، ولما كرهوا استعمال المضارع كانوا لاستعمال اسم الفاعل أَكْرَه لأنه لا يختص زمانًا بعينه؛ فلهذا منعوه من التصرّف، وعدم التصرّف لا يدل على أنه اسم كما قلنا في "ليس، وعسى". وأما قولهم "إنه يصغر، والتصغير من خصائص الأسماء فنقول: الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه: أحدها: أن التصغير في هذا الفعل ليس على حد التصغير في الأسماء؛ فإن التصغير على اختلاف ضروبه: من التحقير كقولك رُجَيْل، والتقليل كقولك دُرَيْهِمَات، والتقريب كقولك قُبَيْل المغرب، والتعطف كقوله صلى الله عليه وسلم "أُصَيْحَابي أصيحابي" والتعظيم كقول الشاعر: [86] وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرُّ منها الأنامل يريد الموت، ولا داهية أعظم من الموت، والتمدّح كقول الحُبَاب بن المنذر يوم السَّقِيفَة: "أنا جُذَيْلُهَا المُحَكَّكُ، وعُذَيْقُهَا المُرَجَّبُ" فإنه يتناول الاسم لفظًا ومعنًى، والتصغير اللاحق فعل التعجب إنما يتناوله لفظًا لا معنًى، من حيث كان متوجِّهًا إلى المصدر، وإنما رَفَضُوا ذكر المصدر ههنا لأن الفعل إذا أزيل عن التصرف لا يؤكد بذكر المصدر؛ لأنه خرج عن مذهب الأفعال، فلما رفضوا المصدر وآثروا تصغيره صغّروا الفعل لفظًا، ووجهوا التصغير إلى المصدر، وجاز تصغير المصدر بتصغير فعله؛ لأن الفعل يقوم في الذكر مقام مصدره؛ لأنه يدل عليه بلفظه، ولهذا يعود الضمير إلى المصدر بذكر فعله، وإن لم يَجْرِ له ذكر، قال الله تعالى: {وَلا يحْسَبَنَّ الَّذِينَ يبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيرًا لَهُمْ} [آل عمران: 180]

_ [86] هذا البيت من كلام لبيد بن ربيعة العامري، وقد استشهد به ابن يعيش في شرح المفصل "ص709" والمحقق رضي الدين في شرح شافية ابن الحاجب "رقم 38". والأناس: هو أصل الناس، وحذفت الهمزة من الأناس للتخفيف، وهذا عند من يرى أن الناس مأخوذ من الأنس، ومن العلماء من يذهب إلى أن الناس مأخوذ من النوس ومعناه الحركة، ومنهم من يذهب إلى أن الناس مأخوذ من النسيان، و "سوف" في هذا الموضع للتحقيق والتأكيد، و "دويهية" تصغير داهية، وأصل الداهية المصيبة من مصائب الدهر، وأراد بها ههنا الموت، ويروى في مكانه "خويخية" وهو مصغر الخوخة -بفتح الخاءين وسكون الواو بينهما- والمراد بالمصغر الداهية أيضًا، وقوله "تصفر منها الأنامل" أراد بالأنامل ههنا الأظفار؛ لأنها هي التي تصفر بالموت، والاستشهاد بالبيت في قوله "دويهية" فإن تصغير هذه الكلمة عند علماء الكوفة للتعظيم، لا للتحقير، وقد حقق العلامة رضي الدين أن تصغير هذه الكلمة للتحقير، لا للتعظيم كما زعمه الكوفيون، وكذلك قال ابن يعيش وفسره بقوله "فالمراد أن أصغر الأشياء قد يفسد الأصول العظام" ا. هـ.

قوله "هو" ضمير للبخل وإن لم يكن مذكورًا؛ لدلالة "يبخلون" عليه، ومنه قولهم "من كذب كان شرًا له" أي كان الكذب شرًا له، ومنه قول الشاعر: [87] إذا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إليه ... وخَالَفَ، والسفيه إلى خِلَافِ يريد جَرَى إلى السفه، وهذا كثير في كلامهم؛ فكما أنه يجوز أن يعود الضمير إلى المصدر وإن لم يجرِ له ذكر استغناء بذكر فعله، فكذلك يجوز أن يتوجّه التصغير اللاحق لفظ الفعل إلى مصدره وإن لم يجرِ له ذكر، ونظير هذا إضافتهم أسماء الزمان إلى الفعل نحو قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يوْمُ ينْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119] وإن كانت الإضافة إلى الأفعال غير جائزة، وإنما جاز ذلك لأن المقصود بالإضافة إلى الفعل مصدره من حيث كان ذكر الفعل يقوم مقام ذكر مصدره؛ فالتقدير فيه: هذا يومُ نَفْعِ الصادقين صدقُهم، وإنما خصوا أسماء الزمان1 بهذه الإضافة لما بين

_ [87] هذا البيت من الشواهد التي لم أقف لها على نسبة إلى قائل معين، وقد أنشده رضي الدين في شرح الكافية "2/ 4" وذكر البغدادي في الخزانة "2/ 384" أن جماعة من النحاة أنشدوه منهم ابن جني في إعراب الحماسة والفراء في معاني القرآن وثعلب في أماليه، ولم يعزه واحد منهم، وزجر -بالبناء للمجهول- ويروى "إذا نهي السفيه" ومتعلق الزجر أو النهي عام، والتقدير: إذا زجر عن شيء ما، أو إذا نهي عن شيء ما، والسفيه: وصف من السفه، وهو الطيش والحمق ورقة العقل، وجرى: سارع، ومفعول "خالف" محذوف للعلم به، وتقدير الكلام: خالف زاجره أو خالف ناهيه، وجملة "والسفيه إلى خلاف" للتذييل، والمعنى: ومن شأن السفيه وديدنه وطبعه مخالفة ناصحه. والاستشهاد بالبيت في قوله "جرى إليه" فإن مرجع الضمير المجرور محلا بإلى لم يتقدم صريحًا في الكلام، ولكن تقدم الوصف الدال عليه وهو قوله "السفيه" فإن هذه الكلمة دالة على الذات والحدث الذي تتصف به وهو السفه، فاكتفى الشاعر بتقدم المرجع في ضمن الوصف، ونظيره قوله تعالى: {وَلا يحْسَبَنَّ الَّذِينَ يبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيرًا لَهُمْ} فإن "هو" في هذه الآية راجع إلى البخل المستفاد من "يبخلون" ولم يتقدم ذكر البخل صراحة، وقوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} فإن "هو" راجع إلى العدل، ولم يقدم ذكر العدل صراحة ولكنه تقدم في ضمن قوله "اعدلوا" لأن الفعل يدل على الحدث والزمان كما هو معلوم، ونظيرهما قوله جلت كلمته: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} فإن فاعل "زادهم" ضمير مستتر جوازًا تقديره هو يعود إلى قول الناس ولم يتقدم صراحة، وإنما تقدم في ضمن الفعل الذي هو قوله "قال لهم الناس" ونظير ذلك أيضًا قوله تباركت أسماؤه: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يرْضَهُ لَكُمْ} أي يرضى الشكر، ولم يتقدم ذكر الشكر صراحة، ولكنه تقدم في ضمن قوله سبحانه {وَإِنْ تَشْكُرُو ا} .

الزمان والفعل من المناسبة، من حيث اتفقا في كونهما عَرَضين، وأن الزمان حركات الفلك كما أن الفعل حركة الفاعل، وكما أن هذه الإضافة لفظية، فكذلك التصغير اللاحق فعل التعجب لفظيّ؛ وكما أن هذه الإضافة لا اعتداد بها، فكذلك هذا التصغير لا اعتداد به. والوجه الثاني: إنما دخله التصغير حملًا على باب أفعل الذي للمُفَاضَلَة؛ لاشتراك اللفظين في التفضيل والمبالغة، ألا ترى أنك تقول "ما أَحْسَنُ زيدًا" لمن بلغ الغاية في الحسن، كما تقول "زيد أحسنُ القوم" فتجمع بينه وبينهم في أصل الحسن وتفضّله عليهم؛ فلوجود هذه المشابهة بينهما جاز "ما أُحَيْسن زيدًا، وما أميلح غزلانًا" كما تقول: "غلمانك أحيسنُ الغلمان، وغزلانك أميلح الغزلأن" ولهذه المشابهة حملوا "أَفْعَلَ منك" و "هو أَفْعَلُ القوم" على قولهم "ما أَفْعَلَه" فجاز فيهما ما جاز فيه، وامتنع منهما ما امتنع منه، ألا ترى أنك لا تقول "هو أعرج منك" ولا "أعرج القوم" لأنك لا تقول "ما أعرجه" وتقول "هو أقبح عرجًا منك" و "هو أقبح القوم عرجًا" كما تقول "ما أقبح عَرَجَهُ" وكذلك لا تقول "هو أحسن منك حسنًا" فتؤكده بذكر المصدر؛ لأنك لا تقول "ما أحسن زيدًا حسنًا" فأما قولهم "ألجّ لَجَاجَةً من الخُنْفَسَاءِ" وما أشبهه فمنصوب على التمييز. والوجه الثالث: إنما دخله التصغير لأنه أُلْزِم طريقةً واحدة، فأشبه بذلك الأسماء، فدخله بعض أحكامها، وحَمْلُ الشيء على الشيء في بعض أحكامه لا يخرجه عن أصله، ألا ترى أن اسم الفاعل محمول على الفعل في العمل، ولم يخرج بذلك عن كونه اسمًا، وكذلك الفعل المضارع محمول على الاسم في الإعراب، ولم يخرج بذلك عن كونه فعلا؛ فكذلك تصغيرهم فعل التعجب تشبيهًا بالاسم لا يخرجه عن كونه فعلًا. وأما ما ذكروه من "ليس، وعسى" فالكلام عليه من أربعة أوجه: أحدها: أن "ليس، وعسى" وإن كانا قد أشبها فعل التعجب في سَلْبِ التصرّف فإنهما قد فارقاه من وجهين؛ أحدهما: أنهما يرفعان الظاهر والمضمر، كما ترفعهما الأفعال المتصرفة، فبَعُدَا عن شبه الاسم، وأفعل في التعجب إنما يرفع المضمر دون الظاهر، فقرب من الاسم الجامد؛ فلهذا دخله التصغير دونهما. والثاني: أن "ليس، وعسى" وُصِلَا بضمائر المتكلمين والمخاطبين والغائبين، نحو: لست ولستم وليسوا، وعسيت وعسيتهم وعَسَوا، كما تتصل بالأفعال المتصرفة، وأفعل في التعجب أُلْزِمَ ضمير الغيبة لا غير، فلما تصرف ليس وعسى.

في الاتصال بضمائر الأفعال الماضية هذا التصرف وألزم هذا الفعل في الإضمار وجهًا واحدًا جاز أن يدخله التصغير دونهما. والثالث: أن "ليس، وعسى" لا مصدر لهما من لفظهما، فتنزل اللفظ بهما منزلة اللفظ به، والتصغير ههنا في الحقيقة للمصدر، فإذا لم يكن لهما مصدر من لفظهما بطل تصغيرهما، بخلاف فعل التعجب؛ فإن له مصدرًا من لفظه نحو الحسن والملاحة وإن لم يكن جاريًا عليه على ما يقتضيه القياس، فقام تصغيرُهُ مقام تصغير مصدره، فبَان الفرق بينهما. والرابع: أن "ليس، وعسى" لا نظير لهما من الأسماء يحملان عليه كما حمل ما أَفْعَلَهُ على أَفْعَلَ الذي للمفاضلة، فيحمل "ما أحسنهم" على قولهم "هو أحسنهم" فبان الفرق بينهما. فإن قالوا: هذا يبطل بنعم وبئس؛ فإنهما للمبالغة في المدح والذم، كما أن التعجب موضوع للمبالغة، وإنهما لا يتصرّفان، ومع هذا فلا يجوز تصغيرهما. قلنا: هذا الإلزام على مذهبكم ألزم؛ لأنهما عندكم اسمان كأفعل في التعجب؛ فهلّا جاز فيهما التصغير كما جاز فيه؟ فإن قلتم "إن ذلك لم يسمع من العرب" قلنا: كما قلتم، ثم فرقنا بينهما، وذلك أنهما وإن كانا لا يتصرفان فهما أشبه منه بالأفعال المتصرفة، وذلك من ثلاثة أوجه؛ أحدها: اتصال الضمير بهما على حد اتصاله بالفعل المتصرف نحو قولهم "نعما رجلين، ونعموا رجالًا" والثاني: اتصال تاء التأنيث الساكنة بهما نحو "نعمت المرأة، وبئست الجارية" والثالث: أنهما يرفعان الظاهر والمضمر كالفعل المتصرف، فلما قربا من الفعل المتصرف هذا القرب بَعُدَا من الاسم؛ فلهذا لم يجز تصغيرهما، بخلاف فعل التعجب على ما بيَّنَّا، وأما مثال "أَفْعِل به" فإنما لم يجزْ تصغيره لأنه لا نظير له في الأسماء إلا أصْبِغ؛ وهي لغة رديئة في إصْبَع وفيها سبع لغات: فُصْحَاهنّ إصبع -بكسر الهمزة وفتح الباء- ثم أصبع -بضم الهمزة وفتح الباء- ثم أصبع -بفتح الهمزة والباء- ثم أصبع -بضم الهمزة والباء- ثم إصبع -بكسر الهمزة والباء- ثم أصبع -بفتح الهمزة وكسر الباء- ثم أصبوع وإذا لم يكن له في كلامهم نظير سوى هذا الحرف في لغة رديئة باعَدَه ذلك من الاسم، فلم يجز فيه التصغير. ألا ترى أن وزن الفعل الذي يغلب عليه أو يخُصُّه أحد الأسباب المانعة من الصرف، فإذا كان الاسم يقرب من الفعل لمجيئه على بعض أبنيته حتى يكون ذلك علة مانعة له من الصرف فكذلك الفعل يبعد من الاسم لمخالفته له في البناء، هذا مع أن لفظه لفظ الأمر، والأمر يختص به الفعل، فأما ما جاء من الأسماء مضمنًا معنى.

الأمر نحو "صَهْ، ومَهْ" وما أشبه ذلك فإنه أقيم مقام الأفعال وهي الأصل في الأمر، وإنما فعلوا ذلك توخِّيًا للاختصار لئلا يفتقر إلى إظهار ضمير التثنية والجمع والتأنيث الذي يظهر في الفعل نحو "اسْكُتَا، واسكُتُوا، واسكُتْنَ" وما أشبه ذلك. وأما قولهم "الدليل على أنه اسم تصحيح عينِهِ في "ما أقوَمَهُ، وما أَبْيَعَهُ" قلنا: التصحيح حصل له من حيث حصل له التصغير، وذلك بحمله على باب أفعل الذي للمفاضلة، فصحح كما صحح من حيث إنه غلب عليه شبَهُ الأسماء بأن ألزم طريقة واحدة، والشبه الغالب على الشيء لا يخرجه عن أصله، ألا ترى أن الأسماء التي لا تنصرف لما غلب عليها شبه الفعل منعت الجر والتنوين كما منعهما الفعل، ولم تخرج بشبهها للفعل عن أن تكون أسماء؛ فكذلك ههنا: تصحيح العين في نحو: "ما أَقْوَمَهُ، وما أبيعه" لا يخرجه عن أن يكون فعلا، على أن تصحيحه غير مستنكر في كلامهم؛ فإنه قد جاءت أفعال متصرفة مصححة في نحو قولهم: أَغْيَلَتِ المرأة، وأَغْيَمَتِ السماء، واسْتَنْوَقَ الجمل، واسْتَتْيَسَتِ الشاة، واسْتَحْوَذَ يستحوذ. قال الله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيهِمُ الشَّيطَانُ} [المجادلة: 19] وقال تعالى: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 141] وقد قرأ الحسن البصري: "حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَُهَا وَأََزْيَنَتْ" على وزن أَفْعَلَتْ، ونحو قولهم: اسْتَصْوَبْتُ، وأَجْوَدْتُ، وأطيبت، وأطولت، قال الشاعر: [88] صَدَدْتِ وأطولت الصُّدُودَ، وقَلَّمَا ... وِصَالٌ على طُول الصُّدُودِ يَدُومُ

_ [88] هذا البيت للمرار الفقعسي، وقد أنشده ابن منظور في اللسان "ط ول" ولم يعزه، وقد استشهد به سيبويه "1/ 12 و 459" وقد نسب في صدر الكتاب إلى عمر بن أبي ربيعة، ونسب في شواهد الأعلم إلى المرار الفقعسي كما ذكرنا، وممن استشهد به ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 514" ورضي الدين في شرح الكافية "2/ 320" وانظر خزانة البغدادي "4/ 287" وابن يعيش "ص1417" وقوله "صددت" معناه أعرضت، و "أطولت" كان قياسه أن يقول "أطلت" بحذف العين التي هي الواو؛ لأن هذه الواو تنقلب ألفًا في الفعل، تقول: أطال، وأقام، وأفاء، وأقاد، وأنال، وأمال، وما أشبه ذلك، فإذا وصلت تاء الضمير بالفعل حذفت هذه الألفات فقلت: أطلت، وأقمت، وأفأت، وأقدت، وأنلت، وأملت، وذلك لأن آخر الفعل يسكن عند اتصال الضمائر المتحركة به، فيلتقي ساكنان: الألف المنقلبة عن الواو أو الياء، وآخر الفعل، فتحذف الألف للتخلص من التقاء الساكنين، هذه لغة جمهرة العرب، ومن العرب من لا يقلب حرف العلة ألفًا، بل يبقيه على أصله في صيغة أفعل وصيغة استفعل، فيقول: أغيمت السماء، وأغيل الصبي، واستتيست الشاة، واستنوق الجمل، فإذا اتصل الفعل بالضمير المتحرك على هذه اللغة لم يلتقِ ساكنان فيبقى الفعل على حاله، وعلي هذه اللغة جاءت هذه الكلمة، وانظر كتابنا "دروس التصريف =

وإذا جاء التصحيح في هذه الأفعال المتصرفة تنبيهًا على الأصل مع بُعدها عن الاسم فما ظنك بالفعل الجامد الذي لا يتصرف؟ فإن قالوا: التصحيح في هذه الأفعال إنما جاء عن طريق الشذوذ، وتصحيح أَفْعَلَ في التعجب قياس مطرد. قلنا: قد جاء التصحيح في الفعل المتصرف على غير طريق الشذوذ، وذلك نحو تصحيح "حَوِلَ، وعَوِرَ، وصَيِدَ" حملًا على "احْوَلّ، واعْوَرّ، واصْيَدّا" وكذلك جاء التصحيح أيضًا في قولهم "اجْتَوْرَوْا، واعْتَوْنَوْا" حملًا على "تَجَاوَروا، وتَعَاوَنُوا" فكذلك أيضًا ههنا: حمل "ما أقومه وما أبيعه" على "هذا أقوم منك، وأبيع منك" ومع هذا فلا ينبغي أن تحكموا له بالاسمية لتصحيحه؛ لأن أفعل به قد جاء مصححًا وهو فعل، كما أن التصحيح في قولهم "أَقْوِمْ به، وأَبْيِعْ به" لا يخرجه عن كونه فعلًا، فكذلك التصحيح في ما أفعله لا يخرجه عن كونه فعلًا. وأما قولهم "لو كان التقدير فيه شيء أَحْسَنَ زيدًا لوجب أن يكون التقدير في قولنا ما أَعْظَمَ الله شيء أعظم الله، والله تعالى عظيم لا بِجَعْلِ جاعل" قلنا: معنى.

_ = ص164". والاستشهاد بالبيت هنا في قوله "أطولت" حيث صحت عين الفعل مع أن قياس نظائرها أن تعتل بقلبها ألفًا ثم تحذف الألف عند الاتصال بالضمائر المتحركة، في لغة جمهرة العرب، على ما بيَّنَّا، وقد أتى الشاعر بهذا الفعل على أصله من غير أن يقلب أو يحذف، والعلماء يختلفون في هذا وأشباهه؛ فمنهم من يقول: هو شاذ يحفظ ما سمع منه ولا يقاس عليه، ومنهم من يقول: هو لغة لجماعة من العرب، يجوز القياس عليها، وفي قول الشاعر "وقلما وصال ... إلخ" شاهد آخر للنحاة، وذلك حيث اتصلت "ما" بقل، واعلم أولا أن "ما" هذه تتصل بثلاثة أفعال وهي: قل، وطال، وكثر تقول: قلما كان ذلك، وطالما نهيتك عن الشر، وكثر ما أرشدتك، هذا هو الأصل، نعني أنه إذ اتصلت "ما" بواحد من هذه الأفعال الثلاثة كفّته عن طلب الفاعل ووليه الفعل، وربما وليه الاسم المرفوع كما في هذا البيت، وللعلماء في ذلك الأسلوب أربعة أقوال: الأول: أن "ما" كافة على أصلها ولا يحتاج الفعل المقترن بها إلى فاعل، والاسم المرفوع بعده مبتدأ خبره ما بعده، وهذا هو ما ذهب إليه سيبويه، وجعل ذلك من ضرورات الشعر، والثاني: أن "ما" هذه زائدة لا كافة، والاسم المرفوع بعدها فاعل، وكأن الشاعر قد قال: وقل وصال يدوم على طول الصدود، والثالث: أن "ما" كافة أيضًا، والاسم المرفوع بعدها فاعل لفعل محذوف يفسره الفعل الآخر، وكأنه قد قال: قلما يدوم وصال على طول الصدود، وهو مذهب ذهب إليه الأعلم الشنتمري، والرابع: أن "ما" حينئذ كافة أيضًا، والاسم المرفوع بعدها فاعل بنفس الفعل المتأخر، وهذا مذهب كوفي؛ لأنهم هم الذين يجوّزون تقدم الفاعل على ما هو معلوم.

قولهم شيء أعظم الله أي وَصَفَهُ بالعظمة، كما يقول الرجل إذا سمع الأذان: كَبَّرْتَ كبيرًا، وعَظَّمَتَ عَظِيمًا، أي وصفته بالكبرياء والعظمة، لا صيّرته كبيرًا عظيمًا، فكذلك ههنا، ولذلك الشيء ثلاث معانٍ: أحدها: أن يُعْنَى بالشيء مَنْ يعظمه من عباده، والثاني: أن يعنى بالشيء ما يدل على عظمة الله تعالى وقدرته من مصنوعاته: والثالث: أن يعنى به نفسه، أي أنه عظيم لنفسه لا لشيء جعله عظيمًا، فرقًا بينه وبين خلقه. وحُكِيَ أن بعض أصحاب أبي العباس محمد بن يزيد الْمُبَرِّد قَدِمَ من البصرة إلى بغداد قبل قدوم الْمُبَرِّد إليها، فحضر في حلقة أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، فسئل عن هذه المسألة، فأجاب بجواب أهل البصرة، وقال: التقدير في قولهم "ما أحسن زيدًا" شيء أحسن زيدًا، فقيل له: ما تقول في قولنا "ما أعظم الله"؟ فقال: شيء أعظم الله، فأنكروا عليه، وقالوا: هذا لا يجوز؛ لأن الله تعالى عظيم لا بِجَعْلِ جاعل، ثم سَحَبُوه من الحلقة وأخرجوه، فلما قَدِمَ الْمُبَرِّد إلى بغداد أوردوا عليه هذا الإشكال، فأجاب بما قدمنا من الجواب، فبَانَ بذلك قبح إنكارهم عليه، وفساد ما ذهبوا إليه. وقيل: يحتمل أن يكون قولنا "شيء أعظم الله" بمنزلة الإخبار أنه عظيم، لا على معنى شيء أعظمه؛ فإن الألفاظ الجارية عليه سبحانه يجب حملها على ما يليق بصفاته، ألا ترى أن "عسى، ولعل" فيها طَرَفٌ من الشك، ولايحمل في حقه سبحانه على الشك، وكذلك الامتحان يحمل منا على معانٍ تستحيل في حقه سبحانه، إلى غير ذلك مما لا يُحْصَى كثرةً، فكذلك ههنا: يكون المراد بقولهم "ما أعظم الله" الإخبار أنه عظيم، لا شيء جعله عظيمًا لاستحالته؛ وإن كان ذلك يقدَّر في غيره لجوازه وعدم استحالته. وأما قول الشاعر [79] ما أَقْدَرَ اللهَ أن يُدْنِي على شَحَطٍ ... مَنْ دَارُه الحَزْنُ ممن دَارُهُ صُولُ فإنه وإن كان لفظه تعجب فالمراد به المبالغة في وصف الله تعالى بالقدرة، كقوله تعالى {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75] فجاء بصيغة الأمر، وإن لم يكن في الحقيقة أمرًا؛ لامتناع ذلك في حق الله تعالى، وإن شئت قدَّرته تقدير: "ما أَعْظَمَ الله" على ما بيَّنَّا، والله أعلم.

مسألة القول في جواز التعجب من البياض والسواد، دون غيرهما من الألوان

16- مسألة: [القول في جواز التعجب من البياض والسواد، دون غيرهما من الألوان] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن يستعمل "ما أفعله" في التعجب من البياض والسود خاصة، من بين سائر الألوان، نحو أن تقول: هذا الثوب ما أَبْيَضَهُ، وهذا الشعر ما أَسْوَدَهُ. وذهب البصريون إلى أن ذلك لا يجوز فيهما كغيرهما من سائر الألوان. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما جوّزنا ذلك للنقل، والقياس: أما النقل فقد قال الشاعر: [89] إذا الرجال شَتَوْا واشْتَدّ أَكْلُهُمُ ... فأنت أبيضُهُم سِرْبَالَ طَبَّاخِ

_ [89] روى صاحب اللسان "ب ي ض" هذا البيت كما رواه المؤلف، ولم يعزه لقائل معين، ورواه ابن يعيش "ص847 و 1046" كذلك من غير عزو، ورواه في مجمع الأمثال "1/ 81 بتحقيقنا" ونسب قوم هذا البيت إلى طرفة بن العبد البكري من أبيات يهجو فيها عمرو بن هند الملك، لكنني رجعت إلى ديوان طرفة فوجدت فيه "ص15" أبياتًا يهجو فيها عمرو بن هند فيها كلمته التي يستشهد بها المؤلف، لكن رواية هذا البيت على غير ما جاء في اللسان وفي كلام المؤلف، وهي هكذا. أنت ابن هند فأخبر من أبوك إذا ... لا يصلح الملك إلا كل بذاخ إن قلت نصر فنصر كان شر فتى ... قدمًا، وأبيضهم سربال طباخ

وَجْهُ الاحتجاج أنه قال "أَبْيَضُهُمْ" وإذا جاز ذلك في "أفعلهم" جاز في "ما أَفْعَلَه وأَفْعِلْ به" لأنهما بمنزلة واحدة في الباء، وقد قال الشاعر: [90] جارية في دِرْعِهَا الفَضْفَاضُ ... تُقَطِّعُ الحديث بالإِيمَاضِ أبيضُ من أخت بني أَبَاضِ فقال "أبيض" وهو أفعل من البياض، وإذا جاز ذلك في أفعل من كذا جاز في ما أفعله وأفعل به؛ لأنهما بمنزلة واحدة في هذا الباب، ألا ترى أن ما لا يجوز فيه

_ = وقوله "إذا الرجال شتو" أي صاروا في زمان الشتاء، والشتاء عندهم هو زمان القحط والجدب، وفيه يظهر كرم الكرام وبخل البخلاء، وقوله "واشتد أكلهم" أراد أنه تعسر على أكثرهم الحصول على ما يأكلون، وقوله "فأنت أبيضهم سربال طباخ" معناه أن ثياب طباخك تكون في هذا الوقت بيضاء شديدة البياض نقية من الوضر ودهن اللحم وغيره، يريد أنه لا يطبخ فلا تتدنس ثيابه، وهذه العبارة كناية عن شدة البخل. والاستشهاد بالبيت في قوله "أبيضهم" حيث اشتق أفعل التفضيل من البياض، وهذا مما يجيزه الكوفيون، ويأباه البصريون، وقد اختلفوا في التعليل للمنع؛ فمنهم من ذهب إلى أن السر في منع صوغ أفعل التفضيل وصيغتي التعجب من الألوان أن الألوان من المعاني اللازمة التي تشبه أن تكون خلقة كاليد والرجل، ومنهم من ذهب إلى سبب المنع هو كون أفعال الألوان ليست ثلاثية مجردة. وإنما تأتي أفعال الألوان على أحد مثالين: أولهما أفعل -بتشديد اللام- نحو أبيض وأسود، والثاني أفعال -بزيادة ألف بعد العين وبتشديد اللام- نحو ادهام وابياض واسواد وما أشبه ذلك. [90] نسب البغدادي نقلًا عن ابن هشام اللخمي "3/ 483" هذا الرجز إلى رؤبة بن العجاج، وقد أنشده رضي الدين في شرح الكافية "2/ 199" وابن يعيش "847 و 1046" وابن منظور "ب ي ض" والميداني في مجمع الأمثال "1/ 81 بتحقيقنا" ولم يعزه أحد منهم إلى قائل معين، والدرع -بكسر فسكون- القميص، والفضفاض: الواسع ويروى بدل البيت الأول: جارية في رمضان الماضي ومعنى قوله "تقطع الحديث بالإيماض" أن القوم إذا كانوا يتحدثون فأومضت تركوا الحديث واشتغلوا بالنظر إليها لبراعة جمالها، وبنو أباض -بفتح الهمزة- قوم اشتهروا ببياض ألوانهم. والاستشهاد بالبيت في قوله "أبيض" حيث جاء بأفعل التفضييل من البياض، وهو يشهد للكوفيين الذي يجيزون مجيءأفعل التفضيل وصيغتي التعجب من خصوص البياض والسواد دون سائر الألوان لكونهما أصلي الألوان كلها، والبصريون يمنعون ذلك، ويحكمون على ما جاء من كلام العرب مما ظاهره ذلك بأنه شاذ، أو يكون "أفعل" في مثل قول هذا الراجز صفة مشبهة لا أفعل تفضيل، وقد ذكر ذلك المؤلف وابن يعيش في الموضعين اللذين أرشدناك إليهما من شرحه على المفصل. ونظير ذلك قول أبي الطيب المتنبي يذم الشيب: أبعد بعدت بياضا لا بياض له ... لأنت أسود في عيني من الظلم

ما أفعله يجوز فيه أفعل من كذا، وكذلك بالعكس منه: وكذلك بالعكس منه: ما جاز فيه ما أفعله جاز فيه أفعل من كذا، فإذا ثبت أنه يمتنع في كل واحد منهما ما يمتنع في الآخر، ويجوز فيه ما يجوز في الآخر، دلّ على أنهما بمنزلة واحدة، وكذلك القول في "أَفْعِل به" في الجواز والامتناع، فإذا ثبت هذا فوجب أن يجوز استعمال ما أفعله من البياض. وأما القياس فقالوا: إنما جوزنا ذلك من السواد والبياض دون سائر الألوان لأنهما أصلا الألوان، ومنهما يتركب سائرها من الحمرة والصفرة والخضرة والصُّهْبَة والشُّهْبَة والكُهْبَة إلى غير ذلك، فإذا كانا هما الأصليين للألوان كلها جاز أن يثبت لهما ما لا يثبت لسائر الألوان؛ إذ كانا أصلين لها ومتقدمين عليها. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه لا يجوز استعمال "ما أفعله" من البياض والسواد أنا أجمعنا على أنه لا يجوز أن يستعمل مما كان لونًا غيرهما من سائر الألوان؛ فكذلك لا يجوز منهما، وإنما قلنا ذلك لأنه لا يخلو امتناع ذلك: إما أن يكون لأن باب الفعل منهما أن يأتي على افْعَلّ نحو احمرّ واصفرّ واخضرّ وما أشبه ذلك، أو لأن هذه الأشياء مستقرة في الشخص لا تكاد تزول فجرت مجرى أعضائه، وأي العلتين قدرنا وجدنا المساواة بين البياض والسواد وبين سائر الألوان في علة الامتناع؛ فينبغي أن لا يجوز فيهما كسائر الألوان. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقول الشاعر: [89] فأنت أبيضهم سربال طباخ فلا حجّة فيه من وجهين؛ أحدهما: أنه شاذ فلا يؤخذ به، كما أنشد أبو زيد: [91] يقول الخَنَا وأَبْغَضُ العُجْم نَاطقًا ... إلى ربِّنَا صوت الحمار اليُجَدَّعُ

_ [91] هذان البيتان من كلام ذي الخرق الطهوي، وليسا متتاليين في كلامه كما قد يظن من صنيع المؤلف. بل بين أولهما وثانيهما بيتان، وقد استشهد بالبيت الأول رضي الدين في شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 15 و 2/ 488" وأنشده ابن منظور "ج د ع" مع بيت سابق عليه ونسبهما لذي الخرق، وأنشده مرة أخرى "ل وم" وذكر له نظائر كثيرة، وأنشده الأشموني "1/ 171 بتحقيقنا" واستشهد به ابن هشام في المغني "رقم 68" وقد روى أبو زيد في نوادره "ص66 و 67" سبعة أبيات يقع أول هذين البيتين ثانيها، ويقع ثاني البيتين خامسها، والخنى: الفاحش من الكلام، وأبغض: أفعل تفضيل من البغض، وفعله بغض فلان إلي، وتقول: ما أبغضني إلى فلان؛ إذا كان هو المبغض لك، وقالوا: ما أبغضني لفلان؛ إذا كنت المبغض له، والعجم: جمع أعجم أو عجماء، والأعجم: =

ويَسْتَخْرِجُ اليَرْبُوعَ من نَافِقَائِهِ ... ومِنْ جُحْرِهِ بالشِّيخَةِ اليَتَقَصَّعُ فأدخل الألف واللام على الفعل، وأجمعنا على أن استعمال مثل هذا خطأ لشذوذه قياسًا واستعمالًا، فكذلك ههنا، وإنما جاء هذا لضرورة الشعر، والضرورة لا يقاس عليها، كما لو اضطر إلى قصر الممدود على أصلنا وأصلكم أو إلى مَدِّ المقصور على أصلكم، وعلى ذلك سائر الضرورات ولا يدل جوازه في الضرورة على جوازه في غير الضرورة، فكذلك ههنا، فسقط الاحتجاج به. وهذا هو الجواب عن قول الآخر: [90] أبيض من أخت بني أباض والوجه الثاني: أن يكون قوله: "فأنت أبيضهم" أفعل الذي مؤنثه فَعْلَاء كقولك أبيض وبيضاء، ولم يقع الكلام فيه، وإنما وقع الكلام في أفعل الذي يراد به المفاضلة نحو "هذا أحسن منه وجهًا، وهو أحسن القوم وجهًا" فكأنه قال مُبْيَضّهم، فلما أضافه انتصب ما بعده عن تمام الاسم، وهذا هو الجواب عن قول الآخر: [90] أَبْيَضُ من أخت بني أباض ومعنا: في درعها جسد مُبيض من أخت بني أباض، ويكون "من أخت" ههنا في موضع رفع؛ لأنها صفة لأبيض، كأنه قال أبيضٌ كائنٌ من أخت، كقولهم "أنت كريمٌ من بن فلان" ونحوه قول الشاعر: [92] وأبيضُ مِنْ ماء الحديد كأنّه ... شهابٌ بَدَا واللّيل داجٍ عَسَاكرُه

_ = الحيوان الذي لا ينطق، والأعجم من الإنسان الذي في كلامه عجمة، شبهوه بالحيوان الأعجم، واليجدّع: الذي يقطع أنفه، أو أذنه، أو يده، أو شفته، كل ذلك يقال، واليربوع: دويبه تحفر الأرض والنافقاء: جحر يكتمه اليربوع ويستره ويظهر جحرًا آخر غيره، وقوله "بالشيخة" هو بالخاء المعجمة رملة بيضاء في بلاد بني أسد وحنظلة، واليتقصع: أراد الذي يتقصع، وتقول "تقصع اليربوع" إذا دخل في قاصعائه، والقاصعاء: جحر آخر من جحرة اليربوع. والاستشهاد بالبيت الأول في قوله "اليجدع" والاستشهاد بالبيت الثاني في قوله "اليتقصع" فإنه أراد الذي يجدع والذي يقتصع، فوصل أل الموصولة بالفعل المضارع، وقد اتفق الفريقان على أن وصل أل الموصولة بالفعل المضارع شاذ، هكذا قال المؤلف، لكن الذي نعرفه أن من الكوفيين قومًا يجيزون ذلك في الاختيار، وقد ذهب ابن مالك إلى مذهب وسط بين المذهبين، فقال: إن ذلك قليل لا شاذ، وانظر التصريح للشيخ خالد الأزهري "1/ 169" وشرح الأشموني بتحققنا "1/ 171" فقد ذكرنا ثمة كثيرًا من الشواهد، وحاشية الصبان "1/ 161 بولاق" [92] أنشد البغدادي هذا البيت في الخزانة "3/ 485 بولاق" والشريف المرتضي في أماليه "2/ 317" وذكر أن ابن جني استشهد به، ولم يعزه أحدهما إلى معين، والشهاب: النجم، =

...................................................................

_ = وبدا: أي ظهر، والليل داجٍ: أي مظلم. والاستشهاد بالبيت في قوله "وأبيض من ماء الحديد" فإن "أبيض" في هذه العبارة ليس أفعل تفضيل، لكنه صفة مشبهة، و "من" التالية له ليست من التي تدخل على المفضول في نحو قولك: فلان أكرم خلقًا من فلان، وأشرف نفسًا منه، وأطهر قلبًا منه، وما أشبه ذلك، وعلى ذلك لا تكون "من" هذه متعلقة بأبيض، بل هي متعلقة بمحذوف يقع صفة لأبيض وكأنه قد قال: وأبيض كائن من ماء الحديد، أي مأخوذ ومصنوع من ماء الحديد، والكلام في وصف سيف، وإذا كان لفظ "أبيض" يأتي صفة مشبهة كما في هذا البيت وفي الشاهد الذي يليه فإنه لا يمتنع أن يكون أبيض في قول الراجز: أبيض من أخت بني أباض وفي البيت المنسوب إلى طرفة: ... أبيضهم سربال طباخ وأسود في قول المتنبي الذي أنشدناه لك: ... أسود في عيني من الظلم صفة مشبهة أيضًا، وكأن المتنبي قد قال: لأنت مسود في عيني، ولأنت من الظلم؛ وكأن طرفة قد قال: أنت مبيضهم سربال طباخ، وكأن الراجز قد قال: جسد مبيض كائن من أخت بني أباض، وقد اتفق مع المؤلف على هذا التخريج ابن يعيش والشريف المرتضي والحريري في دره الغواص، وكلهم تابعون لابن جني. ويقول أبو رجاء: إنه ليس من المنكر أن يجيء وزن أفعل من البياض والسواد وغيرهما من الألوان ومن غير الألوان صفة مشبهة، نقول: فلان أبيض اللون وفلان أسود، أو أخضر، أو أصفر، وتقول: فلان أهيف البطن. وفلان أجب الظهر، وفلان أوحد دهره، وما لا يحصى من المثل، ومن ذلك قول أبي الطيب المتنبي أيضًا: يلقاك مرتديًا بأحمر من دم ... ذهبت بخضرته الطلى والأكبد ومن ذلك قول أبي تمام: له منظر في العين أبيض ناصع ... ولكنه في القلب أسود أسفع وقد قال المفسرون في قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} : إن "أهون" في هذه الآية بمعنى هين، كما قالوا في قول معن بن أوس: لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تغدو المنية أول إن "أوجل" هنا صفة مشبهة وليست أفعل تفضيل، أقول: نحن لا ننكر أن هذا الوزن يأتي صفة مشبهة خالية من معنى تفضيل شيء على شئ، كما لا ننكر أن من هذه البابة قول الشاعر: وأبيض من ماء الحديد كأنه وما معه من الأبيات، لكنا لا نستطيع أن نستسيغ أن يكون من هذه البابة قول الراجز: أبيض من أخت بني أباض مع قول الرواة الموثوق بهم: إن نساء بني أباض مشهورات ببياض ألوانهن؛ وعلى هذا يكون هذا الجواب غير مستقيم، ولو كان القائل به ابن جني ومن تبعه من فحولة النحاة.

فقوله "من ماء الحديد" في موضع رفع؛ لأنه صفة أبيض، وتقديره وأبيض كائنٌ من ماء الحديد، ونحوه أيضًا قول الآخر [93] لما دعاني السَّمْهَرِيُّ أجبتُهُ ... بأبيض من ماء الحديد صَقيلِ وأما قولهم "إنما جوَّزنا ذلك لأنهما أصلان للألوان ويجوز أن يثبتَ للأصل ما لا يثبتُ للفرع" قلنا: هذا لا يستقيم، وذلك لأن سائر الألوان إنما لم يجز أن يستعمل منها "ما أفعله، وأفعل منه" لأنها لازمت مَحَالها، فصارت كعضوٍ من الأعضاء، فإذا كان هذا هو العلة فنقول: هذا على أصلكم ألزم، وذلك لأنكم تقولون: إن هذه الألوان ليست بأصل في الوجود، على ما تزعمون، بل هي مركبة من البياض والسواد؛ فإذا لم يجز مما كان متركبًا منها لملازمته المحل فلأن لا يجوز مما كان أصلًا في الوجود وهو ملازم للمحل كان ذلك من طريق الأولى، والله أعلم.

_ [93] أنشد ابن يعيش "ص1046" عجز هذا البيت، ولم يعزه إلى قائل، والظاهر أن "السمهري" هنا اسم رجل، وأصل السمهري الرمح، منسوب إلى رجل كان يبيع الرماح بالخط، واسم امرأته ردينة، فأحيانًا ينسبون الرماح إليه فيقولون: رمح سمهري، ورماح سمهرية، وأحيانًا يضيفونها إلى امرأته فيقولون: رديني، أو رماح ردينية، وأحيانا ينسبونه إلى مكانهم فيقولون: خطي، والقول في الاستشهاد بهذا البيت كالذي ذكرناه في الشاهد السابق.

مسألة القول في تقديم خبر ما زال وأخواتها عليهن

17- مسألة: [القول في تقديم خبر "ما زال" وأخواتها عليهن] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز تقديم خبر "ما زال" عليها، وما كان في معناها من أخواتها، وإليه ذهب أبو الحسن بن كَيْسَان، وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك، وإليه ذهب أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء من الكوفيين، وأجمعوا على أنه لا يجوز تقديم خبر "ما دَامَ" عليها. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن "ما زال" ليس بنفي للفعل، وإنما هو نفي لمفارقة الفعل، وبيان أن الفاعل حاله في الفعل متطاولة، والذي يدل على أنه ليس بنفي إن "زال" فيه معنى النفي، و "ما" للنفي، فلما دخل النفي على النفي صار إيجابًا، والذي يدل على أن النفي إذا دخل على النفي صار إيجابًا، أنك إذا قلت "انتفى الشئ" كان ضدًا للإثبات، فإذا أدخلت عليه النفي نحو "ما انْتَفَى" صار موجبًا؛ فدل على أن نفي النفي إيجاب، وإذا كان كذلك صار "ما زال" بمنزلة "كان" في أنه إيجاب، وكما أن "كأن" يجوز تقديم خبرها عليها نفسها، فكذلك"ما زال" ينبغي أن يجوز تقديم خبرها عليها، ولذلك لم يقولوا "ما زال زيد إلا قائمًا" كما لم يقولوا "كان زيد إلا قائمًا" لأن "إلا" إنما يؤتى بها لنقض النفي، كقولك "ما مررت إلا بزيد، وما ضربت إلا زيدًا" نفيت المرور والضرب أولًا، وأدخلت "إلا" فأثبتهما لزيد، وأبطلت النفي ونقضته، ولهذا إذا قلتم إنها إذا دخلت على "ما" التي ترفع الاسم وتنصب الخبر أبطلت عملها؛ لأنها إنما عملت لشبهها بليس في أنها تنفي الحال، كم أن ليس تنفي الحال؛ فإذا دخلت "إلا" عليها أبطلت معنى النفي، فزال شبهها بليس، فبطل عملها؛ فإذا كان الكلام ثابتًا فلا يفتقر إلى إثباته؛ ألا ترى أنك لو قلت "مررت إلا بأحد" لم يجز؛ لأن إثبات الثابت

_ 1 انظر في هذه المسألة: أسرار العربية للمؤلف "ص57" وشرح الأشموني "1/ 352 بتحقيقنا" وحاشية الصبان "1/ 224" والتصريح للشيخ خالد "1/ 236 بولاق" وشرح موفق الدين بن يعيش على المفصل "ص1015" وشرح رضي الدين على الكافية "2/ 267".

ونقض النفي مع تعرِّي الكلام منه محال، فدل على أن "ما زال" في الإثبات بمنزلة "كان" فكما لا يقال "كان زيد إلا قائمًا" فكذلك لا يقال "ما زال زيد إلا قائمًا" فأما قول الشاعر: [94] حَرَاجِيجُ ما تَنْفَكُّ إلا مُنَاخَةً ... على الخسف أو نرمي بها بلدًا قَفْرَا

_ [94] هذا البيت من كلام ذي الرمة غيلان بن عقبة، وقد استشهد به سيبويه "1/ 428" والزمخشري وابن يعيش "1010" والرضي "2/ 275" والأشموني "رقم 2100" وانظر خزانة الأدب "4/ 49 بولاق" والحراجيج: جمع حرجوج، أو حرجيج وهي هنا الناقة الضامرة الهزيلة، ومناخة: اسم المفعول المؤنث من قولك "أناخ الرجل بعيره أو ناقته" إذا أبركها، والخسف -بالفتح- الجوع، وذلك أن يبيت على غير علف، وكان الأصمعي وأبو عمرو بن العلاء يخطِّئان ذا الرمة في هذا البيت؛ لأنه أدخل حرف الاستثناء -وهو إلا- على خبر تنفك، وقد خلص العلماء ذا الرمة من هذا الخطأ، ولهم في ذلك التخلص خمسة أوجه؛ الأول أن الرواية ليست كما زعم أبو عمرو والأصمعي، وليس التالي لقوله "ما تنفك" هو إلا التي هي حرف استثناء، بل هو "آلا" بمد الألف، والآل: الشخص، وذلك نظير قول ذي الرمة نفسه في كلمة أخرى: فلم نهبط على سفوان حتى ... طرحن سخالهن وصرن آلا ويروى أن ذا الرمة لما نبّه إلى الخطأ فَطن له وقال: أنا لم أقل "إلا مناخة" وإنما قلت "ما تنفك آلا مناخة" وعلى هذا الوجه يكون قوله "آلا" خبر تنفك، ومناخة صفة وحينئذ يسأل عن وجه تأنيث الصفة مع أن الموصوف مذكر، والجواب عن ذلك أن الآل -وهو الشخص- يطلق على المذكر والمؤنث كالشخص الذي هو بمعناه، ولما كان المراد هنا النوق أنث الصفة، وهذا التخريج قد ذكره كثير من العلماء، وقد سمعت أنه يروى عن ذي الرمة نفسه، والتخريج الثاني: أن "تنفك" هنا تامة، وليست ناقصة، والتي يمنع دخول إلا عليها هي الناقصة، وهذا تخريج ذكره الفراء في معاني القرآن، ونسبه المؤلف إلى الكسائي، وذكره الأعلم في شرح شواهد سيبويه، والتخريج الثالث: أن تجعل تنفك ناقصة لكن لا يكون "مناخة" خبرها، بل خبرها هو متعلق الجار والمجرور الذي هو قوله "على الخسف" وعلى هذا الوجه يكون قوله "مناخة" حالًا، وكأنه قد قال: ما تنفك كائنة على الخسف إلا في حال كونها مناخة، وقد ذكر هذا التخريج الأعلم أيضًا، والتخريج الرابع: أن تكون تنفك ناقصة أيضًا ولكن يكون خبرها محذوفًا، و "مناخة" حال، و "على الخسف" يتعلق بمناخة، وتقدير الكلام على هذا الوجه: ما تنفك مقيمة في أوطانها إلا في إحدى حالتين: الأولى: أن تكون مناخة على الخسف والثانية: أن نرمي بها بلدًا قفرا، وهذا التوجيه قد ذكره الزمخشري، والتخريج الخامس: أن تجعل "تنفك" ناقصة، و "مناخة" خبرها، ولكن "إلا" ليست للاستثناء، بل هي حرف زائد لا يدل على معنًى، والممتنع إنما هو دخول إلا الدالة على الاستثناء على خبر "تنفك" وهذا التخريج -كما قال ابن يعيش- للمازني، وتبعه أبوعلي الفارسي في بعض كتبه، ونسبه ابن هشام في مغني اللبيب إلى الأصمعي وابن جني، وفي هذا القدر غناء أي غناء

فالكلام عليه من أربعة أوجه؛ فالوجه الأول: أنه يروى "ما تنفك آلا مناخة" والآل: الشخص؛ يقال "هذا آلٌ قد بدا" أي شخص؛ وبه سمي الآل؛ لأنه يرفع الشخوص أول النهار وآخره؛ قال الشاعر: [95] كأننا رَعْنُ قَفٍّ يرفع الآلَا أي يرفعه الآل؛ وهو من المقلوب. والوجه الثاني: أنه يروى "ما تنفك إلا مناخَةٌ" بالرفع، فلا يكون فيه حجة. والوجه الثالث: أنه قد رُوِي بالنصب، ولكن ليس هو منصوبًا لأنه خبر "ما تنفك" وإنما خبرها "على الخسف" فكأنه قال: ما تنفك على الخسف، أي تُظْلَم إلا أن تناخ. والوجه الرابع: أنه جعل "ما تنفك"

_ [95] هذا عجز بيت من كلام النابغة الجعدي، وصدره قوله: حتى لحقنا بهم تعدى فوارسنا وتعدى فوارسنا: أي تحمل أفراسها على العدو، وهو السير السريع، والرعن -بفتح الراء وسكون العين- أنف الجبل، والقف -بضم القاف وتشديد الفاء- الجبل، غير أنه ليس بطويل في السماء، والآل: الذي تراه في أول النهار وآخره كأنه يرفع الشخوص، وليس هو السراب، ومحلّ الاستشهاد بالبيت قوله "الآل" ومعناه ما ذكرناه يريد المؤلف أن الذي في بيت ذي الرمة هو "الآل" كالذي في هذا البيت، وقد تقدم بيانه، وقد تبين لك من تفسيرنا للآل وجه قول المؤلف "وهو من المقلوب" يعني أن المعروف أن الآل هو الذي يرفع الشخوص، وقد جاء في هذا البيت أن رعن القف يرفع الآل، فرعن القف في ظاهر هذا البيت رافع، والآل مرفوع، والجاري على ألسنة العرب أن تجعل الآل رافعًا والشخوص التي منها رعن القف مرفوعة، قال ابن منظور بعد أن أنشد البيت "أراد يرفع الآل، فقلبه" وقد أنكر ابن سيده القلب في هذا البيت، وزعم أن كل واحد من رعن القف والآل يصلح أن يكون رافعًا ويصلح كذلك أن يكون مرفوعًا، قال: "وجه كون الفاعل فيه مرفوعًا والمفعول منصوبًا باسم صحيح مقول به، وذلك أن رعن هذا القف لما رفعه الآل فرؤي فيه ظهر به الآل إلى مرآة العين ظهورًا لولا هذا الرعن لم يبن للعين بيانه إذا كان فيه، ألا ترى أن الآل إذا برق للبصر رافعًا شخصه كان أبدى للناظر إليه منه لو لم يلاق شخصًا يزهاه فيزداد بالصورة التي حملها سفورًا، وفي مسرح الطرف تجليًّا وظهورًا؟ فإن قلت: فقد قال الأعشى: إذ يرفع الآل رأس الكلب فارتفعا فجعل الآل هو الفاعل والشخص هو المفعول، قيل: ليس في هذا أكثر من أن هذا جائز، وليس فيه دليل على أن غيره ليس بجائز، ألا ترى أنك إذا قلت: ما جاءني غير زيد، فإنما في هذا دليل على أن الذي هو غيره لم يأتك، فأما زيد نفسه فلم يعرض للأخبار بإثبات مجيءله أو نفيه عنه؛ فقد يجوز أن يكون قد جاء وأن يكون أيضًا لم يجيء" ا. هـ كلامه بحروفه.

كلمة تامة؛ لأنك تقول "انفكت يده" فتوهم فيه التمام، ثم استثنى، وهذا الوجه رواه هشام عن الكسائي. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز تقديم خبر "ما زال" عليها لأن "ما" للنفي، والنفي له صدر الكلام؛ فجرى مَجْرَى حرف الاستفهام في أن له صدر الكلام، والسّرّ فيه هو أن الحرف إنما جاء لإفادة المعنى في الاسم والفعل؛ فينبغي أن يأتِيَ قبلهما، لا بعدهما، وكما أن حرف الاستفهام لا يعمل ما بعده فيما قبله فكذلك ههنا، ألا ترى أنك لو قلت في الاستفهام "زيدًا أَضَرَبْتَ" لم يجز، لأنك تقدم ما هو متعلق بما بعد حرف الاستفهام عليه؛ فكذلك ههنا؛ إذا قلت "قائما ما زال زيدٌ" ينبغي أن لا يجوز لأنك تقدم ما هو متعلق بما بعد حرف النفي عليه. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن ما زال ليس بنفي للفعل، وإنما هو نفي لمفارقة الفعل، والنفي إذا دخل على النفي صار إيجابًا" قلنا: هذا حجة عليكم، فإنّا كما أجمعنا على أن "ما زال" ليس بنفي للفعل أجمعنا على أن "ما" للنفي، ثم لو لم تكن "ما" للنفي لما صار الكلام بدخولها إيجابًا، فالكلام إيجابءَ و "ما" نفي؛ بدليل أنا لو قدرنا زوال النفي عنها لما كان الكلام إيجابًا، وإذا كانت للنفي فينبغي أن لا يتقدم ما هو متعلق بما بعدها عليها؛ لأنها تستحق صدر الكلام كالاستفهام. وأما "ما دام" فلم يجز تقديم خبرها عليها نفسها لأن "ما" فيه مصدرية لا نافية، وذلك المصدر بمعنى ظرف الزمان؛ ألا ترى أنك إذا قلت "لا أفعل هذا ما دام زيد قائمًا" كان التقدير فيه: زَمَنَ دوام زيد قائمًا، كقولك "جِئْتكَ مَقْدَمَ الحاجِّ، وخُفُوق النجم" أي زمن مقدم الحاج وزمن خفوق النجم، إلا أنه حُذِفَ المضاف الذي هو الزمن، وأقيم المصدر الذي هو المضاف إليه مقامه، وإذا كانت "ما" في"ما دام" بمنزلة المصدر فما كان من صلة المصدر لا يتقدم عليه، والله أعلم.

مسألة القول في تقديم خبر "ليس" عليها

18- مسألة: [القول في تقديم خبر "ليس" عليها] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز تقديم خبر "ليس" عليها، وإليه ذهب أبو العباس الْمُبَرِّد من البصريين، وزعم بعضهم أنه مذهب سيبويه، وليس بصحيح، والصحيح أنه ليس له في ذلك نص2. وذهب البصريون إلى أنه يجوز تقديم خبر "ليس" عليها كما يجوز تقديم خبر كان عليها3. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز تقديم خبر ليس عليها وذلك لأن "ليس" فعل غير متصرف؛ فلا يجري مجرى الفعل المتصرف كما أجريت "كأن" مجراه لأنها متصرفة، ألا ترى أنك تقول: كان يكون فهو كائن وكن، كما تقول: ضرب يضرب فهو ضارب ومضروب واضرب، ولا يكون ذلك في ليس، وإذا كان كذلك فوجب أن لا يجري مجرى ما كان فعلًا متصرفًا، فوجب أن لا يجوز تقديم خبره عليه كما كان ذلك في الفعل المتصرف؛ لأن الفعل إنما يتصرف عمله إذا كان متصرفًا في نفسه. فأما إذا كان غير متصرف في نفسه فينبغي أن لا يتصرف علمه؛ فلهذا قلنا: لا يجوز تقديم خبره عليه، والذي يدل على هذا أن "ليس" في معنى ما؛ لأن ليس تنفي الحال كما أن ما تنفي الحال، وكما أن ما لا تتصرف ولا يتقدم معمولها عليها فكذلك ليس، على أن من النحويين من يُغَلِّبُ

_ 1 انظر في هذه المسألة: أسرار العربية للمؤلف "ص58 ليدن" وشرح رضي الدين على كافية ابن الحاجب "2/ 276" وشرح موفق الدين بن يعيش على المفصل "ص1016" والأشموني "1/ 355 بتحقيقنا" وحاشية الصبان "1/ 225" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "1/ 225 بولاق". 2 يريد أنه لا يوجد في كتاب سيبويه نص في هذا الموضوع، لا بالجواز ولا بالمنع. 3 الذي ذكره النحاة أن القائلين بامتناع تقديم خبر ليس عليها هم جمهور الكوفيين، والمتأخرون من البصريين، وقد اختار هذا الرأي شيخ المحققين ابن مالك فقال في الخلاصة "الألفية": ومنع سبق خبر ليس اصطفى وأن الذين يجيزون تقديم خبر ليس عليها هم قدماء البصريين، والفراء، وتبعهم ابن برهان، والزمخشري، والشلوبيي، وابن عصفور، وهم من المتأخرين الذي يؤيدون مذهب أهل البصرة غالبًا.

عليها الحرفية، ويحتج بما حكي عن بعض العرب أنه قال: "ليس الطَّيب إلا المسك" فرفع الطيب والمسك جميعًا، وبما حكي أن بعض العرب قيل له: فلان يتهدَّدك، فقال: "عليه رجلًا ليسي" فأتى بالياء وحدها من غير نون الوقاية، ولو كان فعلًا لوجب أن يأتي بها كسائر الأفعال، ولأنها لو كانت فعلًا لكان ينبغي أن يرد إلى الأصل إذا اتصلت بالتاء فيقال في لست "لَيِسْتُ" ألا ترى أنك تقول في صَيِد البعيرُ "صِيْدَ البعيرُ" فلو أدخلت عليه التاء لقلت "صَيِدْتَ" فرددته إلى الأصل وهو الكسر، فلما لم يردّ ههنا إلى الأصل -وهو الكسر- دلّ على أن المغلَّبَ عليه الحرفية، لا الفعلية، وقد حكى سيبويه في كتابه أن بعضهم يجعل ليس بمنزلة ما في اللغة التي لا يعملون فيها "ما"؛ فلا يعملون ليس في شيء، وتكون كحرف من حروف النفي؛ فيقولون: ليس زيد منطلق، وعلى كل حال فهذه الأشياء وإن تكن كافية في الدلالة على أنها حرف فهي كافية في الدلالة على إيغالها في شبه الحرف، وهذا ما لا إشكال فيه، وإذا ثبت أنها لا تتصرف وأنها موغلة في شبه الحرف فينبغي أن لا يجوز تقديم خبرها عليها، ولأن الخبر مجحود فلا يتقدم على الفعل الذي جحده على ما بيَّنَّا. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على جواز تقديم خبرها عليها قوله تعالى: {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} [هود: 8] وَجْهُ الدليل من هذه الآية أنه قدَّم معمول خبر ليس على ليس، فإن قوله {يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} يتعلق بمصروف، وقد قدمه على ليس، ولو لم يجز تقديم خبر ليس على ليس وإلا لما جاز تقديم معمول خبرها عليها؛ لأن المعمول لا يقع إلا حيث يقع العامل، ألا ترى أنه لم يجز أن تقول "زيدًا أكرمت" إلا بعد أن جاز "أكرمت زيدًا" فلو لم يجز تقديم "مصروف" الذي هو خبر ليس على ليس، وإلا لما جاز تقديم معموله عليها، والذي يدل على ذلك أن الأصل في العمل للأفعال، وهي فعل، بدليل إلحاق الضمائر وتاء التأنيث الساكنة بها، وهي تعمل في الأسماء المعرفة والنكرة والظاهرة والمضمرة كالأفعال المتصرفة، فوجب أن يجوز تقديم معمولها عليها، وعلى هذا تخرج "نعم، وبئس، وفعل التعجب وعسى" حيث لا يجوز تقديم معمولها عليها، أما "نعم، وبئس" فإنهما لا يعملان في المعارف الأعلام، بخلاف "ليس" فنقصَتَا عن رتبتها، وأما فعل التعجب فأجروه مجرى الأسماء لجواز تصغيره فبعُد عن الأفعال، ومع هذا فلا يتصل به ضمير الفاعل، وإنما يضمر فيه، ولا تلحقه أيضًا تاء التانيث، بخلاف "ليس" فنقص عن رتبتها، وأما "عسى" وإن كانت تلحقها الضمائر وتاء التأنيث.

كليس، إلا أنها لا تعمل في جميع الأسماء، ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون معمولها إلا "أنْ" مع الفعل نحو "عسى زيد أن يقوم" ولو قلت"عسى زيد القيام" لم يجز؛ فأما قولهم في المثل "عسى الغُوَيْرَ أَبْؤُسًا" فهو من الشاذ الذي لا يقاس عليه، فلما كان مفعولها مختصًّا بخلاف "ليس" نقصت عن رتبة ليس؛ فجاز أن يمنع من تقديم معمولها عليها، ولا يجوز أن تقاس "ليس" على ما في امتناع تقديم خبرها عليها؛ لأن ليس تخالف ما، بدليل أنه يجوز تقديم خبر ليس على اسمها نحو "ليس قائمًا زيد" ولا يجوز تقديم خبر ما على اسمها؛ فلا يقال: "ما قائمًا زيد" وإذا جاز أن تخالف ليس "ما" في جواز تقديم خبرها على اسمها جاز أن تخالفه في جواز تقديم خبرها عليها، وتلحق بأخواتها. والصحيح عندي ما ذهب إليه الكوفيُّون. وأما الجواب عن كلمات البصريين: أما قوله تعالى: {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} [هود: 8] فلا حجة لهم فيه؛ لأنا لا نسلم أن {يَوْمَ} متعلق بمصروف، ولا أنه منصوب، وإنما هو مرفوع بالابتداء، وإنما بني على الفتح لإضافته إلى الفعل، كما قرأ نافع والأَعْرَج قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} فإن {يَوْمَ} في موضع رفع، وبني على الفتح لإضافته إلى الفعل، فكذلك ههنا. وإن سلمنا أنه منصوب إلا أنه منصوب بفعل مقدر دلّ عليه قوله تعالى: {لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} [هود: 8] وتقديره: يلازمهم يوم يأتيهم العذاب؛ لقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيقُولُنَّ مَا يحْبِسُهُ} [هود: 8] . وأما قولهم "إن الأصل في العمل للأفعال، وهي فعل يعمل في الأسماء المعرفة والنكرة والمظهرة والمضمرة" قلنا: هذا يدل على جواز إعمالها؛ لأنها فعل، والأصل في الأفعال أن تعمل، ولا يدل على جواز تقديم معمولها؛ لأن تقديم المعمول على الفعل يقتضي تصرف الفعل في نفسه، و "ليس" فعل غير متصرف، فلا يجوز تقديم معموله عليه؛ فنحن عملنا بمقتضى الدليلين: فأثبتنا لها أصل العمل لوجود أصل الفعلية، وسلبناها وصف العلم لعدم وصف الفعلية وهو التصرف؛ فاعتبرنا الأصل بالأصل؛ والوصف بالوصف. والذي يشهد لصحة ذلك الأفعال المتصرفة نحو ضرب وقتل وشتم، فإنها لما كانت أفعالًا متصرفة أُثْبِتَ لها أصل العمل ووصفُهُ؛ فجاز إعمالها، وجاز تقديم معمولها عليها نحو "عمرًا ضَرَبَ زيدٌ" وكذلك سائرها، والأفعال غير المتصرفة نحو عسى ونعم وبئس وفعل التعجب خصوصًا على مذهب البصريين؛ فإنها لما كانت أفعالًا غير متصرفة أثبت لها أصل العمل فجاز إعمالها، وسلبت وصف العمل؛ فلم يجز تقديم معمولها عليها فكذلك ههنا.

وأما قولهم: "إنه لا يجوز أن تقاس ليس على ما" قلنا: قد بيَّنَّا وجه المناسبة بينهما واتفاقهما في المعنى؛ لأن كل واحد منهما لنفي الحال كالآخر. وقولهم "إن ليس تخالف ما؛ لأنه يجوز تقديم خبر ليس على اسمها، بخلاف ما" قلنا: ليس من شرط القياس أن يكون المقيس مساويًا للمقيس عليه في جميع أحكامه، بل لا بُدّ أن يكون بينهما مُغَاير في بعض أحكامه. قولهم: "فإذا جاز أن تخالفها في تقديم خبرها على اسمها جاز أن تخالفها في تقديم خبرها عليها" قلنا: هذا لا يلزم؛ لأن "ليس" أخذت شبها من كان؛ لأنها فعل كما أنها فعل، وشبها من ما لأنها تنفي الحال كما أنها تنفي الحال، وكان يجوز تقديم خبرها عليها، وما لا يجوز تقديم خبرها على اسمها، فلما أخذت شبهًا من كان وشبهًا من ما صار لها منزلة بين المنزلتين، فجاز تقديم خبرها على اسمها؛ لأنها أقوى من ما؛ لأنها فعل وما حرف، والفعل أقوى من الحرف، ولم يجز تقديم خبرها عليها؛ لأنها أضعف من كان؛ لأنها لا تتصرف وكان تتصرف، وهذا في غاية الوضوح والتحقيق، والله أعلم

مسألة القول في العامل في الخبر بعد ما النافية النصب

19- مسألة: [القول في العامل في الخبر بعد "ما" النافية النصب] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "ما" في لغة أهل الحجاز لا تعمل في الخبر، وهو منصوب بحذف حرف الخفض. وذهب البصريون إلى أنها تعمل في الخبر، وهو منصوب بها. أما الكوفيون فاحتجوا بها، قالوا: إنما قلنا إنها لا تعمل في الخبر، وذلك لأن القياس في "ما" أن لا تكون عاملة ألبتة؛ لأن الحرف إنما يكون عاملًا إذا كان مختصًّا، كحرف الخفض لما اختص بالأسماء عمل فيها، وحرف الجزم لما اختص بالأفعال عَمِلَ فيها، وإذا كان غير متخص فوجب أن لا يعمل كحرف الاستفهام والعطف؛ لأنه تارة يدخل على الاسم، نحو "ما زيد قائم" وتارة يدخل على الفعل، نحو "ما يقوم زيد" فلما كانت مشتركة بين الاسم والفعل وجب أن لا تعمل؛ ولهذا كانت مهملة غير معملة في لغة بني تميم، وهو القياس، وإنما أعملها أهل الحجاز لأنهم شَبَّهُوها بليس من جهة المعنى، وهو شَبَهٌ ضعيف فلم يَقْوَ على العمل في الخبر كما عملت ليس؛ لأن ليس فعل، وما حرف، والحرف أضعف من الفعل، فبطل أن يكون منصوبًا بما، ووجب أن يكون منصوبًا بحذف حرف الخفض؛ لأن الأصل "ما زيد بقائم" فلما حذف حرف الخفض وجب أن يكون منصوبًا؛ لأن الصفات منتصبات الأنفس، فلما ذهبت أبقت خلفًا منها، ولهذا لم يجز النصب إذا قُدِّمَ الخبر، نحو "ما قائم زيد" أو دخل حرف الاستثناء نحو "ما زيد إلا قائم" لأنه لا يحسن دخول الباء معهما؛ فلا يقال "ما بقائم زيدٌ، وما زيدٌ إلا بقائم" فدلّ ذلك على ما قلناه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن "ما" تنصب الخبر وذلك

_ 1 انظر في هذه المسألة: أسرار العربية للمؤلف "ص59" وتصريح الشيخ خالد "2/ 236" وكتاب سيبوبه "1/ 28" وحاشية الصبان على الأشموني "1/ 234 بولاق".

أن ما أشبهت ليس؛ فوجب أن تعمل عمل ليس، وعمل ليس الرفع والنصب ووجه الشبه بينها وبين ليس من وجهين؛ أحدهما: أنها تدخل على المبتدأ والخبر، كما أن ليس تدخل على المبتدأ والخبر، والثاني: أنها تنفي ما في الحال، كما أن ليس تنفي ما في الحال، ويُقَوِّي الشبه بينهما من هذين الوجهين دخول الباء في خبرها كما تدخل في خبر ليس؛ فإذا ثبت أنها قد اشبهت ليس من هذين الوجهين فوجب أن تجري مجراه؛ لأنهم يَجْرُون الشيء مِجْرَى الشيء إذا شابهه من وجهين، ألا ترى أن ما لا ينصرف لما أشبه الفعل من وجهين أُجْرِي مُجْرَاه في منع الجر والتنوين، فكذلك ههنا: لما أشبهت ما ليس من وجهين وجب أن تعمل عملها؛ فوجب أن ترفع الاسم وتنصب الخبر كليس على ما بيَّنَّا. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن القياس يقتضي أن لا تعمل" قلنا: كان هذا هو القياس، إلا أنه وجد بينها وبين ليس مشابهة اقتضت أن تعمل عملها، وهي لغة القرآن، قال الله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31] وقال تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] . قولهم "إن أهل الحجاز أعملوها لشبه ضعيف، فلم يَقْوَ أن تعمل في الخبر" قلنا: هذا الشبه قد أوجب لها أن تعمل عملها، وهي ترفع الاسم وتنصب الخبر، على أنا قد عملنا بمقتضى هذا الضعف؛ فإنه يبطل عملها إذا تقدم خبرها على اسمها، أو إذا دخل حرف الاستثناء، أو إذا فُصِلَ بينها وبين معمولها بأن الخفيفة، ولولا ذلك الضعف لوجب أن تعمل في جميع هذه المواضع. وأما دعواهم أن الأصل "ما زيد بقائم" فلا نسلم، وإنما الأصل عدمها، وإنما أدخلت لوجهين؛ أحدهما: أنها أُدْخِلَت توكيدًا للنفي، والثاني: ليكون في خبر ما بإزاء اللام في خبر إنَّ؛ لأن ما تنفي ما تثبته إن، فجعلت الباء في خبرها نحو "ما زيد بقائم" لتكون بإزاء اللام في نحو "إنَّ زيدًا لقائم" كما جعلت السين جواب لن، ألا ترى أنك تقول "لن يفعل" فيكون الجواب "سيفعل" وكذلك جعلت قد جواب لما، ألا ترى أنك تقول "لما يفعل" فيكون الجواب "قد فعل" ولو حذفت لما فقلت "يفعل" لكان الجواب "فعل" من غير قد؛ فدل على أن قد جواب لمَّا، فكذلك ههنا. وقولهم "إنه لما حذف حرف الخفض وجب أن يكون منصوبًا؛ لأن الصفات منتصبات الأنفس، فلما ذهبت أبقت خلفًا منها" قلنا: هذا فاسد؛ لأن الباء كانت في نفسها مكسورة غير مفتوحة، وليس فيها إعراب؛ لأن الإعراب لا يقع على حروف المعاني، ثم لو كان حذف حرف الخفض يوجب النصب كما زعموا لكان ذلك يجب في كل موضع يحذف فيه، ولا خلاف أن كثيرًا من الأسماء تدخلها.

حروف الخفض ولا تنتصب بحذفها، كقولك: كفى بالله شهيدًا، وكفي بالله نصيرًا" ولو حذفت حرف الخفض لقلت: كفى الله شهيدًا، وكفى الله نصيرًا، بالرفع، كما قال رجل من الأزد: [96] لما تَعَيَّا بالقَلُوصِ ورَحْلِهَا ... كفى الله كعبًا ما تَعَيَّا بِهِ كَعْبُ وقال عبد بني الحَسْحَاس: [97] عميرةَ وَدِّعْ إنْ تَجَهّزَتَ غاديًا ... كفى الشيبُ والإسلامُ للمرء ناهيا

_ [96] لم أعثر لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين، ولا عثرت له على سوابق أو لواحق، وتعيا -بوزن تقضى وتزكى- ومثله تعايا -مثل تغاضى وتقاضى- وأعيا -مثل أهدى وأبقى- وتقول: أعيا عليه الأمر، وتعيا، وتعايا؛ إذا بهظه وأثقله وأعجزه والقلوص -بفتح القاف- الناقة، ومحلّ الاستشهاد به قوله "كفى الله كعبا" فإن المؤلف قد زعم أن "كفى" في هذه العبارة هي التي يقترن فاعلها بالباء الزائدة غالبا، وقد يجيء فاعلها غير مقترن بالباء كما في هذا البيت والذي يليه، وهو انتقال نظر من المؤلف، وبيان ذلك أن "كفى" على ثلاثة أضرب: الأول: أن يكون بمعنى حسب، وهذه قصارة لا تتعدى وهي التي يغلب اقتران فاعلها بالباء الزائدة، نحو قوله تعالى: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} والثاني: أن تكون بمعنى وفى فتتعدَّى إلى اثنين، ولا يقترن فاعلها بالباء نحو قول الله تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} ونحو قوله سبحانه: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} والثالث: أن تكون بمعنى أجزأ وأغنى، فتتعدى إلى واحد ولا يقترن فاعلها بالباء الزائدة نحو قول الشاعر: قليل منك يكفيني، ولكن ... قليلك لا يقال له قليل وأنت إذا تأملت أدنى تأمل تبين لك أن "كفى" في البيت الذي استشهد به المؤلف من الضرب الثاني الذي تكون فيه بمعنى وفى وتتعدى إلى مفعولين، وهذه -كما قلنا لك- لا يقترن فاعلها بالباء الزائدة لا في الغالب ولا في القليل، وسبحان الذي تنزه عن السهو والغفلة، وانظر -بعد ذلك- شرح الشاهد 102 الآتي: [97] هذا البيت لسحيم عبد بني الحساس، وهو من شواهد ابن يعيش "ص1086 و 1148" والأشموني "رقم 736 بتحقيقنا" ومغني اللبيب "رقم 153 بتحقيقنا" وأوضح المسالك لابن هشام "رقم 379 وعميرة: اسم امرأة، وتجهزت: أي اتخذت جهاز سفرك وأعددته وهيأته، وغاديًا: اسم فاعل فعله غدا يغدو غدوًا -مثل سما يسمو سموًّا- وذلك إذا سار في وقت الغداة، والغداة -ومثلها الغدوة- الوقت من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ويروى في مكانه "غازيًا" وقوله "كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا، يروى أن عمر بن الخطاب سمع هذا البيت فقال: لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك، والاستشهاد بهذا البيت في قوله "كفى الشيب" حيث أسقط الباء من فاعل "كفى" التي هي فعل قاصر لا يتعدى إلى مفعول وتدل على معنى حسب، وسقوطها في هذه العبارة يدل على أن الباء ليست واجبة في فاعل هذا الفعل، بخلاف اقتران الباء بفاعل "أفعل" في التعجب نحو "أكرم بزيد، وأعظم به" فإنها لازمة لا يجوز سقوطها.

وقال الآخر: [98] أعان عليّ الدهر إذ حلَّ بَرْكُةُ ... كفى الدهر لو وَكّلْتَهُ بي كافيًا وكذلك قالوا "بحسبك زيد، وما جاءني من أحد" وقال الشاعر: [99] بحسبك أن قد سُدْتَ أَخْزَمَ كلَّها ... لكلِّ أناس سادةٌ ودعائمُ وقال الآخر: [100] بحسبك في القوم أن يعلموا ... بأنك فيهم غنيّ مضرّ

_ [98] لم أعثر لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين، وأعان عليّ الدهر: كان معه ينصره ويناوئني، وأصل البرك -بفتح الباء وسكون الراء- الإبل الكثيرة، أو الباركة، ومنه قول متمم بن نويرة: إذا شارف منهن قامت ورجعت ... حنينًا فأبكى شجوها البرك أجمعا والاستشهاد بالبيت في قوله "كفى الدهر كافيا" حيث جاء بالفعل كفى التي بمعنى حسب غير مقترن بالباء الزائدة على نحو ما أوضحناه لك في البيتين السابقين. [99] هذا البيت ثالث أربعة أبيات رواها أبو تمام في ديوان الحماسة، ولم يعزها ولا عزاها التبريزي ولا المرزوقي في شرحيهما، وحسبك: أي كافيك ومجزئك ومغنيك، وسدت: فعل ماضٍ من السيادة، وهي الرياسة، وأخزم: رهط حاتم، قال المرزوقي "ص1468": "والمعنى: كافيك أن ترأست على أخزم -وأخزم رهط حاتم- ثم أزرى برياسته وبهم فقال: ولكل طائفة من الناس رؤساء وعمد، وهذا يجرى مجرى الالتفات، كأنه بعد ما قال ذلك التلفت إلى من حوله يؤنسهم ويقول: ليس ذا بمنكر فلكل قوم من يسوسهم ويدعمهم" ا. هـ. والاستشهاد بالبيت في قوله "بحسبك" حيث زيدت الباء في المبتدأ الذي هو حسب الذي بمعنى كافيك، وخبره هو المصدر المؤول من أن المخففة وما وليها، وكأنه قال: كافيك سيادتك أخزم كلها، والباء لا تزاد في المبتدأ إلا أن يكون المبتدأ هو لفظ حسب، ولهذا البيت نظائر كثيرة في النثر، والنظم، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام "بحسب المرء إذا رأى منكرًا لا يستطيع له تغيرًا أن يعلم الله أنه له منكر" وقوله "بحسب امرئ من الإيمان أن يقول: رضيت بالله ربًّا، وبمحمد رسولًا، وبالإسلام دينًا" وقوله صلوات الله عليه: "بحسب امرئ من الشر أن يشار إليه بالأصباع في دين أودنيا إلا من عصمه الله" وفي مثل من أمثال العرب "بحسبها أن تمتذق رعاؤها". [100] هذا البيت من كلام الأشعر الرقبان الأسدي -وهو أحد شعراء الجاهلية- يهجو ابن عمه واسمه رضوان، وقد رواه ثاني أربعة أبيات ابن منظور في لسان العرب "ض ر ر" وأنشده ابن يعيش "ص1086 و 1190" وأنشده الميداني في مجمع الأمثال "1/ 66 بتحقيقنا" والمضر -بضم الميم وكسر الضاد- الذي يروح عليه ضرة من المال، والضرة -بفتح الضاد وتشديد الراء- الكثير من المال، وقيل: هو الكثير من المشاية خاصة، والاستشهاد بالبيت في قوله "بحسبك أن يعلموا" ومعناه كافيك علم القوم، وذلك حيث زاد الباء في =

وقال الآخر: [101] وقفت فيها أُصَيْلَانًا أُسَائِلُها ... أعيتْ جوابًا، وما بالرّبْعِ من أحَدِ وقال الأخر: [102] ألا هل أتاها والحوادث جَمَّةٌ ... بأن امرأ القيس بْنَ تَمْلِكَ بَيْقَرَا

_ = المبتدأ الذي هو لفظ حسب، على نحو ما ذكرناه في الشواهد السابق، وانظر في هذا الموضوع بحثًا وافيًا لنا في شرحنا على شرح الأشموني "1/ 237". [101] هذا البيت من كلام النابغة الذبياني من قصيدته التي مطلعها: يا درا مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد وقوله "وقفت فيا أصيلانًا" الأصيلان: تصغير الأصلان الذي هو جمع أصيل، والأصيل: هو الوقت قريب غروب الشمس، ويروى في مكان هذا "وقفت فيها أصيلاكي أسائلها" كما يروى "وقفت فيها طويلا" وقوله "أعيت جوابا" يروى في مكانه "عيت جوابًا" بتضعيف الياء، والمراد على كل حال أنها عجزت عن الجواب ولم تجب عما سألها عنه، والربع: الدار، أو هو خاص بما ينزل فيه القول أيام الربيع، والاستشهاد بالبيت في قوله "وما بالربع من أحد" فإن هذه جملة من مبتدأ وخبر، أما الخبر فهو الجار والمجرور المقدم الذي هو قوله "بالربع" وأما المبتدأ فهو قوله "أحد" وقد أدخل على هذا المبتدأ من الزائدة، ونظير ذلك قول الله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} وقوله جلت كلمته: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيشْفَعُوا لَنَا} وقول وجيه بنت أوس الضبية: وما لي إن أحببت أرض عشيرتي ... وأبغضت طرفاء القصيبة من ذنب فإن قولها "ذنب" في آخر البيت مبتدأ دخلت عليه "من" الزائدة، وخبره هو الجار والمجرور في أول البيت الذي هو قولها "لي" ونظير ذلك قول شاعر الحماسة: وما لي من ذنب إليهم علمته ... سوى أنني قد قلت: يا سرحة اسلمي و"من" تزاد على المبتدأ بشرطين: الأول: أن يكون المبتدأ نكرة، والثاني: أن يتقدم عليها نفي أو استفهام بهل خاصة، وهذان الشرطان مستكملان فيما ذكرنا لك من الشواهد، وانظر بحثًا مستفيضًا لنا في شرحنا على شرح الأسموني "1/ 240". [102] قد استشهد بهذا البيت الزمخشري في المفصل وابن يعيش في شرحه "ص1086" والرضي في شرح الكافية، وشرحه البغدادي "ص1/ 161" وابن جني في شرح تصريف المازني "1/ 84" وابن منظور في لسان العرب "ب ق ر" وكل واحد منهم نسبة إلى امرئ القيس، وقد راجعت نسخ ديوان امرئ القيس بن حجر الكندي برواية الأصمعي وشرح الأعلم الشنتمري فلم أجد هذا البيت في قصيدته التي مطلعها: سما لك شوق بعد ما كان أقصرا ... وحلت سليمى بطن قوفعرعرا ولكنني وجدته في زياداته التي زادها الطوسي والسكري وابن النحاس في هذه القصيدة وقوله "بيقرا" مأخوذ من قولهم "بيقر الرجل" إذا هاجر من أرض إلى أرض، أو خرج إلى حيث لا يدري، أو نزل الحضر وأقام هناك وترك قومه بالبادية، وخص بعضهم به العراق =

وإذا حذفوا حرف الخفض قالوا "حسبك زيد، وما جاءني أحد" بالرفع لا غير، وكذلك جميع ما جاء من هذا النحو، ولو كان كما زعموا لوجب أن يكون منصوبًا؛ فلما وقع الإجماع على وجوب الرفع دلّ على فساد ما ادَّعُوه، والله أعلم.

_ = قال ابن منظور وفي شرح المفصل "وقيل: إذا ذهب إلى الشام" ا. هـ، وقال ابن منظور بعد أن ذكر هذه المعاني كلها "وقول امرئ القيس يحتمل جميع ذلك" ا. هـ. والاستشهاد بالبيت في قوله "بأن امرأ القيس ... إلخ" فإن المصدر المنسبك من أن المؤكدة واسمها وخبرها في موضع رفع على أنه فاعل أتى في قوله "أتاها" وقد زاد الباء في هذا الفاعل وزيادة الباء في الفاعل على ثلاثة أضرب: الأول: زيادة واجبة، وذلك في فاعل أفعل في التعجب نحو أجمل بكرم الأخلاق، والثاني: زيادة غالبة، وذلك في فاعل كفى القاصر الذي بمعنى حسب، وقد أوضحنا ذلك في شرح الشاهد رقم 96، والثالث: زيادة شاذة كما في الشاهد الذي نحن بصدد شرحه وكما في قول قيس بن زهير العبسي وهو الشاهد رقم 17 السابق: ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد

مسألة القول في تقديم معمول خبر ما النافية عليها

20- مسألة: [القول في تقديم معمول خبر"ما" النافية عليها] ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز "طَعَامَكَ ما زيدٌ آكِلًا" وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز. وذهب أبو العباس أحمد بن يحيى ثَعْلَب من الكوفيين إلى أنه جائز من وجه فاسد من وجه؛ فإن كانت "ما" ردًا لخبر كانت بمنزلة لم ولا يجوز التقديم، كما تقول لمن قال في الخبر "زيد أكل طعامك" فترد عليه نافيًا "ما زيد آكلًا طعامك" فمن هذا الوجه يجوز التقديم؛ فتقول "طعامك ما زيد آكلًا" فإن كان جوابًا للقسم إذا قال "والله ما زيد بآكل طعامك" كانت بمنزلة اللام في جواب القسم؛ فلا يجوز التقديم. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما جوزنا ذلك لأن ما بمنزلة لم ولن ولا؛ لأنها نافية كما أنها نافية، وهذه الأحرف يجوز تقديم معمول ما بعدها عليها، نحو "زيدًا لم أضرب، وعمرا لن أُكْرِم، وبشرًا لا أُخْرِجُ" فإذا جاز التقديم مع هذه الأحرف فكذلك مع ما. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن "ما" معناها النفي، ويليها الاسم والفعل؛ فأشبهت حرف الاستفهام، وحرف الاستفهام لا يعمل ما بعده فيما قبله، فكذلك ههنا: "ما" لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن ما بمنزلة لم ولن ولا" قلنا لا نسلم؛ لأن "ما" يليها الاسم والفعل، وأما لم ولن فلا يليهما إلا الفعل؛ فصارا بمنزلة بعض الفعل، بخلاف ما فإنها يليها الاسم والفعل، وأما لا فإنما جاز التقديم معها وإن كانت يليها الاسم والفعل لأنها حرف متصرف فعمل ما قبله فيما بعده، ألا ترى أنك تقول: "جئت بلا شيء" فيعمل ما قبله فيما بعده؛ فإذ جاز أن يعمل ما قبله فيما بعده جاز أن يعمل ما بعده فيما قبله، فَبَانَ الفرق بينهما. وأما ما ذكره أبو العباس ثَعْلَب من التفصيل -من أنه إذا كانت ردًّا لخبر جاز التقديم، وإن كانت جوابًا للقسم لم يجز- ففاسد؛ لأن ما في كلا القسمين نافية؛ فينبغي أن لا يجوز التقديم فيهما جميعا؛ لما بيَّنَّا، والله أعلم.

مسألة القول في تقديم معمول الفعل المقصور عليه

21- مسألة: [القول في تقديم معمول الفعل المقصور عليه] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز "ما طعامك أكل إلا زيدٌ". وذهب البصريون إلى أنه يجوز، وإليه ذهب أبو العباس أحمد بن يحيى ثَعْلَب من الكوفيين. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن الأصل في"زيد" أن لا يكون هو الفاعل، وإنما الفاعل في الأصل محذوف قبل إلَّا؛ لأن التقدير فيه: ما أكل أحد طعامك إلا زيدٌ، والذي يدل على ذلك قولهم "ما خرج إلا هند، وما ذَهَبَ إلا دعدٌ" ولو كان الفعل لدعد وهند في الحقيقة لأثبتوا فيه علامة التأنيث؛ لأن الفاعل مؤنث حقيقي، فلما لم يثبتوا في الفعل علامة دلّ على أن الفاعل هو "أحد" المحذوف، ويدل عليه أيضًا، أن "إلا" بابها الاستثناء، والاستثناء يجب أن يكون من الجملة، ولا بُدّ أن يقدر قبلها ما يصحّ أن يكون الذي بعدها مستثنى منه؛ فوجب أن يكون التقدير: ما أكل أحد طعامك إلا زيد، إلا أنه اكتفى بالفعل من "أحد" فصار بمنزلته، والاسم لا يتقدم صلته عليه، ولا يفرق بينها وبينه، فكذلك الفعل الذي قام مقامه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما جوزنا ذلك لأن "زيد" مرفوع بالفعل، والفعل متصرف؛ فجاز تقديم معموله عليه كقولهم "عمرًا ضَرَبَ زيدٌ" وكذلك سائر الأفعال المتصرفة. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن الأصل ألا يكون زيد هو الفاعل؛ لأن التقدير؛ ما أكل أحد طعامك إلا زيدًا" قلنا: لا نسلم أن "أحدًا" مقدَّر من جهة اللفظ، وإنما هو مقدر من جهة المعنى، كما أن المعنى يدل على أن

_ 1 انظر في هذه المسألة: تصريح الشيخ خالد "1/ 342" وحاشية الصبان على الأشموني "2/ 44 وما بعدها".

"عَرَقًا" في قولهم "تصبب زيد عرقًا" فاعل معنى، وإن لم يكن فاعلًا لفظًا، ولهذا لم تثبت علامة التأنيث في قولهم "ما خرج إلا هند، وما ذهب إلا دعد" وما أشبه ذلك، على أنه قد حذف علامة التأنيث الحقيقي مع الفصل في قولهم "حَضَرَ القاضي اليوم امرأة" وقال الشاعر: [103] إن امرأ غرَّهُ منكنَّ واحدةٌ ... بعدي وبعدك في الدنيا لمغرورُ وقال الآخر: [104] لقد وَلَدَ الأخيطل أُمُّ سَوْءٍ ... على قِمْعِ اسْتِهَا صُلُبٌ وَشَامُ فقال "ولد" ولم يقل "ولدت". وأما قولهم "إنه اكتفى بالفعل من أحد" قلنا: لا نسلم أن الفعل اكتفى به من الاسم؛ لأن الفعل لا بُدّ له من فاعل، وإنما الاسم بعد "إلا" قام مقامه واكتفى به منه؛ لأنه لما حذف المستثنى منه قبل "إلا" قام ما بعد "إلا" حين حذفته مقامه، كما يقوم المفعول مقام الفاعل إذا حذف نحو "ضُرِب زيد، وأُعْطِي عمرو درهمًا،

_ [103] هذا البيت من شواهد الأشموني "رقم 365" وقد استشهد به ابن الناظم في باب الفاعل من شرحه على ألفية والده ابن مالك، وابن هشام في شرح شذور الذهب "رقم 79" وقد ذكر العيني أنه من شواهد سيبويه، ولكني بحثت كتاب سيبويه من أوله إلى آخره فلم أجد فيه. والاستشهاد بهذا البيت في قوله "غرة واحدة" حيث لم يصل تاء التأنيث بالفعل الذي هو "غرة" مع أن فاعله -وهو قوله "واحدة"- مؤنث حقيقي التأنيث؛ فإنه في الأصل صفة لموصوف محذوف، وتقدير الكلام: غرة منكن امرأة واحدة، والأصل في الفاعل الحقيقي التأنيث أن تلزم في فعله التاء، والذي جرأ هذا الشاعر على حذف التاء هو الفصل بين الفعل وفاعله بالمفعول الذي هو الضمير المتصل وبالجار والمجرور -وهو قوله "منكن"- وهذا مما يجيزه جماعة من النحاة منهم ابن مالك الذي يقول في الألفية: وقد يبيح الفصل ترك التاء في ... نحو "أتى القاضي الواقف" [104] هذا البيت من قصيدة طويلة لجرير بن عطية بن الخطفي يهجو فيها الأخطل التغلبي وقومه، وهو من شواهد الأشموني "رقم 364" وأوضح المسالك "رقم 213" والأخيطل: تصغير الأخطل، وأصل الأخطل وصف بمعنى الفحاش الكثير الخطل، ثم لقب به الشاعر المشهور؛ وقوله "على قمع استها" يروى في مكانه" على باب استها" والصلب -بضم الصاد واللام جميعًا- جمع صليب، ووزانه وزان سرير وسرر "وشام" جمع شامة، وهي العلامة، والاستشهاد به في قوله "ولد الأخيطل أم سوء" فإن هذه جملة من فعل ماضٍ هو "ولد" وفاعل مؤنث وهو "أم" ولم يصل به تاء التأنيث، وقد علم أن الفعل الذي يسند إلى فاعل مؤنث حقيقي التأنيث يجب أن يؤنث لفظ الفعل بأن توصل به التاء التي للتأنيث إذا كان ماضيًا، لكنه ترك التاء في هذه الجملة لكون الفعل قد فصل بينه وبين فاعله بالمفعول الذي هو قوله "الأخيطل" وقد بيَّنَّا مثل ذلك في الشاهد السابق.

وكُسِيَ عمرو قميصًا" وما أشبه ذلك، وهذا لا يوجب أن يجري الفعل مجرى الاسم في امتناع تقديم معموله عليه، ألا ترى أنك تقول: "درهمًا أُعْطِيَ زيد، وقميصًا كُسِيَ عمرو ". ثم لو سلمنا أن الأمر على ما زعمتم فالفعل إنما جاز تقديم معموله عليه لتصرفه في نفسه، وهذا المعنى الذي ادَّعيتموه، لم يوجب تغير الفعل عن تصرفه في نفسه؛ فينبغي أن يجوز تقديم معموله عليه كسائر الأفعال المتصرفة، والله أعلم.

مسألة القول في رافع الخبر بعد إن المؤكدة

22- مسألة: "القول في رافع الخبر بعد "إنَّ" المؤكدة" 1 ذهب الكوفيون إلى أن "إنَّ" وأخواتها لا ترفع الخبر، نحو "إنَّ زيدًا قائم" وما أشبه ذلك. وذهب البصريون إلى أنها ترفع الخبر. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: أجمعنا على أن الأصل في هذه الأحرف أن لا تنصب الاسم، وإنما نصبته لأنها أشبهت الفعل؛ فإذا كانت إنما عملت لأنها أشبهت الفعل فهي فَرْعٌ عليه، وإذا كانت فرعًا عليه فهي أضعف منه؛ لأن الفرع أبدًا يكون أضعف من الأصل؛ فينبغي أن لا يعمل في الخبر، جريًا على القياس في حَطّ الفروع عن الأصول؛ لأنا لو أعملناه عَمَلَه لأدَّى ذلك إلى التسوية بينهما، وذلك لا يجوز؛ فوجب أن يكون باقيًا على رفعه قبل دخولها. والذي يدلُّ على ضعف عملها أنه يدخل على الخبر ما يدخل على الفعل لو ابتدئ به، قال الشاعر: [105] لا تَتْرُكَنِّي فيهم شَطِيرًا ... إني إذن أَهْلِكَ أو أَطِيرَا

_ [105] لم أعثر لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين، وقد أنشده ابن منظور "ش ط ر" ولم يعزه، وأنشده الرضي في شرح الكافية في نواصب المضارع، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 573" والأشموني "رقم 1013"وابن هشام في المغني "رقم 21" وفي أوضح المسالك "رقم 496"". والشطير -بفتح الشين- مثل الغريب والبعيد في الوزن وفي المعنى، وأهلك: معناه أموت، وأطير: معناه الأصلي أذهب بعيدًا، أو أحلّق في الجو. والاستشهاد به في قوله "إني إذن أهلك" حيث نصب الفعل المضارع الذي هو قوله "أهلك" بعد إذن الذي هو حرف جواب، مع أن إذن في ظاهر اللفظ غير واقعة في صدر الكلام، بل هي مسبوقة بإني، وقد أخذ جماعة من النحاة بظاهر اللفظ وحكموا بأن جملة "إذن أهلك" في محلّ رفع خبر إن، وقالوا: إن نصب المضارع بعد إذن هنا ضرورة من =

فنصب بـ "إذن". والذي يدل على ذلك أيضًا أنه إذا اعترض عليها بأدنى شيء بطل عملها واكتفى به، كقولهم "إن بك يَكْفُلُ زيدٌ" كأنها رضيت بالصفة لضعفها، وقد روي أن ناسًا قالوا: "إن بك زيد مأخوذٌ" فلم تعمل "أن" لضعفها؛ فدلَّ على ما قلناه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن هذه الأحرف تعمل في الخبر، وذلك لأنها قويت مشابهتها للفعل؛ لأنها أشبهته لفظًا ومعنًى، ووجه المشابهة بينهما من خمسة أوجه؛ الأول: أنها على وزن الفعل، والثاني: أنها مبنية على الفتح كما أن الفعل مبنيّ على الفتح، والثالث: أنها تقضي الاسم كما أن الفعل يقتضي الاسم، والرابع: أنها تدخلها نون الوقاية نحو "إنني، وكأنني" كما تدخل على الفعل نحو "أعطاني، وأكرمني" وما أشبه ذلك. والخامس: أن فيها معنى الفعل؛ فمعنى "إن، وأن" حَقَّقْتَ، ومعنى "كأن" شبهت، ومعنى "لكن" استدركت، ومعنى "ليت" تمنيت، ومعنى "لعل" ترجيت، فلما أشبهت الفعل من هذه الأوجه وجب أن تعمل عمل الفعل، والفعل يكون له مرفوع ومنصوب، فكذلك هذه الأحرف ينبغي أن يكون لها مرفوع ومنصوب؛ ليكون المرفوع مشبهًا بالفاعل والمنصوب مشبهًا بالمفعول، إلا أن المنصوب ههنا قُدِّم على المرفوع لأن عمل "إنَّ" فرعٌ، وتقديم المنصوب على المرفوع فرع؛ فألزموا الفرع الفرع، أو لأن هذه الحروف لما أشبهت الفعل لفظًا ومعنًى ألزموا فيها تقديم المنصوب على المرفوع ليعلم أنها حروف أشبهت الأفعال، وليست أفعالًا، وعدم التصرف فيما لا يدل على الحرفية؛ لأن لنا أفعالا لا تتصرف؛ نحو "نعم، وبئس، وعسى، وليس، وفعل التعجب، وحبذا" وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن هذه الأحرف إنما نصبتْ لشبه الفعل؛ فينبغي أن لا تعمل في الخبر؛ لأنه يؤدي إلى التسوية بين الأصل والفرع" قلنا: هذا يبطل باسم الفاعل؛ فإنه إنما عَمِلَ لشبه الفعل، ومع هذا فإنه

_ = ضرورات الشعر، فإما المحققون من النحاة فقد أجروا نصب المضارع في هذا البيت على القياس، وذكروا أن شرط النصب متحقق، وأن "إذن" واقعة في صدر الجملة، وبيان ذلك أن خبر أن محذوف، وأن جملة "إذن أهلك" مستأنفة وتقدير الكلام: إني لا أستطيع ذلك إذن أهلك أو أطير، وقد ذكر الفراء في عدة مواضع من تفسيره أن "إذن" إذا وقعت بعد "إن" ووقع بعدها مضارع جاز في هذا المضارع الرفع والنصب، وأن كل واحد منهما لغة من لغات العرب، وأن ذلك مختص بوقوعها بعد إن، وقد ذكر المؤلف في ردّه تقدير خبر إن محذوفًا.

يعمل عَمَلَه، ويكون له مرفوع ومنصوب كالفعل، تقول: زيدٌ ضارب أبوه عمرًا، كما تقول: يضرب أبوه عمرًا. والذي يدل على فساد ما ادَّعيتموه من ضعف عملها أنها تعمل في الاسم إذا فصلت بينها وبينه بظرف أو حرف جر، نحو قوله تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا} [المزمل: 112] و {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [البقرة: 148] وما أشبه ذلك، على أنا قد عملنا بمتقضى كونها فرعًا، فإنا ألزمناها طريقة واحدة، وأوجبنا فيها تقديم المنصوب على المرفوع، ولم نُجَوِّز فيها لوجهين كما جوزنا مع الفعل؛ لئلا يجري مجرى الفعل فيُسَوَّى بين الأصل والفرع، وكان تقديم المنصوب أولى ليفرق بينها وبين الفعل؛ لأن الأصل أن يذكر الفاعل عقيب الفعل قبل ذكر المفعول، فلما قدم ههنا المنصوب وأخر المرفوع حصلت مخالفة هذه الأحرف للفعل وانحطاطها عن رتبته. وقولهم "إن الخبر يكون باقيًا على رفعه قبل دخولها" فاسد، وذلك لأن الخبر على قولهم مرفوع بالمبتدأ، كما أن المبتدأ مرفوع به؛ فهما يترافعان، ولا خلاف الترافع قد زال بدخول هذه الأحرف على المبتدأ ونصبها إياه؛ فلو قلنا "إنه مرفوع بما كان يرتفع به قبل دخولها مع زواله" لكان ذلك يؤدي إلى أن يرتفع الخبر بغير عامل، وذلك محال. وأما قولهم "الدليل على ضعف عملها أنه يدخل على الخبر ما يدخل على الفعل أو ابتدئ به كقول الشاعر: [105] إني إذن أهلك أو أطيرا قلنا: الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن هذا شاذ؛ فلا يكون فيه حجة، والثاني: أن الخبر ههنا محذوف، كأنه قال: لا تتركني فيهم غريبًا بعيدًا، إني أذلُّ إذن أهلك أو أطيرا، وحذف الفعل الذي هو الخبر؛ لأن في الثاني دلالة على الأول المحذوف، فإذن ما دخلت على الخبر، والثالث: أن يكون جعل 84 "إذن أهلك أو أطيرا" في موضوع الخبر، كقولك "إنِّي لن أذهب" فشبَّه إذن بلن، وإن كانت لن لا يلغى في حال بخلاف إذن. وأما قولهم "إن بك يكفل زيد" وإن بك زيد مأخوذ" فالتقدير فيه: إنه بك يكفل زيد، وإنه بك زيد مأخوذ، كما قال الراعي: [106] فلو أن حُقَّ اليوم منكم إقامةٌ ... وإنَّ كان سَرْحٌ قد مضى فَتَسَرَّعَا

_ [106] هذا البيت للراعي كما قال المؤلف، وقد أنشده سيبويه "1/ 439" وكذلك أنشده ابن منظور "س ر ح" وأنشده البغدادي في الخزانة "4/ 381" نقلًا عن ابن عصفور في كتاب =

أراد فلو أنه حُقَّ، ولو لم يرد الهاء لكان الكلام محالًا، وقال الأعشى: [107] إنَّ من لام في بني بِنْتِ حَسّا ... ن أَلُمْهُ وأَعْصِهِ في الخُطُوبِ

_ = الضرائر، و "لو" ههنا للتمني، وحق: أي ثبت، و "سرح" في هذا البيت اسم رجل، والاستشهاد بالبيت في قوله "ولو أن حق اليوم منكم" حيث وقع الفعل الماضي -الذي هو قوله "حق"- بعد إن المؤكدة الناصبة للاسم الرافعة للخبر، في ظاهر اللفظ، ولو أبقى الكلام على ظاهرة لكان كلامًا فاسدًا؛ لأن "إن" المشددة وأخواتها مختصة بالدخول على الجمل الاسمية وأن تعمل فيها النصب والرفع، إلا إذا اقترنت بهن "ما" فإن اقترنت بهن "ما" جاز دخولها على الجمل الفعلية. ولم تقترن "ما" بإن في هذا البيت، فوجب أن يكون ثمه محذوف يقدر دخول إن عليه لكي يصح الكلام، وقد قدر بعض العلماء أن المحذوف في هذا البيت ضمير الشأن والقصة، وعلى هذا يكون تقدير الكلام: ولو أنه "أي الحال والشأن" حق اليوم منكم إقامة، فيكون اسم إن هو هذا الضمير وخبرها هو الجملة الفعلية، وقدره جماعة آخرون ضمير خطاب، وعلى هذا يكون أصل الكلام: ولو أنكم حق اليوم منكم إقامة، والعلماء يجعلون التقدير الثاني خيرًا من التقدير الأول: ونظير هذا البيت قول الشاعر، وهو من شواهد الرضي: كأن على عرنينه وجبينه ... أقام شعاع الشمس أو طلع البدر أراد كأنه "أي الحال والشأن" أقام على عرنينه وجبينه شعاع الشمس، ومثلهما قول الآخر: فلا تشتم المولى وتبلغ أذاته ... فإن به تثأى الأمور وترأب أراد فإنه "أي الحال والشأن" تثأى به الأمور -أي تصلح-وترأب، ونظير ذلك البيتان الآتيان برقمي 110 و 111. [107] هذا البيت من كلام الأعشى ميمون بن قيس من قصيدة يمدح فيه أبا الأشعث بن قيس الكندي، وهو من شواهد سيبويه "1/ 439" وشواهد الرضي في شرح الكافية، وقد شرحه البغدادي في الخزانة "3/ 463" وشواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص435 أوروبة" وحسان: أحد تبابعة اليمن، والاستشهاد بالبيت في قوله "إن من لام ... إلخ" فإن "من" التي دخلت عليها "إن" في هذا البيت شرطية تطلب فعلين أحدهما فعل الشرط والثاني جوابه وجزاؤه؛ والدليل على أنها شرطية أن الجواب الذي هو قوله "ألمه" وما عطف عليه مجزومان، ومن المعلوم أن أسماء الشرط لها صدر الكلام، نعني أنه لا يجوز أن تقع إلا في أول الجملة التي هي منها، وعلى هذا لا يجوز أن تكون "من" هذه اسمًا لأن، وقد خرج العلماء هذا الكلام على تقدير ضمير الشأن والحال، وعلى أن يكون هذا الضمير المقدر هو اسم إن، وتكون "من" الشرطية مبتدأ، وخبره هو جملة الشرط وحدها أو جملة الجواب وحدها أو الجملتان معًا، ونحن نرجح الثالث، وجملة المبتدأ والخبر في محلّ رفع خبر إن. ونظير هذا البيت قول الأخطل التغلبي: إن من يدخل الكنيسة يومًا ... يلقَ فيها جآذرا وضباء والتقدير فيه: إنه "أي الحال والشأن" من يدخل الكنيسة إلخ.

وقال أُمَيَّةَ بن أبي الصَّلْتِ: [108] ولكنَّ من لا يَلْقَ أمرًا يَنُوبُهُ ... بِعُدَّتِهِ يَنْزِلْ به وهو أَعْزَلُ وقال الآخر: [109] فلو كنت ضبِّيًّا عَرَفْتَ قَرَابَتِي ... ولكنِّي زنجيّ عظيم المَشَافِر

_ = هذا وبيت الأعشى يروى: من يلمني على بني بنت حسان وهذا هو الموجود في ديوانه، وعلى هذا لا يكون في البيت شاهد لما جاء به المؤلف من أجله. [108] هذا البيت كما قال المؤلف لأمية بن أبي الصلت، وهو من شواهد سيبويه "1/ 439" وينوبه: مضارع نابه الأمر، أي نزل به، والأعزل: الذي ليس معه سلاح. يقول: من لم يتخذ لنوازل الدهر العدة قبل أن تنزل به، فإنها ستدهمه وتنزل به في الوقت الذي لا يكون معه من عدد الدفاع شيء فلا ينجو منها، يرغب في أن يتبصر الإنسان العواقب ويهيّئ نفسه لملاقاة المصاعب وهو قادر على حلّها. والاستشهاد بالبيت في قوله "ولكن من لا يلق أمرا ... إلخ" فإن "من" في هذا الكلام شرطية، بدليل أنها جزمت الشرط الذي هو قوله "يلق" بحذف الألف وجزمت الجواب إلى هو قوله "ينزل به" بالسكون، وقد علمنا أن أسماء الشرط لا يعمل فيها ما قبلها، نعني أنها لا بُدّ أن تتصدر جملتها فلا يتقدم عليها شيء من جملتها ولا العامل فيها، وقد تقدم على "من" الشرطية في هذا البيت "لكن" ومن أجل هذا قال العلماء: إن اسم لكن في هذا البيت ضمير الشأن محذوفًا، وإن "من" مبتدأ خبره ما بعده على ما بيَّنَّاه في شرح الشاهد السابق، وجملة المبتدأ والخبر في محلّ رفع خبر لكن، وعلى هذا تكون "من" واقعة في صدر جملتها نظير ما ذكرناه في الشاهد 107. [109] هذا البيت من كلام الفرزدق همام بن غالب بن صعصعة، وقد أنشده ابن منظور "ش ف ر" وسيبويه "1/ 282" ورضي الدين في باب إن وأخواتها من شرح الكافية، وهو باب الحروف المشبهة بالفعل، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 378" ورواه ابن يعيش في شرح المفصل "ص1138" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 486" وكلهم يروي قافيته على الوجه الذي رواها المؤلف عليه، والصواب في إنشاده: فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ... ولكن زوجيًّا غلاظًا مشافره والمشفر -بوزن المنبر أو المقعد- للبعير مثل الشفة للإنسان، والاستشهاد بالبيت على الرواية التي ذكرها النحاة في قوله "ولكن زنجي" حيث حذف اسم لكن، وهو غير ضمير الشأن، والتقدير: ولكنك زنجي غليظ المشافر، وحذف اسم لكن وأخواتها لا يجوز إلا أن يكون هذا ضمير الشأن، والاسم المقدر في هذا البيت ضمير المخاطب على ما عرفت، ولهذا رأى العلماء أن الحذف في هذا البيت ضرورة، وقد رواه ابن منظور "ولكن زنجيا" بالنصب فيكون المحذوف هو خبر لكن، والتقدير: ولكن زنجيا عظيم المشافر لا =

وقال الآخر: [110] فَلَيْتَ دفعتَ الهمَّ عنِّي ساعةً ... فَبِتْنَا على ما خَيَّلَتْ نَاعِمِي بَالِ

_ = يعرف قرابتي، قال الأعلم: الشاهد فيه رفع زنجي على الخبر، وحذف اسم لكن ضرورة، والتقدير: ولكنك زنجي، ويجوز نصب زنجي بلكن على إضمار الخبر، وهو أقيس، والتقدير: ولكن زنجيًّا عظيم المشافر لا يعرف قرابتي" ا. هـ كلامه. ونظير هذا البيت ما أنشده سيبويه: فما كنت ضفاطًا، ولكن طالبًا ... أناخ قليلًا فوق ظهر سبيل والضفاط: الذي يقضي حاجته من جوفه، وهو أيضًا المسافر على الحمير من قرية إلى قرية، والطالب: الذي يطلب الإبل الضالة، كأنه نزل عن راحلته لأمر فظن قوم أنه يقضي حاجته، فقال ذلك. والاستشهاد به في قوله "ولكن طالبًا" حيث حذف خبر لكن وذكر اسمها، وتقدير الكلام: ولكن طالبا أناخ قليلًا أنا، قال سيبويه "النصب أجود؛ لأنه لو أراد إضمارًا لخفف ولجعل المضمر مبتدأ، كقولك: ما أنت صالحًا، ولكن طالح" ا. هـ، والكلام واضح إن شاء الله. ومثل هذا البيت قول الآخر وهو من شواهد الأشموني "رقم 141". فأما القتال لا قتال لديكم ... ولكن سيرًا في عراض المواكب التقدير: ولكن سيرًا في عراض المواكب لكم، مثلًا، ومن العلماء من يجعل التقدير: ولكنكم تسيرون سيرًا في عراض المواكب، ولا داعي له؛ لأنه يلزم عليه تكثير المحذوف، ومتى أمكن تقليل المحذوف كان هو الأمثل، ومثل قوله الآخر: فأما الصدور لا صدور لجعفر ... ولكن أعجازًا شديدًا صريرها تقديره على ما نرجح: ولكن لهم أعجازا إلخ. [110] أنشد ابن منظور "ب ول" عجز هذا البيت، ولم يعزه إلى قائل معين، والبال: الحال والشأن، ومحلّ الشاهد فيه قوله "فليت دفعت الهم" حيث وقع الفعل بعد ليت، وقد علمنا أن "ليت" من الأدوات المختصة بالدخول على الجمل الاسمية فتنصب المبتدأ وترفع الخبر، ومن أجل هذا جعل النحاة اسم ليت في هذا البيت محذوفًا، وتقدير الكلام: فليتك دفعت الهم إلخ؛ فيكون هذا الفعل مع فاعله جملة في محلّ رفع خبر ليت، ولا يكون الفعل واقعًا عند التحقيق بعد ليت؛ لأن الواقع بعد ليت هو اسمها المقدر، ويجوز أن يكون الضمير المحذوف هو ضمير الشأن والحال، وتقدير الكلام حينئذ: فليته "أي الحال والشأن" دفعت الهم إلخ، ولكن ما ذكرناه أولًا أمثل من هذا، للعلة التي ذكرناها في شرح الشواهد رقم 106، ومن العلماء من يجعل نظير هذا قول جميل بن معمر: ألا ليت أيام الصفاء جديد ... ودهر تولى بابثين يعود وذلك إذا رويت "أيام" بالرفع على الابتداء، وخبره قوله "جديد" فإن اسم ليت حينئذ يكون محذوفًا مقدرًا بضمير الشأن، وكأنه قال: ألا ليته "أي الحال والشأن" أيام الصفاء جديد، فاعرف ذلك.

وقال الآخر: [111] فليت كفافًا كان خَيْرُكَ كُلُّهُ ... وشَرُّكَ عني ما ارْتَوَى الماء مُرْتَوِي أراد "ليته" إن جعلت "كفافًا" خبر كان مقدمًا عليها، والتقدير فيه: ليته كان خيرك وشرك كفافًا عني، أومكفوفين عني؛ لأن الكفاف مصدر فيقع على الواحد والاثنين والجميع، كقولهم: رجل عَدْلٌ ورِضًا، ورجلان عَدْل ورِضًا، وقوم عدل ورضًا، وما أشبه ذلك، وإن جعلت "كفافًا" منصوبًا بليت لم يكن من هذا الباب، والأول أجود. والذي يدل على فساد ما ذهبوا إليه أنه ليس في كلام العرب عامل يعمل في الأسماء النصب إلا ويعمل الرفع؛ فما ذهبوا إليه يؤدي إلى ترك القياس ومخالفة الأصول لغير فائدة، وذلك لا يجوز، فوجب أن تعمل في الخبر الرفع كما عملت في الاسم النصب على ما بيَّنَّا، والله أعلم.

_ [111] هذا البيت من قصيدة جيدة ليزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي يقولها في عتاب ابن عمه عبد الرحمن بن عثمان بن أبي العاص، وقد روى هذه القصيدة أبو عليّ القالي في أماليه "1/ 68 ط دار الكتب" وأبو الفرج الأصبهاني في الأغاني "11/ 100 بولاق" والبغدادي في خزانة الأدب "1/ 496" نقلًا عن أبي عليّ الفارسي في المسائل البصرية، وقد استشهد الرضي بعد أبيات من هذه القصيدة، واستشهد بالبيت الذي استشهد به المؤلف ههنا في باب "الحروف المشبهة بالفعل" وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 390" والكفاف -بفتح الكاف بزنة السحاب-الذي لا يزيد عن قدر الحاجة، و "ما" مصدرية ظرفية، وارتوى: أراد به شرب، ومرتوي: اسم الفاعل من قولهم "ارتوى فلان" إذا طلب الري وذهاب العطش، ومحلّ الاستشهاد في البيت قوله "ليت كفافا كان خيرك" فإن هذه العبارة -على ما ذكر المؤلف - تحتمل وجهين: الأول: أن يكون قوله كفافًا خبر كان تقدم عليها وعلى اسمها جميعًا، وأصل الكلام: ليت كان خيرك كفافًا، وعلى هذا الوجه يكون الشاعر قد أولى "ليت" في الظاهر الفعل الذي هو كان، وقد علمنا أن "ليت" مختصة بالجمل الاسمية، ولهذا يجب على هذا الوجه تقدير اسم ليت إما ضمير شان وإما ضمير مخاطب؛ فعلى الأول يكون تقدير الكلام: ليت هو "أي الحال والشأن" كان خيرك كفافًا، وعلى الثاني يكون التقدير: فليتك كان خيرك كفافًا، والوجه الثاني: من الوجهين اللذين تحتملهما العبارة أن يكون قوله "كفافًا" اسم ليت، وجملة كان في محلّ رفع خبر ليت، واسم كان على هذا الوجه ضمير مستتر فيها يعود على كفاف، ويكون "خيرك" بالنصب على أنه خبر كان، وقوله "عني" على هذا الوجه جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من قوله "خيرك" أي: ليت كفافًا يكون "هو" خيرك منفصلًا عني، ولا يجوز لك أن ترفع "خيرك" على أنه فاعل كان وهي تامة، وتجعل "كفافًا" اسم ليت وخبرها جملة كان وفاعلها؛ لأن جملة كان حينئذ تصير خالية من رابط يربطها باسم ليت، فاعرف ذلك كله وتنبه له، وللعلماء في شرح هذا البيت كلام طويل أعرضنا عنه.

مسألة القول في العطف على اسم إن بالرفع قبل مجيء الخبر

23- مسألة: [القول في العطف على اسم "إنَّ" بالرفع قبل مجيء الخبر] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز العطف على موضع "إن" قبل تمام الخبر، واختلفوا بعد ذلك؛ فذهب أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي إلى أنه يجوز ذلك على كل حال، سواء كان يظهر فهي عمل "إن" أو لم يظهر، وذلك نحو قولك: "إن زيدًا وعمرو قائمان، وإنك وبكرٌ منطلقان". وذهب أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء إلى أنه لا يجوز ذلك إلا فيما لم يظهر فيه عمل إن. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز العطف على الموضع قبل تمام الخبر على كل حال. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على جواز ذلك النقل والقياس: أما النقل فقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِونَ والنَصَارَى} [المائدة: 69] وجه الدليل أنه عطف {الصَّابِئِونَ} على موضع "إن" قبل تمام الخبر -وهو قوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: من الآية62]- وقد جاء عن بعض العرب فيما رواه الثقات "إنَّك وزيد ذاهبان" وقد ذكره سيبويه2 في كتابه؛ فهذان دليلان من كتاب الله تعالى ولغة العرب. وأما من جهة القياس فقالوا: أجمعنا على أنه يجوز العطف على الموضع قبل تمام الخبر مع لا، نحو "لا رجلَ وامرأةٌ أفضلُ منك" فكذلك مع "إنَّ" لأنها بمنزلتها، وإن كانت إن للإثبات ولا للنفي؛ لأنهم يحملون الشيء على ضده كما يحملونه على نظيره، يدل عليه أنَّا أجمعنا على أنه يجوز العطف على الاسم بعد

_ 1 انظر في هذه المسألة: تصريح الشيخ خالد وحاشية يس الحمصي عليه "1/ 272 وما بعدها" وشرح الأشموني بحاشية الصبان "1/ 265 وما بعدها" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص1122-1127" وشرح الكافية لرضي الدين "2/ 327-330". 2 قال سيبويه "واعلم أن ناسا من العرب يغلطون فيقولون: إنهم أجمعون ذاهبون، وإنك وزيد ذاهبان "فذكر سيبويه لهذا المثال لا يدل على جوازه، وكيف يدل على ذلك وهو ينص على غلطة؟ وسيذكر ذلك المؤلف في ص191".

تمام الخبر، فكذلك قبل تمام الخبر؛ لأنه لا فرق بينهما عندنا، وأنه قد عرف من مذهبنا أن "إنَّ" لا تعمل في الخبر لضعفها، وإنما يرتفع بما كان يرتفع به قبل دخولها، فإذا كان الخبر يرتفع بما كان يرتفع به قبل دخولها؛ فلا إحالة إذن؛ لأنه إنما كانت المسألة تَفْسُدُ أنْ لو قلنا إن "إن" هي العاملة في الخبر فيجتمع عاملان فيكون محالًا، ونحن لا نذهب إلى ذلك؛ فصحَّ ما ذهبنا إليه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن ذلك لا يجوز أنك إذا قلت "إنك وزيدٌ قائمأن" وجب أن يكون "زيد" مرفوعًا بالابتداء، ووجب أن يكون عاملا في خبر "زيد" وتكون "إن" عاملة في خبر الكاف، وقد اجتمعا في لفظ واحد؛ فلو قلنا "إنه يجوز فيه العطف قبل تمام الخبر" لأدَّى ذلك إلى أن يعمل في اسم واحد عاملان، وذلك محال. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِونَ} [المائدة: 69] فلا حجة لهم فيه من ثلاثة أوجه: أحدها: أنا نقول: في هذه الآية تقديم وتأخير، والتقدير فيها: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون والنصارى كذلك، كما قال الشاعر: [112] غَدَاةَ أحلَّت لابن أَصْرَمَ طَعْنَةٌ ... حُصَيْنٍ عَبِيطَاتِ السَّدَائِفِ والخَمْرُ

_ [112] هذا البيت من كلام الفرزدق، وقد استشهد به ابن يعيش في شرح المفصل "ص1127" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 205 بتحقيقنا"، وابن أصرم: هو حصين كما سيذكره بعد، والعبيطات: جمع عبيطة -بفتح العين- وهي القطعة من اللحم الطري غير النضيج، والسدائف: جمع سديف، وهو السنام، ومحلّ الاستشهاد في قوله "والخمر". واعلم أولًا أن قوله "أحلت لابن أصرم طعنة عبيطات السدائف والخمر" يروى على وجهين: الأول: بنصب "طعنة" ورفع كل من "عبيطات" و "الخمر" والوجه الثاني: برفع "طعنة" ونصب عبيطات بالكسرة نيابة عن الفتحة ورفع "الخمر" وهذه الرواية هي التي يقصدها المؤلف ههنا، فأما الرواية الأولى فتخرج على أن "طعنة" مفعول به في اللفظ وإن كان فاعلًا في المعنى، و "عبيطات" فاعل في اللفظ وإن كان مفعولًا به في المعنى، و "الخمر" معطوف على عبيطات السدائف، وقد أتى الشاعر -على هذه الرواية- بالفاعل منصوبًا والمفعول مرفوعًا على طريقة من قال: خرق الثوب المسمار، وكسر الزجاج الحجر، وقد صرح ابن مالك بأن العرب قد يدعوهم ظهور المعنى إلى أن يغيروا من إعراب الفاعل فينصبوه وإعراب المفعول فيرفعوه، وأما تخريج الرواية الثانية فقد اختلف النحاة فيه، فمنهم من ذهب إلى أن "طعنة" فاعل أحلت مرفوع بالضمة الظاهرة، و "عبيطات" مفعول به، و "الخمر" فاعل بفعل محذوف يدل عليه الفعل السابق، وتقدير الكلام: أحلت الطعنة =

فرفع "الخَمْرُ" على الاستئناف، فكأنه قال: والخمرُ كذلك. وقال الآخر: [113] وعضُّ زَمَان يا ابن مروان لم يَدَعْ ... من المال إلا مُسْحَتًا أو مُجَلَّفُ

_ = عبيطات السدائف وحلت الخمر، ويروى أن الكسائي سئل في حضرة يونس بن حبيب عن توجيه رفع الخمر في هذا البيت، فقال الكسائي: يرتفع بإضمار فعل، أي وحلت له الخمر فقال يونس: ما أحسن -والله- توجيهك، غير أني سمعت الفرزدق ينشده بنصب طعنة ورفع عبيطات، على جعل الفاعل مفعولًا في اللفظ. ومنهم من جعل قوله "الخمر" مبتدأ حذف خبره، والتقدير: والخمر كذلك، وهذا هو الذي أراده المؤلف ههنا، وهو الذي وجه به البيت ابن يعيش في شرح المفصل. [113] وهذا البيت أيضًا من كلام الفرزدق، وقد استشهد به رضي الدين في شرح الكافية في باب حروف العطف، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 347 بولاق" وأنشده ابن منظور "س ح ت - ج ل ف" ونسبه إليه في المرتين، وأنشده ابن جني في الخصائص "1/ 99"، وهو من قصيدة من قصائد النقائص، وأولها قوله: عزفت بأعشاش وما كدت تعزف ... وأنكرت من حدراء ما كنت تعرف ويروى أن الفرزدق أنشد هذه القصيدة لعبد الله بن إسحاق، فلما بلغ البيت المستشهد به قال له عبد الله: علام رفعت "أو مجلف" فقال الفرزدق: على ما يسوءك وينوءك! علينا أن نقول: وعليكم أن تتأولوا. ولم يدع: أي لم يترك، والمسحت -بضم أوله على زنة اسم المفعول- هو المستأصل الذي فني كله ولم يبقَ منه شيء، والمجلف -بالجيم على زنة المعظم- الذي قد ذهب أكثره وبقي منه شيء يسير. واعلم قبل كل شيء أن أصل الرواية في هذا البيت على ما رواها المؤلف بنصب"مسحتا" ورفع "مجلف" وقد تكلم العلماء في ذلك فأطالوا وقالوا فأكثروا وتعبوا في طلب الحيلة ولم يأتوا بشيء يرتضى هكذا قال ابن قتيبة، وقال الزمخشري كلامًا قريبًا منه، ونحن نذكر لك أربعة تخريجات لهذه الرواية الأصلية: التخريج الأول: أن قوله "مجلف" مبتدأ حذف خبره وتقدير الكلام: أو مجلف كذلك، والثاني: أن "مجلف" فاعل بفعل محذوف دلّ عليه سابق الكلام، والتقدير: أو بقي مجلف؛ لأن قوله "لم يدع إلا مسحتا" معناه بقي مسحت، وهذان التخريجان مثل التخريجين اللذين ذكرناهما في شرح البيت السابق، والتخريج الثالث: أن قوله "مجلف" معطوف على قوله "عض الزمان" في أول البيت وهو مصدر ميمي بمعنى التجليف، وليس اسم مفعول، وتقدير الكلام على هذا: وعض زمان وتجليفه لم يدع من المال إلا مسحتا، وهذا توجيه أبي عليّ الفارسي، والتخريج الرابع: أن قوله "مسحتا" اسم مفعول منصوب على أنه مفعول به لقوله لم يدع، وفيه ضمير مستتر نائب فاعل، وقوله "أو مجلف" معطوف على الضمير المستتر في مسحت، وهذا توجيه الكسائي. ومن العلماء من ذهب يغير في رواية البيت أو في تفسير كلماته؛ فمن ذلك ما حكاه الفراء من أن بعضهم روى البيت هكذا: وعض زمان يا ابن مروان ما به ... من المال إلا مسحت أو مجلف ومن ذلك أن أبا جعفر بن حبيب روى البيت في كتابه النقائض برفع مسحت ومجلف =

فرفع "مجلف" على الاستئناف، فكأنه قال: أو مجلف كذلك، وهذا كثير في كلامهم. والوجه الثاني: أن تجعل قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: من الآية62] خبر للصابئين والنصارى، وتضمر للذين آمنوا والذين هادوا خبرًا مثل الذي أظهرت للصابئين والنصارى؛ ألا ترى أنك تقول "زيدٌ وعمروٌ قائم" فتجعل قائمًا خبرًا لعمرو، وتضمر لزيد خبرًا آخر مثل الذي أظهرت لعمرو، وإن شئت أيضًا جعلته خبرًا لزيد وأضمرت لعمرو خبرًا آخر. وقال الشاعر، وهو بشر بن أبي خازم: [114] وألا فاعلموا أنَّا وأنتم ... بغاةٌ، ما بقينا في شِقَاقِ

_ = جميعًا من غير تغيير في صدر البيت، وخرجها ابن الأعرأبي عليّ أن التقدير: لم يدع من المال إلا أن يكون مسحت أو مجلف، قال: وهو نظير قول شعيب بن البرصاء: ولا خير في العيدان إلا صلابها ... ولا ناهضات الطير إلا صقورها برفع "صلابها" على تقدير: إلا أن يكون صلابها، ورفع "صقورها" على أن يكون التقدير: إلا أن يكون صقورها. ومن ذلك أن عيسى بن عمر روى البيت بكسر الدال من "لم يدع" على أن معناه يقر ويمكث، وبرفع مسحت ومجلف على أن الأول فاعل والثاني معطوف عليه، وخرجه على ذلك ابن جني في الخصائص. وبعد؛ فقد قال ابن قتيبة: ومن ذا الذي يخفى عليه من أهل النظر أن كل ما أتوا به احتيال وتمويه. [114] هذا البيت -كما قال المؤلف- لبشر بن أبي خازم، وقد أنشده سيبويه "1/ 290" واستشهد به ابن يعيش في شرح المفصل "ص1126" وأنشده رضي الدين في شرح الكافية في باب الحروف المشبهة بالفعل، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 315" وبغاة: جمع باغٍ، وهو هنا بمعنى طالب، تقول: بغيت الشيء أبغيه بغيا، تريد طلبته، و "ما" مصدريه ظرفية، وفي شقاق: أي في اختلاف، والاستشهاد بالبيت في قوله "أنا وأنتم بغاة: حيث وقع الضمير المنفصل الذي يكون في محلّ الرفع بعد اسم أن وقبل ذكر خبرها وقد تمسك بظاهر هذا الفراء وشيخه الكسائي فقالا: يجوز أن يعطف بالرفع على اسم إن قبل أن يذكر الخبر، فتقول: إنني ومحمد على وفاق، ولم يرتض سيبويه ذلك، وقال: إن الكلام مؤلف من جملتين: إحداهما: إن واسمها وخبرها، والثانية: هذا الاسم المرفوع المتوسط بين اسم إن وخبرها فهو مبتدأ وخبره محذوف، والجملة معطوفة على جملة إن واسمها وخبرها، وأصل مكان هذا الاسم المرفوع بعد خبر إن، لكن الشاعر في هذا البيت قد قدمه، وأصل الكلام: وإلا فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك، وأجاز الأعلم وجها آخر، وهو أن يكون خبرا إن محذوفا لدلالة ما بعده عليه، و "بغاة" المذكور خبر المبتدأ الذي هو "أنتم" فيكون الشاعر قد حذف من الجملة الأولى لدلالة ما في الجملة الثانية على المحذوف، وعلى الوجه السابق يكون الحذف من الثاني لدلالة الأول عليه، وهو أفضل من تقدير الحذف من الأول.

فإن شئت جعلت قوله: "بغاة" خبرًا للثاني وأضمرت للأول خبرًا، ويكون التقدير: وإلا فاعلموا أنا بغاة وأنتم بغاة، وإن شئت جعلته خبرًا للأول وأضمرت للثاني خبرًا، على ما بيَّنَّا. والوجه الثالث: أن يكون عطفًا على المضمر المرفوع في "هادوا" وهادوا بمعنى تابوا. وهذا الوجه عندي ضعيف؛ لأن العطف على المضمر المرفوع قبيح وإن كان لازمًا للكوفيين؛ لأن العطف على المضمر المرفوع عندهم ليس بقبيح، وسنذكر فساد ما ذهبوا إليه في موضعه، إن شاء الله تعالى. وأما ما حكوه عن بعض العرب "أنك وزيد ذاهبان" فقد ذكر سيبويه أنه غلط من بعض العرب، وهذا لأن العربي يتكلم بالكلمة إذا استهواه ضرب من الغلط فيعدل عن قياس كلامه، كما قالوا "ما أغفله عنك شيئًا"، وكما قال زهير، ويقال صِرْمَةُ الأنصاري: [115] بدا لي أني لست مُدْرِكَ ما مَضَى ... ولا سابق شيئًا إذا كان جَائيَا فقال "سابقٍ" على الجر؛ وكان الوجه "سابقًا" بالنّصب!. وقال الآخر: [116] أَجِدَّكَ لست الدَّهْرَ رَائِي رَامَةٍ ... ولا عاقلٍ إلا وأنت جَنيبُ

_ [115] هذا البيت من كلام زهير بن أبي سلمى المزني، وهو ثابت في ديوانه بشرح الأعلم الشنتمري، وهو من شواهد سيبويه، أنشده في "1/ 83 و 418 و 452" ونسبه في هذه المرات إلى زهير، وأنشده في "1/ 154" ونسبه إلى صرمة الأنصاري، والبيت من شواهد مغني اللبيب لابن هشام "ص96 و 288 و 460 و 476 و 478 و 551 و 678 بتحقيقنا" وشواهد الأشموني "رقم 584" وأنشده في اللسان "ن م ش" ونسبه إلى زهير، وأنشده ابن جني في الخصائص "2/ 353 و 424" والاستشهاد بالبيت في قوله "ولا سابق" حيث جاء به مجرروًا مع كونه معطوفًا على مدرك المنصوب لكونه خبر ليس، وإنما جاء به مجرورا لأن الباء تدخل في خبر لليس كثيرًا، فلما قال الشاعر "أني لست مدرك ما مضى" توهم أنه أدخل الباء على خبر ليس لكونه مما يجري على لسانه كثيرًا؛ فجر المعطوف على هذا التوهم، قال سيبويه بعد أن أنشده "فجعلوا الكلام على شيء يقع هنا كثيرًا" ا. هـ. وقال الأعلم: "حمل قوله ولا سابق على معنى الباء في مدرك؛ لأن معناه لست بمدرك، فتوههم الباء وحمل عليها" ا. هـ. [116] لم أعثر لهذين البيتين على نسبة إلى قائل معين، ورامة وعاقل ومنعج وشطيب: أسماء أماكن بأعينها، والاستشهاد بالبيتين في قوله "ولا مصعد" فإنه مجرور وهو معطوف على قوله "رائي رامة" المنصوب لكونه خبر ليس، وسهل ذلك أن خبر ليس يكثر دخول الباء الزائدة عليه فتجر لفظه، فكأن الشاعر بعد أن قال "لست رائي رامة" توههم أنه أدخل الباء فقال: لست برائي رامة، فجر المعطوف لهذا التوهم.

ولا مُصْعِدٍ في المُصْعِدِينَ لِمَنْعِجٍ ... ولا هَابِطٍ ما عِشْتُ هَضْبَ شَطِيبِ

_ = وربما عكسوا ذلك فجاءوا بخبر ليس مقترنا بالباء الزائدة فجروا لفظه، ثم عطفوا عليه اسمًا منصوبًا، ومن شواهد ذلك قول عدي بن خزاعي، وقد أنشده في اللسان "ن ر ب" وهو الشاهد رقم 207 الآتي في المسألة 45: ولست بذي نيرب في الكلام ... ومناع قومي وسبابها ولا من إذا كان في معشر ... أضاع العشيرة واغتابها عطف قوله "ومناع قومي" بالنصب على قوله "بذي نيرب" المجرور بالباء الزائدة ومثله قول عقيبة الأسدي، وأنشده سيبويه "1/ 34" وهو الشاهد 208 الآتي: معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا أديروها بني حرب عليكم ... ولا ترموا بها الغرض البعيدا ووجه ذلك أن الباء الداخلة على خبر ليس زائدة، تجر لفظ الخبر ليس غير، ويبقى محلّه نصبًا كما يكون لو لم تدخل عليه الباء، وليس لهذه الباء متعلق، فإذا عطفت على هذا الخبر جاز لك من غير ضرورة أن تعطف عليه بالنصب نظرًا إلى محلّه، وجاز لك أن تعطف عليه بالجر نظرا إلى لفظه، ولذلك نظائر كثيرة: منها الوصف المضاف إلى معموله، كاسم الفاعل والمصدر مثلًا إذا أضيف إلى مفعوله وفاعله فإن المعمول يكون مجرورًا لفظًا بإضافة اسم الفاعل إليه، فإذا عطفت عليه جاز لك أن تجيء بالمعطوف مجرورا نظرًا إلى لفظ المعطوف عليه، وجاز لك أن تجيء بالمعطوف منصوبًا إن كان المعطوف عليه مفعولًا ومرفوعًا إن كان المعطوف عليه فاعلًا، ومن ذلك قول زياد العنبري، وقد نسبوه في كتاب سيبويه "1/ 98" إلى رؤبة بن العجاج: قد كنت داينت بها حسانًا ... مخافة الإفلاس والليانا فقد عطف "الليان" بالنصب على "الإفلاس" المجرور لكون هذا المجرور مفعولًا به للمصدر، ومثل ذلك قول لبيد بن ربيعة العامري، وهو الشاهد رقم 146 الآتي: حتى تهجر في الرواح وهاجها ... طلب المعقب حقه المظلوم فقد وصف بالمظلوم المرفوع قوله "المعقب" المجرور بإضافة المصدر الذي هو "طلب" إليه، لكون هذا المضاف مصدرًا والمضاف إليه فاعلًا لذلك المصدر، ونظير ذلك قول الأعشى ميمون: الواهب المائة الهجان وعبدها ... عوذا تزجي بينها أولادها عطف "عبدها" بالنصب على "المائة" المجرور بإضافة اسم الفاعل الذي هو "الواهب" إليه" ومثله قول الشاعر وأنشده سيبويه "1/ 87": هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد رب أخا عمرو بن مخراق ومثله قول رجل من قيس عيلان، وأنشده سيبويه أيضًا "1/ 87": فبينا نحن نطلبه أتانا ... معلق وفضة وزناد راع عطف قول "زناد راعٍ" بالنصب على قوله "وفضة" المجرور بإضافة "معلق" إليه، لكون المعطوف عليه مفعولًا به لاسم الفاعل الذي هو معلق، وفي هذا القدر كفاية.

وقال الأَحْوَصُ الرِّياحِيُّ: [117] مشَائيمُ لَيْسُوا مصلحين عَشِيرَةً ... ولا ناعب إلا ببين غُرَابُها فقال "ناعب" بالجر، وكان الوجه أن يقول "ناعبًا" بالنصب، وقد تُؤُوِّل ذلك بما لا يلتفت إليه ولا يقاس عليه؛ فإذا كان كذلك فلا يجوز الاحتجاج بما رَوَوْهُ مع قلته في الاستعمال وبُعْدِهِ عن القياس على ما وقع فيه الخلاف. وأما قولهم "أجمعنا على أنه يجوز العطف على الموضع قبل تمام الخبر مع لا؛ فكذلك مع إن" وقلنا الجواب على هذا من وجهين: أحدهما: إنما جاز ذلك مع "لا" لأن لا لا تعمل في الخبر، بخلاف "إن"

_ [117] هذا البيت -كما قال المؤلف- للأحوص الرياحي، وهو من شواهد سيبويه، وقد أنشده سيبويه في كتابه ثلاث مرات نسبه في واحدة "1/ 418" للفرزدق وقد بحثت ديوان الفرزدق فلم أعثر عليه فيه، ونسبه في المرتين الأخريين "1/ 73 و 154" إلى الأحوص، وقد استشهد به الأشموني "رقم 586 بتحقيقنا" ورواه أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في البيان "2/ 260" ثالث ثلاثة أبيات، ونسبها للأحوص، واستشهد به رضي الدين في شرح الكافية "1/ 428" وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 140" والمشائيم: جمع مشؤوم، وتقول: شأم فلان قومه يشأمهم -من باب فتح- إذا جر عليهم الشؤم، وعشيرة الرجل: بنو أبيه الأدنون، وناعب: اسم فاعل من النعيب، وهو صوت الغراب، وهم يتشاءمون به ويجعلونه نذيرًا بالفرقة وتصدع الشمل والاستشهاد بالبيت في قوله "ولا ناعب" حيث جاء مجرورًا مع أنه معطوف على خبر ليس المنصوب الذي هو قوله "مصلحين" وذلك لأنه بعد أن قال "ليسوا مصلحين عشيرة" توهم أنه قرن خبر ليس بالباء الزائدة من قبل أن لسانهم كثيرًا ما يجري بذلك من غير نكير، وقد بيَّنَّا ذلك في شرح الشاهدين السابقين. ونظير هذه الشواهد قول عبد الله بن الدمينة، وهو من شواهد الأشموني "رقم 354 بتحقيقنا": أحقًّا عباد الله أن لست صاعدا ... ولا هابطًا إلا عليَّ رقيب ولا سالك وحدي ولا في جماعة ... من الناس إلا قيل: أنت مريب فقد جاء بالمعطوف -وهو قوله "ولا سالك"- مجرورًا، مع أن المعطوف عليه وهو قوله "صاعدًا" منصوب وبعد أن عطف عليه اسمًا منصوبًا وهو وقوله "ولا هابطًا". وربما جر بعض الشعراء المعطوف على خبر كان المنفية المنصوب لأن الباء الزائدة تدخل على خبر كان المنفية، وإن كان ليس من الكثرة في لسانهم كخبر ليس، ومن هذا قول الشاعر، وأنشده ابن منظور "ن م ش": وما كنت ذا نيرب فيهم ... ولا منمش فيهم منمل ومحلّ الاستشهاد من هذا البيت قوله "ولا منمش" حيث جاء به مجرورًا وهو معطوف على قوله "ذا نيرب" الذي هو خبر كان المسبوقة بما النافية، وذلك ظاهر إن شاء الله.

فلم يجتمع فيه عاملان، فجاز معها العطف على الموضع قبل تمام الخبر، دون "إن" على ما بيَّنَّا. والوجه الثاني: أنا نسلم أن "لا" تعمل في الخبر كإن، ولكن إنما جاز ذلك مع "لا" دون "إن" وذلك لأن "لا" ركبت مع الاسم النكرة بعدها فصارا شيئًا واحدًا؛ فكأنه لم يجتمع في الخبر عاملان، وأما "إن" فإنها لا تركب مع الاسم بعدها؛ فيجتمع في الخبر عاملان، وذلك لا يجوز، فبان الفرق بينهما. وأما قولهم "إنَّ إنَّ لا تعمل في الخبر" فقد بيَّنَّا فساد ذلك مُسْتَوْفىً في المسألة التي قبل هذه المسألة؛ فلا يفتقر إلى الإعادة، والله أعلم.

مسألة القول في عمل إن المخففة النصب في الاسم

24- مسألة: [القول في عمل "إنِ" المخففة النَّصْبَ في الاسم] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "إنِ" المخففة من الثقيلة لا تعمل النصب في الاسم وذهب البصريون إلى أنها تعمل. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنها لا تعمل لأن المشددة إنما عملت لأنها أشبهتِ الفعل الماضي في اللفظ؛ لأنها على ثلاثة أحرف كما أنه على ثلاثة أحرف، وإنها مبنيّة على الفتح كما أنه مبنيّ على الفتح، فإذا خففت فقد زال شَبَهُها به؛ فوجب أن يبطل عملها. ومنهم من تمسّك بأن قال: إنما قلنا ذلك؛ لأن "إنّ" المشدّدة من عوامل الأسماء، و "أنِ" المخففة من عوامل الأفعال؛ فينبغي ألا تعمل المخففة في الأسماء كما لا تعمل المشددة في الأفعال؛ لأن عوامل الأفعال لا تعمل في الأسماء، وعوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على صحة الإعمال قوله تعالى: "وَإِنْ كُلًّا لَمَّا لَيوَفِّينَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ" [هود: 111] في قراءة من قرأ بالتخفيف، وهي قراءة نافع وابن كثير، وروى أبو بكر عن عاصم بتخفيف "إن" وتشديد "لما". قالوا: ولا يجوز أن يقال بأن "كلا" منصوب بليوفينهم، لأنا نقول: لا يجوز ذلك؛ لأن لام القسم تمنع ما بعدها أن يعمل فيما قبلها؛ ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول "زيدا لأكرمنَّ، وعمرًا لأضربنَّ" فتنصب زيدًا بلأكرمنَّ وعمرًا بلأضربنَّ، فكذلك ههنا: لا يجوز أن يكون "كلا" منصوبًا بليوفينهم. قالوا: ولا يجوز أيضًا أن يقال إن "إنْ" بمعنى ما، ولَمَا بمعنى إلَّا؛ لأنا

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح المفصل لموفق الدين بن يعيش "ص1128" وشرح رضي الدين على كافية ابن الحاجب "2/ 333" والتصريح للشيخ خالد الأزهري "1/ 278 بولاق" وحاشية الصبان على الأشموني "1/ 267 بولاق".

نقول: إنَّ إن التي بمعنى ما لا يجيء معها اللام بمعنى إلا، كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] وأما "لما" فلا يجوز أن يجعل ههنا بمعنى إلا؛ لأنه لو جاز أن تجعل "لما" بمعنى إلا لجاز أن يقال: ما قام القوم لما زيدًا، وقام القوم لما زيدًا، بمعنى إلا زيدًا، وفي امتناع ذلك دليل على فساده، وإنما جاء لما بمعنى إلا في الأيمان خاصة نحو قولهم: "عَمْرَك الله لَمَا فعلت كذا" أي إلَّا، ثم لو جعلت "لما" في قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيوَفِّينَّهُمْ} [هود: 111] بمعنى إلا لما كان لكل ما ينصبه؛ لأن إلا لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، فدلَّ على صحة ما ذكرناه. والذي يدل على صحة ذلك أيضًا أنه قد صحَّ عن العرب أنهم يقولون "إلا أن أخاك ذاهب" بمعنى أنَّ المشددة، وقد قال الشاعر: [118] وصَدْرٍ مُشْرِقِ النَّحْرِ ... كأنَّ ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ فنصب "ثدييه" بكأن المخففة مع الثقيلة، وأصلها أن أضيف إليها الكافُ

_ [118] أنشد سيبويه هذا البيت "1/ 281" وأنشده ابن يعيش "ص1138" ولم يعزواه، وأنشده رضي الدين في باب الحروف المشبهة بالفعل، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 358" وقال عنه: "هو أحد أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف لها قائل" ا. هـ. وهو من شواهد الأشموني "رقم 286 وأوضح المسالك "رقم 152" وابن عقيل "رقم 108" ويروى صدره: ووجه مشرق اللون وهي رواية سيبويه، ويروى: ونحر مشرق اللون وعلى هاتين الروايتين يكون قوله "كأن ثدييه" على تقدير مضاف بين المضاف والمضاف إليه، أي كأن ثدي صاحبه، ومشرق: أي مضيء، وحقان: مثنى حق، بضم الحاء وتشديد القاف وهو ما ينحت من خشب أو عاج أو نحوهما، والعرب تشبه الثديين بالحق في اكتنازهما ونهودهما، ومن ذلك قول عمرو بن كلثوم وثديا مثل حق العاج رخصا ... حصانا من أكف اللامسينا والاستشهاد بالبيتن في قوله "كأن ثدييه" حيث خفف الشاعر كأن الدالة على التشبيه ثم أعملها في الاسم والخبر؛ فنصب بها الاسم الذي هو قوله "ثدييه" ورفع بها الخبر الذي هو قوله "حقان" ويرويه بعض العلماء "كأن ثدياه حقان" برفع الاسمين جميعًا على أن يكون اسمها ضمير شأن محذوف، وما بعدها جملة من مبتدأ وخبر في محلّ رفع خبر كأن، والرواية التي أثرها المؤلف تدلّ على أن تخفيف الحرف الذي يعمل لمشابهته الفعل لا يمنع إعماله في اللفظ.

للتشبيه، والأصل في الكاف أن تكون مؤخرة؛ كما أن الأصل في اللام أن تكون مقدمة؛ فإذا قلت "كأن زيدًا الأسدُ" كان الأصل فيه: إن زيدًا كالأسد، كما إذا قلت "إن زيدًا لقائمُ" كان الأصل فيه: لإنَّ زيدًا قائم، إلا أنه قدمت الكاف على "أن" عنايةً بالتشبيه، وأخرت اللام عن "إن" لئلا يجمعوا بين حرفي تأكيد، فلما نصب بها مع التخفيف دلّ على أنها بمنزلة فعل قد حذف بعض حروفه. وقال الآخر: [119] كأنْ وَرِيدَيْهِ رشاءا خُلْبِ فنصب "وريديه" بكأن المخففة من الثقيلة؛ فدلَّ على ما قلناه. ولا يجوز أن يقال: إن الإنشاد في البيتين "كأن ثدياه، وكأن وريداه" بالرفع

_ [119] نسب جماعة من النحاة -منهم الشيخ خالد الأزهري في التصريح "1/ 282 بولاق" تبعًا للعيني- هذا البيت إلى رؤبة بن العجاج، وقد أنشده سيبويه "1/ 480" وابن يعيش "ص1138" وابن منظور "خ ل ب" ولم يعزه واحد منهم إلى قائل معين، وأنشده رضي الدين في باب الحروف المشبهة بالفعل من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 356" وروى بيتين من الرجز المشطور أحدهما قبل البيت المستشهد به والآخر بعده على هذا الوجه: ومعتد فظ غليظ القلب ... كأن وريديه رشاءا خلب غدرته مجدلًا كالكلب والمعتدي: المتجاوز الحد في الظلم، والفظ: الغليط، وغليظ القلب: قاس لا رحمة عنده، والوريدان: مثنى وريد وهو عرق في الرقبة، والرشاء -بكسر أوله بزنة الكتاب- الحبل، والخلب -بزنة القفل والقرط- فسره قوم بالبئر، وعليه تكون إضافة الرشاءين إلى الخلب على معنى لام الاستحقاق مثل قولهم: مصابيح المسجد وحصيره، وفسر قوم الخلب بالليف، وعليه تكون الإضافة على معنى من مثل قولهم: خاتم فضة وثوب قطن ومحلّ الاستشهاد بالبيت قوله "كأن وريديه" حيث خفف كأن التي تدل على التشبيه، ثم أتى بعدها باسمها منصوبًا وبخبرها مرفوعًا كما كان يفعل ذلك وهي مثقلة، فيدل ذلك على أن الحرف الذي يعمل لشبهه بالفعل إذا خفف لم يجب أن يبطل عمله، وقد روى سيبويه البيت بنصب وريديه ورفع "رشاءا" كما رواه المؤلف هنا، وقال قبل إنشاده "وينصبون في الشعر إذا اضطروا بكأن إذا خففوا، يريدون معنى كأن "بالتشديد" ولم يريدوا الإضمار، وذلك قوله: كأن وريديه ... ثم قال بعد كلام "وإن شئت رفعت في قول الشاعر: كأن وريديه ... وقد بيَّنَّا وجه الروايتين في شرح الشاهد السابق.

لأنَّا نقول: بل الرواية المشهورة "كأن ثدييه، وكأن وريديه" -بالنصب- وإن صحَّ ما رَوَيْتُمُوهُ فيكونُ الرفع على حذف الضمير مع التخفيف كما قال الأعشى: [120] في فتْيَةٍ كسيوف الهند قد علموا ... أَنْ هالكٌ كلُّ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ كأنه قال: أنه هالك. وقال الآخر: [121] أَمَا والله أن لو كنتَ حُرًّا ... وما بالحُرِّ أنت ولا العَتِيقِ

_ [120] هذا البيت من كلام الأعشى ميمون بن قيس، وقد أنشده سيبويه ثلاث مرات "1/ 282 و 440 و 480" وأنشده ابن يعيش "ص1128" ورضي الدين في باب نواصب المضارع وفي باب الحروف المشبهة بالفعل من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 547" والفتية: جمع فتى، وهو الشاب، والسيوف: جمع سيف، وإضافة السيوف إلى الهند لأنها كانت تصنع هناك، وكانوا يجلبونها من الهند، ووجه الشبه إما المضاء وقوة العزم وإما البريق واللمعان ويراد بهما صباحة أوجههم ونضارتها، ويحفى: مضارع حفي -مثل رضي- حفاء، وذلك إذا مشى بغير نعل ولا خف، ويراد به هنا الفقير، وينتعل: أي يلبس النعل، ويراد به الغني، يريد أن هؤلاء الفتيان قد أيقنوا أن الموت لا يفرق بين الغني والفقير فهم ينتهزون فرص اللذات ويسارعون إليها. والاستشهاد بالبيت في قوله "أن هالك كل من يحفى" حيث خففت أن المفتوحة الهمزة وأتى بعدها باسمين مرفوعين، فيتوههم من لا معرفة له أنه أهملها، ولكنها عند التحقق عاملة النصب والرفع كما كانت تعمل وهي مشددة، واسمها ضمير شأن محذوف، وقوله "هالك" خبر مقدم، و "كل" مبتدأ مؤخر، وكل مضاف و "من" مضاف إليه، و "يحفى" جملة لا محلّ لها من الإعراب صلة من، وتقدير الكلام: أنه "أي الحال والشأن" كل من يحفى وينتعل هالك، وجملة المبتدأ وخبره في محلّ رفع خبر أن المخففة من الثقيلة، ويروى عجز البيت: أن ليس تدفع عن ذي الحيلة الحيل وهو صالح للاستشهاد به على هذه الرواية أيضًا لهذه المسألة عينها. [121] هذا البيت من شواهد مغني اللبيب "رقم 41 بتحقيقنا" وقد أنشده الرضي في باب خبر الحروف المشبهة بليس، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 133" وفي شرحه لشواهد المغني، ولم ينسبه في أحدهما إلى قائل معين، وقد ذكر أن الفراء أنشده في تفسير سورة الجن عند تفسير قوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ} ويروى صدر البيت: لو أنك يا حسين خلقت حرًا بتشديد "أن" وإلقاء حركة همزتها على الواو، والعتيق: الكريم الأصيل، ويقال لمن كان رقيقا فخلص من الرقّ: عتيق، وفي هذا البيت شاهدان للنحاة: الأول: في قوله "أن لو كنت حرا" وعبارة المؤلف تدل على أنه يعتبر "أن" في هذه العبارة مخففة من الثقيلة، وعليه يكون اسمها ضمير شأن محذوف، وجملة "لو" وشرطها وجوابها المحذوف لدلالة المقام عليه في محلّ رفع خبر أن، وتقدير الكلام: أنه "أي الحال والشأن" لو كنت حرًّا =

وقال الآخر: [122] أَكَاشِرُهُ وأعلم أَنْ كِلَانَا ... على ما ساء صاحبَهُ حريصُ

_ = لقاومتك، أو لسهل على نفسي منازلتك، وما أشبه ذلك، لكن المحققين من العلماء لا يرون هذا، و "أن" عندهم زائدة، ذكر ذلك ابن هشام في مغني اللبيب؛ قال "الثاني: من مواضع زيادة أن المخففة المفتوحة الهمزة أن تقع بين "لو" وفعل القسم، سواء أكان الفعل مذكورًا كقول الشاعر: فأقسم أن لو التقينا وأنتم ... لكان لكم يوم من الشر مظلم أم كان فعل القسم متروكًا، كقوله: أما والله أن لو كنت حرًّا البيت، هذا قول سيبويه وغيره" ا. هـ. وقد ذكر البغدادي أن نسبة القول بزيادة "أن" في هذا البيت إلى سيبويه ليست بصحيحة؛ والصواب أن القائل بزيادتها في هذا البيت هو الفراء، وذهب ابن عصفور إلى أنها حرف جيء به لربط الجواب بالقسم، قال ابن هشام بعد أن حكى عن ابن عصفور ذلك "ويبعده أن الأكثر تركها، والحروف الرابطة ليست كذلك" ا. هـ. ونازعه في ذلك الدماميني فقال: من الحروف الرابطة اللام؛ وذلك نحو قول الشاعر: ولو نعطى الخيار لما افترقنا ... ولكن لا خيار مع الليالي ولا يلزم ذكر هذه اللام، بل يجوز تركها كما في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} فلم يتم قول ابن هشام: إن الحروف الرابطة لا تترك من الكلام. والشاهد الثاني من البيت في قوله "وما بالحر أنت" حيث دخلت الباء الزائدة على خبر "ما" الذي هو قوله "الحر" مع كونه متقدما على الاسم الذي هو قوله "أنت" وقد اختلف العلماء في الباء الزائدة بعد ما النافية: أهي مختصة بما الحجازية العاملة عمل ليس أم غير مختصة بها ويجوز دخولها بعد ما التميمية المهملة؟ فذهب الأخفش إلى أنها تدخل بعد ما التميمية كما تدخل بعد ما الحجازية، وذهب قوم منهم الزمخشري وأبو عليّ إلى أن الباء الزائدة لا تدخل إلا في خبر ما الحجازية، وانبنى على هذا الخلاف اختلاف آخر حاصله هل يجوز أن يتقدم خبر "ما" الحجازية العاملة أو لا يجوز؟ فأما الذين ذهبوا إلى أن الباء لا تدخل على الخبر بعد ما التميمية فقالوا: يجوز أن يتقدم خبر ما الحجازية على اسمها ويبقى لها عملها واستدلوا بهذا البيت ونحوه، ووجه الاستدلال أن الباء هنا قد دخلت على الخبر وهو متقدم، وحيث جاز تقديمه وهو مقترن بالباء يجوز تقديمه وهو عارٍ منها، والذي نرجحه أنه يجوز دخول الباء على خبر المبتدأ الواقع بعد ما التميمية، بدليل قول الفرزدق وهو تميمي: لعمرك ما معن بتارك حقه ... ولا منسئ معن، ولا متيسر وبدليل دخولها حيث لا عمل لما، وذلك كما في قول الشاعر: لعمرك ما إن أبو مالك ... بوان ولا بضعيف قواه فإن "ما" ههنا غير عاملة لاقترانها بإن الزائدة، والباء لم تدخل في الخبر بعد ما إلا لكونه منفيًّا، فلا يلزم أن يكون منصوبًا، وفي هذا القدر كفاية وغناء. [122] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 440" ولم ينسبه ولا نسبه الأعلم في شرح شواهده، =

وقال زيد بن أرْقَمَ: [123] ويوما تُلَاقِينَا بوجه مُقَسَّمٍ ... كَأَنْ ظَبْيَةٌ تَعْطُو إلى وَارِقِ السَّلَمْ

_ = قال الأعلم "ومعنى أكاشره أضاحكه، ويقال: كشر عن نابه؛ إذا كشف عنه" ا. هـ. والاستشهاد بالبيت في قوله "أن كلانا حريص" حيث خفف أن المؤكدة، وأتى بعدها بالاسمين مرفوعين، فيتوهم من لا معرفة له أنه أهمل أن، ولكنها عند التحقيق عاملة النصب والرفع كما تعمل وهي مشددة، وسمها ضمير شأن محذوف، وكلانا: مبتدأ ومضاف إليه، وحريص: خبر المبتدأ وجملة المبتدأ والخبر في محلّ رفع خبر أن، قال سيبويه "1/ 439": "وتقول: قد علمت أن من يأتني آته؛ من قبل أن أن ههنا فيها إضمار الهاء، ولا تجيء مخففة ههنا إلا على ذلك، كما قال: أكاشرة وأعلم أن كلانا البيت، وقال الأعلم "الشاهد في حذف الضمير من أن، وابتداء ما بعدها على نية إثبات الضمير" ا. هـ. [123] نسب المؤلف هذا البيت لزيد بن أرقم، وهو من شواهد سيبويه "1/ 281 و 481" ونسبه لابن صريم اليشكري، ووافقه الأعلم على هذه النسبة، وأنشده ابن منظور "ق س م" أول أربعة أبيات، ونسبه إلى باعث بن صريم اليشكري ثم قال "ويقال: هو كعب بن أرقم اليشكري، قاله في امرأته، وهو الصحيح" ا. هـ. والبيت من شواهد ابن يعيش "ص1139" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 42" وفي أوضح المسالك "رقم 151" والأشموني "رقم 287" وأنشده رضي الدين في باب الحروف المشبهة بالفعل، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 364" ونقل خلافا في نسبته، ويوما -بالنصب لا غير- ظرف زمان يتعلق بقوله "توافينا" الذي بعده، وتوافينا: تأتينا وتزورنا، ووجه مقسم: جميل، مأخوذ في الأصل من القسام -بفتح القاف- بزنة السحاب وهو الجمال، والاستشهاد به في قوله "كأن ظبية تعطو" واعلم أولًا أن كلمة "ظبية" في هذه العبارة تروى على ثلاثة أوجه: الجر، والنصب، والرفع، فأما رواية الجر فتخرج على أن الكاف حرف جر، وأن زائدة بين الجار والمجرور وظبية: مجرور بالكاف، وكأنه قال: كظبية تعطوا إلى وارق السلم. وأما رواية النصب فتخرج على أن كأن مخففة من الثقيلة عاملة، وقوله "ظبية" اسم كأن، وجملة "تعطو" صفة لظبية، وخبر كأن محذوف، والتقدير: كأن ظبية عاطية إلى وارق السلم هذه المرأة، وأما رواية الرفع فتخرج على أن "كأن" حرف تشبيه مخفف، واسم كأن محذوف، وظبية: خبره، وتقدير الكلام: كأنها ظبية عاطية إلى وارق السلم، والتشبيه على وجه النصب من التشبيه المقلوب، وعلى وجه الرفع من التشبيه الجاري على أصله. وقد ذكر هذا التفصيل الأعلم حيث قال: "الشاهد فيه رفع ظبية على الخبر وحذف الاسم مع تخفيف كأن، والتقدير: كأنها ظبية، ويجوز نصب الظبية بكأن تشبيها بالفعل إذا حذف وعمل نحو لم يك زيد منطلقًا، والخبر محذوف لعلم السامع، والتقدير: كأن ظبية تعطو هذه المرأة، ويجوز جر الظبية على تقدير كظبية، وأن زائدة" ا. هـ.

وقال الآخر: [124] عَبَأْتُ له رمحًا طويلا وَأَلَّةً ... كأنْ قَبَسٌ يُعْلَى بها حين تُشْرَعُ وقال الآخر [125] وخَيْفَاء أَلْقَى الليث فيها ذراعه ... فَسَرَّتْ وساءت كلَّ ماشٍ ومُصْرِمِ

_ [124] هذا البيت من كلام مجمع بن هلال؛ وهو تاسع عشرة أبيات رواها أبو تمام في الحماسة "انظر شرح المرزوقي ص713" وقد استشهد بالبيت رضي الدين في شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 361" وعبأت: أعددت وهيأت، والرمح معروف، والألة -بفتح الهمزة وتشديد اللام- السنان، وأصله من الأليل وهو البريق واللمعان، وفسر ابن منظور الألة بالحربة العظيمة النصل، وفرق قوم بين الألة والحربة فخصوا الألة بما كانت كلها من حديد، والحربة بما كانت يدها من خشب، والقبس -بالتحريك- الجذوة من النار، وتشرع -بالبناء للمجهول- أي تصوب للطعن، والاستشهاد بالبيت في قوله "كأن قبس يعلى بها ... إلخ" وقبس يجوز فيه الرفع والنصب والجر، وهي الوجوه التي ذكرناها في كلمة "ظبية" في البيت السابق، فالجر على أن تكون الكاف حرف جر، وأن زائدة، وقبس مجرور بالكاف، والنصب على أن يكون كأن حرف تشبيه مخفف من الثقيل، وقبسا: اسم كأن، وخبره محذوف، والتقدير: كأن قبسًا هذه الألة، ويكون من التشبيه المقلوب، ويجوز أن يكون خبر كأن هنا هو جملة يعلى بها، وأما الرفع فعلى أن يكون كأن حرف تشبيه مخفف من الثقيل، واسمه محذوف، وقبس خبره، وتقدير الكلام: كأنها أي هذه الألة قبس، وجعل الرضي اسم كأن -على رواية رفع قبس- ضمير شأن محذوف، وعليه يكون قبس مبتدأ، وجملة يعلى صفة لقبس، وفي يعلى ضمير مستتر يعود على قبس وهو نائب فاعل يعلى، وهو الذي يربط جملة الصفة بالموصوف، وبها: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، وجملة المبتدأ وخبره في محلّ رفع خبر كأن، لكن هذا الوجه الذي ذهب إليه الرضي ضعيف، من جهة أن ضمير الشأن إنما يقدر حين لا يكون من الممكن تقدير مرجع، وههنا أمكن تقدير المرجع -وهو ضمير الغائب- وهو مع ذلك أيسر وأهون. [125] هذان البيتان من كلام ذي الرمة غيلان بن عقبة، وقد أنشدهما ابن منظور "أون" ونسبهما إليه، وقال: إنهما من أبيات المعاني، قد أنشد رضي الدين في باب الحروف المشبهة بالفعل من شرح الكافية ثاني هذين البيتين، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 363" غير أنه نسب البيتين نقلًا عن أبي زيد عن أبي عثمان سعيد بن هارون الأشنانداني لرجل من بني سعد بن زيد مناة. والخيفاء هنا: الأرض المختلفة ألوان النبات قد مطرت بنوء الأسد فسرت من له ماشية وساءت من كان مصرمًا لا إبل له، والدرماء: الأرنب، يقول: سمنت حتى سحبت قصبها، كأن بطنها بطن حبلى متئم، والقصب -بضم القاف وسكون الصاد- المعى، وأراد البطن، ومتئم: قد حبلت في توأمين والاستشهاد بالبيتين في قوله "كأن بطن حبلى" حيث خفف كأن الدالة على التشبيه، وجاء بعدها بالاسم مرفوعًا على أنه خبرها واسمها محذوف. والتقدير: كأن بطنها بطن حبلى. ولو أنك نصبت "بطنها" أو جررته لجاز. وتوجيه النصب والجر على مثل ما ذكرناه في شرح الشاهدين السابقين، فتأمل ذلك. والله يرشدك.

تُمَشِّي بها الدَّرْمَاءُ تَسْحَبُ قَصْبَهَا ... كأنْ بطنُ حُبْلَى ذَاتِ أَوْنَيْنِ مَتْئمِ فيمن روى بالرفع، ومن روى بالجر جعل "أن" زائدة، ومن روى بالنصب أعملها مع التخفيف. ومن كلامهم "أول ما أقول أنْ بسم الله" كأنهم قالوا: أنَّهُ بسم الله، وقال تعالى: {أَفَلا يرَوْنَ أَلَّا يرْجِعُ إِلَيهِمْ قَوْلًا} [طه: 89] كأنه قال: أنه لا يرجع إليهم قولًا، إلَّا أنها لا تخفف مع الفعل إلا مع أحد أربعة أحرف، وهي: لا، وقد، وسوف، والسين، كقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} [المزمل: 20] وكذلك "علمت أنْ سوف يخرج مزيد، وعلمت أنْ قد خرج عمرو"، قال أبو صخر الهذلي: [126] فتعلمي أن قد كَلِفْتُ بكم ... ثم افعلي ما شئتِ عن عِلْمِ ولا تُخَفَّف من غير واحد من هذه الأحرف؛ لأنهم جعلوها عوضًا مما لحق "أنْ" من التغيير، وكان التعويض مع الفعل أولى من الاسم، وذلك لأن "أنْ" لحقها مع الاسم ضرب واحد من التغيير، وهو الحذف، ولحقها مع الفعل ضربان: الحذف: ووقوع الفعل بعدها؛ فلهذا كان التعويض مع الفعل أولى من الاسم. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه من إعمالها مع التخفيف ما حكى بعض أهل اللغة من إعمالها في المضمر مع التخفيف نحو قولهم: أظن أنّك قائم، وأحسب أنّه ذاهب، يريدون أنك وأنه بالتشديد، قال الشاعر: [127] فلو أنك في يوم الرَّخَاء سألتني ... فِرَاقَكَ لم أَبْخَلْ وأنت صديقُ

_ [126] نسب المؤلف هذا البيت لأبي صخر الهذلي، وكذلك نسبه ابن يعيش في شرح المفصل "ص1132" وقد روى ابن منظور صدره "ع ل م" ونسبه إلى الحارث بن وعلة، وتعلمي: أي اعلمي واستيقني. وهو ملازم لصيغة الأمر، والشواهد عليه كثيرة "انظر شرح الشاهد 325 في شرح الأشموني بتحقيقنا" وكلفت: أولعت واشتد غرامي. والاستشهاد بالبيت في قوله "فتعلمي أن قد كلفت" حيث جاء بأن المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف، وخبرها جملة "كلفت بكم" ولكون هذه الجملة فعلية فعلها متصرف غير دعاء فصل بينها وبين أن بقد، وتقدير الكلام: فتعلمي أنه "أي الحال والشأن" قد كلفت بكم، ونظير هذا البيت في الفصل بين أن المخففة وجملة خبرها بقد قول الله تعالى: {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} وقول الشاعر، وهو من شواهد ابن مالك في شرح كافيته وشواهد الأشموني "رقم 282" شهدت بأن قد خط ما هو كائن ... وأنك تمحو ما تشاء وتثبت [127] أنشد الرضي الدين في باب الضمير من شرح الكافية هذا البيت، وقد شرحه البغدادي في =

وقال الآخر: [128] وقد علم الصِّبْيَة المُرْمِلُون ... إذ اغبَرَّ أفقٌ وَهَبَّتْ شَمَالَا

_ = الخزانة "2/ 465" ولم يعزه، وكذلك أنشده ابن يعيش في شرح المفصل "ص1128" ولم يعزه إلى قائل معين، وكذلك أنشده الفراء ولم يعزه، وأنشده ابن منظور "ص د ق" ولم يعزه أيضًا، وهو من شواهد الأشموني "رقم 280" وشواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 38" وابن عقيل "رقم 105" وصديق: مما يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع، المذكر والمؤنث، وإن كان فعيلًا بمعنى فاعل؛ لأنهم حملوه على ضده وهو العدو، ومن إطلاقه على الأنثى بيت الشاهد وقول كثيرة عزة: لَيالِيَ مِن عَيشٍ لَهَونا بِوَجهِهِ ... زَماناً وَسعدى لي صَديقٌ مُواصِلُ ومن ذلك أيضًا قول جميل بن معمر: كأن لم نقاتل يا بثين لو أنها ... تكشف غماها وأنت صديق ومن إطلاقه على جمع المذكرين قول الشاعر: لعمري لئن كنتم على النأي والنوى ... بكم مثل ما بي إنكم لصديق وقول قعنب ابن أم صاحب: ما بال قوم صديق ثم ليس لهم ... دين، وليس لهم عقل إذا ائتمنوا ومن إطلاق على جمع المؤنث قول جرير: نصبن الهوى، ثم ارتمين قلوبنا ... بأعين أعداء، وهن صديق أوانس، أما من أردن عناءه ... فعان، ومن أطلقنه فطليق وقال يزيد بن الحكم في مثله ويهجرن أقوامًا وهن صديق ومحل الاستشهاد بالبيت الذي أثره المؤلف قوله "فلو أنك سألتني" حيث خفف "أن" المؤكدة، وأعملها في الاسم والخبر، فجاء باسمها ضميرا من ضمائر النصب المتصلة وهو الكاف، وجاء بخبرها جملة فعلية وهو قوله "سألتني طلاقك" وأكثر العلماء يرون مجيء اسم أن المخفف ضمير مخاطب شاذًّا. [128] أنشد ثالث هذه الأبيات رضي الدين في باب الحروف المشبهة بالفعل من شرح الكافية وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 352" وأنشده ابن يعيش في شرح المفصل "ص1131" وهو من شواهد ابن هشام في أوضح المسالك "رقم 148" وفي مغني اللبيب "رقم 39" وأنشد أول هذه الأبيات في شذور الذهب "رقم 112" وأنشده الأشموني ثالثها "رقم 281 بتحقيقنا" والأبيات من كلمة لأخت عمرو بن العجلان الكاهلي الملقب بذي كلب، ومن الرواة من يسمي أخته عمرة، ومنهم من يسميها جنوب ويروى صدر أولها "لقد علم الضيف والمرملون" ويروى صدر ثالثها "بأنك ربيع وغيث مريع" والضيف: يطلق على الواحد والاثنين والجمع، والصبية: جمع صبي، والمرملون: جمع مرمل، وهو الذي نفد زاده، ويروى بدله "والمجتدون" وهو جمع المجتدي، وهو طالب الجداء، وهو كالعطاء وزنًا ومعنًى، وقوله "وهبت شمالًا" نصب شمالًا على الظرفية وأضمر في هبت ضمير الريح =

وخَلَّتْ عن أَوْلَادِهَا المرضعاتُ ... ولم تَرَ عينٌ لمُزْنٍ بِلَالَا بأنك الربيعُ وغيثٌ مريعٌ ... وقِدْمًا هناك تكون الثَّمَالَا أراد بأنّك بالتشديد، إلا أن الاستدلال على إعمالها في المضمر مع التخفيف عندي ضعيف؛ لأن ذلك إنما يجوز في ضرورة الشعر لا في اختيار الكلام إلا في رواية شاذة ضعيفة غير معروفة فلا يكون فيه حجة. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنما عملت لشبه الفعل لفظًا؛ فإذا خففت زال شَبَهها به فبطل عملها" قلنا: هذا باطل؛ لأن إن إنما عملت لأنها أشبهت الفعل لفظًا ومعنًى؛ وذلك من خمسة أوجه، وقد قدمنا ذكرها في موضعها فإذا خففت صارت بمنزلة فعل حُذِفَ منه بعض حروفه، وذلك لا يبطل عمله، ألا ترى أنك تقول: "عِ الكلام، وشِ الثوب، وَلِ الأمْرَ" وما أشبه ذلك، ولا تُبْطِلُ عمله؛ فكذلك ههنا. وأما قولهم "إن إن المشددة من عوامل الأسماء، وإن المخففة من عوامل الأفعال" قلنا: هذا الاستدلال ظاهر الاختلال، فإنا إذا قدرنا أنها مخففة من الثقيلة؛ فهي من عوامل الأسماء، وإذا لم نقدر أنها مخففة من الثقيلة؛ فليست من عوامل الأسماء، وإن الخفيفة في الأصل غير إن المخففة من الثقيلة؛ لأن تلك الخفيفة من عوامل الأفعال، وهذه المخففة من الثقيلة من عوامل الأسماء، ولم يقع الكلام في إن الخفيفة في الأصل، وإنما وقع في إن المخففة من الثقيلة، وقد بيَّنَّا الفرق بينهما، والله أعلم.

_ = وإن لم يجرِ لها ذكر لانفهام المعنى وسياقته إلى ذهن السامع، ونظيره ما أنشده سيبويه من قول جرير "1/ 113 و 201": هبت جنوبًا فذكرى ما ذكرتكم ... عند الصفاة التي شرقي حورانًا وقوله "وخلت عن أولادها المرضعات" يريد أن الزمان قد اشتد حتى ذهلت كل مرضعة عن ولدها الذي ترضعه "بأنك ربيع" أي أنه كثير النفع واصل السيب والعطاء بمنزلة الربيع" وغيث مريع" -بفتح الميم أو ضمها- أي مكلئ خصيب "الثمالا" -بكسر الثاء المثلثة- هو الذخر والغياث. والاستشهاد فيه بقوله "بأنك ربيع" وقوله "وأنك تكون الثمالا" حيث خفف أن المؤكدة، وأعملها في الاسم والخبر، واسمها في الموضعين ضمير مخاطب مذكور، وخبرها في الموضع الأول مفرد وهو قوله ربيع، وفي الموضع الثاني جملة فعلية مؤلفة من تكون واسمها وخبرها، وذلك شاذ، والكثير المستعمل أن يكون اسمها ضميرًا محذوفًا؛ لتكون عاملة كلا عاملة، بسبب زوال بعض وجوه الشبه بينها وبين الفعل بالتخفيف، كما أن الأكثر عند جمهرة العلماء أن يكون الضمير المحذوف ضمير الشأن، وخالف في هذا ابن مالك فقال "إذا أمكن جعل الضمير ضمير غائب غير الشأن أو ضمير حاضر فهو أولى".

مسألة القول في زيادة لام الابتداء في خبر لكن

25- مسألة: [القول في زيادة لام الابتداء في خبر لكنَّ] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز دخول اللام في خبر "لكن" كما يجوز في خبر إن، نحو "ما قام زيدًا لَكِنَّ عمرًا لقائم" وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز دخول اللام في خبر لكنَّ. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه يجوز دخول اللام في خبر "لكنَّ" النقلُ والقياسُ: أما النقل فقد جاء عن العرب إدخال اللام على خبرها، قال الشاعر: [129] ولكنَّنِي من حُبِّهَا لَكَمِيدُ2

_ [129] قد استشهد بهذا البيت ابن يعيش في شرح المفصل "ص1121 و 1135" ورضي الدين في شرح كافية ابن الحاجب "2/ 332" وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 343" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 386" والأشموني "رقم 265" وابن عقيل "رقم 99"وينص أكثر هؤلاء العلماء على أن هذا الشاهد لا يعلم قائله ولا تعرف له تتمة ولا سوابق أو لواحق، إلا ابن عقيل فإنه رواه بيتًا كاملًا من غير عزو، هكذا: يلومونني في حب ليلى عواذلي ... ولكنني من حبها لعميد والاستشهاد بالبيت في قوله "ولكنني لعميد" حيث قرن خبر "لكن" باللام التي تدخل في بعض المواضع لتفيد الكلام فضل توكيد، والبصريون يرون هذا شاذًّا لا يجوز القياس عليه، والكوفيون يرونه سائغًا جائزًا، وتفصيل مقالة الفريقين في أصل الكتاب.

وأما القياس فلأن الأصل في "لكنَّ" إنَّ، زيدت عليها لا والكاف؛ فصارتا جميعًا حرفًا واحدًا، كما زيدت عليها اللام والهاء في قول الشاعر: [130] لهِنَّكِ من عَبْسية لوَسِيمَةٌ ... على هَنَوَاتِ كاذبٍ من يَقُولُهَا

_ [130] أنشد ابن منظور هذا البيت "ل هـ ن" ثاني بيتين، ونسب روايتهما إلى الكسائي، ولم يعزهما إلى قائل معين، والبيت السابق عليه قوله: وبي من تباريح الصبابة لوعة ... قتيله أشواقي، وشوقي قتيلها وأنشد بيتًا آخر يشترك مع بيت الشاهد في صدره، ولم يعزه إلى معين أيضًا، وهو بتمامه هكذا: لهنك من عبسية لوسيمة ... على كاذب من وعدها ضوء صادق والاستشهاد بالبيت في قوله "لهنك لوسيمه" وللعلماء ثلاثة آراء في تخريج هذه العبارة: الأول: أنها في الأصل "لإنك" بلام توكيد مفتوحة ثم إن المكسورة الهمزة المشددة النون، والأصل أن لام التوكيد التي تدخل على إن المكسورة تتأخر عن إن وما يليها؛ فتدخل على خبرها كما تقول "إن زيدًا لمنطلق" أو على اسمها بشرط أن يتأخر عن الخبر كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} [النحل: 66] أو على ضمير الفصل الواقع بين اسمها وخبرها نحو قوله سبحانه: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران: من الآية 62] ولا يجوز أن تقترن اللام بإن، ولكنه لما أبدل الهمزة من إن هاء توهم أنها كلمة أخرى غير إن، واللام في "لوسيمة" زائدة، وهذا معنى قول الجوهري: "وقولهم لهنك -بفتح اللام وكسر الهاء- فكلمة تستعمل عند التوكيد، وأصله لإنك، فأبدلت الهمزة هاء، كما قالوا في "إياك": هياك. وإنما جاز أن يجمع بين اللام وإن وكلاهما للتوكيد لأنه لما أبدلت الهمزة هاء زال لفظ إن فصار كأنه شيء آخر" ا. هـ كلامه بحروفه، وهذا المذهب ينسب إلى سيبويه. الرأي الثاني: ذهب جماعة من النحاة إلى أن أصل "لهنك" لاه إنك، أي والله إنك، على نحو ما جاء في قول ذي الإصبع العدواني: لاه ابن عمك، لا أفضلت في حسب ... عني، ولا أنت دياني فتخزوني أي لله ابن عمك، ثم حذفت الألف والهمزة من "أن" فصار لهنك، وهذا مذهب ينسب إلى الكسائي وكان أبو عليّ الفارسي يرجحه، قال ابن جني تلميذه "وفيه تعسف" قال الجوهري: "وأنشد الكسائي: لهنك من عبسية لوسيمه وقال: أراد الله إنك من عبسية فحذف اللام الأولى "يريد لام الجر" والألف من إنك" ا. هـ، وقد نسب المؤلف هذا الرأي إلى المفضل. الرأي الثالث: أن أصله "والله إنك" فحذف الواو وإحدى اللامين من "والله" وحذف الهمزة من إن، وهو رأي الفراء على ما قاله المؤلف، وفيه من التعسف أكثر مما في الرأي الثاني. والصواب الأول. وقد ورد كثيرًا في شعر العرب المحتج بهم، من ذلك قول محمد بن مسلمة، وأنشده ابن منظور، وهو من شواهد الرضي، وابن يعيش "1120": ألا يا سنا برق على قلل الحمى ... لهنك من برق على وسيم =

فزاد اللام والهاء على إن، فكذلك ههنا: زاد عليها لا والكاف؛ فإن الحرف قد يُوصَلُ في أوله وآخره، فما وصل في أوله نحو "هذا وهَذاكَ" وما وصل في آخره نحو قوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَينَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} [مريم: من الآية26] وكذلك نقول: إن قول العرب "كم مَالُكَ" إنها "ما" زيدت عليها الكاف، ثم إن الكلام كثر بها فحذفت الألف من آخرها وسُكّنتْ ميمُها، كما زيدت اللام على "ما" ثم لما كثر الكلام بها سكنت ميمها فقالوا: "لِمَ فعلت كذا"؟ قال الشاعر: [131] يا أبا الأسود لم أَسْلَمَتْنِي ... لهموم طَارِقَاتٍ وذِكَرْ

_ = وقال تليد الضبي، وكان أحد اللصوص على عهد عمر بن عبد العزيز: لهني لأشقى الناس إن كنت غارمًا ... قلائص بين الجهلتين ترود وقال خداش بن زهير العامري، وهو صحابي شهد حنينًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: لهني لأشقى الناس إن كنت غارمًا ... لعاقبة قتلي خزيمة والخضر وقال الشاعر: لهني لأشقى الناس إن كنت غارمًا ... لدومة بكرًا ضيعته الأراقم وقال الشاعر: وقالت: ألا هل تقصم الحب موهنًا ... من الليل، إن الكاشحين خضور فقلت لها: ما تطعميني أقتلد ... لهن الذي كلفتني ليسير وقال الآخر: ثمانين حولًا لا أرى منك راحة ... لهنك في الدنيا لباقية العمر وأنشد أبو زيد: أبائنة حبي؟ نعم وتماضر ... لهنا لمقضي علينا التهاجر [131] أولًا: انظر المسألة 40، ثم نقول: أنشد ابن هشام هذا البيت في مغني اللبيب "رقم 499 بتحقيقنا" ولم يتكلم السيوطي عليه مطلقًا، وأنشده البغدادي في خزانة الأدب "2/ 538" أثناء شرحه للشاهد رقم 436 من شواهد الكافية، والبيت من شواهد ابن يعيش "ص1287" وشرح الكافية للرضي "ش516" وشرحه للبغدادي في الخزانة "3/ 197" وهو أيضًا من شواهد الرضي في شرح الشافية "ش110" وشرحه البغدادي بإيجاز "ص224 بتحقيقنا" و "أسلمتني" هو من قولهم "أسلم فلانا فلانًا" بمعنى خذله وتركه لأعدائه، ويروى في مكانه "خليتني" أي تركتني، ويروى "خلفتني" والهموم: جمع هم، وهو الحزن، وطارقات: أصلها من الطروق، وهو المجيء ليلًا، وإنما خص الهموم بالطارقات لأنها في أكثر الأحوال تكون في الليل، إذ هو الوقت الذي يخلو فيه بنفسه وأفكاره وهواجسه، والذكر -بكسر الذال وفتح الكاف- جمع ذكرة، وهي ضد النسيان. والاستشهاد بالبيت في قوله "لم" فإن هذه اللام حرف جر، والميم أصلها "ما" الاستفهامية حذفت ألفها ثم سكنت الميم، وللعلماء في كل واحد من حذف الألف وتسكين الميم كلام نلخصه لك فيما يلي: الأصل أن تبقى الكلمات -وبخاصة غير المتمكنة- على حالها، فلا =

وقال بعض العرب في كلامه -وقد قيل له: منذ كم قَعَدَ فلانٌ؟ - فقال: "كمنذ أَخَذْتَ في حديثك" فزاد الكاف في "منذ"؛ فدل على أن الكاف في كم زائدة، وقيل لبعضهم: كيف تصنعون الأَقِطَ؟ فقال: كَهَيَّنٍ، أي: يسير سَهْل، فيزيدون الكاف، فكذلك ههنا: زيدت لا والكاف على إنَّ وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال فصارت حرفًا واحدًا، كما قالوا "لن" وأصلها لا أن، فحذفوا الألف والهمزة لكثرة الاستعمال، فصارتا حرفًا واحدًا، فكذلك ههنا، وبل أولى، فإنه

_ = يتصرف فيها بحذف ولا غيره، إلا أنهم رأوا "ما" تكون موصولة أحيانًا واستفهامية أحيانًا أخرى، وأن إحداهما قد تلتبس بالأخرى؛ فلا يتبين للسامع إن كانت "ما" موصولة فيكون الكلام خبرًا، أو استفهامية فيكون الكلام إنشاء، ورأوا أن أكثر ما يكون الالتباس في موضع الجر، فأرادوا أن يفرقوا بين الحالين، فحذفوا ألف "ما" الاستفهامية في موضع الجر نحو قوله تعالى: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43] وقوله جلت كلمته: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35] وقوله تباركت أسماؤه: {لِمَ تُؤْذُونَنِي} [الصف: 5] وقوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] وأبقوا ألف" ما" الموصولة، نحو قوله سبحانه: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 14] وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيدَي} [صّ: من الآية75] وقوله: {يؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيكَ} [البقرة: 4] وهل حذف ألف "ما" الاستفهامية حينئذ واجب أو غالب؟ وهل هو عام في كل موضع وقعت فيه مجرورة أو خاص بما إذا كان الجار حرفًا من حروف الجر، فإن كان الجار اسمًا متمكنًا -نحو "مجيء م جئت"- اختلف الحكم؟ ظاهر عبارة الرضي أن حذف ألف ما الاستفهامية المجرورة غالب لا لازم، وهو ما صرح به الزمخشري في موضع في تفسيره، وعبارة ابن هشام في المغني صريحة في أن حذف هذه الألف واجب؛ وذكرها شاذ، وصرح بمثل هذا جار الله الزمخشري في موضع آخر من تفسيره، وذكر اللبلي في شرح أدب الكاتب أن الخوف خاص بما إذا كان الجار حرفًا، وذكر ابن قتيبة أن الحذف خاص بما إذا ذكر مع ما لفظ شئت -نحو سل عم شئت- والمعوّل عليه من هذا الكلام أن حذف الألف من "ما" الاستفهامية أكثر من ذكرها متى كانت مجرورة المحل، سواء أكان الجار حرفًا أم اسمًا، وقد ورد ذكرها في جملة من الأبيات، منها قول حسان بن ثابت الأنصاري: على ما قام بشتمني لئيم ... كخنزير تمرغ في رماد؟ ومن ذلك قول كعب بن مالك الأنصاري: إما قتلنا بقتلانا سراتكم ... أهل اللواء ففيما يكثر القيل؟ وقرئ به في قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} وأما إسكان الميم فهو حذف لفتحتها، إجراء للوصل مجرى الوقف، ونظيره قول ابن مقبل: أأخطل لم ذكرت نساء قيس ... فما روعن عنك ولا سبينا وقد ذهب الفراء إلى أن "كم" مركبة من الكاف الجارة و "ما" الاستفهامية، وقد حذفت ألف "ما" لدخول الجار عليها، وسكن آخرها إجراء للوصل مجرى الوقف كما فعل ابن مقبل في قوله "لم ذكرت" وكما فعل صاحب البيت المستشهد به في قوله "لم أسلمتني".

إذا جاز حذف الألف والهمزة لكثرة الاستعمال فلأن يجوز حذف الهمزة كان ذلك من طرق الأولى. وقالوا: ولا يجوز أن يقال "إنه لو كان أصلها لا أنْ؛ لما جاز أن يقال: أما زيدًا فلن أضرب؛ لأن ما بعد أنْ لا يجوز أن يعمل فيما قبلها"؛ لأنا نقول: إنما جاز ذلك لأن الحروف إذا ركبت تغير حكمها بعد التركيب عما كان عليه قبل التركيب، ألا ترى أن "هل" لا يجوز أن يعمل ما بعدها فيما قبلها، وإذا ركبت مع "لا" ودخَلَها معنى التحضيص تغير ذلك الحكم عما كان عليه قبل التركيب؛ فجاز أن يعمل ما بعدها فيما قبلها، فيقال "زيدًا هلَّا ضربت"؟ فكذلك ههنا. والذي يدل على أن أصلها إنَّ على ما بيَّنَّا أنه يجوز العطف على موضعها كما يجوز العطف على موضع إنَّ؛ فدلّ على أن الأصل فيها إنَّ زيدت عليها لا والكاف؛ فكما يجوز دخول اللام في خبر إنَّ؛ فكذلك يجوز دخولها في خبر لكن. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأنه لا يخلو إما أن تكون هذه اللام لام التأكيد أو لام القسم، على اختلاف المذهبين، وعلى كلا المذهبين فلا يستقيم دخول اللام في خبر لكن، وذلك لأنها إن كانت لام التأكيد فلام التأكيد إنما حسنت مع إنَّ لاتفاقهما في المعنى؛ لأن كل واحدة منهما للتأكيد وأما لكنَّ فمخالفة لها في المعنى، وإن كانت لام القسم فإنما حسنت مع إنَّ لأن إنَّ تقع في جواب القسم، كما أن اللام تقع في جواب القسم، وأما لكن فمخالفة لها في ذلك؛ لأنها لا تقع في جواب القسم؛ فينبغي أن لا تدخل اللام في خبرها. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قوله: [129] ولكنني من حبها لكميد فهو شاذ لا يؤخذ به لقلّته وشذوذه، ولهذا لا يكاد يعرف له نظير في كلام العرب1 وأشعارهم، ولو كان قياسًا مطردًا لكان ينبغي أن يكثر في كلامهم وأشعارهم، كما جاء في خبر إنَّ، وفي عدم ذلك دليل على أنه شاذ لا يقاس عليه. وأما قولهم "إن الأصل في لكنَّ إنَّ زيدت عليها لا والكاف فصارتا حرفًا واحدًا" قلنا: لا نسلم؛ فإن هذا مجرد دعوى من غير دليل ولا معنى. قولهم "كما زيدت اللام والهاء في قوله: [130] لَهِنَّكِ من عبسية لَوَسِيمَهٌ

_ 1 بل لا يعرف أوله ولا قائله.

قلنا: ولا نسلم أن الهاء في قوله "لهنك" زائدة، وإنما هي مبدلة من ألف إنَّ؛ فإن الهاء تبدل من الهمزة في مواضع كثيرة من كلامهم، يقال: هَرَقْتُ الماء، والأصل فيه أرقت، وهَرَحْتُ الدابة، والأصل فيه أرحت، وَهَنَرْتُ الثوب، والأصل فيه أنرت، وهِبْرِيَة، والأصل فيه أبرية وهو الحَزَاز في الرأس، وهَرَدْتُ والأصل أردتُ، وهِيَّاكَ، والأصل إياك، وقد قرأ بعض القراء: "هِيَّاكَ نعبد" وقال الشاعر: [132] فَهِيّاكَ والأمر الذي إن توسَّعت ... مواردة ضاقت عليك المصادر وقال الأخر: [133] يا خَالِ هلَّا قُلْتَ إذا أعطيتني ... هِيَّاكَ هِيَّاكَ وحَنْوَاءَ العُنُقْ أراد إياك، وقد قال الله تعالى: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] قيل: أصله مؤيمن فقلبت الهمزة هاء، ولهذا قيل في تفسير {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} حافظًا عليه، وقيل: شاهدًا، وقيل: رقيبًا عليه، وقيل: قَفَّانًا عليه، وكل هذه الألفاظ متقاربة في المعنى؛ فدلَّ على أن الهاء في "لهِنَّكِ" مبدلة من همزة، ولهذا المعنى جاز أن يجمع بين اللام وبينها لتغير صورتها، وقد حكي عن أصحابكم فيه وجهان: أحدهما قول الفراء، وهو أن أصله: والله إنك لوسيمة، فحذفت الهمزة من إنَّ، والواو من والله، وإحدى اللامين، فبقي لهنك، والوجه الثاني -وهو قول

_ [132] هذا البيت أول بيتين رواهما أبو تمام في ديون الحماسة، ولم يعزهما ولا عزاهما أحد شراحه، والبيت الذي بعده هو قوله: فما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر وقوله: "إن توسعت موارده" وقع في رواية المرزوقي "ص1152""إن توسعت مداخله" والاستشهاد بالبيت في قوله "فهياك" فإن أصل هذا اللفظ "فإياك" فأبدل من الهمزة هاء، ونظيره قول الآخر. وأنشده ابن منظور "أيا": فانصرفت وهي حصان مغضبه ... ورفت بصوتها هيا أبه أراد أن يقول "أيا أبه" "وأيا" و "هيا" كلاهما حرف نداء، إلا أن "أيا" أكثر استعمالا من "هيا" فيدل كثرة استعمال "أيا" على أنها الأصل. [133] هذا بيت من الرجز، وقد أنشده ابن منظور "ح ن و" عن اللحياني عن الكسائي، والحنواء -ومثلها الحانية- من الغنم: التي تلوي عنقها لغير علة، وكذلك هي من الإبل، وقد يكون ذلك عن علة، والاستشهاد بالبيت في قوله "هياك هياك" وأصله "إياك إياك" فأبدل من الهمزة هاء، وهو نظير ما ذكرناه في شرح الشاهد السابق، ونظيره قول الآخر وهو من شواهد مغني اللبيب "رقم 18": فأصاخ يرجو أن يكون حيا ... ويقول من فرح: هيا ربا

المفضل بن سلمة إن أصله لله إنَّك لَوَسِيمة، فحذفت لامان من لله، والهمزة من إن، فبقى "لهنك" فسقط الاحتجاج به على كلا المذهبين. وأما قولهم "إن الحرف قد يوصل في أوله نحو هذا" قلنا: هذا إنما جاء قليلًا على خلاف الأصل لدليل دلّ عليه؛ فبقينا فيما عداه على الأصل، ولا يدخل هذا في القياس فيقاس عليه. وأما قولهم "إن كم مَالُكَ أصلها ما زيدت عليها الكاف" قلنا: لا نسلم، بل هذا شيء تَدَّعُونه على أصلكم، وسنبين فساده في موضعه إن شاء الله تعالى: وأما قولهم "إن لن أصلها لا أنْ" قلنا: لا نسلّم، بل هو حرف غير مركب، وقد نص سيبويه على ذلك، والذي يدل على أنه غير مركب من لا "وأن" أنه يجوز أنْ يقال: أما زيدًا فَلَنْ أضرب، ولو كان كما زعموا لما جاء 1 ذلك؛ لأن ما بعد أن لا يجوز أنْ يعمل فيما قبلها. قولهم "إن الحروف إذا رُكبت تغيرَ حكمها عما كانت عليه قبل التركيب كَهْلًا" قلنا: إنما تغير حكم هَلّا لأَنَّ هَلّا ذهب منها معنى الاستفهام؛ فجاز أن يتغير حكمها، وأما لن فمعنى النفي باقٍ فيها؛ فينبغي أن لا يتغير حكمها، فَبَانَ الفرق بينهما. وأما قولهم "إنه يجوز العطف على موضع لكِنَّ كما يجوز العطف على موضع إنَّ؛ فدلَّ على أن الأصل فيها إنَّ" قلنا: لا نسلم أنه إنما جاز العطف على موضع لكن لأن أصلها إن، وإنما جاز ذلك لأن لكن لا تغير معنى الابتداء؛ لأن معناها الاستدراك، والاستدراك لا يزيل معنى الابتداء والاستئناف؛ فجاز أن يعطف على موضعها كإنَّ؛ لأن إنَّ إنما جاز أن يعطف على موضعها دون سائر أخواتها لأنها لم تغير معنى الابتداء، بخلاف كأن وليت ولعل؛ لأن كأن أَدْخَلَتْ في الكلام معنى التشبيه، وليت أدخلت في الكلام معنى التمني، ولعل أدخلت في الكلام معنى الترجِّي، فتغير معنى الابتداء، فلم يجز العطف على موضع الابتداء لزواله، فأما لكن لما كان معناها الاستدارك وهو لا يزيل معنى الابتداء والاستئناف جاز العطف على موضعها كإنَّ، على أنه من النحويين من يذهب إلى زوال معنى الابتداء مع لكن فلا يجوز العطف على موضعها. والذي يدل على أن لكن مخالفة لإنَّ في دخول اللام معها أنه لم يأتِ في كلامهم دخولُ اللام على اسمها إذا كان خبرُها ظرفًا أو حرف جر نحو "لكنَّ عندك

_ 1 ربما كان أصل العبارة "لما جاز ذلك".

لزيدًا، أول لكنَّ في الدار لعمرًا" كما جاء ذلك في إنَّ، فلما لم يأتِ ذلك في شيء من كلامهم ولا نُقِلَ في شيء من أشعارهم دلّ أنه يجوز دخول اللام في خبرها؛ لأن مجيئه في اسمها مقدم في الرتبة على مجيئته في خبرها، وإذا لم تدخل اللام في اسمها فإنْ لا تدخل في خبرها كان ذلك من طريق الأولى. وبيانُ هذا وهو أن الأصل في هذه اللام أن تكون متقدمة في صدر الكلام؛ فكان ينبغي أن تكون مُقَدَّمة على إنَّ، إلا أنه لما كانت "اللام" للتأكيد وإن للتأكيد لم يجمعوا بين حرفي تأكيد؛ فكان الأصل يقتضي أن تنقل عن صدر الكلام وتدخل الاسم؛ لأنه أقرب إليه من الخبر، إلا أنه لما كان الاسم يلي إنَّ كرهوا أن يدخلوها على الاسم كراهيةً للجمع بين حَرْفَيْ تأكيد، فنقلوها من الاسم وأدخلوها على الخبر. والذي يدل على أن الأصل فيها أن تكون مقدمة على إنَّ أنها لام الابتداء، ولام الابتداء لها صدر الكلام. والذي يدل على أن الأصل فيها أن تدخل على الاسم قبل الخبر أنه إذا فصل بين إنَّ واسمها بظرف أو حرف جر جاز دخولها عليه، نحو "إن عندك لزيدًا، وإنَّ في الدار لعمرًا" قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيةً} [البقرة: 248] . فإذا ثبت أن هذا هو الأصل، وأنه لا يجوز دخول اللام على اسم "لكن" إذا كان خبرها ظرفًا أو حرف جر؛ دلّ على أنه لا يجوز أن تدخل على خبرها؛ لأنه لو كان دخول اللام مع لكن كدخولها مع إن لجاز أن تدخل على اسمها إذا كان خبرها ظرفًا أو حرف جر، كما تدخل عليه خبرها؛ فلما لم يجزْ ذلك دلّ على فساد ما ذهبوا إليه، والله أعلم.

مسألة القول في لام لعل الأولى زائدة هي أو أصلية

26- مسألة: [القول في لام "لعل" الأولى؛ زائدة هي أو أصلية؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن اللام الأولى في "لعل" أصلية، وذهب البصريون إلى أنها زائدة. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن اللام أصلية لأن "لعل" حرف، وحروف الحروف كلها أصلية؛ لأن حروف الزيادة التي هي الهمزة والألف والياء والواو والميم والتاء والنون والسين والهاء واللام والتي يجمعها قولك "اليوم تنساه" و "لا أنسيتموه" و "سألتمونيها" إنما تختص بالأسماء والأفعال، فأما الحروف فلا يدخلها شيء من هذه الحروف على سبيل الزيادة، بل يحكم على حروفها كلها بأنها أصلية في كل مكان على كل حال، ألا ترى أن الألف لا تكون في الأسماء والأفعال إلا زائدة أو منقلبة، ولا يجوز أن يحكم عليها في ما ولا ويا بأنها زائدة أو منقلبة، بل نحكم عليها بأنها أصلية؛ لأن الحروف لا يدخلها ذلك، فدلَّ على أن اللام أصلية. والذي يدلّ على ذلك أيضًا أن اللام خاصة لا تكاد تزاد فيما يجوز فيه الزيادة إلا شاذًّا، نحو "زَيْدَلٍ، وعَبْدَلٍ، وفَحْجَلٍ" في كلمات معدودة، فإذا كانت اللام لا تزاد فيما يجوز فيه الزيادة إلا على طريق الشذوذ فكيف يحكم بزيادتها فيما لا يجوز فيه الزيادة بحال؟ وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنها زائدة لأنّا وجدناهم يستعملونها كثيرًا في كلامهم عاريةً عن اللام، قال نافع بن سعد الطائي:

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرحنا على شرح الأشموني "3/ 188 ش522" وشرح التصريح للشيخ خالد "2/ 3" ولسان العرب "ع ل ل - ل ع ل" وشرح المفصل لابن يعيش "ص1142" وشرح الرضي على الكافية "2/ 335" وخزانة الأدب للبغدادي "في شرح الشواهد 876 و 877 و 878" "ج4/ 368-378".

[134] وَلَسْتُ بِلَوَّامِ عَلَى الأمر بَعْدَ مَا ... يَفُوتُ، ولكِنْ عَلَّ أَنْ أَتَقَدّمَا أراد لعل، وقال العُجَيْز السَّلُولي: [135] لك الخير عَلِّلْنَا بها، عَلَّ سَاعَةً ... تمر، وسهواءً مِنَ اللّيلِ يَذْهَبُ وقال الآخر: [136] عَلَّ صُرُوفَ الدّهر أو دُولَاتِهَا ... تُدِلْنَنَا اللَّمَّةَ مِنَ لَمّاتها

_ [134] أنشد ابن منظور هذا البيت "ل ع ل" عن ابن بري، ونسبه لنافع بن سعد الغنوي، واستشهد به موفق الدين بن يعيش "ص1142" ولم يعزه، والاستشهاد به في قوله "عل" حيث جاء بهذا الحرف ساقط اللام الأولى التي في "لعل" وقد ذكر المؤلف -نقلًا عن البصريين- أن سقوط اللام في هذا البيت ونحوه يدل على أن هذه اللام زائدة في لعل، وأن الأصل هو "عل" ولا يتم هذا الكلام لهم؛ لأن الحروف بأنواعها ليست محلًّا للتصريف بالحذف والزيادة أو غيرهما، ولأنه يجوز أن يكون الأمر على عكس ما ذهبوا إليه، وأن الأصل هو لعل فحذفت لامها الأولى في عل، ويجوز أن يكون كل واحد منهما أصلًا برأسه، ولأن العرب قد تلعبت في لعل كثيرًا، فقد أبدلوا من عينها غينًا فقالوا: لغن، وأبدلوا عينها همزة ولامها الأخيرة نونًا فقالوا: لأن، وأبدلوا اللام الأخيرة نونًا مع حذف اللام الأولى فقالوا: عن، وزادوا على ذلك فأبدلوا العين همزة فقالوا: أن، فلم يبقَ من حروفها الأصلية شيء، وهذه كلها لغات من لغات العرب، وليست إحداهن بأن تكون أصلًا أولى من غيرها. [135] نسب المؤلف هذا البيت للعجيز السلولي، والسهواء -بفتح السين، ممدودًا- ساعة من الليل وصدر منه، قاله ابن منظور، والاستشهاد بالبيت في قوله "عل" وهو نظير ما ذكرناه في البيت السابق. [136] هذان بيتان من مشطور الرجز، وقد أنشدهما ابن جني في الخصائص "1/ 316" وابن منظور "ع ل ل" ولم يعزهما، وأنشدهما في "ل م م" ونسب الإنشاد للفراء وزاد بعدهما: فتستريح النفس من زفراتها والاستشهاد هنا في قوله "عل" فقد جاء به المؤلف لمثل ما جاء بالبيتين السابقين من أجله شاهدًا لمجيء عل ساقطة اللام الأولى مدعيًا أن ذلك يدل على أن أصل لعل هو عل، وقد بينا ما في ذلك في شرح الشاهد 134، والعجب العاجب ما حكاه ابن منظور عن الكسائي أنه يروي قول الراجز "عل صروف الدهر" بجر صروف، ويخرجه على أن العين واللام الأولى أصلهما "لعا" وهي الكلمة التي تقال للعاثر دعاء له بأن ينتعش، حذفت اللام الأولى، فصار "عا" فأبدل من التنوين لامًا فصار "عل" بفتح العين وسكون اللام، واللام الثانية هي لام الجر، وكأن الراجز قد قال "لعا لصروف الدهر" وهو كلام يشبه الأحاجي. وهاك كلام ابن منظور: "قال الكسائي: العرب تصير لعل مكان لعا، وتجعل لعا مكان لعل، وقال في قوله: عل صروف الدهر أو دولاتها

وقال الآخر: [137] ولا تُهِينَ الفَقِير؛ عَلَّكَ أَنْ ... تركع يومًا والدهر قد رَفَعَهْ

_ = معناه: عا لصروف الدهر، فأسقط اللام من لعا لصروف الدهر، وصير نون لعا لامًا لقرب مخرج النون من اللام، هذا على قول من كسر صروف، ومن نصبها جعل عل بمعنى لعل، فنصب صروف الدهر، ومعنى لعا لك أي ارتفاعًا، قال ابن رومان: وسمعت الفراء ينشد عل صروف الدهر "أي بالجر" فسألته: لم تكسر على صروف؟ فقال: إنما معناه لعا لصروف الدهر ودولاتها، فانخفضت صروف باللام، والدهر بإضافة الصروف إليها، أراد: أو لعا لدولاتها ليدلننا من هذا التفرق الذي نحن فيه اجتماعًا ولمة من اللمات. قال: دعا لصروف الدهر ولدولاتها؛ لأن لعا معناه ارتفاعًا وتخلصًا من المكروه، وألقى اللام وهو يريدها، كقوله: لئن ذهبت إلى الحجاج يقتلني أراد ليقتلني" ا. هـ. وهو كما ترى. [137] هذا البيت من كلمة للأضبط بن قريع، وقد رواها أبو عليّ القالي في أماليه، وهو من شواهد مغني اللبيب "رقم 257" والأشموني "رقم 968" وأوضح المسالك "رقم 476" وشرح المفصل "ص1242" وشرح الكافية في باب نوني التوكيد، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 588 بولاق" والاستشهاد به ههنا في قوله "علك أن تركع" حيث أسقط اللام الأولى من لعل، على نحو ما بيَّنَّاه في الشواهد السابقة، والنحاة يستشهدون من هذا البيت أيضًا بقوله "لا تهين الفقير" فإن أصله عندهم: لا تهينن الفقير، بنون توكيد خفيفة، فحذف هذه النون الخفيفة تخلصًا من التقاء الساكنين اللذين هما نون التوكيد، ولام التعريف في "الفقير" والعرب تحذف نون التوكيد الخفيفة الساكنة وهي تريدها، فتبقى الكلمة على ما كانت عليه والنون متصلة بها، سواء أكان بعدها ساكن أم لم يكن، ولذلك نظائر كثيرة في كلام العرب، منها قول الشاعر، وأنشده أبو زيد في نوادره: اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسيف قونس الفرس فإنه أراد أن يقول: أضربن عنك الهموم، فحذف النون تخفيفًا, وإن لم يكن بعدها ساكن، ومثله ما أنشده الجاحظ في البيان: خلافًا لقولي من فيالة رأيه ... كما قيل قبل اليوم: خالف تذكرا فقد أراد أن يقول: خالفن تذكر، فحذف نون التوكيد من "خالفن" وإن كان بعدها متحرك، وأبقى الفتحة على الفاء لتدل على النون، ومثله ما أنشده أبو عليّ الفارسي: إن ابن أحوص مغرور فبلغه ... في ساعديه إذا رام العلا قصر فقد أراد أن يقول "فبلغنه" فحذف نون التوكيد للتخفيف وهو يريدها، بدليل أنه أبقى الفتحة، ومثله قول الآخر: يا راكبًا بلغ إخواننا ... من كان من كندة أو وائل أراد أن يقول "بلغن أخواننا" فحذف نون التوكيد لقصد التخفيف وهو يريدها؛ بدليل إبقائه الفتحة على الغين، وليس سبب الحذف هو قصد التخلص من التقاء الساكنين لأن ما بعد =

وقال الآخر: [138] يا أَبَتَا علَّكَ أو عَسَاكَا وقالت أمُّ النُّحَيْفِ وهو سعد بن قُرْطٍ: [139] تربَّص بها الأيامَ علَّ صُرُوفَها ... سَتَرْمِي بها في جَاحِمٍ مُتَسَعِّر

_ = الغين متحرك كما ترى، ونظيره أيضًا ما أنشده أبو زيد: في أي يومي من الموت أفر ... في يوم لم يقدر أم يوم قدر فقد أراد أن يقول: في يوم لم يقدرن -بتوكيد الفعل المضارع المبني للمجهول المنفي بلم- لكنه حذف نون التوكيد الخفيفة وهو يريدها، ولولا ذلك لسكن "يقدر" لكونه مسبوقًا بلم. وفي هذا القدر كفاية. [138] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 388" ونسبه إلى رؤبة، وكذلك نسبه الأعلم الشنتمري، ولكنه لا يوجد في ديوانه. وهو من شواهد شرح المفصل "ص1142" والأشموني "رقم 252" ومغني اللبيب "رقم 248" وشرح رضي الدين على الكافية في باب الضمير، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 441" وابن جني في الخصائص "2/ 96" والاستشهاد به ههنا في قوله "علك" حيث أسقط اللام الأولى من لعل، على نحو ما ذكرناه في شرح الشواهد السابقة، والنحاة يستشهدون من هذا البيت أيضًا بقوله "عساكا" ولهم في ذلك ثلاثة آراء: أولهما: مذهب أبي العباس الْمُبَرِّد وأبي عليّ الفارسي، وتلخيصه أن "عسى" ههنا هي عسى الدالة على رجاء الخبر الرافعة للاسم الناصبة لخبر، وهي فعل ماضٍ، والضمير المتصل بها باقٍ على أصله من كونه ضمير نصب، لكن هذا الضمير هو خبر عسى فهو مبنيّ على الفتح في محلّ نصب، واسمها محذوف أو هو ما يذكر بعد الضمير في بعض التراكيب نحو قولك "عساك أن تزورنا" فالاسم هو الصدر المنسبك من أن المصدرية ومدخولها. والمذهب الثاني: مذهب يونس بن حبيب وأبي الحسن الأخفش، وتلخيصه أن الضمير المتصل بعسى هو اسمها، وهي عاملة الرفع والنصب، وهذا الضمير في هذا الموضع ضمير رفع لا ضمير نصب، والمذهب الثالث: مذهب شيخ النحاة سيبويه ومن تابعه، وتلخيصه أن عسى في هذا البيت ونحوه ليست هي عسى التي ترفع الاسم وتنصب الخبر، بل هي ههنا حرف ترج ونصب مثل لعل، والضمير المتصل بها في محلّ نصب اسمها، وخبرها محذوف، أي عساك تبقى، مثلًا. وقد أشبعنا القول في هذه المسألة في شرحنا على الأشموني. [139] قد نسب المؤلف هذا البيت لأم النحيف، وتربص: ارتقب وانتظر، والجاحم: الشديد الاشتعال، يقولون: جمر جاحم، ونار جاحمة، ومتسعر: ملتهب متوقد. والاستشهاد من هذا البيت في هذا الموضع بقوله "عل صروفها" حيث أسقط اللام الأولى من لعل، على نحو ما ذكرناه في شرح الشواهد السابقة. ونظير هذه الشواهد التي أثرها المؤلف ما أنشده موفق الدين بن يعيش "1142": عل الهوى من بعيد أن يقربه ... أم النجوم ومن القوم بالعيس وما أنشده ابن منظور ونسبه لمجنون بني عامر: يقول أناس: علّ مجنون عامر ... يروم سلوا، قلت: إني لما بيا

أراد لعل. فلما وجدناهم يستعملونها عاريةً عن اللام في معنى إثباتها دلّنا ذلك على أنها زائدة، ألا ترى أنا حكمنا بأن اللام في "زيدل، وعبدل، وأولالك" وما أشبه ذلك زائدة لأنا نقول في معناه "زيد، وعبد، وأولاك" وحكمنا بأن الهمزة في "النِّئْدُلَان" وهو الكابوس زائدة لأنا نقول في معناه "النيدلان" من غير همز، وكذلك بأن النون في "عَرَنْتَنٍ" زائدة لأنا نقول في معناه "عَرْتن" بغير النون الأولى، إلى غير ذلك من الشواهد؛ فكذلك ههنا. والذي يدل على أنها زائدة أن هذه الأحرف، نعني إنَّ وأخواتها إنما عملت النصب والرفع لشبه الفعل؛ لأن أنّ مثل مَدّ، وليت مثل ليس، ولكن أصلها كِنَّ ركبت معها لا كما ركبت لو مع لا فقيل: لكنّ، وكأن أصلها أنَّ أدخلت عليها كاف التشبيه، فكذلك لعل أصلها علّ وزيدت عليها اللام؛ إذ لو قلنا إن اللام أصلية في لعل لأدَّى ذلك إلى أن لا تكون لعلَّ على وزن من أوزان الأفعال الثلاثية أو الرباعية؛ لأن الثلاثية على ثلاثة أضرب: فَعَلَ كضَرَبَ، وفَعُلَ كمَكُثَ، وفَعِلَ كعَلِمَ، وأما الرباعية فليس لها إلا وزن واحد، وهو فَعْلَلَ نحو دَحْرَجَ وسَرْهَفَ، فكان يؤدّي إلى أن يبطل عملها فوجب أن يحكم بزيادتها؛ لتكون على وزن الفعل كسائر أخواتها، فصارت بمنزلة زيادة لا والكاف في لكنَّ عندكم، فإنه إذا جاز أن تحكموا بزيادة لا والكاف في لكن وهما حرفان وأحدهما ليس من حروف الزيادة فلأن يجوز أن يحكم ههنا بزيادة اللام وهي حرف من حروف الزيادة كان ذلك طريق الأولى. والصحيح في هذه المسألة ما ذهب إليه الكوفيون. وأما الجواب عن كلمات البصريين: أما قولهم "إنا وجدناهم يستعملونها كثيرًا في كلامهم بغير لام؛ بدليل ما أنشدوه من الأبيات" قلنا: إنما حذفت اللام من "لعل" كثيرًا في أشعارهم لكثرتها في استعمالهم، ولهذا 98 تلعبت العرب بهذه الكلمة، فقالوا: لعلَّ، ولَعَلْنَ، ولَعَنَّ -بالعين غير معجمة- قال الشاعر: [140] حتى يقول الجاهل المُنَطَّقُ ... لَعَنَّ هذا معه مُعَلَّقُ

_ [140] نقل البغدادي في الخزانة "4/ 368" تلخيص هذه المسألة عن كتاب الإنصاف، وقد ورد ذكر هذا البيت عنده محرفًا، والمنطق -بزنة المعظم- لابس المنطقة، والمنطقة والمنطق والنطاق: كل شيء شدّ الرجل به وسطه، والمعلق -بزنة المعظم أيضًا- لعله أراد به التعويذة، وفي الحديث "من تعلق شيئًا وكل إليه" ومعناه: من علَّق على نفسه شيئًا من التعاويذ والتمائم وأشباهها معتقدًا أنها تجلب إليه نفعًا أو تدفع عنه ضرًّا لم ينظر الله إليه. والاستشهاد بالبيت في قوله "لعن" فإن هذه لغة من لغات العرب في "لعل" أبدلوا لامها الأخيرة المشددة نونًا، لكثرة ما تلعبوا بهذه الكلمة.

ولَغَنَّ -بالغين معجمة- وأنشدوا: [141] أَلَا يا صاحبي قِفَا لَغَنَّا ... نرى العَرَصَات أو أثرَ الخِيَامِ ورَعَنَّ، وَعَنَّ، وَغَنَّ، ولَغَلَّ، وغَلَّ، فلما كثرت هذه الكلمة في استعمالهم حذفوا اللام لكثرة الاستعمال. وكان حَذْفُ اللام أولى من العين -وإن كان أبعد من الطَّرَفِ- لأنه لو حذف العين لأدَّى ذلك إلى اجتماع ثلاث لامات فيؤدّي ذلك إلى الاستثقال؛ لأجل اجتماع الأمثال، أو لأن اللام تكون في موضع ما من حروف الزيادة وليس العين كذلك، والذي يدل على اعتبار ذلك أنهم جوَّزوا في تكسير فَرَزْدَقٍ وتصغيره فَرَازِقَ وفُرَيْزِقَ -بحذف الدال- ولم يجوِّزوا في تكسير جَحْمَرِش وتصغيره: جَحَامِشَ وجُحَيْمِشَ -بحذف الراء- لأن الدال تشبه حروف الزيادة لمجاورتها التاء ومجيئها بدلًا منها في مُزْدَان ومُزْدَجر، بخلاف الراء فإنها ليست كذلك، وإذا اعتبروا ذلك فيما يقرب من حروف الزيادة وليس منها فلأن يعتبروه فيما هو من حروف الزيادة في الجملة كان ذلك من طريق الأولى؛ فلهذا كان حذف اللام الأولى أولى. وأما قولهم "إنا لما وجدناهم يستعملونها مع حذف اللام في معنى إثباتها دلَّ على أنها زائدة كاللَّام في زيدل وعبدل وأولالك" قلنا: إنما يعتبر هذا فيما يجوز أن تدخل فيه حروف الزيادة، فأما الحروف فلا يجوز أن تدخل عليها حروف الزيادة على ما بينا. وأما قولهم "إن هذه الأحرف إنما عملت لشبه الفعل في لفظه" قلنا: لا نسلم أنها عملت لشبه الفعل في لفظه فقط، وإنما عملت لأنها أشبهته في اللفظ والمعنى، وذلك من عدة وجوه؛ أحدها: أنها تقضي الاسم كما أن الفعل يقتضي

_ [141] أنشد ابن منظور هذا البيت "ل غ ن" ونسبه للفرزدق، إلا أنه روى صدره هكذا: قفا يا صاحبي بنا لغنا والبيت مطلع قصيدة للفرزدق يمدح بها هشام بن عبد الملك بن مروان، وهي ثابتة في ديوانه "835" وفي النقائض "ص1004 ط ليدن" ولكن رواية البيت فيهما هكذا: ألستم عائجين بنا لعنا ... نرى العرصات أو أثر الخيام وعائجين: عاطفين ومائلين، والعرصات: جمع عرصة، وهي وسط الدار، ويقال لها أيضًا: ساحة، وباحة، وبالة، والخيام: جمع خيمة، وهي بيت من خشب يظلّل بالثمام في المرتبع لأنها أبرد ظلالًا من الأبنية، والاستشهاد بالبيت في قوله "لغنا" فإنها لغة في "لعلنا" وقد وقت هذه الكلمة في لسان العرب بالغين المعجمة، وفي النقائض بالعين المهملة، والخطب في ذلك سهل؛ لأن الوجهين صحيحان، وكل واحد منهما لغة.

الاسم، والثاني أن فيها معنى الفعل لأن أن وإن بمعنى أكدت، وكأن بمعنى شبهت، ولكن بمعنى استدركت، وليت بمعنى تمنيت، ولعل بمعنى ترجيت، "والثالث" أنها مبنية على الفتح كما أن الفعل الماضي مبني 99 على الفتح، إلي غير ذلك من الوجوه التي تقدم ذكرها قبلُ، وهذه الوجوه من المشابهة بين لعل والفعل لا تَبْطُل بأن لا تكون على وَزْنٍ من أوزانه، وهي كافية في إثبات عملها بحكم المشابهة، على أنه قد ظهر نَقْصُها عن سائر أخواتها لعدم كونها على وزنٍ من أوزان الفعل وأنه لا يجوز أن تدخل عليها نون الوقاية كما يجوز في سائر أخواتها، فلا يكاد يقال"لَعَلَّنِي" كما يقال "إِنَّنِي، وكأنَّنِي، ولكنَّنِي، ولَيْتَنِي" إلا أن يجيء ذلك قليلًا كما قال عروة بن الوَرْدِ: [142] دَعِينِي أطوفْ في البلاد لَعَلَّنِي ... أُفِيد غِنًى فيه لذي الحَقِّ مَحْملُ وذلك قليل. وأما قولهم "إذا جاز لكم أن تحكموا بزيادة لا والكاف في لكنَّ وهما حرفان فَلأنْ يجوز أن يحكم بزيادة اللام وهي حرف واحد كان ذلك من طريق الأولى" قلنا: هذا فاسد؛ لأنكم لا تقولون بصحة مذهبهم، فكيف يجوز لكم أن تقيسوا عليه؟ فإن القياس على الفاسد فاسد، وقد بيَّنَّا فساد ما ذهبوا إليه في زيادة لا والكاف هناك كما بيَّنَّا فساد زيادة اللام ههنا، وكلاهما قول باطل، ليس له حاصل، والله أعلم.

_ [142] البيت -كما قال المؤلف- لعروة بن الورد، المعروف بعروة الصعاليك. وقوله "دعيني" معناه اتركيني، ويروى "ذرينني" وهو بمعناه، وقوله "أطوف" أي أكثر الطواف والجولان، ويروى في مكانه "أسير" بتشديد الياء ومعناه أكثر السير، والاستشهاد بالبيت في قوله "لعلني" حيث وصل نون الوقاية بلعل حين أراد أن يعملها في ياء المتكلم، وقد زعم المصنف أن ذلك قليل، وأن الكثير "لعلي" بترك النون، وقد وردت عدة أبيات كبيت الشاهد، من ذلك قول حاتم الطائي، وأنشده ابن منظور "ع ل ل": أريني جوادًا مات هزلًا لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلًا مخلدًا ومن ذلك قول الآخر، وهو من شواهد الأشموني "رقم 59" وابن عقيل "رقم 19" وابن الناظم في باب الضمير: فقلت: أعيراني القدوم لعلني ... أخط بها قبرًا لأبيض ماجد نعم حذف النون أعرف وأشهر، وبه وحده ورد في القرآن الكريم، نحو قوله تعالى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} [غافر: 36] وقوله: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: من الآية100] وقوله: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} [طه: من الآية10] وقوله: {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [القصص: من الآية 38] .

مسألة القول في تقديم معمول اسم الفعل عليه

27- مسألة: [القول في تقديم معمول اسم الفعل عليه] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "عليك، ودونك، وعندك" في الإغراء يجوز تقديم معمولاتها عليها، نحو "زيدًا عليك، عمرًا عندك، وبكرًا دونك". وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز تقديم معمولاتها عليها، وإليه ذهب الفراء من الكوفيين. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه يجوز تقديم معمولاتها عليها النقل والقياس. أما النقل فقد قال الله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] والتقدير فيه: عليكم كتاب الله: أي الزموا كتاب الله، فنصب كتاب الله بعليكم، فدَّل على جواز تقديمه. واحتجوا أيضًا بالأبيات المشهورة: [143] يا أيها المائح دَلْوِي دُونَكُمَا ... إني رأيت الناس يَحْمِدُونَكَا

_ [143] هذا الشاهد قد أنشده رضي الدين في باب أسماء الأفعال، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 15" وأنشده ابن يعيش "ص144" وأنشده ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 859" وفي أوضح المسالك "رقم 464" وأنشده الأشموني "رقم 938" وهو من كلام راجز جاهلي من بني أسيد بن عمرو بن تميم، ونسبه الشيخ خالد لجارية من مازن، والصواب ما قدمناه وأن الجارية روته وليس لها. والمائح -بالهمزة- هو الرجل يكون في جوف البئر يملأ الدلاء، فإن كان وقوفه على شفير البئر ينزع الدلاء ويجذبها فهو ماتح -بالتاء- ودونكا: معناه خذ، والاستشهاد في قوله دلوي دونكا" فإن ظاهره أن "دلوي" مفعول به مقدم لدونك، وبهذا الظاهر أخذ الكسائي وجماعة من الكوفيين وبَنَوْا على قاعدة حاصلها أنه يجوز تقديم معمول اسم الفعل عليه، حملًا على الفعل؛ لأن اسم الفعل إنما عمل لكونه تضمن معنى الفعل، والفعل يجوز تقديم معموله عليه، ومن تمام حمل اسم الفعل على الفعل أن يجوز في اسم الفعل ما جاز في الفعل خصوصًا أنه قد ورد عن العرب في مثل =

يُثْنُونَ خيرًا ويُمَجِّدُونَكَا والتقدير فيه: دونك دلوي؛ فدلوي في موضع نصب بدونك؛ فدل على جواز تقديمه. وأما القياس فقالوا: أجمعنا على أن هذه الألفاظ قامت مقام الفعل، ألا ترى أنك إذا قلت "عليك زيدًا" أي الزم زيدًا، وإذا قلت "عندك عمرا" أن تناول عمرا، وإذا قلت "دونك بكرا" أي خذ بكرًا، ولو قلت "زيدًا الزم، وعمرًا تناول، وبكرًا خذ" فقدمت المفعول لكان جائزًا، فكذلك مع ما قام مقامه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه لا يجوز تقديم معمولاتها عليها أن هذه الألفاظ فرعٌ على الفعل في العمل؛ لأنها إنما عملت عمله لقيامها مقامه؛ فينبغي أن لا تتصرف تصرفَهُ؛ فوجب أن لا يجوز تقديم معمولاتها عليها وصار هذا كما نقول في الحال إذا كان العامل فيها غير فعل؛ فإنه لا يجوز تقديمها عليه لعدم تصرفه، فكذلك ههنا؛ إذ لو قلنا إنه يَتَصَرَّف عملها، ويجوز تقديم معمولاتها عليها لأدَّى ذلك إلى التسوية بين الفرع والأصل، وذلك لا يجوز؛ لأن الفروع أبدًا تنحط عن درجات الأصول.

_ = هذا الشاهد، ولم يرتضِ البصريون هذا، وقالوا: إن البيت يحتمل وجوهًا أخرى من الإعراب؛ منها أن يكون "دلوي" مفعولًا به لفعل محذوف يفسره اسم الفعل، ومنها أن يكون "دلوي" مبتدأ وخبره الجملة من اسم الفعل وفاعله، والرابط ضمير منصوب بدونك محذوف، والتقدير: دلوي دونكه، كما تقول: دلوي خذه، ولم يذكر المؤلف هذا التخريج لأنه لا يجيزه، ومنها أن يكون دلوي خبر مبتدأ محذوف، ثم قالوا: إن البيت الواحد لا تثبت به قاعدة، فليكن هذا البيت شاذًّا إن لم تقبلوا تأويله.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] فليس لهم فيه حجة؛ لأن {كِتَابَ اللهِ} ليس منصوبا بعليكم، وإنما هو منصوب لأنه مصدر، والعامل فيه فعل مقدر، والتقدير فيه: كتب كتابًا اللهُ عليكم، وإنما قُدِّرَ هذا الفعل ولم يظهر لدلالة ما تقدم عليه، كما قال الشاعر: [144] ما إن يَمَسُّ الأرضَ إلا مَنْكِبٌ ... منه، وحرف السَّاقِ، طَيَّ المِحْمَلِ فقوله "طي المحمل" منصوب لأنه مصدر، والعامل فيه فعل مُقَدَّر، والتقدير فيه: طُوِيَ طي المحمل، وإنما قدر ولم يظهر لدليل ما تقدم عليه من قوله: "ما إن يمس الأرض إلا منكب منه"، فكذلك ههنا: قُدِّرَ هذا الفعل ولم يظهر لدلالة ما تقدم عليه من قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ} [النساء: من الآية23] فإن فيه دلالة على أن ذلك مكتوب عليهم؛ فلما قدر هذا الفعل ولم يظهر بقي التقدير فيه: كتابًا اللهُ عليكم، ثم أضيف المصدر إلى الفاعل كقوله: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِي تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ} [النمل: من الآية88] فَنَصَبَ

_ [144] هذا البيت لأبي كبير الهذلي، يقوله في تأبط شرا وكان أبو كبير زوج أمه يصفه بالضمور، والبيت من شواهد سيبويه "1/ 180" والأشموني "رقم 325" وأوضح المسالك "رقم 251" والبيت من قصيدة لأبي كبير ثابتة في شعر الهذليين "2/ 88" وقد اختار أبو تمام في أوائل ديوان الحماسة أبياتًا من هذه القصيدة يقع بيت الشاهد ثامنها، وانظر بعد ذلك خزانة الأدب للبغدادي "3/ 466 و 4/ 165" و "إن" في قوله "ما إن يمس" زائدة، ومعنى البيت: ما يمس الأرض منه -إذا نام- إلا جانبه وحرف ساقه، وذلك لأنه مطوي ضامر غير سمين وهضيم الكشح غير ثقيل؛ فهو لا ينبسط على الأرض ولا يضع أعضاءه كلها عليها، والاستشهاد بالبيت في قوله "طي المحمل" حيث نصبه بعامل محذوف يدل عليه سابق الكلام، والمؤلف رحمه الله يقدر هذا العامل فعلًا، وكأن الشاعر على هذا قد قال: قد طوي هذا الفتي طي المحمل، وهو تابع في هذا لشيخ النحاة سيبويه وشراح كلامه، قال سيبويه: "وقد يجوز أن تضمر فعلًا آخر كما أضمرت بعد قولك له صوت، يدلك عليه أنك لو أظهرت فعلًا لا يجوز أن يكون المصدر مفعولًا عليه صار بمنزلة له صوت، وذلك قوله: ما إن يمس الأرض.... البيت صار ما إن يمس الأرض بمنزلة له طي؛ لأنه إذا ذكر ذا عرف أنه طيان" ا. هـ. وقال الأعلم: "الشاهد فيه نصب طي المحمل بإضمار فعل دلّ عليه ما إن يمس الأرض إلا منكب منه وحرف الساق؛ لأن ذلك لانطواء كشحه وضمر بطنه، فكأنه قال: طوي طيًّا مثل طي المحمل؛ فشبهه في طي كشحه وإرهاف خلقه بحمالة السيف، وهو المحمل، وزعم أنه إذا اضطجع نائمًا نبا بطنه عن الأرض، ولم ينلها منه إلا منكبه وحرف ساقه" ا. هـ بحروفه.

{صُنْعَ} على المصدر بفعل مقدر، وإنما قدر هذا الفعل ولم يظهر لدلالة ما تقدم عليه من الكلام، والتقدير فيه: صَنَعَ صنعًا الله، وحُذِفَ الفعل وأضيف المصدر إلى الفاعل؛ لأنه يضاف إلى الفاعل كما يضاف إلى المفعول، وقال الراعي: [145] دَأَبْتُ إلى أن يَنْبُتَ الظِّلُّ بَعْدَمَا ... تَقَاصَرَ حتى كَادَ في الآل يَمْصَحُ وجِيفَ المَطَايَا، ثم قلتُ لصحبتي ... ولم ينزلوا: أَبْرَدْتُمُ فَتَرَوَّحُوا فنصب "وَجيفَ" على المصدر بفعل مُقَدَّر على ما تقدم، وأضاف المصدر إلى الفاعل، وقال لبيدٌ: [146] حتى تهجَّر في الرَّوَاح وهَاجَهَا ... طَلَبَ المُعَقبِ حَقَّهُ المَظْلُومُ

_ [145] هذان البيتان من شواهد سيبويه "1/ 91 و192" وقد نسبهما في صدر الكتاب إلى الراعي، وكذلك نسبهما الأعلم إليه، ودأبت: أراد لزمت السير وجددت فيه، ومصح الظل: أي ذهب، والوجيف: سرعة السير، قال الأعلم: "الشاهد فيه نصب وجيف المطايا على المصدر المؤكد لمعنى قوله دأبت؛ لأنه بمعنى واصلت السير وأوجفت المطي، أي سمتها الوجيف وهو سير سريع، وصف أنه واصل السير إلى الهاجرة ثم نزل مبردًا بأصحابه ثم راح سائرًا، ومعنى قوله إلى أن ينبت الظل إلى أن يأخذ في الزيادة بعد زوال الشمس وينمو، يقال: نبت لفلان مال، إذا نما وزاد، والآل: الشخص، ومعنى يمصح يذهب، يريد عند قائم الظهيرة، والمطايا: الرواحل؛ لأنها تمطى أي تستعمل ظهورها، والمطا: الظهر، ومعنى أبردتم: خلتم في برد العشي، وتروحوا: سيروا رواحًا" ا. هـ كلامه. [146] هذا البيت من كلام لبيد بن ربيعة العامري -كما قال المؤلف- وهو في وصف حمار وحش وأتنه شبه به ناقته، وقد أنشده الجوهري في الصحاح وابن منظور في اللسان "ع ق ب" وهو من شواهد الأشموني "رقم 690" وأوضح المسالك "رقم 369" وابن عقيل "رقم 254" ورضي الدين في باب المصدر، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 441" وتهجر: سار في وقت الهاجرة وهي نصف النهار عند اشتداد الحر، والرواح: الوقت من زوال الشمس إلى الليل، وهاجها: أزعجها، والضمير المستتر يعود إلى حمار الوحش، والضمير البارز المتصل يعود إلى الأتن، والمعقب: الذي يطلب حقه مرة عقب مرة ولا يتركه، والاستشهاد بالبيت في قوله "طلب المعقب" فإن هذا مصدر تشبيهي منصوب على أنه مفعول مطلق مضاف إلى فاعله، وأصل الكلام: وهاجها طالبا إياها طلبا غير منقطع مثل طلب المعقب حقه، فأضاف المصدر إلى فاعله ثم جاء بمفعوله بعد ذلك، بدليل أنه رفع "المظلوم" لكونه نعتا للمعقب، وقد ورد نظير ذلك في أفصح الكلام، في قول الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} فدفع مصدر، وقد أضيف إلى فاعله وهو لفظ الجلالة، ثم أتى بعد ذلك بمفعوله وهو الناس. ونظير هذا البيت -في إضافة المصدر إلى فاعله والإتيان بعد ذلك بمفعوله- قول ابن =

كأنه قال: طلبًا المعقبُ حَقَّهُ، ثم أضاف المصدر إلى المعقب وهو فاعل بدليل أنه قال "المظلوم" بالرفع حملًا للوصف على الموضع، وإضَافَةُ المصدر إلى الفاعل أكثر من أن تحصى، قال الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} [البقرة: 251] فأضاف المصدر إلى اسم الله تعالى وهو الفاعل، ونحوه قولهم "ضربي زيدًا قائمًا، وأكثر شُرْبِي السويقَ ملتُوتًا" وقال الشاعر: [147] فلا تُكْثِرَا لَوْمِي، فإن أَخَاكُمَا ... بِذِكْرَاهُ ليلى العامرية مُولَعُ فأضاف المصدر إلى الضمير في "ذكراه" وهو فاعل، وقال الآخر: [148] أُفَنَى تِلَادِي وما جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبِ ... قَرْعُ القَوَاقِيزِ أَفْوَاهَ الأَبَارِيقِ

_ = الإطنابة وفيه ما ذكر ثلاث مرات: أبت لي عفتي، وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإقحامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح [147] الذكرى -بكسر الذال المعجمة وسكون الكاف- اسم مصدر بمعنى التذكر، ويجوز أن يحمل عليه قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} ومولع: هو الوصف من "أولع فلان بكذا -بالبناء للمجهول-" إذا لج به وأغرى به، والمصدر الإيلاع، والاسم الولوع -بفتح الواو- والاستشهاد بهذا البيت ههنا في قوله "بذكراه ليلى العامرية" فإن الذكرى ههنا اسم مصدر يدل على معنى المصدر ويعمل عمله، وقد أضافه الشاعر إلى فاعله وهو ضمير الغيبة المتصل العائد على الأخ، ثم أتى بعد ذلك بمفعول المصدر -وهو قوله ليلى العامرية- ونظيره قول حسان بن ثابت الأنصاري: لأن ثواب الله كل موحد ... جنان من الفردوس فيها يخلد فإن "ثواب" اسم مصدر بمعنى الإثابة ويعمل عمل المصدر، وقد أضافه إلى فاعله وهو لفظ الجلالة، وأتى بعد ذلك بمفعوله وهو قوله "كل موحد" ومن يروي "جنانا" بالنصب يجعله مفعولًا ثانيًا ويكون خبر "إن" محذوفًا، أي لأن ثواب الله كل موحد جنانًا موصوفة بأنها من الفردوس وبأنه يخلد فيها حاصل؛ ومن رفع "جنان" فهو خبر إن. [148] هذا البيت من كلام الأقيشر الأسدي، واسمه المغيرة بن عبد الله، أحد بني عمرو بن أسد، وهو من شواهد الأشموني "رقم 688" وقد أنشده ابن منظور "ق ق ز" أول ثلاثة أبيات. والتلاد -بزنة الكتاب- كل مال ورثته عن آبائك، ومثله التالد، والتليد، ويقابله الطارف والطريف، ويقال كل منهما على ما استحدثته من المال، والنشب -بفتح النون والشين جميعًا- العقار، أو المال الأصيل من ناطق وصامت، والقرع: الضرب، والقواقيز: جمع قاقوزة، وهي القدح الذي يشرب فيه، ويروى "القوارير" وهو جمع قارورة، وهي الزجاجة، ويراد بها هنا الكأس المتخذة من الزجاج، والأباريق: جمع إبريق، وهو ما كان له عروة، فإن لم يكن له عروة فهو كوز، ومحلّ الاستشهاد بالبيت قوله "قرع القوافيز أفواه" وهذه العبارة تروى بنصب "أفواه وبرفعها؛ فمن نصب فقد جعل القرع =

فأضاف المصدر إلى "القوافيز" وهو فاعل فيمن روى "أَفْوَاهَ" منصوبًا، ومن روى "أَفْوَاهُ" بالرفع جعله مضافًا إلى المفعول، والشواهد على هذا النحو كثيرة جدًّا. وأما البيت الذي أنشدوه: [143] يا أيها المائح دَلْوِي دُونَكَا فلا حُجَّةَ لهم فيه من وجهين؛ أحدهما: أن قوله "دلوي" ليس هو في موضع نصب، وإنما هو في موضع رفع؛ لأنه خبر مبتدأ مقدر1، والتقدير فيه: هذا دلوى دونكا. والثاني: أنا نسلم2 أنه في موضع نصب، ولكنه لا يكون منصوبًا بدونك، وإنما هو منصوب بتقدير فعل؛ كأنه قال: خُذْ دَلْوِي دُونَكَ، و "دونك" مفسر لذلك الفعل المقدر. وأما قولهم "إنها قامت مقام الفعل فيجوز تقديم معمولها عليها كالفعل" قلنا: هذا فاسد، وذلك لأن الفعل3 الذي قامت هذه الألفاظ مقامه يستحق في الأصل أن يعمل النصب، وهو متصرف في نفسه فتصرف عملهُ، وأما هذه الألفاظ فلا تستحق في الأصل أن تعمل النصب، وإنما أُعْمِلَتْ لقيامها مقام الفعل، وهي غير متصرفة في نفسها؛ فينبغي أن لا يتصرف عملها؛ فوجب أن لا يجوز تقديم معمولها عليها، والله أعلم.

_ = مصدرًا مضافًا إلى فاعله ثم بعد ذلك أتى بمفعوله، ومن رفع فقد جعل الفرع مصدرًا مضافًا إلى مفعوله ثم أتى بعد ذلك بفاعله، وكل من الوجهين صحيح من جهة العربية ومن جهة المعنى؛ فقد أضيف المصدر إلى فاعله ثم أتى بمفعوله كثيرًا كما في الشواهد السابقة وما أثرناه معها، وأضيف إلى مفعوله ثم أتى بفاعله كما في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فإن الحج مصدر مضاف إلى مفعوله الذي هو البيت وقد جيء بعده بفاعله وهو قوله سبحانه من استطاع. ومن الأول: -زيادة على ما أثرناه- قول الشاعر، وهو الأشجعي: وعدت وكان الخلف منك سجية ... مواعيد عرقوب أخاه بيثرب وقد جاء في القرآن الكريم من ذلك قوله تعالى: {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} ومنه قوله سبحانه: {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ومن شواهد ذلك في اسم المصدر قول القطامي: أكفرا بعد ردّ الموت عني ... وبعد عَطَائِك المائة الرتاعا

مسألة القول في أصل الاشتقاق، الفعل هو أو المصدر

28- مسألة: [القول في أصل الاشتقاق؛ الفعل هو أو المصد ر؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن المصدر مشتقٌّ من الفعل وفرع عليه، نحو "ضرب ضربًا، وقام قيامًا" وذهب البصريون إلى أن الفعل مشتق من المصدر وفرع عليه. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنَّ المصدر مشتق من الفعل؛ لأن المصدر يصح لصحة الفعل ويعتلّ لاعتلاله، ألا ترى أنك تقول "قَاوَمَ قِوَامًا" فيصح المصدر؛ لصحة الفعل، وتقول: "قَامَ قيامًا" فيعتلّ؛ لاعتلاله؛ فلما صح لصحته واعتل لاعتلاله دلّ على أنه فرع عليه. ومنهم من تمسّك بأن قال: الدليل على أن المصدر فرع على الفعل أن المصدر يُذْكَر تأكيدًا للفعل، ولا شك أن رتبة المُؤَكَّدِ قبل رتبة المُؤَكِّد؛ فدلَّ على أن الفعل أصل، والمصدر فرع. والذي يؤيد ذلك أنا نجد أفعالًا ولا مصادر لها، خصوصًا على أصلكم، وهي نعم وبئس وعسى وليس وفعل التعجب حَبَّذَا، فلو لم يكن المصدر فرعًا لا أصلًا لما خلا عن هذه الأفعال؛ لاستحالة وجود الفرع من غير أصل. ومنهم من تمسّك بأن قال: الدليل على أن المصدر فرع على الفعل أن المصدر لا يتصور معناه ما لم يكن فعل فاعل، والفاعل2 وضع له فَعَلَ ويَفْعلُ؛

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرحنا عل شرح الأشموني "2/ 341" وحاشية الصبان "2/ 96 بولاق" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "1/ 393" بولاق" وشرح الرضي على الكافية "2/ 178" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص135" وأسرار العربية للمؤلف "ص69 ليدن". 2 كذا، ونرجح أن الأصل "والفعل وضع له ... إلخ".

فينبغي أن يكون الفعل الذي يعرف به المصدر أصلًا للمصدر. قالوا: ولا يجوز أن يقال "إن المصدر إنما سُمِّيَ مصدرًا لصدور الفعل عنه، كما قالوا للموضع الذي تصدر عنه الإبل مصدرًا لصدورها عنه" لأنا نقول: لا نسلم، بل سُمِّيَ مصدرًا لأنه مصدرو عن الفعل، كما قالوا "مَرْكَبٌ فَارِه، ومشرب عذب" أي: مركوب فاره، ومشروب عذب، والمراد به المفعول، لا الموضع، فلا تَمَسُّكَ لكم بتسميته مصدرًا. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن المصدر أصل للفعل أن المصدر يدل على زمان مطلق، والفعل يدل على زمان معين، فكما أن المطلق أصل للمقيد، فكذلك المصدر أصل للفعل. وبيان ذلك أنهم لما أرادوا استعمال المصدر وجدوه يشترك في الأزمنة كلها، لا اختصاص له بزمان دون زمان، فلما لم يتعين لهم زمان حدوثه لعدم اختصاصه اشتقوا له من لفظه أمثلة تدل على تعين الأزمنة، ولهذا كانت الأفعال ثلاثة: ماضٍ، وحاضر، ومستقبل؛ لأن الأزمنة ثلاثة؛ ليختص كل فعل منها بزمان من الأزمنة الثلاثة؛ فدلَّ على أن المصدر أصل للفعل. ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أن المصدر هو الأصل أن المصدر اسم، والاسم يقوم بنفسه ويستغني عن الفعل، وأما الفعل فإنه لا يقوم بنفسه ويفتقر إلى الاسم، وما يستغني بنفسه ولا يفتقر إلى غيره أولى بأن يكون أصلًا مما لا يقوم بنفسه ويفتقر إلى غيره. ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أن المصدر هو الأصل أن الفعل بصيغته يدل على شيئين: الحدث، والزمان المحصل، والمصدر يدل بصيغته على شيء واحد وهو الحدث، وكما أن الواحد أصل الاثنين فكذلك المصدر أصل الفعل. ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أن المصدر هو الأصل أن المصدر له مثال واحد نحو الضَّرْبَ والقَتْلَ، والفعل له أمثلة مختلفة، كما أن الذهب نوع واحد، وما يوجد منه أنواع وصُوَر مختلفة. ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أن المصدر هو الأصل أن الفعل بصيغته يدل على ما يدل عليه المصدر، والمصدر لا يدل على ما يدل عليه الفعل، ألا ترى أن "ضرب" يدل على ما يدل على الضَّرْبُ، والضرب لا يدل على ما يدل عليه "ضرب" وإذا كان كذلك دلّ على أن المصدر أصل والفعل فرع؛ لأن

الفرع لا بُدّ أن يكون فيه الأصل، وصار هذا كما تقول في الآنية المصوغة من الفضة فإنها تدل على الفضة لا تدل على الآنية، وكما أن الآنية المصوغة من الفضة فرع عليها ومأخوذة منها فكذلك ههنا: الفعل فرع على المصدر ومأخوذ منه. ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أن المصدر ليس مشتقًّا من الفعل أنه لو كان مشتقًّا منه لكان يجب أن يجري على سَنَنٍ في القياس، ولم يختلف كما لم يختلف أسماء الفاعلين والمفعولين؛ فلما اختلف المصدر اختلاف الأجناس كالرجل والثوب والتراب والماء والزيت وسائر الأجناس دلّ على أنه غير مشتق من الفعل. ومنهم من تمسك بأن قال: لو كان المصدر مشتقًّا من الفعل لوجب أن يدل على ما في الفعل من الحدث والزمان وعلى معنى ثالث، ما دلَّتْ أسماء الفاعلين والمفعولين على الحدث وذات الفاعل والمفعول به1؛ فلما لم يكن المصدر كذلك دلّ على أنه ليس مشتقًّا من الفعل. ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أن المصدر ليس مشتقًّا من الفعل قولهم "أَكْرَمَ إِكْرَامًا" بإثبات الهمزة، ولو كان مشتقًّا من الفعل لوجب أن تحذف منه الهمزة كما حذفت من اسم الفاعل والمفعول نحو "مُكْرِم، ومُكْرَم" لَمَّا كانا مشتقين منه؛ فلما لم تحذف ههنا كما حذفت مما هو مشتق منه دلّ على أنه ليس بمشتق منه. ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أن المصدر هو الأصل تسميته مصدرًا؛ فإن المصدر هو الموضع الذي يَصْدُرُ عنه، ولهذا قيل للموضع الذي تصدر عنه الإبل "مَصْدَر" فلما سُمِّيَ مَصْدَرًا دلّ على أن الفعل قد صَدَرَ "عنه" وهذا دليل لا بأس به في المسألة، وما اعترض به الكوفيون عليه في دليلهم فسنذكر فساده في الجواب عن كلماتهم في موضعه إن شاء الله تعالى: أما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن المصدر يصح لصحة الفعل ويعتلُّ لاعتلاله" قلنا: الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن المصدر الذي لا عِلَّة فيه ولا زيادة لا يأتي إلا صحيحًا نحو "ضَرَبْتُهُ ضَرْبًا" وما أشبه ذلك، وإنما يأتي معتلًّا ما كانت فيه الزيادة، والكلام إنما وقع في أصول المصادر، لا في فروعها.

_ 1 في الأصل "وذات الفعل والمفعول به" وليس بشيء.

الثاني: أنا نقول: إنما صح لصحته واعتلَّ لاعتلاله للتشاكل، وذلك لا يدل على الأصلية1 والفرعية، وصار هذا كما قالوا "يَعِدُ" والأصل فيه يوعد؛ فحذفوا الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، وقالوا: "أَعِدُ، ونَعِدُ، وتَعِدُ" والأصل فيها أَوْعِدُ ونَوْعِدُ وتَوْعِدُ، فحذفوا الواو -وإن لم تقع بين ياء وكسرة- حملًا على يَعِدُ، ولا يدل ذلك على أنها مشتقة من يَعِدُ وكذلك قالوا "أُكْرِمُ" والأصل فيه أُأَكْرِم، فحذفوا إحدى الهمزتين استثقالًا لاجتماعهما، وقالوا: "نكرم، وتكرم، ويكرم"، والأصل فيها: نُؤَكْرِم، وتُؤَكْرِم، ويُؤَكْرِم، كما قال الشاعر: [1] فإنه أهل لأن يُؤَكْرَما فحذفوا الهمزة -وإن لم يجتمع فيها 2 همزتان- حملًا على أُكْرِم؛ ليجري الباب على سَنَنٍ واحد، ولا يدل ذلك على أنها مشتقة من أكرم، فكذلك ههنا. والثالث: أنا نقول: يجوز أن يكون المصدر أصلًا ويحمل على الفعل الذي هو فرع، كما بنينا الفعل المضارع في فعل جماعة النسوة نحو "يضربن" حملا على "ضربن" وهو فرع؛ لأن الفعل المستقبل قبل الماضي، وكما قال الفراء: إنما بني الفعل الماضي على الفتح في فعل الواحد لأنه يفتح في الاثنين، ولا شك أن الواحد أصل للاثنين؛ فإذا جاز لكم أن تحملوا الأصل على الفرع هناك جاز لنا أن نحمل الأصل على الفرع ههنا. وأما قولهم "إن الفعل يعمل في المصدر؛ فيجب أن يكون أصلًا" قلنا: كونه عاملًا فيه لا يدل على أنه أصل له، وذلك من وجهين: أحدهما: أنا أجمعنا على أن الحروف والأفعال تعمل في الأسماء؛ ولا خلاف أن الحروف والأفعال ليست أصلًا للأسماء، فكذلك ههنا. والثاني: أن معنى قولنا "ضرب ضربًا" أي أوقع ضربًا، كقولك "ضرب زيدًا" في كونهما مفعولين، وإذا كان المعنى أوقع ضربًا فلا شك أن الضرب معقول قبل إيقاعه، مقصود إليه، ولهذا يصح أن يؤمر به فيقال: "اضْرِبْ" وما أشبه ذلك، فإذا ثبت أنه معقول قبل إيقاعك معلوم قبل فعلك دلّ على أنه قبل الفعل. وأما قولهم: "إن المصدر يذكر تأكيدًا للفعل، ورتبة المؤكَّد قبل رتبة المؤكِّد" قلنا: وهذا أيضًا لا يدل على الأصالة والفرعية، ألا ترى أنك إذا قلت 106- "جاءني زيدٌ زيدٌ، ورأيت زيدًا زيدًا، ومررت بزيدٍ زيدٍ" فإن زيدًا الثاني يكون

_ 1 في نسخة "الأصل". 2 "فيها" أي في الكلمة التي هي "يؤكرم".

توكيدًا للأول في هذه المواضع كلها، وليس مشتقًّا من الأول ولا فرعًا عليه، فكذلك ههنا. وأما قولهم "إنا نجد أفعالًا ولا مصادِرَ لها"، قلنا: خُلُوّ تلك الأفعال التي ذكرتموها عن استعمال المصدر لا يخرج بذلك عن كونه أصلًا وأن الفعل فرع عليه؛ لأنه قد يستعمل الفرع وإن لم يستعمل الأصل، ولا يخرج الأصل بذلك عن كونه أصلًا ولا الفرع عن كونه فرعًا، ألا ترى أنهم قالوا: "طَيْرٌ عَبَادِيد" أي متفرقة، فاستعملوا لفظ الجمع الذي هو فرع وإن لم يستعملوا لفظ الواحد الذي هو الأصل، ولم يخرج بذلك الواحد أن يكون أصلًا للجمع، وكذلك أيضًا قالوا: "طيرًا أَبَابِيل" قال الله تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيهِمْ طَيرًا أَبَابِيلَ} [الفيل: 3] أي جماعات في تفرقة وهو جمع لا واحد له في قول الأكثرين، زعم بعضهم أن واحده إِبَّوْلٌ، وزعم بعضهم أن واحدهُ إِبِّيلٌ، وكلاهما مخالف لقول الأكثرين، والظاهر أنهم جعلوا واحده إبولا وإبيلا قياسًا وحملًا، لا استعمالًا ونقلًا، والخلاف إنما وقع في استعمالهم لا في قياس كلامهم. ثم نقول: ما ذكرتموه معارَضٌ بالمصادر التي لم تستعمل أفعالُهَا، نحو: "وَيْلَهُ، وَوَيْحَهُ، وَوَيْهَهُ، وَوَيْبَهُ، وَوَيْسَهُ، وأهلًا وسهلًا، ومرحبًا، وسقيًا، ورعيًا، وأُفَّةً، وتُفَّهً، وتَعْسًا، ونَكْسًا، وبُؤْسًا، وبُعْدًا، وسُحْقًا، وجُوعًا، ونُوْعًا، وجَدْعًا، وعَقْرًا، وخَيْبَةً، ودَفْرًا، وتَبًّا، وبَهْرًا". قال ابن ميادة [149] تَفَاقَدَ قْوَمِي إذ يبيعون مُهْجَتِي ... بِجَارِيَة، بَهْرًا لهم بَعْدَهَا بَهْرًا

_ [149] هذا البيت من كلام ابن ميادة، واسمه الرياح بن أبرد -كما قال المؤلف- وقد أنشده ابن منظور "ف ق د - ب هـ ر" ونسبه إليه في المرتين، وهو من شواهد سيبويه "1/ 157" وتفاقد قومي: يريد فقد بعضهم بعضًا، وقد اختلف أهل اللغة في تفسر قوله "بهرا" فقال قوم: أراد خيبة لهم، وقيل: أراد تعسا لهم، وقيل: معناه غلبة لهم وقهرًا، أي غلبوا وقهروا، قال الأعلم: "يقول: فقد بعض قومي بعضًا حيث لم يعينوني على جارية شغفت بحبها، وعرضوني لتلف مهجتي حبًّا لها، فغلبوا غلبة، وقهرهم العدو قهرًا، وقوله بعدها: أي بعد هذه الفعلة" ا. هـ. والاستشهاد بالبيت في قوله "بهرا" فقد زعم المؤلف أن هذا مصدر من المصادر التي لم تستعمل أفعالها، وهذا الكلام غير مستقيم؛ لأنه إن أراد أنه لا فعل له مثل بله وويح فلا صحة لهذا الكلام؛ لأن "بهرا" ليس مثل هذين في أنه لا فعل له، بل له فعل وهو قولهم "بهره يبهره" أي غلبه، وإن أراد أنه يستعمل منصوبًا بفعل لا يظهر لأنه محذوف وجوبًا، وهذا هو الصواب، وهو الذي ذكره سيبويه، واسمع إلى عبارة سيبويه "هذا باب ما ينصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره، وذلك قولك: سقيًا، ورعيًا، وقولك خيبةً، ودفرًا، وجدعًا، وعقرًا، وبؤسًا، وأفةً، وتفهً، =

فإن هذه كلها مصادر لم تستعمل أفعالها، فإن زعمتم أن ما ذكرتموه من خلوّ الفعل عن المصدر يصلح أن يكون دليلا لكون الفعل أصلًا فليس بأولى مما ذكرناه من خلو المصدر عن الفعل في كون المصدر أصلًا؛ فتتحقق المعارضة فيسقط الاستدلال. وأما قولهم "إن المصدر لا يتصور ما لم يكن فعل فاعل، والفعل وضع له فَعَلَ ويَفْعَلُ" قلنا: هذا باطل؛ لأن الفعل في الحقيقة ما يدل عليه المصدر، نحو الضَّرب والقتل، وما نسميه فعلًا من فَعَل ويَفْعَلُ إنما هو إخبار بوقوع ذلك الفعل في زمان معين، ومن المحال الإخبار بوقوع شيء قبل تسميته؛ لأنه له جاز أن يقال "ضرب زيد" قبل أن يوضع الاسم للضرب لكان بمنزلة قولك: أخبرك بما لا تعرف، وذلك محال، والذي يدل على صحة ما ذكرناه تسميته مصدرًا، قولهم "إن المراد به المفعول، لا الموضع، كقولهم: مركب فاره، ومشرب عذب، أي مركوب فاره ومشروب عذب" قلنا: هذا باطل من وجهين؛ أحدهما: أن الألفاظ إذا أمكن حملها على ظاهرها فلا يجوز العدول بها عنه، والظاهر يوجب أن يكون المصدر للموضع لا للمفعول؛ فوجب حمله عليه. والثاني: أن قولهم "مركب فاره، ومشرب عذب" يجوز أن يكون المراد به موضع الركوب وموضع الشرب، ونسب إليه الفَرَاهَة والعُذُوبة للمجاورة، كما يقال "جَرَى النهرُ" والنهر لا يجري، وإنما يجري الماء فيه، قال الله تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25] فأضاف الفعل إليها وإن كان الماء هو الذي يجري فيها، لما بيَّنَّا من المجاورة، ومنه قولهم "بَلَدٌ آمِنٌ، ومكان آمِنٌ" فأضافوا الأمن إليه مجازًا؛ لأنه يكون فيه؛ قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35] وقال تعالى: {أَوَلَمْ يرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] فأضاف الأمن إليه لأنه يكون فيه، ومنه قوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33] فأضاف المكر إلى الليل والنهار لأنه يقع فيهما،

_ = وبعدًا، وسحقًا، ومن ذلك قولك: تعسا، وتبا، وجوعا، وجوسا، ونحو قول ابن ميادة: تفاقد قومي.. البيت وقال "عمرو بن أبي ربيعة المخزومي": ثم قالوا: تحبها؟ قلت: بهرا ... عدد النجم والحصى والتراب" ا. هـ نقول: إن أراد المؤلف ذلك المعنى لم يتم له معارضة الخصم؛ لأن من غرضه أن يقول: إن لنا في العربية مصادر ليست لها أفعال، فكيف يستقيم أن يقال: إن المصدر مأخوذ من الفعل؟ وهل ثمة فرع ليس له أصل؟ ولو أنه اقتصر على ويله وويحه وويبه وويسه لتم له الكلام؛ لأن هذه المصادر لم يستعمل العرب لها أفعالا، فاعرف هذا، ولا تكن أسير التقليد.

ومنهم قولهم "ليل نائمٌ" فأضافوا النوم إلى الليل لكونه فيه، قال الشاعر: [150] لقد لُمْتِنَا يا أُمَّ غَيْلَانَ في السُّرَى ... ونِمْتِ، وما ليل المَطِيِّ بنائم أي بمنوم فيه، ومنه قولهم "يومٌ فاجرٌ" فأضافوا الفجور إليه لأنه يقع فيه، قال الشاعر: [151] ولما رأيت الخيل تَتْرَى أَثَائجًا ... علمتُ بأن اليوم أَحْمَسُ فَاجِرُ أي مفجور فيه، والشواهد على هذا النحو من كتاب الله تعالى وكلام العرب أكثر من أن تُحْصَى؛ فدلَّ على أن المراد بقولهم: "مركب فاره، ومشرب عذب" موضع للركوب وموضع الشرب، وأضيف إليه الفَرَاهة والعُذُوبة للمجاورة على ما بيَّنَّا. وقد أفردنا في هذه المسألة جزءًا استوفينا فيه القول، واستقصينا فيه الكلام، والله أعلم.

_ [150] هذا البيت من قصيدة طويلة لجرير بن عطية ثابتة في ديوانه "553" وهي إحدى النقائض بينه وبين الفرزدق، وقد وردت في النقائض "ص753 ليدن" والبيت من شواهد الإيضاح للقزويني "ص27 بتحقيقنا" والسرى -بضم السين مقصورًا، بزنة الهدى- السير ليلًا. والاستشهاد بالبيت في قوله "وما ليل المطي بنائم" حيث أسند النوم إلى ضمير مستتر يعود إلى الليل، وقد جعل الليل نائمًا بسبب كونه ظرفًا يقع فيه النوم، وقد ورد هذا الإسناد المجازي في كلام جرير نفسه عدة مرار، منها قوله يهجو البراجم: وما علم الأقوام أسرق منكم ... وألأم لؤمًا منك قيس البراجم لقد أمن الأعداء أن تفجعوهم ... وما ليل جارٍ حلَّ فيكم بنائم ومنها قوله في ربيعه: باتت ربيعة لا تعرس ليلها ... عني، وليلي عن ربيعة نائم ونظيره قول الراجز، وهو من شواهد الإيضاح أيضًا "ص26": فنام ليلي وتجلى همي [151] لم أعثر لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين، و "تترى" من المواترة، وهي التتابع؛ فهذه التاء بدل من واو، مثل التاء من "تخمة" و "تكلة" فإن أصل هذه التاء واو، وفي القرآن الكريم: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} قالوا: هو من المواترة وهي تتابع الأشياء وبينها فجوات وفترات؛ لأن بين كل رسولين فترة، ومن العرب من ينوِّنها فيجعل ألفها للإلحاق بمنزلة أرطى ومعزى، ومنهم من لا ينوِّنها يجعل ألفها للتأنيث مثل ألف سكرى وغضبى. وقالوا "جاءت الخيل تترى" يريدون جاءت متقطعة. وقوله "أثائج" هي عندي جمع وثيج، وقد قالوا "فرس وثيج" يريدون أنه قوي، وقيل: مكتنز، جمعوه على وثائج، ثم أبدلوا من الواو همزة فقالوا "أثائج". والاستشهاد من هذا البيت في قوله "أن اليوم أحمس فاجر" حيث أسند الفجور إلى اليوم بسبب كونه ظرفًا زمانيًّا يقع فيه الفجور، على مثال ما ذكرناه في شرح الشاهد السابق.

مسألة القول في عامل النصب في الظرف الواقع خبرا

29- مسألة: [القول في عامل النصب في الظرف الواقع خبرًا] 1 ذهب الكوفيون إلى أن الظرف ينتصب على الخلاف إذا وقع خبرًا للمبتدأ نحو "زيد أَمَامَكَ، عمرو وَرَاءَكَ" وما أشبه ذلك. وذهب أبو العباس أحمد بن يحيى ثَعْلَب من الكوفيين إلى أنه ينتصب لأن الأصل في قولك: "أمامك زيدٌ" حلَّ أمامك، فحذف الفعل وهو غير مطلوب واكتفى بالظرف منه فبقي منصوبًا على ما كان على مع الفعل. وذهب البصريون إلى أنه ينتصب بفعل مقدر، والتقدير فيه: زيد استقرَّ أمامك، وعمرو استقرَّ وراءك. وذهب بعضهم إلى أنه ينتصب بتقدير اسم فاعل، والتقدير: زيد مستقر أمامك، وعمرو مستقر وراءك أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه ينتصب بالخلاف وذلك لأن خبر المبتدأ في المعنى هو المبتدأ، ألا ترى أنك إذا قلت "زيد قائم، وعمرو منطلق" كان قائم في المعنى هو زيد، ومنطلق في المعنى هو عمرو، فإذا قلت "زيد أمامك، وعمرو وراءك" لم يكن أمامك في المعنى هو زيد، ولا وراءك في المعنى هو عمرو، كما كان قائم في المعنى هو زيد ومنطلق في المعنى هو عمرو، فلما كان مخالفًا له نصب على الخلاف ليُفَرِّقوا بينهما. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه ينتصب بعامل مقدر وذلك لأن الأصل في قولك "زيد أمامك، وعمرو وراءك": في أمامك، وفي ورائك؛ لأن الظرف: كل اسم من أسماء الأمكنة أو الأزمنة يراد فيه معنى "في" وفي: حرف جر، وحروف الجر لا بُدّ لها من شيء تتعلق به؛ لأنها دخلت رابطةً تربط الأسماء بالأفعال، كقول: "عجبت من زيد، ونظرت إلى عمرو" ولو قلت "من زيد" أو "إلى عمرو" لم يجز حتى تُقَدِّر لحرف الجر شيئًا يتعلق به، فدلَّ على أن التقدير في

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني "1/ 265 بتحقيقنا" وحاشية الصبان "1/ 193 بولاق" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "1/ 198 وما بعدها" وشرح المفصل "ص110" وشرح رضي الدين على الكافية "1/ 83".

قولك "زيد أمامك، وعمرو وراءك" زيد استقر في أمامك، وعمرو استقر في ورائك ثم حذف الحرف فاتصل الفعل بالظرف فنصبه، فالفعل الذي هو استقر مقدر مع الظرف، كما هو مقدر مع الحرف. وأما مَنْ ذهب من البصريين إلى أن الظرف ينتصب بتقدير اسم الفاعل -وهو مستقر- قال: لأن تقدير اسم الفاعل أولى من تقدير الفعل؛ لأن اسم الفاعل اسم يجوز أن يتعلق به حرف الجر، والاسم هو الأصل1، والفعل فرع، فلما وجب تقدير أحدهما كان تقدير الأصل أولى من تقدير الفرع. والصحيح عندي هو الأول، وذلك لأن اسم الفاعل فرع على الفعل في العمل وإن كان هو الأصل في غير العمل؛ فلما وجب ههنا تقدير عامل كان تقدير ما هو الأصل في العمل -وهو الفعل- أولى من تقدير ما هو الفرعُ فيه وهو اسم الفاعل. والذي يدل على صحة ما ذكرناه أنَّا وجدنا الظرف يكون صلة للذي، نحو: "رأيت الذي أمامك، والذي وراءك" وما أشبه ذلك؛ والصلة لا تكون إلا جملة فلو كان المقدر اسم الفاعل الذي هو مستقر لكان مفردًا؛ لأن اسم الفاعل مع الضمير لا يكون جملة، وإنما يكون مفردًا، والمفرد لا يكون صلة ألبتة، فوجب أن يكون المقدر الفعل الذي هو استقر، لأن الفعل مع الضمير يكون جملة؛ فدل على ما بيَّنَّاه. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن خبر المبتدأ في المعنى هو المبتدأ، وإذا قلت "زيد أمامك، وعمرو وراءك" فأمامك ليس هو زيد، ووراءك ليس هو عمرو، فلما كان مخالفًا له وجب أن يكون منصوبًا على الخلاف" قلنا: هذا فاسد؛ وذلك لأنه لو كان الموجب لنصب الظرف كونَهُ مخالفًا للمبتدأ لكان "المبتدأ" أيضًا يجب أن يكون منصوبًا؛ لأن المبتدأ مخالف للظرف كما أن الظرف مخالف للمبتدأ؛ لأن الخلاف لا يتصور أن يكون من واحد وإنما يكون من اثنين فصاعدًا؛ فكان ينبغي أن يقال "زيدًا أمامك" وعمرًا وراءك" وما أشبه ذلك؛ فلمالم يجز ذلك دلّ على فساد ما ذهبوا إليه. وأما قول أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب: "أنه انتصب بفعل محذوف غير مقدر، إلى آخر ما قرر" ففاسد أيضًا؛ وذلك لأنه يؤدِّي إلى أن يكون منصوبًا بفعل

_ 1 لأن تقدير الاسم لا يحوج إلى تقدير آخر، بخلاف تقدير الفعل فإنه يحوج إلى تقدير آخر، وما لا يحوج إلى التقدير أصل لما يحوج إليه. وأيضًا لأن الاسم مفرد، والفعل مع فاعله جملة، والمفرد أصل، والجملة فرع عليه.

معدوم من كل وجه لفظًا وتقديرًا، والفعل لا يخلو، إما أن يكون مظهرًا موجودًا أو مقدرًا في حكم الموجود، فأما إذا لم يكن مظهرًا موجودًا ولا مقدرًا في حكم الموجود كان معدومًا من كل وجه، والمعدوم لا يكون عاملًا، وكما يستحيل في الحسِّيَّات الفعل باستطاعةٍ معدومةٍ، والمشيُ برجلٍ معدوم، والقطع بسيف معدوم، والإحراق بنار معدومة؛ فكذلك يستحيل في هذه الصناعة النصب بعامل معدوم لأن العلل النحوية مشبهة بالعلل الحسية. والذي يدل على فساد ما ذهب إليه أنه لا نظير له في العربية، ولا يشهد له شاهد من العلل النحوية، فكان فاسدًا. والله أعلم.

مسألة القول في عامل النصب في المفعول معه

30- مسألة: [القول في عامل النصب في المفعول معه] 1 ذهب الكوفيون إلى أن المفعول معه منصوب على الخلاف، وذلك نحو قولهم "استوى الماء والخشبة، وجاء البرد والطَّيَالِسَة". وذهب البصريون إلى أنه منصوب بالفعل الذي قبله بتوسُّط الواو. وذهب أبو إسحاق الزَّجَّاج من البصريين إلى أنه منصوب بتقدير عامل، والتقدير: ولابَسَ الخشبَةَ، وما أشبه ذلك؛ لأن الفعل لا يعمل في المفعول وبينهما الواو. وذهب أبو الحسن الأَخْفَش إلى أن ما بعد الواو ينتصب بانتصاب "مع" في نحو "جئتُ مَعَه". أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه منصوب على الخلاف وذلك لأنه إذا قال "استوى الماءُ والخشبةَ" لا يحسن تكرير الفعل فيقال: استوى الماء واستوت الخشبة؛ لأن الخشبة لم تكن مُعْوَجَّةٌ فتستوي، فلما لم يحسن تكرير الفعل كما يحسن في "جاء زيدٌ وعمرو" فقد خالف الثاني الأول، فانتصب على الخلاف كما بيَّنَّا في الظرف نحو: "زيد خلفك" وما أشبه ذلك. والذي يدل على أن الفعل المتقدم لا يجوز أن يعمل فيه أنَّ نحو استوى وجاء فعلٌ لازمٌ، والفعل اللازم لا يجوز أن ينصب هذا النوع من الأسماء؛ فدلَّ على صحة ما ذهبنا إليه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن العامل هو الفعل وذلك لأن هذا الفعل وإن كان في الأصل غير متعدٍّ إلا أنه قَوِيَ بالواو فتعدَّى إلى الاسم فنصبه كما عُدِّيَ بالهمزة في نحو "أخرجتُ زيدًا" وكما عُدِّيَ بالتضعيف نحو "خرَّجت المتَاعَ" وكما عُدِّيَ بحرف الجر نحو: "خَرَجْتُ به" إلا أن الواو لا تعمل؛ لأن الواو في الأصل حرف عطف، وحرف العطف لا يعمل، وفيه معنيان العطف

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني "2/ 395" وحاشية الصبان "2/ 119" وتصريح الشيخ خالد "1/ 415" وشرح المفصل "ص222 وما بعدها" وشرح الرضي على الكافية "1/ 180".

ومعنى الجمع، فلما وضعت موضع "مع" خُلِعَتْ عنها دلالة العطف وأخلصت للجمع كما أن فاء العطف فيها معنيان: العطف، والإتباع؛ فإذا وقعت في جواب الشرط خُلِعَتْ عنها دلالة العطف وأخلصت للاتباع، وكذلك همزة الخطاب في "هَاءَ يا رجلُ" فإنها إذا ألحقتَهَا الكاف جردتها من الخطاب؛ لأنه يصير بعدها في الكاف، ونظير ما نحن فيه من كل وَجْهٍ نصبُهُمْ الاسم في باب الاستثناء بالفعل المتقدم بتقوية "إلا" فكذلك ههنا: المفعول معه منصوب بالفعل المتقدم بتقوية الواو، على ما بيَّنَّا، وهذا هو المعتمد عند البصريين. وأما ما ذهب إليه الزَّجَّاج من أنه منصوب بتقدير عامل، والتقدير ولَابَسَ الخشبة لأن الفعل لا يعمل في المفعول وبينهما الواو. قلنا: هذا باطل؛ لأن الفعل يعمل في المفعول على الوجه الذي يتعلق به، فإن كان يفتقر إلى توسط حرف عَمِلَ مع وجوده، وإن كان لا يفتقر إلى ذلك عمل مع عدمه، وقد بيَّنَّا أن الفعل قد تعلق بالمفعول معه بتوسط الواو، وأنه يفتقر في عمله إليها، فينبغي أن يعمل مع وجودها، فكيف يُجْعَل ما هو سببٌ في وجود العمل سببًا في عدمه؟ وهل ذلك إلا تعليق على العلة ضدّ المقتضى؟ ولو كان لما ذهب إليه وجه لكان ما ذهب إليه الأكثرون أولى؛ لأن ما ذهب إليه يفتقر إلى تقدير، وما ذهب إليه الأكثرون لا يفتقر إلى تقدير، وما لا يفتقر إلى تقدير أولى مما يفتقر إلى تقدير. وأما ما ذهب إليه الأَخْفَش من أنه ينتصب انتصاب "مع" فضعيف أيضًا؛ لأن "مع" ظرف، والمفعول معه في نحو "استوى الماءُ والخشبةَ، وجاء البردُ والطَّيَالِسَةَ" ليس بظرف، ولا يجوز أن يجعل منصوبًا على الظرف. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنه منصوب على الخلاف؛ لأنه لا يحسن تكرير الفعل؛ فخالف الثاني الأول، فانتصب على الخلاف" قلنا: هذا باطل بالعطف الذي يخالف بين المعنيين نحو قولك: "ما قام زيدٌ لكن عمروٌ، وما مررت بزيدٍ لكن بكرٍ" وما بعد لكن يخالف ما قبلها، وليس بمنصوب، فإن لكن يلزم أن يكون ما بعدها مخالفًا لما قبلها على كل حال، سواء لزمت العطف في النفي عندنا أو جاز بها العطف في الإيجاب عندكم؛ فلو كان كما زعمتم لوجب أن لا يكون ما بعدها إلا منصوبًا لمخالفته الأول، وإذا كان الخلاف ليس موجبًا للنصب مع "لكِنْ" وهو حرف لا يكون ما بعده إلا مخالفًا لما قبله فلأن لا يكون موجبًا للنصب مع الواو التي لا يجب أن يكون ما بعدها مخالفًا لما قبلها كان ذلك من طريق

الأولى، وكذلك أيضًا يبطل بلا في قولك "قام زيدٌ لا عمروٌ، ومررت بزيدٍ لا عمرو" وما بعد "لا" يخالف ما قبلها كلكن، وليس بمنصوب؛ فدلَّ على أن الخلاف لا يكون موجبًا للنصب. وقولهم "إن الفعل المتقدم لازم؛ فلا يجوز أن يعمل في المفعول معه" قلنا: إلا أنه تعدَّى بتقوية الواو؛ فخرج عن كونه لازمًا على ما بيَّنَّا، فلا نعيده ههنا، والله أعلم.

مسألة القول في تقديم الحال على الفعل العامل فيها

31- مسألة: [القول في تقديم الحال على الفعل العامل فيها] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز تقديم الحال على الفعل العامل فيها مع الاسم الظاهر2، نحو: "راكبًا جاء زيد" ويجوز مع المضمر، نحو "راكبًا جئتُ". وذهب البصريون إلى أنه يجوز تقديم الحال على العامل فيها مع الاسم الظاهر والمضمر. وأما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا لا يجوز تقديم الحال على العامل فيها، وذلك لأنه يؤدِّي إلى تقديم المضمر على المظهر، ألا ترى أنك إذا قلت: "راكبًا جاء زيد" كان في "راكبًا" ضميرُ زيد، وقد تقدم عليه، وتقديم المضمر على المظهر لا يجوز. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يجوز تقديم الحال على العامل فيها إذا كان العامل فعلًا نحو "راكبًا جاء زيد" للنقل والقياس: أما النقل فقولهم في المثل "شَتَّى تَئُوبُ الحَلَبَةُ3" فشتى: حال مُقَدَّمَة على الفعل العامل فيها مع الاسم الظاهر، فدلَّ على جوازه. وأما القياس فلأن العامل فيها متصرف، وإذا كان العامل متصرفًا وجب أن يكون عمله متصرفًا، وإذا كان عمله متصرفًا وجب أن يجوز تقديم معموله عليه، كقولهم "عَمْرًا ضَرَبَ زيد" فالذي يدل عليه أن الحال تُشَبَّهُ بالمفعول، وكما يجوز تقديم المفعول على الفعل، فكذلك يجوز تقديم الحال عليه. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: قولهم "إنما لم يجز تقديم الحال لأنه

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني "3/ 62 بتحقيقنا" وحاشية الصبان "2/ 159 بولاق" وتصريح الشيخ خالد "1/ 458" وشرح المفصل "ص234 وما بعدها" وشرح الرضي على الكافية "1/ 187". 2 يريد إذا كان صاحب الحال -الذي هو فاعل الفعل مثلًا- اسمًا ظاهرًا. 3 انظر المثل 1914 في مجمع الأمثال "1/ 358 بتحقيقنا".

يؤدِّي إلى تقديم المضمر على المظهر" قلنا: هذا فاسد؛ وذلك لأنه وإن كان مقدمًا في اللفظ إلا أنه مؤخر في التقدير، وإذا كان مؤخّرًا في التقدير جاز فيه التقديم، قال الله تعالى {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67] فالضمير في "نفسه" عائد إلى "موسى" وإن كان مؤخرًا في اللفظ، إلا أنه لما كان في تقدير التأخير جاز التقديم، قال زهير: [30] من يَلْقَ يوما على عِلَّاتِه هَرِمًا ... يلقَ السَّمَاحَةَ منه والنَّدَى خُلُقًا فالهاء في "علاته" تعود إلى "هرم" لأنه في تقدير التقديم؛ لأن التقدير: من يلق يوما هرما على علاته، فلما كان "هرمًا" في تقدير التقديم والضمير في تقدير التأخير وجب أن يكون جائزًا، ومن كلامهم "في أكفانه لُفَّ الميِّتُ" ومن أمثالهم "في بيته يُؤْتَى الحَكَمُ"1 وتزعم العرب أن أرنبًا وجدتْ تمرة فاختلسها ثَعْلَبٌ منها، فاختصما إلى ضَبٍّ، فقالت الأرنب: يا أبا الحُسَيْل، قال الضب: سميعًا دعوتما، قالت: أتيناك لتحكم بيننا، قال: عادلًا حكَّمتما، قالت: فاخرج إلينا، قال: في بيته يؤتى الحَكَمُ؛ فالضمير في "في بيته" يعود إلى "الحَكَمُ" وقد تقدم عليه. وهذا كثير في كلامهم، وقد بيَّنَّا ذلك مستقصى في جواز تقديم خبر المبتدأ عليه بما يغني عن الإعادة ههنا، والله أعلم.

_ 1 انظر المثل رقم 2742 من مجمع الأمثال للميداني.

مسألة هل يقع الفعل الماضي حالا

32- مسألة: [هل يقع الفعل الماضي حالًا] 1 ذهب الكوفيون إلى أن الفعل الماضي يجوز أن يقع حالًا، وإليه ذهب أبو الحسن الأَخْفَش من البصريين. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز أن يقع حالًا، وأجمعوا على أنه إذا كانت معه "قَدْ" أو كان وصفًا لمحذوف فإنه يجوز أن يقع حالًا. أما الكوفيون فاحتجُّوا بأن قالوا: الدليل على أنه يجوز أن يقع الفعل الماضي حالًا النقلُ والقياس. أما النقلُ فقد قال الله تعالى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] فحصرت: فعل ماضٍ، وهو في موضع الحال، وتقديره: حَصِرَةً صدورهم، والدليل على صحة هذا التقدير قراءة من قرأ: "أو جاؤوكم حَصِرَةً صدروهم" وهي قراءة الحسن البصريّ ويعقوب الحَضْرَمِيّ والمفضّل عن عاصم، وقال أبو صخر الهذليُّ: [152] وإني لَتَعْرُونِي لذكراك نُفْضَةٌ ... كما انْتَفَضَ العُصْفُورُ بَلَّلَهُ القَطْرُ

_ [152] هذا البيت من كلام أبي صخر الهذلي، وهو من شواهد الرضي في باب الحال، وقد شرحه البغدادي في الخزانة "1/ 552" وابن يعيش "ص247" وشرح الأشموني "رقم 429" وأوضح المسالك "رقم 253" وابن عقيل "رقم 207" وشرح شذور الذهب "رقم 110" وتعروني: تنزل بي وتعرض لي، تقول: عرا فلان فلانًا، وعري فلانًا الأمر؛ إذا أردت أنه نزل به، والذكرى: التذكر والخطور بالبال، والهزة: الرعدة والانتفاضة، وروى المؤلف وابن يعيش في مكانها "نفضة" بضم النون وسكون الفاء أو فتحها، وانتفض العصفور: ارتعد وارتعش، والقطر: المطر. والاستشهاد به ههنا في قوله "بلله قطر" حيث وقعت =

فبلَّلَهُ: فعل ماضٍ، وهو في موضع الحال؛ فدلَّ على جوازه. وأما القياس فلأن كل ما جاز أن يكون صفة لنكرة نحو "مررت برجل قاعد، وغلام قائم" جاز أن يكون حالًا للمعرفة نحو "مررت بالرجل قاعدًا، وبالغلام قائمًا"، والفعل الماضي يجوز أن يكون صفة للنكرة نحو "مررت برجل قَعَدَ، وغلام قامَ" فينبغي أن يجوز أن يقع حالًا للمعرفة نحو "مررت بالرَّجُلِ قَعَدَ، وبالغلام قَامَ" وما أشبه ذلك. والذي يدلّ على ذلك أنا أجمعنا على أنه يجوز أن يُقَال الفعل الماضي مُقَامَ الفعل المستقبل، كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة: 110] أي: يقول، وإذا جاز أن يقام الماضي مقام المستقبل جاز أن يقام مقام الحال. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا: إنه لا يجوز أن يقع حالًا وذلك لوجهين؛ أحدهما: أن الفعل الماضي لا يدل على الحال؛ فينبغي أن لا يقوم مقامه، والوجه الثاني: أنه إنما يصلح أن يوضع موضع الحال ما يصلح أن يقال فيه "الآن" أو "الساعة" نحو: "مررت بزيد يضرب، ونظرت إلى عمرو يكتب" لأنه يحسن أن يقترن به الآن أو الساعة، وهذا لا يصلح في الماضي، فينبغي أن لا يكون حالًا؛ ولهذا لم يجز أن يقال: "مازال زيد قام، وليس زيد قام" لأن "ما زال، وليس" يطلبان الحال، و "قام" فعل ماضٍ؛ فلو جاز أن يقع حالًا لوجب أن يكون هذا جائزًا؛ فلما لم يجز دلَّ على أن الفعل الماضي لا يجوز أن يقع حالًا، وكذلك لو قلت "زيد خلفك قام" لم يجز أن يجعل "قام" في موضع الحال؛ لما بيَّنَّا، ولا يلزم على كلامنا إذا كان مع الماضي "قد" حيث يجوز أن يكون حالًا نحو "مررت بزيد قد قام" وذلك لأن "قد" تقرب الماضي من الحال، فجاز أن يقع معها حالًا، ولهذا يجوز أن يقترن به الآن أو الساعة فيقال: "قد قام الآن، أو الساعة" فدلَّ على ما قلناه. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله تعالى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] فلا حجة لهم فيه، وذلك من أربعة أوجه؛

_ = الجملة الفعلية التي فعلها ماضٍ حالًا من غير أن يقرن الفعل بقد، والكوفيون يستدلون بهذا البيت وما أشبهه على أنه يجوز أن يقع الفعل الماضي حالًا من غير أن يقرن بقد، فأما البصريون فيزعمون أنه لا بَدَّ حينئذٍ من اقتران الفعل الماضي بقد في اللفظ أو في التقدير، وعلي هذا تكون "قد" مقدرة ههنا قبل الفعل، والإنصاف أن الاستدلال بنفس الكلام الوارد عن العرب، وقد رأينا أن فصحاءهم يجيئون بالفعل الماضي حالًا غير مقرون بقد، فأما التقدير فلا دليل عليه.

الوجه الأول: أن تكون صفة لقوم المجرور في أول الآية، وهو قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ} [النساء: 90] والوجه الثاني: أن تكون صفة لقوم مقدر ويكون التقدير فيه: أو جاؤوكم قومًا حصرت صدورهم، والماضي إذا وقع صفة لموصوف محذوف جاز أن يقع حالًا بالإجماع. والوجه الثالث: أن يكون خبرًا بعد خبر، كأنه قال: أو جاؤوكم، ثم أخبر فقال: حصرت صدورهم. والوجه الرابع: أن يكون محمولًا على الدعاء، لا على الحال، كأن قال: ضَيَّقَ الله صدورهم، كما يقال: جاءني فلان وسَّع الله رزقه، وأحسن إليَّ غَفَرَ الله له، وسَرَقَ قطع الله يده، وما أشبه ذلك؛ فاللفظ في ذلك كله لفظ الماضي ومعناه الدعاء، وهذا كثير في كلامهم قال الشاعر: [153] ألا يا سَيَالاتِ الدَّحَائِل بالضُّحَى ... عَلَيْكُنَّ من بين السَّيَالِ سَلَامُ ولا زال مُنْهَلُّ الرَّبيع إذا جَرَى ... عليكنَّ منه وَابِل ورِهَامٌ فأتى بالفعل الماضي ومعناه الدعاء؛ وقال قيس بن ذَرِيح: [154] ألا يا غرابَ البَيْنِ قد هِجْتَ لَوْعَةً ... فَوَيْحَكَ خَبِّرْنِي بما أنت تَصْرُخُ

_ [153] السيالات: جمع سيالة -بفتح السين المهملة فيهما- والسيالة أيضًا واحدة السيال، والسيال: شجر سبط الأغصان عليه شوك أبيض أصوله أمثال ثنايا العذارى، وقال أبو زياد: السيال ما طال من السمر، والدحائل: جمع دحول، والدحول: جمع د حل -بفتح الدال وسكون الحاء المهملة، بزنة كنز وكنوز- والدحل: نقب فمه ضيق ثم يتسع أسفله حتى يمشي فيه، وربما أنبت السدر، وفي نظيره يقول ذو الرمة. إذا شئت أبكاني لجرعاء مالك ... إلى الدحل مستبدي لميٍّ ومحضر ومنهل الربيع: أراد به منسكب المطر، والوابل: المطر الكثير، والرهام: جمع رهمة -بكسر الراء وسكون الهاء- وهو المطر الضعيف الدائم الصغير القطر. والاستشهاد بالبيتين في قوله "عليكن سلام" وقوله "ولازال منهل الربيع ... إلخ" فإن هاتين الجملتين خبريتان لفظًا، والمقصود من كل واحدة منهما إنشاء الدعاء، وذلك ظاهر بأدنى تأمل. [154] البين: الفراق، وغراب البين: هذا من بعض قولههم في زجر الطير، كانوا يزعمون أن نعيب الغراب مؤذن بتفرق شملهم، وفي هذا يقول النابغة الذبياني: زعم البوارح أن رحلتنا غدًا ... وبذاك تنعاب الغراب الأسود لا مرحبًا بغد، ولا أهلًا به ... إن كان تفريق الأحبة في غد وهجت: أثرت وحركت، واللوعة: حرقة الباطن من عشق أو نحوه، ويفضخ -بالبناء للمجهول- يكسر، ومشدخ -بزنة مكرم- مكسور، وكان من حق العربية عليه أن يقول "مشدوخ" بزنة اسم المفعول من الثلاثي، فإنه يقال "شدخه يشدخه شدخًا مثل قطعه يقطعه قطعًا" والشدخ: الكسر والتهشيم، وقوله: "وأبصرت قبل الموت ... إلخ البيت" دعا =

أبالبَيْنِ من لُبْنَى؟ فإن كنت صَادِقًا ... فلا زال عَظْمٌ من جناحك يُفْضَخُ ولا زِلتَ من عَذْبِ المياه منفّرًا ... وَوَكْرُكَ مهدوم وبيضك مُشْدَخُ ولازال رامٍ قد أصابك سهمُهُ ... فلا أنت في أَمْن ولا أنت تُفْرِخُ وأبصرتُ قبل الموت لحمك مُنْضَجًا ... على حَرِّ جَمْرِ النار يُشْوَى ويُطْبَخُ وقال مَعْدَان بن جَوَّاس الكِنْدِي: [155] إن كان ما بُلِّغْتُ عَنِّي فَلَامَنِي ... صديقي، وشَلَّتْ من يَدَيَّ الأَنَامِلُ وكَفَنْت وَحْدِي مُنْذِرًا في ردائه ... وصادف حَوْطًا من أَعَادِيَّ قاتل فأتى بالفعل الماضي في هذه المواضع ومعناه الدعاء. فكذلك قوله تعالى: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] لفظُهُ لفظ الماضي ومعناه الدعاء، ومعناه من الله تعالى إيجاب ذلك عليهم. وأما قول الشاعر: [152] كما انتفض العصفور بلَّلَهُ القطر فإنما جاز ذلك لأن التقدير فيه: قد بلله القطر، إلا أنه حذف لضرورة الشعر، فلما كانت "قد" مقدرة تنزَّلَتْ منزلة الملفوظ بها، ولا خلاف أنه إذا كان مع الفعل الماضي "قد" فإنه يجوز أن يقع حالًا. وأما قولهم "إنه يصلح أن يكون صفة للنكرة، فصلح أن يقع حالًا، نحو "قاعدِ، وقائم" قلنا: هذا فاسد؛ لأنه إنما جاز أن يقع نحو قاعد وقائم حالًا لأنه

_ = على الغراب بأن يحترق بالنار ولنفسه بأن يتمتع برؤية ذلك قبل أن يموت؟ والاستشهاد بهذه الأبيات في أغلب جملها، فإنها خبرية لفظًا إنشائية معنى؛ لأن المقصود بها الدعاء، وهذا في غاية الظهور. [155] شلت أنامله: يبست وفسدت، ومثل هذا البيت قول الآخر: فشلت يميني يوم أعلو ابن جعفر ... وشل بناناها، وشل الخناصر و"كفنت وحدي منذرًا ... إلخ" يقول: أصبحت فريدًا لا معين لي على القيام بواجب تجهيزه وأصبحت فقيرًا لا أملك ما أكفنه فيه غير ردائه، أو يكون المعنى: قتله أعداؤه وليس معه غيري وأعجلت عن تكفينه حسب العادة. والاستشهاد بالبيتين في أربع جمل: أولاها: قوله "فلامني صديقي" والثانية: قوله "وشلت ... إلخ" والثالثة: قوله "وكفنت ... إلخ" والرابعة: قول "وصادف حوطًا ... إلخ" فإن كل واحدة من هذه الجمل خبرية لفظًا إنشائية معنى؛ لأن المقصود بها الدعاء، ونظير ذلك قول النابغة: لئن كان ما بلغت عني صادقًا ... فلا رفعت سوطي إلى إذن يدي

اسم فاعل، واسم الفاعل يراد به الحال، بخلاف الفعل الماضي فإنه لا يراد به الحال فلم يجز أن يقع حالًا. وأما قولهم "إنه يجوز أن يقوم الماضي مقام المستقبل، وإذا جاز أن يقوم مقام المستقبل جاز أن يقوم مقام الحال" قلنا: هذا لا يستقيم، وذلك لأن الماضي إنما يقوم مقام المستقبل في بعض المواضع على خلاف الأصل بدليل يدل عليه كقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ} [المائدة: 116] فلا يجوز فيما عداه؛ لأنَّا بقينا فيه على الأصل، كما أنه يجوز أن يقع الماضي في بعض المواضع حالًا لدليل يدل عليه، وذلك إذا دخلت عليه "قد" أو كان وصفًا لمحذوف، ولم يجز فيما عداه؛ لأنا بقينا فيه على الأصل. على أنا نقول: ليس من ضرورة أن يجوز أن يقام الماضي مقام المستقبل ينبغي أن يقام مقام الحال؛ لأن المستقبل فعل كما أن الماضي فعل، فجنس الفعلية مشتمل عليهما، وأما الحال فهي اسم؛ وليس من ضرورة أن يقام الفعل مقام الفعل يجب أن يقوم مقام الاسم، والله أعلم.

مسألة ما يجوز من وجوه الإعراب في الصفة الصالحة للخبرية إذا وجد معها ظرف مكرر

33- مسألة: [ما يجوز من وجوه الإعراب في الصفة الصالحة للخبرية إذا وُجِدَ معها ظرف مكرر] ذهب الكوفيون إلى أن النصب واجب في الصفة إذا كرر الظرف التام وهو خبر المبتدأ، وذلك نحو قولك: "في الدَّار زيد قائمًا فيها". وذهب البصريون إلى أن النصب لا يجب إذا كرر الظرف وهو خبر المبتدأ، بل يجوز فيه الرفع كما يجوز فيه النصب. وأجمعوا على أنه إذا لم يكرر الظرف أنه يجوز فيه الرفع والنصب. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على 117 أن النصب واجب النقل والقياس: أما النقل فقد قال الله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 108] فقوله تعالى: {خَالِدِينَ} منصوب بالحال، ولا يجوز غيره. وقال تعالى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا} [الحشر: 17] ووجه الدليل من هاتين الآيتين أن القُرَّاء أجمعوا فيهما على النصب، ولم يُرْوَ عن أحد منهم أنه قرأ في واحدة منهما بالرفع. وأما القياس فقالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز إلا النصب، وذلك لأن الفائدة في الظرف الثاني في قولك: "في الدار زيد قائمًا فيها" إنما تحصل إذا حملناه على النصب، لا إذا حملناه على الرفع، ألا ترى أنه إذا حملناه على النصب يكون الظرف الأول خبرًا للمبتدأ، ويكون الثاني ظرفًا للحال، ويكون الصلة لقائم منقطعًا عما قبله؛ فيكون على هذا كلامًا مستقيمًا لم يُلْغَ منه شيء، بخلاف ما إذا حملناه على الرفع فقلنا "في الدار زيد قام فيها" فإنه تبطل فائدة في الثانية لنيابة الأولى عنها في الفائدة، وحمل الكلام على ما فيه فائدة أشبه بالحكمة من حمله على ما ليس فيه فائدة. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن الرفع جائز أنا أجمعنا على

أنه إذا لم يكرر الظرف أنه يجوز فيه الرفع والنصب، فكذلك إذا كرر؛ لأن قُصَارى ما نقدر أن يكون مانعًا تَكَرُّرُ الظرف؛ لأن "في" الأولى تفيد ما تفيده الثانية، وهذا لا يصلح أن يكون مانعًا، لأن الأولى وإن كانت تفيد ما تفيده الثانية إلا أن الثانية تذكر على سبيل التوكيد، والتوكيد شائع في كلام العرب مُسْتَعْمَل في لغتهم، وهذا لا خلاف فيه، وصار هذا كقولهم "فيك زيد راغب فيك" ولا شك أن "فيك" الأولى تفيد ما تفيده الثانية، ومع هذا لم يمتنع صحة المسألة، فكذلك ههنا. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 108] وقوله تعالى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا} [الحشر: 17] فلا حجة لهم في هاتين الآيتين؛ إذ ليس فيهما ما يدل على أنه لا يجوز الرفع، وإنما فيهما دلالة على جواز النصب، ونحن نقول به. وقولهم: "إنه لم يروَ عن أحد من القُرَّاء بالرفع فوجب أنه لا يجوز" قلنا: لا نسلم؛ فإنه قد روي عن الأعمش أنه قرأ {خالدون فيها} بالرفع، على أن هذا الاستدلال فاسد، وذلك لأنه ليس من ضرورة أنه لم يقرأ به أحد من القراء أن لا يكون كلامًا جائزًا فصيحًا. ألا ترى أنه لم يأتِ في كتاب الله عز وجل ترك عمل "ما" في المبتدأ والخبر نحو "ما زيد قائم، وما عمرو ذاهب" إلا فيما ليس بمشهور، وإن كانت لغة مشهورة معروفة صحيحة فصيحة وهي لغة بني تميم، ثم لم يدل ذلك على أنها ليست فصيحة مشهورة مستعملة؟ فكذلك ههنا. وأما قولهم "إنا لو حملناه على الرفع لأدَّى ذلك إلى أن تبطل فائدة الثانية لنيابة الأولى عنها في الفائدة" قلنا: هذا فاسد؛ وذلك لأنه وإن كانت الأولى تفيد ما تفيده الثانية إلا أن ذلك لا يدل على بطلان فائدة الثانية؛ لأن من مذاهب العرب أن يؤكد اللفظ بتكريره؛ فيقولون "لقيت زيدًا زيدًا، وضربت عمرًا عمرًا" فيكون المكرر توكيدًا للأول، وإن كان الأول قد وقعت به الفائدة، وقد قال الله تعالى: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [هود: 19] فهم الثانية تكرير للتوكيد، والتقدير: وهم بالآخرة كافرون، في أحد الوجهين، ومع هذا فلا يقال إنه لا يجوز، فكذلك ههنا، ومن تدبر سورة "الرحمن" و "قل يا أيها الكافرون" علم قطعًا أن التكرير للتوكيد لا ينكر في كلامهم؛ لما فيه من الفائدة، وكثرة ذلك في كتاب الله تعالى وكلام العرب، وشهرته في استعمالهم، تغني عن الإسهاب والتطويل بالشواهد؛ إذ كان ذلك أكثر من أن يحصى، وأشهر من أن يظهر، والله أعلم.

مسألة القول في العامل في المستثنى النصب

34- مسألة: [القول في العامل في المستثنى النصب] 1 اختلف مذهب الكوفيين فالعامل في المستثنى النصب نحو "قام القوم إلا زيدًا" فذهب بعضهم إلى أن العامل فيه "إلا"، وإليه ذهب أبو العباس محمد بن يزيد المُبَرِّد وأبو إسحاق الزَّجَّاج من البصريين، وذهب الفَرَّاء ومن تابعه من الكوفيين -وهو المشهور من مذهبهم- إلى أن "إلا" مركبة من إنَّ ولا، ثم خففت إنَّ وأدغمت في لا، فنصبوا بها في الإيجاب اعتبارًا بإنَّ، وعطفوا بها في النفي اعتبارًا بلا، وحكي عن الكسائي أنه قال: إنما نصب المستثنى؛ لأن تأويله: قام القوم إلا أن زيدًا لم يقم، وحكي عنه أيضًا أنه قال: ينتصب المستثنى لأنه مشبه بالمفعول. وذهب البصريون إلى أن العامل في المستثنى هو الفعل، أو معنى الفعل بتوسُّط إلا. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن "إلا" هي العامل وذلك لأن إلا قامت مقام أستثني، ألا ترى أنك إذا قلت "قام القوم إلا زيدا" كان المعنى فيه: أستثني زيدًا، ولو قلت "أستثني زيدا" لوجب أن تنصب، فكذلك مع ما قام مقامه. والذي يدل على أن الفعل المتقدم لا يجوز أن يكون عاملًا في المستثنى النصب أنه فعل لازم. والفعل اللازم لا يجوز أن يعمل في هذا النوع من الأسماء؛ فدلَّ على أن العامل هو "إلا" على ما بيَّنَّا. والذي يدل أيضًا على أن الفعل ليس عاملًا قولهم "القوم إخوانك إلا زيدًا" فينصبون زيدًا، وليس ههنا فعل ألبتة؛ فدلَّ على صحة ما ذهبنا إليه. وأما الفَرَّاء فتمسك بأن قال: إنما قلنا إنه منصوب بإلا لأن الأصل فيها إنَّ ولا؛

_ 1 انظر في هذه المسألة: حاشية الصبان على الأشموني "2/ 125" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "1/ 421 بولاق" وشرح الرضي على الكافية "1/ 207" وأسرار العربية للمؤلف "ص81 ليدن" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص259 ليبزج".

فزيد: اسم إن، ولا: كَفَتْ من الخبر؛ لأن التأويل: إن زيدًا لم يقم، ثم خففت إن وأدغمت في لا وركبت معها فصارتا حرفًا واحدًا، كما ركبت لو مع لا وجعلا حرفًا واحدًا؛ فلما ركبوا إن مع لا أعملوها عملين: عمل إن فنصبوا بها في الإيجاب، وعمل لا فجعلوها عطفًا في النفي، وصارت بمنزلة حتى، فإنها لما شَابَهَتْ حرفين إلى والواو أجروها في العمل مجراهما، فخفضوا بها بتأويل إلى، وجعلوها كالواو في العطف؛ لأن الفعل يحسن بعدها كما يحسن بعد الواو، ألا ترى أنك تقول "ضربت القوم حتى زيد" أي حتى انتهيت إلى زيد، و "ضربت القوم حتى زيدٍ" أي حتى انتهيت إلى زيد، و "ضربت القوم حتى زيدًا" أي حتى ضربت زيدًا، فكذلك ههنا: إلا لما ركبت من حرفين أجريت في العمل مجراهما على ما بيَّنَّا. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن العامل هو الفعل وذلك لأن هذا الفعل وإن كان فعلًا لازمًا في الأصل إلا أنه قَوِيَ بإلا فتعدَّى إلى المستثنى كما تعدَّى الفعل بحرف الجر، إلا أن "إلا" لا تعمل وإن كانت مُعَدِّية كما يعمل حرف الجر؛ لأن "إلا" حرف يدخل على الاسم والفعل المضارع، نحو "ما زيد إلا يقوم، وما عمرو إلا يذهب" وإن لم يجز دخوله على الفعل الماضي نحو "ما زيد إلا قام، وما عمرو إلا ذهب" والحرف متى دخل على الاسم والفعل لم يعمل في واحد منهما، وعدم العمل لا يدل على عدم التعدية، ألا ترى أن الهمزة والتضعيف يُعَدِّيان وليسا عاملين، ونظير ما نحن فيه نصبهم الاسم في باب المفعول معه نحو "استوى الماء والخَشَبَةَ، وجاء البرد والطَيَالِسَةَ" فإن الاسم نصب بالفعل المتقدم بتقوية الواو فإنها قَوَّتِ الفعل فأوصلته إلى الاسم فنصبه؛ فكذلك ههنا. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن إلا قامت مقام أستثني فينبغي أن تعمل عمله" قلنا: الجواب عن هذا من خمسة أوجه: الوجه الأول: أن هذا يؤدِّي إلى إعمال معاني الحروف؛ وإعمال معاني الحروف لا يجوز، ألا ترى أنك تقول "ما زيد قائمًا" فيكون صحيحًا؛ فلو قلت "ما زيدًا قائمًا" على معنى نفيت زيدًا قائمًا لكان فاسدًا؛ فكذلك ههنا، وإنما لم يجز إعمال معاني الحروف لأن الحروف إنما وضعت نائبة عن الأفعال طلبًا للإيجاز والاختصار؛ فإذا أعملت معاني الحروف فقد رجعت إلى الأفعال، فأبطلت ذلك المعنى من الإيجاز والاختصار. والوجه الثاني: أنه لو كان العامل "إلا" بمعنى أستثني لوجب أن لا يجوز في المستثنى إلا النصب، ولا خلاف في جواز الرفع والجر في النفي نحو "ما جاءني أحد إلا زيد، وما مررت بأحد إلا زيد" فدلَّ على أنها ليست هي العاملة بمعنى أستثني.

والوجه الثالث: أنه يبطل بقولك: "قام القوم غير زيد" فإن "غير" منصوب، ولا يخلو: إما أن يكون منصوبًا بتقدير إلا، وإما أن يكون منصوبًا بنفسه، وإما أن يكون منصوبًا بالفعل الذي قبله؛ بطل أن يقال "إنه منصوب بتقدير إلا" لأنا لو قدرنا إلا لفسد المعنى؛ لأنه يصير التقدير فيه: قام القوم إلا غير زيد، وهذا فاسد، وبطل أيضًا أن يقال "إنه يعمل في نفسه"؛ فوجب أن يكون العامل هو الفعل المتقدم، وإنما جاز أن يعمل فيه وإن كان لازمًا لأن "غير" موضوعة على الإبهام، ألا ترى أنك إذا قلت "مررت برجل غيرَك" كان كل مَنْ جاوز المخاطب داخلًا تحت "غير" فلما كان فيه هذا الإبهام المفرط أشبه الظروف المبهمة، نحو خلف وأمام ووراء وقدَّام، وما أشبه ذلك، وكما أن الفعل اللازم يتعَدَّى إلى هذه الظروف من غير واسطة فكذلك ههنا. والوجه الرابع: أنا نقول لماذا قدرتم أستثني زيدًا فنصبتم؟ وهلا قدرتم امتنع فرفعتم! كما روي عن أبي عليّ الفارسي أنه كان مع عضد الدولة في الميدان فسأله عضد الدولة عن المستثنى، بماذا انتصب؟ فقال له أبو علي: انتصب لأن التقدير أستثني زيدًا، فقال له عضد الدولة: وهلَّا قدرت امتنع فرفعت زيدًا، فقال له أبو علي: هذا الجواب الذي ذكرت لك مَيْدَانِي1، وإذا رجعنا ذكرت لك الجواب الصحيح، إن شاء الله تعالى. والوجه الخامس: أنا إذا أعملنا "إلا" بمعنى أستثني كان الكلام جملتين، وإذا أعملنا الفعل كان الكلام جملة واحدة، ومتى أمكن أن يكون الكلام جملة واحدة كان أولى من جَعْلِه جملتين من غير فائدة. وأما قولهم "إن الفعل المتقدم لازم فلا يجوز أن يكون عاملًا" قلنا: هذا الفعل وإن كان لازمًا إلا أنه تعَدَّى بتقوية "إلا" على ما بيَّنَّا. وأما قولهم "والذي يدل على أن الفعل ليس عاملًا قولهم: القوم إخوانك إلا زيدًا، فينصبون زيدًا، وليس ههنا فعل ناصب" قلنا: الناصب له ما في إخوانك من معنى الفعل؛ لأن التقدير فيه: القوم يصادقونك إلا زيدًا؛ فإلا قوَّت الفعل المقدر فأوصلته إلى زيد فنصبه. وأما قول الفَرَّاء "إن الأصل فيها إن ولا، ثم خففت إن وركبت مع لا" فمجرد دعوى يفتقر إلى دليل، ولا يمكن الوقوف عليه إلا بوحي وتنزيل، وليس

_ 1 يريد أن هذا الجواب سريع غير مبني على الدقة التي تحتمل النقاش، هو لذلك غير مطرد ولا منعكس.

إلى ذلك سبيل، ثم لو كان كما زعم لوجب أن لا تعمل؛ لأن إنَّ الثقيلة إذا خففت بطل عملها، خصوصًا على مذهبكم، وأما تشبيهه لها بلولا فحجة عليه؛ لأن لو لما ركّبت مع لا بطل حكم كل واحد منهما عما كان عليه في حالة الإفراد، وحَدَثَ لهما بالتركيب حكم آخر، وكذلك كل حرفين ركب أحدهما مع الآخر؛ فإنه يبطل حكم كل واحد منهما عما كان عليه في حالة الإفراد، ويحدث لهما بالتركيب حكم آخر، وصار هذا بمنزلة الأدوية المركبة من أشياء مختلفة فإنه يبطل حكم كل واحد منها عما كان عليه في حالة الإفراد، ويحدث لها بالتركيب حكم آخر، وهو لا يقول في "إلا" كذلك، بل يزعم أن كل واحد من الحرفين باقٍ على أصله وعمله بعد التركيب كما كان "122" قبل التركيب. وأما تشبيهه لها بحتى فبعيد؛ لأن "حتى" حرف واحد، وليس بمركب من حرفين فيعمل عمل الحرفين، وإنما هو حرف واحد يتأول تأويل حرفين في حالين مختلفين: فإن ذُهِبَ به مذهب حرف الجر لم يتوهم فيه غيره، وإن ذُهِبَ به مذهب حرف العطف لم يتوهم فيه غيره، بخلاف "إلا" فإن إلا عنده مركبة من إن ولا، وهما منطوق بهما، فإذا اعتمد على أحدهما بطل عمل الآخر وهو منطوق به، فبان الفرق بينهما. والذي يدل على فساد ما ذهب إليه قولهم "ما قال إلا له" فإن "له" لا شيء قبله يعطف عليه، وليس في الكلام منصوب فتكون "إلا" عاملة فيه؛ فدلَّ على فساد ما ذهب إليه. وأما قول الكسائي"إنا نصبنا المستثنى لأن تأويله إلا أنَّ زيدًا لم يقم" قلنا: لا يخلو إما أن يكون الموجب للنصب هو أنه لم يفعل، أو أنَّ، فإن أراد أن الموجب للنصب أنه لم يفعل فيبطل بقولهم "قام زيد لا عمرو1" وإن أراد أن أنَّ هي الموجبة للنصب كان اسمها وخبرها في تقدير اسم، فلا بُدّ أن يقدَّر له عامل يعمل فيه، وفيه وقع الخلاف. وقد زعم بعض النحويين أن قول الكسائي تقدير لمعنى الكلام لا لعامله، وإلا فقوله يرجع إلى قول البصريين. وأما ما حكي عنه من أن المستثنى ينتصب لأنه مشبه بالمفعول؛ فهو أيضًا قريب من قول البصريين؛ لأنه لا عامل ههنا يوجب النصب إلا الفعل المتقدم على ما بينَّا، والله أعلم.

_ 1 يريد أن عمرًا في هذا المثال لم يفعل القيام، ولم ينصب، فلا يكون كونه لم يفعل عاملًا النصب، فتأمل ذلك.

مسألة هل تكون إلا بمعنى الواو

35 مسألة: [هل تكون "إلا" بمعنى الواو؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "إلا" تكون بمعنى الواو. وذهب البصريون إلى أنها لا تكون بمعنى الواو. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لمجيئه كثيرًا في كتاب الله تعالى وكلام العرب، قال الله تعالى: {لِئَلَّا يكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيكُمْ حُجَّةٌ الَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] أي ولا الذين ظلموا، يعني ولا الذين ظلموا لا يكون لهم أيضًا حجة، ويؤيد ذلك ما روى أبو بكر بن مجاهد عن بعض القراء أنه قرأ: "إلى الذين ظلموا" مخففًا يعني مع الذين ظلموا منهم، كما قال تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيدِيكُمْ إلى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلى الْكَعْبَينِ} [المائدة: 6] أي مع المرافق ومع الكعبين، وكما قال تعالى: {مَنْ أنْصَارِي إلى اللَّهِ} [آل عمران: 52] أي مع الله، وكما قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أمْوَالَهُمْ إلى أمْوَالِكُم} [النساء: 2] أي مع أموالكم، وكقولهم في المثل: "الذّود إلى الذّود إبل" أي مع الذّود، وكقول ابن مُفَرِّغٍ: [156] شَدَخَتْ غُرَّةُ السَّوَابِقِ فيهم ... في وجوه إلى اللّمَام الجِعَاد

_ [156] هذا البيت من كلام ابن مفرغ الحميري، واسمه يزيد بن ربيعة، وقد روى ابن منظور هذا البيت في اللسان مرتين، أولاهما: في "ش د خ" وقال قبل إنشاده "وقال الراجز" وهذا سبق قلم منه؛ فإن البيت من الخفيف، وليس رجزًا، وثانيتهما: في "ل م م" ونسبه إلى ابن مفرغ. وشدخت: أي اتسعت في الوجهن قال أبو عبيدة: "يقال لغرة الفرس إذا كانت مستديرة: وتيرة، فإذا سالت وطالت فهي شادخة" ا. هـ. والغرة -بضم الغين وتشديد الراء- بياض في جبهة الفرس، والسوابق: جمع سابق، وأصله الفرس يأتي في الحلبة سابقًا، =

أي مع اللمام، وقال ذو الرمة: [157] بها كُلُّ خَوَّارٍ إلى كُلِّ صَعْلَةٍ أي مع كل صعلة، وقال تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] أي ومن ظلم لا يحب أيضًا الجهر بالسوء1 منه، إلى غير ذلك من المواضع، ثم قال الشاعر: [158] وكُلُّ أخٍ مُفَارِقَهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الفَرْقَدَان

_ = واللمام: جمع لمة وتجمع أيضًا على لمم -بكسر اللام في المفرد وفي جميعه- واللمة: الشعر إذا نزل من الرأس فجاوز شحمة الأذن، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرس يقال له: ذو اللمة، والجعاد: جمع جعدة -بفتح فسكون- وهي أنثي الجعد، والجعد: ضد السبط، والسبط: المسترسل من الشعر، وجعوده الشعر هي الغالبة على شعور العرب، وعلي هذا يمدح الرجل بأنه جعد الشعر، تعني أنه عربي، فإذا أردت أن شعره مفلفل كشعر الزنج كان ذمًّا. والاستشهاد بالبيت في قوله "إلى اللمام" فإن إلى ههنا تدل على معنى مع، وأقوى ما يدل على ذلك أن الرواية في اللسان "ل م م" "مع اللمام الجعاد" وإذا جاءت كلمة في إحدى الروايات مكان كلمة في رواية أخرى دلَّ ذلك على أن الكلمتين بمعنى واحد. [157] هذا صدر بيت من كلام ذي الرمة غيلان بن عقبة، ونعجزه قوله: ضهول ورفض المذرعات القراهب وقد أنشد ابن منظر هذا البيت في اللسان "ص ع ل - ض هـ ل" ونسبه إلى ذي الرمة، ثم قال "قال ابن بري: الصعلة النعامة، والخوار: الثور الوحشي الذي له خوار -وهو صوته- وضهول: تذهب وترجع والمذرعات من البقر: التي معها أولادها، والقراهب: جمع فرهب -بوزن جعفر- وهو المسن مطلقا، ويقال: الكبير الضخم من الثيران، والقرهب أيضًا: السيد، والاستشهاد بالبيت في قوله "إلى كل صعلة" فإن إلى في هذا الموضع تدل على معنى مع، وهو ظاهر إن شاء الله. [158] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 381" وقد نسبه إلى عمرو بن معد يكرب، وقال الأعلم "ويروى لسوار بن المضرب" ا. هـ، وأنشده الجاحظ في البيان "1/ 288" منسوبا إلى عمرو، والبيت من شواهد الأشموني "رقم 453" ومغني اللبيب "رقم 108" ورضي الدين في شرح الكافية في باب الاستثناء، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 52 بولاق". وقال: إن هذا البيت يروى في شعرين لشاعرين، أحدهما: عمرو بن معد يكرب، والثاني: حضرمي بن عامر أحد بني أسد، واستشهد به أيضًا موفق الدين بني يعيش في شرح =

أي والفرقدان، والشواهد على هذا في أشعارهم كثيرة جدا. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن "إلا" لا تكون بمعنى الواو لأن إلا للاستثناء، والاستثناء يقتضي إخراج الثاني من حكم الأول، والواو للجمع، والجمع يقتضي إدخال الثاني في حكم الأول؛ فلا يكون أحدهما بمعنى الآخر. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله تعالى: {الَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة: 150] فلا حجة لهم فيه؛ لأن "إلا" ههنا استثناء منقطع، والمعنى: لكن الذين ظلموا يحتجون عليكم بغير حجة، والاستثناء المنقطع كثير في كتاب الله تعالى وكلام العرب، قال الله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ الَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] معناه لكن يتبعون الظن، وقال تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 20] معناه لكن يبتغي وجه ربه الأعلي، وقال تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أسْفَلَ سَافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} [التين: 5-6] معناه لكن الذي آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر، ثم قال النابغة: [159] وَقَفَتُ فيها أُصَيْلَالًا أُسَائِلُهَا ... أَعَيَتْ جَوَابًا، وما بالرَّبْعِ مِن أَحَدِ

_ = المفصل "ص284" والاستشهاد بالبيت ههنا في قوله "إلا الفرقدان" فإن الكوفيين زعمو أن "إلا" في هذا البيت حرف عطف بمنزلة الواو، وكأنه قال: كل أخ مفارقة أخوه، والفرقدان أيضًا، وقد حمل الشريف المرتضي في أماليه "2/ 88" على هذا المعنى قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ الَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} قال: إلا بمعنى الواو، والتأويل: خالدين فيها ما دامت السماات والأرض وما شاء ربك من الزيادة، واستشهد على ذلك ببيت الشاهد، وبقول الآخر: "وهو المخبل السعدي": وأرى لها دارًا بأغدرة الـ ... ـسيدان لم يدرس لها رسم إلا رمادًا هامدًا دفعت ... عنه الرياح خوالد سحم والمراد بإلا ههنا الواو، وإلا كان الكلام متناقضًا، ا. هـ. والذي رآه سيبويه في بيت الشاهد -وسيذكر المؤلف في الرد على كلمات الكوفيين- أن "إلا" ههنا اسم بمعنى غير، وهي صفة لكل، ولهذا ارتفع ما بعدها؛ لأن إلا التي بمعنى غير يظهر إعرابها على ما بعدها بطريق العارية، ومن هنا تدرك أنه لا يجوز جعل إلا صفة لأخ المضاف إليه، إذ لو كانت صفة لأخ لكان ما بعدها مجرورًا فكان يقول "إلا الفرقدين" كما قال الآخر: وكل أخ مفارقه أخوه ... لشحط الدار إلا ابني شمام كما أنه لا يجوز لك أن تجعل "إلا" في بيت الشاهد استثنائية؛ لأنها لو كانت هي الاستثنائية لكان ما بعدها منصوبًا، لأن الكلام قبلها تام موجب، ونصب المستثنى بعد الكلام التام الموجب واجب كما تعلم. [159] هذان البيتان من قصيدة النابغة الذبياني التي يعدونها من المعلقات والتي مطلعها =

إلا الأَََوَارِيَّ لأيًا ما أُبَيِّنُهَا ... والنُّؤْيُ كالحوض بالمظلومة الجَلدِ وقال آخر: [160] وبلدةٍ ليس بها أنيس ... إلا اليعافيرُ وإلا العيسُ

_ = يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت طال عليها سالف الأمد والبيتان من شواهد سيبويه "1/ 364" وشرح المفصل لابن يعيش "ص265" وانظر مع ذلك خزانة الأدب "2/ 76" وشرحنا على شرح الأشموني "الشواهد 21 و180 و271 و 476" وقوله "أصيلالا" أصله أصيلا -بالنون- فأبدل النون لامًا، وهو إبدال غير قياسي، والأصيلان: تصغير أصلان، الذي هو جمع أصيل، والأصيل: الوقت قبيل غروب الشمس، وأعيت: عجزت وضعفت، والأواري: جمع آرية أو آري، وهو محبس الخيل، وقوله "لأيا ما أبينها" يريد ما أعرفها وأتبينها إلا بعد لأي، أي بطء والنؤي -بالضم- حفيرة تحفر حول الخيمة لتمنع تسرب المطر إليها، والمظلومة: أراد بها الفلاة التي حفر فيها الحوض لغير إقامة، والجلد: الصلبة، والاستشهاد بالبيتين في قوله "إلا الأواري" فإن هذا من نوع الاستثناء المنقطع لكون المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، وهذا النوع يجوز فيه وجهان: الإبدال من المستثنى منه فيتبعه في إعرابه، على أن تتوسع في المستثنى منه فتجعله شاملًا للمستثنى، والنصب على الاستثناء قال الأعلم: "الشاهد في قوله إلا الأواري بالنصب على الاسثثناء المنقطع؛ لأنها من غير جنس الأحدين، الرفع جائز على البدل من الموضع، والتقدير: وما بالربع أحد إلا الأواري، على أن تجعل من جنس الأحدين اتساعًا ومجازًا" ا. هـ. وليس عجيبًا أن تجعل المستثنى من هذا النوع داخلًا في جنس المستثنى منه؛ فقد جرت عادة العرب في كلامهم أن يجعلوا الشيء من جنس غير جنسه توسعًا، انظر إلى قول أبي ذؤيب الهذلي: فإن تمس في قبر برهوة ثاويًا ... أنيسك أصداء القبور تصيح فقد جعل أصداء القبور أنيسًا وليست في الأصل من جنس الأنيس، ثم انظر إلى قول ابن الأيهم التغلبي: ليس بيني وبين قيس عتاب ... غير طعن الكلى وضرب الرقاب ثم انظر إلى قول عمرو بن معد يكرب وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع فقد جعل الضرب الوجيع تحية، وهو في الأصل من غير جنسها. [160] هذان بيتان من مشطور الرجز، وهما من كلام جران العود، واسمه عامر بن الحارث "د52" والبيتان من شواهد سيبويه "1/ 133 و365" وابن يعيش "ص265" والأشموني "رقم 444" وأوضح المسالك "رقم 145" وشذور الذهب "رقم 125" ولميس: اسم امرأة، واليعافير: جمع يعفور بضم الياء أو فتحها وهو الظبي الذي لونه لون العفر وهو التراب، والعيس: جمع أعيس أو عيساء، وأصلها الإبل لكنه أراد بقر الوحش، الاستشهاد به في قوله "إلا اليعافير وإلا العيس" حيث رفع ما بعد إلا على البدل مما قبلها مع أن اليعافير والعيس ليسا من جنس الأنيس في الأصل، ولكنه توسع فجعلهما من =

وعلى ذلك أيضًا يحمل ما احتجوا به من قوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: من الآية148] ؛ فإن معناه لكن المظلوم يجهر بالسوء؛ لما يلحقه من الظلم، فيكون في ذلك أعذر ممن يبدأ بالظلم، وعلى ذلك أيضا يحمل قول الشاعر: [158] وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان أراد لكن الفرقدان فإنهما لا يفترقان، على زعمهم في بقاء هذه الأشياء المتأخرة إلى وقت الفناء، ويحتمل أن تكون "إلا" في معنى غير، ولذلك ارتفع ما بعدها، والمعنى: كل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه، كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] أي لو كان فيهما آلهة غير الله، ولهذا كان ما بعدها مرفوعًا، ولا يجوز أن يكون الرفع على البدل؛ لأن البدل في الإثبات غير جائز؛ لأن البدل يوجب إسقاط الأول، ولا يجوز أن تكون {آلِهَةٌ} في حكم الساقط؛ لأنك لو أسقطته لكان بمنزلة قولك: لو كان فيهما إلا الله، وذلك لا يجوز، ألا ترى أنك لا تقول "جاءني إلا زيد" لأن الغرض في "إلا" -إذا جاءت قبل تمام الكلام- أن تثبت بها ما نفيته، نحو "ما جاءني إلا زيد" وليس في قوله: {لَوْ كَانَ} نفي فيفتقر إلى إثبات، ولو جاز أن يقال "جاءني إلا زيد" على إسقاط إلا مثلا حتى كأنه قيل جاءني زيد و "إلا" مزيد لاستحال ذلك في الآية؛ لأنه كان يصير قولك "لو كان فيهما إلا الله" بمنزلة لو كان فيهما الله لفسدتا، وذلك مستحيل. وأما قراءة من قرأ: "إلى الذين ظلموا منهم" بالتخفيف، فإن صحت وسلم

_ = جنسه، قال سيبويه بعد أن أنشد البيت "جعلها أنيسها" يريد جعل اليعافير والعيس أنيس هذه البلدة. وقال الأعلم "الشاهد فيه رفع اليعافير والعيس بدلا من الأنيس على الاتساع والمجاز" ا. هـ. وإبدال المستثنى من المستثنى منه إذا كان في أصله من غير جنسه هو لغة بني تميم، يجيزون فيه النصب على الاستثناء والبدلية، أما الحجازيون فلا يجيزون فيه غير النصب على الاستثناء، وعليه قول الأسود بن يعفر، وهو من شعر المفضليات: مهامهًا وخروقًا لا أنيس بها ... إلا الضوابح والأصداء والبوما ويحتمل ذلك قول الكلحبة اليربوعي: أمرتكم أمري بمنعرج اللوى ... ولا أمر للمعصي إلا مضيعا فإنه يجوز أن يكون قوله "إلا مضيعًا" استثناء مما قبله فيكون قد وضع الصفة مكان الموصوف، وأصل الكلام: ولا أمرللمعصي إلا أمرًا مضيعًا، ويجوز أن يكون "مضعيًا" حالًا من الضمير المستكن في الجار والمجرور قبله.

لكم ما ادّعيتموه على أصلكم من أن إلى تكون بمعنى مع فليس لكم فيه أيضًا حجة تدل على أن "إلا" تكون بمعنى الواو؛ لأنه ليس من الشرط أن تكون إحدى القراءتين بمعنى الأخرى، وإذا اعتبرتم هذا في القراءات وجدتم الاختلاف في معانيها كثيرًا جدًّا، وهذا مما لا خلاف فيه، وإذا ثبت هذا فيجوز أن تكون قراءة من قرأ "إلى الذين" بالتخفيف بمعنى مع، وقراءة من قرأ "إلا" بالتشديد بمعنى لكن، على ما بيَّنَّا، والله أعلم.

مسألة هي يجوز تقديم حرف الاستثناء في أول الكلام

مسألة هي يجوز تقديم حرف الاستثناء في أول الكلام ... 36 مسألة: [هل يجوز تقديم حرف الاستثناء في أول الكلام؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز تقديم حرف الاستثناء في أول الكلام، نحو قولك: "إلا طَعَامَكَ ما أكل زيد" نصَّ عليه الكسائي، وإليه ذهب أبو إسحاق الزَّجَّاج في بعض المواضع. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على جواز تقديمه أن العرب قد استعملته مقدّمًا، قال الشاعر: [161] خلَا أن العِتَاق مِنَ المَطَايَا ... حَسَِيَن بِِهِ فَهُنَّ إليه شُوسُ

_ [161] هذا البيت من كلام أبي زبيد الطائي، وقد أنشده ابن منظور "ح س س - ح س ي" ونسبه في المرتين إليه، غير أنه رواه في المرة الأولى مثل ما أنشده المؤلف، ورواه في المرة الثانية: سوى أن العتاق.... إلخ والعتاق: جمع عتيق، وهو الأصيل، والمطايا: جمع مطية، وهي الدابة، سميت بذلك لأنها تمطو في سيرها، أي تسرع، أو لأن راكبها يقتعد مطاها، وهو ظهرها، وحسين به -بفتح الحاء وكسر السين أو فتحها، وآخره نون جماعة الإناث- أصله حسسن به، فأبدل من ثاني المثلين ياء، قال ابن منظور: "قال ابن سيده: وقالوا: حسست به، وحسست به -بكسر السين فيهما- وحسيته -بفتح السين- وأحسيت، وهذا كله من محول المضعف ... ثم قال عن الفراء: حسيت بالخبر، وأحسيت به، يبدلون من السين ياء، قال أبو زبيد: خلا أن العتاق ... إلخ قال الجوهري وأبو عبيدة يروي بيت أبي زبيد: أحَسَّنَّ به فهن إليه شوس وأصله أحسسن" ا. هـ. وقال: "وحسيت الخبر بالكسر مثل حسست، قال أبو زبيد: سوى أن العتاق ... إلخ

وقال الآخر: [162] وبَلْدَةٍ ليس بها طُورِيُّ ... ولا خَلَا الجنَّ بها إِنْسِيُّ قالوا: ولا يجوز أن يقال "إن الاستثناء يضارع البدل بدليل قولهم: ما قام أحد إلا زيدًا؛ وإلا زيدٌ؛ والمعنى واحد، فلما جاز البدل لم يجز تقديمه كما لا يجوز تقديم البدل على المبدل منه" لأنا نقول: لو كان الأمر كما زعمتم لكان ينبغي أن لا يجوز تقديمه على المستثنى منه كما لا يجوز تقديم البدل على المبدل منه، وقد جاء ذلك كثيرًا في كلامهم، قال الكميت: [163] فما لي إلا آل أحمد شيعةٌ ... ومالي إلا مَشْعَبَ الحق مشعبُ

_ = وأحسيت الخبر مثله، قال أبو نخيلة: لما احتسى منحدر من مصعد ... أن الحيا مغلولب لم يجمد احتسى: أي استخبر فأخبر أن الخصب فاشٍ. والمنحدر: الذي يأتي القرى، والمصعد: الذي يأتي إلى مكة" ا. هـ. وقول أبي زبيد "فهن إليّ شوس" الشوس: جمع أشوس، وهو الوصف من الشوس بفتح الشين والواو جميعًا وهو النظر بمؤخر العين. والاستشهاد بالبيت في قوله "خلا أن العتاق من المطايا" حيث قدم المستثنى في أول الكلام، وقد أنشده الكوفيون ذاهبين إلى أن فيه دليلًا على جواز تقديم المستثنى قبل جملة الكلام، ونظيره قول الأعشى، وهو من شواهد الأشموني وابن عقيل: خلا الله لا أرجو سواك، وإنما ... أعد عيالي شعبة من عيالكا [162] هذان بيتان من مشطور الجرز، وهما من كلام العجاج، وقد أنشدهما الرضي في شرح الكافية أول باب الاستثناء، وشرحهما البغدادي في الخزانة "2/ 2" وأنشد أولهما ابن منظور "ط ور" ونسبه إلى العجاج. والعرب تقول: ما بالدار طوري، وما بالدار طوراني، وما بالدار دوري، وما بالدار ديار، تريد ما بالدار أحد، وقالوا أيضًا: رجل طوري، يريدون رجلًا غريبًا، ومحل الاستشهاد قوله "ولا خلا الجن بها إنسي" حيث قدم الاستثناء على جملة الكلام، وأصل العبارة: ولا بها إنسي خلا الجن، فالجار والمجرور خبر مقدم، وإنسي: مبتدأ مؤخر، وخلا الجن: استثناء، وبهذا ونحوه استدل الكوفيون على جواز تقديم الاستثناء على جملة الكلام، وقد بيَّنَّا لك ذلك في شرح الشاهد السابق. [163] هذا البيت من قصيدة هاشمية للكميت بن زيد الأسدي، وهو من شواهد ابن يعيش "ص263" والأشموني "رقم 448" وابن عقيل "رقم 167" وأوضح المسالك "262" وشذور الذهب "رقم 124" وشرح قطر الندى "رقم 109" والشيعة: هم الأنصار والأشياع والأعوان، ومشعب الحق: يروى في مكانه "مذهب الحق" والمراد الطريق الذي يعتقد أنه الطريق الثابت الذي لا يجوز الانحراف عنه. والاستشهاد بالبيت في موضعين منه؛ الأول قوله "إلا آل أحمد" والثاني قوله "إلا مشعب الحق" حيث قدم المستثنى في كل موضع منهما على المستثنى منه، وأصل نظم الكلام وما لي شيعة إلا آل أحمد، وما لي مشعب إلا =

فقدم المستثنى على المستثنى منه، وقال الآخر: [164] الناس أَلْبٌ علينا فيكَ ليس لنا ... إلا السُّيُوفَ وأَطْرَافَ القَنَا وَزَرُ فقدَّم المستثنى على المستثنى منه، وهذا كثير في كلامهم. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنه يؤدِّي إلى أن يعمل ما بعدها فيما قبلها، وذلك لا يجوز؛ لأنها حرف نفي يليها الاسم والفعل كحرف الاستفهام، وكما 126 أنه لا يجوز أن يعمل ما بعد حرف الاستفهام فيما قبله؛ فكذلك لا يجوز أن يعمل ما بعدها فيما قبلها. ومنهم من تمسك بأن قال: إنما قلنا ذلك لأن الاستثناء يضارع البدل، ألا ترى أنك تقول "ما جاءني أحد إلا زيد، وإلا زيدًا" والمعنى واحد، فلما جارى الاستثناء البدل امتنع تقديمهُ كما يمتنع تقديمُ البدل على المبدل منه، وما ذكروه

_ = مشعب الحق، وقد كان المستثنى لو أنه جاء به على أصل الكلام يجوز فيه وجهان: الأول: النصب على الاستثناء، والثاني: الإتباع على البدلية، فلما قدمه على المستثنى لزمه -في لغة عامة العرب- النصب على الاستثناء، ولم يجز فيه الإتباع على البدلية؛ لأن البدل لا يتقدم على المبدل منه لأنه تابع ورتبة التابع تكون بعد رتبة المتبوع ألا ترى أنهم إذا قدموا صفة النكرة عليها نحو قولك: فيها قائما رجل، وقول كثير: لعزة موحشًا طلل ... يلوح كأنه خلل وجب نصب الصفة على الحال، ولم يجز إتباعها للموصوف على أن تكون نعتًا كما كانت وهي متأخرة؟ وقد جاء على الإتباع قول حسان بن ثابت: لأنهم يرجون منه شفاعة ... إذا لم يكن إلا النبيون شافع فقد قدم المستثنى وهو قوله النبيون على المستثنى منه -وهو قوله شافع- ومع ذلك لم ينصبه على الاستثناء كما ينصبه عامة العرب، ويمكن أن يكون هذا البيت ردًّا على قول الكوفيين "إن المستثنى يضارع البدل، والبدل لا يتقدم" فيقال لهم: لا نسلم أنه يضارع البدل وأن البدل لا يتقدم؛ فإن من العرب من يقدمه ويبقيه على الإتباع، فتفطن لذلك. [164] هذا البيت من كلام كعب بن مالك، الأنصاري، وهو من شواهد سيبويه "1/ 381" وابن يعيش "ص263" وألب: أي مجتمعون متألبون قد تضافروا على خصومتنا وإرادة النيل منا، والوزر -بفتح الواو والزاي معًا- الحصن والملجأ، وأصل معناه الجبل. يقول هذا البيت للنبي صلوات الله وأزكى تسليماته عليه. والاستشهاد به في قوله "إلا السيوف" حيث قدم هذا المستثنى على المستثنى منه وهو قوله "وزر" وأصل الكلام: ليس لنا وزر وملجأ نلجأ إليه إلا السيوف وأطراف القنا، ولو أنه جاء بالكلام على أصله لكان له أن ينصب المستثنى على الاستثناء وأن يتبعه بالرفع على البدلية، لكنه لما قدم المستثنى وجب فيه -عند عامة العرب- أن ينصبه؛ لما ذكرنا من العلة في شرح الشاهد السابق، وهذا وضاح إن شاء الله تعالى.

على هذا فنذكر فساده في الجواب عن كلماتهم، إن شاء الله تعالى. ما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقول الشاعر: [161] خلا أن العتاق من المطايا فنقول؛ لا نسلم ههنا أن الاستثناء وقع في أول الكلام، فإن هذا الشعر لأبي زُبَيْدٍ، وقبل هذا: [161] إلى أن عَرَّسُوا وأَغَبَّ منهم ... قريبًا ما يُحَسُّ له حَسِيسُ خلا أن العتاق من المطايا ... حَسِينَ به فهنَّ إليه شُوسُ وأما قول الآخر: [162] وبلدة ليس بها طُورِيُّ ... ولا خلا الجن بها إِنْسيُّ فتقديره: وبلده ليس بها طوريُّ ولا إنسيُّ خلا الجن، فحذف إنسيًّا، فأضمر المستثنى منه، وما أظهره تفسير لما أضمره، وقيل: تقديره ولا بها إنسيّ خلا الجنّ؛ فـ "بها" مقدرة بعد "لا" وتقديم الاستثناء فيه للضرورة؛ فلا يكون فيه حجّة. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه أنه قد ضارع البَدَلَ. قولهم "لو كان الأمر كما زعمتم لوجب انه لا يجوز تقديمه على المستثنى منه، كما لا يجوز تقديم البدل على المبدل منه" قلنا: هذا فاسد؛ لأن المستثنى لما تَجَاذبه شَبَهان: أحدهما كونه مفعولًا، والآخر كونه بدلًا؛ جعلت له منزلة متوسطة، فجاز تقديمه على المستثنى منه، ولم يجز تقديمه على الفعل الذي ينصبه، عملًا بكلا الشبهين، على أن من العرب من يجوز البدل مع التقديم، فيقول: ما جاءني إلا زيدٌ أحدٌ؛ فيرفع على البدل مع تقديمه على المبدل منه1؛ لأن هذا التقديم التقدير به التأخيرُ، وإن كانت اللغة الفصيحة العالية النصب، والله أعلم.

_ 1 الشاهد عليه بيت حسان الذي رويناه لك في شرح الشاهد 163.

مسألة حاشى في الاستثناء، فعل أو حرف أو ذات وجهين

37- مسألة: [حاشى في الاستثناء، فعل أو حرف أو ذات وجهين] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "حاشى" في الاستثناء فعل ماضٍ، وذهب بعضهم إلى أنه فعل استعمل استعمال الأدوات، وذهب البصريون إلى أنه حرف جر، وذهب أبو العباس المُبَرِّد إلى أنه يكون فعلًا ويكون حرفًا. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه فعل أنه يتصرف، والدليل على أنه يتصرف قول النابغة: [165] ولا أرى فاعلًا في الناس يُشْبِهُهُ ... وما أُحَاشِي من الأقوام من أحد

_ [165] هذا البيت من قصيدة النابغة الذبياني المعلقة التي منها الشاهد رقم 159 السابق في المسألة 35 وهو من شواهد ابن يعيش "ص299" ومغني اللبيب "رقم 186" والأشموني "رقم 467" والرضي في باب الاستثناء، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 44" وأنشده ابن منظور مرتين "ح ش ا" وقوله "ولا أحاشي" أراد لا أستثني أحدًا ممن يفعل الخير، و "من" في قوله "من أحد" زائدة، وأحد بعدها: مفعول به لأحاشي. والاستشهاد بالبيت في قوله "ولا أحاشي" فإن هذا فعل مضارع بمعنى استثني، وقد جاء في كلام العرب المحتج بكلامهم، فيدل على أن "حاشا" التي تستعمل في الاستثناء فعل، وأنه مع ذلك متصرف، وهذا أحد ثلاثة أدلة للكوفيين استدلوا بها على أن "حاشا" الاستثنائية فعل، والثاني: أن حرف الجر يأتي بعدها متعلقًا بها نحو قوله تعالى: {حَاشَ لِلَّهِ} والثالث: أنه قد يتصرف في لفظها بالحذف فيقال: حشا، وحاش، وقد علم أن الحذف لا يكون إلا في الاسم نحو يد ودم وأخ وغد وأب وحم "انظر ما ذكرناه في المسألة الأولى من هذا الكتاب" أو في الفعل نحو قولهم: لم يك، ولا أدر، ولم أبل والأصل: لم يكن: ولا أدري، ولم أبال وقد ذكر المؤلف هذه الأدلة، وحاول أن يرد كل واحد منها بما تراه في كلامه، وسنتعرض له في شرح الشواهد الآتية، وهذا لأن سيبويه لم يحفظ في "حاشا" إلا الجر =

وإذا كان متصرفًا فيجب أن يكون فعلًا؛ لأن التصرف من خصائص الأفعال. ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أنه فعل أن لام الخفض تتعلق به، قال الله تعالى: {حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31] وحرف الجر إنما يتعلق بالفعل، لا بالحرف؛ لأن الحرف لا يتعلق بالحرف، وإنما حذفت اللام لكثرة استعماله في الكلام. ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أنه فعل أنه يدخله الحذف، والحذف إنما يكون في الفعل، لا الحرف، ألا ترى أنهم قالوا في حاشى لله: حاش لله، ولهذا قرأ أكثر القراء {حَاشَ لِلَّهِ} بإسقاط الألف، وكذلك هو مكتوب في المصاحف؛ فدل على أنه فعل. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه ليس بفعل وأنه حرف أنه لا يجوز دخول "ما" عليه؛ فلا يقال "ما حاشى زيدًا" كما يقال "ما خلال زيدًا، وما عدا عمرًا" ولو كان فعلًا كما زعموا لجاز أن يقال "ما حاشى زيدًا" فلما لم يقولوا ذلك دلَّ

_ = بها، كما لم يحفظ دخول "ما" عليها، فقرر أنها لا تكون إلا حرف جر، لكن العلماء الثقات حفظوا الأمرين جميعًا: حفظوا دخول "ما" على حاشا في قول الأخطل: رأيت الناس ما حشا قريشًا ... فإنا نحن أكثرهم فعالا وحفظوا النصب به دون أن تلحقها "ما" نحو ما رواه أبو زيد قال: "سمعت أعرابيًا يقول: اللهم اغفر لي ولمن سمع حاشا الشيطان وابن الأصبغ" بنصب ما بعد حاشا والمعطوف عليه، كما حفظوا الذي حفظه سيبويه من الجر بها، وإذن يكون حال "حاشا" مثل حال "عدا، وخلا" كل واحد من هذه الثلاثة يكون حرفًا تارة، ويكون فعلًا تارة أخرى، وهذا مذهب أبي العباس المُبَرِّد، وهو الذي تؤيِّده جملة الشواهد الواردة في هذه المسألة، وقد تفطن لذلك موفق الدين ابن يعيش، فقال: "أما حاشا فهو حرف جر عند سيبويه، يجر ما بعده، وهو مع ما بعده في موضع نصب بما قبله، وفيه معنى الاستثناء، وزعم الفَرَّاء أن حاشى فعل ولا فاعل له، وأن الأصل في قولك "حاشى زيدًا" حاشا لزيد، فحذفت اللام لكثرة الاستعمال وخفضوا بها، وهذا فاسد؛ لأن الفعل لا يخلو من فاعل، وذهب أبو العباس المُبَرِّد إلى أنها تكون حرف جر كما ذكر سيبويه، وتكون فعلًا ينصب ما بعده، واحتج لذلك بأشياء، منها أنه يتصرف فتقول: حاشيت أحاشي، والتصرف من خصائص الأفعال، ومنها أنه يدخل على لام الجر، فتقول: حاشى لزيد، قال الله تعالى: {حَاشَ لِلَّهِ} ولو كان حرف جر لم يدخل على مثله، ومنها أنه يدخله الحذف، نحو حاش لزيد، وقد قرأت القراء إلا أبا عمرو {حَاشَ لِلَّهِ} وليس القياس في الحروف الحذف، إنما ذلك في الأسماء نحو أخ ويد، وفي الأفعال نحو لم يك ولا أدر، وهو قول متين يؤيده أيضًا ما حكاه أبو عمرو الشيباني وغيره أن العرب تخفض بها وتنصب" ا. هـ باختصار يسير، ومثله قول الراعي: أن على أهوى لألأم حاضر ... حسبا، وأقبح مجلس ألوانا قبح الإله -ولا أحاشي غيرهم- ... أهل السبيلة من بني حمانا

على فساد ما ذهبوا إليه، يدل عليه أن الاسم يأتي بعد حاشى مجرورًا، قال الشاعر: [166] حاشى أبي ثوبان؛ إنَّ به ... ضَنًّا على المَلْحَاة والشَّتم فلا يخلو: إما أن يكون هو العامل للجر، أو عامل مقدّر، بطل أن يقال عامل مقدّر؛ لأن عامل الجر لا يعمل مع الحذف1 فوجب أن يكون هو العامل على ما بيَّنَّا.

_ [166] أنشد ابن منظور هذا البيت نقلًا عن الجوهري، ونسبه إلى سبرة بن عمرو الأسدي، ثم قال: وهو منصوب في المفضليات للجميح الأسدي، واسمه منقذ بن الطماح، والصواب أن الشاهد من كلام الجميع، وقد لفق النحاة هذا البيت من بيتين، وصواب الإنشاد هكذا: حاشى أبا ثوبان؛ إن أبا ... ثوبان ليس ببكمة فدم عمرو بن عبد الله؛ إن به ... ضنا عن الملحاة والشتم والبيت من شواهد مغني اللبيب "رقم 187" والأشموني "رقم 465" وقوله "ليس ببكمة" يريد ليس بأبكم والفدم -بفتح الفاء وسكون الدال- العيي عن الكلام في ثقل وقلة فهم، والملحاة: مفعلة من قولك "لحوت الرجل ولحيته" إذا لمته وألححت في لومك. والاستشهاد بالبيت في قوله "حاشا أبي ثوبان" فقد أتى المؤلف بهذا البيت ليستدل به على أن "حاشا" تجر ما بعدها، وروى "حاشا أبي ثوبان" وكذلك وقعت الرواية في الصحاح واللسان بجر ما بعد حاشا، لكن الثابت في المفضليات وهو الذي حكاه ابن هشام في المغني وتبعه عليه الأشموني نصب ما بعد حاشا في هذا البيت، ونحن لا ننكر أن حاشا يجر ما بعدها؛ فقد ورد ذلك في عدة أبيات، منها قول عمر بن أبي ربيعة وأنشده في اللسان: من رامها حاشى النبي وأهله ... في الفخر غطغطه هناك المزبد ومنها ما أنشده في اللسان عن الفَرَّاء ولم يعزه: حشا رهط النبي؛ فإن منهم ... بحورا لا تكدرها الدلاء ومنها قول الأقيشر، وأنشده في اللسان أيضا: في فتية جعلوا الصليب إلههم ... حاشاي إني مسلم معذور وإنما قلنا إن الياء في "حاشاي" في محل جر لأنها لو كانت في محل نصب لأتى بنون الوقاية فكان يقول "حاشاني" كما قال الآخر في "عدا": تمل الندامى ما عداني؛ فإنني ... بكل الذي يهوى نديمي مولع نقول: نحن لا ننكر أن "حاشا" يأتي بعدها الاسم مجرورًا، لكن الاسم في هذا البيت منصوب بعد حاشا في رواية الرواة من حملة الشعر، وقد ذكر ابن هشام الروايتين، ثم قال: ويحتمل أن من روى "حاشا أبا ثوبان" قد أتى بالكلمة على لغة من يلزم الأسماء الستة الألف في الأحوال كلها، وهو كلام عجيب من مثل ابن هشام، أن يحمل البيت على لغة ضعيفة لمجرد أن سيبويه شيخ النحاة لم يحفظ النصب بعد حاشى.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنه يتصرف" قلنا: 128 لا نُسَلِّم، وأما قول النابغة: [165] وما أُحَاشِي من الأقوام من أحد فنقول: قوله "أُحَاشِي" مأخوذ من لفظ حاشى، وليس متصرفًا منه، كما يقال: بَسْمَلَ، وهلَّلَ، وحَمْدَلَ، وسَبْحَلَ، وحَوْلَقَ، إذا قال: بسم الله، ولا إله إلا الله، والحمد لله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكذلك يقال "لبَّى" إذا قال: لبيك، و"أَفَّفَ" إذا قال: أفّة، وهو اسم للضُّجرَة، و"دَعْدَعَ" إذا قال لغنمه: دَاعْ دَاعْ، وهو تصويت بها، و "بأبأ الرجل بفلانٍ" إذا قال له: بأبي أنت، كما قال: [167] وإن تُبَأْبَأْنَ وإن تُفَدَّين

_ [167] لم أقف لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين، والاستشهاد به في قوله "تبأ بأن" حيث اشتق هذا الراجز فعلًا من اسم الصوت الذي هو "بأ، بأ" والعرب تشتق من أسماء الأصوات على مثال الدحرجة ثم تأخذ من هذا المصدر أفعالًا على مثال دحرج يدحرج، قالوا: بأبأت الصبي، وبأبأت به، أبأبئ بأبأة؛ إذا قلت له: بأبي أنت وأمي، وأو قلت له: با، با، وكذلك قالوا: بأبأ الصبي أباه؛ إذا قال له: با، با، وقالوا: نخنخت البعير أنخنخه نخنخة؛ إذا قلت له: نخ، وقال ابن جني "سألت أبا عليّ فقلت له: بأبأت الصبي بأبأة إذا قلت له: با، با، فما مثال البأبأة عندك الآن؟ أتزنها على لفظها في الأصل فتقول: مثالها البقبقة بمنزلة الصلصلة والقلقلة؟ فقال: بل أزنها على ما صارت إليه وأترك ما كانت عليه فأقول: الفعللة، قال: وهو كما ذكر" ا. هـ. وقد كتبنا بحثًا وافيًا عن الاشتقاق من أسماء الأصوات والنحت من الجمل في القسم الأول من كتابنا دروس التصريف فارجع إليه إن شئت، ومثل بيت الشاهد قول الراجز الآخر: وصاحب ذي عمرة داجيته ... بأبأته، وإن أبى فديته حتى أتى الحي وما آذيته ومثله قول الآخر: إذا ما القبائل بأبأننا ... فماذا نرجي ببئبائها؟

فكما بُنِيَتْ هذه الأفعال من هذه الألفاظ وإن كانت لا تتصرف فكذلك ههنا. وأما قولهم "إن لام الجر تتعلق به" قلنا: لا نسلم، فإن اللام في قولههم "حاشى لله" زائدة لا تتعلق بشيء، كقوله تعالى: {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [لأعراف: 154] لأن التقدير فيه: يرهبون ربهم، واللام زائدة لا تتعلق بشيء، وكقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] أي ألم يعلم أن الله؛ والباء زائدة لا تتعلق بشيء، وكقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] أي: أقرأ اسم ربك، وكقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] أي ولا تلقوا أيديكم، وقوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] أي تنبت الدهن، ويجوز أن تكون هنا مُعَدِّية؛ لأنه يقال: نبت وأنبت، لغتان بمعنى واحد، وكقولهم "بحسبك زيد" أي حسبك وكقول الشاعر: [168] نضرب بالسيف ونرجو بالفَرَجْ أي نرجو الفَرَجَ، والباء زائدة لا تتعلق بشيء فكذلك ههنا. وأما قوله تعالى: {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} [يوسف: 12] فليس لهم فيه حجة؛ فإن حاشى ههنا ليس باستثناء، إذ ليس هو موضع استثناء، وإنما هو كقولك إذا قيل

_ = ومثله ما أنشده ابن السكيت: ولكن يبأبئه بؤبؤ ... وبئباؤه حجا أحجؤه يبأبئه: يفديه، وبؤبؤ: أي سيد كريم، وبئباؤه: تفديته، وحجأ: فرح وأحجؤه: أفرح به. [168] هذا بيت من مشطور الرجز ينسب للجعدي من غير تعيين، وهو من شواهد مغني اللبيب "رقم 158" وشرح الكافية في باب حروف الجر، وشرحه البغدادي "4/ 159" وقبل البيت قوله: نحن بنو جعدة أصحاب الفلج والفلج -بفتح الفاء واللام جميعًا- الماء الجاري، ويقال: البئر الكبيرة، وقالوا: عين خلج، وماء فلج، ويروى "أرباب الفلج" والمعنى واحد، والاستشهاد بالبيت في قوله "نرجو بالفرج" حيث زاد الراجز الباء في المفعول به، وذلك أن الرجاء وما تصرف منه يتعدى إلى المفعول بنفسه، تقول: رجاه يرجوه، وكذلك ارتجاه يرتجيه، ورجاه يرجيه بتضعيف الجيم، قال الله تعالى: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُون} وقال بشر: فرجِّي الخير وانتظري إيابي ... إذا ما القارظ العنزي آبا وقد اختلفت عبارة العلماء في زيادة الباء في بيت الشاهد، فقال ابن عصفور: زيادة الباء هنا ضرورة، وقال ابن السيد البطليوسي في شرح أدب الكاتب، إنما عدي الرجاء بالباء لأنه بمعنى الطمع، والطمع يتعدى بالباء كقولك: طمعت بكذا، قال الشاعر: طمعت بليلى أن تجود، وإنما ... تقطع أعناق الرجال المطامع

لك فلان يقتل أو يموت أو نحو ذلك "حاشاه" وهذا ليس باستثناء، وإنما هو بمنزلة قولك "بعيدًا منه" فكذلك ههنا. وأما قولهم "يدخله الحذف والحذف لا يكون في الحرف" قلنا: الجواب عن هذا من وجهين. أحدهما: أنا لا نسلم أنه قد دخله الحذف؛ فإن الأصل عند بعضهم 129 في حاشى حاش بغير ألف، وإنما زيدت فيه الألف. وهذا هو الجواب عن احتجاجهم بقراءة من قرأ: {حَاشَ للهِ} ثم نقول: إن هذه القراءة قد أنكرها أبو عمرو بن العلاء سيِّد القُرَّاء، وقال: العرب لا تقول "حاش لك" ولا "حاشك" وإنما تقول "حاشى لك، وحاشاك" وكان يقرؤها "حَاشَى للهِ" بالألف في الوصل، ويقف بغير ألف في الوقف متابعةً للمصحف؛ لأن الكتابة على الوقف لا على الوصل، وكذلك قال عيسى بن عمر الثقفي وكان من الموثوق بعلمهم في العربية: العرب كلها تقول "حاشى لله" بالألف، وهذه حجة لأبي عمرو. والوجه الثاني: أنا نسلم أن الأصل فيه حاشى بالألف، وإنما حذفت لكثرة الاستعمال، وقولهم "إن الحرف لا يدخله الحذف" قلنا: لا نسلم، بل الحرف يدخله الحذف، ألا ترى أنهم قالوا في رُبَّ: رُبَ، بالتخفيف، وقد قرئ به، قال الله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] ثم قال الشاعر: [169] أَزُهَيْرُ إِنْ يَشِبِ القَذَالُ فإنَّه ... رُبَ هَيْضَلٍ لجِبٍ لَفَفْتُ بهَيْضَلِ

_ [169] هذا البيت من كلام أبي كبير الهذلي، واسمه عامر بن حلس، وقد استشهد بالبيت رضي الدين في شرح الكافية في باب حروف الجر، وشرحه البغدادي، في الخزانة "4/ 165" وأنشده موفق الدين بن يعيش "ص1093" وقوله "أزهير" الهمزة فيه للنداء، وزهير: اسم ابن الشاعر، بدليل قوله في قصيدة أخرى: أزهير هل عن شيبة من مقصر ... أم لا سبيل إلى الشباب المدبر فقد الشباب أبوك إلا ذكره ... فأعجب لذلك فعل دهر وامكر والقذال بفتح القاف، بزنة السحاب ما بين نقرة القفا وأعلى الأذن، وهو آخر موضع من الرأس يشيب شعره، وربما أطلق القذال وأريد الرأس كله من باب إطلاق اسم الجزء وإرادة كله، والهيضل -بزنة جعفر- الجماعة من الناس، ولجب -بفتح اللام وكسر الجيم- معناه كثير الجلبة مرتفع الأصوات، ويروى في مكانه "مرس" -بفتح فكسر- ومعناه شديد، وقوله: "لففت" يروى بفاءين ومعناه جمعت، ويروى "لفقت" بفاء بعدها قاف، ومعناه جمعت أيضًا، يريد أنه جمع جيشًا يجيش للحرب والطعان والاستشهاد بالبيت في قوله "رب هيضل": حيث جاء برب مخففة بياء واحدة، وقد اختلف العلماء في الباء الباقية: أساكنة هي أم مفتوحة، فذكر قوم منهم ابن جني أنها ساكنة، وعليه يكون الشاعر قد حذف الباء الثانية =

وقال الآخر: [170] أَلَمْ تَعْلَمَنْ يا رَبِّ أَنْ رُبَ دعوة ... دعوتك فيها مخلصًا لو أُجَابُهَا وفي رُبَّ أربع لغات: ضم الراء وفتحها، مع تشديد الباء وتخفيفها، نحو: رُبَّ، ورُبَ، ورَبَّ، ورَبَ. وكذلك حكيتم عن العرب أنهم قالوا في سوف أفعلُ: "سَوْ أفعل" بحذف الفاء، وحكاه أبو العباس أحمد بن يحيي ثعلب في أماليه، وحكى ابن خَالَوَيْهِ فيها أيضا "سَفَ أفعل" بحذف الواو، وزعمتم أيضًا أن الأصل في سأفعل: سوف أفعل، فحذفت الواو والفاء معًا، وسوف حرف، وإذا جوّزتم حذف حرفين فكيف تمنعون جواز حذف حرف واحد؟ فدلَّ على فساد ما ذكرتموه، والله أعلم.

_ = التي كانت مفتوحة وأبقى الأولى على حالها التي كانت عليها، وينشدون بالسكون قول الشاعر: ألا رب ناصر لك من لؤي ... كريم لو تناديه أجابا ومنهم من روى "رب" في بيت الشاهد بفتح الباء، وصرح العسكري في كتاب التصحيف بالوجهين، وقد قال أبو علي في كتاب الشعر: الحروف على ضربين: حرف فيه تضعيف، وحرف لا تضعيف فيه؛ فالأول قد يخفف بالحذف منه كما فعل ذلك في الاسم والفعل بالحذف والقلب، وذلك نحو إن وأن ولكن ورب، والقياس إذا حذف المدغم فيه أن يبقى المدغم على السكون، وقد جاء: أزهير إن يشب القذال.. البيت ويمكن أن يكون الآخر منه حرك لما لحقه الحذف والتأنيث فأشبه بهما الأسماء" ا. هـ. [170] لم أقف لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين، وألفاظه ومعانيه ظاهرة، والاستشهاد به في قوله "رب دعوة" حيث ورد فيه "رب" مخففًا بحذف إحدى الباءين، والكلام فيه كالكلام في الشاهد السابق، ولكن بينهما فرقًا من جهة واحدة، وتلخيصها أن "رب" في البيت السابق مخففة قطعًا، إذ لا يصح وزن البيت إلا على تخفيفها إما بسكون بائها وإما بفتحها، أما في هذا البيت فالوزن يتم على تخفيفها وعلى تشديدها، بل قد يكون تشديدها أوفق، ولا دليل على التخفيف إلا الرواية، وقد أتى المؤلف بالبيت السابق، فيكون قد روي عن أثبات العلماء التخفيف في هذا البيت أيضًا.

مسألة هل يجوز بناء غير مطلقا

38- مسألة: [هل يجوز بناء "غير" مطلقًا؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "غير" يجوز بناؤها على الفتح في كل موضع 130 يحسن فيه "إلا" سواء أضيفت إلى متمكن أو غير متمكن، وذلك نحو قولهم: ما نفعني غير قيام زيد، وما نفعني غير أَنْ قام زيد. وذهب البصريون إلى أنها يجوز بناؤها إذا أضيفت إلى غير متمكن، بخلاف ما إذا أضيفت إلى متمكن. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما جوّزنا بناءها على الفتح إذا أضيفت إلى اسم متمكن أو غير متمكن وذلك لأن "غير" ههنا قامت مقام "إلَّا" وإلا حرف استثناء، والأسماء إذا قامت مقام الحروف وجب أن تُبْنَى، وهذا لا يختلف باختلاف ما يضاف إليه من اسم متمكن كقولك: ما نفعني غير قيامك، أو غير متمكن كما قال: [171] لم يمنع الشَّرْبَ منها غيرَ أَنْ نَطَقَتْ ... حمامة في غصون ذات أَوْقَالِ

_ [171] هذا البيت قد استشهد به سيبويه "1/ 369" ولم يعزه، وعزاه الأعلم إلى رجل من كنانة ولم يعينه، واستشهد به رضي الدين في باب الاستثناء وفي باب الظرف وقد شرحه البغدادي في الخزانة "2/ 45" ونسبه لأبي قيس بن الأسلت، وأنشده ابن منظور "وق ل" ولم يعزه، واستشهد به ابن هشام في مغني اللبيب مرتين "رقم 262" فانظره ف ي"ص159 و 517" والأوقال: الأعالي وهو أيضا ثمار الدوم، ومنه قالوا "توقل في الجبل" أي صعد وارتفع. يقول الشاعر: لم يمنعنا من التعريج على الماء إلا صوت حمامة ذكرتنا من نحب فهيجتنا وحثتنا على السير، وموطن الاستشهاد فيه قوله "غير أن نطقت" فإن الرواية فيه بفتح "غير" مع أنها فاعل لقوله "لم يمنع" فدلَّ ذلك على أنه بناها على الفتح؛ قال الأعلم: =

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يجوز بناؤها إذا أضيفت إلى غير متمكن، ولا يجوز بناؤها إذا أضيفت إلى متمكن، وذلك لأن الإضافة إلى غير

_ = "الشاهد فيه بناء غير على الفتح لإضافتها إلى غير متمكن، وإن كانت في موضع رفع، وذلك أن "أن" حرف يوصل بالفعل، وإنما تؤولت اسمًا مع ما بعدها من صلتها لأنها دلت على المصدر ونابت منابه في المعنى، فلما أضيفت غير إليها مع لزومها للإضافة بنيت معها، وإعرابها على الأصل جائز حسن، ونظير بنائها بناء أسماء الزمان إذا أضيفت إلى الجمل والأفعال، كقولك: عجبت من يوم قام زيد ومن يوم زيد قائم؛ لأن حق الإضافة أن تقع على الأسماء المفردة دون الأفعال والجمل، فلما خرجت عن أصلها بني الاسم" ا. هـ. وقال سيبويه: "والحجة على أن هذا في موضع رفع أن أبا الخطاب حدثنا أنه سمع من العرب الموثوق بهم من ينشد هذا البيت رفعًا: لم يمنع الشرب منها ... البيت وزعموا أن ناسا من العرب ينصبون هذا الذي في موضع الرفع، فقال الخليل: هذا كنصب بعضهم يومئذ في كل موضع، فكذلك غير أن نطقت، وكما قال النابغة: على حين عاتبت المشيب على الصبا ... فقلت: ألما تصح والشيب وازع؟ أنه جعل حين وعاتبت اسمًا واحدًا" ا. هـ. وقد جعل الأعلم إضافة غير في هذا البيت إلى غير متمكن -أي إلى مبنيّ- بسبب وجود "أن" المصدرية في صدر المضاف إليه، مع علمه أن أن المصدرية حرف، وأن الحرف لا يقع في موقع من مواقع الإعراب أصلًا؛ فلا يكون مضافًا إليه، بل مع علمه أن هذا الحرف المصدري مع مدخوله في تأويل اسم مفرد معرب -وهو المصدر المسبوك من أن ومدخولها- وأنت لو تأملت في هذا البيت وجدت البصريين والكوفيين متَّفقين على جواز بناء غير في هذا البيت وأمثاله، ولكن الاختلاف بينهم في تعليل هذا البناء، فالكوفيون يعللونه -على ما قال المؤلف عنهم- بأنها قامت مقام إلا الاستثنائية، والبصريون قد عللوه بأنها أضيفت إلى مبني فاكتسبت البناء من المضاف إليه، وذلك كما يكتسب المضاف من المضاف إليه التذكير والتأنيث، وقد فصل ابن هشام في مغني اللبيب "ص510 ما بعدها" الأمور التي يكتسبها المضاف من المضاف إليه، فارجع إليها إن شئت. ومن شواهد بناء غير لكونها أضيفت إلى مبنيّ -على ما يقول البصريون- قول الشاعر وأنشده ابن هشام في المغني: لذ قيس حين يأبى غيره ... تلقه بحرا مفيضًا خيره الرواية في هذا البيت بفتح "غيره" بدليل الروي، ونظير ما أنشده المؤلف في بناء غير لكونها أضيفت إلى جملة مصدره بأن قول الحارث بن حلزة اليشكري من قصيدته التي تعد في المعلقات، وهو من شواهد الرضي: غير أني قد أستعين على الـ ... هم إذا خف بالثوى النجاء فغير ههنا استثناء منقطع، وهي مفتوحة، ويجوز أن تكون فتحتها فتحة إعراب، ويجوز أن تكون فتحة بناء، وفي هذا القدر كفاية ومقنع إن شاء الله.

المتمكن تجوّز في المضاف البناء، قال تعالى: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89] فبنى "يومَ" في قراءة من قرأ بالإضافة والفتح وهي قراءة نافع وأبي جعفر؛ لأنه أضيف إلى "إذ" وهو اسم غير متمكن، وقال الشاعر: [172] رددنا لِشَعْثَاءَ الرسولَ، ولا أَرَى ... كيومئذٍ شيئًا تُرَدُّ رَسَائِلُهْ فكذلك ههنا، وسبب هذا يُسْتَقْصَى في الجواب إن شاء الله تعالى، وأما الإضافة إلى المتمكن فلا تجوّز في المضاف البناء فقلنا: إنه باقٍ على أصله في الإعراب، فكذلك ههنا؛ وسنبين هذا مستقصى في الجواب إن شاء الله تعالى: وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنها في معنى إلا فينبغي أن تبنى" قلنا: هذا فاسد، وذلك لأنه لو جاز أن يقال ذلك لجاز أن يقال: "زيد مثل عمرو" فيبنى "مثل" على الفتح لقيامه مقام الكاف؛ لأن قولك: "زيد مثل عمرو" في معن ى"زيد كعمرو" ولما وقع الإجماع على خلاف ذلك دلَّ على فساد ما ادَّعيتموه. وأما قول الشاعر: [171] لم يمنع الشَّرْبَ منها غير أن نَطَقَتْ ... حمامة في غصونٍ ذاتِ أَوْقَالِ فنقول: لا نسلم أنه بنى لأنه قام مقام "إلا" وإنما بنى "غير" لأنه إضافة إلى غير متمكن، والاسم إذا أضيف إلى غير متمكن جاز بناؤه، ولهذا نظائر كثيرة من كتاب الله تعالى وكلام العرب، وقال الله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23]

_ [172] لم أعثر لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين، وشعثاء: اسم امرأة، والرسول هنا الرسالة، ومنه قول كثيرة عزة: لقد كذب الواشون، ما بحت عندهم ... بسر، ولا أرسلتهم برسول وقول الأسعر الجعفي: ألا أبلغ أبا عمرو رسولا ... بأني عن فتاحتكم غني وقول العباس بن مرداس السلمي: إلا من مبلغ عني خفافا ... رسولًا بيت أهلك منتهاها؟ والاستشهاد بالبيت في قوله "كيومئذ" فإن الرواية فيه بفتح يوم مع أنه مدخول حرف الجر، فدلَّ ذلك على أنه بناه على الفتح لإضافته إلى المبنيّ وهو "إذ" وأنت خبير بأن تنوين "إذ" هو تنوين العوض عن الجملة التي من حق "إذا" أن يضاف إليها، كما في قوله تعالى: {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} تقديره: ويوم إذ يغلب الروم يفرح المؤمنون؛ وكذلك قوله سبحانه: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} في قراءة من قرأ بفتح يوم، ويجوز الإعراب مع ذلك، فتجعل فتح يوم في الآية الأولى فتح الإعراب وأنه منصوب على الظرفية متعلق بيفرح، وقد قرئ في الآية الثانية بجر يوم من يومئذ، وهذا ظاهر إن شاء الله تعالى:

في قراءة من قرأ "مِثْلَ" بالفتح، وهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وأبي جعفر ويعقوب، وإن كان في موضوع رفع؛ لأنه اسم مبهم مثل غير أضيف إلى غير متمكن، وقال تعالى: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذ} [هود: 66] فيمن قرأ بالفتح، وقال تعالى: {من عَذَابِ يَوْمِئِذ} [المعارج: 11] فيمن قرأ بالفتح، وهي قراءة نافع والكسائي وأبي جعفر، ثم قال الشاعر: [173] أَزَمَانَ من يُرِدِ الصَّنِيعَةَ يُصْطَنَعْ ... فينا، ومن يرد الزَّهَادَةَ يُزْهَدِ فبنى "أزمان" لإضافته إلى "من" وهو غير متمكن وقال الآخر: [174] على حين من تَلْبَثْ عليه ذنُوبُه ... يجد فَقْدَهَا وفي المقام تَدَابُرُ فبنى "حين" لإضافته إلى "من" وقال الآخر: [175] على حين عاتبتُ المشيب على الصَّبَا ... وقلتُ: ألمَّا تَصْحُ والشيب وازعُ؟

_ [173] الصنيعة: كل معروف تسديه إلى غيرك تصطنعه به، أي تعجله من نفرك، وقال الشاعر: إن الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى يصاب بها مكان المصنع والاستشهاد بالبيت في قوله "أزمان من يرد ... إلخ" فإنه يجوز في "أزمان" أن يكون مبنيًّا على الفتح لكونه ظرفًا مبهمًا قد أضيف إلى جملة مصدرة باسم مبني وهو من ويجوز أن يكون منصوبًا على الظرفية، ونظيره قول العجاج: أزمان أبدت واضحًا مفلجًا ... أغر براقًا وطرفًا أدعجا [174] هذا البيت من كلام لبيد بن ربيعة العامري، وهو من شواهد سيبويه "1/ 441" والرضي في باب الجوازم، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 649" والذنوب -بفتح الذال- الدلو إذا كانت مملوءة بالماء، وقد ضربه مثلا لما يدلى به من الحجة، وقوله "يجد فقدها" روى سيبويه في مكان هذه العبارة "يرث شربه" والشرب -بالكسر- الحظ من الماء، والمقام: أراد به مقامًا فأخر فيه غيره وكثرت المخاصمة فيه والمحاجة، والتدابر -بالباء الموحدة- التقاطع، وأصله أن يولي كل واحد من الخصمين صاحبه دبره، وروى سيبويه "تداثر" بالثاء المثلثة -وهو التزاحم-. وأصله مأخوذ من الدثر -بفتح الدال وسكون الثاء- وهو المال الكثير. والاستشهاد بالبيت في قوله "على حين من ... إلخ" فإن الرواية فيه بفتح حين مع دخول حرف الجر عليها، وذلك دليل على أن الشاعر بنى هذه الكلمة على الفتح؛ إذ لو كان أعربها لجرها بالكسرة، وإنما بناها لكونها مضافة إلى جملة صدرها مبني -وهو "من"- وقد ذكر سيبويه أن إضافة "حين" إلى "من" الشرطية ضرورة من ضرورات الشعر، قال الأعلم: "الشاهد مجازاته بمن مع إضافة حين إلى جملة الشرط ضرورة، وحكمها ألا تضاف هي وإذا إلا إلى جملة مخبريها، والمبهمات إنما تفسر وتوصل بالأخبار، وجاز هذا في الشعر تشبيهًا لجملة الشرط بجملة الابتداء والخبر والفعل والفاعل" ا. هـ. [175] هذا البيت من كلام النابغة الذبياني، وهو من شواهد سيبويه "1/ 369" وابن يعيش "335 =

وقال الآخر: [176] على حين انْحَنَيْتُ وشابَ رَأْسِي ... فأي فتى دعوت وأي حينِ؟ وقال الآخر: [177] يمُرُّون بالدَّهْنَا خفافًا عيابُهُم ... ويخرجن من دَاِرين بُجْرَ الحَقَائِبِ

_ = و545" ورضي الدين في شرح الكافية في باب الظروف، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 151" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 777" والأشموني "رقم 618" وأوضح المسالك "رقم 335" وابن عقيل "رقم 237" وشذور الذهب "رقم 25" وعاتبت: فعل ماضٍ من العتاب، وهو اللوم في تسخط وكراهية، والمشيب: الشيب، والصبا -بكسر الصاد- الصبوة وهي الميل إلى شهوات النفس واتباع لذائذها، وأصح: مضارع من الصحو، وأصله ضد السكر، وأراد هنا الرجوع إلى ما هو خليق به من كمالات النفس، والوازع: اسم الفاعل من وزعه يزعه كوضع يضع أي نهاه وزجره وكفه عن فعل المقابح. والاستشهاد به في قوله "على حين عاتبت" فإنه يروى بفتح حين وبجره، أما فتحه -مع دخول حرف الجر عليه- فبسبب بنائه على الفتح لكونه أضيف إلى جملة صدرها فعل ماضٍ مبني، فاكتسب المضاف البناء من المضاف إليه، وأما جره فعلى الأصل، فمجموع الروايتين يدلُّ على أن الظرف المبهم إذا أضيف إلى جملة صدرها مبني جاز فيه الإعراب على أصله والبناء لاكتسابه البناء مما أضيف إليه. [176] انحنيت: أراد كبرت سني وضعفت قوتي فصرت لا أمشي إلا منحني الظهر والاستشهاد به في قوله "على حين انحنيت" حيث وردت "حين" بالفتح مع دخول حرف الجر عليها، فيدل ذلك على أنه بناها على الفتح لإضافتها إلى جملة صدرها مبني وهو الفعل الماضي، والكلام فيه كالكلام في الأبيات السابقة. [177] هذان البيتان من شواهد سيبويه "1/ 59" ولم يعزهما ولا عزاهما الأعلم، وقد أنشدهما ابن منظور "ن د ل" من غير عزو، وهما من شواهد الأشموني "رقم 14" وأوضح المسالك"رقم 48" وابن عقيل "رقم 162" وقد نسبهما العيني إلى الأحوص ثم قال: "وذكر في الحماسة البصرية أن قائلهما هو أعشى همدان يهجو لصوصًا، وقال الجوهري: قال جرير يصف ركبًا: يمرون بالدَّهْنَا خفافًا ... والأظهر ما قاله في الحماسة" ا. هـ، وقال ابن منظور: "وندل التمر من الجلة والخبز من السفرة يندُلُه ندلًا: غرف منهما بكفه جمعاء كتلًا، وقيل: هو الغرف باليدين جميعًا، والرجل مندل بكسر الميم، وقال يصف ركبا ويمدح قوم دارين بالجود: يمرون بالدَّهْنَا ... البيتين يقول: اندلي يا زريق -وهي قبيلة- ندل الثعالب، يريد السرعة، والعرب تقول: أكسب من ثعلب، قال ابن بري: وقيل في هذا الشاعر: أنه يصف قوما لصوصًا يأتون إلى دارين فيسرقون ويملئون حقائبهم ثم يفرغونها ويعودون إلى دارين، وقيل: يصف تجارًا، وقوله =

على حين ألهى الناس جُلُّ أُمُورِهِمْ ... فَنَدْلًا زُرَيْقُ المال نَدْلَ الثَّعَالِبِ وإذا بني المضاف في هذه الأماكن من كتاب الله تعالى وكلام العرب لإضافته إلى غير متمكن دلَّ على أن قوله "غير أن نطقت" مبنيٌّ لإضافته إلى غير متمكن على ما بيَّنَّا، والله أعلم.

_ = "على حين ألهى الناس جل أمورهم" يريد حين اشتغل الناس بالفتن والحروب، والبجر: جمع أبجر، وهو العظيم البطن: والندل: التناول، وبه فسر بعضهم قوله فندلا زريق المال" ا. هـ كلامه بحروفه. والاستشهاد به ههنا في قوله "على حين ألهى الناس" فإن الرواية فيه قد جاءت بفتح "حين" مع دخول حرف الجر عليه؛ فدلَّ على أنه بناه، والكلام فيه كالكلام في الأبيات السابقة.

مسألة هل تكون سوى اسما أو تلزم الظرفية

39- مسألة: [هل تكون "سوى" اسمًا أو تلزم الظرفية؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "سُِوًى" تكون اسمًا وتكون ظرفًا. وذهب البصريون إلى أنها لا تكون إلا ظرفًا. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنها تكون اسمًا بمنزلة "غير" ولا تلزم الظرفية أنهم يدخلون عليها حرف الخفض، قال الشاعر: [178] ولا ينطق المَكْرُوهَ مَنْ كَانَ مِنْهُمُ ... إذا جلسوا مِنَّا ولا من سِوَائِنَا

_ [178] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 13 و 203" وأنشده ابن منظور "س وى" وقد استشهد به الأشموني "رقم 454" وابن عقيل "رقم 171" والبيت من كلام المرار بن سلامة العجلي، وقد نسب في كتاب سيبويه إليه مرة "1/ 13" ونسب مرة أخرى "1/ 203" لرجل من الأنصار غير معين، وقوله "ولا ينطق المكروه" يروى مكانه في "ولا ينطق الفحشاء" والفحشاء: الكلام القبيح، تقول: "أفحش الرجل في كلامه، وفحش -بتشديد الحاء- وتفحش؛ إذا أردت أنه يتكلم بقبيح الكلام، وقوله "إذا جلسوا" رويت هكذا في كتاب سيبويه "1/ 13" ورويت فيه أيضا "1/ 293" "إذا قعدوا" والمعنى واحد. والاستشهاد بالبيت في قوله "ولا من سوائنا" حيث أتى بسواء مجرورة بمن، والكوفيون يستدلون بهذا البيت ونحوه على أن "سوى" تخرج عن النصب على الظرفية إلى التأثر بالعوامل فتقع مبتدأ وفاعلًا واسمًا لأن ومجرورًا بحروف الجر، وسيبويه وشيخه الخليل ينكران ذلك، ويزعمان أنها بجميع لغاتها لا تخرج عن النصب على الظرفية إلا في ضرورة الشعر، ولكن كثرة الشواهد الواردة عن العرب المحتج بكلامهم -وفيها استعمال هذه الكلمة في مواضع كثيرة من مواضع الإعراب- ترجح مذهب الكوفيين، وقريب منه مذهب الرُّمَّاني وأبي البقاء العكبري: زعمًا أن "سوى" تستعمل ظرفًا وتستعمل غير ظرف، إلا أن مجيئها منصوبة على الظرفية أكثر، وقد رجحه ابن هشام في مغني اللبيب، قال "وإلى مذهبهما أذهب" ا. هـ.

فأدخل عليها حرف الخفض، وقال الشاعر: [179] تَجَانَفُ عن جوِّ اليمامة ناقتي ... وما قَصَدَتْ من أهلها لِسِوَائِكَا فأدخل علها لام الخفض؛ فدلَّ على أنها لا تلزم الظرفية، وقال أبو دُؤَاد: [180] وكل من ظن أن الموت مخطئُهُ ... مُعَلَّلٌ بِسَواء الحقِّ مكذُوبُ وقال الآخر: [181] أكُرُّ على الكَتِيبَةِ لا أُبَالِي ... أفيها كان حَتْفِي أم سِوَاهَا فسواها: في موضع خفض بالعطف على الضمير المخفوض في "فيها" والتقدير: أم في سواها. والذي يدلّ على ذلك أنه روي عن بعض العرب أنه قال "أتاني سواؤك" فرفع؛ فدلَّ على صحة ما ذهبنا إليه.

_ [179] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 13" وقد نسبه إلى الأعشى، وكذلك نسبة الأعلم الشنتمري، وأنشده ابن منظور "س وى" وهو من شواهد الرضي في باب الاستثناء، وشرحه البغدادي في الخزنة "2/ 59" وقوله "تجانف" هو فعل مضارع، وأصله تتجانف، فحذف إحدى التاءين، والتجانف: الانحراف، وصف أنه لا يعدل في قصده على غير هذا الممدوح، وجعل الفعل للناقة مجازا. والاستشهاد بالبيت في قوله "لسوائكا" حيث أتى بسواء متأثرة بالعامل الذي هو لام الجر، فدلَّ ذلك على أنها تخرج عن النصب على الظرفية إلى الوقوع في مواقع الإعراب المختلفة، على نحو ما بيَّنَّاه في شرح البيت السابق. [180] هذا البيت من كلام أبي دُؤَاد -كما قال المؤلف- واسم أبي دؤاد جويرية بن الحجاج، ويقال جارية بن الحجاج، وهو من شواهد الأشموني "رقم 455" وقوله "مخطئه" هو اسم الفاعل من قولك "أخطأك كذا" أي فاتك ولم يصبك، وفي الحديث "واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك" وقوله "معلل" هو اسم المفعول من قولك: "عللت فلانًا بكذا" إذا شغلته ولهيته به عن شيء يرغب فيه، وسواء الحق: أي غيره، والاستشهاد به في قوله "بسواء الحق" حيث أتى بكلمة "سواء" متأثرة بالعامل الذي هو باء الجر، وهو دليل للكوفيين على أنها لا تلزم النصب على الظرفية كما يقول سيبويه والخليل، وقد بيَّنَّا ذلك في شرح الشاهد 178. [181] أكر: أي أرجع، يريد أنه قدم ولا يفر، والكتيبة: الجماعة من الجيش، والحتف -بفتح الحاء وسكون التاء المثناة- الموت والهلاك. وقد أنشد الكوفيون هذا البيت دليلًا عل أن "سوى" تخرج عن النصب على الظرفية إلى التأثر بالعوامل، وذلك أنهم أعربوا "سوى" معطوفًا على الضمير المجرور محلًّا بفي في قوله "أفيها" وتقدير الكلام عندهم: أفي هذه الكتيبة كان هلاكه أم في كتيبة أخرى، ولم يرتضِ المؤلف هذا الإعراب مع أنه هو المتبادر، وجعل "سوى" منصوبًا عل الظرفية كما هو مبين في كلامه.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنهم ما استعملوه في اختيار الكلام إلا ظرفًا، نحو قولهم "مرت بالذي سواك" فوقوعها هنا يدل على ظرفيتها بخلاف غير، ونحو قولهم "مررت برجل سواك" أي مررت برجل مكانك، أي: يغني غَنَاءك ويسدُّ مسدَّكَ، وقال لبيد: [182] وابْذُلْ سَوَامَ المَالِ إنَّ ... سِوَاءَهَا دُهْمًا وجُونَا فنصب سواءها على الظرف، ونصب "دهما" بإن، كقولك: إن عندك رجلا قال الله تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا} [المزمل: 12] والجون ههنا: البيض، وهو جمع جون، وهو من الأضداد، يقع على الأبيض والأسود، ولو كانت مما يستعمل اسمًا لكثر ذلك في استعمالهم، وفي عدم ذلك دليل على أنها لا تستعمل إلا ظرفًا. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما ما أنشدوه من قول الشاعر: [178] إذا ما جلسوا منا ولا من سوائنا وقول الآخر: [179] وما قصدت من أهلها لسوائكا فإنما جاز ذلك لضرورة الشعر، وعندنا أنه يجوز أن تخرج عن الظرفية في ضرورة الشعر، ولم يقع الخلاف في حال الضرورة، وإنما فعلوا ذلك واستعملوها

_ [182] هذا البيت من كلام لبيد بن ربيعة العامري، وسوام المال بفتح السين والواو جميعًا الذي يرعى حيث شاء لا يمنعه أحد، وهي أيضًا سائمة، وقد سامت تسوم، وأسامها صاحبها، وقال الله تعالى: {فِيهِ تُسِيمُون} والدهم: جمع الأدهم وهو الذي لونه الدهمة -بالضم- وهي السواد وتكون الدهماء والدهم خيار الخيل والإبل عندهم، والجون -بضم الجيم- جمع جون بفتحها، وهو الأسود، وهو أيضًا الأبيض، ويقال: كل بعير جون من بعيد، وكل لون سواد مشرب حمرة فهو جون. والاستشهاد بالبيت في قوله "إن سواءها دهمًا وجونًا" حيث استعمل "سواء" ظرفًا متعلقًا بمحذوف يقع خبرًا لإن مقدمًا على اسمها، و "دهما" اسم إن تأخر عن خبرها، ولو أنه لم يستعمل سواء ظرفًا لنصبه على أنه اسم إن ورفع ما بعده؛ وذلك لأن اسم إن لا يتأخر عن خبرها إلا أن يكون الخبر ظرفًا نحو قوله تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا} أو جار ومجرورًا نحو قوله سبحانه: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَة} . وأنت خبير -بعد الذي قررنا لك- أن الكوفيين لا يمانعون في أن تستعمل "سواء" بجميع لغاتها ظرفًا، ولكنهم يقررون أنها كما تكون ظرفًا تكون غير ظرف وتقع في جميع مواقع الإعراب متأثرة بالعوامل؛ فهذا الشاهد وغيره وآلاف الشواهد التي استعملت سواء فيها ظرفًا لا تنقض مذهبهم، فتنبه لذلك والله يعصمك.

اسمًا بمنزلة غير في حال الضرورة لأنها في معنى غير، وليس شيء يضطرون إليه إلا ويحاولون له وجهًا. وأما قوله الآخر: [181] أفيها كان حتفي أم سِوَاهَا فليس "سواها" في موضع جرّ بالعطف على الضمير المخفوض في فيها، وإنما هو منصوب على الظرف؛ لأن العطف على الضمير المجرور لا يجوز، وإنما هذا شيء تَبْنُونَهُ على أصولكم في جواز العطف على الضمير المخفوض، وسنبين فساده مستقصى في موضعه إن شاء الله تعالى: وأما ما رووه عن بعض العرب أنه قال "أتاني سِوَاؤُكَ" فرواية تَفَرَّدَ بها الفَرَّاءُ عن أبي ثَروانَ، وهي روايةٌ شاذة غريبة؛ فلا يكون فيها حجة. والله أعلم.

مسألة كم مركبة أو مفردة

40- مسألة: ["كم" مركّبة أو مفردة؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "كم" مركبة. وذهب البصريون إلى أنها مفردة موضوعة للعدد. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن الأصل في كم "ما" زيدت عليها الكاف؛ لأن العرب قد تصل الحرف في أوله وآخره، فما وصلته في أوله نحو: "هذا، وهذاك" وما وصلته في آخره نحو قوله تعالى: {إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} [المؤمنون: 93] فكذلك ههنا: زادوا الكاف على "ما" فصارتا جميعًا كلمة واحدة، وكان الأصل أن يقال في "كم مالك": كما مالك، إلا أنه لما كثرت في "134" كلامهم وجرت على ألسنتهم حذفت الألف من آخرها وسكنت ميمها، كما فعلوا في "لِمْ" فصار "كم مالك" والمعنى: كأي شيء مالُكَ من الأعداد، والدليل على ذلك قولهم "كأيِّنْ من رجل رأيت" أي: كم من رجل رأيت، ونظير كم "لِمَ" فإن الأصل في لم "ما" زديت عليها اللام؛ فصارتا جميعًا كلمة واحدة، وحذفت الألف لكثرة الاستعمال وسكنت ميمها، فقالوا: لم فعلتَ كذا؟ قال الشاعر: [131] يا أبا الأسودِ لِمْ أَسْلَمْتَنِي ... لهمومٍ طارقاتٍ وذِكَر؟ وقال الآخر: [183] يا أَسَديُّ لم أكلته لِمَهْ؟ ... لو خافك اللهُ عليه حَرَّمَهْ فما قَرِبْتَ لحمه ولا دَمَهْ

_ [183] أنشد ابن منظور هذا الشاهد "روح" ونسبه إلى سالم بن دارة، ولكنه روى أوله "يا فقعسي" والفقعسي: المنسوب إلى فقعس، والأسدي: المنسوب إلى أسد، و "لم" مؤلفة من لام الجر مكسورة و "ما" الاستفهامية، وقد حذف ألف "ما" الاستفهامية لدخول حرف =

يعني جَرْوَ كلب، ويقال: إن بني أسد كانت تأكله، فتعير ذلك. وزيادة الكاف كثيرة، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وحكي عن بعض العرب أنه قيل له: كيف تصنعون الأقِطَ؟ قال: كَهيَّنٍ، وقال الراجز: [184] لَوَاحِقُ الأقراب فيها كالمَقَقْ

_ = الجر عليها كما عرفت في شرح الشاهد رقم 131، ثم لم يكتفِ بحذف الألف حتى سكن الميم بعد أن كانت مفتوحة، و "لمه" مؤلفة كسابقتها من لام الجر مكسورة و "ما" الاستفهامية، وهذه الهاء يجوز أن تكون هاء السكت اجتلبها الراجز ليقف على "ما" الاستفهامية بعد حذف ألفها لكونها مجرورة بحرف الجر، ويجوز أن يكون قلب ألف "ما" هاء حين أراد الوقف، كما فعل راجز آخر في قوله. وأنشده ابن يعيش "454 و1282": قد وردت من أمكنه ... من ههنا ومن هنه إن لم أروها فمه ألا ترى أنه قلب ألف "هنا" هاء، وقلب ألف "ما" في قوله "فمه" هاء، وأصل الكلام: إن لم أروها فما يكون؟ وأنت ترى أن الراجز الذي استشهد به المؤلف قد حذف ألف "ما" الاستفهامية وسكن الميم مرة، وقلب ألفها هاء، مرة أخرى، وهذا نوع من التصرف في الاسم الذي يشبه الحرف، وهو ما يريد المؤلف أن يقرره، فافهم ذلك والله يرشدك. [184] هذا البيت من الرجز المشطور، وهو من أرجوزة طويلة لرؤبة بن العجاج، والبيت من أبيات منها وصف فيها حمار وحش وأتنه التي شبه ناقته بها في الجلادة وسرعة العدو، وليس في وصف الخيل كما زعم العيني، وقبل البيت قوله: قب من التعداء حقب في سوق وهو من شواهد الأشموني "رقم 560" وابن عقيل "رقم 210" ورضي الدين في شرح الكافية في باب حروف الجر، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 266" وابن منظور "م ن ل"والقب: جمع أقب أو قباء، وهو وصف من القبب -بالتحريك- وهو دقة الخصر، يريد أنهن ضامرات البطون، والتعداء: أحد مصادر "عدا يعدو" أي أسرع السير، والحقب: جمع أحقب أو حقباء، والسوق -بفتح السين والواو- جميعًا طول الساق أو غلظها أو حسنها، واللواحق: جمع لاحقة، وهي الهزيلة الضامرة، وفعله من باب فرح، والأقراب: جمع قرب -كقفل أو عنق- وهو البطن، والمقق -بالتحريك- الطول، ويقال: هو الطول الفاحش في دقة. والاستشهاد بالبيت في قوله "كالمقق" فإن الكاف في هذه الكلمة حرف جر زائد لا يدل على معنى التشبيه، وهذ تخريج جماعة من النحاة منهم أبو علي الفارسي وابن جني وابن السَّرَّاج والرضي، وحمل أبو علي على زيادة الكاف قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} فزعم أن تقدير الكلام: أرأيت الذي حاج إبراهيم في ربه، أو الذي مر على قرية، وهذا يدل على أنه لا يرى زيادة الكاف قاصرة على الضرورة الشعرية، فتنبه لهذا.

أي: المَقَقُ، وهو الطُّولُ.. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنها مفردة لأن الأصل هو الإفراد، وإنما التركيب فرع، ومَنْ تمسك بالأصل خرج عن عُهْدَة المطالبة بالدليل، ومَنْ عَدَلَ عن الأصل افتقر إلى إقامة الدليل؛ لعدوله عن الأصل، واستصحابُ الحال أحد الأدلة المعتبرة. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن الأصل في كم ما زيدت عليها الكاف" قلنا: لا نسلم؛ فإن هذا مجرد دعوى من غير دليل ولا معنى. قولهم "إن العرب قد تصل الحرف في أوله نحو هذا" فقد قدمنا الجواب عنه فيما سبق. وأما قولهم "كان الأصل أن يقال في كم مالك: كما مالك، إلا أنه لما كثر في كلامهم وجرى على ألسنتهم حذفت الألف لكثرة الاستعمال وسكنت الميم كما فعلوا ذلك في لِمَ" قلنا: لا نسلم أنه يجوز إسكان الميم في "لم" في اختيار الكلام، وإنما يجوز ذلك في الضرورة؛ فلا يكون فيه حجة، قال الشاعر: [131] يا أبا الأسود لِمْ أسلمتني وكما قال الأخر: [183] يا أسديُّ لم أكلته لِمَهْ فسكن "لم" للضرورة، تشبيهًا لها بما يجيء من الحروف على حرفين الثاني منهما ساكن؛ فلا يكون فيه حجة. ثم لو كان الأمر كما زعمتم وأن كم كلِمَ لوجب أن يجوز فيها الأصل كما يجوز الأصل في لم فيقال: كَمَا مَالُكَ، كما يقال: لِمَا فعلت، وأن يجوز فيها الفتح مع حَذْفِ الألف كما يجوز في لِمَ فيقال: كَمَ مَالُكَ، كما يجوز لِمَ فعلت، وأن يجوز فيها هاء الوقف فيقال: كَمَهْ، كما يجوز في لِمَ هاء الوقف يقال: لِمَهْ؛ فلما لم يجز ذلك دلَّ على الفرق بينهما. وأما قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فلا نسلم أن الكاف فيه زائدة؛ لأن "مثله" ههنا بمعنى هو، فكأنه قال ليس [كـ] هو شيء، والمِثلُ يطلق في كلام العرب ويُرَاد به ذات الشيء، يقول الرجل منهم: مِثْلِي لا يفعل هذا، أي: أنا لا أفعل هذا، ومثلي لا يقبل من مثلك، أي: أنا لا أقبل منك، قال الشاعر: [185] يا عاذِلي دَعْنِي من عَذْلِكَا ... مثلى لا يَقْبَلُ من مثلكا

_ [185] العاذل: الذي يلوم في تسخط وكراهية لما يلومك فيه، ودعني: اتركني وقوله "مثلي لا يقبل من مثلك" أصل معناه: من كان متصفًا بصفاتي فإنه لا يقبل ممن كان متصفًا =

أي: أنا لا أقبل منك. ثم لو قلنا إن الكاف ههنا زائدة لما امتنع؛ لأن دخول الكاف ههنا كخروجها، ألا ترى أن معنى "ليس كمثله شيءٌ" ومعنى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} واحدٌ. وكذلك الكاف في قوله: كَهَيِّنٍ، وقول الراجز: [184] لواحق الأقراب فيها كَالمَقَقْ بخلاف الكاف في "كَمْ" فإن الكاف في كم ليس دخولها كخروجها، بل لو قدّرنا حذفها من الكلام لاختلّ معناها ولم تحصل الفائدة بها، ألا ترى أن قولك "ما مالُكَ" لا يفيد ما يفيد قولك "كم مالُكَ" فدلَّ على الفرق بينهما، والله أعلم.

_ = بصفاتك، وقد جرت عادة العرب في كلامهم أنهم يكنون بهذه العبارة عن معنى "أنا لا أقبل منك" قال ابن هشام في المغني "ص179": "ولأنهم إذا بالغوا في نفي الفعل عن أحد قالوا "مثلك لا يفعل كذا" ومرادهم إنما هو النفي عن ذاته، ولكنهم إذا نفوه عمن هو على أخص أوصافه فقد نفوه عنه" ا. هـ. وقال الخطيب القزويني في الإيضاح "ص325 بتحقيقنا" وهو يمثل للكناية: "وكقولهم مثلك لا يبخل. قال الزمخشري: نفوا البخل عن مثله وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية؛ لأنهم إذا نفوه عمن هو على أخص أوصافه فقد نفوه عنه" وأقول: إن العرب تسلك سبيل الكناية بلفظ مثل ولفظ غير فيقولون: مثلك يرعى الحق، ومثلك يعرف الفضل لذويه، ومثلك لا يغضي على القذى، ومثلك يؤدّي الواجب، ومنه قول الشاعر: مثلك يثني المزن عن صوبه ... ويسترد الدمع مع غربه وقالوا: غيري يخوف بالتهديد، وغيري يقنع باليسير، وغيري يفعل كذا، وهم يريدون أنا لا أخوف بالتهديد، وأنا لا أقنع باليسير، وأنا لا أفعل كذا، ومنه قول الشاعر وهو المتنبي: غيري بأكثر هذا الناس ينخدع ... إن قاتلوا جبنوا أو حدثوا شجعوا وكذلك قول الآخر: وهو أبو تمام: وغير يأكل المعروف سحتًا ... وتشحب عنده بيض الأيادي وقد سبقهما إلى مثل ذلك عنترة بن شداد العبسي في قوله: سواي يهاب الموت أو يرهب الردى ... وغيري يهوى أن يعيش مخلدا وهذا أبلغ من أن يقول: أنا لا أهاب الموت، وأنا لا آكل المعروف سحتًا، وأنا لا أنخدع بأكثر الناس، أما أن المراد بهذا الكلام ما ذكرناه فقد أوضحه الشاعر في قوله: ولم أقل مثلك أعني به ... سواك يا فردًا بلا مشبه وأما أنه أبلغ مما لو صرحت بالضمير المنفصل وحذفت المثل والغير فلأنه كناية، والكناية -كما هو مقرر- أبلغ من التصريح؛ لأنها تساوي عند التحقيق ذكرى الدعوى مع إقامة البينة عليها.

مسألة إذا فصل بين كم الخبرية وتمييزها فهل يبقى التمييز مجرورا

41- مسألة: [إذا فصل بين "كَمْ" الخبرية وتمييزها فهل يبقى التمييز مجرورً ا؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه إذا فصل بين "كم" في الخبر وبين الاسم بالظرف وحرف الجر كان مخفوضًا، نحو: كم عندك رَجُلٍ، وكم في الدار غلامٍ؟. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز فيه الجر، ويجب أن يكون منصوبًا. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يكون مخفوضًا بدليل النقل والقياس: أما النقل فقد قال الشاعر: [186] كم بِجُودٍ مُقْرِفٍ نَالَ العُلَى ... وشَرِيفٍ بُخْلُهُ قد وَضَعَهْ

_ [186] هذا البيت من كلام أنس بن زنيم، الكناني، أحد بني الديل بن بكر، وهو من شواهد سيبويه "1/ 296", ابن يعيش في شرح المفصل "ص582" ورضي الدين في شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 119" والأشموني "رقم 1138" والمقرف: النذل اللئيم الأب، ومعنى البيت أنه قد يرتفع اللئيم بجوده، ويتضع الكريم الأب بسبب بخله، ومحل الشاهد في البيت قوله "كم بجود مقرف نال العلا" واعلم أولا أن "كم" في هذا البيت خبرية تدل على التكثير، كأنك قلت: كثير من المقرفين نالوا العلا بسبب جودهم وكثير من الذين لهم آباء كرماء قد اتضع حالهم بسبب بخلهم، ثم أعلم ثانية أن قوله "مقرف" يروى بثلاثة أوجه: الرفع، والنصب، والجر، فما رواية الرفع فعلى أن تكون "كم" ظرفًا متعلقًا بقوله "نال" الآتي، ويكون "مقرف" مبتدأ، وجملة "نال العلا" في محل رفع خبر المبتدأ، وكأنه قال: مقرف نال العلا في مرات كثيرة بسبب جوده، وأما رواية النصب فعلى أن تجعل "مقرفًا" تمييزًا لكم الخبرية، وإنما نصب للفصل بينه وبينها، وأما رواية الجر فعلى أن تجعل "مقرف" بالجر تمييزًا لكم الخبرية على أصله، ولا تعتد بالفاصل بينهما، وكم على وجهي الجر والنصب مبتدأ، وجملة "نال العلا" في =

فخفض "مُقْرِفٍ" مع الفصل، وقال الآخر: [187] كَمْ في بني بكر بن سعد سَيِّدٍ ... ضخمٍ الدَّسِيعَةِ ماجدٍ نَفَّاعِ وأما القياسُ فلأن خفض الاسم بعد "كم" في الخبر بتقدير "من" لأنك إذا قلت "كم رَجُلٍ أكرمت، وكم امرأة أَهَنْتَ" كان التقدير فيه: كم من رجل أكرمت، وكم من امراة أهنت؛ بدللي أن المعنى يقتضي هذا التقدير، وهذا التقدير مع وجود الفصل بالظرف وحرف الجر كما هو مع عدمه، فكما ينبغي أن يكون الاسم مخفوضًا مع عدم الفصل فكذلك مع وجوده. قالوا: ولا يجوز أن يقال: "إنها في هذه الحالة بمنزلة عدد ينصب ما بعده كثلاثين ونحوه" لأنا نقول: لو كانت بمنزلة عدد ينصب ما بعده كثلاثين لكان ينبغي أن لا يجوز الفصل بينها وبين معمولها، ألا ترى أنك لو قلت "ثلاثون عندك رجلا" لم يجز، فكذلك كان ينبغي أن يقولوا ههنا. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز فيه الجرّ لأن "كم" هي العاملة فيم بعدها الجرَّ، لأنها بمنزلة عدد مضاف إلى ما بعده، وإذا فصل بينهما بظرف أو حرف جرٍّ بطلت الإضافة، لأن الفصل بين الجار والمجرور بالظرف وحرف الجرّ لا يجوز في اختيار الكلام، فعدل إلى النصب.

_ = محل رفع خبره. ثم اعلم ثالثًا أن الكوفيين يستشهدون بالبيت على رواية الجر، ويجعلون الفصل بين "كم" الخبرية وتمييزها مغتفرًا، ولا يمنع الفصل من بقاء التمييز مجرورًا بإضافة "كم" إليه على مذهب سيبويه، وبحرف جر مقدر -وهو من- على مذهب الفَرَّاء، وفي الجر على كلا القولين جهة ضعف. [187] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 296" وابن يعيش في شرح المفصل "ص582" ورضي الدين في شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 122" والأشموني "رقم 1139" ورواية سيبويه "كم في بني سعد بن بكر" ورواية الأعلم "كم في بني بكر بن عمرو". والدسيعة: العطية، ويقال: هي الجفنة، والمعنى أنه واسع المعروف وأنه ماجد شريف. والاستشهاد به في قوله "كم في بني بكر بن سعد سيد" حيث فصل بين كم الخبرية وتمييزها الذي هو قوله "سيد" بالجار والمجرور الذي هو قوله "في بني سعد بن بكر" والكلام فيه كالكلام في البيت السابق. ومثل هذين البيتين قول الشاعر، وأنشده سيبويه أيضًا: كم فيهم ملك أغر وسوقة ... حكم بأردية المكارم محتبي وكذلك قول الآخر، وأنشده الأشموني "رقم 1137": كم دون ميه موماة يهال لها ... إذا تيممها الخريت ذو الجلد

لامتناع الفصل بينهما، قال الشاعر: [188] كَمْ نَالَنِي منهُمُ فضلًا على عَدَمٍ ... إذ لا أَكَادُ من الإِقْتَارِ أَحْتَمِلُ والتقدير: كم فضل، إلا أنه لما فصل بينهما بنالني منهم نصب "فضلًا" فرارًا من الفصل بين الجار والمجرور، وقال الآخر: [189] تَؤُمُ سِنَانًا وكم دُونَهُ ... من الأرض مَحْدُودِبًا غارُهَا والتقدير: كم محدودب غارها دونه من الأرض، إلا أنه لما فصل بينهما نصب "محدودبًا" وإن لم يقصد الاستفهام؛ لئلا يفصل بين الجار والمجرور، وإنما عدل إلى النصب لأن "كم" تكون بمنزلة عدد ينصب ما بعده، ولم يمتنع النصب بالفصل كما امتنع الجر؛ لأن الفصل بين الناصب والمنصوب له نظير في كلام العرب، بخلاف الفصل بين الجار والمجرور؛ فإنه ليس له نظير في

_ [188] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 295" وابن يعيش في شرح المفصل "ص581" والأشموني "رقم 1140" ورضي الدين في شرح الكافية، وشرحه البغدادي "3/ 122" والبيت من كلام القطامي -واسمه عمير بن شييم- من قصيدته التي يمدح فيها عبد الواحد بن الحارث بن الحكم والي المدينة في عهد مروان بن الحكم الأموي والتي مطلعها قوله: أنا محيوك فاسلم أيها الطلل ... وإن بليت، وإن طالت بك الطيل وقوله: "إنا محيوك" معناه إنا داعون لك بالتحية، وهي البقاء، والطلل -بالتحريك- ما بقي شاخصًا مرتفعًا من آثار الديار، والطيل -بكسر الطاء وفتح الياء مخففة- جمع طيلة، وهي الدهر، والإقتار: الفقر، و "أحتمل" يروى بالحاء المهملة، ومعناه أرتحل لطلب الرزق، ويروى بالجيم، ومعناه أجمع العظام لأستخرج ودكها وشحمها وأتعلل به، مأخوذ من الجميل وهو الودك. يقول: لقد أنعم على هؤلاء وزادوا في إنعامهم عند فقري وحاجتي التي بلغت إلى حد أنني لا أقدر على الارتحال لطلب الرزق ضعفًا وفقرًا. والاستشهاد به في قوله "كم نالني منهم فضلًا" حيث نصب تمييز "كم" الخبرية لما فصل بين كم وتمييزها وسيبويه لا يوجب ذلك إلا في ضرورة الشعر، والفراء يجيزه في السعة، وقد بيَّنَّا لك هذا في شرح الشواهد السابقة. [189] هذا البيت من كلام زهير بن أبي سلمى المزني، وهو من شواهد سيبويه "1/ 265" والزمخشري في مفصله وابن يعيش في شرحه "ص581" والأشموني "رقم 1141" وصف زهير في هذا البيت ناقته، وتؤم: أي تقصد، وفيه ضمير مستتر تقديره هي يعود إلى الناقة، والغار: الغائر المطمئن من الأرض، وجعله محدودبًا لما يتصل به من الآكام ومتون الأرض. والاستشهاد به في قوله "وكم دونه من الأرض محدوبا" حيث أتى بتمييز كم الخبرية منصوبًا لما فصل بين كم وبينه بالظرف والجار والمجرور والكلام فيه كالكلام فيما قبله.

كلام العرب؛ فكان ما صرنا إليه أولى مما صرتم إليه. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما ما احتجوا به من قوله: [186] كم بجود مقرفٍ نال العلى فالكلام عليه من وجهين؛ أحدهما: أن الرواية الصحيحة "مقرفٌ" بالرفع بالابتداء، وما بعدها الخبر، وهو قوله "نال العلى". والثاني: أن هذا جاء في الشعر شاذًّا؛ فلا يكون فيه حجّة، وهذا هو الجواب عن البيت الآخر. وأما قولهم "إن خفض الاسم بعد كم بتقدير من، والتقدير مع وجود الفصل كما هو مع عدمه" قلنا: لا نسلم أن جر الاسم بعد كم بتقدير من، بل العامل فيه كم؛ لأنها عندنا بمنزلة عدد يضاف إلى ما بعده، وعند المحققين من أصحابكم أنها بمنزلة رُبَّ؛ فيخفضون بها الاسم الذي بعدها كرُبَّ. والذي يدل على فساد ما ذهبتم إليه أن حرف الجر لا يجوز أن يعمل مع الحذف، وإنما يجوز أن يعمل حرف الجر مع الحذف في مواضع يسيرة على خلاف الأصل، إذا حذف إلى عوض وبدل، كرب بعد الواو والفاء وبل، على أنكم تزعمون أن حرف الجر غير مقدر بعد هذه الحروف، وإنما هي العاملة بطريق النيابة عن حرف الجر، لا حرف الجر، وقد بيَّنَّا ذلك مُسْتَوْفًى في موضعه. وقولهم: "إنها لو كانت بمنزلة عدد ينصب ما بعده كثلاثين ونحوه لكان ينبغي أن لا يجوز الفصل بينها وبين معمولها؛ لأن ثلاثين لا يجوز أن يفصل بينها وبين معمولها" قلنا: إنما جاز الفصل بين كم [138] ومميزها جوزًا حسنًا دون "ثلاثين" ونحوه لأن كم مُنِعَتْ بعض ما لثلاثين من التصرف؛ فجعل هذا عوضًا مما مُنِعته، ألا ترى أن "ثلاثين" تكون فاعلة لفظًا ومعنًى، كقولك: ذهب ثلاثون، وتقع مفعوله في رتبتها، كقولك: أعطيت ثلاثين، ولا يكون ذلك في كم، فلما مُنِعَتْ كم بعض ما لثلاثين من التصرف جعل لها ضرب من التصرف لا يكون لثلاثين؛ ليقع التعادل بينهما، على أنه قد جاء الفصل بين ثلاثين ومميزها في الشعر، قال الشاعر: [190] على أنني بعد ما قد مضى ... ثلاثُون للْهَجْر حَوْلًا كَمِيلًا

_ [190] البيت الأول من هذين البيتين من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص581" والرضي في شرح الكافية في باب التمييز وفي باب الكنايات، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 573" وابن الناظم، والأشموني "رقم 1131" وهما معًا من شواهد سيبويه "1/ 292" وقد نسب العيني "4/ 489 بهامش الخزانة" بيت الشاهد للعباس بن مرداس السلمي، وقال البغدادي: "وهما من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف لها قائل" والعجول -بفتح =

يُذَكِّرُنِيكَ حَنِينُ العَجُول ... ونَوْحُ الحمامة تدعو هَدِيلًا ففصل بين "ثلاثين" وبين مميّزها بالجار والمجرور، وإن كان قليلًا لا يقاس عليه، والله أعلم.

_ = العين الناقة التي ألقت ولدها قبل موعدها، أو هي التي ذبح ولدها أو مات، وحنينها: أراد به ما تظهره من الوله على ولدها، والهديل: أصله صوت الحمام، ويراد منه فرخ الحمام الذي تزعم العرب أن جارحًا صاده على عهد نوح فكل حمامة تبكي عليه إلى اليوم. يقول: إنني لا أنسى عهدك على بعده، فكلما حنت عجول وناحت حمامة رقت نفسي فذكرتك. والاستشهاد به في قوله "ثلاثون للهجر حولًا"حيث فصل بين اسم العدد -وهو قوله "ثلاثون"- وتمييزه -وهو قوله "حولًا"- وهذا يقوي ما جوزه النحاة في "كم" من الفصل بينها وبين تمييزها عوضًا عما منعته من التصرف في الكلام بالتقديم والتأخير بسبب كونها أشبهت كم الاستفهامية فألزمت التصدير لذلك، وإن كان بين "كم" وبين اسم العدد فرق، فإن الثلاثين ونحوها من أسماء الأعداد لا تمتنع من التقديم والتأخير، لأنها لم تتضمن معنى يوجب لها التصدير، فكان عملها في التمييز أوسع من عمل كم، قال سيبويه "1/ 291": "واعلم أن كم تعمل في كل شيء حسن للعشرين أن تعمل فيه، فإذا قبح للعشرين أن تعمل في شيء قبح ذلك في كم، لأن العشرين عدد منون، وكذلك كم هو منون عندهم، كما أن خمسة عشر عندهم بمنزلة ما قد لفظوا بتنوينه، لولا ذلك لم يقولوا: خمسة عشر درهما، ولكن التنوين ذهب منه كما ذهب مما لا ينصرف، وموضعه موضع اسم منون، وكذلك كم موضعها موضع اسم منون، وذهبت منها الحركة كما ذهبت من إذ؛ لأنهما غير متمكنين في الكلام" ثم قال بعد كلام: "وتقول: كم رجل زارني، ولا تقول: زارني كم رجل، ولو قال: أتاك ثلاثون اليوم درهما، كان قبيحًا في الكلام؛ لأنه لا يقوى قوة الفاعل، وليس مثل لم؛ لما ذكرت لك، وقد قال الشاعر. على أنني بعد ما قد مضى ثلاثون..... وكم رجلًا أتاك، أقوى من كم أتاك رجلًا، وكم ههنا فاعلة" ا. هـ. وقال ابن يعيش: "فإن قيل: فلم قبح الفصل بين العدد ومميزه ولم يحسن أن تقول: قبضت خمسة عشر لك درهما، ورأيت عشرين في المسجد رجلًا؟ قيل: إنما كان كذلك لضعف عمل العشرين ونحوها فيما بعدها؛ لأنها عملت على التشبيه باسم الفاعل ولم تقوَ قوته، مع أنه قد جاء ذلك في الشعر" ا. هـ. ومثل هذا البيت في الفصل بين اسم العدد ومميزه ما أنشده ابن يعيش "581" ونسب روايته إلى سيبويه، ونسبه لعبد بني الحسحاس: فأشهد عند الله أن قد رأيتها ... وعشرون منها إصبعًا من ورائيا

مسألة هل تجوز إضافة النيف إلى العشرة

42- مسألة: [هل تجوز إضافة النَّيِّف إلى العشرة] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز إضافة النيف إلى العشرة، نحو: خَمْسَةَ عَشَرٍ. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز. أما الكوفين فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء ذلك عنهم في استعمالهم، قال الشاعر: [191] كُلِّفَ من عَنَائِهِ وشِقْوَتِهْ ... بِنْتَ ثَمَانِي عَشْرَةٍ مِنْ حِجَّتِهْ ولأن النَّيِّف اسم مظهر كغيره من الأسماء المظهرة؛ فجاز إضافته إلى ما بعده كسائر الأسماء المظهرة التي تجوز إضافتها. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأنه قد جعل الاسمان اسمًا واحدًا، فكما لا يجوز أن يضاف الاسمُ الواحدُ بعضُه إلى بعضٍ، فكذلك ههنا.

_ [191] استشهد بهذا البيت الأشموني "رقم 1132" وجماعة من شراح الألفية "انظر العيني بهامش الخزانة 4/ 488" والعناء -بفتح العين- النصب والتعب، والشقوة -بكسر الشين وسكون القاف- ومثله الشقاء والشقاوة: ضد السعادة، والحجة -بكسر الحاء وتشديد الجيم مفتوحة- السنة. والاستشهاد بالبيت في قوله "بنت ثماني عشرة" فإن الكوفيين أنشدوه شاهدًا على جواز إضافة النيف -وهو هنا قوله "ثماني"- إلى العشرة، من غير أن يكون هناك شيء آخر، وهم يجيزون ذلك في الكلام، ومن هنا تعلم أن قول ابن مالك في التسهيل "ولا يجوز بإجماع ثماني عشرة -يعني بإضافة الأول إلى الثاني- إلا في الشعر" ليس بمستقيم؛ فإن الكوفيين -كما سمعت- يجيزون إضافة صدر المركب إلى عجزه سواء أكان مع هذا المركب شيء آخر يضاف المركب إليه نحو ما حكاه الفَرَّاء من أنه سمع أبا فقعس الأسدي وأبا الهيثم العقيلي يقولان "ما فعلت خمسة عشرك" أم لم يكن مع المركب شيء أصلًا كما في هذا البيت!.

وبيان هذا أن الاسمين لما ركّبا دلَّا على معنًى واحد، والإضافة تُبْطِل ذلك المعنى، ألا ترى أنك إذا قلت "قبضتُ خَمْسَةَ عَشَرَة" من غير إضافة دلَّ على أنك قد قبضت خمسة وعشرة، وإذا أضفت فقلت "قبضتُ خَمْسَةَ عَشَرٍ" دلَّ على أنك قد قبضت الخمسة دون العشرة، كما لو قلت "قبضتُ مال زيدٍ" فإن المال يدخل في القبض دون زيد، وكذلك "ضربت غلامَ عمروٍ" فإن الضرب يكون للغلام دون عمرو، فلما كانت الإضافة تُبْطِل المعنى المقصود من التركيب وجب أن لا تجوز. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما ما أنشدوه من قوله: [191] بِنْتَ ثَمَانِي عَشْرَةٍ من حِجَّتِهْ فلا يعرف قائله، ولا يؤخذ به، على أنا نقول: إنما صَرَّفَهُ لضرورة الشعر ورَدَّه إلى الجر لأن "ثماني عشرة"؛ لما كانا بمنزلة اسم واحد، وقد أضيف إليهما بنت في قوله: "بِنْتَ ثماني عشرة" ردَّ الإعراب إلى الأصل بإضافة بنت إليهما، لا بإضافة ثماني إلى عشرة، وهم إذا صَرَّفُوا المبنيَّ للضرورة رَدُّوهُ إلى الأصل، قال الشاعر: [192] سلامُ اللهِ يا مطرًا عليها ... وليس عليك يا مطرُ السلامُ

_ [192] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 313" ورضي الدين في باب المنادى من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 294 بولاق" والأشموني "رقم 875" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 571" وفي أوضح المسالك "رقم 437" وفي شذور الذهب "رقم 53" وابن عقيل "رقم 307" والبيت من كلام الأحوص، واسمه محمد بن عبد الله بن عاصم بن ثابت، الأوسي وكان الأحوص يعشق امرأة فتزوجها رجل يقال له مطر، فغلب الوجد على الأحوص حتى صرّح بما كان يكتمه. والاستشهاد بهذا البيت في قوله "يا مطر" حيث أتى بالمنادى المفرد العلم منوّنًا حيث اضطر إلى ذلك، قال سيبويه "1/ 313" "وأما قول الأحوص" سلام الله يا مطر عليها فإنما لحقه التنوين كما لحق ما لا ينصرف لأنه بمنزلة اسم لا يصرف، لأنك أردت في حال التنوين في مطر ما أردت حين كان غير منون" ا. هـ. وقال الأعلم "الشاهد فيه تنوين مطر وتركه على ضمه، لجريه في النداء على الضم واطراد ذلك في كل علم مثله، فأشبه المرفوع غير المنصرف في غير النداء، فلما نون ضرورة ترك على لفظه، كما ينون الاسم المرفوع الذي لا ينصرف، فلا يغيره التنوين عن رفعه، وهذا مذهب الخليل وأصحابه واختيارهم، وأبو عمرو ومن تابعه يختارون نصبه مع التنوين؛ لمضارعته النكرة بالتنوين، ولأن التنوين يعاقب الإضافة، فيجرونه على أصله لذلك، وكلا المذهبين مسموع من =

وجميعُ ما يُرْوَى من هذا فَشَاذٌّ لا يقاس عليه. وأما قولهم "إن النَّيِّف اسم مظهر كغيره من الأسماء التي يجوز إضافتها؛ فجاز إضافته كسائر الأسماء المظهرة التي يجوز إضافتها" قلنا: إلا أنه مركب، والتركيب ينافي الإضافة؛ لأن التركيب أن يجعل الاسمان اسمًا واحدًا، لا على جهة الإضافة؛ فيدلَّان على مسمًى واحد، بخلاف الإضافة؛ فإن المضاف يدل على مسمى، والمضاف إليه يدل على مسمى آخر؛ وإذا كان التركيب ينافي الإضافة، كما أن الإضافة تنافي التركيب على ما بيَّنَّا؛ وجب أن لا تجوز إضافة النَّيِّف إلى العشرة لاستحالة المعنى، والله أعلم.

_ = العرب، والرفع أقيس لما تقدم من العلة" ا. هـ. وقد ارتضى الزجاجي في أماليه مذهب الخليل، ولكنه لم يرتضِ التعليل الذي علَّل به سيبويه وتبعه عليه الأعلم قال: "الاسم العلم المنادى المفرد مبنيّ على الضَّمِّ؛ لمضارعته عند الخليل وأصحابه للأصوات ولوقوعه موقع الضمير عند غيرهم، فإذا لحقه التنوين في ضرورة الشعر فالعلة التي من أجلها بني قائمة بعد فيه، فينون على لفظه؛ لأنا قد رأينا من المبنيّات ما هو منوّن نحو إيه وغاق وما أشبه ذلك، وليس بمنزلة ما لا ينصرف؛ لأن ما لا ينصرف أصله الصرف، وكثير من العرب لا يمتنع من صرف شيء في ضرورة ولا غيرها، إلا أفعل منك، فإذا نون فإنما يرد إلى أصله، والمفرد المنادى العلم لم ينطق به منصوبًا منونًا قط في غير ضرورة شعر؛ فهذا بيّن واضح" ا. هـ كلامه بحروفه.

مسألة القول في تعريف العدد المركب وتمييزه

43- مسألة: [القول في تعريف العدد المركب وتمييزه] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن يقال في خمسة عشر درهما: "الخمسة العشر درهمًا، والخمسَةَ العَشَرَ الدرهَمَ"2. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز إدخال الألف واللام في العشر، ولا في الدرهم، وأجمعوا على أنه يجوز أن يقال "الخمسة عَشَرَ درهمًا" بإدخال الألف واللام على الخمسة وَحْدَهَا. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنه قد صحَّ عن العرب ما يوافق مذهبنا، ولا خلاف في صحة ذلك عنهم، وقد حكى ذلك أبو عمرو عن أبي الحسن الأخفش عن العرب، وإذا صحَّ ذلك النقل وجب المصيرُ إليه، واعتمادهم في هذه المسألة على النقل؛ لأن قياسهم فيها ضعيف جدًّا. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز دخول الألف واللام إلا على الاسم الأول لأن الاسمين لما رُكِّبَ أحَدُهما مع الآخر تَنَزَّلا منزلة اسم واحد، وإذا تنزَّلا منزلة اسم واد فينبغي أن لا يجمع فيه بين علامتي تعريف، وأن

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني "1/ 330 بتحقيقنا" وحاشية الصبان "1/ 180 بولاق". 2 يريد أنهم يجوّزون تعريف العدد المركب -وهو أحد عشر وتسعة عشر وما بينهما- بتعريف جزءيه: الصدر والعجز؛ فيقولون الأحد العشر والتسعة العشر، ويجوّزون في تمييز هذا العدد المركب أن يجيء منكرًا على ما هو الأصل في التمييز، فيقولون: الأحد العشر درهمًا، والتسعة العشر درهمًا، وأن يجيء معرفًا أيضًا، وهذا بناء منهم على أصلهم الذي ذهبوا إليه في التمييز، وهو جواز مجيئه معرفة، فيقولون في هذا الباب: زارني الخمسة العشر الرجل، كما يقولون: زارني الخمسة العشر رجلًا، والحاصل أن في هذا الأسلوب أربع صور، الأولى: أن تقول: زارني الخمسة عشر رجلًا، والثانية: أن تقول: زارني الخمسة عشر الرجل: والثالثة: أن تقول: زارني الخمسة العشر رجلًا، والرابعة: أن تقول: زارني الخمسة عشر الرجل، والبصريون لا يجيزون من هذه العبارة إلا الصورة الأولى، والكوفيون يجيزون الصور الأربع كلها، ولا يوجبون منها واحدة بعينها.

يلحق الاسم الأول منهما؛ لأن الثاني يتنزل منزلة بعضِ حروفهِ، وكذلك عَرَّفَتِ العربُ الاسم المركَّبَ، قال ابن أحمر: [193] تَفَقَّأَ فوقه القَلَعُ السَّوَارِي ... وجُنَّ الخَازِبَازِ به جُنُونَا فقال "الخازبار" فأدخل الألف واللام على الاسم الأول، ولم يكرّره فيقول "الخازالباز" ولم يُحْكَ ذلك عنهم في شعر ولا في كلام، والخاز باز ههنا: أراد به صوت الذبابا، ويقال "جن الذبابُ" إذا طار وهَاجَ، وقيل: المراد بالخازبار نَبْتٌ، كما قال الشاعر. [194] رَعَيْتُهَا أَكْرَمَ عُودٍ عُودًا ... الصِّلَّ والصِّفْصِلَّ واليَعْضِيدَا

_ [193] هذا بيت من الوافر، وقد أنشده ابن منظور "ف ق أ - ق ل ع - خ وز" ونسبه لعمرو بن أحمر وأنشده موفق الدين بن يعيش في شرح المفصل "ص570" وأنشده رضي الدين في باب المركبات من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 109" وتقول "تفقأ الدمل والقرح، وتفقأت السحابة عن مائها" أي تشققت، أو تبعجت بمائها. و "القلع" -بفتح القاف واللام جميعًا، وآخره عين مهملة- قطع من السحاب كأنها الجبال، واحدته قلعة -بالتحريك- ويقال: القعلة من السحاب التي تأخذ ناحية من السماء، والسواري: جمع سارية، وأراد بها ههنا السحابة التي تأتي ليلًا، والخازباز: ضرب من النبات، وجنونه: طوله وسرعة نباته، ويقال: الخازباز ههنا: نوع من ذباب العشب يطير في الربيع يدل خصب السنة، وجنونه: هزجه وطيرانه، قال ابن منظور "والخازباز ذباب، اسمان جعلا واحدًا، وبنيا على الكسر، لا يتغير في الرفع والنصب والجر، قال عمرو بن أحمر: تفقأ فوقه القلع السواري إلخ وسُمّي الذبان به -وهما صوتان جعلا واحدًا- لأن صوته خازباز، ومن أعربه نزّله بمنزلة الكلمة الواحدة فقال خازباز "برفع آخره" وقيل: أراد النبت، وقيل: أراد ذبان الرياض، وقيل: الخازباز حكاية لصوت الذباب فسماه به" ا. هـ، والاستشهاد به في قوله "وجن الخازباز" حيث أدخل عليه الألف واللام وتركه على بنائه كما تقول "الخمسة عشر" فتدخل عليه الألف واللام وهو على حاله من البناء. [194] هذه أبيات من الرجز المشطور، وقد رواها كلها ابن منظور على ترتيب ما رواه المؤلف ههنا "خ وز" وموفق الدين بن يعيش في شرح المفصل "ص569" والصل، والصفصل، واليعضيد، والخازباز: كلها أسماء من أسماء النبات، والسنم -بفتح السين وكسر النون- العالي المرتفع، يريد طول النبات الذي أرعاه إبله، والمجود: اسم مفعول من "جاده الغيث يجوده" إذا أصابه منه الجود -بفتح فسكون- وهو القوي الشديد من المطر، وعامر ومسعود: راعيان، وكنى بقوله "بحيث يدعو عامر مسعودا" عن طول النبات طولًا يواري كل راعٍ منهما عن الآخر، فلا يعرف أحدهما مكان صاحبه حتى يدعوه فيسمع صوته فيعرف مكانه، والاستشهاد بالأبيات للدلالة على أن "الخازباز" نبت، وهو ظاهر من قوله إنه أرعاه إبله.

والخَازِبَازِ السَّنِمَ المَجُودَا ... بحيث يدعو عامرٌ مسعودَا ويقال"جُنَّ النباتُ" إذا خرج زَهْرُهُ. والخاز باز أيضًا: داءٌ في اللَّهَازِمِ، قال الشاعر: [195] يا خازباز أرسل اللَّهَازِمَا ... إنِّي أَخَافُ أن تَكُونَ لازمًا والخازباز فيم يقال أيضًا: السِّنَّوْرُ، وفي الخازباز سبعُ لغاتٍ: خَازِبَازِ، وخَازَبَازَ وخَازِبَازُ، وخَازَبَازُ، وخَازُبَازٍ، وخَازِبَاء -مثل نافقاء- وخِزْبَاز -مثل سِرْدَاحٍ- قال الشاعر: [196] مثل الكلاب تَهِرُّ عند دِرَابِهَا ... وَرِمَتْ لِهَازِمُهَا من الخِزْبَازِ وإنما لم يجز دخول الألف واللام على "درهم" لأنه منصوب على التمييز، والتمييز لا يكون إلا نكرة، وإنما وجب أن يكون نكرة لأن الغرض أن يميّز المعدود به من غيره، وذلك يحصل بالنكرة التي هي الأخَفُّ، فكانت أولى من المعرفة التي هي الأَثْقَلُ. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما ما حكوه عن العرب فلا حُجَّةَ لهم فيه؛ لقلّته في الاستعمال وبُعْدَهُ عن القياس: أما قلته في الاستعمال فظاهر؛ لأنه إنما جاء شاذًّا عن بعض العرب؛ فلا يعتدُّ به لقلته وشذوذه، فصار

_ [195] هذان بيتان من الرجز المشطور، وقد أنشدهما ابن منظور "خ وز" ولم يعزهما، وابن يعيش "ص570" وقال قبل إنشادهما "وقال الراجز وهو العدوى" ا. هـ. والخازباز: داء يأخذ الإبل والناس في حلوقها، وقال ابن سيده: الخازباز قرحة تأخذ في الحلق، ومنهم من خص بهذا الداء الإبل، واللهازم: جمع لهزمة -بكسر اللام والزاي وبينهما هاء ساكنة- واللهزمتان: عظمان ناتئان تحت الأذن، وقيل: اللهازم: جمع لهزمة، وهي لحمة في أصل الحنك. [195] هذا بيت من الكامل، أنشده ابن يعيش في شرح المفصل "ص570" وابن منظور "خ وز" عن الأخفش، وعند ابن يعيش: مثل الكلاب تهر عند بيوتها وعند الأخفش: مثل الكلاب تهر عند جرائها وقال ابن بري: صواب إنشاده: مثل الكلاب تهر عند درابها والدراب -بكسر الدال- جمع درب، شبههم بالكلاب النابحة عند الدروب.

بمنزلة دخول الألف واللام في قول الشاعر: [91] يقول الخَنَا، وأبغض العُجْمِ ناطقًا ... إلى ربِّنَا صوتُ الحمار اليُجَدّعُ ويستخرج اليَرْبُوعَ من نَافِقَائِهِ ... ومن جُحْرِهِ بالشِّيحَةِ اليَتَقَصَّعُ أراد الذي يتقصع، فكما لا يجوز أن يقال أن الألف واللام يجوز دخولهما على الفعل لمجيئه ههنا لقلته وشذوذه فكذلك أيضًا لا يجوز أن يحتجّ بذلك لقلته وشذوذه، وكما قال الشاعر: [197] يا ليت أمَّ العمرو كانت صَاحِبِي ... مكان من أَشْتَى عَلَى الرَّكائِب أراد "أم عمرو". وكما قال الآخر: [198] باعد أَمَّ العَمْرِو من أسِيرِهَا ... حُرَّاسُ أَبْوَابٍ عَلَى قُصُورِهَا

_ [197] هذان بيتان من مشطور الرجز، وقد أنشد أولهما ابن منظور "وب ر" وأنشدهما معًا موفق الدين بن يعيش في شرح المفصل "ص51" من غير عزو، وأسند روايتهما إلى ابن الأعرابي، و "أم العمرو" أراد أم عمرو، فأدخل الألف واللام على العلم الذي هو عمرو، وسنذكر لك وجهه، والصاحب: المعاشر، لا يتعدى تعدي الفعل على أن فعله -وهو صحب- متعد؛ فلا تقول "زيد صاحب عمرًا" كما تقول "زيد ضارب عمرًا" لأنهم استعملوا صاحبًا استعمال الأسماء، وجمعه أصحاب وأصاحيب، وصحبان نظير شاب وشبان، وصحاب نظير جائع وجياع، وصحب نظير شارب وشرب، وصحابة -بفتح الصاد أو كسرها- حكى جميع هذه الجموع الأخفش، وأشتى: دخل في زمان الشتاء، فإن أردت أنه أقام في موضع شتاء فقل: شتا يشتو، وقال طرفة: حيثما قاظوا بنجد، وشتوا ... عند ذات الطلح من ثني وقر والركائب: جمع ركوب -بفتح الراء- وهو ما يركب من كل دابة، فعول بمعنى مفعول، وقيل: الركائب جمع ركاب، والاستشهاد به في قوله "أم العمرو" حيث دخل الألف واللام على العلم، قال جار الله في المفصل "1/ 34 بتحقيقنا": "وقد يتأول العلم بواحد من الأمة المسماة به؛ فلذلك من التأويل يجري مجرى رجل وفرس، فيجترأ على إضافته وإدخال اللام عليه، قالوا: مضر الحمراء، وربيعة الفرس، وأنمار الشاة. وعن أبي العباس: إذا ذكر الرجل جماعة اسم كل واحد منهم زيد قيل له: فما بين الزيد الأول والآخر، وهذا الزيد أشرف من ذلك الزيد، وهو قليل" ا. هـ. وقال ابن يعيش في شرح هذا الكلام "اعلم أن العلم الخاص لا تجوز إضافته ولا إدخال لام التعريف فيه لاستغنائه بتعريف العلمية عن تعريف آخر، إلا أنه ربما شورك في اسمه أو اعتقد ذلك، فخرج عن أن يكون معرفة، ويصير أمة كل واحد له مثل اسمه، ويجري حينئذٍ مجرى الأسماء الشائعة نحو رجل وفرس، فحينئذٍ يجترأ على إضافته وإدخال الألف واللام عليه كما يفعل ذلك في الأسماء الشائعة" ا. هـ. [198] أنشد جار الله الزمخشري هذا البيت في المفصل "رقم 7 بتحقيقنا" وعزاه إلى أبي النجم =

وكما قال الآخر: [199] وَجْدَنَا الوليد بْنَ اليزيد مباركًا ... شَدِيدًا بِأَعْبَاءِ الخِلَافَةِ كَاهِلُهْ وكما قال الآخر: [200] أَمَا وَدِمَاءٍ مَائِرَاتٍ تَخَالُهَا ... على قُنَّة العُزّى وبالنَّسْرِ عَنْدَمَا

_ = العجلي، وأنشده في اللسان "وب ر" وأنشده ابن يعيش في شرح المفصل وأقر عزوه إلى أبي النجم "ص51 و 320"، وأنشده ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 69 بتحققنا" من غير عزو، والأسير: أصله الذي يقع عند الحرب في يد عدوه، فعيل بمعنى مفعول، وأراد هنا الذي قيده حبها عن أن ينظر إلى غيرها وعنى به نفسه، والحراس: جمع حارس. والاستشهاد به في قوله "أم العمرو" حيث أدخل الألف واللام على العلم، والكلام فيه مثل الكلام في الشاهد السابق، وأنكر ابن منظور رواية "أم العمر" وقال "صواب الإنشاد يا ليت أم الغمر" ا. هـ أي بالغين معجمة. [199] هذا البيت من قصيدة لابن ميّادة واسمه الرماح بن أبرد، وميّادة: اسم أمّه يمدح فيها الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، وقد أنشده الزمخشري في المفصل "رقم 8 بتحقيقنا" وابن يعيش في شرحه "ص52" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 70 بتحقيقنا" وفي أوضح المسالك "رقم 19" والأشموني "رقم 35" ورضي الدين في باب توابع المنادى، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 328" والأعباء: جمع عبء -بكسر العين وسكون الباء- وهو ما يثقل عليك حمله أو يبهظك أداؤه، وأراد بأعباء الخلافة مصاعبها الجمة وتبعاتها الكثيرة التي يئود حملها القائم بها، ويروى "بأحناء الخلافة" والأحناء: جمع حنو -بكسر فسكون- وأحناء الأمور: جوانبها ونواحيها، وأطلقوا أحناء الأمور على ما تشابه منها وأشكل المخرج منه، والكاهل: اسم لما بين الكتفين، ويعبر بشدة الكاهل عن القوة. والاستشهاد بالبيت هنا في قوله "اليزيد" فإنه يعني يزيد بن عبد الملك والد ممدوحه، وقد أدخل أل على يزيد وهو علم، وذلك لأنه اعتقد فيه الشياع بسبب تعدد المسمى بهذا الاسم، وفي بني أمية قوم الممدوح عدة ممن سمي بيزيد [200] أنشد ابن منظور البيت الأول من هذه الأبيات "م ور" ونسبه لعبد الحق، ولم يزد على ذلك، وأنشده مرة أخرى "ع ن د م" من غير عزو، وأنشد ثلاثتها "أب ل" ونسبها لابن عبد الجن "تصحيف عبد الحق"، وأنشد ثالثها "ل ع ع" ونسبه إلى حميد بن ثور، وراجعت ديوان حميد فلم أجده في أصل قصيدته التي مطلعها. سل الربع أني يممت أم سالم ... وهل عادة للربع أن يتكلما ونبه الأستاذ الميمني على أن هذا البيت مما وجده في اللسان مما لا يوجد في أصل الديوان، وأنشد ابن يعيش ثاني هذه الأبيات "ص646" وفي رواية اللسان "أما ودماء لا تزال كأنها" وأنشدها كما هنا في "أب ل" ودماء مائرات: أي مائجات، يريد أنها كثيرة، وذلك لكثرة القتل، والقنة -بضم القاف وتشديد النون- أصلها أعلى الجبل، والعزى: اسم صنم، ونسر: اسم صنم أيضا، وفي التنزيل العزيز "ولا يغوث ويعوق ونسرا" وقد =

وما سَبَّحَ الرُّهْبَان في كلِّ بِيْعَةٍ ... أَبِيلَ الأَبِيلَينَ المسيحَ ابنَ مريمَا لقد ذاق منَّا عامرٌ يَوْمَ لَعْلَعٍ ... حسامًا إذا ما هُزّ بالكف صمَّمَا أراد "وبنسر" بدليل قوله تعالى: {وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} {نوح: 23] وكما قال الآخر: [201] ولقد جَنَيْتُكَ أكْمُؤًا وعَسَاقِلَا ... ولقد نَهَيْتُكَ عن بَنَات الأَوْبَرِ

_ = أدخل عليه الشاعر الألف واللام، ونسر: كان صنما لذي الكلاع بأرض حمير، ويغوث: كان لمذحج، ويعوق: لهمدان، وهي من أصنام قوم نوح عليه السلام، والعندم -بوزن جعفر- هو دم الأخوين، ويقال: هو دم الغزال بلحاء شجر الأرطى يطبخان جميعًا حتى ينعقد فتختضب به الجواري، وقال الأصمعي: هو صبغ زعم أهل البحرين أن جواريهم يختضبن به، والبيعة -بكسر الباء- متعبد النصارى، ووقع في اللسان "في كل هيكل" والهيكل: هو البيعة، والأبيل -بفتح الهمزة- رئيس النصارى، وقيل: هو الراهب، وقيل: هو صاحب الناقوس، ولعلع: اسم موضع فيما حكاه صاحب اللسان، وقال ياقوت: هو جبل كانت به وقعة لهم، أو هو ماء بالبادية معروف. والاستشهاد بهذه الأبيات في قوله و"بالنسر" حيث أدخل الألف واللام على العلم الخاص، للضرورة، والذي يدل على أن العلم "نسر" بدون الألف واللام قول العباس بن عبد المطلب، يمدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. بل نطفة تركب السفين وقد ... ألجم نسرًا وأهله الغرق قال ابن الأثير "يريد الصنم الذي كان يعبده قوم نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام" ا. هـ. وقد ورد في الكتاب الكريم اسم أصنام قوم نوح في الآية التي تلونا عليك وفيها "نسر" بدون ألف ولام، فتكون الألف واللام في هذا الشاهد زائدة. [201] أنشد ابن منظور هذا البيت "وب ر" وأسند روايته للأحمر والأصمعي، وهو من شواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 72" وأوضح المسالك "رقم 62" والأشموني "رقم 127" وابن عقيل "رقم 36" وجنيتك: أي جنيت لك، وهو نظير قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} والأكمؤ: جمع كمء -بوزن كلب وأكلب، وفلس وأفلس- وقد يجمع الكمء على كمأة، فيكون المفرد خاليًا من التاء والجمع مقرونًا بها، وهو عكس شجر وشجرة وكلم وكلمة ونظائرهما، وهما من نوادر اللغة، والعساقل: جمع عسقل -بوزن جعفر- وهو ضرب من الكمأة أبيض، وبنات أوبر: ضرب آخر من الكمأة مزغب على لون التراب، والاستشهاد بالبيت في قوله "بنات الأوبر" وذلك أن بنات أوبر علم على هذه الكمأة، وأصله بدون ألف ولام، وقد زاد الشاعر الألف واللام حين اضطر لإقامة وزن البيت، وهذا رأي كان الأصمعي يقوله، ويشبه "بنات الأوبر" بأم العمرو، في أن كلا منهما علم بدون الألف واللام، وأن الشاعر زاد الألف واللام اضطرارًا، وثمه رأي آخر كان الأصمعي يجوزه أيضا، قال: "وقد يجوز أن يكون أوبر نكرة فعرفه باللام، كما حكى سيبويه أن عرسًا من "ابن عرس" قد نكره بعضهم فقال: هذا ابن عرس مقبل" ا. هـ.

أراد "بنات أوبر" وكما قال الآخر: [202] وإني حُبِسْتُ اليوم والأمس قبلهُ ... ببابك حتى كادت الشمس تغرب أراد "وأمس" ولهذا تركه على جهته الأولى مكسورًا، وكما قال الآخر: [203] فإن الأولاء يَعْلَمُونَكَ مِنْهُمُ

_ [202] هذا البيت من كلام نصيب بن رباح، الأموي بالولاء، وقد أنشده ابن منظور "أم س" وعزاه إليه، واستشهد به ابن هشام في شرح شذور الذهب "رقم 44" والاستشهاد به في قوله "والأمس" حيث أدخل الألف واللام على أمس، مع أن المراد به اليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه، وهو في هذه الحالة علم، والعلم لا تدخله أل، لكنه لما اضطر أدخل عليه أل ليقيم وزن البيت، واعلم أن "أمس" إما أن يراد به يوم ما من الأيام السابقة، وإما أن يراد به خصوص اليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه، وعلى كل حال إما أن يجمع جمع التكسير أو يصغر أو تدخله الألف واللام وإما ألا يكون شيئًا من ذلك، بل يكون مفردًا مكبرًا غير مقترن بأل، فإن أريد به يوم ما من الأيام الماضية أو جمع جمع تكسير أو صغّر أو دخلته أل المعرفة فهو معرب، وإن أريد به اليوم الذي قبل يومك الحاضر ولم يجمع ولم يصغر ولم تدخل عليه أل المعرفة فللعرب فيه لغتان: الأولى بناؤه على الكسر وهي لغة أهل الحجاز، والثانية إعرابه إعراب ما لا ينصرف بالضمة من غير تنوين في حالة الرفع، وبالفتحة من غير تنوين في حالتيّ الجر والنصب، وقال الله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} فالأمس في هذه الآية الكريمة لا يراد به خصوص اليوم السابق على يومك الذي أنت فيه فهو نكرة، وهو معرب على اللغتين جميعًا، وهو مجرور بالكسر لاقترانه بأل، وإذا علمت ذلك فاعلم أن "الأمس" في بيت نصيب يروى بالنصب وبالجر، أما رواية النصب فلا إشكال فيها؛ لأنه يكون حينئذ ظرفًا معطوفًا على "اليوم" والمعطوف على المنصوب منصوب، وأما رواية الجر فإنها تحتاج إلى نظر؛ فمن العلماء من قال: هو مبني على الكسر في محل نصب، واضطر إلى أن يدعي أن أل الداخلة عليه ليست أل المعرفة، ولكنها زائدة مثل زيادتها في "بنات الأوبر" وفي "أم العمرو" وفي "طبت النفس" وهذا هو الذي يجري عليه كلام المؤلف في هذا الموضع، وقال قوم: لا، بل هذه الألف واللام معرفة، والأمس معطوف على اليوم، والعطوف على المنصوب منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة التوهم، وذلك أن الشاعر بعد أن قال "وقفت اليوم" توهم أنه أدخل على اليوم "في" التي ينتصب الظرف على معناها، فجاء بالمعطوف مجرورًا على هذا التوهم، وفي لسان العرب "أم س" بحث لابأس به في كلمة "أمس" وموضع بنائها ومواضع إعرابها. [203] أنشد ابن منظور هذا الشاهد صدر بيت ولم يذكر تتمته "باب الألف اللينة 20/ 321" و "الأولاء" ههنا اسم إشارة، وأصلها "أولاء" فزاد الألف واللام، ولو لم يزدها لم يتأثر البيت، فإن الوزن مستقيم بذكرها وبحذفها، ولكنه مع هذا لا يخلو عن الضرورة، وذلك لأن أسماء الإشارة معرفة من غير حاجة إلى الألف واللام، وكأنه قال: فإن هؤلاء يعلمونك =

[142] أراد "أولاء" فكما أن زيادة الألف واللام في هذه المواضع لا تدل على جواز زيادتها في اختيار الكلام فلا يجوز أن يقال في زيد الزيد وفي عمرو العمرو؛ لمجيئه شاذًّا، فكذلك ههنا، وأما بُعْدُه عن القياس فقد بَيَّنَّاه في دليلنا، والله أعلم.

_ = كثير، بل هي مما لازمتها من حين وضعها، ومن ذلك قول الشاعر: فإن الألى بالطف من آل هاشم ... تآسوا فسنوا للكرام التآسيا ومن قول خلف بن حازم: إلى النفر البيض الأولاء كأنهم ... صفائح يوم الروع أخلصها الصقل ومن ذلك قول عبيد بن الأبرص غير أنه حذف الصلة للعلم بها: نحن الأولى فاجمع جمو ... عك ثم وجههم إلينا أي نحن الذين عرفوا بالشجاعة والإقدام وعدم المبالاة بالعدو، فزيادة "أل" في "الأولاء" الموصولة زيادة لازمة لا تفارقها، سواء أكانت مقصورة كما في البيت الأول أم كانت ممدودة كما في البيتين بعده، أما "أولاء" الإشارية فأصل استعمالها أن تكون مجردة من أل، وزيادة أل فيها مما ألجأت إليه الضرورة، فاعرف هذا وتنبه له والله يرشدك.

مسألة القول في إضافة العدد المركب إلى مثله

مسألة القول في إضافة العدد المركب إلى مثله ... 44- مسألة: [القول في إضافة العد المركب إلى مثله] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز أن يقال "ثَالِثَ عَشَرَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ" وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز أن يقال "ثَالِثَ عَشَرَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ" أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: أجمعنا على أنه لا يمكن أن يُبْنَى من لفظ ثلاثة عشر فاعل، وإنما يمكن أن يبنى من لفظ أحدهما، وهو العدد الأول الذي هو الثلاثة، ولا يمكن أن يبنى من لفظ العدد الثاني -وهو العشر- فَذِكْرُ العشر مع ثالث لا وجه له. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن الأصل أن يقال "ثالث عشر ثلاثة عشر" وقد جاء عن العرب، فإذا ساعده النقل والقياس -وهو الأصل- وجب أن يكون جائزًا. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنه لا يمكن أن يبنى منهما فاعل، وإنما يمكن أن يبنى من أحدهما" قلنا: هذا هو الحجة عليكم؛ فإنه لما لم يمكن أن يبنى منهما وبني من أحدهما احتيج إلى ذكر الآخر؛ ليتميز ما هو واحد ثلاثة مما هو واحد ثلاثة عشر، فأتى باللفظ كله، والله أعلم.

_ 1 انظر في هذه المسألة: تصريح الشيخ خالد "2/ 357" وشرح الأشموني مع حاشية الصبان "4/ 64 بولاق".

مسألة المنادى المفرد العلم، معرب أو مبني

45- مسألة: [المنادى المفرد العلم؛ معرب أو مبنيّ؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن الاسم المنادى المعرف المفرد معرب مرفوع بغير تنوين. وذهب الفَرَّاء من الكوفيين إلى أنه مبنيّ على الضم، وليس بفاعل ولا مفعول. وذهب البصريون إلى أنه مبني على الضم، وموضعه النصب؛ لأنه مفعول. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنا وجدناه لا مُعْرِبَ له يصحبه من رافع ولا ناصب ولا خافض، ووجدناه مفعول المعنى؛ فلم نخفضه لئلا يشبه المضاف، ولم ننصبه لئلا يشبه ما لا ينصرف؛ فرفعناه بغير تنوين ليكون بينه وبين ما هو مرفوع برافع صحيح فَرْق، فأما المضاف فنصبناه لأنا وجدنا أكثر الكلام منصوبًا؛ فحملناه على وجه من النصب لأنه أكثر استعمالًا من غيره. وأما الفَرَّاء فتمسّك بأن قال: الأصل في النداء أن يقال "يا زيداه"، كالندبة؛ فيكون الاسم بين صوتين مَدِيدَين وهما "يا" في أول الاسم، والألف في آخره والاسم فيه ليس بفاعل ولا مفعول ولا مضاف إليه، فلما كثر في كلامهم استغنوا بالصوت الأول وهو "يا" في أوله عن الثاني وهو الألف في آخره، فحذفوها وبَنَوْا آخر الاسم على الضم تشبيهًا بقَبْلُ وبَعْدُ؛ لأن الألف لما حذفت وهي مرادة معه، والاسم كالمضاف إليها إذا كان متعلقًا بها؛ أَشْبَهَ آخرُهُ آخِرَ ما حذف منه المضاف إليه وهو مراد معه نحو "جئتُ من قبلُ ومن بعدُ" أي من قبل ذلك ومن بعد ذلك، قال الله تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4] أي من قبل ذلك ومن بعد ذلك؛ فكذلك ههنا. قالوا: ولا يجوز أن يقال "لو كانت الألف في آخر المنادى بمنزلة المضاف

_ 1 انظر في هذه المسالة: أسرار العربية للمؤلف "ص90 ليدن" وشرح المفصل لابن يعيش "ص159 ليبزج" وشرح رضي الدين على كافية ابن الحاجب "1/ 120" وشرح الأشموني مع حاشية الصبان "3/ 119 بولاق" وتصريح الشيخ خالد "2/ 208".

إليه لوجب أن تسقط نون الجمع معها في نحو "واقِنَّسْرُونَاه" لأنا نقول: نحن لا نجوِّز نُدْبَة الجمع الذي على هجاءين؛ فلا يجوز عندنا ندبة "قنسرون" بحذف النون ولا إثباتها كما لا يجوز تثنيته ولا جمعه. قالوا: ولا يجوز أيضا أن يقال "إن هذا يبطل بالمنادى المضاف، نحو: يا عَبْدَ عمرو؛ فإنه يفتقر في باب الصوت إلى ما يفتقر إليه المفرد؛ فكان ينبغي أن يقال: يا عبدُ عمرو -بالضم- لأن أصله: يا عبد عمراه" لأنا نقول: إنما لم يقدر ذلك في المنادى المضاف لأجل طوله، بخلاف المفرد، فَبَانَ الفرقُ بينهما. وأما المضاف فإنما وجب أن يكون مفتوحًا لأن الاسم الثاني حّل محلّ ألف الندبة في قولك "يا زيداه" والدال في "يا زيداه" مفتوحة، فبقيت الفتحة على ما كانت في "يا عبد عمرو" كما كانت في "يا زَيْدَاهُ" والمضموم ههنا بمنزلة المنصوب، والمنصوب بمنزلة المندوب، ولا يقال إنه نُصِبَ بفعل ولا أداة. قال: والذي يدل على أن المفرد بمنزلة المضاف امتناع دخول الألف واللام عليه، والذي يدل على أنه ليس منصوبًا بفعل امتناع الحال أن تقع معه؛ فلا يجوز أن يقال "يازيدُ راكبًا"، والذي يدل على أنه بمنزلة المضاف وإن أفرد حملُكَ نعتَهُ على النصب نحو "يا زيدُ الظريفَ" كما يحمل نعتهُ على الرفع نحو: "يا زيدُ الظريفُ". وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه مبنيّ وإن كان يجب في الأصل أن يكون معربًا لأنه أَشْبَهَ كاف الخطاب، وكاف الخطاب مبنيّة؛ فكذلك ما أشبهها. ووجه الشبه بينهما من ثلاثة أوجه: الخطاب، والتعريف، والإفراد، فلما أشبه كاف الخطاب من هذه الأوجه وجب أن يكون مبنيًّا كم أن كاف الخطاب مبنية. ومنهم من تمسك بأن قال: إنما وجب أن يكون مبنيًّا لأنه وقع موقع اسم الخطاب؛ لأن الأصل في "يا زيد" أن تقول: يا إيَّاكَ، أو يا أنت؛ لأن المنادى لما كان مخاطبًا كان ينبغي أن يستغنى عن ذكر اسمه ويؤتى باسم الخطاب فيقال: "يا إياك" أو "يا أنت" كما قال الشاعر: [204] يا مُرَّ يا ابْنَ واقعٍ يا أَنْتَا ... أنت الذي طَلّقْتَ عامَ جُعْتَا

_ [204] هذه خمسة أبيات من الرجز المشطور، وهي لسالم بن دارة يقولها في مر بن واقع "انظر شرح التبريزي على الحماسة بتحقيقنا" وقد استشهد بالبيتين الأول والثاني رضي الدين في باب النداء من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 289" وابن يعيش في شرح =

حتى إذا اصْطَبَحْتَ واغْتَبَقْتَا ... أقبلت معتادًا لما تَرَكْتَا قد أحسن الله وقد أَسَأْتَا فلما وقع الاسم المنادى موقع اسم الخطاب وجب أن يكون مبنيًّا كما أن اسم الخطاب مبنيّ، وإنما وجب أن يكون مبنيًّا على الضم لوجهين: أحدهما: أنه لا يخلو: إما أن يبنى على الفتح، أو الكسر، أو الضم، بطل أن يبنى على الفتح لأنه كان يلتبس بما لا ينصرف، وبطل أن يبنى على الكسر لأنه كان يلتبس بالمضاف إلى النفس، وإذا بطل أن يبنى على الفتح وأن يبنى على الكسر تعين أن يبنى على الضم. والوجه الثاني: أنه بني على الضم فرقًا بينه وبين المضاف؛ لأنه إن كان مضافًا إلى النفس كان مكسورًا، وإن كان مضافًا إلى غيرك كان منصوبًا؛ فبني على الضم؛ لئلا يلتبس بالمضاف؛ لأنه لا يدخل المضاف. وإنما قلنا "إنه في موضع نصب" لأنه مفعول؛ لأن التقدير في قولك "يا زيدُ" أدعو زيدًا، أو أنادي زيدًا، فلما قامت "يا" مقام أدعو عملت عمله، والذي يدل على أنها قامت مقامه من وجهين؛ أحدهما: أنها تدخلها الإمالة نحو "يا"

_ = المفصل "ص57 و 160 ليبزج" والأشموني "رقم 866" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 431" والاستشهاد به ههنا في قوله "يا مر يا بن واقع" وفي قوله "يا أنتا" فإن النداء الثاني -وهو قوله "يا أنتا"- يدل على النداء الأول -وهو قوله"يامر يابن واقع"- في معناه، فيكون الاسم العلم المنادى واقعًا موقع الضمير، وقد علم أن الضمير مبني، فيكون الواقع موقعه مبنيًّا أيضًا، قال ابن يعيش "ص160" "فإن قيل: فلم بني، وحق الأسماء أن تكون معربة؟ فالجواب أنه إنما بني لوقوعه موقع غير المتمكن، ألا ترى أنه وقع موقع المضمر، والمتمكنة من الأسماء إنما جعلت للغيبة؛ فلا تقول قام زيد وأنت تحدثه عن نفسه، إنما إذا أردت أن تحدثه عن نفسه فتأتي بضميره فتقول: قمت، والنداء حال خطاب، والمنادى مخاطب، فالقياس في قولك يا يزيد أن تقول: يا أنت، والدليل على ذلك أن من العرب من ينادي صاحبه إذا كان مقبلًا عليه ومما لا يلتبس ندؤاه بالمكنى، فيناديه بالمكنى على الأصل فيقول: يا أنت، قال الشاعر: يا مر يا ابن واقع يا أنتا غير أن المنادى قد يكون بعيدًا منك أو غافلًا، فإذا ناديته بأنت أو إياك لم يعلم أنك تخاطبه أو تخاطب غيره؛ فجئت بالاسم الذي يخصه دون غيره وهو زيد، فوقع ذلك الاسم موقع المكنى، فتبنيه لما صار إليه من مشاركة المكنى الذي يجب بناؤه" ا. هـ. واعلم أن العرب إذا استعملت الضمير في النداء استعملته على وجهين: أحدهما أن يأتوا به ضميرًا من ضمائر النصب فيقولوا "يا إياك" والثاني أن يأتوا به ضميرًا من ضمائر الرفع فيقولوا "يا أنت" كما في البيت المستشهد به.

زيد، ويا عمرو" والإمالة إنما تكون في الاسم والفعل، دون الحرف، فلما جازت فيها الإمالة دلَّ على أنها قد قامت مقام الفعل، والوجه الثاني: أن لام الجر تتعلق بها نحو "يا لزيد، ويا لعمرو" فإن هذه اللام لام الاستغاثة، وهي حرف جر؛ فلو لم تكن "يا" قد قامت مقام الفعل وإلا لما جاز أن يتعلق بها حرف الجر؛ لأن الحرف لا يتعلق بالحرف، فدلَّ على أنها قد قامت مقام الفعل، ولهذا زعم بعض النحويين أن فيها ضميًرا كالفعل. وذهب بعض البصريين إلى أن "يا" لم تَقُمْ مَقَامَ أدعو، وأن العامل في الاسم المنادى أدعو المقدر، دون يا، والذي عليه الأكثرون هو الأول. فإذا ثَبَتَ بهذا أنه منصوب، إلا أنهم بنوه على الضم لما ذكرنا. والذي يدل على أنه في موضع نصب أنك تقول في وصفه "يا زيدُ الظريفَ" بالنصب حملًا على الموضع، كما تقول "يا زيدُ الظريفُ" بالرفع حملًا على اللفظ، كما تقول "مررت بزيدٍ الظريفِ والظريفَ" فالجرّ على اللفظ، والنصب على الموضع، فكذلك ههنا: نُصِبَ لأن المنادى المفرد في موضع نصب لأنه مفعول، وهذا هو الأصل في كل منادى، ولهذا لمَّا لم يعرض للمضاف والمشبه بالمضاف ما يوجب بناءهما كالمفرد بَقِيَا على أصلهما في النصب. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين، أما قولهم "إن المنادى لا مُعْرِبَ له يصحبه" قلنا: لا نسلم، وقد بيَّنَّا ذلك في دليلنا. وقولهم "إنَّا رفعناه" قلنا: وكيف رفعتموه ولا رافع له؟ وهل لذلك قَطٌّ نظيرٌ في العربية؟ وأين يوجد فيها مرفوع بلا رافع أو منصوب بلا ناصب أو مخفوض بلا خافض؟ وهل ذلك إلا تحكم مَحْضٌ لا يستند إلى دليل؟! ثم نقول: ولم رفعتموه بلا تنوين؟ قولهم "ليكون بينه وبين ما هو مرفوع برافع فرق" قلنا: هذا باطل؛ فإن فيما يرفع بغير تنوين ما هو صحيح الإعراب، وذلك الاسم الذي لا ينصرف. وقولهم "إنَّا حملنا المضاف على لفظ المنصوب لكثرته في الكلام" قلنا: هذا يبطل بالمفرد؛ فإنه كان ينبغي أن يحمل على النصب لكثرته في الكلام، فلما لم يحمل المفرد على النصب دلَّ على أنه ليس لهذا التعليل أصل. وأما قول الفراء "إن الأصل في النداء أن يقال يا زيداه كالندبة" فمجرد دعوى يفتقر إلى دليل. وقوله "إن الألف المزيدة في آخره بمنزلة المضاف إليه، فلما حذفوها بَنَوْهُ على الضم، كما إذا حذف المضاف إليه من قبل ومن بعدُ" قلنا: هذا يبطل

بالمنادى المضاف، نحو "يا عبد عمرو" فإنه يفتقر في باب الصوت إلى ما يفتقر إليه المفرد؛ فكان يجب أن يقال "يا عبد عمرو" بالضم، لأن أصله يا عبد عمرواه. قوله "إنما لم يقدر ذلك في المنادى المضاف لطوله" قلنا: هذا باطل؛ لأن الطول لا يمنع تقرير الكلمة على حقها من تقدير الصوت في أوله وآخره؛ لأنه لا فرق في باب النداء بين طويل الأسماء وقصيرها، ألا ترى أنك لو ناديت رجلًا اسمه قَرَعَبْلَانة أو هَزَنْبَرَان أو أَشْنَانْدَانة وما أشبه ذلك لوجب فيه الضم، وإن كان أكثر حروفًا من "يا عبد عمرو" فدلَّ على بطلان ما ذهب إليه. وأما جعله نصب المضاف مبنيًّا على فتح ما قبل الألف المزيدة في آخر المنادى فباطل أيضًا بما إذا قال "يا خيرًا من زيد" إذا كان مفردًا مقصودًا له، فإنه لا يخلو: إما أن يحمل نصب خير على الألف التي تدخل للصوت الرفيع، أو على غيره، فإن قال "على الألف" فكان ينبغي أن نقول "يا خيرًا من1 زيد" وهذا لا يقوله أحد، وإذا لم تدخله الألف وقد نُصِبَ دلَّ على أنه لم يحمل على الألف، وأنه محمول على غيره. والذي يدلُّ على بطلان ما ذهب إليه من جعله الألف في آخر المنادى بمنزلة المضاف إليه أنه لو كان كذلك لوجب أن تسقط نون الجمع معها في نحو: "واقنسروناه" قولهم "نحن لا نجوِّز ندبة الجمع الذي على هجاءين فلا يجوز عندنا ندبة قنسرون بحذف النون ولا إثباتها" قلنا: هذا يلزمكم إذا جعلتم مكان الواو ياء، فإنه يجوز عندكم أن تقولوا: واقنسريناه، وإن امتنع عندكم واقنسروناه، وكلاهما لفظ الجمع. وأما قوله "إن المفرد بمنزلة المضاف؛ بدليل امتناع دخول الألف واللام عليه" قلنا: لا نسلم أن امتناع دخول الألف واللام عليه لما ذكرت، وإنما امتنع دخول الألف واللام عليه لأن الإشارة إليه والإقبال عليه أَغْنَتْ عن دخول الألف واللام عليه. وأما قوله "الذي يدل على أنه ليس منصوبًا بفعل امتناعُ الحال أن تقع معه" قلنا: لا نسلم أن امتناع الحال أن تقع معه إنما كان لأجل العامل، ولكن لتناقض معنى الكلام فيه، وذلك لأنا لو قلنا "يا زيدُ راكبًا" على معنى الحال لكان التقدير أن النداء في حال الركوب، وإن لم يكن راكبًا فلا نداء، وهذا مستحيل؛ لأن النداء قد وقع بقوله "يا زيد" فإن لم يكن راكبًا لم يخرجه ذلك عن أن يكون قد

_ 1 أي من غير تنوين "خير".

نادى زيدًا بقوله: "يا زيد" وليس ذلك في سائر الكلام، ألا ترى أنك لو قلت: "اضرب زيدًا راكبًا" فلم تجده راكبا لم يجز أن تضربه، على أنه قد حكى أبو بكر بن السراج عن أبي العباس المُبَرِّد أنه قال: قلت لأبي عثمان المازني: ما أنكرت من الحال للمَدْعُوِّ؟ قال: لم أنكر منه شيئًا، إلا أن العرب لم تَدْعُ على شريطةٍ؛ فإنهم لا يقولون "يا زيد راكبًا" أي: ندعوك في هذه الحالة ونمسك عن دعائك ماشيًا؛ لأنه إذا قال "يا زيد" فقد وقع الدعاء على كل حال، قلت: فإن احتاج إليه راكبا ولم يحتج إليه في غير هذه الحالة، فقال: ألست تقول يا زيد دعاء حقًّا؟ فقلت: بلى، فقال: على ما تحمل المصدر؟ قلت: لأن قولي يا زيد كقولي أدعو زيدًا؛ فكأني قلت: أدعو دعاء حقًّا، فقال: لا أرى بأسًا بأن تقول على هذا: يا زيد راكبًا، فالزم القياس، قال أبو العباس: وجدت أنا تصديقًا لهذا قول النابغة: [205] قالت بَنُو عامر: خَالُوا بني أسد ... يا بُؤْسَ للجهل ضَرَّارًا لأقوام

_ [205] هذا البيت للنابغة الذبياني كما قال المؤلف، وكان بنو عامر قد طلبوا إلى قوم النابغة أن يقاطعوا بني أسد، فجهلهم النابغة في ذلك، والبيت من شواهد سيبويه "1/ 346" ورضي الدين في أول باب المنادى من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 285" ومعنى "خالوا بني أسد" أي تاركوهم وقاطعوهم، وحرفيته خلوا بينهم وبين أنفسهم ولا تكونوا معهم، ومنه قالوا للمرأة المطلقة "خلية" وقالوا "خليت النبت" أي قطعته، وقوله "يا بؤس للجهل" معناه ما أبأس الجهل على صاحبه وأضره له، والاستشهاد بالبيت ههنا في قوله "يا بؤس للجهل ضرارًا" فإن هذه الكلمة حال، وقد جعله المُبَرِّد حالًا من المضاف الذي هو المنادى، ومن المعلوم أن العامل في الحال هو العامل في صاحبها؛ فيكون العامل في هذه الحال هو العامل في المنادى -وهو حرف النداء النائب مناب أدعو- وكأنه قال: أدعو بؤس الجهل أدعوه حال كونه ضرارًا لأقوام، ومن العلماء من جعل هذه الحال من المضاف إليه الذي هو الجهل؛ فيكون العامل فيه هو المضاف لأنه هو العامل في صاحبه، ومن هؤلاء رضي الدين في شرح الكافية والأعلم الشنتمري، قال رضي الدين "1/ 120": "واعلم أنه قد ينصب عامل المنادى المصدر اتفاقًا نحو: يا زيد دعاء حقا، وأجاز المُبَرِّد نصبه للحال نحو: يا زيد قائما، إذا ناديته في حال قيامه، قال: ومنه قوله: يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام: والظاهر أن عامله بؤس الذي بمعنى الشدة، وهو مضاف إلى صاحب الحال -أعني الجهل- تقديرًا؛ لزيادة اللام؛ فهو مثل: أعجبني مجيء زيد راكبًا" ا. هـ. فأنت ترى أنه بعد أن نقل مذهب المُبَرِّد استظهر غيره وهو الذي حكيناه عنه، وقال الأعلم "ونصب ضرارًا على الحال من الجهل" ا. هـ، والاستشهاد الثاني بهذه الجملة في زيادة اللام وإقحامها بين المضاف الذي هو بؤس والمضاف إليه الذي هو الجهل، قال سيبويه "ومثل هذا قول الشاعر إذا اضطر: يا بؤس للجهل ضرارًا لأقوام حملوه على أن اللام لو لم تجئ لقلت: يا بؤس الجهل" يريد أن الشاعر مع مجيء اللام =

وقوله "والذي يدل على أنه بمنزلة المضاف وإن أفرد حملُكَ نعتَه على النصب نحو يا يزيد الظريفَ كما يحمل نعته على الرفع نحو يا زيد الظريفُ" قلنا: لا نسلِّم أن نصب الوصف لأن المفرد بمنزلَةِ المضاف، وإنما نصبه لأن الموصوف وإن كان مبنيًّا على الضم فهو في موضع نصب لأنه مفعول؛ فَنُصِبَ وصفُه حملًا على الموضع كما رفع حملًا على اللفظ، وحَمْلُ الوصف والعطف على الموضع جائزٌ في كلامهم كما يحمل على اللفظ؛ ولهذا يجوز بالإجماع "ما جاءني من أحد غيرُك" بالرفع، كما يجوز بالجرّ، قال الله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] بالرفع والجر؛ فالرفع على الموضع، والجر على اللفظ. قال الشاعر: [145] حتى تَهَجَّرَ في الرَّوَاحِ وهَاجَهَا ... طَلَبَ المُعَقِّبِ حَقَّه المَظْلُومُ فرفع "المظلوم" وهو صفة للمجرور الذي هو "المعقب" حملًا على الموضع؛ لأنه في موضع رفع بأنه فاعل، إلا أنه لما أضيف المصدر إليه دخله الجرّ للإضافة، وكذلك يجوز أيضًا الحملُ على الموضع في العطف نحو "مَرَرْتُ بزيد وعمرًا" كما يجوز "وعمروٍ" قال الشاعر: [206] فلستُ بِذِي نَيْرَبٍ في الصَّدِيقِ ... ومَنَّاعَ خَيْرٍ وسَبَّابَهَا ولا مَنْ إذا كان في جَانِبٍ ... أَضَاعَ العَشِيرَةَ فَاغْتَابَهَا

_ = ترك التنوين؛ لأنه قدر اللام غير موجودة وأن الاسم المضاف إلى ما بعده، وقال الأعلم "الشاهد فيه إقحام اللام بين المضاف والمضاف إليه في وقوله يا بؤس للجهل، توكيدًا للإضافة" ا. هـ. [206] هذان البيتان من كلام عدي بن خزاعي، وقد رواهما صاحب الصحاح "ن ر ب" كما رواهما المؤلف، ولكن ابن منظور نقل عن ابن بري أن صواب الإنشاد هكذا: ولست بذي نيرب في الكلام ... ومناع قومي وسبابها ولا من إذا كان في معشر ... أضاع العشيرة واغتابها ولكن أطاوع ساداتها ... ولا أعلم الناس ألقابها والنيرب -بوزن جعفر وكوثر- الشر والنميمة، وتقول "نيرب الرجل" -مثل بيطر مما ألحق بدحرج بزيادة الياء- تريد سعى ونم، وتقول "نيرب الكلام" تريد خلطه، ورجل نيرب، ورجل ذو نيرب؛ أي ذو شر ونميمة، ومحل الاستشهاد قوله "ومناع خير" على ما رواه المؤلف؛ فإن الرواية في هذه الكلمة وردت بنصب "مناع" المعطوف على قوله "بذي نيرب" الذي هو خبر ليس مزيدًا فيه الباء، وإنما أتى الشاعر بالمعطوف منصوبًا لأن موضع المعطوف عليه النصب لكونه خبر ليس، وهذه الباء الداخلة عليه زائدة لا عمل لها إلا في اللفظ.

وقال الآخر وهو عُقَيبة الأسدي: [207] مُعَاوِيَ إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ ... فَلَسْنَا بَالجِبَالِ ولا الحَدِيدا فنصب "الحديد" حملًا على موضع "بالجبال" لأن موضعها النصبُ بأنها خبر ليس، ومن زعم أن الرواية "ولا الحديدِ" بالخفض فقد أخطأ؛ لأن البيت الذي بعده: أَدبرُوهَا بني حربٍ عليكم ... ولا تَرْمُوا بِهَا الغَرَضَ البَعِيدَا والرويّ المخفوض لا يكون مع الرويّ المنصوب في قصيدة واحدة؛ وقال العجاج: [208] كشحًا طَوَى من بَلَدٍ مُخْتَارًا ... مِنْ يَأْسِهِ اليَائِسِ أو حِذَارَا

_ [207] هذا البيت والبيت الذي رواه المؤلف بعد قليل على أنه تالٍ لهذا البيت لتبيين قافية الكلمة وأنها منصوبة، هما من كلام لعقيبة بن هبيرة الأسدي يقوله لمعاوية بن أبي سفيان يشكو إليه جور عماله، وهما من شواهد سيبويه "1/ 34 و 352 و 375 و 448" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 740" ورضي الدين في أثناء باب توابع المنادى من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 343" واعلم أولًا أن قصيدة عقيبة بن هبيرة الأسدي رويها مجرور، وهي تروى هكذا: معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا أكلتم أرضنا فجرزتموها ... فهل من قائم أو من حصيد أتطمع في الخلود إذا هلكنا ... وليس لنا ولا لك من خلود؟ وقد روى سيبويه البيتين اللذين رواهما المؤلف بالنصب، وقال الأعلم "وقد رد على سيبويه رواية البيت بالنصب؛ لأن البيت من قصيدة مجرورة معروفة، وبعده ما يدل على ذلك، وهو قوله: أكلتم أرضنا فجرزتموها البيت وسيبويه غير متهم فيما نقله رواية عن العرب، ويجوز أن يكون البيت من قصيدة منصوبة غير هذه المعروفة، أو يكون الذي أنشده ردّه إلى لغته فقبله منه سيبويه، فيكون الاحتجاج بلغة المنشد، لا بقول الشاعر" ا. هـ كلامه، ومنه يتبين أن الذي كان في نسخة كتاب سيبويه التي كانت بيد الأعلم بيت واحد؛ فالظاهر أن نقلة كتاب سيبويه أضافوا البيت الثاني ليظهر أن ثمة قصيدة بالنصب وأن البيت من هذه القصيدة، ومحل الاستشهاد قوله "ولا الحديدا" حيث نصب المعطوف نظرًا إلى موضع المعطوف عليه، قال سيبويه "ومما جاء من الشعر في الإجراء على الموضع قول عقيبة الأسدي، وأنشد البيتين" ا. هـ وقال الأعلم "استشهد به على جواز المعطوف على موضع الباء وما عملت فيه؛ لأن معنى لسنا بالجبال ولسنا الجبال واحد" ا. هـ. [208] الكشح -بفتح الكاف وسكون الشين- ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف وهو موضع السيف من المتقلد، ويقال "طوى فلان كشحه على الأمر" إذا استمر ودام عليه، ويقال =

وقال الآخر: [209] فَإِنْ لم تَجِدْ من دون عَدَنَانَ والدًا ... ودون مَعَدٍّ فَلْتَزَعْكَ العَوَاذِلُ وقال الآخر أيضًا: [210] أَلَا حَيَّ نَدْمَانِي عُمَيْرَ بْنَ عَامِرٍ ... إذا ما تَلَاقَيْنَا مِنَ اليَوْمِ أو غَدَا

_ = "طوى كشحه عنا" إذا ذهب وقطع أواصر الرحم قال الشاعر: طوي كشحًا خليلك والجناحا ... لبين منك، ثم غدا صراحا ويقال "طوى فلان كشحًا على ضغن" إذا عاداك وفاسدك، قال زهير: وكان طوى كشحًا على مستكنة ... فلا هو أبداها ولم يتجمجم محل الاستشهاد هنا قوله "أو حذرا" حيث عطف هذا المنصوب على قوله "يأسة اليائس" المجرور لكون محل هذا المجرور النصب لكونه مفعولًا لأجله، وقد علمت أن المفعول لأجله يجوز جره بحرف جر دالٍ على التعليل ولو استوفى شروط النصب، ألا ترى أنه لو لم يأتِ بمن لكان يقول: يأسة اليائس أو حذارًا، فينصب المعطوف والمعطوف عليه جميعًا؟ وقد ذكرنا لك جملة من الشواهد للعطف على المحل تجري في أبواب مختلفة في شرح الشاهد رقم 116 فارجع إليها إن شئت. [209] هذا البيت من كلام لبيد بن ربيعة العامري، وقد استشهد به سيبويه "1/ 34" ورضي الدين في أثناء باب توابع المنادى، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 339" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 733" وانظر شرح شواهد المغني للسيوطي "ص55" ومحل الاستشهاد قوله "ودون معد" حيث عطف "دون" هذه المنصوبة على "دون" السابقة المجرورة؛ لكون محل الأولى المجرورة هو النصب؛ فإن المجرور بحرف الجر مفعول به في المعنى، ألا ترى أن العامل هنا وهو قوله "تجد" يتعدى إلى ثاني مفعوليه بنفسه تارة وبحرف الجر تارة أخرى، قال الأعلم: "حمل دون الآخرة على موضع الأولى لأن معنى لم تجد من دون عدنان ولم تجد دون عدنان واحد" ا. هـ. وقال ابن هشام في المغني "ص473 بتحقيقنا": "وللعطف على المحل ثلاثة شروط: الأول أماكن ظهوره في الفصيح، ألا ترى أنه يجوز في ليس زيد بقائم وما جاءني من امرأة أن تسقط الباء فتنصب ومن فترفع؛ فعلى هذا لا يجوز: مررت بزيد وعمرًا، خلافًا لابن جني؛ لأنه لا يجوز في الفصيح: مررت زيدًا، ولا تختص مراعاة الموضع بأن يكون العامل في اللفظ زائدًا كما مثلنا، بدليل قوله: "فإن لم تجد من دون عدنان والدًا" البيت وأجاز الفارسي في قوله تعالى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أن يكون {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} عطفًا على محل "هذه" لأنه محل النصب" ا. هـ المقصود منه بتصرف يسير جدا. [210] دمان -ومثله النديم- الذي يجالسك ويشاربك، وقال الشاعر: وندمان يزيد الكأس طيبا ... سقيت وقد تغورت النجوم والاستشهاد بالبيت في قوله "أو غدا" حيث جاء به منصوبًا تبعًا لمحل "اليوم" الذي هو المعطوف عليه؛ على مثال ما قلنا في شرح الشواهد السابقة، ومن العلماء من خرج هذا =

فنصب "غدًا" حملًا على موضع "من اليوم" وموضعها نصب. والشواهد على الحمل على الموضع في الوصف والعطف أكثر من أن تُحْصَى وأوفر من أن تُستقصى، والله أعلم.

_ = البيت على أن "من" في قوله "من اليوم" زائدة؛ فيكون "اليوم" منصوبًا على الظرفية، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وسيذكر المؤلف هذا التخريج في آخر المسألة 54.

مسألة القول في نداء الاسم المحلى بأل

46- مسألة: [القول في نداء الاسم المحلَّى بأل] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز نداء ما فيه الألف واللام نحو "يا الرجل ويا الغلام" وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه جائز أنه قد جاء ذلك في كلامهم، قال الشاعر: [211] فَيَا الغُلَامَان اللّذَانِ فَرَّا ... إيَّاكُمَا أن تَكْسِبَانِي شَرًّا

_ [211] هذان بيتان من الرجز المشطور، وقد استشهد بهما ابن يعيش في شرح المفصل "ص172" ورضي الدين في أثناء باب توابع المنادى من شرح الكافية "1/ 132" وشرحهما البغدادي في الخزانة "1/ 358 بولاق" والأشموني "رقم 879" وابن عقيل "رقم 309" وقوله "إياكما أن تكسباني شرا" روى في مكانه "إياكما أن تعقبانا شرا" وهو تحذير، وتقديره: احذرا من أن تكسباني شرا، ويجوز في حرف المضارعة في "تكسباني" الفتح على أنه مضارع كسب الثلاثي والضم على أنه مضارع أكسب، وكل أهل اللغة يجيزون أن تقول "كسبت زيدًا مالًا، أو علمًا" إلا ابن الأعرابي فإنه كان يوجب أن تقول "أكسبت زيدًا مالًا" بالهمز. ومحل الاستشهاد قوله "فيا الغلامان" حيث جمع بين حرف النداء وأل، والبصريون يقررون أن الجمع بين حرف النداء وأل جائز في موضعين: أحدهما في نداء اسم الله تعالى في نحو قولك "يا ألله" وثانيهما فيما تحكيه من الجمل نحو أن تسمي رجلًا "الرجل منطلق"، وفيما عدا هذين لا يجوز الجمع بين حرف النداء وأل في الاختيار، وأما الكوفيون فقد أجازوا ذلك اعتمادًا على ما ورد منه في نحو البيت المستشهد به، ونحو قول الآخر وهو من شواهد الأشموني "رقم 878": عباس يا الملك المتوج والذي ... عرفت له بيت العلا عدنان

فقال: يا الغلامان "فأدخل حرف النداء على ما فيه الألف واللام. وقال الآخر: [212] فَدَيْتُكَ يا الَّتِي تَيَّمْتِ قَلْبِي ... وأَنْتِ بَخِيلَةٌ بِالْوُدِّ عَنِّي فقال "يا التي" فأدخل حرف النداء على ما فيه الألف واللام؛ فدلّ على جوازه. والذي يدل على صحة ذلك أنا أجمعنا على أنه يجوز أن نقول في الدعاء "يا ألله اغفر لنا" والألف واللام فيه زائدان، فدلَّ على صحة ما قلناه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن الألف واللام تفيد التعريف، و "يا" تفيد التعريف، وتعريفان في كلمة لا يجتمعان؛ ولهذا

_ [212] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 310" والزمخشري في المفصل "رقم 35 بتحقيقنا" وابن يعيش في شرحه "ص172" وأسرار العربية للمؤلف "ص93" ورضي الدين في شرح الكافية "1/ 132" وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 358" وقوله "فديتك" قد روي "من أجلك يا التي" بإلقاء حركة الهمزة من "أجلك" وهي الفتحة على النون قبلها وحذف الهمزة، و "تيمت قلبي" أي استعبدته وأذللته، وقوله "بالود" وهو كذلك في كتاب سيبويه وشرح الأعلم، وورد في المفصل "بالوصل" ومحل الاستشهاد قوله "يا التي" حيث جمع بين حرف النداء وأل، مع أن أل في هذه الكلمة لازمة لا يجوز إسقاطها؛ لأنها لازمتها من حال الوضع، ولهذا يزعم البصريون أن هذا البيت أخف شذوذًا من البيت السابق "رقم 211" لأن الألف واللام في قول الشاعر "فيا الغلامان" ليسا بلازمين، قال الأعلم: "الشاهد فيه دخول حرف النداء على الألف واللام في قوله "يا التي" تشبيهًا بقولهم "يا الله" للزوم الألف واللام لها، ضرورة، ولا يجوز ذلك في الكلام" ا. هـ. وقال ابن يعيش "وأما بيت الكتاب: من أجلك يا التي تيمت قلبي ... إلخ" فشاذٌّ قياسًا واستعمالًا، فأما القياس فلما في نداء ما فيه الألف واللام على ما ذكر، وأما الاستعمال فظاهر، فإنه لم يأتِ منه إلا ما ذكر، وهو حرف أو حرفان، ووجه تشبيهه بيا الله من جهة لزوم الألف واللام وإن لم يكن مثله، والفرق بينهما أن الذي والتي صفتان يمكن أن ينادى موصوفهما وينوي بهما صفتين كقولك: يا زيد الذي في الدار ويا هند التي أكرمتني، ويقع صفة لأيها، نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِين آمنوا} و {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} وليستا اسمين، ولا يكون ذلك في اسم الله تعالى؛ لأنه اسم غالب جرى مجرى الأعلام كزيد وعمرو" ا. هـ. وقال أبو سعيد السيرافي: "كان أبو العباس لا يجيز يا التي، ويطعن على البيت، وسيبويه غير متهم فيما رواه، ومن أصحابنا من يقول: إن قوله يا التي تيمت قلبي على الحذف، كأنه قال: يا أيها التي تيمت قلبي، فحذف، وأقام النعت مقام المنعوت" ا. هـ.

لا يجوز الجمع بين تعريف النداء وتعريف العلمية في الاسم المنادى العلم نحو "يا زيد" بل يُعَرَّى عن تعريف العلمية ويُعَرَّف بالنداء؛ لئلا يُجْمَع بين تعريف النداء وتعريف العلمية، وإذا لم يجز الجمع بين تعريف النداء وتعريف العلمية فَلأن لا يجوز الجمع بين تعريف النداء وتعريف الألف واللام أَوْلَى، وذلك لأن تعريف النداء بعلامة لفظية، وتعريف العلمية ليس بعلامة لفظية، وتعريف الألف واللام بعلامة لفظية، كما أن تعريف النداء بعلامة لفظية، وإذا لم يجز الجمع بين تعريف النداء وتعريف العلمية وأحدهُما بعلامة لفظية والآخر ليس بعلامة لفظية فَلأَن لا يجو الجمع بين تعريف النداء وتعريف الألف واللام وكلاهما بعلامة لفظية كان ذلك من طريق الأولى1. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قوله: [211] فيا الغلامان اللذان فَرَّا فلا حجة لهم فيه؛ لأن التقدير فيه "فيا أيها الغلامان" فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، وكذلك قول الآخر: [212] فديتك يا التي تَيَّمْتِ قلبي حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، على أن هذا قليل، إنا يجيء في الشعر؛ [150] فلا يكون فيه حجة، على أنه سَهَّلَ ذلك أن الألف واللام من "التي" لا تنفصل منها، فنزلت بعض حروفها الأصلية، فيتسهل دخول حرف النداء عليها. وأما قولهم "إنا نقول في الدعاء يا ألله" فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الألف واللام عوض عن همزة "إله" فتنزلت منزلة حرف من نفس الكلمة، وإذا تنزَّلت منزلة حرف من نفس الكلمة جاز أن يدخل حرف النداء عليه، والذي يدل على أنها بمنزلة حرف من نفس الكلمة أنه يجوز أن يقال في النداء "يا

_ 1 هذه إحدى ثلاث علل ذكرها البصريون وأنصارهم، والعلة الثانية أن تعريف الألف واللام تعريف العهد، وهو يتضمن معنى الغيبة؛ لأن العهد يكون بين اثنين -هما المتكلم والمخاطب- في شأن ثالث غائب عنهما، والنداء خطاب لحاضر، فلو جمعت بينهما لتنافي التعريفان، والعلة الثالثة أن المنادى المقرون بأل إما أن يبنى وإما أن يعرب، وكلاهما مشكل، أما البناء فوجه إشكاله من جهتين: الأولى أن الألف واللام من خصائص الأسماء؛ فهي تبعد الاسم من شبه الحرف الذي هو علة البناء، والجهة الثانية أن الألف واللام معاقبة للتنوين، فهي كالتنوين، فكأن الاسم المقترن بهما منون فمن أجل ذلك استكرهوا دخول الألف واللام مطردًا في المنادى المبني، وأما الإعراب فوجه إشكاله أن العلة التي من أجلها بنوا المنادى -وهو وقوع المنادى موقع الضمير، ومشابهته الضمير في الإفراد والتعريف- موجودة في ذي الألف واللام إذا نودي، فكيف يعرب؟

ألله "بقطع الهمزة، قال الشاعر: [213] مباركٌ هو ومَنْ سَمَّاهُ ... على اسمِكَ اللهم يا أللهُ ولو كانت كالهمزة التي تدخل مع لام التعريف لوجب أن تكون موصولة، فلما جاز فيها ههنا القطع دلَّ على أنها نزلت منزلة حرفٍ من نفس الكلمة، كما أن الفعل إذا سمي به فإنه تُقْطَع همزةُ الوصل منه نحو اضْرِبْ واقْتُلْ، تقول "جاءني إضرب، ورأيت إضرب، ومررت بإضرب" و "جاءني أقتل، ورأيت أقتل، ومررت بأقتل1" بقطع الهمزة ليدل على أنها ليست كالهمزة التي كانت في الفعل قبل التسمية، وأنها بمنزلة حرف من نفس الكلمة، فكذلك ههنا. والذي يدل على ذلك أنهم لو أجروا هذا الاسم مجرى غيره مما فيه ألف ولام لكانوا يقولون "يا أيها الله" كما يقولون "يا أيها الرجل" إما على طريق الوجوب عندنا، أو على طريق الجواز عندكم، فلما لم يجز أن يقال ذلك على كل حالٍ دلَّ على صحّة ما ذهبنا إليه.

_ [213] هذان بيتان من مشطور الرجز، وقد أنشدهما ابن منظور "أل هـ" ولم يعزهما، والاستشهاد بهما في قوله "يا ألله" حيث ورد لفظ الجلالة منادى مقطوع الهمزة وقد زعم المؤلف -تبعا لأنصار البصريين- أن قطع الهمزة يدل على أنها نزلت من اللفظ الكريم منزلة جزء منه، وإلا لجاءت همزة وصل غير مقطوعة؛ لكونها في الأصل همزة أل المعرفة، وهمزة أل المعرفة همزة وصل كما هو معروف، وفي كل دعوى من هذه الدعاوى الكثيرة مقال، قال ابن منظور "الفراء: ومن العرف من يقول إذا طرح الميم: يا ألله اغفر لي -بهمزة- ومنهم من يقول: يا الله -بغير همز- فمن حذف الهمزة فهو على السبيل؛ لأنها ألف ولام مثل لام الحارث من الأسماء وأشباهه؛ ومن همزها توهم الهمزة من الحرف؛ إذ كانت لا تسقط منه الهمزة، قال: مبارك وهو من سماه البيت" ا. هـ كلامه.

والوجه الثاني: أن هذه الكلمة كثر استعمالها في كلامهم؛ فلا يقاس عليها غيرها. والوجه الثالث: أن هذا الاسم عَلَم غير مُشْتَقّ أتي به على هذا المثال من البناء من غير أصل يُرَدُّ إليه؛ فينزل منزلة سائر الأسماء الأعلام، وكما يجوز دخول حرف النداء على سائر الأسماء الأعلام فكذلك ههنا. والمعتمد من هذه الأوجه هو الوجه الأول، والله أعلم.

مسألة القول في الميم في اللهم أعوض من حرف النداء أم لا

47- مسألة: [القول في الميم في "اللهمّ" أَعِوَضٌ من حرف النداء أم لا؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن الميم المشدّدة في "اللهم" ليست عوضًا من "يا" التي للتنبيه في النداء. وذهب البصريون إلى أنها عوض من "يا" التي للتنبيه في النداء، والهاء مبنية على الضم لأنه نداء. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن الأصل فيه "يا الله أمَّنا بخير" إلا أنه لما كثر في كلامهم وجرى على ألسنتهم حَذَفُوا بعض الكلام طلبًا للخفة، والحذف في كلام العرب لطلب الخفة كثير؛ ألا ترى أنهم قالوا "هلمَّ، ووَيْلُمِّهِ" والأصل فيه: هل أمَّ، ووَيْلَ أمه، وقالوا "أيش" والأصل: أيُّ شيء. وقالوا "عم صباحًا" والأصل: أنعم صباحًا. وهذا كثير في كلامهم. قالوا: والذي يدل على أن الميم المشددة ليست عوضًا من "يا" أنهم يجمعون بينهما، قال الشاعر: [214] إني إذا ما حَدَثٌ أَلَمَّا ... أقول: يا اللهمَّ، يا اللهُمَّا

_ [214] هذان بيتان من الرجز المشطور، وقد أنشدهما ابن منظور في لسان العرب "أل هـ" ورضي الدين في شرح الكافية "1/ 132" وشرحهما البغدادي في الخزانة "1/ 358" وأنشدهما الأشموني "رقم 880" وابن عقيل "رقم 310" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 439" وابن يعيش "ص181" والحدث –بالتحريك- ما يحدث من الأمور، ومحل الاستشهاد هنا قوله "يا اللهم" حيث جمع الشاعر بين حرف النداء والميم المشددة في نداء لفظ الجلالة، واعلم أولا أن نداء لفظ الجلالة قد ورد على عدة أوجه؛ الوجه الأول -وهو الأصل، والأكثر استعمالًا- أن تقول: يا ألله، تدخل حرف النداء على الاسم الجليل، وتقطع الهمزة، والوجه الثاني: أن تقول: يا الله، تدخل حرف النداء على الاسم العظيم، =

وقال الآخر: [215] وما عليكِ أن تَقُولِي كُلّمَا ... صَلَّيتِ أو سبّحتِ: يا اللهمَّ ما أُرْدُدُ علينا شيخنا مُسَلّمَا وقال الآخر: [216] غَفَرْتَ أَوْ عَذَّبْتَ يا اللهُمَّا

_ = وتجعل همزته همزة وصل، وقد سبق ذكر هذين الوجهين في شرح الشاهد السابق "رقم 213" والوجه الثالث: أن تقول: اللهم، تحذف حرف النداء وتأتي في آخر الاسم الكريم بميم مشددة، وقد اختلف النحاة في هذه الميم المشددة، فقال البصريون وأنصارهم: هي عوض عن حرف النداء، وقال قوم -منهم الفراء- هذه الميم المشددة بقية كلمة، وأصل العبارة: يا الله أمنا بخير، وقد أنكر ذلك الزَّجَّاج، وشنع على القائل به، فمن ذهب إلى أن الميم المشددة عوض عن حرف النداء قال: لا يجمع بين حرف النداء والميم المشددة في الكلام، فإن ورد ذلك في شعر فهو شاذٌّ لا يقاس عليه، لأنه لا يجمع بين العوض والمعوض عنه، ومن هؤلاء شيخ المحققين ابن مالك الذي يقول في الخلاصة "الألفية": والأكثر اللهم، بالتعويض ... وشذّ يا اللهم في قريض ومن ذهب مذهب الفَرَّاء لم ينكر الجمع بين الميم المشددة وحرف النداء، والوجه الرابع: أن تقول: لا هم، فتحذف حرف النداء وأل من أول الاسم الكريم، وتجيء بالميم المشددة في آخره، ومنه قول الراجز: لا هم إن كنت قبلت حجتج ... فلا يزال شاحج يأتيك بج يريد: إن كنت قبلت حجتي ويأتيك بي، فأبدل الياء جيمًا، وأكثر هذه الوجوه هو الوجه الثالث، وهو الذي ورد استعماله في القرآن الكريم، نحو قوله سبحانه: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . [215] هذه ثلاثة أبيت من الرجز المشطور، وقد أنشدها ابن منظور في اللسان "أل هـ" ورضي الدين في شرح الكافية "1/ 132" وشرحها البغدادي في الخزانة "1/ 359" و "ما" في قوله "وما عليك" استفهامية تقع مبتدأ خبره الجار والمجرور، والمعنى: أي شيء عليك؟ وسبحت: أي نزهت ربك وعظمته وقدسته. أو قلت: سبحان الله. وصليت: دعوت، وشيخنا: أراد أبانا، ونظير ذلك قول الأعشى ميمون بن قيس: تقول بنتي وقد قربت مرتحلًا ... يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت؛ فاغتمضي ... نومًا، فإن لجنب المرء مضطجعا ومحل الاستشهاد قوله "يا اللهم ما" حيث جمع بين حرف النداء والميم المشددة، ولم يكتفِ بذلك، بل زاد ميمًا مفردة بعد الميم المشددة، وقد بيَّنَّا أقوال العلماء في الجمع بين حرف النداء والميم في شرح الشاهد السابق "214". [216] هذا بيت من مشطور الرجز، ولم أقف له على سوابق أو لواحق، والاستشهاد به في قوله "يا اللهم" حيث جمع بين حرف النداء والميم المشددة في آخر لفظ الجلالة، والكلام فيه على نحو ما ذكرناه في شرح الشواهد السابقة.

فجمع بين الميم و "يا" ولو كانت الميمُ عوضًا من "يا" لما جاز أن يجمع بينهما؛ لأن العوض والمعوَّض لا يجتمعان. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنا أجمعنا أن الأصل "يا ألله" إلا أنا لما وجدناهم إذا أدخلو الميم حذفوا "يا" ووجدنا الميم حرفين و "يا" حرفين، ويستفاد من قولك "اللهمَّ" ما يستفاد من قولك "يا ألله" دلَّنَا ذلك على أن الميم عوض من "يا"؛ لأن العوض ما قام مقام المعوض، وههنا الميم قد أفادت ما أفادت "يا" فدلَّ على أنها عوض منها، ولهذا لا يجمعون بينهما إلا في ضرورة الشعر، على ما سنبين في الجواب إن شاء الله تعالى. أما الجواب عن كلمات الكوفيين1: أما قولهم "إن الأصل يا ألله أمّنا بخير، فحذفوا بعض الكلام لكثرة الاستعمال" قلنا: الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أنه لو كان الأمر كما زعمتم وأن الأصل فيه يا ألله أمنا بخير لكان ينبغي أن يجوز أن يقال اللهمنا بخير، وفي وقوع الإجماع على امتناعه دليل على فساده. والوجه الثاني: أنه يجوز أن يقال "اللهمَّ أُمَّنَا بخير" ولو كان الأول يراد به "أمَّ" لما حسن تكرير الثاني؛ لأنه لا فائدة فيه. والوجه الثالث: أنه لو كان الأمر كما زعمتم لما جاز أن يستعمل هذا اللفظ إلا فيما يؤدي عن هذا المعنى، ولا خلاف أنه يجوز أن يقال "اللهم العَنْهُ، اللهم أَخْزِهِ، اللهم أهلكه" وما أشبه ذلك، وقد قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] ولو كان الأمر كما زعموا لكان التقدير: أمَّنَا بخير، إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، ولا شك أن هذا التقدير ظاهر الفساد والتناقض؛ لأنه لا يكون أمهم بالخير أن يمطر عليهم حجارة من السماء أو يُؤْتَوْا بعذاب أليم. وهذا الوجه عندي ضعيف، والصحيح من وجه الاحتجاج بهذه الآية أنه لو كانت الميم من الفعل لما افتقرت إن الشرطية إلى جواب في قوله: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال: 32] وكانت تسد مسدَّ الجواب، فلما افتقرت إلى الجواب في قوله: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا} [الأنفال: 32] دلَّ أنها ليست من الفعل.

_ 1 انظر رد الزَّجَّاج على ما ذهب إليه الفَرَّاء من أن أصل "اللهم" يا ألله أمنا بخير، في لسان العرب "أل هـ".

يحتمل عندي وجهًا رابعًا: أنه لو كان الأصل "يا ألله أمّنا بخير" لكان ينبغي أن يقال: اللهم وارحمنا، فلما لم يجز أن يقال إلا "اللهم ارحمنا" ولم يجز "وارحمنا" دلَّ على فساد ما ادَّعُوه. وأما قولهم "إن هلم أصلها هل أم" قلنا: لا نسلم، وإنما أصلها "ها المم" فاجتمع ساكنان: الألف من "ها" واللام من "المم" فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، ونقلت ضمة الميم الأولى إلى اللام، وأدغمت إحدى الميمين في الأخرى، فصار هَلُمَّ. وقولهم "الدليل على أن الميم ليست عوضًا من يا أنهم يجمعون بينهما كقوله: [214] إني إذا ما حَدَثٌ أَلَمَّا ... أقول يا اللهمَّ يا اللهمَّا وقول الآخر: [215] وما عليك أن تقولي كلمَّا ... سبَّحت أو صلَّيت يا اللهمَّ ما" فنقول: هذا الشعر لا يعرف قائله؛ فلا يكون فيه حجة، وعلى أنه إن صحَّ عن العرب فتقول: إنما جمع بينهما لضرورة الشعر، وسَهَّل الجمع بينهما للضرورة أن العوض في آخر الاسم، والمعوض في أوله، والجمع بين العوض والمعوض منه جائز في ضرورة الشعر، قال الشاعر: [217] هَمَا نَفَثَا في فِيَّ من فَمَوَيْهِمَا ... على النَّابِحِ العَاوِي أَشَدُّ رِجَامِ

_ [217] هذا البيت آخر قصيدة للفرزدق همام بن غالب يهجو فيها إبليس وابنه، وهو من شواهد سيبويه "2/ 83 و 202" وقد أنشده ابن منظور "ف م م – ف وهـ" وعزاه إليه في المرتين، واستشهد به رضي الدين في باب الإضافة من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 269" وكان رجل من موالي بأهله قد أعطى الفرزدق نحي سمن على أن يهب له أعراض قومه -يعني يتركهم ولا يهجوهم- فقال هذه القصيدة "انظر الديوان 769-771" وقوله "هما نفثا" رواية الديوان "هما تفلا" وضمير المثنى يعود إلى إبليس وابنه اللذين ذكرهما في قوله قبل بيت الشاهد: وإن ابن إبليس وأبليس ألبنا ... لهم بعذاب الناس كل غلام وقوله "أشد الرجام" أشد هنا أفعل تفضيل مضاف إلى ما بعده، ووقع في الديوان "أشد لجامي" على أن "أشد" فعل مضارع، ولعله تحريف، والاستشهاد بالبيت في قوله "فمويهما" فإن هذا مثنى الفم مضافًا إلى ضمير الغائبين، وللعلماء فيه كلام نلخصه لك فيما يلي: أكثر العلماء على أن أصل الفم "فوه" بدليل قولهم "تفوه فلان بكذا، وقولهم: فلان أفوه من فلان، وفلان مفوه، مثل مكرم، ثم حذفوا الهاء اعتباطًا، ولم يعوضوا منها شيئًا. =

فجميع بين الميم والواو وهي عوض منها لضرورة الشعر، فجمع بين العوض والمعوّض، فكذلك ههنا، والله أعلم.

_ = ثم حذفوا الواو وعوضوا منها الميم فصار "فم" على وزن "فع" وإذا ثنيت الفم بعد رده إلى أصله قلت "فوهيهما" ولكن الشاعر قال "فمويهما" فأبقى الميم التي قصدوا بها التعويض عن الواو المحذوفة من المفرد، وأعاد الواو التي هي عين الكلمة، فجمع بذلك بين العوض -وهو الميم- والمعوض عنه وهو الواو، ومن المعلوم أن الجمع بين العوض والمعوض منه لا يقع في كلام العرب، وقد حاول أبو علي أن يتلخص من هذا المأزق مع البقاء على ما أصّلوه من قاعدة عدم الجمع بين العوض والمعوض منه؛ لهذا قال: "ويجوز فيها وجه آخر، وهو أن تكون الواو في فمويهما لامًا في موضع الهاء من أفواه، وتكون الكلمة تعتقب عليها لامان، هاء مرة، وواو أخرى، فجرى هذا مجرى سنة وعضة، ألا ترى أنهما في قول سيبويه واوان، بدليل: سنوات، وأسنتوا، ومساناة، وعضوات، وتجدهما في قول من قال: ليست بسنهاء، وبعير عاضه، هاءين؟ " ا. هـ، وهذا الكلام يحتمل وجهين؛ الوجه الأول: أن يكون يريد أن الميم عوض عن الهاء التي هي لام الكلمة، وقد قدمها عن مكانها الأصلي قال الجوهري "وقالوا في التثنية: فموان، وإنما أجازوا ذلك لأن هناك حرفا آخر محذوفا وهو الهاء، كأنهم جعلوا الميم في هذه الحال عوضا عنها، لا عن الواو"ا. هـ، وفيه بعد. والوجه الثاني: أن يكون أراد أن أصل الفم فمو، فالميم عين الكلمة والواو لامها، وتقلب هذه الواو ألفًا في المفرد لتحركها وانفتاح ما قبلها فتقول: فما، كما تقول: عصا، وعلى هذا قول الراجز: يا حبذا وجه سليمى والفما ... والجيد والنحر وثدي قد نما قال ابن بري "وقد جاء في الشعر فما مقصورة مثل عصا، وعلى ذلك جاء تثنيته فموان" ا. هـ، وعلى هذا يكون "والفما" في قول الراجز اسمًا مفردًا مقصورًا مرفوعًا بضمة مقدرة على الألف منع من ظهورها التعذر، وخرّجَه الفَرَّاء على وجهين آخرين: أحدهما أن يكون أصله "والفمان" على التثنية، فحذف النون، والثاني أن تكون الواو واو المعية و "الفما" منصوب على أنه مفعول معه منصوب بالفتحة الظاهرة وألفه للإطلاق وجوز ابن جني وجه ثالثًا، وهو أن يكون منصوبًا بفعل مضمر، كأنه قال: وأحب الفم، ويكون نصبه بالفتحة الظاهرة أيضًا. وقد أطلت عليك في تخريج هذه الكلمة فبحسبك هذا.

مسألة هل يجوز ترخيم المضاف بحذف آخر المضاف إليه

48- مسألة: [هل يجوز ترخيم المضاف بحذف آخر المضاف إليه؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن ترخيم المضاف جائز، ويُوقِعُون الترخيم في آخر الاسم المضاف إليه، وذلك نحو قولك "يا آلَ عامِ" في يا آل عامرِ، و "يا آل مالِ" في يا آل مالك، وما أشبه ذلك. وذهب البصريون إلى أن ترخيم المضاف غير جائز. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن ترخيم المضاف جائز أنه قد قال جاء في استعمالهم كثيرًا، قال زُهَيْر بن أبي سُلْمَى [218] خُذُوا حَظَّكُمْ يا آل عِكْرِمَ واحْفَظُوا ... أَوَاصِرَنَا والرِّحْمُ بالغَيْبِ تُذْكَرُ

_ [218] هذا البيت من كلام زهير بن أبي سلمى المزني، وقد استشهد به سيبويه "1/ 343" وابن يعيش في شرح المفصل "ص185" والرضي في شرح الكافية "1/ 136" وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 373" كما استشهد به الأشموني "رقم 916" والمؤلف في أسرار العربية "ص96" وقوله "خذوا حظكم" هو هكذا في كتاب سيبويه وفي شرح الكافية والخزانة، وورد في شرح المفصل وكتب المتأخرين "خذو حذركم" وقوله "يا آل عكرم" أراد بني عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان، والأواصر: جمع آصرة، وهي كل ما يعطفك على آخر ومنها الرحم، ومزينة قوم زهير وآل عكرمة بن خصفة كلاهما من مضر، يقول: خذوا حظكم من مودتنا ومسالمتنا، وكانوا قد اعتزموا غزو قومه. والاستشهاد بالبيت في قوله "يا آل عكرم" فإن "آل عكرم" مركب إضافي، وقد رخمه بحذف آخر المضاف إليه؛ فإن أصله "يا آل عكرمة" فحذف التاء، وقد استدل الكوفيون بهذا البيت وأمثاله على أنه يجوز ترخيم المركب الإضافي المنادى بحذف آخر المضاف إليه، لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة الشيء الواحد، والحذف من آخر الثاني مع أن المنادى هو الأول كأنه حذف من آخر الاسم =

أراد "يا آل عِكْرِمَةَ" إلا أنه حذف التاء للترخيم، وهو عكرمة بن خَصَفَةَ1 بن قيس بن عيلان بن مضر، وهو أبو قبائل كثيرة من قيس. وقال الآخر: [219] أبَ عُرْوَ لا تَبْعَدْ فكلُّ ابنِ حُرَّةِ ... سَيَدْعُوهُ دَاعِي مِيتَهٍ فَيُجِيبُ أراد "أَبَا عُروة". وقال الآخر: [220] إِمَّا تَرَيْنِي اليوم أُمَّ حَمْزِ ... قَارَبْتُ بين عَنَقِي وَجَمْزِي

_ = المفرد غير المضاف وأنكر ذلك عليهم البصريون، وذكروا أن الترخيم في هذا البيت ونحوه شاذٌّ كالترخيم في غير النداء، فكما حذف بعض الشعراء من أواخر الأسماء في غير النداء لأنهم اضطروا إلى ذلك حذفوا من أواخر المركبات الإضافية في النداء لأنهم اضطروا إلى ذلك، وقد عقد سيبويه في كتابه بابًا ترجمته "هذا باب ما رخمت الشعراء في غير النداء اضطرارًا" وقال الأعلم في بيت الشاهد "الشاهد في ترخيم عكرمة وتركه على لفظه، ويحتمل أن تجعل فتحته إعرابًا، على أنه اسم لمؤنث فلا تصرفه؛ لأن عكرمة وإن كان اسم رجل فإنه يقع على القبيلة" ا. هـ. [219] هذا البيت من شواهد شرح المفصل "ص185" وشرح الكافية "1/ 136" وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 377" واستشهد به أيضًا ابن هشام في أوضح المسالك "رقم 451" وشرحه العيني "4/ 287 بهامش الخزانة" وقوله "لا تبعد" أصل معناه لا تهلك، ولكنهم يريدون لا ينقطع ذكرك ولا تنسى سوالفك، و "ميتة" بكسر الميم ولهذا انقلبت الواو الساكنة ياء، ووقع بدلها عند بعض الذين استشهدوا بالبيت "موته" بفتح الميم وبقاء الواو على حالها. ومحل الاستشهاد بالبيت في قوله "أبا عرو" فإن هذا منادى بحرف نداء محذوف، وهو مركب إضافي، وقد رخَّمَه الشاعر بحذف آخر المضاف إليه، فإن أصله "يا أبا عروة" فحذف حرف النداء، وحذف التاء من عروة، والكلام فيه كالكلام في البيت السابق. [220] هذان بيتان من مشطور الرجز، وهما من شواهد سيبويه "1/ 333" وقد نسب في صدر الكتاب وفي شرح شواهده، لرؤبة بن العجاج، والعنق -بفتح العين والنون جميعًا- ضرب من السير السريع، والجمز -بفتح فسكون- أشد من العنق، وهو يشبه الوثب. وصف كبره وأنه قد قارب بين خطاه ضعفًا. والاستشهاد بالبيت في قوله "أم حمز" فإن هذا منادى بحرف نداء محذوف، وهو مركب إضافي، وقد رخمه بحذف آخر المضاف إليه "وأصله يا أم حمزة" فحذف حرف النداء وهو يا، وحذف التاء من المضاف إليه، وهو نظير ما ذكرناه في شرح الشواهد السابقة. واعلم أنَّا رأيناهم يرخمون المركب الإضافي المنادى على عدة وجوه: الأول: أن يحذفوا آخر المضاف إليه، كما في الشواهد 218 و 219 و 220.

أراد "أم حمزة" والشواهد على هذا كثيرة جدا، فدل على جوازه. ولأن المضاف [154] والمضاف إليه بمنزلة الشيء الواحد، فجاز ترخيمه كالمفرد. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن ترخيم المضاف غير جائز أنه لم توجد فيه شروط الترخيم، وهي: أن يكون الاسم منادى، مفردًا معرفةً، زائدًا على ثلاثة أحرف. والدليل على اعتبار هذه الشروط: أما شرط كونه منادى فظاهر؛ لأنهم لا يرخمون في غير النداء إلا في ضرورة الشعر، ألا ترى أنهم لا يقولون في حالة الاختيار في غير النداء "قام عام" في عامر، ولا "ذهب مال" في مالك، فدل على أنه شرط معتبر. وأما شرط كونه مفردًا فظاهر أيضًا؛ لأن النداء يؤثر فيه البناء، ويغيره عما كان عليه قبل النداء، ألا ترى أنه كان معربًا فصار مبنيًّا؟ فلما غيّره النداء عما كان عليه من الإعراب قبل النداء جاز فيه الترخيم؛ لأنه تغيير، والتغيير يُؤْنِس بالتغيير؛ فأما ما كان مضافًا فإن النداء لم يؤثر فيه البناء ولم يغيره عما كان عليه قبل النداء؛ ألا ترى أنه معرب بعد النداء كما هو معرب قبل النداء؟ وإذا كان الترخيم إنما سَوَّغَهُ تغييرُ النداء، والنداء لم يغير المضاف؛ فوجب أن لا يدخله الترخيم؛ فصار هذا بمنزلة حذف الياء في النسب من باب فُعَيلة وفَعِيلة كقولهم في النسب إلى جُهَيْنَة "جُهَنِي" وإلى ربيعة "رَبَعِي" وإثباتها في باب فُعَيل وفَعِيل كقولهم في النسب إلى قُشَيْرٍ "قُشَيْرِي" وإلى جرير "جَرِيرِيّ" فإن الياء إنما حذفت من باب فُعَيلة وفَعِيلة ومن فُعَيل وفَعِيل لأن النسب أثر فيه وغَيَّرَهُ بحذف تاء التأنيث منه، والتغيير يؤنس بالتغيير، بخلاف باب فُعَيل وفَعِيل؛ فإن النسب لم يؤثر فيه تغييرًا، فلم يحذف منه الياء، فأما قولهم في النسب إلى قريش "قُرَشِيّ" وإلى هذيل "هُذَلِيّ" وإلى ثقيف "ثَقَفِيّ" -بحذف الياء في إحدى اللغتين- فهو من الشاذ الذي لا يقاس عليه، واللغة الفصحى إثبات الياء، وهي أن تقول: قُرَيْشِيّ، وهُذَيْلِيّ، وثَقِيفيّ، وهو القياس. قال الشاعر: 221- بكلِّ قُرَيْشِيّ عليه مَهَابَةٌ ... سَرِيع إلى دَاعِي النَّدَى والتكَرُّمِ

_ = والوجه الثاني: أن يحذفوا آخر المضاف لأنه هو المنادى عند التحقيق، مثل قول الشاعر: يا علقم الخير قد طالت إقامتنا أراد "يا علقمة الخير" فرخّمه بحذف التاء من المضاف إذ كان هو المنادى. والوجه الثالث: أن يحذفوا المضاف إليه كله، ومن ذلك قول عدي بن زيد: يا عبد هل تذكرني ساعة ... في موكب أو رائدًا للقنيص؟ أراد أن يقول "يا عبد هند" لأنه ينادي عبد هند اللخمي، فحذف المضاف إليه بته. [221] هذا البيت من شواهد سيبويه "2/ 70" ولم يعزه ولا عزاه الأعلم في شرح شواهده، وهو =

وقال الآخر: [222] هُذَيْلِيَةٌ تَدْعُو إذا هي فَاخَرَتْ ... أبًا هُذَلِيًّا من غَطَارِفَةٍ نُجْدِ وكما أن الحذف ههنا إنما اختص بما غَيَّره النسب دون غيره، فكذلك الحذف ههنا للترخيم إنما يختص بما غيَّره النداءُ -وهو المفرد المعرفة- دون المضاف والنكرة. وأما شرط كونه زائدًا على ثلاثة أحرف فسنذكر ذلك في المسألة التي بعد هذه المسألة إن شاء الله تعالى. أما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما ما استشهدوا به من الآيات فلا حجة فيه؛ لأنه محمول عندنا على أنه حذف التاء لضرورة الشعر، والترخيم عندنا يجوز

_ = من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص771" وقد رواه ابن منظور "ق ر ش" ثالث ثلاثة أبيات، ولم يعزها إلى قائل معين، والبيتان اللذان قبله هما قوله: ولست بشاوي عليه دمامة ... إذا ما غدا يغدو بقوس وأسهم ولكنما أغدو على مفاضة ... دلاص كأعيان الجراد المنظم وأول هذين البيتين من شواهد سيبويه "2/ 84" وثانيهما من شواهده أيضَا "2/ 186" وقوله في بيت الشاهد الذي نحن بصدده "سريع إلى داعي الندى" يريد أنه إذا دعاه الندى أو دعي إليه أجاب سريعًا نحوه، ومحل الاستشهاد بهذا البيت هنا قوله "قريشي" حيث أجراه في النسب على أصله، ووفاه حروفه، ولم يحذف ياءه، وهو القياس؛ لأن الياء لا يطرد حذفها إلا فيما كانت فيه هاء التأنيث نحو جهينة ومزينة، إلا أن العرب آثرت في قريش الحذف لكثرة الاستعمال له، فقالوا: قرشي. [222] هذا البيت من شواهد الزمخشري في المفصل "انظر شرح ابن يعيش 769 و 770" والاستشهاد بهذا البيت في موضعين، الأول في قوله "هذيلية" والثاني في قوله "أبا هذليا" فإن الشاعر قد جمع بين إثبات الياء في الكلمة الأولى وحذف الياء في الكلمة الثانية، والقياس في مثله إبقاء الياء وعدم حذفها. قال أبو البقاء بن يعيش: "وقالوا ثقفي في النسبة إلى ثقيف، وهو أبو قبيلة من هوازن، وهو شاذٌّ عند سيبويه، والقياس ثقفي، وهو لغة قوم من العرب بتهامة وما يقرب منها، وقد كثر ذاك حتى كاد يكون قياسًا، وقالوا: هذلي في النسبة إلى هذيل، وهو حي من مضر بن مدركة بن إلياس، والقياس عند سيبويه: هذيلي، ومنه قوله: "هذيلية تدعو إذا هي فاخرت" البيت وقالوا: قرشي، والقياس قريشي، نحو قوله: "بكل قريشي عليه مهابة" البيت وقالوا: فقمي، في فقيم، وفقيم حي من كنانة، وهم نسأة الشهور، وقالوا في مليح خزاعة: ملحى، وقالوا في سليم: سلمي، وفي خثيم: خثمي، والداعي إلى هذا الشذوذ. طلب الخفة؛ لاجتماع الياء مع الكسرة وياءي النسب" ا. هـ.

لضرورة الشعر في غير النداء، قال الشاعر: [223] أَوْدَى ابْنُ جُلْهُمَ عَبَّادٌ بِصِرْمَتِهِ ... إنَّ ابْنَ جُلْهُمَ أَمْسَى حَيَّةَ الوَادِي أراد "جُلْهُمَةَ" فحذف التاء لضرورة الشعر، وقال الآخر: [224] ألا أَضْحَتْ حِبَالُكُمُ رِمَامَا ... وأَضْحَتْ مِنْكَ شَاسِعَةَ أُمَامَا

_ [223] هذا البيت من كلام الأسود بن يعفر، وهو من شواهد سيبويه "1/ 344" ورواه ابن منظور "ج ل هـ م" وأودى بها: أي ذهب بها، والصرمة -بكسر الصاد وسكون الراء- القطعة من الإبل ما بين الثلاثين إلى الأربعين، والوادي: المطمئن من الأرض، وحية الوادي: كناية عن كونه يحمي ناحيته ويتقي منه كما يتقى من الحية الحامية لواديها المانعة منه. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "إن ابن جلهم" واعلم أولا أن العرب سمت المرأة جلهم -بغير تاء- وسمت الرجل جلهمة -بالتاء- كذا جرى استعمالهم للاسمين، ثم اعلم أنه يجوز أن يكون الشاعر قد عنى أباه، ويجوز أن يكون قد عنى أمه، فإن كان قد عنى أباه كان أصل العبارة "إن ابن جلهمة" فرخمة بحذف التاء مع أنه غير منادى، بل هو فاعل أودى ومضاف إليه، ولكن يسأل حينئذ عما دعاه إلى فتح "جلهم" وهو علم لمذكر فلا يكون ممنوعًا من الصرف بعد حذف التاء، والجواب عن هذا أنه لما حذف التاء أبقى الحرف الذي قبلها على ما كان عليه، كالذي يرخم على لغة من ينتظر الحرف المحذوف، وإن كان قد عنى أمه كان أصل العبارة "إن ابن جلهم" كما وردت في البيت؛ فلا يكون في البيت -على هذا الوجه- ترخيم، ولا يستدل به على شيء من هذا الباب. ويكون "جلهم" مجرورًا بالفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث كزينب ورباب من أعلام الإناث التي لا تاء فيها، ومن هنا تعلم أن استشهاد المؤلف بهذا البيت لا يتم إلا على أساس أن الشاعر أراد اسم الأب، وهو ظاهر بعد هذا الإيضاح. قال سيبويه رحمه الله: "وأما قول الأسود بن يعفر: أودى ابن جلهم عباد بصرمته فإنما أراد أمه جلهم، والعرب يسمون المرأة جهلم والرجل جلهمة" ا. هـ. يعني أنه لا ترخيم فيه عنده، وقال الأعلم: "الشاهد في قوله جلهم، وأنه أراد أمه جلهم؛ فلا ترخيم فيه على هذا؛ لأن العرب سمت المرأة جلهم بغير هاء، والرجل جلهمة بالهاء. كذا جرى استعمالهم للاسمين، وإن كان أراد أباه فقد رخم" ا. هـ. [224] هذا البيت من كلام جرير بن عطية بن الخطفي، وروايته في الديوان على قلق في وزنه" ص502": أصبح حبل وصلكم رماما ... وما عهد كعهدك يا أماما وليس في البيت -على هذه الرواية- ما يستشهد به لشيء في هذه المسألة كما ترى، وكان أبو العباس المُبَرِّد يرد الاستشهاد بهذا البيت ويدعي أن الرواية هي هذه، والبيت -على ما وراه المؤلف- من شواهد سيبويه "1/ 343" ورضي الدين في شرح الكافية "1/ 136" وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 389 بولاق" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 457" =

أراد: "أمامة". وقال الآخر: [225] إنَّ ابْنَ حَارِثَ إنْ اشْتَقْ لِرُؤْيَتِه ... أو أَمْتَدِحْهُ فإن الناس قد عَلِمُوا

_ = والأشموني "رقم 924" وقد رواه المؤلف كما هنا في أسرار العربية "97" والاستشهاد بالبيت على رواية النحاة في قوله "أماما" فإن أصله "أمامة" فرخّمه الشاعر بحذف التاء في غير النداء لأنه اسم أضحت، وأبقى الحرف الذي قبل التاء على حركته التي كانت له قبل حذف التاء وهي الفتحة؛ فهذا يدل على أن ترخيم غير المنادى في الضرورة يجيء على الوجهين اللذين يجيء عليهما ترخيم المنادى، نعني أنه يجوز عند الضرورة ترخيم الاسم الذي ليس منادى مع قطع النظر عن الحرف الذي حذف للترخيم فتعامل الحرف الذي صار آخر الكلمة بالذي يستحقه من حركات الإعراب، ويجوز ألا يقطع النظر عن الحرف الذي حذف للترخيم فتبقي الحرف الذي صار آخر الكلمة على حركته التي كانت عليه قبل الترخيم وتجعل حركة الإعراب مقدرة على الحرف الذي حذف، وما في هذا البيت من هذا الضرب. فأما ما: اسم أضحى تأخر عن خبرها، وهو مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الحرف المحذوف للترخيم، وتسمى هذه لغة من ينتظر، وتسمى الأولى لغة من لا ينتظر، كما تسميان في ترخيم المنادى. [225] هذا البيت من كلام أوس بن حبناء، وهومن شواهد سيبويه "1/ 343" والأشموني "رقم 925" والمراد بابن حارث ابن حارثة بن بدر الغداني سيد بني غدانة بن يربوع بن تميم، ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "ابن حارث" فإن أصله حارثة بالتاء، فرخمه بحذف التاء، وأبقى الحرف الذي قبل التاء على حركته التي كان عليها قبل الترخيم وهي الفتحة، ولولا ذلك لما كان هناك سبب لإعراب "حارث" إعراب الاسم الذي لا ينصرف، وبيان ذلك أن "حارث" مضاف إليه؛ فكان يجب أن يجر بالكسرة الظاهرة وينوّن؛ لأنه ليس باسم قبيلة ولا بعلم مؤنث، ولا يكون مجرورًا بالفتحة نيابة عن الكسرة إلا إذا كان واحدًا من هذين، لهذا كان تخريج شيخ النحاة سيبويه لهذا وأمثاله على أنه رخمه في غير النداء على لغة من ينتظر الحرف المحذوف كما كان له أن يفعل ذلك في ترخيم المنادى، ونظيره قول الشاعر. لنعم التفى تعشو إلى ضوء ناره ... طريف بن مال ليلة الجوع والخصر أراد طريف بن مالك، فحذف الكاف، ونظيره قول الآخر: ليس حي على المنون بخال أراد أن يقول: ليس حي بخالد، فلم يتيسر له، فحذف الدال، ونظيره قول أبي الطيب المتنبي: لله ما فعل الصوارم والقنا ... في عمرو حاب وضبة الأغتام أراد أن يقول: في عمرو حابس، فرخمه بحذف السين، غير أن هذه الأبيات الثلاثة تستوي فيها اللغتان لغة من ينتظر الحرف المحذوف ولغة من لا ينتظر الحرف المحذوف بسبب كون الحركة التي كانت للحرف الذي صار آخر الكلمة هي نفس الحركة التي يقتضيها الإعراب.

أراد "ابن حارثة" وقال الآخر: [226] أبو حَنَشٍ يُؤَرِّقُنِي، وَطَلْقٌ ... وعَمَّارٌ، وآونَهً أُثَالَا أراد "أثالة". وزعم المُبَرِّد أنه ليس في العرب أثالة، وإنما هو أُثال. ونصبه على تقدير: يذكرني آونة أثالان وقيل: نصبه لأنه عطفه على الياء والنون في "يؤرقني" كأنه قال: يُؤَرِّقُنِي وأثال، وقال بعض بني عبْس: [227] أرِقُّ لأَرْحَامٍ أَرَاهَا قَرِيبَةً ... لحَارِ بنِ كَعْبٍ لا لَجَرْمِ وَرَاسِبِ أراد "لحارث بن كعب" وعبسٌ والحارثُ بن كعبِ بن ضَبَّةَ إِخوةٌ فيما

_ [226] هذا البيت من كلام عمرو بن أحمر، وهو من شواهد سيبويه "1/ 343" والأشموني "رقم 339" وابن عقيل "رقم 131" وقد استشهد به أبو الفتح بن جني في الخصائص "2/ 378" وانظر العيني "2/ 421 بهامش الخزانة" و "أبو حنش، وطلق، عمار" جماعة من قومه كانوا قد لحقوا بالشام؛ فصار يراهم في النوم إذا أتى عليه الليل، ورواه ابن جني "وعباد" في مكان "عمار" ومحل الاستشهاد هنا بهذا البيت قوله "أثالا" فإن أصله "أثالة" بالتاء فرخمه بحذف هذه التاء في غير النداء، وأبقى الحرف الذي قبل التاء على حركته التي كنت عليها قبل الترخيم -وهي الفتحة- على لغة من ينتظر الحرف المحذوف، وهو نظير ما ذكرناه في شرح الشاهد السابق "225". [227] أرق: أعطف، والأرحام: جمع رحم، وهو في الأصل القرابة من جهة النساء، وقد يراد به القرابة مطلقًا، وجرم -بفتح الجيم وسكون الراء المهملة- قبيلة من قضاعة، وهي جرم بن ربان، وفي العرب بنو راسب بن الخزرج بن حرة بن جرم بن ربان، وبنو راسب بن الحارث بن عبد الله بن الأزد، وبنو راسب بن ميدعان الذين منهم عبد الله بن وهب الراسبي الذي كان على رأس الخوارج في يوم النهروان، ومحل الشاهد في البيت قوله "لحار بن كعب" فإن أصل الكلام لحارث بن كعب، فرخم حارث بحذف الثاء التي هي آخره وإن لم يكن منادى، وأبقي الحرف الذي قبل الثاء -وهو الراء- على حركته التي كان عليها قبل الترخيم، وهي الكسرة، على نحو ما قررناه في شرح الشواهد السابقة. ومن هذه الشواهد المتعددة تعلم أن الذي وقع من العرب في أشعارها من ترخيم غير المنادى قد جاء على طريقين: أحدهما أن يبقى الحرف الذي قبل المحذوف على ما كان عليه قبل الحذف ويسمى هذا لغة من ينتظر، والثاني أن يحرك الحرف الذي قبل الحرف المحذوف، بالحركة التي يقتضيها العامل، ويعتبر كأنه آخر الكلمة حقيقة، ويسمى هذا لغة من لا ينتظر أو لغة الاستقلال، وقد قبل سيبويه الوجهين جميعًا نظرًا منه إلى ما ورد عن العرب، وأما أبو العباس المُبَرِّد فكان لا يقبل إلا ما جاء على لغة من لا ينتظر الحرف المحذوف، وهي لغة الاستقلال، وكان يرد ما جاء على غير هذا الوجه، قال رضي الدين "1/ 136" "ويجوز ترخيم غير المنادى للضرورة، وإن خلا من تأنيث وعلمية، على تقدير الاستقلال كان أو على نية المحذوف، عند سيبويه، والمبرد يوجب تقدير الاستقلال" ا. هـ.

يزعمون. وأن كل حال فالترخيم في غير النداء للضرورة مما لا خلاف في جوازه، والشواهد عليه أشهر من أن تذكر، وأظهر من أن تنكر، وكما أن الترخيم في ذلك كله لا يدل على جوازه في حالة الاختيار، فكذلك جميع ما استشهدوا به من الأبيات، وإذا كان الترخيم يجوز لضرورة الشعر في غير النداء فلأن يجوز ترخيم المضاف لضرورة الشعر في النداء كان ذلك من طريق الأولى. وأما قولهم "إن المضاف والمضاف إليه بمنزلة الشيء الواحد؛ فجاز ترخيمه كالمفرد" قلنا: هذا فاسد؛ لأنه لو كان هذا معتبرًا لوجب أن يؤثر النداء في المضاف1 البناء كما يؤثر في المفرد، فلما لم يؤثر النداء فيه البناء دلَّ على فساد ما ذهبتم إليه والله أعلم.

_ 1 في ر "في المضاف إليه البناء" وليس بذاك.

مسألة هل يجوز ترخيم الاسم الثلاثي

49- مسألة: [هل يجوز ترخيم الاسم الثلاثي؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز ترخيم الاسم الثلاثي إذا كان أوسطه متحركًا، وذلك نحو قولك في عُنُقٍ "يا عُنُ" وفي حَجَر "يا حَجَ" وفي كَتِف"ياكَتِ" وذهب بعضهم إلى أن الترخيم يجوز في الأسماء على الإطلاق. وذهب البصريون إلى أن ترخيم ما كان على ثلاثة أحرف لا يجوز بحال، وإليه ذهب أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي من الكوفيين. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما جوزنا ترخيم ما كان على ثلاثة أحرف إذا كان أوسطه متحركًا لأن في الأسماء ما يماثله ويضاهيه نحو يَدٍ ودَمٍ، والأصل في يد يَدَيٌ، وفي دم دَمَوٌ في أحد القولين، بدليل قولهم: دَمَوَانً، وقد قال بعضهم: إن دمًا من ضوات الياء واحتج بقول الشاعر: [288] فَلَوْ أَنَّا عَلَى حَجَرٍ ذُبِحْنَا ... جَرَى الدَّمَيَانِ بالخَبَرِ اليَقِينِ

_ [228] يختلف العلماء كثيرًا في نسبة هذا البيت؛ فنسبه العيني -فيما نقله عنه البغدادي، ولم أعثر عليه بعد طويل البحث- تبعًا لابن هشام تبعًا لصاحب الحماسة البصرية إلى المثقب العبدي، وينسبه قوم إلى الفرزدق، وقوم إلى الأخطل، وقوم إلى المرادس بن عمرو، واستصوب البغدادي أنه لعلي بن بدال بن سليم، وأسند رواية ذلك إلى ابن دريد في كتاب المجتبى عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي، وقد أنشده ابن منظور "د م ى" هذا البيت ثالث ثلاثة أبيات، والبيت من شواهد الزمخشري في المفصل، وابن يعيش في شرحه "ص600" والرضي في باب المثني من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 349" والأشموني "رقم 1162" ومعنى البيت مبني على ما كان العرب يعتقدونه من أن المتعادين لو ذبحا وأحدها جار الآخر لم يختلط دم أحدهما بدم الآخر ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "الدميان" حيث أتى بمثنى الدم وجعل لامه ياء، ومن المقرر أن التثنية والجمع يردان. =

والأكثرون على أنه من ذوا ت الواو، إلا أنهم استثقلوا الحركة على حرف العلة فيهما؛ لأن الحركات تستثقل على حرف العلة، فحذفوه طلبًا للتخفيف وفرارًا من الاستثقال، فبقيت يدٌ ودمٌ، فكذلك في محل الخلاف: الترخيم إنما وضع للتخفيف بالحذف، والحذف قد جاز في مثله للتخفيف، فوجب أن يكون جائزًا.

_ = الأشياء إلى أصولها، فمجيء الدميان بالياء يدل على أن اللام المحذوفة من "الدم" كانت ياء، وهذه المسألة خلافية بن النحاة من ناحيتين، ونحن نبين لك ذلك في وضوح واختصار فنقول: اعلم أولا أن العرب حذفت اللام من الدم لمجرد التخفيف فقالوا "دم" كما قالوا: غد، ويد، وأب، وأخ، وحم، وأنهم اشتقوا فعلا ووصفا من الدم فقالوا: دمى فلان يدمي فهو دم، بوزن فرح يفرح فرحًا فهو فرح من الصحيح وعمي يعمي عمى فهو عم وشجى يشجى شجى فهو شج من المعتل وأن أكثرهم يقولون في تثنية الدم "دميان" ومنهم من يقول في تثنيته "دموان" بفتح الميم التي قبل الياء أو الواو، وقد اختلف النحاة في المحذوف من "دم" أواو هو أم ياء؟ وفي أصل الميم قبل الحذف أمفتوحة هي أم ساكنة؟ فقال قوم: أصل دم دمي -بسكون الميم وبالياء في آخره- أما الدليل على أن أصل اللام ياء فهو تثنيته على "دميان" وأما الدليل على أن أصل الميم ساكنة فهو القياس؛ وذلك لأن أكثر ما حذف لامه اعتباطًا للتخفيف مثل ابن وغد ساكن العين، وتحريكها في التثنية لا يقطع بأنها كانت محركة في المفرد، وقال قوم: أصل اللام المحذوفة من "دم" واو, بدليل أنهم ثنوه فقالوا "دموان" ونحن بعد هذا نذكر لك كلام ابن الشَّجَرِي في أماليه في هذه المسألة فإنه -فيما نرى- أوفى كلامًا فيها، قال: "ودم عند بعض التصريفيين دمي -ساكن العين- قالوا: لأن الأصل في هذه المنقوصات أن تكون أعينها سواكن حتى يقوم دليل على الحركة، من حيث كان السكون هو الأصل والحركة طارئة، قالوا: وليس ظهور الحركة في قولنا دميان دليلًا على أن العين متحركة في الأصل؛ لأن الاسم إذا حذفت لامه واستمرت حركات الإعراب على عينه ثم أعيدت اللام في بعض تصاريف الكلمة ألزموا العين الحركة، وقال من خالف أصحاب هذا القول: أصل دم دمي -بفتح العين- لأن العرب قلبوا لامه ألفًا فألحقوه بباب رَحَا فقالوا: هذا دمًا، مثل قولهم: هذه رحا، وقال بعض العرب في تثنيته دمان فلم يردوا اللام، كما قالوا في تثنية يد: يدان، والوجه أن يكون العمل على الأكثر، وكذلك حكى قوم دموان، والأعرف فيه الياء، وعليه أنشدوا: جرى الدميان بالخبر اليقين ومن العرب من يقوم الدم -بتشديد الميم- كما تلفظ به العامة، وهي لغة رديئة، وأنشدوا لتأبط شرًّا: حيث التقت بكر وفهم كلها ... والدم يجري بينهم كالجدول والعامة تفعل مثل هذا في الفم أيضًا، وإنما يكون ذلك في الشعر، كما قال: يا ليتها قد خرجت من فمه ا. هـ كلامه، وفيه كفاية ومقنع.

قالوا: ولا يلزم على كلامنا إذا كان الأوسط منه ساكنًا؛ فإنه لا يجوز ترخيمه وإن كان له نظير نحو يَدٍ وغَدٍ؛ لأنا نقول: إنما لم يجز عندنا ترخيم ما كان الأوسط منه ساكنًا نحو زيد وعمرو لأنه إذا حذف الحرف الأخير وجب حذف الحرف الساكن الذي قبله؛ فيبقى الاسم على حرف واحد، وذلك لا نظير له في كلامهم، بخلاف ما إذا كان أوسطه متحركًا على ما بيّنا. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه لا يجوز ترخيمه وذلك أنا أجمعنا على أن الترخيم في عرف النحويين إنما هو حذفٌ دخل في الاسم المنادى إذا كثرت حروفه، طلبًا للتخفيف، فإذا كان الترخيم إنما وضع في الأصل لهذا المعنى فهذا في محل الخلاف لا حاجة بنا إليه؛ لأن الاسم الثلاثي في غاية الخفة؛ فلا يحتمل الحذف، إذ لو قلنا إنه يخفف بحذف آخره لكان ذلك يؤدي إلى الإجحاف به؛ فدلَّ على ما قلناه. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنما جوزنا ترخيمه لأن في الأسماء ما يماثله، نحو يَدٍ ودَمٍ" فنقول: الجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أنَّا نقول: إن هذه الأسماء قليلة في الاستعمال، بعيدة عن القياس: فأما قلتها في الاستعمال فظاهر؛ لأنها كلمات يسيرة معدودة، وأما بعدها عن القياس فظاهر أيضًا، وذلك لأن القياس يقتضي أن لا يحذف؛ لأن حرف العلة إذا كان متحركًا فلا يخلو: إما أن يكون ما قبله ساكنًا أو متحركًا، فإن كان ساكنًا فينبغي أن لا يحذف كما لا يحذف من ظَبْيٍ ونِحْيٍ وغَزْوٍ ولَهْوٍ؛ لأن الحركات إنما تستثقل على حرف العلة إذا كان ما قبله متحركًا لا ساكنًا، وإن كان ما قبله متحركًا فينبغي أن يقلب ألفًا ولا يحذف، كقولهم: رحًى، وعمًى، وعصًا، وقفًا، ألا ترى أن الأصل فيها رَحَيٌ وعَمَيٌ وعَصَوٌ وقَفَوٌ؛ بدليل قولهم: رَحَيَان، وعَمَيَان، وعَصَوَان، وقَفَوَان، إلا أنه لما تحركت الياء والواو، وانفتح ما قبلهما؛ قلبوا كل واحدة منهما ألفًا استثقالًا للحركات على حرف العلة مع تحرك ما قبله، إلى غير ذلك مما لا يمكن إحصاؤه، وعلي هذا سائر الثلاثي المقصور، وإذا ثبت أن هذه الأسماء قليلة في الاستعمال بعيدة عن القياس فوجب أن لا يقاس عليها. والوجه الثاني: وهو أن نقول: قياس محل الخلاف على يد ودم، ليس بصحيح، وذلك لأنهم إنما حذفوا الياء والواو لاستثقال الحركات عليهما؛ لأنها تستثقل على حرف العلة، أما في الترخيم فإنما وضع الحذف فيه على خلاف القياس؛ لتخفيف الاسم الذي كثرت حروفه، ولم يوجد ههنا؛ لأنه أقل الأصول، وهي في غاية الخفة، فلو جوزنا ترخيمه لأدَّى إلى أن

ينقص1 عن أقل الأصول وإلى الإجحاف به، وذلك لا يجوز. والذي يدل على فساد ما ذهبوا إليه أنه إذا كان الأوسط منه ساكنًا فإنه لا يجوز ترخيمه. قولهم "إنما لم يجز ترخيمه إذا كان الأوسط منه ساكنًا؛ لأنه إذا حذف الحرف الأخير وجب حذف الساكن الذي قبله؛ فيبقى الاسم على حرف واحد" قلنا: لا نسلّم أنه إذا كان قبل الآخر حرف ساكن أنه يجب حذفه في الترخيم، وإنما هذا شيء ادَّعَيْتموه وجعلتموه أصلًا لكم لا يشهد به نقلٌ ولا قياسٌ، وسنبين فساده في المسألة التي بعد هذه، إن شاء الله تعالى:

_ 1 في ر "لأدى إلى أن ينقض" وهو تحريف ما أثبتناه.

مسألة ترخيم الرباعى الذي ثالثه ساكن

50- مسألة: [ترخيم الرباعي الذي ثالثه ساكن] 1 ذهب الكوفيون إلى أن ترخيم الاسم الذي قبل آخره حرف ساكن يكون بحذفه وحذف الحرف الذي بعده، وذلك نحو قولك في قِمَطْرٍ "يا قِمَ" وفي سِبَطْرٍ "ياسِبَ" وما أشبه ذلك وذهب البصريون إلى أن ترخيمه يكون بحذف الحرف الأخير منه فقط. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يرخم بحذف حرفين، وذلك لأن الحرف الأخير إذا سقط من هذه الأسماء بقي آخرها ساكنًا، فلو قلنا إنه لا يحذف لأدَّى ذلك إلى أن يشابه الأدوات2 وما أشبهها من الأسماء، وذلك لا يجوز. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن الترخيم يكون في هذه الأسماء بحذف حرف واحد أننا نقول: أجمعنا على أن حركة الاسم المرخم باقية بعد دخول الترخيم كما كانت قبل دخول الترخيم من ضم وفتح وكسر، ألا ترى أنك تقول في بُرْثُن "يا بُرْثُ" وفي جَعْفَر "يا جَعْفَ" وفي مالك "يا مَالِ" وقد قرأ بعض السلف "ونادوا يا مال ليقض علينا ربك" وذُكِرَ أنها قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فيبقى كل واحدة من هذه الحركات بعد دخول الترخيم كما كانت قبل وجود الترخيم في أَقْيَسِ الوجهين، فكذلك ههنا، وهذا لأن الحركات إنما بقيت على ما كانت عليه ليُنْوَى بها تمام الاسم، ولو لم يكن كذلك لكان يجب أن يحرك المرخّم بحركة واحدة، فإذا ثبت أن الحركات

_ 1 انظر في هذه المسألة: تصريح الشيخ خالد "2/ 234 بولاق" وشرح الأشموني بحاشية الصبان "3/ 149 بولاق" وأسرار العربية للمؤلف "ص95 ليدن" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص185 ليبزج" وشرح الكافية "1/ 136". 2 المراد بالأدوات الحروف، والمراد بما أشبهها من الأسماء هو الأسماء المبنية كأسماء الشرط والاستفهام.

إنما بقيت لينوى بها تمام الاسم فهذا المعنى موجود في الساكن حسب وجوده في المتحرك؛ فينبغي أن يبقى على ما كان عليه إذا كان ساكنًا كما يبقى على ما كان عليه إذا كان متحركًا. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: قولهم "لو أسقطنا الحرف الأخير لبقي ما قبله ساكنًا فيشبه الأدوات" وهي الحروف. قلنا: هذا فاسد؛ لأنه لو كان هذا معتبرًا لوجب أن يحذف الحرف المكسور؛ لئلا يشبه المضاف إلى المتكلم، ولا خلاف أن هذا لا قائل به؛ فدلَّ على فساد ما ذهبوا إليه، والله أعلم.

مسألة القول في ندبة النكرة والأسماء الموصولة

51- مسألة: [القول في ندبة النكرة والأسماء الموصولة؟] 1 ذهب الكوفِيُّون إلى أنه يجوز ندبة النكرة والأسماء الموصولة، وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك.. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يجوز ندبه النكرة والأسماء الموصولة، وذلك لأن الاسم النكرة يقرب من المعرفة بالإشارة نحو "واراكباه" فجازت ندبته كالمعرفة، والأسماء الموصولة معارف بصلاتها كما أن الأسماء الأعلام معارف، وكما يجوز ندبه الأسماء الأعلام نحو زيد وعمرو فكذلك يجوز ندبه ما يشبهها ويقرب منها، والدليل على صحة هذا التعليل ما حكي عنهم من قولهم: "وَامَنْ حَفَرَ بِئْرَ زَمْزَمَاهْ" وما أشبه ذلك. وأما البصريون فاحتجوا بأن، قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن الاسم النكرة مبهم لا يخصُّ واحدًا بعينه، والمقصود بالندبة أن يُظْهِرَ النَّادِبُ عُذْرَهُ في تَفَجُّعِهِ على المندوب ليساعَدَ في تفجعه فيحصل التأسِّي بذلك فيخف ما به من المصيبة، وذلك إنما يحصل بندبة المعرفة، لا بندبة النكرة، وإذا كان ندبة النكرة ليس فيها فائدة وجب أن تكون غير جائزة، وأما الأسماء الموصولة فإنها أيضًا مبهمة، فأشبهت النكرة؛ فوجب أن لا تجوز ندبتها كالنكرة. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن الإشارة قد قَرَّبَت الاسم النكرة من المعرفة فجازت ندبته كالمعرفة" قلنا: إلا أنه باقٍ على إبهامه، والمندوب يجب أن يندب بأعرف أسمائه، وأما الأسماء الموصولة وإن كانت قد تخصصت بالصلة فإنها لا تخلو عن إبهام؛ لأن تخصيصها إنما يحصل بالجمل، والجمل في الأصل نكرات.

_ 1 انظر في هذه المسألة: تصريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 239" وشرح الأشموني بحاشية الصبان "3/ 144" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص187" وشرح الرضي على الكافية "1/ 144 وما بعدها".

وأما ما حكوه من قولهم "وامن حفر بئر زمزماه" فهو من الشاذ الذي لا يقاس عليه، على أنا نقول: إنما جاء مع شذوذه ههنا لأنه كان معروفًا، وهو عبد المطّلب جدّ النَّبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد عُرِف بحفر بئر زمزم، وله يقول خُوَيْلِدُ بن أسد: [229] أقول وما قولي عليكم بِسُبَّةٍ ... إليك ابن سلمى أنت حَافِرُ زَمْزَمَ حَفِيرَةُ إبراهيم يوم ابن هَاجَرَ ... ورَكْضَةُ جِبريل على عهد آدم فقال عبد المطلب: ما وجدت أحدًا ورث العلم الأقدم غير خويلد بن أسد؛ فلما كان عبد المطلب معروفًا بحفرها تنزَّل الاسم الموصول الدالُّ عليه منزلة اسمه العلم، والله أعلم

_ [299] هذان البيتان لخويلد بن أسد بن عبد العزى، كما قال المؤلف، وهو أبو عدي خويلد ابن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، أبو أم المؤمنين وصفية رسول رب العالمين السيدة خديجة بن خويلد، وجد الزبير بن العوام بن خويلد حواري سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن عمّته صفية بنت عبد المطلب، و "ابن سلمى" هو عبد المطلب بن هاشم جد سيدنا ومولانا خاتم الأنبياء والمرسلين، وأم عبد المطلب هي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار بن تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج، وإبراهيم: أراد به أبا الأنبياء إبراهيم خليل الله، وابن هاجر: هو إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وهو الجد الأعلى لقريش، بل وللعرب جميعًا، والاستشهاد بالبيت في قوله "إليك ابن سلمى أنت حافر زمزم" فإنه يدل على أن عبد المطلب ابن هاشم -وهو ابن سلمى- كان مشهورًا بأنه حافر بئر زمزم، فإذا قال قائل "وامن حفر بئر زمزماه" فكأنه قال: واعبد المطلباه.

مسألة هل يجوز إلقاء علامة الندبة على الصفة

52- مسألة: [هل يجوز إلقاء علامة الندبة على الصفة؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن تُلْقَى علامة الندبة على الصفة، نحو قولك "وازيدُ الظريفاه" وإليه ذهب يونس بن حبيب البصريُّ وأبو الحسن بن كَيْسَان. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: أجمعنا على أنه يجوز أن نلقي علامة الندبة على المضاف إليه، نحو قولك: "واعبد زَيْدَاه، واغلام عَمْرَاهْ" فكذلك ههنا؛ لأن الصفة مع الموصوف بمنزلة المضاف مع المضاف إليه؛ فإذا جاز أن تُلْقَى علامةُ النُّدْبَةِ على المضاف إليه فكذلك يجوز أن تُلْقَى على الصفة. والذي يدل على ذلك ما رُوِيَ عن بعض العرب أنه ضاع منه جُمجمتان -أي قَدَحَان- فقال "واجُمْجُمَتَيَّ الشَّامِيَّتَيْنَاه" وألقى علامة الندبة على الصفة؛ فَدَلَّ على ما قلناه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز أن تلقى علامة الندبة على الصفة لأن علامة الندبة إنما تلقى على ما يلحقه تنبيه النداء لمدِّ الصوت، وليس ذلك موجودًا في الصفة؛ لأنها لا يلزم ذكرها مع الموصوف؛ فوجب أن لا يجوز وسنبيّن هذا في الجواب إن شاء الله تعالى. أما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنا أجمعنا على أنه يجوز أن تلقى علامة الندبة على المضاف إليه فكذلك على الصفة؛ لأن الصفة مع الموصوف بمنزلة المضاف مع المضاف إليه"، قلنا: لا نسلم؛ فإن المضاف لا يتم بدون ذكر المضاف إليه، بخلاف الموصوف مع الصفة فإن الموصوف يتم بدون ذكر الصفة. ألا ترى أنك لو قلت "عبد" في قولك عبد زيد أو "غلام" في قولك غلام عمرو

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح الكافية لرضي الدين "1/ 145" وشرح الأشموني بحاشية الصبان "3/ 145" وتصريح الشيخ خالد "2/ 230" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص178".

لم يتم إلا بذكر المضاف إليه، ولو قلت "زيد" في قولك هذا زيد الظريف يتم الموصوف بدون ذكر الصفة، وكنت في ذكرها مخيّرًا: إن شئت ذكرتها، وإن شئت لم تذكرها، فَبَانَ الفرق بينهما. وأما ما روي عن بعض العرب من قوله "واجمجمتيّ الشاميّتيتاه" فيحتمل أن يكون إلحاق علامة الندبة من قياس يونس، وعلى كل حال فهو من الشاذ الذي لا يُعْبأ به ولا يقاس عليه، كقولهم "وامَنْ حَفَرَ بئر زَمْزَمَاهْ" وما أشبه ذلك، والله أعلم.

مسألة اسم لا المفرد النكرة، معرب أو مبني

53- مسألة: [اسم لا المفرد النكرة، مُعْرَبٌ أو مبنيٌّ؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن الاسم المفرد النكرة المنفي بلا معرب منصوب بها نحو "لا رجلَ في الدَّارِ" وذهب البصريون إلى أنه مبنيٌّ على الفتح. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه منصوب بها لأنه اكتفى بها من الفعل؛ لأن التقدير في قولك "لا رجل في الدار" لا أجد رجلاً في الدار، فاكتفوا بلا من العامل، كما تقول "إن قُمْتَ قُمْتُ، وإنْ لا فلا" أي وإن لا تَقُمْ فلا أقُومُ، فلما اكتفوا بلا من العامل نصبوا النكرة به، وحذفوا التنوين بناء على الإضافة. ومنهم من تمسك بأن قال: إنما قلنا إنه منصوب بها لأن "لا" تكون بمعنى غير، كقولك" زيد لا عاقل ولا جاهل" أي: غير عاقل وغير جاهل، فلما جاءت ههنا بمعنى ليس نصبوا بها: ليخرجوها من معنى غير إلى معنى ليس ويَقَعَ الفرق بينهما. ومنهم من تمسك بأن قال: إنما أعملوها النصب لأنهم لما أولوها النكرة -ومن شأن النكرة أن يكون خبرها قبلها- نصبوا النكرة بغير تنوين. ومن النحويين من قال: إنه منصوب لأن "لا" إنما عملت النصب لأنها نقيضة إنَّ؛ لأن "لا" للنفي، و"إنَّ" للإثبات، وهم يحملون الشيء على ضده، كما يحملوه على نظيره، إلا أن "لا" لما كانت فرعًا على "إن" في العمل، و "إنَّ" تنصب مع التنوين نَصَبَتْ "لا" من غير تنوين؛ لينحطَّ الفرع عن درجة الأصل؛ لأن الفروع أبدًا تنحط عن درجات الأصول.

_ 1 انظر في هذه المسألة: أسرار العربية للمؤلف "ص99" وشرح الأشموني بحاشية الصبان "2/ 6 بولاق" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "1/ 288 وما بعدها" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص129" وشرح رضي الدين على الكافية "1/ 234".

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه مبنيٌّ على الفتح لأن الأصل في قولك "لا رجل في الدار؟ " لا مِنْ رجل في الدار؛ لأنه جواب من قال "هل من رجل في الدار؟ " فلما حذفت "من" من اللفظ وركبت مع لا تضمنت معنى الحرف فوجب أن تُبْنَى، وإنما بنيت على حركة لأن لها حالة تمكنٍ قبل البناء، وبنيت على الفتح لأنه أخفّ الحركات. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنما قلنا إنه منصوب بلا؛ لأنها اكتفي بها عن الفعل" قلنا: هذا مجرد دعوى يفتقر إلى دليل؛ ثم لو كان كما زعمتم لوجب أن يكون منوّنًا. قولهم "حذف التنوين بناء على الإضافة" قلنا: لو كان هذا صحيحًا لوجب أن يطرد في كل ما يجوز إضافته من الأسماء المفردة المنونة، فلما قلتم إنه يختص بهذا الموضع دون سائر المواضع دلَّ على فساد ما ذهبتم إليه. وأما قولهم "إنَّ لا تكون بمعنى غير، فلما جاءت بمعنى ليس منصوبًا بها ليخرجوها من معنى غير" قلنا: ولِمَ إذا كانت بمعنى ليس ينبغي أن يُنْصَب به؟ وهلّا رفعوا بها على القياس؛ فإنهم يرفعون بها إذا كانت بمعنى ليس، قال الشاعر: [230] من صَدَّ عن نِيرَانِهَا ... فأنا ابنُ قَيْسٍ لا بَرَاحُ

_ [230] هذا البيت من كلام سعد بن مالك القيسي، وهو من شواهد سيبويه "1/ 28 و354" وشرح الرضي على الكافية في باب ما ولا المشبهين بليس، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 223" والزمخشري في المفصل "رقم 24 بتحقيقنا" وشرح ابن يعيش "ص134" والأشموني "رقم 225" وأوضح المسالك "رقم 107" ومغني اللبيب "رقم 396" وصد: أي أعرض، والضمير في "نيرانها" يعود إلى الحرب التي ذكرها في أبيات سابقة، وأراد من نكل عنها ولم يقتحم لظاها، وقوله "فأنا ابن قيس" نسب نفسه إلى جدّه الأعلى؛ فإنه سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، والمراد من هذه العبارة أنا ذلك المعروف بالجراءة والنجدة والشهامة الذي طرق سمعك اسمه وعرفت عنه ما عرفت من صفات البطولة. والاستشهاد به في قوله "لا براح" حيث أعمل فيه "لا" عمل ليس؛ فرفع بها الاسم، وحذف خبرها، وتقدير الكلام: لا براح لي، وقد قال ابن هشام في شرح الشاهد -تبعًا لابن يعيش والمُبَرِّد- إنه يجوز أن تكون لا نافية مهملة، وبراح -على هذا- يكون مبتدأ، وقد حذف خبره، واعترض جماعة هذا الكلام بأن المعهود في لا النافية أن تعمل عمل إن أو عمل ليس، فإن لم تعمل أحد العملين وجب تكرارها كأن تقول: لا رجل عندك ولا امرأة فلما لم تتكرر علمنا أنها عاملة، ولما كان الاسم الذي بعدها مرفوعًا علمنا أنها عملت عمل ليس، وقد تمحل قوم فقالوا: يجوز أن تكون مهملة ولكنها لم تتكرر للضرورة وهذا كلام لا يجوز لك أن تأخذ به؛ لأن المصير إلى الضرورة أمر لا يجوز ارتكابه إلا حين لا يكون للكلام محمل صحيح يحمل عليه.

أي ليس براح، وقال الآخر: [231] واللهِ لولا أن تَحُسَّ الطُّبَّخُ ... بِي الجحيمَ حين لا مُسْتَصْرَخُ أي ليس مستصرخ هناك لنا. وأما قولهم "إنما أعملوها النصب لأنهم لما أَوْلُوهَا النكرة -ومن شأن النكرة أن يكون خبرها مقدما عليها- نصبوا بها النكرة" قلنا: ولم قلتم ذلك؟ وما وجه المناسبة بينه وبين النصب؟ ثم لو كان كما زعمتم وأنه معرب منصوب لوجب أن يدخله التنوين ولا يحذف منه؛ لأنه اسم معرب منصوب لوجب أن يدخله التنوين ولا يحذف منه؛ لأنه اسم معرب ليس فيه ما يمنعه من الصَّرْفِ، فلم مُنِعَ من التنوين دلَّ على أنه ليس بمعرب منصوب. وهذا هو الجواب عن قول من ذهب إلى أنه منصوب بلا؛ لأنها نقيضَةُ إنَّ؛ فإنه كان ينبغي أن يكون منوّنًا. قولهم: "إنَّ لا لما كانت فرعًا على إنَّ في العمل، وأن تنصب مع التنوين نَصَبَتْ لا من غير تنوين؛ لينحط الفرع عن درجة الأصل". قلنا: هذا فاسد، وذلك لأن التنوين ليس من عمل إن، وإنما هو شيء يستحقه الاسم في الأصل، وإنما يستقيم هذا الكلام أن لو كان التنوين من عمل إن، ولا خلاف بين النحويين أن التنوين ليس من عملها، وإذا لم يكن من عمل إن التي هي الأصل، فلا معنى لحذفه مع "لا" التي هي الفرع لينحط الفرع عن درجة الأصل؛ لأن الفرع إنما ينحط عن درجة الأصل فيما كان من عمل الأصل، وإذا لم يكن من عمل الأصل، فيجب

_ [231] هذان بيتان من الرجز المشطور، وقد أنشدهما ابن منظور "ط ب خ - ح ش ش" ولم يعزهما إلى قائل معين، وأنشد سيبويه كلمة الاستشهاد "1/ 357" ولم يعزها، ولا بينها الأعلم ولا تكلم عليها. وتقول: حش النار يحشها حشًا: أي جمع لها ما تفرق من الحطب وأوقدها، وتقول حش الحرب يحشها حشًا؛ إذا أسعرها وهيّجها، تشبيها بإسعار النار، قال زهير: يحشونها بالمشرفية والقنا ... وفتيان صدق لا ضعاف ولا نكل والطبخ: الملائكة الموكلون بعذاب الكفار، والاستشهاد بالبيت في قوله "لا مستصرخ" حيث رفع الاسم الواقع بعد "لا" النافية التي بمعنى ليس، وقد علمت مما قدمناه في شرح الشاهد السابق أن جمهرة البصريين على أنه مرفوع بلا؛ لأنها لما شبهت بليس عملت عملها فرفعت الاسم ونصبت الخبر، وأنا أبا العباس المُبَرِّد وموفق الدين بن يعيش -وتبعهما ابن هشام- جوزوا أن تكون "لا" في مثل هذا نافية مهملة لا عمل لها، والاسم المرفوع بعدها مبتدأ خبره محذوف، وهذا تخريج يتفق مع مذهب الكوفيين، ولكنا آثرنا لك ألا تأخذ بهذا التخريج لما بيَّنَّا لك من أن "لا" لو كانت مهملة لوجب تكرارها، فلما لم تتكرر في هذا الشاهد والذي قبله كان ذلك دليلا على أنها عاملة.

أن يكون ثابتًا مع الفرع، كما كان ثابتًا مع الأصل، ثم انحطاطُهَا عن درجة "إِنَّ" قد ظهر في أربعة أشياء: أحدها: أن إنَّ تعمل في المعرفة والنكرة، ولا لا تعمل إلا في النكرة دون المعرفة. والثاني: أن إنَّ لا تركَّب مع الاسم لقوتها، ولا تركَّب مع الاسم لضعفها. والثالث: أن إنَّ تعمل في الاسم مع الفصل بينها وبينه بالظرف وحرف الجر، ولا لا تعمل مع الفصل بينها وبينه بالظرف ولا حرف الجر. والرابع: أن إنَّ تعمل في الاسم والخبر عندنا، ولا إنما تعمل في الاسم دون الخبر عند أهل التحقيق والنظر. فقد ظهر انحطاطُ لا عن درجة إنَّ على ما بيّنا، والله أعلم.

مسألة هل تقع من لابتداء الغاية في الزمان

54- مسألة: [هل تقع "من" لابتداء الغاية في الزمان؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أنَّ "من" يجوز استعمالها في الزمان والمكان. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز استعمالها في الزمان. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه يجوز استعمال "من" في الزمان أنه قد جاء ذلك في كتاب الله تعالى وكلام العرب، قال الله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108] و {أَوَّلِ يَوْمٍ} من الزمان، [و] قال الشاعر، وهو زهير بن أبي سُلْمَى: [232] لِمَنِ الدِّيَارُ بِقُنَّةِ الحِجْرِ ... أَقْوَيْنَ مِنْ حِجَجٍ ومِنْ دَهْرِ

_ [232] هذا البيت مطلع قصيدة لزهير بن أبي سلمى المزني يمدح فيها هرم بن سنان المري، وقد استشهد بهذا البيت ابن يعيش في شرح المفصل "ص1075" والرضي في شرح الكافية "2/ 298" وشرح البغدادي في الخزانة "4/ 126" والأشموني "رقم 567" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 300" والاستفهام في قوله "لمن الديار" للتعجب من شدة خراب هذه الديار حتى كأنها لا تعرف ولا يعرف أصحابها، والقنة: أعلى الجبل، والحجر -بكسر فسكون- منازل ثمود عند وادي القرى من ناحية الشام، وأقوين: أقفرن وخلون، والحجج: جمع حجة -بكسر الحاء- وهي السنة، والدهر: الأبد الممدود، ومحل الاستشهاد بالبيت في قوله "من حجج ومن دهر" فإن الكوفيين رووا هذه العبارة على هذا الوجه، واستدلوا بها على أنه يجوز استعمال "من" لابتداء الغاية الزمنية كما يجوز أن تجيء لابتداء الغاية المكانية، والبصريون ينكرون هذه الرواية ويزعمون أن الرواية الصحيحة في هذا البيت "أقوين" مذحجج ومذدهر" بل إن من العلماء من أنكر أن زهيرًا قال هذا البيت، وزعم أن زهيرًا بدأ قصيدته بقوله: دع ذا وعد القول في هرم ... خير البداة وسيد الحضر =

فدلَّ على أنه جائز. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: أجمعنا على أن "مِنْ" في المكان نظير مُذْ في الزمان؛ لأن مِنْ وضعت لتدل على ابتداء الغاية في المكان؛ كما أن مُذْ وضعت لتدل على ابتداء الغاية في الزمان، ألا ترى أنك تقول: "ما رَأَيْتُهُ مُذْ يَوْمُ الجُمْعة" فيكون المعنى أن ابتداء الوقت الذي انقطعت فيه الرؤية يوم الجمعة، كما تقول: "ما سِرْتُ مِنْ بَغْدَادَ" فيكون المعنى ما ابتدأت بالسير من هذا المكان، فكما لا يجوز أن تقول "ما سرت مُذْ بغداد" فكذلك لا يجوز أن تقول "مَا رَأَيْتُهُ من يوم الجمعة". وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108] فلا حجة لهم فيه؛ لأن التقدير فيه: من تأسيس أول يوم، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مُقَامه، كما قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف: 82] والتقدير فيه: أهل القرية وأهل العير، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 177] وكقولهم: الجودُ حاتمٌ، والشجاعة عنترة، والشعر زهير، أي: جود حاتم، وشجاعة عنترة، وشعر زهير، وكقولهم "بَنُو فَلَانٍ يَطَؤُهُمُ الطَّرِيقُ" أي: أهل الطريق، وقال الشاعر: [233] حسبت بُغَامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا ... وما هي -وَيْبَ غَيْرَكَ- بِالعَنَاقِ

_ = وأن حمادًا الرواية لما رأى هذا البيت مطلع القصيدة ابتكر ثلاث أبيات جعلها مقدمة لهذا المطلع، أولها بيت الشاهد، وبعده: لعب الزمان بها وغيرها ... بعدي سوافي المور والقطر قفرًا بمندفع النحائت من ... صفوي أولات الضال والسدر فإن سلمنا صحة الرواية التي رواها الكوفيون وسلمنا مع ذلك صحة نسبة البيت إلى زهير فتخريجه على ما ذكره المؤلف. [233] أنشد ابن منظور "ع ن ق" هذا البيت أول بيتين، وأسند روايتهما لابن الأعرابي، ونسبهما لقريط يصف الذئب فالخطاب له، ثم أنشده وحده "ب غ م" ونسبه لذي الخرق. وبغام الناقة -بضم الباء وتخفيف الغين- صوت لا تفصح به، وبغام الظبية: صوتها، وقد بغمت تبغم -من مثال ضرب ونصر وفتح- بغوما ويغاما. وتقول: بغمت الرجل؛ إذا لم تفصح له عن معنى ما تحدثه به. والراحلة، هنا: الناقة سميت بذلك لأن صاحبها يرتحلها: أي يركبها أو يضع رحله عليها، والعناق -بفتح العين وتخفيف النون- الأنثى من المعز. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "عناقا" فإنه على تقدير مضاف يتم به التشبيه، ألا ترى أنه لا يصح تشبيه صوت الناقة بالعناق نفسها؟ وإنما يصح تشبيه صوت الناقة بصوت العناق.

والتقدير فيه: بُغَامَ راحلتي بُغَامَ عَنَاقِ، وقال الآخر: [234] لقد خِفْتُ حتَّى لا تزيد مَخَافَتِي ... عَلَى وَعَلٍ في ذِي المَطَارَةِ عَاقِلٍ والتقدير فيه: حتى لا تزيد مخافتي على مخافة وعلٍ، وهو من المقلوب، وتقديره: حتى لا تزيد مخافَةُ وَعِلٍ على مخافتي، كما قال الآخر: [235] كانت فريضةَ ما تقولُ كَمَا ... أن الزِّنَاء فريضةُ الرَّجْمِ

_ [234] هذا البيت من كلام النابغة الذبياني، وقد أنشده ياقوت في معجم البلدان "مطارة" كما أنشده الشريف المرتضي في أماليه "ص216" والوعل -بفتح الواو وكسر العين أو سكونها؛ وفيه لغة بضم الواو وكسر العين، وهي ضعيفة- تيس الجبل، والمطارة -بفتح الميم- قال ياقوت: "يجوز أن تكون الميم زائدة فيكون من طار يطير، أي البقعة التي يطار منها، وهو اسم جبل" ويضاف إليه "ذو" وعاقل: أي متحصن، وفي الحديث "ليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل" أي ليتحصنن أي يعتصم ويلتجئ إليه كما يتحصن الوعل إلى رأس الجبل. ومحل الاستشهاد بالبيت هنا قوله "لا تزيد مخافتي على وعل" فإن الكلام فيه على تقدير مضاف: أي لا تزيد مخافتي على مخافة وعل، ألا ترى أن مخافته لا تشبه بالوعل نفسه، وإنما تشبه بمخافة الوعل؟ وقد قالوا: إن الكلام على القلب؛ فإن الأصل: لا تزيد مخافة الوعل المعتصم بالجبل على مخافتي، فقلب، قال الأصمعي: "يقول: قد خفت حتى ما تزيد مخافة الوعل على مخافتي، فلم يمكنه، فقلب" ا. هـ. وهذا أحد توجيهين في هذا البيت، والتوجيه الثاني: أن تكون "ما" في قوله "ما تزيد مخافتي زائدة، وكأنه قال: حتى تزيد مخافتي، والاستشهاد به لما أراد المؤلف منه لا يزول على أي الوجهين. [235] هذا البيت قد أنشده ابن منظور "ز ن ى" ونسبه إلى الجعدي، وأنشده الشريف المرتضى في أماليه "ص216 ط الحلبي" والعباسي في معاهد التنصيص "ص86 بولاق" من غير عزو، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "أن الزناء فريضة الرجم" فإن هذا العبارة مقلوبة، وأصلها "أن الرجم فريضة الزنا" وعلماء العربية يختلفون في القلب: أجائز هو أم غير جائز، ولهم فيه ثلاثة أقوال: الأول: أنه جائز مقبول مطلقًا وممن ذهب هذا المذهب السكاكي، والثاني: أنه غير جائز ولا مقبول مطلقًا، وما وقع من ذلك في شعر الشعراء فهو من أخطائهم أوله تأويل آخر كالتأويل الذي ذكرناه في شرح الشاهد السابق "رقم 234" والثالث: أنه إذا كان قد تضمن اعتبارًا لطيفًا فهو جائز مقبول، وإن لم يتضمن اعتبارًا لطيفًا فهو مردود على صاحبه، ومن أمثلة القلب قول الراجز وأنشده ابن منظور "ح ل ا": إن سراجًا لكريم مفخره ... تحلى به العين إذا ما تهجره فقد أراد الراجز أن يقول "يحلى بالعين" فلم يستطع، فقلب، ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج وأنشده الخطيب القزويني في الإيضاح "ص78 بتحقيقنا" والشريف المرتضى في الأمالي "ص216" وسيأتي مع الشاهد 236 قريبًا: ومهمه مغبرة أرجاؤه ... كأن لون أرضه سماؤه =

.......................................................................................................................

_ = فقد أراد أن يقول "كأن لون سمائه أرضه" فقلبت، مثله قول القطامي "الإيضاح 78 والمعاهد 86": فلما أن جرى سمن عليها ... كما طينت بالفدن السياعا السمن -بكسر السين وفتح الميم- امتلاء الجسم بالشحم، وطينت: طليت بالطين، والفدن -بالتحريك- القصر المنيف، والسياع -بزنة الكتاب- الطين المخلوط بالتبن، وقد أراد أن يقول "كما طليت القصر بالسياع" فقلب، ومثله قول حسان بن ثابت يصف الخمر: كأن سبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء السبيئة: الخمر، وبيت رأس: بلد بالشام، ومزاجها: ما يخلط بها، وقد أراد أن يقول "يكون ما يمزج بها عسلًا وماء بجعل مزاجها اسم يكون وعسلًا وماء خبرها" فقلب، ومثله قول عروة بن الورد، وينسب للعباس بن مرداس السلمي: فديت بنفسه نفسي ومالي ... وما آلوك إلا ما أطيق فقد أراد أن يقول "فديته نفسي ومالي" فقلب، ومثله قول القطامي من قصيدته التي منها البيت السابق. قفي قبل التفرق يا ضباعا ... ولا يك موقف منك الوداعا أراد أن يقول "ولا يك الوداع موقفا منك" فقلب، وهو أشبه ببيت حسان، ومثله قول الشاعر وهو من أبيات سيبويه "1/ 92". ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه ... وسائره باد إلى الشمس أجمع أضاف مدخلا -وهو اسم الفاعل من أدخل- إلى الظل، ثم نصب "رأسه" به على الاتساع والقلب، وكان الوجه أن يقول: مدخل رأسه الظل؛ لأن الرأس هو الداخل في الظل؛ ومثله قول الراعي يذكر ثورًا: فصبحته كلاب الغوث يؤسدها ... مستوضحون يرون العين كالأثر الغوث: قبيلة من طيّئ، ويؤسدها: يغريها، ومستوضحون: فاعل يؤسدها، وأراد "صيادون مستوضحون" فحذف الموصوف وأبقى الصفة، والمعنى يغريها صيادون ينظرون هل يرون شيئًا، وقوله "يرون العين كالأثر" هو المقلوب، وأصله: يرون الأثر كالعين، ومثل ذلك كله قول ابن مقبل، وقد أنشده ابن منظور "هـ ى ب": ولا تهيبني الموماة أركبها ... إذا تجاوبت الأصداء بالسحر فقد أراد أن يقول "ولا أتهيب الموماة أركبها" فقلب. وقد وقع القلب في شعر المحدثين؛ فمن ذلك قول أبي تمام الطائي: لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأري الجنى أشتارته أيد عواسل البيت في وصف القلم، واللعاب: الريق، وهو ماء الفم، والأفاعي: الحيات، والأري -بفتح الهمزة وسكون الراء- ما لزق من عسل النحل في جوف الخلية، والجنى -بوزن الفتى- العسل، وإضافة الأري إليه للتخصيص؛ لأن الأري يكون أيضًا ما لزق بجوف القدر من الطبيخ، واشتارته: أي استخرجته وقطفته، وأيد عواسل: أي قاطفة للعسل، وقد أراد أن يقول "لعابه لعاب الأفاعي" فقلب، والبصريون يخرجونه على التقديم والتأخير، ونظيره =

تقديره: كما أن الرَّجْمَ فريضةُ الزِّنَاءِ: وأما قول زهير: [232] أَقْوَيْنَ من حِجَج ومن دَهْرِ فالرواية الصحية "مُذْ حِجَج ومُذْ دَهْرِ" ولئن سلمنا ما رويتموه "من حجج ومن دهر" فالتقدير فيه أيضا: من مَرِّ حِجَج ومن مَرِّ دَهْرِ، كما تقول: مَرّت عليه السنُون، ومَرّت عليه الدهُورُ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه كما بيَّنَّا في الآية، وقيل: إنَّ "من" ههنا زائدة، وهو قول أبي الحسن الأخفش؛ فإنه يجوز أن تُزَاد في الإيجاب، كما يجوز أن تُزَاد في النفي، ويحتج بقوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 4] أي يغفر لكم ذنوبكم، وبقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] أي يغضوا من أبصارهم، ويحتج أيضًا بقول الشاعر: [210] ألا حَيِّ نَدْمَانِي عُمَيْرَ بْنَ عامر ... إذا ما تلاقينا من اليوم أو غَدَا أراد اليوم أو غدًا، فكذلك ههنا: التقدير في قوله "من حجج ومن دهر" أي حججًا ودهرًا، فدلَّ على فساد ما ذهبوا إليه، والله أعلم.

_ = قول حسان بن ثابت: قبيلةٌ ألأم الأحياء أكرمها ... وأغدر الناس بالجيران وافيها أراد أن يقول: أكرمها ألأم الأحياء: ووافيها أغدر الناس، فقلب، أو قدم وأخر، ونظيرهما البيت المشهور وقد ينسب إلى الفرزدق: بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد فقد أراد أن يقول: بنو أبنائنا بنونا، أي مثلهم، فقلب، أو قدم وأخر، وقد أطلنا عليك في الاستشهاد لهذا الموضوع فَعِه ولا تَنْسَهُ.

مسألة واو رب، هل هي التي تعمل الجر

55- مسألة: [واو رُبَّ، هل هي التي تعمل الجر؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن واو رب تعمل في النكرة الخفض بنفسها وإليه ذهب أبو العباس المُبَرِّد من البصريين. وذهب البصريون إلى أن واو رب لا تعمل، وإنما العمل لربَّ مقدرة. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن الواو هي العاملة لأنها نابت عن رُبّ، فلما نابت عن رُبّ وهي تعمل الخفض فكذلك الواو لنيابتها عنها، وصارت كواو القسم؛ فإنها لما نابت عن الباء عملت الخفض كالباء، فكذلك الواو ههنا: لما نابت عن رُبّ عملت الخفض كما تعمل رُبّ، والذي يدل على أنها ليست عاطفة أن حرف العطف لا يجوز الابتداء به، ونحن نرى الشاعر يبتدئ بالواو في أول القصيدة، كقوله: [236] وبَلَدٍ عَامِيَةٍ أَعْمَاؤُهُ

_ [236] هذا بيت من مشطور الجرز، وبعده قوله: كأن لون أرضه سماؤه وهو من كلام رؤبة بن العجاج، وقد أنشده ابن منظور "ع م ى" وعزاه إليه، وانظر ما ذكرناه في بحث القلب "ص374" والأعماء: المجاهل، واحدها عمى -بوزن فتى- ومعنى قوله "عامية أعماؤه" أن مجاهله متناهية في العمى، وهو باب من المبالغة مثل قولهم: ليل أليل، وليل لائل، ويوم أيوم، وشعر شاعر، كأنهم لم يجدوا ما يصفونه به إلا أن يشتقوا له وصفًا من لفظه، وكأن رؤبه قد قال أعماؤه عامية، فقدّم وأخّر، وهم قلّما يأتون بهذا الضرب من المبالغة إلا على طريق الوصف كقولهم: شغل شاغل، وليل لائل، وما ذكرناه قريبًا، لكن رؤبة قد اضطر فقدّم وأخّر، وقوله "كأن لون أرضه سماؤه" من المقلوب، =

وكقول الآخر: [160] وبلدة ليس بها أنيس وما أشبه ذلك؛ فدلَّ على أنها ليست عاطفة، فَبَانَ بهذا صحة ما ذهبنا إليه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا: إن الواو ليست عاملة، وإن العمل لرُبَّ مقدرة، وذلك لأن الواو حرف عطف، وحرف العطف لا يعمل شيئًا؛ لأن الحرف إنما يعمل إذا كان مختصًّا، وحرف العطف غير مختص؛ فوجب أن لا يكون عاملًا، وإذا لم يكن عاملًا وجب أن يكون العامل رُبّ مقدرة. والذي يدل على أنها واو العطف وأن رب مضمرة بعدها أنه يجوز ظهورها معها، نحو "ورب بلد" وسنبيّن ذلك مستوفى في الجواب. أما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنها لما نابت عن رب عملت عملها كواو القسم" قلنا: هذا فاسد؛ لأنه قد جاء عنهم الجرُّ بإضمار رب من غير عِوَض منها، وذلك نحو قوله: [237] رَسْمِ دَارٍ وَقَفْتُ في طَلَلِهْ ... كِدْتُ أَقْضِي الحياةَ من جَلَلِهْ وقال الآخر: [238] مِثْلِكِ أو خَيْرٍ تَرَكْتُ رَذِيَّةً ... تُقَلِّبُ عينيها إذا طَارَ طَائِرُ

_ = وأصله "كأن لون سمائه أرضه" وقد قدمنا كثيرًا من أمثلة القلب مع شرح الشاهد "رقم 235" ومحل الاستشهاد بالبيت هنا قوله "وبلد" فإنه يريد "ورب بلد" وليست هذه الواو واو العطف. إذ لا معطوف عليه، بحكم أن هذا البيت أول الأرجوزة. [237] هذا البيت مطلع قصيدة لجميل بن معمر العذري صاحب بثينة، وهو من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص1110" ورضي الدين في باب حروف الجر من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 199" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 184" وفي أوضح المسالك "316" والأشموني "رقم 579" وابن عقيل "رقم 220" والرسم -بفتح الراء وسكون السين- ما بقي لاصقًا بالأرض من آثار الديار كالرماد ونحوه، والطلل -بفتح الطاء واللام جميعًا- ما بقي شاخصًا مرتفعًا من آثارها كالوتد ونحوه، وقوله "من جلله" يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون من قولهم "فعلت كذا من جلل كذا" أي من أجله وبسببه، والثاني: أن يكون من قولهم "فعلت كذا من جلل كذا" أي من عظمه في نفسي، ومحل الاستشهاد في البيت قوله "رسم دار" فإن الرواية فيه بجر الرسم، وقد خرجها العلماء على أنه مجرور لفظًا برب المحذوفة الباقي عملها، قال ابن يعيش "أراد رب رسم دار، ثم حذف، لكثرة استعمالها" ا. هـ. [238] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 294" وقد غير المؤلف في صدره تغييرًا سننبه عليه، وقوله "أو خير" يريد أو خير منك، والرذية: فعيلة من قولهم "رذي البعير يرذي -من مثال =

والذي يدل على فساد ما ذهبوا إليه أيضًا أنها تضمر بعد بَلْ، قال الشاعر: [239] بَلْ جَوْزِ تَيْهَاءَ كَظَهْرِ الحَجَفَتْ

_ = فرح يفرح" إذا هزل وأعيا حتى لا يستطيع براحًا ولا ينبعث، وهو رذي والأنثى رذية، وقال أبو زيد: الرذية الناقة المتروكة التي حسرها السفر لا تقدر أن تحلق بالركاب، وفي حديث الصدقة "فلا يعطي الرذية ولا الشرط اللئيمة" يخاطب الشاعر ناقته، يقول: قد تركت مثلك أو خيًرا منك بعد أن أعملتها في السفر، وأودعتها الطريق؛ فكلما مرّ عليها طائر قلبت عينها رهبة منه وخوفًا أن يقع عليها ليأكل منها. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "مثلك أو خير" حيث جر "مثلك" برب المحذوفة من غير أن يقيم الواو مقام رب؛ فهذا يدل على أن الجر ليس بالواو، إذ لو كان الجر بها لم تحذف؛ لأن الأصل في حرف الجر ألا يعمل وهو محذوف لضعفه، وإنما اغتفروا ذلك في رب لكثرة استعمالها، هكذا زعم المؤلف، وما ذكره من القاعدة صحيح، ولكن الرواية في صدر هذا البيت "ومثلك رهبي قد تركت" بنصب "مثلك" أو جره، أما نصبه فعلى أن يكون مفعولا مقدما لقوله تركت، وأما جره فعلى أن يكون مجرورًا برب المحذوفة بعد الواو، ونظيره قول امرئ القيس بن حجر الكندي في رواية: ومثلك بكرًا قد طرقت وثيبًا ... فألهيتها عن ذي تمائم محول [239] هذا البيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص1218" ورضي الدين في شرح شافية الحاجب "رقم 101" وابن جني في سر صناعة الإعراب "رقم 107 في 1/ 177" وفي الخصائص "1/ 304 الدار" وقد أنشده ابن منظور "ح ج ف" ونقل عن ابن بري أنه من أرجوزة لسؤر الذئب، والتيهاء: الصحراء يضل سالكها، وجورزها -بفتح الجيم وسكون الواو- أي وسطها، وإنما شبه الصحراء بظهر الترس لأنها غير ذات أعلام يهتدي بها السائر. وإنما ذكر الوسط ليشير إلى أنه لم يتهيبها وأنه توسطها، وهذا الكلام كناية عن كونه قويًا جلدًا جريئًا لا يهاب. وللنحاة في هذا البيت شاهدان، أحدهما: في قوله "بل جوز تيهاء" حيث جرّ "جوز تيهاء" برب المحذوفة بعد بل، والثاني: في قوله "الحجفت" حيث وقف على تاء التأنيث بالتاء لا بالهاء، قال ابن منظور "يريد رب جوز تيهاء، ومن العرب من إذا سكت على الهاء جعلها تاء فقال: هذا طلحت، وخبز الذرت" ا. هـ. وقال ابن يعيش "من العرب من يجري الوقف مجرى الوصل فيقول في الوقف: هذا طلحت، وهي لغة فاشية حكاها أبو الخطاب، ومنه قولهم: وعليكم السلام والرحمت، ومنه قوله: بل جوز تيهاء كظهر الحجفت ا. هـ كلامه. وقد ذكر الصاغاني أن الذين يقفون على الهاء بالتاء هم طيّئ. ومثل هذا البيت في الجر برب المحذوفة بعد بل قول رؤبة بن العجاج: بل بلد ذي صعد وأصباب ... قطعت أخشاه بعسف جواب

أراد بل رُبَّ جَوْزِ، ولا يقول أحد إن بل تجر. وكذلك تضمر بعد الفاء قال الشاعر: [240] فَخُورٍ قد لَهَوْتُ بهنَّ عِينٍ وليست نائبةً عنها، ولا عوضًا منها. والذي أعتمد عليه في الدليل على أن هذه الأحرف -التي هي الواو والفاء وبل- ليست نائبة عن رُبَّ ولا عِوَضًا عنها أنه يحسن ظهورها معها، فيقال "ورُبَّ بلد" و "بل ربّ بلد" و "فربّ حُورٍ" ولو كانت عوضًا عنها لما جاز ظهورها معها؛ لأنه لا يجوز أن يجمع بين العوض والمعوض. ألا ترى أن واو القسم لما كانت عوضًا عن الباء لم يجز أن يجمع بينهما؛ فلا يقال "وبالله لأفعلنَّ" وتجعلهما حرفَيْ قسم، وكذلك أيضًا التاء، لما كانت عوضًا من الواو كما كانت الواو عوضًا من الباء لم يجمع بينهما؛ فلا يقال: "وتالله" وتجعلهما حرفي قسم؛ لأنه لا يجوز أن يجمع بين العوض والمعوض، فأما قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57]

_ [240] هذا صدر بيت للمتنخل الهذلي، واسمه مالك بن عويمر، والبيت مع بيت سابق عليه هكذا: فإما تعرضن سليم عني ... وتنزعك الوشاة أولو النباط فحور قد لهوت بهن عين ... نواعم في المروط وفي الرياط والبيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص1111" والأشموني "رقم 577" وسليم: مصغر سلمى تصغير الترخيم، وقد حذف حرف النداء، والحور -بضم الحاء- جمع حوراء وهي التي اشتد بياض بياض عينها واشتد مع ذلك سواد سوادها، والعين -بكسر العين- جمع عيناء، وهي الواسعة العين، ويروى "قد لهوت بهن حينا" والنواعم: جمع ناعمة، وهي التي ترفل في النعيم، والمروط: جمع مرط -بكسر الميم وسكون الراء- وهو الثوب من الخز، والرياط: جمع ريط، وهو ضرب من الثياب، والاستشهاد بالبيت في قوله "فحور" حيث جر لفظ "حور" برب المحذوفة بعد الفاء، ونظير ذلك في هذا قول امرئ القيس -في رواية- وهو من شواهد سيبويه "1/ 294": فمثلك حبلي قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تماثم محول قال سيبويه بعد إنشاده "أي رب مثلك، ومن العرب من ينصبه على الفعل" ا. هـ، أي يجعله مفعولا به تقدم على عامله -وهو طرقت- لكونه مما يتعدى إلى المفعول به ولم ينصب مفعولا، فأما في بيت الشاهد فلا يجيء ذلك، ونظيره أيضًا قول ربيعة بن مقروم الضبي وهو من شعر الحماسة ومن شواهد الرضي "انظر الخزانة 4/ 201". فإن أهلك فذي حنق لظاه ... على تكاد تلتهب التهابا يريد فإن أهلك فرب ذي حنق إلخ، يعني إن أهلك فإني كثيرًا ما تركت مغيظًا محنقًا قد ألهبت قلبه وأشعلت نيران ضغنه بسبب ما جدلت وصرعت من ذوي قرباه مثلًا.

فالواو فيه واو عطف، وليست واو قسم؛ فلم يمتنع أن يجمع بينها وبين تاء القسم، فلما جاز الجمع بين الواو ورب دلَّ على أنها ليست عوضًا عنها، بخلاف واو القسم، وأنها واو عطف. وقولهم "إن حرف العطف لا يجوز الابتداء به"، ونحن نرى الشاعر يبتدئ بالواو في أول القصيدة كقوله: [236] وبلد عَامِيةٍ أَعْمَاؤُهُ فنقول: هذه الواو واو عطف وإن وقعت في أول القصيدة؛ لأنها في التقدير عاطفة على كلام مقدر، كأنه قال: رب قفر طامس أعلامه سلكته، وبلد عامية أعماؤه قطعته. يصف نفسه بركوب الأخطار وقطع المفاوز والقِفَاز، إشعارًا بشهامته وشجاعته. وإذ قد ثبت ما ذكرناه أنها حرف عطف؛ فينبغي أن لا تكون عاملةً، فدل على أن النكرة بعدها مجرورة بتقدير رُبَّ على ما بينَّا، والله أعلم.

مسألة القول في إعراب الاسم الواقع بعد مذ ومنذ

56- مسألة: [القول في إعراب الاسم الواقع بعد "مذ" و "منذ"] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "مذ"، و "منذ" إذا ارتفع الاسم بعدهما ارتفع بتقدير فعل محذوف. وذهب أبو زكرياء يحيى بن زياد الفَرَّاء إلى أنه يرتفع بتقدير مبتدأ محذوف. وذهب البصريون إلى أنهما يكونان اسمين مبتدأين، ويرتفع ما بعدهما لأنه خبر عنهما، ويكونان حرفين جَارَّيْنِ فيكون ما بعدهما مجرورًا بهما. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن الاسم بعدهما يرتفع بتقدير فعل محذوف أنهما مركبان من "مِنْ" و "إِذْ" فتغيرا عن حالهما في إفراد كل واحد منهما، فحذفت الهمزة ووصلت "مِنْ" بالذال وضمت الميم؛ للفرق بين حالة الإفراد والتركيب. والذي يدل على الأصل فيهما من وإذ أنَّ2 من العرب من يقول في منذ: "مِنْذُ" بكسر الميم؛ فكسر الميم يدل على أنها مركبة من من وإذ، وإذا ثبت أنها مركبة من من وإذ كان الرفع بعدهما بتقدير فعل؛ لأن الفعل يحسن بعد إذ؛ والتقدير: ما رأيته مذ مَضَى يومانِ، ومنذ مضى ليلتان، فأما إذا كان الاسم بعدهما مخفوضًا كان الخفض بهما اعتبارًا بمن، ولهذا المعنى كان الخفض بمنذ أَجْوَدَ من مذ؛ لظهور نون من فيها تغليبًا لمن، والرفع بمذ أجود لحذف نون من منها تغليبًا لإذ، والذي يدل على أن أصل مذ ومنذ واحد أنك لو سميت بمذ لقلت في تصغيره "مُنَيْذٌ" وفي تكسيره "أَمْنَاذٌ" فتعود النون المحذوفة؛ لأن التصغير والتكسير يردّانِ الأشياء إلى أصولها كما نقول في تصغير منذ وتكسيره إذا سميت به. وأما الفَرَّاء فاحتج بأن قال: إنما قلت إن الاسم يرتفع بعدهما بتقدير مبتدأ

_ 1 انظر في هذه المسألة شرح الأشموني في حاشية الصبان "2/ 198 وما بعدها" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 21 وما بعدها" ومغني اللبيب لابن هشام "ص325 بتحقيقنا" وشرح الرضي على الكافية "2/ 110 وما بعدها" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص545". 2 في ر "وإذ أنه من العرب ... إلخ".

محذوفٍ، وذلك لأن مذ ومنذ مركبتان من مِن وذُو التي بمعنى الذي، وهي لغة مشهورة، قال قوال الطائي: [241] قُولَا لهذا المرء ذو جاء ساعيًا ... هَلُمَّ فإن المَشْرَفِيَّ الفَرَائِضُ أراد: الذي جاء، وقال فيها أيضًا: [242] أَظُنُّكَ دُونَ المال ذُو جِئتَ تَبْتَغِي ... سَتَلْقَاكَ بِيضٌ للنفوس قوابضُ أراد: الذي جئت تبتغي. وقال مِلْحَةُ الجَرْمِيُّ: [243] يُغَادِرُ مَحْضَ المَاءِ ذُو هُوَ مَحْضُهُ ... عَلَى إِثْرِهِ إِنْ كان للماء من مَحْضِ

_ [241] هذا البيت أول ثلاثة أبيات لقوال الطائي -وهو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية في عهد مروان بن محمد آخر بني أمية- يقولها في ساعٍ جاءهم يطلب إبل الزكاة، وقد أثر أبو تمام في ديوان الحماسة ثلاثة الأبيات أولها هذا البيت، وثالثها البيت الذي يليه في شواهد المؤلف "انظر ص640 من شرح المرزوقي" وقد استشهد بهذا البيت رضي الدين في باب الموصولات من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 365 و 514" والأشموني "رقم 99" والساعي: هو الذي يلي جمع الزكاة من أربابها، وهلم: اسم فعل أمر معناه أقبل وتعال، والمشرفي: السيف، منسوب إلى المشارف وهي قرى كانت السيوف تصنع بها، والفرائض: جمع فريضة، وهي ما يؤخذ من السائمة في الزكاة، والشاعر يتهكم بالساعي الذي جاءهم يطلب الذي عليهم أداؤه من زكاة أموالهم، وكان قومه امتنعوا عن أداء حق الله في أموالهم. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "ذو جاء" فإن "ذو" في هذه العبارة اسم موصول بمعنى الذي، وهو صفة للمرء، أي: قولا لهذا المرء الذي جاء يطلب زكاة أموالنا تعال إلخ، والذين يستعملون "ذو" بمعنى الذي هم طيّئ. [242] وهذا البيت أيضًا من كلمة قوال الطائي التي منها البيت السابق، كما أشرنا إلى ذلك في شرحه، وبيض: جمع أبيض، وهو السيف، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "ذو جئت" فإن "ذو" اسم موصول بمعنى الذي، وهو صفة للمال، ومن هنا تعلم أن الطائيين يستعملون "ذو" في العقلاء كما في البيت السابق، وفي غير العقلاء كما في هذا البيت. [243] هذان البيتان من كلام ملحة الجرمي، وملحة يُضْبَطُ في بعض الأمهات بضم الميم، وفي بعضها بكسر الميم، وجرم -بفتح الجيم وسكون الراء- من طيّئ، والبيتان المستشهد بهما هنا هما السادس والسابع من كلمة عدتها ثمانية أبيات أثرها أبو تمام في ديوان الحماسة "انظر شرح المرزوقي ص1806" والمحض -بالفتح- أصله اللبن الخالص بلا رغوة، ويستعمل في الحسب وغيره، وقوله "إن كان للماء من محض" لأن ماء المطر من جنس وحد، وقوله "يروي العروق ... إلخ" يريد بالباليات ما أشرف على اليبس من عروق الشجر، ويرويها: أي يعيدها غضة مرتوية، ورواية المرزوقي "يروي العروق الهامدات" ومحل الاستشهاد في البيت الأول من هذين البيتين قوله "ذو هو محضة" فإن "ذو" في هذه العبارة اسم موصول بمعنى الذي، والجملة بعده من المبتدأ والخبر لا محل لها من =

يُرَوِّي العروق البالياتِ من البِلَى ... من العَرْفَجِ النَّجْدِيِّ ذُو بَادَ والحَمْضِ أراد: الذي هو محضه، والذي باد. وقال سِنَانُ بن الفَحْلِ: [244] فإنَّ المَاءَ ماءُ أبي وجَدِّي ... وبئري ذُو حفرت وذُو طَوَيْتُ أراد: الذي حفرت والذي طويت؛ فلما رُكِّبَتَا حذفت الواو من "ذو" اجتزاء بالضمة عنها؛ لأنهم يجتزئون بالضمة عن الواو وبالكسرة عن الياء وبالفتحة عن الألف، قال الشاعر: [245] فلو أنَّ الأَطِبَّا كانُ حَوْلِي ... وكان مع الأَطِبَّاءِ الشُّفَاةُ

_ = الإعراب صلة، وذو صفة للماء، والهاء في "محضة" تعود إلى السحاب يعني يترك هذا السحاب محض الماء الذي هو -أي الماء- محضه: أي خالصة السحاب وصافيته. ومحل الاستشهاد في البيت الثاني قوله "ذو باد" فإن "ذو" اسم موصول بمعنى الذي أيضًا، وقد وقع صفة للعرفج النجدي. [244] هذا البيت لسنان بن الفحل الطائي، من أبيات أوردها أبو تمام أيضًا في ديوان الحماسة "انظر شرح المرزوقي ص590" وهو من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص464" ورضي الدين في باب الموصول من شرح الكافية، وقد شرحه البغدادي في الخزانة "2/ 511" والأشموني "رقم 101" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 51" وفي شرح قطر الندى "رقم 31" و "ذو حفرت" يريد التي حفرتها، و "ذو طويت" أي التي طويتها، وطي البئر: بناؤها بالحجارة، ومحل الاستشهاد في هذا البيت قوله "ذو حفرت وذو طويت" فإن "ذو" في هاتين العبارتين اسم موصول بمعنى التي، ويستدل بهاتين العبارتين على ثلاثة أشياء؛ الأول: أن "ذو" تأتي اسمًا موصولًا، والثاني: أنها تكون بلفظ واحد للمؤنث والمذكر، لأن البئر مؤنثة، والثالث: أنها تستعمل في غير العاقل كما استعملت في العاقل في الشاهد 241. [245] هذا الشاهد من شواهد رضي الدين في باب المضمر من شرح الكافية وقد شرحه البغدادي في الخزانة "2/ 385" ونص على أن الفَرَّاء أنشد البيت الأول في تفسيره، ثم قال بعد كلام طويل "ولم يعزهما الفَرَّاء فمن بعده إلى أحد" وهو من شواهد جار الله في الكشاف "2/ 61 بولاق" في أول تفسير سورة المؤمنين، والأطبا: جمع طبيب، وهو الذي يعالج الأسقام، وقال الشاعر: يقولون: ليلى بالعراق مريضة، ... فياليتني كنت الطبيب المداويا وأصله "الأطباء" كما ورد في الشرط الثاني فقصره الشاعر، و "الشفاة" جمع شاف، ويروى: وكان مع الأطباء الأساة وهو جمع آسٍ. ومن قولك: "أسا الجرح يأسوه" إذا عالجه ليبرأ، ويروى: وكان مع الأطباء السقاة جمع ساقٍ من "سقاه الدواء يسقيه" وجواب لو هو قوله: "إذا ما أذهبوا ... إلخ" ومحل الاستشهاد ههنا قوله "كان حولي" فإن أصل هذه العبارة "كانوا حولي" بواو الجماعة التي تعود إلى الأطباء، فحذف الشاعر الواو واكتفى بالضمة للدلالة.

إذا ما أذهبوا أَلَمًا بقلبي ... وإن قيل الشُّقَاةُ هُمُ الأسَاةُ أراد "كانوا" فحذف الواو اجتزاء بالضمة. وقال الشاعر: [246] إذا ما شاء ضَرُّوا من أرادوا ... ولا يَأْلُوهُمُ أحدٌ ضِرَارًا

_ = عليها، وقد قرئ في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} بضم الحاء -وهي قراءة طلحة بن مصرف- فخرجها الزمخشري على أن الأصل "قد أفلحوا المؤمنون" فحذفت الواو لدلالة الضمة عليها، بدليل أن طلحة نفسه قرأ: "قد أفلحوا المؤمنون" بالواو، وقرئ: "تَمَامًا عَلَى الذِي أَحْسَنُ" برفع أحسن، وخرجها قوم على أن الأصل "على الذين أحسنوا" فحذفت الواو واكتفى بضم النون للدلالة عليها، وعلى هذه القراءة وهذا التخريج يكون "الذي مستعملًا في الجمع نظير قول الآخر: وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد واستبعد ذلك ابن هشام في المغني، ورجح تخريج الجمهور، وحاصله أن "أحسن" أفعل تفضيل وليس فعلًا ماضيًا، وهو خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: تمامًا على الذي هو أحسن، وقرئ: "لِمَنْ أَرَاد أن يتمُّ الرضاعة" برفع "يتم" وخرجه قوم على أن الأصل: "يتموا الرضاعة" فحذفت الواو اجتزاء بالضمة عنها، وخرجها قوم على أن "أن" المصدرية في "أن يتم" مهملة غير عاملة النصب حملًا على "ما" المصدرية أختها نظير قول الشاعر: أن تقرآن على أسماء ويحكما ... مني السلام، وألا تشعرا أحدًا وقد اختلفت عبارة القوم في حذف حرف المد والاجتزاء بالحركة عنه للدلالة عليه: أهو ضرورة من ضرورات الشعر أم هو لغة لبعض العرب؟ فظاهر كلام سيبويه أن ذلك ضرورة؛ فإنه ذكر ذلك واستشهد له في "باب ما يحتمل الشعر" وصدر هذا الباب بقوله "1/ 8" "اعلم أنه يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام: من صرف ما لا ينصرف يشبهونه بما ينصرف من الأسماء لأنها أسماء كما أنها أسماء، ومن حذف ما لا يحذف يشبهونه بما قد حذف واستعمل محذوفًا" ا. هـ. وظاهر كلام الفَرَّاء أن ذلك لغة لبعض العرب، قال "وقد تسقط العرب الواو وهي واو جمع اكتفاء بالضمة قبلها، فقالوا في ضربوا: قد ضرب، وفي قالوا: قد قال، وهي في هوازن وعليا قيس" ا. هـ، وانظر ما أشرنا إليه بعد شرح الشاهد 17 في المسألة الثانية: [246] هذا البيت مما استشهد به الفَرَّاء في تفسيره، وتقول: ألا فلان يألو -بوزن سما يسمو- ألوا بوزن ضرب وألوا بوزن سمو؛ إذا قصر وأبطأ فيما يريد، يعني أن هؤلاء الناس يضرون من أرادوا ضره متى شاءوا، والناس لا يقصرون ولا يتمهلون عن إيصال الضر إليهم، ومحل الاستشهاد قوله "إذا ما شاء" فإن أصل هذه العبارة "إذا ما شاءوا" فحذف الواو، واكتفي بضم الهمزة التي قبلها للدلالة عليها، وحكى اللحياني عن الكسائي أن العرب تقول: أقبل يضربه لا يأل -بضم اللام- يريدون لا يألو، فاكتفوا بالضمة عن الواو، وحكى سيبويه أنهم يقولون: لا أدر -بكسر الراء- يريدون لا أدري، فاكتفوا بالكسرة عن الياء.

أراد "شاءوا"، وقال الآخر: [247] وأَخُو الغَوَان متى يَشَأْ يَضْرِمْنَهُ ... ويَكُنَّ أعداءَ بُعَيْدَ وِدَادِ أراد "الغواني"، وقال الآخر: [248] كَفَّاكَ كَفٌّ لا تُلِيقُ دِرَهَمًا ... جودًا، وأخرى تُعْطِ بالسيف الدَّمَا أراد"تعطي"، وقال الآخر: [249] ليس تخفى يَسَارَتِي قَدْرَ يوم ... ولقد يُخْفِ شِيمَتِي إِعْسَارِي

_ [247] هذا البيت من كلام الأعشى ميمون، وهو من شواهد سيبويه "1/ 10" والغواني: جمع غانية، وهي المرأة التي استغنت بجمالها عن الزينة، أو هي التي استغنت بزوجها عفة وتصونًا وحصانة، أو هي التي غنيت بمكانها: أي أقامت فيه ولم تفارقه، وقوله "متى يشأ" قد حذف منه المفعول، وأصل الكلام: متى يشأ صرمهن، ويصرمنه يبتتن حبال مودته ويقطعنها. يصف النساء بالغدر وقلة الوفاء والصبر، يقول: من كان مشغوفًا بهن مواصلًا لهن إذا تعرض لصرمهن سارعن إلى ذلك لتغيير أخلاقهن وقلة وفائهن، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "الغوان" فقد أراد أن يقول "الغواني" فحذف الياء ضرورة، واكتفى بالكسرة دليلًا عليها. ومثل هذا البيت قول خفاف بن ندبة السلمي، وهو من شواهد سيبويه "1/ 9": كنواح ريش حمامة نجدية ... ومسحت باللثتين عصف الإثمد فإنه أرد "كنواحي ريش حمامة" فحذف الياء اجتزاء بالكسرة التي قبلها؛ لأنها تدل عليها، ومثله قول الآخر، وهو أيضًا من شواهد سيبويه "1/ 9": فطرت بمنصلي في يعملات ... دوامي الأيد يخطبن السريحا فقد أراد أن يقول "دوامي الأيدي" فحذف الياء مجتزئًا بالكسرة التي قبلها للدلالة عليها. [248] أنشد ابن منظور هذا البيت "ل ي ق" ولم يعزه، وتقول: فلان ما يليق بكفه درهم -من مثال باع يبيع- أي ما يحتبس وما يبقى في كفّه، وتقول فلان ما يليق درهمًا -من مثال أنال ينيل- أي ما يحتبس وما يبقى درهمًا أيضًا، وقال الشاعر: تقول إذا استهلكت مالًا للذة ... فكيهة: هل شيء بكفيك لائق؟ يصف صاحب الشاهد رجلًا بأنه جواد كريم وأنه شجاع فاتك، ونظيره قول الآخر: يداك يد خيرها يرتجى ... وأخرى لأعدائها غائظه ومحل الاستشهاد في البيت قوله "تعط" فإنه أراد تعطي؛ لأن الفعل مرفوع لا مجزوم، فحذف الياء مجتزئًا بالكسرة التي قبلها دالة عليها. [249] أنشد بن منظور هذا البيت "ي س ر" ولم يعزه، واليسارة -ومثله اليسار- الغنى، وقد أيسر الرجل يوسر: أي استغنى، وقد صارت الياء في المضارع واوًا لسكونها وانضمام ما قبلها، ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "يخف" فإنه أرد أن يقول يخفي؛ لأن الفعل مرفوع لا مجزوم، فحذف الياء مجتزئًا بالكسرة قبلها للدلالة عليها.

أراد" يُخْفِي"، وقال الآخر: [250] لا صُلْحَ بيني -فَاعْلَمُوهُ- ولا ... بينكم، وما حملت عَاتِقِي بسَيفِي، وما كُنَّا بنجدٍ، وما ... قَرْقَرَ قُمْرُ الوَادِ بالشَّاهِقِ أراد "الوادي"، وقال الآخر وهو كعب بن مالك الأنصاري: [251] ما بَالُ هَمٍّ عَمِيدٍ بَاتَ يَطْرُقُنِي ... بالوادِ من هِنْدَ إذ نَعْدُو عَوَادِيهَا؟

_ [250] أنشد الجوهري -وتبعه ابن منظور- هذين البيتين "ق م ر" ثاني وثالث ثلاثة أبيات، ونسبها لأبي عامر، جد العباس بن مرداس السلمي، والبيت الأول قوله: لا نسب اليوم ولا خلة ... اتسع الخرق على الراتق وأنشدهما ابن منظور "ودي" عن ابن سيده، ونسبها لأبي الربيس التغلبي، وأنشد ابن جني ثانيهما في الخصائص "2/ 292" من غير عزو، قال ابن بري: سبب هذا الشعر أن الملك النعمان بن المنذر بعث جيشًا إلى بني سليم لشيء كان وجد عليهم من أجله، وكان مقدم الجيش عمرو بن فرتنا، فمر الجيش على غطفان، فاستجاشوهم على بني سليم، فهزمت بنو سليم جيش النعمان وأسروا عمرو بن فرتنا، فأرسلت غطفان إلى بني سليم وقالوا: نشدكم بالرحم التي بيننا إلا ما أطلقتم عمرو بن فرتنا، فقال أبو عامر هذه الأبيات، يقول: لا نسب بيننا وبينكم، ولا خلة -أي ولا صداقة- بعد ما أعنتم جيش النعمان ولم تراعوا حرمة النسب الذي بيننا وبينكم، وقد تفاقم الأمر بيننا فلا يرجى صلاحه فهو كالفتق الواسع في الثوب يتعب من يروم رتقه، والقمر -بضم القاف وسكون الميم- جمع قمرية، ومثاله روم ورومي وزنج وزنجي، والقمر: ضرب من الحمام، وقرقر: صوت، والشاهق: أراد الجبل العالي، ومحل الاستشهاد بالبيتين ههنا قوله "قمر الواد" فإنه أراد الوادي فحذف الياء اجتزاء بالكسرة التي قبلها للدلالة عليها. وفي قوله "اتسع الخرق على الراتق" شاهد آخر للنحاة، حيث قطع همزة الوصل في قوله "اتسع" ضرورة، وحسن ذلك كون هذه الكلمة في أول النصف الثاني من البيت؛ لأنه بمنزلة ما يبتدأ به، قال ابن سيده في التعليل لحذف الياء من "الواد" ما نصه: "حذف لأن الحرف لما ضعف عن تحمل الحركة الزائدة عليه ولم يقدر أن يتحامل بنفسه دعا إلى اخترامه وحذفه" ا. هـ. وهذا كلام ابن جني في الخصائص "2/ 292" وبل كلام ابن جني أصرح وانصع. وذلك قوله "وإذا كان الحرف لا يتحامل بنفسه حتى يدعو إلى اخترامه وحذفه كان بأن يضعف عن تحمل الحركة الزائدة عليه فيه أحرى وأحجى، وذلك نحو قول الله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} وقوله "ذلك ما كنا نبغ" وقوله "الكبير المتعال" وقوله: وما قرقر قمر الواد بالشاهق " ا. هـ. [251] ما بال هم: أي ما شأنه وما حاله، وعميد: فادح موجع، وأصله قولهم "عمده المرض يعمده" من مثال ضربه يضربه إذا فدحه، ودخل أعرابي علي بعض العرب وهو مريض فقال له: كيف تجدك؟ فقال: أما الذي يعمدني فحصر وأسر، يريد أما الذي يفدحني ويشتد عليّ ويضنيني، ويطرقني: أي ينزل بي ليلًا، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله: =

أراد "بالوادي"، وقال أيضًا: [252] ولكن ببدرٍ سَائِلُوا عن بَلَائِنَا ... على النَّادِ، والأنباءُ بالغيب تَبْلُغُ أراد "على النادي"، وقال الآخر: [253] ولا أدرِ من أَلْقَى عليه رِدَاءَهُ ... على أنه قد سُلَّ عن مَاجِدٍ مَحْضِ أراد "أدري"، وقال الآخر: [254] فلست بمدركٍ ما فاتَ منِّي ... بلهفٍ، ولا بِلَيْتَ، ولا لَوَانِّي

_ = "بالواد" فإنه يريد بالوادي، فحذف الياء مجتزئًا بالكسرة قبلها، على نحو ما ذكرناه في البيت قبله. [252] بدر: أراد الموضع التي كانت فيه الغزوة المشهورة التي نصر الله فيها رسوله وأخزى الشرك وأهله، والبلاء -بفتح الباء- الجهد والصلابة، وأصله الاختبار والتجربة والامتحان، تقول: بلاه يبلوه، إذا جربه واختبره ليعرف مقدار ما عنده، والناد، هنا: القوم، وأصله المكان الذي يجتمعون فيه، والأنباء: الأخبار، واحدها نبأ -بفتح النون والباء جميعا- ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "على الناد" فإنه يريد على النادي، فحذف الياء مجترئًا بالكسرة قبلها، على نحو ما ذكرناه من قبل. [253] هذا البيت من كلام أبي خراش الهذلي، يقوله في أخيه عروة، من أبيات رواها أبو تمام في الحماسة "انظر شرح المرزوقي 782" وياقوت في معجم البلدان "قوسي" وقوله "ألقى عليه رداءه" كان من عادة العرب أن الرجل يمر بالقتيل فيلقي عليه ثوبه يستره به، وفي مثل ذلك يقوم متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكًا: لقد كفن المنهال تحت ردائه ... فتى غير مبطان العشية أروعا وقد حكى أن مجتازًا اجتاز بعروة فرآه بادي العورة مصروعًا، فألقى رداءه عليه، ويحكى أن خراشًا ابن الشاعر الذي يكنى به وقع أسيرًا، وأنه نزل بآسره ضيف، فنظر ذلك الضيف إلى خراش -وكان ملقى وراء البيت- فسأل عن حاله ونسبه، فشرح قصته وانتسب، فقطع إساره وخلاه، فلما رجع رب البيت قال: أسيري أسيري، وأراد السعي في أثره، فوتر الضيف قوسه وحلف أنه إن تبعه رماه، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "ولا أدر" فإنه يريد ولا أدري؛ لأن الفعل غير مجزوم، فحذف الياء مجترئا بالكسرة التي قبلها لأنها ترشد إليها وتدل عليها، وقد روي البيت في الحماسة ومعجم البلدان وخصائص ابن جني "1/ 71" "ولم أدر" وعلى هذه الرواية يكون الفعل مجزومًا بحذف الياء، ولا شاهد فيه لما أراده المؤلف. [254] هذا البيت قد أنشده ابن منظور "ل هـ ف" ولم يعزه، وأنشده البغدادي أثناء شرح الشاهد الثالث عشر "1/ 63" وهو من شواهد الأشموني "رقم 676" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 441" وقوله "بلهف" أي بقولي: يا لهفًا، وقوله "بليت" أي بقولي: يا ليتني، وقوله "ولا لواني" أي بقولي: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ومحل الاستشهاد ههنا =

أراد "بِلَهْفَا" فحذف الألف اجتزاء بالفتحة عنها، فكذلك ههنا: حذف الواو من "ذو" اجتراء بالضمة عنها، وصُيِّرا كلمةً واحدة، وإذا كانا مركبتين من مِنْ وذو التي بمعنى الذي؛ فالذي اسم موصول يفتقر إلى صلة وعائد، والصلة لا تخلو: إما أن تكون من مبتدأ وخبر، أو فعل وفاعل، فإذا قلت: "ما رأيته مذ يومان" أو "منذ ليلتان" فالتقدير فيه: ما رأيته من الذي هو يومان، فحذف "هو" الذي هو المبتدأ، وبقي الخبر الذي هو يومان، وحَذْفُ المبتدأ من الاسم الموصول جائز كقولك: "الذي أخوك زيد" أي: الذي هو أخوك زيد، والذي يدل على جوازه قولهم: "ما أنا بالذي قائل لك شيئًا" أي: ما أنا بالذي أنا1 قائل لك شيئًا، وهذا كثير في كلامهم، فأما إذا كان الاسم بعدهما مخفوضًا فهو مخفوض بمن؛ ولهذا إذا ظهرت النون في منذ كان الاختيار الخفض، وإذا لم تظهر كان الاختيار الرفع. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه مرفوع ما بعدهما لأنه خبر عنهما، وذلك لأن مذ ومنذ معناهما الأمد، ألا ترى أن التقدير في قولك: "ما رأيتُهُ مذ يومان، ومنذ ليلتان" أي: أمَدُ انقطاع الرؤية يومان، وأَمَدُ انقطاع الرؤية ليلتان، والأمد في موضع رفع بالابتداء؛ فكذلك ما قام مقامه، وإذا ثبت أنهما مرفوعان بالابتداء وجب أن يكون ما بعدهما خبرًا عنهما، وإنما بنيا لتضمنهما معنى من وإلى، ألا ترى أنك إذا قلت: "ما رأيته مذ يومان، ومنذ ليلتان" كان معناه: ما رأيته من أول هذا الوقت إلى آخره، وبنيت مذ على السكون لأنه الأصل في البناء، وبنيت منذ على الضم لأنه لما وجب تحريكها لالتقاء الساكنين حركت بالضم؛ لأن من كلامهم أن يُتْبِعُوا الضم الضم، كما قالوا: "رُدُّ يا فَتَى"، والشواهد على ذلك كثيرة جدًّا، وقد ذكرنا ذلك في مواضعه؛ فلا يفتقر إلى ذكره ههنا. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنهما مركبتان من من وإذ" قلنا: لا نسلم، وأي دليل يدل على ذلك؟ وهل يمكن الوقوف عليه إلا بوحي أو تنزيل؟ وليس إلى ذلك سبيل!

_ = بهذا البيت قوله "بلهف" فإن أصل الكلام: بقولي يا لهفا، على أن اللهف مضاف إلي ياء المتكلم ثم قلبت الكسرة التي قبل ياء المتكلم فتحة وقلبت الياء ألفًا، ثم حذف هذه الألف المنقلبة عن ياء المتكلم مجتزئًا بالفتحة التي قبلها لأنها ترشد إليها وتدل عليها، على نحو ما ذكرناه في الشواهد السابقة.

وقولهم: "إن من العرب من يقول في مُنْذُ مِنْذُ بكسر الميم" قلنا: أولا هذه لغة شاذة نادرة لا يعرج عليها؛ وليس فيها حجة على أنها مركبة من من وإذ، وإنما هي لغة نادرة بكسر كما جاءت اللغة الفصيحة المشهورة بالضم، فهو من جملة ما جاء على لغتين الضم والكسر، والضم أفصح، فأما أن تدل على أنها مركبة من من وإذ فكَلَا!. وقولهم: "إن الرفع بعدهما يكون بتقدير فعل، والتقدير فيه: مذ مضى يومان، ومنذ مضى ليلتان، اعتبارًا بإذ، والخفض يكون بعدهما اعتبارًا بمن" قلنا: هذا باطل؛ لأن الحرفين إذا ركبا بطل عمل كل واحد منهما مفردًا، وحدث حكم آخر، كما قلنا في "لولا، ولوما، وإلَّا" وما أشبه ذلك، وقد ذكرنا ذلك مستقصى في مسألة الاستثناء. وهذا هو الجواب عن قول الفراء "إنهما مركبتان من من وذو التي بمعنى الذي" والذي يبطل ما ذهب إليه الفَرَّاء أن "ذو" التي بمعنى الذي إنما تستعملها طيّئ خاصة، و "منذ يومان" بالرفع مستعمل في لغة جميع العرب، فكيف استعملت العرب قاطبةً ذو بمعنى الذي مع مِنْ -على زعمكم- دون سائر المواضع؟ وهل ذلك إلا تحكم محض لا دليل عليه؟ وقولهم: إن التقدير فيه مِنَ الذي هو يومَانِ فحذف المبتدأ الذي هو هو، كقولهم: الذي أخوك زيد، أي الذي هو أخوك" قلنا: وهذا أيضًا لا يستقيم؛ لأن حذف المبتدأ من صلة الاسم الموصول لا يجوز في نحو "الذي أخوك زيد" أي: الذي هو أخوك، وإنما يجوز ذلك جوازًا ضعيفًا إذا طال الكلام؛ كقولهم: "الذي راغب فيك زيد، وما أنا بالذي قائلٌ لك شيئًا"1، وما أشبه ذلك، على أن من النحويين من يجعل الحذف في هذا النحو أيضًا شاذا لا يقاس عليه، وإذا كان شاذًّا لا يقاس عليه مع طول الكلام فمع عدمه أولى؛ فدل على فساد ما ذهب إليه، والله أعلم.

_ 1 المثال الذي يذكره النحاة "ما أنا قائل لك سوءا" فلعل ما هنا مصحف عنه، وقد تكرر هذا المثال في كلام المؤلف، وانظر ص323 السابقة.

مسألة هل يعمل حرف القسم محذوفا بغير عوض

57- مسألة: [هل يعمل حرف القسم محذوفًا بغير عوض؟] ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز الخفض في القسم بإضمار حرف الخفض من غير عوض. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك إلا بعوض، نحو ألف الاستفهام، نحو قولك للرجل: "اللهِ ما فعلتَ كَذَا" أو هاء التنبيه نحو "هاللهِ". أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء عن العرب أنهم يُلْقُونَ الواو من القسم ويخفضون بها؛ قال الفراء: سمعناهم يقولون: "اللهِ لتفعلنَّ" فيقول المجيب: "ألله لأفعلنَّ" بألف واحدة مقصورة في الثانية؛ فيخفض بتقدير حرف الخفض وإن كان محذوفًا، وقد جاء في كلامهم إعمال حرف الخفض مع الحذف، حكى يونس بن حبيب البصري أن من العرب من يقول: "مررت برجل صالح إلا صالح فطالح" أي إلا أكن مررت برجل صالح؛ فقد مررت بطالح، وروي عن رؤبة بن العجاج أنه كان إذا قيل له: كيف أصبحت؟ يقول "خَيْرٍ عافاك الله" أي بخير. قال الشاعر: [238] رسمٍ دارٍ وَقَفْتُ في طَلَلِه ... كِدْتُ أقضي الحَيَاةَ من جَلَلِهْ فخفض "رسم" بإضمار حرف الخفض، وقال الأخر: [255] لَاهِ ابْنُ عَمِّكَ لا أَفْضَلْتَ في حَسَبٍ ... عنِّي، ولا أنت دَيَّانِي فَتَخْزُونِي

_ [255] هذا البيت من قصيدة طويلة لذي الأصبع العدواني، واسمه الحارث بن محرث، يعاتب فيها ابن عم له، وقد روى القصيدة أبو علي القالي في أماليه "1/ 259 بولاق" والمفضل الضبي "المفضلية 31" والبيت من شواهد الأشموني "رقم 557" وابن جني في الخصائص "2/ 288" ورضي الدين في باب الظروف وباب حروف الجر من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 222 و 4/ 243" وشواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 237" وابن عقيل "رقم 408" وابن يعيش في شرح المفصل "ص111 و 1300" ومعنى =

فخفض "لاهِ" بتقدير اللام، كأنه قال: لله ابنُ عَمِّكَ، وقال الآخر: [161] أَجِدَّكَ لَسْتَ الدَّهْرَ رَائِي رَامَةٍ ... ولا عاقل إلَّا وأنت جَنِيبُ1 ولا مُصْعدٍ في المصعِدِينَ لمَنْعِج ... ولا هَابطٍ ما عِنْتَ هَضْبَ شَطِيبِ فخفض على تقدير الباء، كأنه قال "بمصعد"2، وقال الآخر: [115] بَدَا لِي أَنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى ... ولا سَابِقٍ شيئًا إذا كان جَائِيًا وقال الآخر، وهو الفرزدق: [117] مَشَائِيمُ لَيْسُوا مصلحين عَشِيرةً ... ولا نَاعِبٍ إلا بِبَيْنٍ غُرَابُهَا فخفض "ناعب" بإضمار حرف الخفض، وقال الفرزدق أيضًا: [256] وما زُرْتُ سَلْمَى أن تكون حَبِيبَةً ... إِلَيَّ، ولا دَيْنٍ بها أنا طَالِبُهْ

_ = "أفضلت" زدت في المنزلة، والديان: الذي يملك الأمر ويتصرف فيه على مشيئته، وتخزوني: تذلني وتقهرني، ومحل الاستشهاد ههنا بهذا البيت قوله "لاه ابن عمك" واعلم أولا أن العرب تقول: لله أنت، ولله درك، ولله ابن عمك بثلاث لامات أولها لام الجر وثانيها لام التعريف وثالثها فاء الكلمة على أن لفظ الجلالة مأخوذ من ل ي هـ أو عين الكلمة على أن اللفظ الكريم مأخوذ من أل هـ، هذا هو الأصل في الاستعمال العربي، وربما قالوا "لاه أبوك" و "لاه" ابن عمك" بلام واحدة فيحذفون لامين، وقد اختلف النحاة في اللام الباقية، فذهب سيبويه إلى أن الباقية هي اللام التي من أصل الكلمة والمحذوف لام الجر ولام التعريف، وهذا هو الذي أراده المؤلف، وذهب أبو العباس المُبَرِّد إلى أن الباقي هو لام الجر، وقد حذف لام التعريف واللام التي من أصل الكلمة وقد فصلنا مقالة الشيخين واستدللنا للمذهبين وبيَّنَّا أرجحهما في شرحنا على شرح الأشموني "3/ 286" فانظره، وانظر إلى المراجع التي أشرنا إليها في تخريج هذا الشاهد هنا. [256] هذا البيت من قصيدة للفرزدق يمدح فيها المطلب بن عبد الله المخزومي، وهو من شواهد الأشموني "رقم 401" أنشده في باب تعدي الفعل وفي باب حروف الجر، وأنشده شيخ النحاة سيبويه "1/ 418" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 787" وقوله "أن تكون حبيبة" المصدر المنسبك من أن المصدرية وما بعدها مفعول لأجله، فأصله مجرور باللام الدالة على التعليل، وأصل الكلام: لأن تكون حبيبة، ثم حذفت اللام لأن حرف الجر يكثر حذفه قبل أن المصدرية وأن المؤكدة، وقد اختلف العلماء في المصدر المنسبك بعد حذف حرف الجر: أهو مجرور بذلك الحرف المحذوف، أم أنه انتصب على التوسع بعد حذف حرف الجر؟ فأما الذين ذهبوا إلى أن المصدر مجرور بذلك الحرف المحذوف =

فخفض "دين" بإضمار حرف الخفض. والذي يدل على ذلك أنكم تُعْمِلُونَ رُبَّ مع الحذف بعد الواو والفاء وبل؛ فدل على جوازه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: أجمعنا على أن الأصل في حروف الجر أن لا تعمل مع الحذف، وإنما تعمل مع الحذف، وإنما تعمل مع الحذف في بعض المواضع إذا كان لها عوض، ولم يوجد ههنا، فبقينا فيما عداه على الأصل، والتمسك بالأصل تمسك باستصحاب الحال، وهو من الأدلة المعتبرة، ويُخَرَّجُ على هذا الجر إذا دخلت ألف الاستفهام وها التنبيه نحو: "آلله ما فَعَلَ، وهالله ما فَعَلْتُ" لأن ألف الاستفهام وها صارتا عوضًا عن حرف القسم؛ والذي يدل على ذلك أنه لا يجوز أن يظهر معهما حرف القسم؛ فلا يقال: "أوالله" ولا "ها والله"؛ لأنه لا يجوز أن يجمع بين العوض والمعوض، ألا ترى أن الواو لما كانت عوضًا عن الباء لم يجز أن يجمع بينهما؛ فلا يجوز أن يقال: "بِوَاللهِ لأفعلنَّ"؟ فكذلك ههنا. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقولهم "ألله لأفعلن" فإنما جاز ذلك مع هذا الاسم خاصة على خلاف القياس لكثرة استعماله، كما جاز دخول حرف النداء عليه مع الألف واللام دون غيره من الأسماء لكثرة الاستعمال؛ فكذلك ههنا: جاز حذف حرف الخفض لكثرة الاستعمال مع هذا الاسم دون غيره، فبقينا فيما عداه على الأصل. يدل على أن هذا الاسم يختص بما لا يكون في غيره، ألا ترى أنه يختص بالتاء كقوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] وإن كان لا يجوز دخول التاء في غيره، كما لا يجوز إدخال التاء

_ = فيجعلون العطف عليه بالجر تبعا لحاله الذي هو عليه حقيقة، وأما الذين يذهبون إلى أن المصدر بعد حذف حرف الجر صار منصوبا فيجعلون العطف عليه بالجر على أحد وجهين: الأول أنه معطوف على محل المصدر الذي كان له قبل حذف حرف الجر، والثاني أنه معطوف على التوهم، وكأن الشاعر بعد أن قال "أن تكون حبيبة" قد توهم أنه أدخل حرف الجر لأنه كثيرًا ما يتكلم به، فأتى بالمعطوف مجرورًا، قال ابن هشام في المغني "ص526 بتحقيقنا": "وقوله: "وما زرت ليلى أن تكون حبيبة" البيت رووه بخفض دين عطفًا على محل أن تكون؛ إذ أصله لأن تكون، وقد يجاب بأنه عطف على توهم دخول اللام، وقد يعترض بأن الحمل على العطف على المحل أظهر من الحمل على العطف على التوهم، ويجاب بأن القواعد لا تثبت بالمحتملات" ا. هـ. وقال سيبويه بعد إنشاد البيت "جره لأنه صار كأنه قال: لأن تكون" ا. هـ. وقال الأعلم: "الشاهد فيه حمل دين على معنى لأن تكون، وجرّه" ا. هـ.

في "أسْنَتُوا" إلا في خلاف الخِصْبِ، ولا يقال "تالرحمن"1 ولا "تالرحيم" وكما أن ما حكاه أبو الحسن الأخفش من قوله "تَرَبِّي" لا يدل على جوازه لشذوذه وقلته؛ فكذلك قولهم "ألله لأفعلن" لا يدل على جوازه في غيره، واختصاص هذا الاسم بهذا الحكم كاختصاص "لات" بحين، و "لَدُنْ" بغدوة، و "جاءت" بحاجتك في قولهم "ما جاءت حَاجَتَكَ" فإن لات لا تعمل إلا في الحين، ولدن لا تنصب إلا غُدْوَة، وجاءت لا تنصب إلا حاجتك، كأنهم قالوا: ما صارت حاجتك، وكانت حاجتك، وأدخلوا التاء على ما2 إذ كان ما هو الحاجة كما قال بعضهم "مَنْ كانت أُمَّكَ" فنصب الأم وأنَّث من حيث أوقعها على مؤنث؛ ولأن هذا الاسم عَلَم فجاز أن يختص بما لا يكون في غيره؛ لأن الأسماء الأعلام كثيرًا ما يُعْدَلُ ببعضها عن قياس الكلام، ألا ترى أنهم قالوا "مَوْهَبٌ، ومَوْرَقٌ" ففتحوا العين وقياسها أن تكسر، وكذلك قالوا: "حَيْوَة" بالواو وإن كان قياسها أن تكون بالياء، وكذلك قالوا "مَزْيَدٌ، ومَكْوَزَةٌ، ومَدْيَنٌ" فصححوا وإن كان القياس أن يُعِلُّوا؛ لأن ما كان من الأسماء على مَفْعَلٍ أو مفعلٍ؛ فإنه يعتل لمجيئه على وزن الفعل وفصل الميم له من أمثلته، وكذلك قالوا "محْبَبٌ" بغير إدغام وإن كان القياس الإدغام، وكذلك قالوا "العجَّاج، والحجَّاج" بإمالة الألف وإن كان قياسها أن لا تمال؛ لعدم شرط الإمالة من الياء والكسرة، وهذا لأن من كلامهم أن يجعلوا الشيء في موضع على غير حاله في سائر الكلام: إما لكثرة الاستعمال، أو تنبيه على أصل، أو غير ذلك. وأما احتجاجهم بما حكى يونس أن من العرب من يقول "مررت برجل صالح إلا صالح فطالح" أي "إلا أكن مررت برجل صالح فقد مررت بطالح" قلنا: هذا لغة قليلة الاستعمال بعيدة عن القياس؛ فلا يجوز أن يقاس عليها: أما قلتها في الاستعمال فظاهر؛ لأن أكثر العرب لا تتكلم بها، وإنما جاءت قليلة في لغة لبعض العرب؛ وأما بُعْدُهَا عن القياس فإنك تفتقر إلى إضمار أشياء، وحكم الإضمار أن يكون شيئًا واحدًا، ألا ترى أنك إذا قلت "مررت برجل صالح إلا صالح فطالح" تقديره: إلا أكن مررت بصالح [فقد مررت بطالح] فتفتقر إلى أشياء، وذلك بعيد عن القياس، وهذا شبيه بقول النحويين "ما مررت بزيد فكيف أخيه" ويقول الرجل: جئتك بدرهم، فيقول المجيب "فهلا دينار" وهذا كله رديءٌ لا تتكلم به العرب.

_ 1 من النحاة من جوز دخول التاء على "رب" مضافا للكعبة أو إلى ياء المتكلم فيقال "ترب الكعبة" ويقال "تربي لأفعلن" ومنهم من حكى دخولها على "الرحمن" فيقال "تالرحمن" ومنهم من حكى دخولها على "حياتك" فيقال "تحياتك" وكل ذلك قليل أو نادر. 2 المراد أنهم أنثوا الفعل المسند إلى ضمير عائد إلى ما، مراعاة لمعنى ما. وذلك أنهم قالوا "جاءت" بتاء التأنيث؛ لأن في جاء ضميرًا مستترًا يعود إلى "ما" وما هي الحاجة؛ لأن المبتدأ والخبر شيء واحد.

وأما ما روي عن رؤبة من قوله "خيرٍ عافاك الله، أي: بخير" فهو من الشاذ الذي لا يعتد به لقلته وشذوذه، وكذلك جميع ما استشهدوا به من الأبيات وقد أجبنا عنها في مواضعها بما يغني عن الإعادة. وأما إضمار رب بعد الواو والفاء وبل -وهي حروف جر- فإنما جاز ذلك لأن هذه الأحرف صارت عوضًا عنها دالة عليها، فجاز حذفها، وما حذف وفي اللفظ على حذفه دلالة أو حُذِفَ إلى عوض وبدل؛ فهو في حكم الثابت، وقد بيَّنَّا ذلك مستقصى في موضعه، بخلاف ههنا، فإنكم جوزتم حذف حرف القسم ولا دلالة في اللفظ على حذفه ولا إلى عوض وبدل، فبان الفرق بينهما، والله أعلم.

مسألة اللام الداخلة على المبتدأ، لام الابتداءأو لام جواب القسم

58- مسألة: [اللام الداخلة على المبتدأ، لام الابتداء أو لام جواب القسم؟] ذهب الكوفيون إلى أن اللام في قولهم "لزيدٌ أفضلُ من عمروٍ" جواب قسم مقدَّر، والتقدير: والله لزيد أفضل من عمرو، فأضمر اليمين اكتفاءً باللام منها، وذهب البصريون إلى أن اللام لام الابتداء. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن هذه اللام جواب القسم وليست لام الابتداء أن هذه اللام يجوز أن يليها المفعول الذي يجب له النصب. وذلك نحو قولهم "لَطَعَامَكَ زيدٌ آكلٌ" فلو كانت هذه اللام لامَ الابتداء لكان يجب أن يكون ما بعدها مرفوعًا، ولمَا كان يجوز أن يليها المفعول الذي يجب أن يكون منصوبًا. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنها لام الابتداء أنها إذا دخلت على المنصوب بظننت أوجبت له الرفع وأزالت عنه عمل ظننت، تقول: ظننت زيدًا قائمًا، فإذا أدخلت على زيد اللام قلت: ظننت لزيد قائم، فأوجبت له الرفع بالابتداء بعد أن كان منصوبًا؛ فدل على أنها لام الابتداء. قالوا: ولا يجوز أن يقال "إن الظن محمول على القسم؛ فاللام جواب القسم، كقولهم: والله لزيد قائم، لا لام الابتداء، فإذا كانت جواب القسم فحكمها أن تُبْطِل عمل ظننت؛ فلهذا وجب أن يرفع زيد بما بعده، لا بالابتداء، وهذا لأن حكم لام القسم في كل موضع أن لا يعمل ما قبلها فيما بعدها، ولا ما بعدها فيما قبلها؛ لأن ما بعدها من الكلام محلوف عليه؛ فلو جعل شيء منه قبلها لزال منه معنى الحلف عليه" لأنا نقول: لا يجوز أن يكون الظن قسمًا، لأنه إنما نُقْسِمُ بالشيء في العادة إذا كان عظيمًا عند الحالف، كقوله "والله، والقرآن، والنبي، وأبي" وما أشبه ذلك مما يحلف به أهل الجاهلية والإسلام، ومعنى الظن خارج عن هذا المعني.

فأما قولهم "جَيْرِ لأذهبنَّ، وعوْضُ لأقومنَّ، وكلَّا لأنطلقن" فإنما أقسموا بها لأنهم أجروها مجرى حق، والحق معظم في النفوس، بخلاف الظن الذي فيه معنى الشك، وجير بمعنى نَعَمْ، قال الشاعر: [257] إن الذي أغناك يغنيني جَيْر ... واللهُ نَفَّاحُ اليَدَينِ بالخير وعَوْضُ بمعنى الدهر، قال الشاعر: [258] رَضِيعَيْ لبَانٍ ثَدْيَ أمِّ تَحَالفَا ... بِأَسْحَمَ دَاجٍ عَوْضُ لا نتفرَّقُ

_ [257] هذان بيتان من مشطور الرجز، والذي يؤخذ من كلام أهل اللغة أن "جير" تأتي على وجهين: أولهما: أن تكون حرف جواب كأجل، ومعناهما نعم، وعليه جاء قول الراجز: قالت: أراك هاربا للجور ... من هدة السلطان، قلت: جير وهي في هذا الوجه مبنية إما على الكسر كما هو الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، وإما على الفتح للتخفيف مثل أين وكيف، والوجه الثاني: أن تكون بمعنى اليمين، يقال: جير لا أفعل كذا، ولا جير لا أفعل ذلك، قال الجوهري: "قولهم جير لا آتيك -بكسر الراء- يمين للعرب، ومعناها حقا" ا. هـ وأنكر ابن هشام في المغني الاستعمال الثاني، قال "ص120": "جير -بالكسر على أصل التقاء الساكنين كأمس، وبالفتح للتخفيف كأين وكيف -حرف جواب بمعنى نعم، لا اسم بمعنى حقا فتكون مصدرا، ولا بمعنى أبدًا فتكون ظرفًا، وإلا لأعربت ودخلت عليها أل" ا. هـ. وفي كلام ابن هشام هذا مناقشة؛ فإنه قطع بأنها لا تكون إلا حرف جواب بمعنى نعم، ونفى أن تكون اسمًا بمعنى حقًّا يستعمل في اليمين، واستدل بأنها لو كانت اسمًا بمعنى حقًّا لوجب إعرابها وجاز دخول أل عليها، وكل ذلك غير مسلم له، أولا: لأن أثبات العلماء قد نقلوا أن العرب تستعملها بمعنى اليمين، وقد استقر عند المحققين أن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وثانيا: أنه لا يلزم من كونها تأتي اسمًا بمعنى حقًّا أن تعرب، لأن لبنائها مع ذلك سبابً معترفًا به، وبهذا السبب نفسه بنيت بعض الأسماء، وهذا السبب هو شبهها الحرف شبهًا لفظيًا، فإن "جير" التي هي اسم بمعنى حقا أشبهت "جير" التي هي حرف جواب، كما أن "حاشا" التنزيهية بنيت لشبهها حاشا الحرفية شبهًا لفظيًا، ولم يلزم من كونها بمعنى تنزيهًا أن تعرب ولا أن تدخلها أل، وأيضًا "ما" التي هي نكرة بمعنى شيء لم يلزم من أن تكون بمعنى اسم تدخل عليه أل أن تكون هي بحيث تدخل عليها أل، وقول الراجز المستشهد بكلامه "والله نفاح اليدين بالخير" مأخوذ من قولهم "نفحة بشيء" أي أعطاه، و"نفحه بالمال نفحًا" أعطاه، وفي الحديث "المكثرون هم المقلون إلا من نفح فيه يمينه وشماله" أي ضرب يديه فيه بالعطاء. وقال الشاعر، وهو ابن ميّادة الرماح بن أبرد يمدح الوليد بن يزيد: لما أتيتك أرجو فضل نائلكم ... نفحتني نفحة طابت لها العرب [258] هذا البيت من قصيدة الأعشى ميمون بن قيس التي مدح بها المحلق فرفع من شأنه، ومطلعها: أرقت، وما هذا السهاد المؤرق؟ ... وما بي من سقم، وما بي معشق والبيت المستشهد به من شواهد رضي الدين في باب الظروف من شرح الكافية، وقد شرحه =

وفي عَوْضُ ثلاث لغات: عوضُ بالضم، وعوضَ بالفتح، وعوضِ بالكسر، وكلًّا بمعنى حقًّا، قال الشاعر: [259] أليس قليلَا نَظْرَةٌ إن نَظَرْتُهَا ... إليكِ؟ وكَلَّا ليس منك قليلُ

_ = البغدادي في الخزانة "3/ 209" وشواهد الزمخشري في المفصل وابن يعيش في شرحه "س559" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 246" وابن جني في الخصائص "1/ 265 الدار" وأنشده ابن منظور "ع وض - س ح م" وانظر القصيدة في ديوان الأعشى "ص145 فينا". واللبان -بكسر اللام بزنة الكتاب- هو اللبن، فإن لم تنوّنه فهو مضاف إلى ثدي أم، وإن نونته جررت ثدي أم على البدل أو نصبته على البدل أيضًا باعتبار موضع اللبان لأنه في المعنى مفعول به لرضيعي، أو نصبته بتقدير أعني أو نحوه، وقوله "تحالفا" يروى مكانه "تقاسما" أي حلف كل منهما وأقسم، أو عقدا محالفة بينهما، والأسحم الذي تحالفا عليه: يقال هو الدم، وكان من عادتهم أن يغمسوا أيديهم في الدم عندما يتحالفون، ويقال: هو الرحم، ويقال: هو حلمة الثدي، ويقال: هو الليل، و "عوض" يأتي ظرفًا لا يستقبل من الزمان مبنيًّا على الضم في محل نصب، تقول: لا أكلمك عوض يا فتى، تريد لا أكلمك أبدًا، ويأتي بمعنى القسم، تقول: لا أفعل هذا عوض، تحلف بالدهر والزمان، وهذا المعنى هو الذي أراده المؤلف هنا. قال ابن يعيش "أما عوض فهو اسم من أسماء الدهر، وهو للمستقبل من الزمان، كما أن قط للماضي، وأكثر استعماله في القسم، تقول: عوض لا أفارقك، أي لا أفارقك أبدًا، كما تقول: قط ما فارقتك، وعوض مبنية لقطعها عن الإضافة، وفيها لغتان: الفتح، والضم، فمن فتح فطلبًا للخفة، ومن ضم فتشبيهًًا بقبل وبعد.... فإن أضفته أعربته، تقول: لا أفعله عوض العائضين، أي دهر الداهرين، فيكون معربًا، وانتصابه على الظرف لا على حدة في: بأسحم داج عوض لا نتفرق وعوض من لفظ العوض ومعناه، وذلك أن الدهر لا يمضي منه جزء إلا ويخلفه جزء آخر، فصار الثاني كالعوض من الأول" ا. هـ. وأغرب ابن الكلبي فزعم أن "عوض" في بيت الأعشى اسم صنم كان لبكر بن وائل، قال ابن هشام "واختلف في قول الأعشى: بأسحم داج عوض لا نتفرق فقيل: ظرف لنتفرق، وقال ابن الكلبي: قسم، وهو اسم صنم كان لبكر بن وائل، بدليل قوله: حلفت بمائرات حول عوض ... وأنصاب تركن لدى السعير والسعير: اسم لصنم كان لعنزة، ولو كان كما زعم لم يتجه بناؤه في البيت" ا. هـ. [259] هذا البيت ثالث تسعة أبيات رواها أبو تمام في الحماسة "انظر شرح المرزوقي ص1340" ونسبها لابن الطثرية، واسمه يزيد بن سلمة بن سمرة، والطثرية أمه، نسبت إلى طثر، وهو حي من اليمن. يقول: أليس قليلا نظرة منك إذا حصلت لي، ثم استدرك على نفسه ناقضًا لما اعتقده، فقال: كلا، لا قليل منك، ومثل هذا البيت في المعنى قول الآخر: هل إلى نظرة إليك سبيل؟ ... فيروى الظما ويشفى الغليل =

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن هذه اللام ليست لام الابتداء، لأن الابتداءَ يوجب الرفع، وهذه اللام يجوز أن يليها المفعول الذي يجب له النصب، نحو قولهم "لطَعَامَكَ زيدٌ آكلٌ" قلنا: الأصل في اللام ههنا أن تدخل على زيد الذي هو المبتدأ، وإنما دخلت على المفعول الذي هو معمول الخبر لأنه لما قُدِّمَ في صدر الكلام وقع موقع المبتدأ؛ فجاز دخول اللام عليه؛ لأن الأصل في هذه اللام أن تدخل على المبتدأ، فإذا وقع المفعول موقعه جاز أن تدخل هذه اللام عليه كما تدخل على المبتدأ، وإذا جاز دخول هذه اللام على معمول الخبر إذا وقع موقعه، كقولك "إن زيدًا لَطَعَامَكَ آكلٌ" وكقول الشاعر: [260] إنَّ امْرَأَ خَصَّنِي عمدًا مودَّتَهُ ... على التَّنَائِي لَعِنْدِي غَيْرُ مَكْفُورِ وإن كان الأصل فيها أن تدخل -بعد نقلها عن الاسم- على الخبر لا على معموله؛ لوقوعه موقعه1، فكذلك يجوز دخول هذه اللام على المفعول إذا وقع موقع المبتدأ، وإن كان الأصل فيها أن تدخل على المبتدأ؛ لوقوعه موقعه، والله أعلم.

_ = إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثير ممن يحب القليل وموطن الاستشهاد بالبيت قوله "وكلا ليس منك قليل" فإن المؤلف قد ذهب إلى أن "كلا" في هذه العبارة بمعنى حقا، وهذا شيء قاله الكسائي ومتابعوه، فأما سيبويه والخليل والمُبَرِّد والزجاج وأكثر البصريين فقالوا: إن كلا حرف معناه الردع والزجر، لا معنى له عندهم إلا ذلك، وقال الكسائي: قد يخرج "كلا" عن الردع والزجر فيكون بمعنى حقًّا وقال أبو حاتم ومتابعوه: قد يخرج كلا عن معنى الردع والزجر فيكون بمعنى "ألا" الاستفتاحية، وقال النضر بن شميل والفراء ومن تابعهما: قد يخرج كلا عن معنى الردع والزجر فيكون حرف جواب بمعنى إي ونعم، وحمل هؤلاء على ذلك قول الله تعالى: {كَلَّا وَالْقَمَر} فقالوا: المراد -والله أعلم- إي والقمر. [260] هذا البيت من كلام أبي زبيد الطائي من كلمة يمدح فيها الوليد بن عقبة، ويصف نعمة أنعمها عليه مع بعده وتنائيه عنه، وهو من شواهد سيبويه "1/ 281" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 925" وقوله "خصني مودته" أراد أن يقول: خصني بمودته، فحذف حرف الجر، وأوصل الفعل إلى المجرور بنفسه فنصبه، والمكفور: اسم المفعول من قولهم "كفر فلان النعمة" إذا جحدها ولم يقم بحقها من الشكر، ومحل الاستشهاد في هذا البيت قوله "لعندي غير مكفور" حيث أدخل لام الابتداء على الظرف ولم يدخلها على خبر إن، وأصلها أن تدخل على خبر إن أو اسمها المتأخر عن خبرها، فأصل الكلام هنا: لغير مكفور عندي.

مسألة القول في أيمن في القسم، مفرد هو أو جمع

59- مسألة: [القول في أيمن في القسم مفرد هو أو جمع؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن قولهم في القسم "أيمن الله" جمع يمين. وذهب البصريون إلى أنه ليس جمع يمين، وأنه اسم مفرد مشتق من اليُمْن. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن "أيمن" جمع يمين أنه على وزن أَفْعُل، وهو وزن يختص به الجمع، ولا يكون في المفرد، يدل عليه أن التقدير في قولهم "أيمن الله" أي: عليَّ أَيْمُنُ اللهِ، أي أَيْمَانُ اللهِ عليَّ فيما أُقسم به، وهم يقولون في جمع يمين "أَيْمُنٌ" قال زهير: [261] فتجمع أَيْمُنٌ منا ومنكم ... بِمُقْسَمَةٍ تَمُورُ بها الدِّمَاءُ

_ [261] هذا البيت لزهير بن أبي سلمى كما قال المؤلف "الديوان 78 الدار" وقد رواه ابن منظور "ق س م - ي م ن" والأيمن: جمع يمين، وأراد بقوله "فتجمع أيمن منا ومنكم" تحلفون ونحلف، وقوله "بمقسمة" هو بضم الميم وفتح السين بينهما قاف ساكنة وهو الموضع يحلف فيه عند الأصنام، ويروى "بمقسمة" -بفتح الميم- وأراد بها القسامة، وأصل القسامة -بزنة السحابة- أن يوجد رجل قتيلا فيجيء أولياؤه فيدعون على رجل أنه قاتله، ولا تكون لهم بينة كاملة، أو يوجد القتيل في محلة قوم ولا بينة على أن قاتله فلان منهم، فيستحلف أولياء القتيل خمسين يمينًا أن فلانًا قتله، أو أن هؤلاء قتلوه، فإن حلفوا استحقوا دية القتيل، وإن أبوا أن يحلفوا حلف المدعى عليه وبرئ. وعلى هذا يكون المعنى بيت زهير: تؤخذ أيمان مثل الأيمان التي تؤخذ في القسامة، وتمار بها الدماء: أي تسيل، والمراد دم البدن التي تنحر. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "أيمن" فإنه جمع يمين، قال سيبويه: "وقالوا: يمين وأيمن، وقالوا: أيمان فكسروها على أفعال كما كسروها على أفعل" ا. هـ. وقد كسروا يمينًا على يمن -بضم الياء والميم جميعا- كما كسروا شمالًا على شمل، ومن ذلك قول زهير: قد نكبت ماء شرج عن شمائلها ... وجو سلمى على أركانها اليمن

وقال الأزرقُ العنبري: [262] طِرْنَ انْقِطَاعَةَ أَوْتَارٍ مُحَظْرَبَةٍ ... في أَقْوُسٍ نازَعَتْهَا أَيْمُنٌ شُمُلَا وقال الآخر: [263] يأتي لها من أَيْمُنٍ وأَشْمُلِ

_ [262] هذا البيت من شواهد سيبويه "2/ 194" وابن يعيش في شرح المفصل "ص633 و 640" ورضي الدين في شرح الشافية، وشرحه البغدادي "ص133 بتحقيقنا" وقد أنشده ابن منظور "ش م ل" وكلهم نسبوه إلى الأزرق العنبري، وهو يصف في هذا البيت طيرًا ترن، فشبه صوت طيرانها بسرعة بصوت أوتار تقطعت عند الجذب والنزع عن القوس، فقوله "انقطاعة" مفعول مطلق يراد به التشبيه: أي طرن طيرانا ذا صوت يشبه صوت انقطاع أوتار محظربة، والمحظربة: المحكمة الفتل، والأقوس: جمع قوس، و "نازعتها أيمن شملا" يريد أن الأيمن تجذبها إلى ناحية، والأشمل تجذبها إلى ناحية أخرى، فهما يتنازعان في جذبها ويتغالبان عليه. والاستشهاد به هنا في قوله "أيمن" فإنه جمع بمين -وهي اليد- فيدل ذلك على أن همزة "أيمن" همزة قطع في الأصل، ولكنها صيرت همزة وصل تخفيفًا لكثرة الاستعمال. [263] هذا بيت من الرجز المشطور، وهو من كلام أبي النجم الفضل بن قدامة العجلي، وقد أنشده ابن منظور "ي م ن" وسيبويه "2/ 47 و195" وابن يعيش في شرح المفصل "ص1291" ويروى: يبري لها من أيمن وأشمل وبرى يبري -مثل رمى يرمي- أي تعرض، والأيمن: جمع يمين، وأراد جهة اليمين، والأشمل: جمع شمال، وأراد جهة الشمال. قال ابن منظور في تفسير بيت الشاهد: "يقول: يعرض لها من ناحية اليمين وناحية الشمال، وذهب إلى معنى أيمن الإبل وأشملها، فجمع لذلك" ا. هـ. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "أيمن" فإن أيمنا هنا جمع يمين، ويريد الكوفيون بالاستشهاد بهذه الأبيات الثلاثة أن المعهود في لفظ أيمن أن يكون جمع يمين، سواء أكان بمعنى الحلف والقسم كما في البيت الأول من هذه الأبيات وهو بيت زهير "رقم 261" أم كان بمعنى اليد اليمنى كما في البيتين الثاني والثالث وهما بيت الأزرق وبيت أبي النجم "رقم 262 و 263" ولم يعرف أيمن مفردًا، بل لم يعرف مفرد آخر على وزن أفعل -بضم العين- وهمزة أفعل الجمع همزة قطع كأكلب وأقوس وأرهط وأفلس وما أشبه ذلك، وإنما صيرت الهمزة في أيمن المراد به الحلف همزة وصل لكثرة الاستعمال، ولهذا تجدها مفتوحة على ما كانت عليه وهي همزة قطع، وعلي خلاف المعهود في همزة الوصل من أنها مكسورة. قال ابن يعيش: "وذهب الكوفيون إلى أن همزته همزة قطع، وأنه جمع لا مفرد، وهو جمع يمين، كما قال العجلي: يبري لها من أيمن وأشمل وسقطت همزته في الوصل لكثرة الاستعمال" ا. هـ، وسيأتي في شرح الشاهد الآتي بيان حجة البصريين.

والأصل في همزة أيمن أن تكون همزة قطع، لأنه جمع، إلا أنها وُصِلَتْ لكثرة الاستعمال؛ وبقيت فتحتها على ما كانت عليه في الأصل، ولو كانت -على ما زعمتم- في الأصل همزة وصل لكان ينبغي أن تكون مكسورة على حركتها عندكم في الأصل. والذي يدل على أنها ليست همزة وصل أنها ثبتت في قولهم "أم الله لأفعلنَّ" فتدخل الهمزة على الميم وهي متحركة، ولو كانت همزة وصل لوجب أن تحذف لتحرك ما بعدها. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه مفرد وليس بجمع يمين لأنه لو كان جمع يمين لوجب أن تكون همزته همزة قطع، فلما وجب أن تكون همزته همزة وصل دلَّ على أنه ليس بجمع يمين، قال الشاعر: [264] وقد ذَكَرَتْ لِي بِالكثيب مُؤَالفًا ... قِلَاصَ سُلَيْمٍ أو قِلَاصَ بني بكر

_ [264] هذان البيتان من كلام نصيب بن رباح، وقد أنشد ثانيهما سيبويه "2/ 147" وابن يعيش "ص1260"وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 142" وابن جني في شرح تصريف المازني "1/ 58" وفي سر صناعة الإعراب "1/ 120" وابن منظور "ي م ن" والخطيب القزويني في الإيضاح "رقم 480 بتحقيقنا" وصف نصيب أنه تعرض لزيادة من يحب، فتعلل بأنه ينشد إبلًا ضلت له مخافة أن ينكر عليه مجيئه وإلمامه بهم، ومعنى "نشدتهم" سألتهم، يقال "نشد فلان الضالة" إذا سأل عنها، ويقال "أنشد فلان الضالة" إذا عرفها. ومحل الاستشهاد قوله "لا يمن الله" حيث ورد بهمزة وصل؛ فدل ذلك على أن "أيمن" مفرد وليس بجمع؛ إذ لو كان جمعا لكانت همزته همزة قطع كالهمزة في أرهط وأكلب وأرؤس وأفؤس ونحو ذلك، قال سيبويه: "وزعم يونس أن همزة ايم موصولة، وكذلك تفعل بها العرب، وفتحوا الألف كما فتحوا الألف التي في الرجل، وكذلك أيمن، قال الشاعر: فقال فريق القوم لما نشدتهم البيت ا. هـ كلامه. قال الأعلم: "الشاهد في حذف ألف أيمن؛ لأنها ألف وصل عنده، فتحت لدخولها على اسم لا يتمكن في الكلام، إنما هو مخصوص بالقسم مضمن معناه" ا. هـ. وقال ابن هشام: "أيمن المختص بالقسم: اسم، لا حرف، خلافًا للزجاج والرماني، مفرد مشتق من اليمن وهو البركة، وهمزته وصل، لا جمع يمين وهمزته قطع، خلافًا للكوفيين ويرد مذهب الكوفيين جواز كسر همزته وفتح ميمه، ولا يجوز مثل ذلك في الجمع من نحو أفلس وأكلب، وقول نصيب: فقال فريق القوم لما نشدتهم ... البيت. فحذف ألفها في الدرج، ويلزمه الرفع بالابتداء، وحذف الخبر، وأضافته إلى اسم الله سبحانه وتعالى، خلافًا لابن درستويه في إجازة جره بحرف القسم، ولابن مالك في جواز إضافته إلى الكعبة ولكاف الضمير، وجوز ابن عصفور كونه خبرًا والمحذوف مبتدأ، أي قسمي أيمن الله، ا. هـ، والله -سبحانه وتعالى- أعلى وأعلم وأعز وأكرم.

فَقَالَ فريقُ القومِ لما نَشَدْتُهُمْ: ... نعم، وفريق: ليْمُنُ اللهِ ما ندري ويدل عليه أنهم قالوا في أيمن الله "مُ الله" ولو كان جمعًا لما جاز حذف جميع حروفه إلا حرفًا واحدًا؛ إذ لا نظير له في كلامهم، فدلَّ على أنه ليس بجمع، فوج بأن يكون مفردًا. وأما ما ذكروه من كونها همزة وصل لكثرة الاستعمال فسنبين أنه حجة عليهم في الجواب عن كلماتهم، إن شاء الله تعالى. أما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنه جمع يمين، بدليل أنه على وزن أَفْعُل، وأفعل وزن يختص به الجمع، ولا يكون في المفرد" قلنا: لا نسلم؛ بل قد جاء ذلك في المفرد؛ فإنهم قالوا: رَصاصٌ آنُكٌ، وهو الخالص، وقالوا "أَسْنُمَة" اسم موضع وأكمه، و "أشُدُّ" على الصحيح، وهو منتهى الشباب والقوة، وقيل: هو الحلم، وقيل: عشرون سنة، وقيل: ثلاث وثلاثون سنة، وقيل: أربعون سنة. وقولهم "الأصل في الهمزة أن تكون همزة قطع لأنه جمع يمين" قلنا: لو كانت الهمزة فيه همزة قطع لما جاز فيه كسر الهمزة فقيل "إيمُنُ الله" لأن ما جاء من الجمع على وزن أَفْعُلُ لا يجوز فيه كسر الهمزة، فلما جاز ههنا بالإجماع كسرة الهمزة دل على أنها ليست همزة قطع. وأما قولهم "إنها لو كانت همزة وصل لكان ينبغي أن تكون مكسورة" قلنا: إنما جاءت مفتوحة -وإن كان القياس يقتضي أن تكون مكسورة- لأنهم لما كثر استعماله في كلامهم فتحوا فيه الهمزة لأنها أخف من الكسرة كما فتحوا الهمزة التي تدخل على لام التعريف -وإن كان الأصل فيها الكسر- لكثرة الاستعمال، فكلك ههنا. وأما قولهم "إن الهمزة ثبتت في قولهم أمُ الله لأفعلن مع تحرك ما بعدها" قلنا: إنما ثبتت الهمزة فيه من وجهين؛ أحدهما: أن الأصل في الكلمة "أيمن" فالهمزة داخله على الياء وهي ساكنة، فلما حذفت -وحذفها غير لازم- بقي حكمها. والثاني: أن حركة الميم حركة إعراب، وليست لازمة وتسقط في الوقف؛ فلذلك ثبتت همزة الوصل. والدليل على ذلك أن العرب تقول في الأحمر: "أَلَحْمَر" فلا يحذفون همزة الوصل؛ لأن حركة اللام ليست بلازمة، وبعض العرب يحذفون الهمزة لتحرك ما بعدها، على أن من العرب من يقول "مُ اللهِ" فيحذف الهمزة، وفيها لغات كثيرة تنيف على عشر لغات: أَيْمُنُ الله، وإِيْمُن الله، وأَيْمُ الله، وإِيْمُ الله، وأمُ الله، ومُ

الله، ومَ الله، ومِ الله، ولَيْمُنُ الله، ومُنُ الله، ومُنْ رَبِّي، ومِنْ رِبِّي. و "مُنْ" لا تدخل إلا على "رَبِّ" وحده، ولا تدخل على غيره، كما لا تدخل التاء إلا على الله في "تالله". والله أعلم. تم الجزء الأول من كتاب "الإنصاف، في مسائل الخلاف" لأبي البركات الأنباري ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء الثاني منه مفتتحًا بالمسألة "60"- القول الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف والجار والمجرور. نسأل الله تعالى أن يعين على إكماله بمنه وكرمه وفضله.

فهرس المحتويات

فهرس المحتويات 1- مسألة: الاختلاف في اصل اشتقاق الاسم 8 2- مسألة: الاختلاف في إعراب الأسماء الستة 17 3- مسألة: القول في إعراب المثنى والجمع على حَدِّه 29 4- مسألة: هل يجوز جمع العلم المؤنث بالتاء جمع المذكر السالم؟ 34 5- مسألة: القول في رافع المبتدأ ورافع الخبر. 38 6- مسألة: في رافع الاسم الواقع بعد الظرف والجار والمجرور 44 7- مسألة: القول في تحمل الخبر الجامد ضمير المبتدأ 48 8- مسألة: القول في إبراز الضمير إذا جرى الوصف على غير صاحبه 50 9- مسألة: القول في تقديم الخبر على المبتدأ 56 10- مسألة: القول في العامل في الاسم المرفوع بعد لولا 60 11- مسألة: القول في عامل النصب في المفعول 66 12- مسألة: القول في ناصب الاسم المشغول عنه 69 13- مسألة: القول في أولى العاملين بالعمل في التنازع 71 14- مسألة: القول في نعم وبئس، أفعلان هما أم اسمان؟ 81 15- مسألة: القول في "أفعل" في التعجب، اسم هو أو فعل 104 16- مسألة: القول في جواز التعجب من البياض والسواد، دون غيرهما من الألوان 120 17- مسألة: القول في تقديم خبر "ما زال" وأخواتها عليهن 126 18- مسألة: القول في تقديم خبر "ليس" عليها 130 19- مسألة: القول في العامل في الخبر بعد "ما" النافية النصب 134 20- مسألة: القول في تقديم معمول خبر "ما" النافية عليها 140 21- مسألة: القول في تقديم معمول الفعل المقصور عليه 141 22- مسألة: القول في رافع الخبر بعد "إن" المؤكدة 144 23- مسألة: القول في العطف على اسم "إن" بالرفع قبل مجيء الخبر 151

24- مسألة: القول في عمل "إن" المخففة النصب في الاسم 159 25- مسألة: القول في زيادة لام الابتداء في خبر لكنَّ 169 26- مسألة: القول في لام "لعل" الأولى زائدة هي أو أصلية؟ 177 27- مسألة: القول في تقديم معمول اسم الفعل عليه 184 28- مسألة: القول في أصل الاشتقاق، الفعل هو أو المصدر؟ 190 29- مسألة: القول في عامل النصب في الظرف الواقع خبرًا 197 30- مسألة: القول في عامل النصب في المفعول معه 200 31- مسألة: القول في تقديم الحال على الفعل العامل فيها 203 32- مسألة: هل يقع الفعل الماضي حالا 205 33- مسألة: ما يجوز من وجوه الإعراب في الصفة الصالحة للخبرية إذا وُجِدَ معها ظرف مكرر 210 34- مسألة: القول في العامل في المستثنى النصب 212 35- مسألة: هل تكون "إلا" بمعنى الواو 216 36- مسألة: هل يجوز تقديم حرف الاستثناء في أول الكلام؟ 222 37- مسألة: حاشى في الاستثناء، فعل أو حرف أو ذات وجهين 226 38- مسألة: هل يجوز بناء "غير" مطلقًا؟ 233 39- مسألة: هل تكون "سوى" اسمًا أو تلزم الظرفية؟ 239 40- مسألة: "كم" مركبة أو مفردة؟ 243 41- مسألة: إذا فصل بين "كم" الخبرية وتمييزها فهل يبقى التمييز مجرورًا؟ 247 42- مسألة: هل تجوز إضافة النيف على العشرة 252 43- مسألة: القول في تعريف العدد المركب وتمييزه 255 44- مسألة: القول في إضافة العدد المركب إلى مثله 263 45- مسألة: المنادى المفرد العلم، معرب أو مبني؟ 264 46- مسألة: القول في نداء الاسم المحلَّى بأل 274 47- مسألة: القول في الميم في "اللهمَّ" أعِوَضٌ من حرف النداء أم لا؟ 279 48- مسألة: هل يجوز ترخيم المضاف بحذف آخر المضاف إليه؟ 284 49- مسألة: هل يجوز ترخيم الاسم الثلاثي؟ 292 50- مسألة: ترخيم الرباعي الذي ثالثه ساكن 296 51- مسألة: القول في ندبة النكرة والأسماء الموصولة؟ 298

52- مسألة: هل يجوز إلقاء علامة الندبة على الصفة؟ 300 53- مسألة: اسم لا المفرد النكرة، معرب أو مبني؟ 302 54- مسألة: هل تقع "من" لابتداء الغاية في الزمان؟ 306 55- مسألة: واو رب، هل هي التي تعمل الجر؟ 311 56- مسألة: القول في إعراب الاسم الواقع بعد "مذ" و"منذ" 316 57- مسألة: هل يعمل حرف القسم محذوفا بغير عوض؟ 325 58- مسألة: اللام الداخلة على المبتدأ، لام الابتداء أو لام جواب القسم؟ 330 59- مسألة: القول في أيمن في القسم، مفرد هو أو جمع؟ 334

المجلد الثاني

المجلد الثاني مسألة القول في الفصل بين المضاف والمضاف إليه ... بسم الله الرحمن الرحيم 60- مسألة: [القول في الفصل بين المضاف والمضاف إليه] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف وحرف الخفض لضرورة الشعر. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك بغير الظرف وحرف الجر. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن العرب قد استعملته كثيرًا في أشعارها، قال الشاعر: [265] فَزَجَجْتُهَا بِمَزَجَّةٍ ... زَجَّ القَلُوصَ أَبِي مَزَادَهْ

_ [265] هذا البيت من الشواهد التي لا يعرف قائلها، ولا يعرف له سوابق أو لواحق، حتى قال جار الله في المفصل "1/ 291 بتحقيقنا": "وما يقع في بعض نسخ الكتاب من قوله: فزججتها بمزجة.... البيت فسيبويه بريء من عهدته" ا. هـ، وقد استشهد بهذا البيت رضي الدين في شرح الكافية في باب الإضافة، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 251" والزمخشري في المفصل، وابن يعيش في شرحه "ص341" وابن جني في الخصائص "2/ 406" والأشموني "رقم 656 بتحقيقنا" وزججتها: طعنتها بالزج، والزج -بضم الزاي وتشديد الجيم- الحديدة التي تركب في أسفل الرمح، فأما الحديدة التي تركب في أعلى الرمح فهي السنان -بزنة الكتاب- ويروى "فزخختها" بخاءين مكان الجيمين، ماضٍ من الزخ وهو الدفع مطلقًا، أو الدفع في وهدة، والمزجة -بكسر الميم وفتح الزاي وتشديد الجيم- الرمح القصير كالمزراق، والمزخة في الرواية الأخرى: اسم الآلة من الزخ، والقلوص -بفتح القاف- الناقة الشابة، وأبو مزادة: كنية رجل، ومحل الاستشهاد في هذا البيت قوله "زج القلوص أبي مزادة" فيمن رواه بفتح القلوص وجر أبي مزادة بالياء نيابة عن الكسرة، حيث فصل بين المضاف =

والتقدير: زج أبي مَزَادَةَ القَلُوصَ، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالقلوص، وهو مفعول، وليس بظرف ولا حرف خفض، وقال الآخر: [266] تمرُّ على ما تستمرُّ، وقد شَفَتْ ... غَلَائِلَ عبدُ القَيْسِ منها صُدُورِهَا

_ = الذي هو قوله زج والمضاف إليه الذي هو قوله أبي مزادة بمفعول المضاف الذي هو قوله القلوص، وبيان ذلك أن زج مصدر فعل يتعدى إلى المفعول به، فهو يعمل عمل الفعل المتعدي: يرفع فاعلا، وينصب مفعولا، وتجوز إضافته إلى أيهما شاء المتكلم ثم يأتي بعد ذلك بالآخر، وقد أراد المتكلم ههنا أن يضيف هذا المصدر إلى فاعله وهو أبو مزادة، ففعل ذلك، ولكنه جاء بالمفعول بين المضاف والمضاف إليه، ولو أنه اتبع المهيع لقال: زج أبي مزادة القلوص، أو لقال: زج القلوص أبو مزادة، فأضاف المصدر إلى فاعله ثم أتى بمفعوله أو أضاف المصدر إلى مفعوله ثم أتى بفاعله، فلما لم يفعل أحد الوجهين مع تمكنه منه بغاية اليسر علمنا أنه لا يرى بهذا الفصل بأسًا، وأنه يعتقد جوازه من غير ضرورة ولا شذوذ، قال ابن اجني: "وفي هذا البيت عندي دليل على قوة إضافة المصدر إلى الفاعل عندهم، وأنه في نفوسهم أقوى من إضافته إلى المفعول، ألا تراه ارتكب ههنا الضرورة -مع تمكنه من ترك ارتكابها- لا لشيء غير الرغبة في إضافة المصدر إلى الفاعل دون المفعول" ا. هـ. [266] هذا البيت من الشواهد التي لا يعرف قائلها، بل ذكر المؤلف أنه مصنوع، وقد استشهد به رضي الدين في باب الإضافة في شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 250" وذكر أن ابن السيد أنشده في أبيات المعاني عن الأخفش، وتمر: من المرور، وتستمر: من الاستمرار، والغلائل: جمع غليل وهو الضغن، وشفي: أصله أن يقال: "شفى الله المريض يشفيه" أي أذهب عنه العلة، وشفاء الضغن: يراد به ذهابه واقتلاعه من الصدور، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "شفت غلائل عبد القيس منها صدورها" فقد زعم الكوفيون أن الشاعر قد فصل بين المضاف الذي هو قوله غلائل والمضاف إليه الذي هو قوله صدورها بأجنبي وهو فاعل شفت الذي هو قوله عبد القيس والجار والمجرور الذي هو قوله منها، وأصل الكلام على هذا التخريج: وقد شفت عبد القيس منها غلائل صدورها، وفي البيت تخريج آخر يخرجه عن الاستشهاد لهذه المسألة، وذلك أن تجعل غلائل مقطوعًا عن الإضافة وإنما ترك تنوينه لكونه، على صيغة منتهى الجموع فهو ممنوع من الصرف، وتجعل قوله "صدورها" بالجر مضافًا إلى محذوف مماثل للمذكور، وأصل الكلام على هذا: وقد شفت غلائل عبد القيس منها غلائل صدورها، وكل ما في البيت على هذا التخريج أن الشاعر قدم المفعول على الفاعل وحذف المضاف لدلالة ما تقدم عليه، فأما تقديم المفعول فلا ينازع أحد في جوازه، وأما حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على جره فله نظائر منها قراءة من قرأ {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} بجر "الآخرة" على تقدير: والله يريد ثواب الآخرة ومنها قول ابن قيس الرقيات، وهو الشاهد رقم 19 السابق: رحم الله أعظما دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات فإن هذا البيت يخرج على تقدير: رحم الله أعظما دفنوها بسجستان أعظم طلحة الطلحات.

والتقدير: شفت غلائل صدورها عبد القيس منها، ففصل بين المضاف والمضاف إليه، وقال الآخر: [267] يَطُفْنَ بِحُوزِيِّ المَرَاتِعِ لَمْ تُرَعْ ... بِوَادِيهِ مِنْ قَرْعِ القِسِيَّ الكَنَائِنِ

_ [267] هذا البيت من كلام الطرماح بن حكيم "انظر الديوان 169" وقد أنشده ابن منظور "ح وز" وابن جني في الخصائص "2/ 406 ط الدار" وابن الناظم في شرح ألفية والده ابن مالك، وشرحه العيني "3/ 462 بهامش الخزانة" والبيت في وصف بقر الوحش، وتطفن: أي تدرن حوله، تقول: طاف الرجل بالقوم، وطاف عليهم، وأطاف أيضًا: أي استدار، وأطاف فلان بالأمر؛ إذا أحاط به، وأنشد أبو الجراح: أطفئت به نهارا غير ليل ... وألهى ربها طلب الرجال وقال أبو خراش: أطفت عليه الطير وهو ملحب ... خلاف البيوت عند محتمل الصرم وأصل الحوزي: التوحد المنفرد، وأراد به في بيت الشاهد فحل البقر الوحشي الذي يصفه، والمراتع: جمع مرتع وهو مكان الرتع، يريد أنه منفرد بهذه الأماكن يرتع فيها ما شاء، ولم يرع -بالبناء للمجهول- أي لم يخف، والقرع: الضرب، والقسي جمع قوس، والكنائن: جمع كنانة، وهي جراب توضع فيه السهام. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "قرع القسي الكنائن" فإن الرواية فيه بنصب "القسي" وجر "الكنائن" فيكون تخريجه على أن قوله "قرع" مصدر مضاف إلى قوله "الكنائن" الذي هو فاعل المصدر، وقد فصل بين المضاف والمضاف إليه بقوله "القسي" الذي هو مفعول المصدر ونظير ذلك قراءة ابن عامر في الآية 137 من سورة الأنعام التي تلاها المؤلف {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} بنصب "أولادهم" وجر "شركائهم" على أن قتل" مصدر مضاف إلى فاعله وهو قوله {شُرَكَاؤُهُمْ} وقد فصل بينهما بمفعول المصدر وهو قوله {أَوْلادِهِمْ} ومثل ذلك أيضًا قول الشاعر: عتوا إذا أجبناهم إلى السلم رأفة ... فسقناهم سوق البغاث الأجادل الرواية فيه بنصب "البغاث" وجر "الأجادل" ومجازها أن قوله "سوق" مصدر مضاف إلى فاعله وهو قوله "الأجادل" وقد فصل بينهما بمفعول المصدر وهو قوله "البغاث" وأصل الكلام: فسقناهم سوق الأجادل البغاث، ومثله قول عمرو بن كلثوم: وحلق الماذي والقوانس ... فداسهم دوس الحصاد الدائس الرواية بنصب "الحصاد" وجر "الدائس" وتخريجها أن "دوس" مصدر مؤكد لعامله وهو مضاف إلى فاعله الذي هو قوله "الدائس" وقد فصل بينهما بمفعول المصدر الذي هو قوله "الحصاد" وأصل الكلام: فداسهم دوس الدائس الحاصد. ونظيره قول أبي جندل الطهوي: يفركن حب السنبل الكنافج ... بالقاع فرك القطن المحالج الرواية فيه بنصب "القطن" وجر "المحالج" وتخريجها أن قوله "فرك" مصدر مؤكد لعامله الذي هو قوله "يفركن" وقد أضاف هذا المصدر إلى فاعله الذي هو قوله "المحالج" وفصل بينهما بمفعول المصدر وهو قوله "القطن" وأصل الكلام: فرك المحالج القطن.

والتقدير: مِنْ قَرْعِ الكَنَائِنِ القِسِيَّ، وقال الآخر: [268] فَأَصْبَحَتْ بَعْدَ خَطِّ بَهْجَتِهَا ... كأنَّ قَفْرًا رُسُومَهَا قَلَمَا والتقدير: بعد بهجتها، ففصل بين المضاف الذي هو "بعد" والمضاف إليه الذي هو "بهجتها" بالفعل الذي هو "خط" وتقدير البيت: فأصبحت قفرًا بعد بهجتها كأن قلما خط رسومها. وقد حكى الكسائي عن العرب: هذا غلام والله زيد، وحكى أبو عبيدة قال: سمعت بعض العرب يقول: إن الشاة لَتَجْتَرُّ فتسمع صوت والله رَبِّهَا، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بقوله "والله"، وإذا جاء هذا في الكلام ففي الشعر أولى، وقد قال ابن عامر أحد القراء السبعة {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} بنصب "أولادهم" وجر "شركائهم" ففصل بين المضاف والمضاف إليه بقوله "أولادهم" والتقدير فيه: قتلُ شركائِهِم أولادَهم، ولهذا كان منصوبًا في هذه القراءة، وإذا جاء في القرآن ففي الشعر أولى. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة شيء واحد؛ فلا يجوز أن يفصل بينهما، وإنما جاز الفصل بينهما بالظرف وحرف الجر، كما قال عمرو بن قَمِيئَةَ: [269] لَمَّا رَأَتْ سَاتِيدَمَا اسْتَعْبَرَتْ ... للهِ دَرُّ اليوم مَنْ لَامَهَا

_ [268] أنشد ابن منظور هذا البيت "خ ط ط" ولم يعزه، وهذا البيت مهلهل النسج مضطرب التركيب، يصف الشاعر فيه الديار بالخلاء وارتحال الأنيس وذهاب المعالم، وأصل نظام البيت هكذا: فأصبحت بعد بهجتها قفرًا كأن قلما خط رسومها؛ ففصل بين أصبح وخبرها، وبين المضاف والمضاف إليه، وبين الفعل ومفعوله، وبين كأن واسمها، وقدم خبر كأن عليها وعلى اسمها، فصار أحجية من الأحاجي، واستشهاد المؤلف به في قوله "بعد خط بهجتها" حيث فصل بين المضاف الذي هو قوله "بعد" والمضاف إليه وهو وقوله "بهجتها" بأجنبي وهو قوله "خط" وهو فعل ماضٍ فاعله مستتر فيه يعود إلى القلم الذي في آخر البيت، ومفعول خط هو قوله "رسومها" وأصل هذه العبارة: كأن قلما خط "هو" رسومها. [269] هذا البيت من كلام عمرو بن قميئة صاحب امرئ القيس في رحلته إلى بلاد الروم، وهو الذي يقول فيه: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا والبيت من شواهد سيبويه "1/ 91" والزمخشري في المفضل "رقم 99" وابن يعيش في شرح المفصل "ص339" ورضي الدين في باب الإضافة من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 247" وساتيدما: جبل عند ميافارقين، واستعبرت: بكت من وحشة الغربة ولبعدها عن أهلها، والعرب تقول "لله در فلان" إذا دعوا له أو تعجبوا من =

ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف؛ لأن التقدير لله در من لامها اليوم، وقال أبو حيّة النّميري: [270] كما خُطَّ الكتابُ بِكَفّ يومًا ... يهوديّ يُقَارِبُ أو يُزِيلُ

_ = بلوغه الغاية في شيء ما، وصف الشاعر امرأة نظرت إلى ساتديما فذكرت به بلادها فاستعبرت شوقًا إليها، ثم قال: لله در من لامها اليوم على بكائها، يتعجب من شأن لائمها وينكر عليه فعله؛ لأنها عنده قد بكت بحق فلا محل للومها. ومحل الاستشهاد هنا بهذا البيت قوله "در اليوم من لامها" فإن قوله "در" مضاف وقوله "من لامها" اسم موصول مضاف إليه، وقد فصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف وهو قوله "اليوم". [270] هذا البيت من كلام أبي حية النميري، واسمه الهيثم بن الربيع، وهو من شواهد سيبويه "1/ 91" وابن جني في الخصائص "2/ 405" والأشموني "رقم 662" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 358" وابن عقيل "رقم 240" وشرحه العيني "3/ 470 بهامش الخزانة" ورواه ابن منظور "ع ج م" غير أنه روى صدره: كتحبير الكتاب بكف يوما وصف أبو حية رسوم الدار فشبهها بالكتاب في دقتها والاستدلال بها، وخص اليهودي لأن اليهود هم أهل الكتابة، وجعل كتابته بعضها متقاربًا وبعضها مفترقًا متباينًا لاقتضاء آثار الديار تلك الصفة والحال، ومعنى قوله "يزيل" يفرق ما بينها ويباعد. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "بكف يوما يهودي" فإن قوله "كف" مضاف إلى قوله "يهودي" وقد فصل بينهما بالظرف وهو قوله "يوما" وهذا الظرف أجنبي من المضاف إذ لا عمل له فيه، وهو نظير بيت عمرو بن قميئة "رقم 269" ونظيرهما قول الآخر وهو من شواهد الأشموني "رقم 658": فرشني بخير لا أكونن ومدحتي ... كناحت يوما صخرة بعسيل ومحل الاستشهاد به في قوله "كناحت يوما صخرة" فإن قوله "ناحت" مضاف إلى قوله "صخرة" وقد فصل بينهما بالظرف وهو قوله "يوما" غير أن هذا الظرف متعلق بالمضاف الذي هو قوله ناحت، لأن هذا المضاف اسم فاعل يعمل عمل الفعل فيجوز أن يتعلق به الظرف، ونظيره قول الآخر وهو من شواهد سيبويه "1/ 90" وابن يعيش "ص339". رب ابن عم لسليمى مشمعل ... طباخ ساعات الكرى زاد الكسل عند من رواه بجر "زاد الكسل" فإن هذه الرواية تخرج على أن قوله "طباخ" مضاف إلى قوله "زاد الكسل" وقد فصل بينهما بالظرف وهو قوله "ساعات الكرى" وهذا الظرف منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم، ويروى بنصب "زاد الكسل" وتخرج على أنه أضاف قوله "طباخ" إلى "ساعات الكرى" ويكون قوله "زاد الكسل" مفعولا به لقوله طباخ، وفاعله ضمير مستتر فيه، ونظيره تمامًا ما أنشده سيبويه. يا سارق الليلة أهل الدار يروى بنصب "أهل الدار" على أنه أضاف قوله "سارق" إلى الظرف، ويروى بجر "أهل الدار" على أنه أضاف قوله "سارق" إلى قوله "أهل الدار" وفصل بينهما بالظرف الذي هو قوله "الليلة".

ففصل بين المضاف والمضاف إليه؛ لأن تقديره: بكف يهودي يومًا، وقال ذو الرمة: [271] كَأَنَّ أصواتَ من إِيغَالِهِنَّ بنا ... أَوَاخِرَ المَيْسِ أَصْوَاتُ الفَرَارِيج وقال امرأةٌ من العرب دُرْنَا بنتُ عَبْعَبَةَ الجَحْدَرِيَّة، وقيل: عَمْرَةُ الجُشَمِيَّة: [272] هما أَخَوَا في الحرب مَنْ لا أخا لَهُ ... إذا خاف يومًا نبوةً فدعاهما

_ [271] هذا البيت من كلام ذي الرمة غيلان بن عقبة، وهو من شواهد سيبويه "1/ 92" وابن جني في الخصائص "2/ 404" ورضي الدين في باب الإضافة من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 119 و250" و"من" للتعليل، والإيغال: الإبعاد، تقول: "أوغل في الأرض" إذا أبعد فيها، والضمير يعود إلى الإبل، والأواخر جمع آخرة الرحل، وهي العود الذي يستند إلى الركب، والميس -بفتح الميم وسكون الياء. شجر تتخذ منه الرحال والأقتاب، وإضافة الأواخر إليه على معنى من، مقل الإضافة في قولهم: باب ساج، وخاتم فضة، والفراريج: جمع فروج، وهو الصغير من الدجاج، ويروى "إنقاض الفراريج" بكسر الهمزة، والإنقاض: مصدر "أنقضت الدجاجة" أي صوتت، ومحل الاستشهاد بالبيت هنا قوله: "أصوات من إيغالهن بنا أواخر الميس" فإن قوله: "أصوات" مضاف إلى قوله: "أواخر الميس" وقد فصل بين المضاف والمضاف إليه بالجارين والمجرورين اللذين هما قوله: "من إيغالهن بنا" وأصل الكلام: كأن أصوات أواخر الميس أصوات الفراريج من إيغالهن بنا، وسنذكر لك نظائر هذا مع شرح الشاهد الآتي: [272] هذا البيت لشاعرة من شواعر العرب من كلمة ترثي فيها أخوين لها، وقد اختلف الرواة في تسميتها، فسماها سيبويه والزمخشري وابن يعيش "درنا بنت عبعبة، من قيس بن ثعلبة" وسماها أبو تمام في ديوان الحماسة عمرة الخثعمية، وروى الخطيب التبريزي عن أبي رياش أن الصواب أن قائل الأبيات "درماء بنت سيار بن عبعبة الجحدرية" والبيت من شواهد سيبويه "1/ 93" والزمخشري في المفصل "رقم 100 بتحقيقنا" وابن يعيش في شرحه "ص340" وابن جني في الخصائص "2/ 405" وابن الناظم، وشرحه العيني "3/ 472 بهامش الخزانة" وأصل النبوة -بفتح وسكون الباء الموحدة- أن يضرب بالسيف فلا يمضي في الضريبة، رثت أخويها فهي تقول: لقد كانا لمن ليس له أخ في الحرب ولا ناصر يأخذ بيده أخوين: ينصرانه إذا دهمه العدو، ويأخذان بيده إذا غشيه الهول فخاف ألا يستطيع دفع الهلاك عن نفسه، ومحل الاستشهاد بالبيت قوله: "أخوا في الحرب من لا أخا له" فإن قوله: "أخوا" مثنى الأخ مضاف إلى الاسم الموصول وهو قوله: "من" وقد فصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور الذي هو قوله: "في الحرب" وأصل الكلام: هما أخوا من لا أخا له في الحرب، ونظيره -فيما رأى ابن مالك- الحديث "هل أنتم تاركو لي صاحبي" فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "تاركو" مضاف وقوله: "صاحبي" مضاف إليه، وقد فصل بينهما بالجار والمجرور الذي هو قوله: "لي" ونظيره قول الشاعر: لأنت معتاد في الهيجا مصابرة ... يصلى بها كل من عاداك نيرانا =

ففصل بين المضاف والمضاف إليه؛ لأن تقديره: هما أخوا من لا أخا له في الحرب؛ لأن الظرف1 وحرف الجر يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما، فبقينا فيما سواهما على مقتضى الأصل. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما ما أنشدوه فهو مع قلّته لا يعرف قائله؛ فلا يجوز الاحتجاج به. وأما ما حكى الكسائي من قولهم "هذا غلامُ واللهِ زيدٍ" وما حكاه أبو عبيده عن بعض العرب من قولهم "فتسمع صَوْتَ والله رَبِّهَا" فنقول: إنما جاء ذلك في اليمين لأنها تدخل على أخبارهم للتوكيد، فكأنهم لما جازوا بها موضعها استدركوا ذلك بوضع اليمين حيث أدركوا من الكلام؛ ولهذا يسمونها في مثل هذا النحو "لغوًا" لزيادتها في الكلام في وقوعها غير موقعها. والذي يدل على صحة هذا أنا أجمعنا وإياكم على أنه لم يجئ عنهم الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير اليمين في اختيار الكلام. وأما قراءة من قرأ من القراء: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} فلا يَسُوغُ لكم الاحتجاج بها: لأنكم لا تقولون بموجبها؛ لأن الإجماع واقع على امتناع الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول في غير ضرورة الشعر، والقرآن ليس فيه ضرورة، وإذا وقع الإجماع على امتناع الفصل [به] بينهما في حال الاختيار سقط الاحتجاج بها على حالة الاضطرار، فبان أنها إذا لم يجز أن تجعل حجّة في النظير لم يجز أن تجعل حجة في النقيض. والبصريون يذهبون إلى وَهْي هذه القراءة وَوَهْم القارئ؛ إذ لو كانت صحيحة لكان ذلك من أفصح الكلام، وفي وقوع الإجماع على خلافه دليل على وَهْيِ القراءة، وإنما دعا ابن عامر إلى هذه القراءة أنه رأى في مصاحف أهل الشأم "شركائهم" مكتوبا بالياء ومصاحف أهل الحجاز والعراق "شركاؤهم" بالواو، فدلّ2 على صحة ما ذهبنا إليه، والله أعلم.

_ = والاستشهاد في قوله "معتاد" في الهيجا مصابرة" فإن قوله "معتاد مضاف إلى قوله "مصابرة" وقد فصل بينهما بالجار والمجرور وهو قوله "في الهيجا" وأصل الكلام: لأنت معتاد مصابرة في الهيجا.

مسألة هل تجوز إضافة الاسم إلى اسم يوافقه في المعنى

61- مسألة: [هل تجوز إضافة الاسم إلى اسم يوافقه في المعنى؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز إضافة الشيء إلى نفسه إذا اختلف اللفظان. وذهب البصريون أنه لا يجوز. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء في كتاب الله وكلام العرب كثيرًا، قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ اليقينِ} [الواقعة: 95] واليقين في المعنى نعت للحق؛ لأن الأصل فيه الحق اليقين، والنعت في المعنى هو المنعوت، فأضاف المنعوت إلى النعت وهما بمعنى واحد، وقال تعالى: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} [يوسف: 109] والآخرة في المعنى نعت الدار، والأصل فيه وللدار الآخرة خير، كما قال تعالى في موضع آخر: {ولَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} [الأنعام: 32] فأضاف دار إلى الآخرة، وهما بمعنى واحد، وقال تعالى: {جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [قّ: 9] والحب في المعنى هو الحصيد، وقد أضافه إليه، وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص: 44] والجانب في المعنى هو الغربي، ثم قال الراعي: [372] وقَرَّبَ جانب الغربي يَأْدُو ... مَدَبَّ السَّيلِ، واجتنب الشِّعَارَا

_ [273] أنشد ابن منظور هذا البيت "د ب ب -ش ع ر" ولم يعزه، والبيت في وصف الحمار وحش، ودب السيل -بفتح الميم وداله مفتوحة أو مكسورة- موضع جريه، ويقال "تنح عن مدب السيل" بفتح الدال وكسرها، أي ابتعد عن مكان جريه والشعار -بفتح الشين بزنة السحاب، عن ابن السكيت والرياشي، وقال شمر والأصمعي هو بكسر الشين بزنة الكتاب مثل شعار المرأة -وهو الشجر الملتف، وقيل: هو ما كان من الشجر في لين ووطاء من الأرض يحله الناس يستدفئون به في الشتاء ويستظلون به في القيظ، ويقال "أرض ذات شعار" أي ذات شجر، يريد الشاعر أن هذا الحمار الوحشي قد اجتنب الشجر مخافة أن =

ومن ذلك قولهم "صَلَاةُ الأولى، ومَسْجدُ الجامع، وبَقْلَةُ الحمقاء" والأولى في المعنى هي الصلاة، والجامع هو المسجد، والبقلة هي الحمقاء، وقد أضافوها إليها، فدل على ما قلناه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز لأن الإضافة إنما يراد بها التعريف والتخصيص، والشيء لا يتعرف بنفسه، لأنه لو كان فيه تعريف كان مستغنيًا عن الإضافة، وإن لم يكن فيه تعريف كان بإضافته إلى اسمه أبعد من التعريف؛ إذ يستحيل أن يصير شيئًا آخر بإضافة اسمه إلى اسمه؛ فوجب أن لا يجوز كما لو كان لفظهما مُتَّفِقًا. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما ما احتجوا به فلا حجة لهم فيه؛ لأنه كله محمول على حذف المضاف إليه وإقامة صفته مقامه، أما قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ اليقينِ} [الواقعة: 95] فالتقدير فيه: حق الأمر اليقين، كما قال تعالى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] أي دين الملة القيمة، وأما قوله تعالى: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} [يوسف: 109] فالتقدير فيه: ولدار الساعة الآخرة، وأما قوله تعالى: {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [قّ: 9] أي حب الزرع الحصيد، ووصف الزرع بالحصيد، وهو التحقيق1؛ لأن الحب اسم لما ينبت في الزرع، والحصد إنما يكون للزرع الذي ينبت فيه الحب، لا للحب، ألا ترى أنك تقول "حصدت الزرع" ولا تقول "حصدت الحب" وأما قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص: 44] فالتقدير فيه: بجانب المكان الغربيّ، وأما قولهم "صلاة الأولى" فالتقدير فيه: صلاة الساعة الأولى، وأما قولهم "مسجد الجامع" فالتقدير فيه: مسجد الموضع الجامع، وأما قولهم "بقلة الحمقاء" فالتقدير فيه: بقلة الحبة الحمقاء2؛ لأن البقلة اسم لما نبت من تلك الحبة، ووصف الحبة بالحمق، وهو التحقيق1؛ لأنها الأصل، وما نَبَتَ

_ = يرمى فيها ولزم مدرج السيول لأن الصيادين يبتعدون عنه، ومحل الاستشهاد عن المؤلف بهذا البيت في هذا الموضع قوله "جانب الغربي" فإن المراد بالجانب هو نفس المراد بالغربي عن الكوفيين، وقد أضاف الشاعر "جانب" إلى "الغربي" فيكون قد أضاف اسمًا إلى اسم آخر بمعناه، وزعموا أن قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} من هذا القبيل، والبصريون يذهبون إلى أن الكلام تقدير مضاف يكون موصوفًا بما جعل مضافًا إليه، أي جانب المكان الغربي، فهو من باب حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، وهو تكلّف لا داعي له.

منها فرع عليها، فكان وصف الأصل بالحمق أولى من وصف الفرع، وإنما وصفت بذلك لأنها تنبت في مَجَارِي السيول فتقلعها، ولذلك يقولون في المثل "هو أحمق مِنْ رِجْلَةٍ" فإذا كان جميع ما احتجوا به محمولًا على حذف المضاف إليه وإقامة صفته مقامه على ما بيَّنَّا لم يكن لهم فيه حجّة، والله أعلم.

مسألة "كلا" و "كلتا" مثنيان لفظا ومعنى، أو معنى فقط؟

62- مسألة: ["كلا" و"كلتا" مثنيان لفظًا ومعنًى، أو معنًى فقط؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "كلا، وكلتا" فيهما تثنية لفظية ومعنوية، وأصل كلا "كل" فخفّفت اللام، وزيدت الألف للتثنية، وزيدت التاء في "كلتا" للتأنيث، والألف فيهما كالألف في "الزيدان"، والعمران" ولزم حذف نون التثنية منهما للزومهما الإضافة. وذهب البصريون إلى أن فيهما إفراًدا لفظيًّا وتثنية معنوية، والألف فيهما كالألف في "عصًا، ورحًا". أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنهما مثنَّيان لفظًا ومعنًى وأن الألف فيهما للتثنية النقل والقياس: أما النقل فقد قال الشاعر: [274] في كِلْتَ رجليها سُلَامَى وَاحِدَهْ ... كِلْتَاهُمَا مَقْرُونَةٌ بِزَائِدَهْ1

_ [274] هذا البيت من شواهد رضي الدين في شرح الكافية "1/ 28" وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 62 بولاق" وشرحه العيني "1/ 159 بهامش الخزانة" ومن شواهد الأشموني "رقم 18" وقد أنشده ابن منظور "ك ل ا" ولم أعثر له على نسبة إلى قائل معين، ويروى: كلتاهما قد قرنت بزائده والسلامى -بضم السين وتخفيف اللام، بزنة الحبارى- واحدة السلاميات، وهي العظام التي تكون بين كل مفصلين من مفاصل الأصابع في اليد أو الرجل. ومحل الاستشهاد بهذا البيت في هذا الموضع قوله "في كلت" فإن البغداديين والفراء زعموا أن "كلت" ههنا مفرد كلتا في نحو قوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} وزعموا أن "كلا" و"كلتا" مثنَّيان لفظًا ومعنًى، والألف فيهما زائدة للدلالة على التثنية، والتاء في "كلتا" =

فأفرد قوله "كِلْتَ" فدلَّ على أن "كِلْتَا" تثنية.

_ = للتأنيث، وأصل كل واحد منهما قبل اللواحق "كل" بتشديد اللام -الذي يستعمل في نحو قولك "الأمر كله بيد الله" فحذفت لامها الثانية وكسرت كافها، ثم لو أردت المفرد المؤنث زدت التاء فقلت "كلت" كما قال الراجز "في كلت رجليها" وإذا أردت المثنى المذكر زدت الألف الدالة على التثنية فقلت "كلا الرجلين عندي رجل خير" وإذا أردت المثنى المؤنث زدت التاء للدلالة على التأنيث والألف للدلالة على التثنية فقلت "كلتا المرأتين عفيفة المئزر" وسيبويه رحمه الله وجمهور نحاة البصرة لا يرتضون هذا الكلام، وعندهم أن "كلا" و"كلتا" مفردان لفظًا مثنيان معنًى، والألف فيهما هي لام الكلمة، فوزن "كلا" فعل -بكسر الفاء وفتح العين، نظير رضا ومعى- وهذه الألف التي في "كلا" منقلبة عن واو، وقيل: عن ياء، ووزن "كلتا" فعلى مثل ذكرى -والتاء فيها هي لام الكلمة، وأصلها واو على ما اختاره ابن جني، واختار أبو علي أن أصلها ياء، أما الألف في "كلتا" فهي زائدة لدلالة التأنيث، قالوا: والدليل على أن هاتين الكلمتين مفردان لفظًا مثنيان معنًى أنه يخبر عنهما بالمفرد ويعود الضمير إليهما مفردًا، ولو كانا مثنيين لفظًا ومعنًى لما جاز أن يخبر عنهما بالمفرد ولا أن يعود إليهما الضمير مفردا، وأيضا فإنا نجد العرب جميعًا إذا أضافوهما إلى الاسم الظاهر يلزمونهما الألف في الرفع والنصب والجر نحو "كلا الرجلين مؤدب" ونحو "كلتا المرأتين صالحة" وهو "إن كلا هذين الرجلين مستقيم" وما أشبه ذلك ولو كانا مثنيين لفظا ومعنى لوجب أن يجيئا بالياء في حال النصب والجر في لسان أكثر العرب من غير تفرقة بين ما إذا كان المضاف إليه مضمرًا وما إذا كان مظهرًا، كسائر المثنيات، واستمع إلى ما نقله ابن منظور عن الجوهري، قال: "كلا في تأكيد الاثنين نظير كل في المجموع، وهو اسم مفرد غير مثنى، فإذا ولي اسمًا ظاهرًا كان في الرفع والنصب والخفض على حالة واحدة، بالألف، تقول: رأيت كلا الرجلين، وجاءني كلا الرجلين، فإذا اتصل بمضمر قلبت الألف ياء في موضع الجر والنصب فقلت: رأيت كليهما، ومررت بكليهما، وتبقى في الرفع على حالها، وقال الفراء: هو مثنى، مأخوذ من كل، فخففت اللام وزيدت الألف للتثنية، وكذلك كلتا للمؤنث، ولا يكونان إلا مضافين، ولم يتكلم منهما بواحد، ولو تكلم به لقيل: كل، وكلت، وكلان، وكلتان، واحتج بقول الشاعر: في كلت رجليها سلامى واحده أراد في إحدى رجليها فأفرد، وهذا القول ضعيف عند أهل البصرة؛ لأنه لو كان مثنى لوجب أن تنقلب ألفه في النصب والجر ياء مع الاسم الظاهر؛ ولأن معنى كلا مخالف لمعنى كل؛ لأن كلا للإحاطة، وكلا يدل على شيء مخصوص، وأما هذا الشاعر فإنما حذف الألف للضرورة وقدر أنها زائدة، وما يكون ضرورة لا يجوز أن يجعل حجة، فثبت أنه اسم مفرد كمعى، إلا أنه وضع ليدل على التثنية، كما أن قولهم نحن اسم مفرد يدل على الاثنين فما فوقهما" ا. هـ كلامه. ونظير هذا الشاهد -في حذف الألف من "كلتا" بخصوصها- قول الشاعر الآخر، وهو من شواهد الرضي: كلت كفيه توالي دائمًا ... بجيوش من عقاب ونعم =

وأما القياس فقالوا: الدليل على أنها ألف التثنية أنها تنقلب إلى الياء في النصب والجر إذا أضيفتا إلى المضمر، وذلك نحو قولك: "رأيت الرجلين كليهما، ومررت بالرجلين كليهما، ورأيت المرأتين كلتيهما، ومررت بالمرأتين كلتيهما" ولو كانت الألف في آخرهما كالألف في آخر "عصًا، ورحًا" لم تنقلب كما لم تنقلب ألفهما نحو "رأيت عصاهما ورحاهما، ومررت بعصاهما ورحاهما" فلما انقلبت الألف فيهما انقلاب ألف "الزيدان، والعمران" دل على أن تثنيتهما لفظية ومعنوية. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن فيهما إفرادًا لفظيًّا وتثنية معنوية أن الضمير تارة يُرَدّ إليهما مفردًا حملًا على اللفظ، وتارة يردّ إليهما مثنى حملًا على المعنى. فأما رَدُّ الضمير مفردًا حملًا على اللفظ فقد جاء ذلك كثيرًا، قال الله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33] فقال: {آتَتْ} بالإفراد حملًا على اللفظين ولو كان مثنى لفظًا ومعنًى لكان يقول: {آتَتْا} كما تقول: الزيدان ذهبا، والعمران ضربا، وقال الشاعر: [275] كِلَا أَخَوَيْنَا ذو رجال، كأنهم ... أُسُودُ الشّرَى من كل أَغْلَبَ ضَيْغَمِ

_ = والعرب كما تشبع الحركات فتنشأ عنها حروف اللين "انظر الشواهد 6-17 في المسألة الثانية" تقطع حروف المد، وتحذفها مجتزئة بالحركات التي قبلها؛ لأنها مجانسة لها ودالة عليها "وانظر الشواهد 245-254 التي مرت في المسألة 56، ثم انظر لها نظائر في المسالة 72" وفي هذا القدر ما يكفي أو يغني. [275] الشرى -بفتح الشين، بوزن الفتى- موضع تنسب إلى الأسود، ويقال للشجعان: هم أسود الشرى، قال بعضهم: شرى موضع بعينه تأوي إلى الأسود، وقيل: هو شرى الفرات وناحيته، وبه غياض وآجام ومأسدة، وقال الشاعر: أسود شرى لاقت أسود خفية والشرى: طريق في جبل سلمى أحد جبلي طيّئ كثير الأسد. والأغلب: يراد منه الأسد، والضيغم: الأسد أيضًا، وقيل: هو الواسع الشدق من الأسد، وأصل اشتقاقه من الضيغم وهو العض الشديد، ومحل الاستشهاد من البيت قوله "كلا أخوينا ذو رجال" فدل ذلك على أن "كلا" له جهة إفراد، وإلا لما صح الإخبار عنه بالمفرد؛ لأن المبتدأ والخبر يجب أن يتطابقا في الإفراد والتثنية والجمع، ولا تخلو جهة الإفراد في كلا أن تكون جهة اللفظ أو جهة المعنى، وقد اتفق الفريقان الكوفيون والبصريون على أن "كلا" مثنى في المعنى -وقد أخبر عن "كلا" بمفرد وهو قوله "ذو رجال"- فبقي جهة اللفظ، فوجب أن يكون مفردًا لفظًا، وهو ما ذهب إليه البصريون.

فقال "ذو" بالإفراد حملًا على اللفظ، ولو كان مثنى لفظًا ومعنًى لقال "ذَوَا" وقال الآخر: [276] كِلَا أَخَوَيكُم كان فَرْعًا دِعَامَة ... ولكنهم زَادُوا وأَصْبَحْتَ نَاقِصَا فقال "كان" بالإفراد حملًا على اللفظ، ولم يقل "كانا" وقال الآخر: [122] أُكَاشِرُهُ وأعلم أن كِلَانَا ... على ما ساء صاحِبَهُ حَرِيصُ فقال "حريص" بالإفراد ولم يقل "حريصان" وقال الآخر: [277] كلانا يا يزيد يحب ليلى ... بِفِيَّ وفِيكَ مِنْ ليلى التُّرَابُ فقال "يحب" بالإفراد على ما بيَّنَّا. وقال الآخر: [278] كِلَانا ثَقَلَيْنَا وَاثِقٌ بِغَنِيمَةٍ ... وقد قَدَرَ الرَّحمن ما هو قادر

_ [276] أنشد ابن منظور صدر هذا البيت "ك ل ا" ونسبه إلى الأعشى، ولكنه رواه "كلا أبويكم" كما في الديوان "109" وأصل الفرع -بفتح الفاء وسكون الراء- القوس يكون خير القسي ومنه قالوا: فرع فلان فلانًا، أي فاقه، وقالوا: فرع فلان القوم، تفرعهم: أي فاقهم وعلاهم، والدعامة -بكسر الدال وتخفيف العين- سيد القوم ورئيسهم، وقالوا: فلان دعامة عشيرته، يريدون أنه سيدها، والاستشهاد بهذا البيت هنا في قوله "كلا أخويكم كان فرعًا" حيث أعاد الضمير من "كان" على "كلا" وهو ضمير المفرد الغائب، فدلَّ على أن في "كلا أخويكم" جهة إفراد، وهي جهة اللفظ، على نحو ما بيناه في شرح الشاهد السابق. [277] هذا البيت لمزاحم بن الحارث العقيلي، وكان يحب ليلى بنت مهدي صاحبة قيس بن معاذ المعروف بمجنون ليلى، وصحة رواية البيت مع بيتين يليانه هكذا: كلانا يا معاذ يحب ليلى ... بفي وفيك من ليلى التراب شركتك في هوى من كان حظي ... وحظك من مودتها العذاب لقد خبلت فؤادك ثم ثنت ... بقلبي؛ فهو مخبول مصاب ومعاذ: هو معاذ بن كليب العامرين كان مجنونا من مجانين ليلى، وكان مزاحم قد شركه في حبها، ويقال: إنه لما سمع هذه الأبيات من مزاحم التبس وخولط في عقله وقوله "بفي وفيك من ليلى التراب" دعاء على نفسه وعلى صاحبه بأنه يرجع كل منهما من حب ليلى بالخيبة من غير أن ينال حظا من مودتها. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله: "كلانا يحب ليلى" حيث أعاد الضمير من "يحب" مفردًا إلى "كلانا" فدل ذلك على أن لكلا جهة إفراد، وهي جهة اللفظ، على نحو ما قررناه في الشاهد 275، ونظير هذا البيت في الإخبار عن كلا بالمفرد قول ليلى العامرية: كلانا مظهر للناس بغضًا ... وكل عند صاحبه مكين فقال: "كلانا مظهر" فأخبر بالمفرد الذي هو "مظهر" عن "كلا" فهذا يدل على أن "كلا" مفرد لفظًا؛ لأن معناها مثنى بالإجماع. [278] هذا البيت من كلام إياس بن مالك بن عبد الله المعني، وبعده قوله: فلم أرَ يوما كان أكثر سالبًا ... ومستلبًّا سرباله لا يناكر =

فقال "واثق" بالإفراد. وقال الآخر: [279] كِلَا يَوْمَيْ أُمَامَةَ يومُ صَدٍّ ... وإن لم نَأْتِهَا إلا لمَامَا

_ = وأكثر منا يافعا يبتغي العلا ... يضارب قرنا دارعًا وهو حاسر وقد أنشد ابن منظور هذه الأبيات "ق د ر" وعزاها إليه. وثقل الرجل -بفتح الثاء والقاف جميعا- حشمه ومتاع بيته، وأراد به ههنا النساء، يقول: نساؤنا ونساؤهم طامعات في ظهور كل واحد من القبيلين على صاحبه، والأمر في ذلك يجري على ما قدره الله تعالى، و"مستلبًا سرباله" هو بنصب سرباله على أنه مفعول ثان لمستلب، وفي مستلب ضمير مستتر هو نائب فاعله وهو المفعول الأول. وأراد بقوله "لا يناكر" أنه لا ينكر ذلك لأنه مصروع قد قتل، ومن الناس من يرويه برفع "سرباله" على أنه هو نائب الفاعل وليس في مستلب ضمير، واليافع: المترعرع الداخل في عصر شبابه، والدارع: لابس الدرع، والحاسر: الذي لا درع عليه، و"قدر" في البيت الأول هو بالتخفيف و"قادر" اسم الفاعل منه، وفي حديث الاستخارة: "فاقدره لي ويسّره عليّ" ومعناه اقضِ لي به وهيّئ لي أسبابه. والاستشهاد بهذا البيت في قوله "كلا ثقلينا واثق" حيث أخبر بواثق وهو مفرد عن "كلا" فوجب أن يكون "كلا" مفردا لوجوب توافق المبتدأ والخبر، ولما كان "كلا" مثنى من جهة المعنى بالإجماع وجب أن يكون مفردًا من جهة اللفظ ليتم توافق المبتدأ وخبره، وهذا رأي البصريين في "كلا" أنها مفرد لفظًا مثنًى معنًى. [279] هذا البيت من كلام جرير بن عطية بن الخطفي "د539" من قصيدة يقولها لهريم وهلال بن أحوز المازني، وأولها قوله: ألا حي المنازل والخياما ... وسكنا طال فيها ما أقاما وقد أنشد ابن منظور بيت الشاهد "ك ل ا" وعزاه إليه؛ ورواية اللسان مثل رواية المؤلف ههنا، ولكن الذي في ديوان جرير "كلا يومي أمامه يوم صدق" أي يوم صالح، والذوق يشهد أن رواية الديوان خير مما هنا، وتقول "فلان لا يزورنا إلا لماما" تريد أنه يزور في بعض الأحيان على غير مواظبة، ومحل الاستشهاد في هذا البيت قوله "كلا يومي أمامة يوم" حيث أخبر بيوم وهو مفرد عن "كلا" وذلك يدل على أن "كلا" مفرد، على نحو ما قررناه في الشواهد السابقة، ونظير بيت جرير قول امرئ القيس بن حجر الكندي: كلانا إذا ما نال شيئا أفاته ... ومن يحترث حرثي وحرثك ينسل ألا تراه قد أعاد الضمير على كلانا مفردا في "نال" وفي "أفاته" ومثله قول عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب: كلانا غني عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشد تغانيا فأخبر عن "كلا" بالمفرد هو قوله "غني" وأعاد الضمير إليه مفردًا في قوله "عن أخيه" وفي قوله "حياته"، ونظير ذلك قول القتال الكليبي: تضمنت الأروى لنا بطعامنا ... كلانا له منها نصيب ومأكل فأعاد الضمير إلى كلانا مفردًا في قوله "له" وعلى وجه الإجمال إنك لتجد العرب يراعون في "كلا" الإفراد أكثر مما يراعون التثنية، وعلى ذلك جرى أكثر كلامهم.

فقال "يوم" بالإفراد. وقال أبو الأَخْزَرِ الحِمَّانِيُّ: [280] فكلتاهما خرَّت وأَسْجَدَ رَأْسُهَا ... كما سجدت نَصْرَانَةٌ لم تَحَنَّفِ فقال "خرت" بالإفراد. وقال الآخر: [281] فكلتاهما قد خُطَّ لي في صَحِيفَةٍ ... فلا العيش أهواهُ ولا الموتُ أَرْوَحُ

_ [280] أنشد ابن منظور هذا البيت "ن ص ر" وعزاه لأبي الأخزر الحماني، وقال: إنه يصف ناقتين طأطأتا رءوسها من الإعياء، فشب رأس الناقة في تطأطئها برأس النصرانية إذا طأطأته في صلاتها. وقول "أسجد رأسها" هو لغة في "سجد رأسها" تقول: أسجد الرجل، إذا طأطأ رأسه وانحنى، وكذلك تقول "أسجد البعير" ومنه قول الأسدي وأنشده أبو عبيد: وقلن له اسجد لليلى فأسجدا والنصرانة: واحدة النصارى، والمذكر عند الخليل نصران، وجعله نظير ندمان وندمانة وندامى، وقال ابن بري: قوله أن النصارى جمع نصران ونصرانة إنما أريد بذلك الأصل دون الاستعمال، وإنما المستعمل في الكلام نصراني ونصرانية، وإنما جاء نصرانة في بيت الأخزر على جهة الضرورة، وقوله "لم تحنف" أي لم تختتن، هذا أشبه ما يراد بهذه الكلمة ههنا، ويأتي تحنف بمعنى اعتزل الأصنام، وبمعنى عمل عمل الحنيفية، ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "كلتاهما خرت وأسجد رأسها" حيث أعاد الضمير على "كلتا" مفردًا في قوله "خرت" وفي قوله "رأسها" فهذا يدل على أن "كلتا" عنده لها جهة إفراد، وإلا لما صح عود الضمير مفردًا عليها؛ لأن ضمير الغيبة يجب أن يطابق مرجعه إفرادًا وتثنية وجمعًا، وقد أجمع أهل البلدين على أن "كلتا" من جهة المعنى مثنى فلم يبقَ إلا جهة اللفظ، فوجب أن يكون "كلتا" مفردًا لفظًا. [281] خط -بالبناء للمجهول- كتب، تقول: "خط فلان بالقلم، أو غيره، من مثال مد" أي كتب، و"خط الشيء يخطه" كتبه، والصحيفة: ما يكتب فيه، وتجمع على صحائف وهو قياس نظرائها، وتجمع أيضًا على صحف -بضم الصاد والحاء جميعًا- وفي التنزيل العزيز: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} ونظير صحيفة وصحف قولهم: سفينة وسفن، شبهوهما بما لا تاء فيه من نحو قضيب وقضب وقليب وقلب، ومن العلماء من يثبت صحيفا -بغير تاء- فيكون الصحف جمع صحيف، كما أثبتوا سفينًا أيضًا -فيكون السفن جمع سفين، وقد يقال: إنهم جمعوا صحيفة وسفينة على صحيف وسفين ثم جمعوا صحيفًا وسفينًا الجمع على صحف وسفن، وانظر إلى قول طرفة بن العبد البكري: عدولية أو من سفين ابن يامن ... يجور بها الملاح طورًا ويهتدي تجد قوله: "أو من سفين ابن يامن" دالًا على الجمع، فيكون ما ذهبنا إلى أدق وأقيس وقوله "ولا الموت أروح" من قولهم "روح الشيء يروح روحًا -مثل فرح يفرح فرحًا" إذا كان أجلب للراحة. والاستشهاد بالبيت في قوله "كلتاهما قد خط" حيث أعاد الضمير إلى "كلتاهما" مفردًا في قوله "قد خط" فذلك يدل على أن لكلتا جهة إفرادًا، وهي جهة لفظه، لأنه من جهة المعنى مثنى باتفاق من الكوفيين والبصريين جميعًا على نحو ما قررناه في الشواهد السابقة، وكان من حق العربية عليه أن يقول "فكلتاهما قد خطت" فيؤنث الفعل؛ =

فقال: "خُطَّ" بالإفراد، والشواهد على هذا النحو كثيرًا جدًّا. وأما رَدُّ الضمير مثنى حملًا على المعنى فعلى ما حكي عن بعض العرب أنه قال "كِلَاهُمَا قَائِمَان، وكِلْتَاهُمَا لقيتهما" وقال الشاعر: [282] كلاهما حين جَدَّ الجَرْيُ بينهما ... قد أَقْلَعَا، وكلا أَنْفَيهِمَا رَابِي

_ = لأن الاستعمال العربي على أنه إذا كان الفاعل ضميرًا مؤنثًا وجب في غير الضرورة إلحاق تأء التأنيث بالفعل المسند إلى هذا الضمير سواء أكان مرجع الضمير حقيقي التأنيث نحو "زينب قامت" أم كان مجازي التأنيث نحو "الشمس طلعت" فاعرف هذا. [282] هذا البيت من كلام الفرزدق همام بن غالب، وكان جرير بن عطية قد زوج ابنته عضيدة للأبلق، فعيره الفرزدق وهجاه، وقيل البيت المستشهد به قوله: ما كان ذنب التي أقبلت تعتلها ... حتى اقتحمت بها أسكفة الباب ولم يقف العيني على سبب الشعر ولا السيوطي فزعما أن الكلام في وصف فرسين، وتبعهما العلامتان الصبان والأمير، والصواب ما ذكرناه، وهذا البيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص64" وابن جني في الخصائص "2/ 421 و3/ 314" والأشموني "رقم 20" وابن هشام في المغني "رقم 339" والضمير في "كلاهما" وما بعده يعود إلى عضيدة وزوجها الأبلق، أو يعود إلى جرير وابنته على نوع من الالتفات فقد كان من حق الكلام عليه -إذا أراد ذلك- أن يقول "كلاكما" وتعتلها: تجذبها جذبا عنيفا، وبابه نصر أو ضرب، وأسكفة الباب -بفتح الهمزة وسكون السين وضم الكاف وتشديد الفاء مفتوحة- عتبته، و"أقلعا" كفا عنه وتركاه، و"رابي" منتفخ. والاستشهاد بالبيت في قوله "كلاهما قد أقلعا" وقوله "وكلا أنفيهما رابي" فقد أعاد الضمير إلى "كلاهما" في العبارة الأولى مثنى وذلك قوله "أقلعا" مراعاة لمعنى "كلا" وأخبر عن كلا في العبارة الثانية بمفرد، وذلك في قوله "رابي" مراعاة للفظ "كلا" فدل ذلك على أنه يجوز مراعاة لفظ "كلا" ومراعاة معناها، ويجوز الجمع بين الوجهين في الكلام الواحد، قال ابن جني في تخريج قوله قد أقلعا "هذا محمول على المعنى كما يحمل على معنى كل ومن، نحو قوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} ، وقوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إليكَ} وفي موضع آخر {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُون إليكَ} وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} فأعاد الضمير على اللفظ تارة بالإفراد وعلى المعنى أخرى بالجمع، فكذلك كلا لفظه مفرد ومعناه التثنية فلك أن تحمل الخبر تارة على اللفظ فتفرده، وتارة على المعنى فتثنية" ا. هـ ومثل قوله "كلاهما قد أقلعا" في عود الضمير إلى كلا مثنى -قول الشاعر وأنشده أبو عمرو الشيباني: كلا جانبيه يعسلان كلاهما ... كما اهتز خوط النبعة المتتابع فأخبر بقوله "يعسلان" وفيه ضمير المثنى عن قوله "كلا جانبيه" وقوله "كلاهما" الثاني توكيد لكلا الأول مراعاة للمعنى أيضا، ويجوز أن يكون "كلاهما" الثاني توكيدًا للضمير في قوله "يعسلان" فاعرف ذلك. ومن الجمع بين مراعاة لفظ "كلا" ومعناه قول الأسود بن يعفر في بعض الاحتمالات: إن المنية والحتوف كلاهما ... يوفي المخارم يرقبان سوادي

فقال "أقلعا" حملًا على المعنى، وقال "رابي" حملًا على اللفظ. والحمل في "كلا، وكلتا" على اللفظ أكثر من الحمل على المعنى، ونظيرهما في الحمل على اللفظ تارة وفي الحمل على المعنى أخرى "كلٌّ" فإنه لما كان مفردًا في اللفظ مجموعًا في المعنى رُدّ الضمير إليه تارة على اللفظ وتارة على المعنى، كقولهم "كل القوم ضربته، وكل القوم ضربتهم" وقد جاء بهما التنزيل، قال الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم: 93] فقال {آتِي} بالإفراد حملًا على اللفظ، وقال تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] فقال {أَتَوْهُ} بالجمع حملًا على المعنى، إلا أن الحمل على المعنى في "كل" أكثر من الحمل على المعنى في "كلا، وكلتا". والذي يدل على أن فيهما إفرادًا لفظيًّا أنك تضيفهما إلى التثنية فتقول: "جاءني كِلَا أَخَوَيكَ، ورأيت كلا أخويك، ومررت بكلا أخويك، وجاءني أَخَوَاكَ كِلَاهُمَا، ورأيتُهُمَا كِلَيْهِمَا، ومررت بهما كليهما" وكذلك حكم إضافة "كلتا" إلى المُظْهَر والمُضْمَر، فلو كانت التثنية فيهما لفظية لما جاز إضافتهما إلى التثنية؛ لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه. والذي يدل على أن الألف فيهما ليست للتثنية أنها تجوز إمالتها، قال الله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} [الاسراء: 23] وقال تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33] قرأهما حمزة والكسائي وخلف بإمالة الألف فيهما، ولو كانت الألف فيهما للتثنية لما جازت إمالتها؛ لأن ألف التثنية لا تجوز إمالتها. والذي يدل أيضا على أن الألف فيهما ليست للتثنية أنها لو كانت للتثنية لانقلبت في حالة النصب والجر إذا أُضِيفَتَا إلى المظهر؛ لأن الأصل هو المظهر، وإنما المضمر فرعه، تقول: "رأيت كلا الرجلين، ومررت بكلا الرجلين"، وكذلك تقول في المؤنث: "رأيت كلتا المرأتين، ومررت بكلتا المرأتين" ولو كانت للتثنية لوجب أن تنقلب مع المظهر كما تنقلب مع المضمر؛ فلما لم تنقب دلَّ على أنها ألف مقصورة، وليست للتثنية. والذي يدل على أن "كلا" ليست مأخوذة من "كُلّ" أن كُلّا للإحاطة وكِلَا لمعنًى مخصوص؛ فلا يكون أحدهما مأخوذًا من الآخر. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقول الشاعر: [274] في كِلْتَ رِجْلَيْهَا سُلَامَى واحده

فلا حجة فيه؛ لأن الأصل أن يقول "كلتا بالألف، إلا أنه حذفها اجتزاء بالفتحة عن الألف لضرورة الشعر، كما قال الآخر: [254] فلست بمدرك ما فات مني ... بَلَهْفَ، ولا بِلَيْتَ، ولا لَوَ انِّي [283] وَصَّانِي العَجَّاجُ فيما وَصَّنِي أراد "فيما وصاني". وهذا كثير في أشعارهم. وأما قولهم "إن الألف فيهما تنقلب في حالة النصب والجر إذا أضيفتا إلى المضمر" قلنا: إنما قلبت في حالة الإضافة إلى المضمر لوجهين: أحدهما: أنهما لما كان فيهما إفراد لفظي وتثنية معنوية، وكانا تراة يضافان إلى المظهر وتارة يضافان إلى المضمر -جعلوا لهما حظًّا من حالة الإفراد وحظًّا من حالة التثنية، فجعلوهما مع الإضافة إلى المظهر بمنزلة المفرد على صورة واحدة في حالة الرفع والنصب والجر، وجعلوهما مع الإضافة إلى المضمر بمنزلة التثنية في قلب الألف من كل واحد منهما ياء في حالة النصب والجر؛ اعتبارًا بكلا الشبهين. وإنما جعلوهما مع الإضافة إلى المظهر بمنزلة المفرد لأن المظهر هو الأصل والمفرد هو الأصل فكان الأصل أولى بالأصل، وجعلوهما مع الإضافة إلى المضمر بمنزلة التثنية لأن المضمر فرع والتثنية فرع فكان الفرع أولى بالفرع، وهذا الوجه ذكره بعض المتأخرين. والوجه الثاني: وهو أَوْجَهُ الوجهين، وبه عَلَّلَ أكثر المتقدمين -وهو أنه إنما لم تُقْلَبْ الألف فيهما مع المظهر وقلبت مع المضمر لأنهما لزمتا الإضافة وجر الاسم بعدهما؛ فأشبهتا لَدَى وإلى وعَلَى، وكما أن لدى وإلى وعلى لا تقلب ألفها ياء مع المظهر نحو "لَدَى زيدٍ، وإلى عمروٍ، وعلى بكر" وتقلب مع المضمر نحو "لديك، وإليك، وعليك" فكذلك "كلا، وكلتا" لا تقلب ألفهما ياء مع المظهر، وتقلب مع المضمر.

_ [283] هذا بيت من الرجز المشطور من كلام رؤبة بن العجاج، وقد أنشده ابن منظور "وص ى" وعزاه إليه، وتقول: أوصيت الرجل إيصاء، ووصيته -بالتضعيف- توصية؛ إذا عهدت إليه، وأوصيت له بشيء، وقد أوصيت إليه؛ إذا جعلته وصيك، وتواصى القوم: أوصى بعضهم بعضا. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله: "وصني" فإنه أراد أن يقول: "وصّاني العجاج فيما وصّاني" بالألف في الفعل الثاني كما جاء في الفعل الأول، فلما يتأتّ له، فحذف الألف؛ ليستقيم له الوزن والقافية جميعًا.

والذي يدل على صحة ذلك أن القلب في "كلا، وكلتا" إنما يختص بحالة النصب والجر، دون حالة الرفع؛ لأن "لَدَيْكَ" إنما تستعمل في حالة النصب والجر، ولا تستعمل في حالة الرفع؛ فلهذا المعنى كان القلب مختصًّا بحالة النصب والجر دون حالة الرفع، وقد أفردنا في الكلام على "كلا، وكلتا" جزءًا استقصينا فيه القول عليهما، والله أعلم.

مسألة هل يجوز توكيد النكرة توكيدا معنويا؟

63- مسألة: [هل يجوز توكيد النكرة توكيدًا معنويًا؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن توكيد النكرة بغير لفظها جائز، إذا كانت مؤقتة نحو قولك: "قعدت يومًا كله، وقمت ليلة كلها". وذهب البصريون إلى أن تأكيد النكرة بغير لفظها غير جائز على الإطلاق. وأجمعوا على جواز تأكيدها بلفظها نحو: "جاءني رجلٌ رجل، ورأيت رجلًا رجلًا، ومررت برجلٍ رجلٍ" وما أشبه ذلك. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن تأكيدها جائز النقلُ والقياسُ: أما النقل فقد جاء ذلك عن العرب، قال الشاعر: [284] لكنَّه شَاقَهُ أَنْ قيل ذا رَجَبٌ ... يا ليت عِدَّةَ حَوْلٍ كلِّهِ رَجَبُ

_ [284] هذا البيت من كلام عبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي، وهو من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص364" والأشموني "رقم 763" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 402" وفي شرح شذور الذهب "رقم 228" وكلهم يروونه مثل رواية المؤلف، والصواب في روايته أنه بنصب "رجب" في آخر البيت لأنه من كلمة أولها: يا للرجال ليوم الأربعاء، أما ... ينفك يحدث لي بعد النهي طربا إذ لا يزال غزال فيه يفتنني ... يأتي إلى مسجد الأحزاب منتقبا وذلك على أن يكون الشاعر قد أتى باسم ليت وخبرها منصوبين، كما هو لغة قوم من العرب، ونظير قول العماني الراجز: كأن أذنيه إذا تشوفا ... قادمة أو قلما محرفا و"شاقه" بالشين المعجمة -أي أعجبه أو بعث الشوق إلى نفسه، ويروى "ساقه" بالسين المهملة، و"حول" بفتح الحاء وسكون الواو -هو العام، وأنشده ابن الناظم في شرح =

فأَكَّد "حول" وهو نكرة بقوله "كله"؛ فدل على جوازه. وقال الآخر: [285] إذا القَعُودُ كَرَّ فِيهَا حَفَدَا ... يومًا جديدًا كلّهُ مُطَرَّدا فأكد "يومًا" وهو نكرة بقوله "كلّه". وقال الآخر: [286] زَحَرْتَ بِهِ لَيْلَةً كلّهَا ... فجئتَ بِهِ مُؤْيدًا خَنْفَقِيقَا

_ = الألفية تبعًا لوالده "ياليت عدة شهر" وقال ابن هشام -وتبعه الشيخ خالد- إن ذلك تحريف؛ لأنه لا يتصوّر أن يتمنى أحد أن يكون الشهر كله رجبًا؛ فإن الشهر الواحد لا يكون بعضه رجبًا وبعضه غير رجب حتى يتمنى أن يكون كله رجبًا، ولكن الشاعر يتمنى أن تكون شهوره كلها رجبًا. والاستشهاد بالبيت ههنا في قوله "حول كله" حيث جر "كله" على التوكيد لحول، ولا شك أن كلمة "حول" نكرة محدودة أي أنها ذات أول وآخر معروفان، فيكون فيه دليل على جواز توكيد النكرة المحدودة، والرواية على هذا بتنوين "حول" وجر "كله" وقد رد ابن يعيش الاستدلال بهذا البيت وزعم أن الرواية بجر "حول" من غير تنوين على أن كلمة "حول" مضاف و"كل" مضاف إليه، وذلك تمحل بعيد، والذي نرجحه أن كلام ابن يعيش هذا محرف عما ذكره المؤلف من أن الرواية عندهم "يا ليت عدة حولي" بإضافة حول إلى ياء المتكلم، وهو أيضا تمحّل، ولكنه أقرب مما وقع في شرح المفصل. ونظير هذا البيت -في توكيد النكرة المحدودة بلفظ يدل على الشمول والإحاطة- قول العرجي وهو من شواهد مغني اللبيب: نلبث حولا كاملا كله ... لا نلتقي إلا على منهج [285] هذا البيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص364" وقد أنشده ابن منظور "ط ر د" ولم يعزه أحدهما. والقعود -بفتح القاف- البكر من الإبل حين يركب، أي يمكن ظهره من الركوب، وأدنى ذلك أن يأتي عليه سنتان، والناقة قلوص، وحفد: فعل ماضٍ معناه خف في العمل وأسرع، وقال الشاعر: حفد الولائد حولهن وأسرعت ... بأكفهن أزمّة الأجمال واليوم المطرّد: الطويل، ويقال: الكامل التام، تقول: مرّ بنا يوم طريد، وطراد ومطرد، كله بمعنى الطويل، ومحل الاستشهاد بالبيت ههنا قوله "يوما جديدا كله" حيث أكد قوله "يوما" -وهو نكرة محدودة- بقوله "كله" فذلك يدل على أن العرب تستجيز تأكيد النكرة المحدودة بألفاظ التوكيد المعارف، وهذا ظاهر إن شاء الله. [186] هذا البيت من كلام شييم بن خويلد، وقد أنشده ابن منظور "خ ف ق" رابع أربعة أبيات، وقبله: فقلت لسيدنا: يا حكيـ ... ـم إنك لم تأسُ أسوا رفيقا =

فأكد "ليلةً" هي نكرة بقوله: "كلها" ومؤيدًا خنفقيقًا: اسمان من أسماء الداهية. وقال الأخر: [287] قد صَرَّتِ البَكْرَةُ يومًا أَجْمَعَا

_ = أعنت عديا على شأوها ... تعادي فريقا وتنفي فريقا أطعت اليمين عناد الشمال ... تنحي بحد المواسي الحلوقا وقوله: "يا حكيم" هزء منه وسخرية به، أي أنت الذي تزعم أنك حكيم وتخطئ هذ الخطأ، وقوله: "أطعت اليمين عناد الشمال" مثل ضربه، يريد فعلت فعلا أمكنت به أعداءنا منا، وقوله: "زحرت به ليلة كلها" أصل الزحير والزحار -مثل النعيب والنعاب- إخراج الصوت أو النفس بأنين عند عمل أو شدة، ويقال للمرأة إذا ولدت ولدًا: زحرت به، وتزحرت به، وقوله: "وجئت به مؤيدا خنفقيقا" أي ناقصًا مقصرًا والاستشهاد بهذا البيت في قوله: "ليلة كلها" حيث أكد قوله: "ليلة" وهي نكرة محدودة لها أول وآخر معروفان معهودان بقوله: "كلها" وذلك يدل لمذهب الكوفيين الذين أجازوا توكيد النكرة، ونظير هذا البيت -في توكيد النكرة- قول الراجز. يا ليتني كنت صبيا مرضعا ... تحملني الذلفاء حولا أكتعا إذا بكيت قبلتني أربعا ... إذًا ظللت الدهر أبكي أجمعا الاستشهاد به في قوله: "حولا أكتعا" فإنه أكد قوله: "حولًا" وهو نكرة محدودة ذات أول وآخر معروفين بقوله: "أكتعا" وهو لفظ من ألفاظ التوكيد المعروفة. وقد بيّن ابن هشام الصحيح من المذهبين بإيجاز في قوله: "وإذا لم يفد توكيد النكرة لم يجز باتفاق، وإن أفاد جاز عند الكوفيين، وهو الصحيح، وتحصل الفائدة بأن يكون المؤكد محدودًا والتوكيد من ألفاظ الإحاطة، كاعتكفت أسبوعًا كله، وقوله: يا ليت عدة حول كله رجب ا. هـ. [287] هذا بيت من الرجز المشطور، وهو مجهول النسبة، وهو من شواهد ابن يعيش "ص364" ورضي الدين في باب التوكيد من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 357" والأشموني "رقم 794" وابن عقيل "رقم 290" وقبل البيت المذكور قوله: إنا إذا خطافنا تقعقعا والخطاف -بوزن رمان- الحديدة المعوجة تكون في جانب البكرة، وتقعقع: تحرك وسمع له صوت، وصرت: صوتت، والبكرة: ما يستقى عليه الماء من البئر، وهي هنا بفتح الباء وسكون الكاف، وأصلها بالتحريك. والاستشهاد بالبيت في قوله: "يوما أجمعا" حيث أكد قوله: "يوما" وهو نكرة محدودة ذات مبدأ ونهاية بقوله: "أجمع" وزعم قوم منهم ابن جني في إعراب الحماسة بأن هذا البيت مصنوع، وزعم قوم آخرون منهم العيني بأن "يومًا" ليس بنكرة، وادعى أنه غير منون، وأن الألف منقلبة عن ياء المتكلم، وأصل الكلام "قد صرت البكرة يومي أجمعا" فقلب كسرة الميم فتحة فانقلبت ياء المتكلم ألفًا مثل قوله: تعالى: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ} وقوله سبحانه: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} وهذا كله تمحل بعيد وغير =

فأَكَّدَ "يومًا "بأجمع؛ فدلّ على جوازه. وأما القياس فلأن اليوم مؤقت يجوز أن يقعد في بعضه، والليلة مؤقتة يجوز أن يقوم في بعضها، فإذا قلت "قعدت يوما كلُّهُ، وقمت ليلة كلَّهَا" صح معنى التوكيد؛ فدلَّ على صحة ما ذهبنا إلى. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن تأكيد النكرة غير جائز من وجهين: أحدهما: أن النكرة شائعة ليس لها عين ثابتة كالمعرفة؛ فينبغي أن لا تفتقر إلى تأكيد؛ لأن تأكيد ما لا يعرف لا فائدة فيه، وأما قولهم "رأيت درهما كل درهم" وما أشبه ذلك فهو محمول على الوصف لا على التأكيد. والوجه الثاني: أن النكرة تدل على الشياع والعموم، والتوكيد يدل على التخصيص والتعيين، وكل واحد منهما ضِدُّ صاحبه؛ فلا يصلح أن يكون مؤكدًا له، ولو جوزنا ذلك لكنا قد صيرنا الشائع مخصصًا، وهذا ليس بتأكيد، بل هو ضد ما وضع له؛ لأن التأكيد تقرير، وهذا تغيير، ولهذا المعنى امتنع أن يجوز وصف النكرة بالمعرفة أو المعرفة بالنكرة؛ لأن كل واحد منهما ضد صاحبه؛ لأن النكرة شائعة، والمعرفة مخصوصة، والصفة في المعنى هي الموصوف، ويستحيل أن يكون الشيء الواحد شائعًا مخصوصًا في حال واحدة؛ فكذلك ههنا. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما ما استشهدوا به من الأبيات فلا حجة فيه: أما قول الشاعر: [284] يا ليت عِدَّةَ حَوْلٍ كلِّهِ رَجَبُ فنقول الرواية الصحيحة: [284] يا ليت عدة حولي كلِّهِ رَجَبُ بالإضافة، وهو معرفة لا نكرة، وأما قول الآخر: [285] يومًا جديدًا كله مطردًا"

_ = مستساغ ومن الشواهد على جواز توكيد النكرة إن أفاد توكيدها ما أنشده سيبويه "1/ 44": ثلاث كلهن قتلت عمدا ... فأخزى الله رابعة تعود الرواية عنده برفع ثلاث ورفع كلهن، وإن كان مذهبه في مثل ذلك النصب بالفعل بدليل قوله بعد إنشاده "فهذا ضعيف، والوجه الأكثر الأعرف النصب" وإنما كان هذا ضعيفًا لأنه لم يذكر العائد على المبتدأ، ولو أنه قال "ثلاث كلهن قتلته عمدا" لكان مرضيًا عنده، وعلى كل حال فإن الشاعر قد أكد قوله "ثلاث" وهو نكرة بقوله "كلهن" وذلك ظاهر إن شاء الله.

فلا حجة فيه؛ لأنه يحتمل أن يكون توكيدًا للمضمر في جديد، والمضمرات لا تكون إلا معارف، وكان هذا أولى به؛ لأنه أقرب إليه من "يوم" فعلى هذا يكون الإنشاد بالرفع، وأما قول الآخر: [287] قد صَرَّتِ البكرة يومًا أجمعا فنقول: هذا البيت مجهول لا يعرف قائله؛ فلا يجوز الاحتجاج به. ثم لو قدرنا أن هذه الأبيات التي ذكروها كلها صحيحة عن العرب، وأن الرواية1 ما ادعوه لَمَا كان فيها حجة، وذلك لشذوذها وقلتها في بابها؛ إذ لو طردنا القياس ففي كل ما جاء شاذًّا مخالفًا للأصول والقياس وجعلناه أصلًا لكان ذلك يؤدي إلى أن تختلط الأصول بغيرها، وأن يُجْعَل ما ليس بأصل أصلًا، وذلك يفسد الصناعة بأسرها، وذلك لا يجوز. على أن هذه المواضع كلها محمولة على البدل، لا على التأكيد. وأما قولهم "إن اليوم مؤقتٌ فيجوز أن يقعد بعضه والليلة مؤقتة فيجوز أن يقوم بعضها، فإذا أكدت صح معنى التوكيد" قلنا: هذا لا يستقيم فإن اليوم وإن كان مؤقتا إلا أنه لم يخرج عن كونه نكرة شائعة، وتأكيد الشائع المنكور بالمعرفة لا يجوز كالصفة؛ ولأن تأكيد ما لا يعرف لا فائدة فيه على ما بيَّنَّا، والله أعلم.

_ 1 في ر "فإن الرواية" ولا يصح المعنى على الفاء.

مسألة هل يجوز أن تجيء واو العطف زائدة؟

64- مسألة: [هل يجوز أن تجيء واو العطف زائدة؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن الواو العاطفة يجوز أن تقع زائدة، وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش وأبو العباس المُبَرِّد وأبو القاسم بن بَرْهَان من البصريين. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن الواو يجوز أن تقع زائدة أنه قد جاء ذلك كثيرًا في كتاب الله تعالى وكلام العرب، قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهاَ} [الزمر: 73] فالواو زائدة لأن التقدير فيه: فتحت أبوابها؛ لأنه جواب لقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} كما قال تعالى في صفة سوق أهل النار إليها: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا َفُتِحَتْ أَبْوَابُهاَ} [الزمر: 71] ولا فرق بين الآيتين، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء: 96، 97] فالواو زائدة؛ لأن التقدير فيه: اقترب؛ لأنه جواب لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ} وقال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 1-5] والتقدير فيه أذنت، لأنه جواب "إذا" والشواهد على هذا النحو من التنزيل كثيرة. وقال الشاعر: [288] فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحةَ الحَيِّ وانْتَحى ... بنا بَطْنُ حِقْفٍ ذِي قِفَافٍ عَقَنْقَلِ

_ [288] هذا البيت من معلقة امرئ القيس بن حجر الكندي المشهور، وهو من شواهد الرضي في باب حروف العطف من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 413" وأجزنا: أي قطعنا، تقول: جزنا نجوز -من مثال قلنا نقول- وأجزنا، كلاهما بمعنى واحد، وقال الأصمعي: أجزنا قطعنا، وجزنا سرنا فيه وخلفناه وراءنا، والساحة: فناء الدار، وهي أيضًا الباحة، والفجوة، والقروة، والنالة، ويقال: هي الرحبة كالعرصة، وانتحى: اعترض، والخبت: =

والتقدير فيه: انتحى، والواو زائدة؛ لأنه جواب "لما" وقال الآخر: [289] حتى إذ قَمِلَتْ بُطُونُكُمُ ... ورَأَيتُمُ أَبْنَاءَكُمْ شَبُّوا

_ = بطن من الأرض غامض، ويروى "بطن حقف" كما رواه المؤلف، والحقف -بالكسر- ما اعوج وتثنّى من الرمل، والقفاف: جمع قف -بالضم- وهو ما ارتفع من الأرض وغلظ ولم يبلغ أن يكون جبلًا، والعقنقل -بوزن سفرجل- المنعقد الداخل بعضه في بعض، واعلم قبل كل شيء أن من الرواة من يروي البيت الذي بعد هذا البيت المستشهد به هكذا: هصرت بفودي رأسها فتمايلت ... على هضيم الكشح ريّا المخلخل وهذه رواية الخطيب التبريزي، وعلى ذلك يكون جواب "لما" الواقعة في أول البيت المستشهد به هو قوله "هصرت.... إلخ" عند الفريقين، ولا يكون في البيت شاهد لما جاء به المؤلف من أجله، ومن الرواة من يروي البيت الذي عقب البيت المستشهد به هكذا: إذا قلت هاتي نوليني تمايلت ... على هضيم الكشح ريا المخلخل وهذه الرواية هي التي دار حولها جدال الكوفيين والبصريين، وكلا الفريقين يسلم أنه لا بد لـ"لما" التي في أول بيت الشاهد من جواب؛ أما الكوفيون فيقولون: جواب لما في البيت نفسه وهو قوله "انتحى بنا بطن خبت" وكأنه قد قال: لما قطعنا ساحة الحي وفارقناها اعترض لنا بطن خبت، والواو في قوله وانتحى بنا.... إلخ زائدة، وأما البصريون فيقولون: الجواب محذوف، وكأنه قد قال: لما قطعنا ساحة الحي وفارقناها أمنا من ترصد الوشاة، أو نلنا ما كنا تمنيناه، أو نحو ذلك. قال الخطيب التبريزي: "وذكر بعضهم أن جواب لما قوله انتحى بنا، والواو مقحمة، ويجو أن تكون الواو غير مقحمة ويكون الجواب محذوفا، ويكون التقدير: فلما أجزنا ساحة الحي أمنا، وعلى هذا يكون رواية البيت بعده: إذا قلت هاتي ... البيت" ا. هـ. [289] أنشد ابن منظور هذين البيتين "ق م ل" وأنشدهما ابن يعيش في شرح المفصل "ص1149" ولم يعزهما واحد منهما، وأنشدهما البغدادي في الخزانة "4/ 414" نقلا عن الفراء في تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} من سورة يوسف، ومعنى: "قملت بطونكم" شبعت وضخمت، وفسره ابن منظور بقوله عن التهذيب "وقملت بطونكم: كثرت قبائلكم، بهذا فسره لنا أبو العالية" ا. هـ ووقع عند ابن يعيش "حتى إذا شبعت بطونكم" ومحل الاستشهاد في البيت قوله: "وقلبتم ظهر المجن لنا" فإن هذه الجملة جواب لما في البيت الأول عند الكوفيين، وعلى هذا تكون الواو زائدة، قال الفراء: قوله تعالى: {جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} جواب "لما جهزهم" وربما أدخلت في مثلها الواو وهي جواب على حالها، كقوله في أول السورة {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إليه} والمعنى -والله أعلم- وأوحينا إليه، وهي في قراءة عبد الله {لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ} ومثله في الكلام: لما أتاني وأثب عليه، كأنه قال: وثبت عليه، وقد جاء في الشعر ذلك، قال امرؤ القيس: فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى.. البيت. وقال الآخر، وأنشد البيتين، أراد قلبتم" ا. هـ. وقال ابن يعيش: "وأما أصحابنا فلا يرون زيادة هذه الواو، ويتألون جميع ما ذكر وما كان مثله بأن أجوبتها محذوفة لمكان العلم =

وقَلَبْتُمُ ظَهْرَ المِجَنِّ لَنَا ... إنّ اللَّئِيمَ العَاجِزُ الخَبُّ والتقدير فيه: قلبتم، والواو زائدة. والشواهد على هذا النحو من أشعارهم أكثر من أن تحصى. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الواو في الأصل حرف وُضِعَ لمعنى؛ فلا يجوز أن يحكم بزيادته مهما أمكن أن يُجْزَى على أصله، وقد أمكن ههنا، وجميع ما استشهدوا به على الزيادة يمكن أن يُحْمَل فيه على أصله وسنبين ذلك في الجواب عن كلماتهم. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] فنقول: هذه الآية لا حجة لكم فيها؛ لأن الواو في قوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} عاطفة وليست زائدة، وأما جواب {إِذَا} فمحذوف، والتقدير فيه: حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها فَازُوا ونَعِمُوا، وكذلك قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، واقترب} [الأنبياء: 96، 97] الواو فيه عاطفة، وليست زائدة، والجواب محذوف، والتقدير فيه: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون قالوا يا ويلنا، فحذف القول، وقيل: جوابها: "فإذا هي شاخصة"، وكذلك قول الله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق 1: 5] الواو فيه عاطفة، وليست زائدة، والجواب محذوف، والتقدير فيه: إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخَلَّتْ وأذنت لربها وحقت يرى الإنسان الثواب والعقاب، ويدل على هذا التقدير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق: 6] أي ساعٍ إليه في عملك، والكَدْحُ: عمل الإنسان من الخير والشر الذي يُجَازَى عليه بالثواب والعقاب. وأما قول الشاعر: [288] فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن حقف ذي قِفافٍ عقنقل فالواو فيه أيضًا عاطفة، وليست زائدة، والجواب مقدر، والتقدير فيه: فلما

_ = بها، والمراد في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} أدرك ثوابنا ونال المنزلة الرفيعة لدينا، وكذلك {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} تقديره: صادفوا الثواب الذي وعدوه، ونحوه، وكذلك قول الشاعر: حتى إذا امتلأت بطونكم وكان كذا وكذا تحقق منكم الغدر، واستحققتم اللّوم ونحو ذلك مما يصلح أن يكون جوابًا" ا. هـ.

أجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن حقف ذي قفاف عقنقل خَلَوْنَا ونعمنا، وكذلك أيضا قول الآخر: [289] حتى إذا قَمِلَتْ بطونكم ... ورأيتم أبناؤكم شَبُّوا وقلبتم ظهر المجن لنا ... إن اللئيم العاجز الخَبُّ الواو فيه عاطفة، وليست زائدة، والتقدير فيه: حتى إذا قملت بطونكم ورأيتم أبناءكم شبوا وقلبتم ظهر المجن لنا بان غدركم ولُؤْمُكم. وإنما حذف الجواب في هذه المواضع للعلم به؛ توخّيًا للإيجاز والاختصار. وقد جاء حذف الجواب في كتاب الله تعالى وكلام العرب كثيرًا، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} [الرعد: 31] فحذف جواب "لو" ولا بدّ لها من الجواب، والتقدير فيه: ولو أن قرآنا سُيِّرَت به الجبال أو قطعت به الأرض لكان هذا القرآن، فحذفه للعلم به توخيا للإيجاز والاختصار، وقال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [النور: 20] فحذف جواب "لولا" والتقدير فيه: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لفَضَحَكُم بما ترتكبون من الفاحشة ولعاجَلَكم بالعقوبة؛ وقال عبد مَنَافٍ بن رِبْعٍ الهُذَلِيُّ: [290] حتى إذا أَسْلَكُوهُم في قُتَائِدَةٍ ... شَلَّا كما تَطْرُدُ الجَمَّالَةُ الشَّرُدَا

_ [290] أنشد ابن منظور هذا البيت "ق ت د -س ل ك" وأنشده ياقوت في معجم البلدان "قتائدة" ونسبه ابن منظور في الموضعين لعبد مناف بن ربع الهذلي، وتقول: سلك فلان الطريق، وسلك المكان يسلكه -من مثال نصره ينصره- سلكًا، وسلوكًا، وسلك فلان فلانا الطريق، وسلكه إياه، وأسلكه فيه، وأسلكه عليه، كل ذلك يقال وقال ساعدة بن العجلان: وهم منعوا الطريق وأسلكوهم ... على شماء مهواها بعيد وقال عدي بن زيد العبادي: وكنت لزاز خصمك لم أعرد ... وهم سلكوك في أمر عصيب وقتائدة -بضم القاف وبعد الألف همزة- اسم مكان بعينه، وقيل: اسم جبل معين وقيل: هي ثنية مشهورة، وأراد: حتى إذا أسلكوهم في طريق في قتائدة، وقوله "شلًا" معناه الطرد، تقول: شلّه يشلّه شلا -من مثال مده يمده مدا- وشل العير أتنه والسائق إبله: طردها، فانشلت، والشّرد: جمع شرود -من وزان صبور وصبر- وهي الإبل النافرة. والاستشهاد بهذا البيت لأن فيه حذف جواب إذا للعلم به ولقيام الدليل عليه، فكأنه قال: حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلوهم وطردوهم شلّا وطردًا مثل طرد الجمالة شوارد إبلهم.

ولم يأتِ بالجواب؛ لأن هذا البيت آخر القصيدة؛ والتقدير فيه: حتى إذا أسلكوهم في قُتَائدة شُلُّوا شلًّا، فحذف للعلم به توخّيًا للإيجاز والاختصار على ما بيَّنَّا. ثم حذف الجواب أبلغ في المعنى من إظهاره، ألا ترى أنك لو قلت لعبدك "والله لئن قمت إليك" وسكتَّ عن الجواب ذهب فكره إلى أنواع من العقوبة والمكروه من القتل والقطع والضرب والكسر، فإذا تمثلَتْ في فكره أنواع العقوبات وتكاثرت عظمت الحال في نفسه ولم يعلم أيها يتقي؛ فكان أبلغ في رَدْعِهِ وزَجْرِهِ عما يُكْرَه منه، ولو قلت "والله لئن قمت إليك لأضربنك" وأظهرت الجواب لم يذهب فكره إلى نوع من المكروه سوى الضرب؛ فكان ذلك دون حذف الجواب في نفسه؛ لأنه قد وَطَّنَ له نفسَه فيسهل ذلك عليه، قال كثير: [291] وقلت له: يا عَزَّ كُلّ مُلِمَّةٍ ... إذا وُطِّنَتْ يومًا لها النفسُ ذَلَّتِ وكذلك الحال في الإحسان، نحو "والله لئن زرتني": إذا حذفت الجواب تصورت له أنواع الإحسان إليه من إكرامه والإنعام عليه؛ فكان ذلك أبلغ في استدعائه إلى الزيارة وإسراعه إليها، ولو قلت "والله لئن زرتني لأعطيتك درهما" لم يذهب فكره إلى غير الدرهم قط1؛ فكان ذلك دون حذف الجواب في نفسه؛ لأنه ربما يكون مستغنيا عنه غير راغب فيه؛ فلا يدعوه ذلك إلى الزيارة، وإذا حذفت الجواب تصورت له أنواع الإحسان إليه؛ فكان ذلك أدعى له إلى الزيارة، كما كان الأول أدعى إلى الترك، على ما بيَّنَّا، والله أعلم.

_ [291] هذا البيت لكثير عزة، وقد أنشده ابن منظور "وط ن" وعزاه إليه، وعنده "كل مصيبة" والملمة: أصله اسم الفاعل المؤنث من قولهم "ألم بفلان أمر" أي نزل به، ثم استعملوه في النازلة من نوازل الدهر، وقوله "وطنت" هو بالبناء للمجهول مشدد الطاء مكسورة -من قولهم "وطن فلان نفسه على الأمر، ووطن نفسه للشيء" إذا حملها عليه فتحملته، وهو شبه التمهيد لقبولها ذلك الشيء، وذلت: انقادت وخضعت واحتملت ما حملها، والاستشهاد بالبيت في معناه، وهو أن كل شيء يعرض للإنسان إذا مهد نفسه لقبوله قبلته نفسه ورضيت به وصبرت عليه وإن كان مما يشق عليها احتماله. وشبه المؤلف جواب الشرط بهذا الأمر. فإن كان مذكورًا في الكلام كأن تقول "إن تلعب أضربك" وطن السامع نفسه على قبوله وراضها على أن تخضع له؛ فمتى وقع لم يكن شيئًا غريبًا على نفسه، وإن لم يذكر في الكلام كأن تقول "من يفعل كذا" وتقف عند ذلك، فإن السامع يتخيل كل ضرب من أضرب الثواب أو العقوبة المترتبة على فعله، فإذا وقع شيء منها كان جديدًا على نفسه؛ لأنه لم يقدره بذاته، وهذا واضح إن شاء الله تعالى.

مسألة هل يجوز العطف على الضمير المخفوض؟

65- مسألة: [هل يجوز العطف على الضمير المخفوض؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه يجب العطف على الضمير المخفوض، وذلك نحو قولك "مررت بك وزيد" وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه يجوز أنه قد جاء ذلك في التنزيل وكلام العرب، قال الله تعالى: "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ" [النساء: من الآية1] بالخفض وهي قراءة أحد القراء السبعة -وهو حمزة الزيات- وقراءة إبراهيم النخعي وقتادة ويحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف والأعمش، ورواية الأصفهاني والحلبي عن عبد الوارث، وقال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [النساء: 127] فما: في موضع خفض لأنه عطف على الضمير المخفوض في "فيهن" وقال تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إليكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} [النساء: 162] فالمقيمين: في موضع خفض بالعطف على الكاف في "إليك" والتقدير فيه: يؤمنون بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة يعني من الأنبياء عليهم السلام، ويجوز أيضًا أن يكون عطفًا على الكاف في "قبلك" والتقدير فيه: ومن قبل المقيمين الصلاة، يعني من أمتك، وقال تعالى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] فعطف "المسجد الحرام" على الهاء من "به" وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} [الحجر: 20] فمن: في موضع خفض بالعطف على

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرحنا على شرح الأشموني "4/ 535" وحاشية الصبان"3/ 99" وتصريح الشيخ خالد "2/ 190" وقد رجح ابن مالك في هذه المسألة مذهب الكوفيين، وشرح الرضي على الكافية "1/ 295" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص399".

الضمير المخفوض في "لكم" فدلَّ على جوازه، وقال الشاعر: [292] فاليوم قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وتَشْتِمُنَا ... فاذهب فما بك والأيامِ من عَجَبِ فالأيام: خفض بالعطف على الكاف في "بك" والتقدير: بك وبالأيام، وقال الآخر: [181] أَكُرُّ على الكَتِيبَةِ لا أبالي ... أفيها كان حَتْفِي أم سِوَاهَا فعطف "سواها" بأم على الضمير في "فيها" والتقدير: أم في سواها. وقال الآخر: [293] تُعَلَّقُ في مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفُنَا ... ومَا بَيْنَها والْكَعْبِ غُوطٌ نَفَانِفُ

_ [292] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 392" وابن يعيش في شرح المفصل "ص399" ورضي الدين في باب العطف من شرح الكافية "1/ 296" وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 338" والأشموني "رقم 849" وابن عقيل "رقم 298" وكامل المُبَرِّد "2/ 39" ولم ينسبه واحد من هؤلاء إلى قائل معين، بل قال البغدادي "والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف لها قائل" ا. هـ، وقوله: "قربت" معناه أخذت وشرعت. ومعنى البيت: إن هجاءك الناس وشتمهم لمن عجائب الدهر، وقد كثرت هذه الأعمال منك حتى صارت لا يتعجب منها. والاستشهاد بالبيت في قوله: "فما بك والأيام" حيث عطف قوله: "الأيام" بالواو على الضمير المتصل المجرور محلّا بالباء في قوله "بك" من غير أن يعيد مع المعطوف العامل في المعطوف عليه، وذلك في نظر البصريين ضرورة من الضرورات التي تقع في الشعر، قال ابن السَّرَّاج: "وأما الضمير المخفوص فلا يجوز أن يعطف الظاهر عليه، لا يجوز أن تقول: مررت بك وزيد؛ لأن المجرور ليس له اسم منفصل فيتقدم بأن يقع معطوفًا أحيانًا ويتأخر بأن يقع معطوفا أحيانًا أخرى، كما للمنصوب، وكل اسم معطوف عليه فهو بحيث يجوز أن يؤخر فيصير معطوفًا ويقدم الاسم الآخر المعطوف بحيث يصير معطوفًا عليه، فلما خالف الضمير المجرور سائر الأسماء من هذه الجهة لم يجز أن يعطف عليه، وقد حكي أنه جاء في الشعر" ا. هـ، وبمثل هذا التعليل علل ابن يعيش في شرح المفصل، وذكره المؤلف هنا، وقد وافق الكوفيين في هذه المسألة، وحكم بجواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة العامل في المعطوف عليه مع المعطوف: يونس بن حبيب شيخ سيبويه، والأخفش، وقطرب، والشلوبين وابن مالك. [293] استشهد بهذا البيت ابن يعيش في شرح المفصل "ص400" والأشموني "رقم 851" وابن النظام في شرح ألفية والده ابن مالك، وشرحه العيني "4/ 164" بهامش الخزانة" وقال: "وقال الجاحظ في كتاب "الحيوان": هو لمسكين الدارمي". والسواري: جمع سارية، وهي الأسطوانة "العمود" شبه أنفسهم بالسواري لطول أجسامهم، والطول مما تتمدح به العرب، قال الشاعر: تبين لي أن القماءة ذلة ... وأن أعزاء الرجال طوالها والنحاة يروونه "طيالها". والكعب: يروى في مكانه "والأرض" والغوط -بضم الغين- جميع غائط، وهو المطمئن من الأرض، ونفانف: جمع نفنف -بوزن جعفر، وهو الهواء =

فالكعب: مخفوض بالعطف على الضمير المخفوض في "بينها" والتقدير: وما بينها وبين الكعب غوط نفانف، يعني أن قومه طوال، وأن السيف على الرجل منهم كأنه على سارية من طوله، وبين السيف وكعب الرجل منهم غائط -وهو المكان المطمئن من الأرض- ونفانف: واسعة، أي بين السيف والكعب مسافة؛ فعطف "الكعب"1 على الضمير المخفوض في "بينها" وقال الآخر: [294] هَلَّا سألت بِذِي الجَمَاجِمِ عَنْهُمُ ... وأبي نُعَيْمٍ ذي اللِّوَاء المُحْرِق

_ = بين الشيئين، وكل شيء بينه وبين الأرض مهوى فهو نفنف، ويدل لهذا أنه يروى "فما بينها والأرض مهوى نفانف" وقال ذو الرمة: ترى قرطها من حرة الليت مشرفا ... على هلك في نفنف يتطوح وفسر الأصمعي النفنف بالمهواة بين الجبلين. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "فما بينها والكعب" حيث عطف الكعب بالواو على الضمير المتصل المخفوض بإضافة الظرف -وهو قوله: بين- إليه، من غير أن يعيد العامل في المعطوف عليه مع المعطوف، وهو يدل للكوفيين الذي أجازوا ذلك، ولم يقصروه على حال الضرورة. ونظير ذلك ما أنشده ابن الناظم نقلًا عن الأخفش: بنا أبدًا لا غيرنا تدرك المنى ... وتكشف غماء الخطوب الفوادح فقد عطف "غيرنا" بلا على الضمير المتصل المجرور محلّا بالباء في قوله "بنا" من غير أن يعيد العامل في المعطوف عليه مع المعطوف، ونظير ذلك أيضًا ما أنشه ابن الناظم: إذا أوقدوا نار لحرب عدوهم ... فقد خاب من يصلى بها وسعيرها فقد عطف قوله "سعيرها" بالواو على الضمير المجرور محلّا بالباء في قوله "بها" من غير أن عيد العامل في المعطوف عليه مع المعطوف. [294] ذو جماجم: أصله بضم أوله، وقد يقال بفتحه، قال ياقوت "جماجم بالضم، وهو من أبنية التكثير والمبالغة، وذو جماجم: من مياه العمق، على مسيرة يوم منه، وقد يقال فيه بالفتح أيضًا" ا. هـ. وقال ابن منظور "والجماجم: موضع بين الدهناء ومتالع في ديار تميم، ويوم الجماجم: من وقائع العرب في الإسلام، معروف" وأقول: المعروف وقعة دير الجماجم، وكانت بين الحجاج بن يوسف الثقفي وابن الأشعث بالعراق، قيل سمي بذلك لأنه بني من جماجم القتلى لكثرة من قتل به، وقيل سمي بذلك لأن الأقداح التي تصنع من الخشب كانت تصنع به، والقدح يسمى جمجمة إذا كان من خشب وجمعه جماجم. ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "عنهم وأبي نعيم" حيث عطف قوله "أبي نعيم" بالواو على الضمير المتصل المجرور محلّا بعن، من غير أن يعيد العامل في المعطوف عليه -وهو حرف الجر الذي هو عن- مع المعطوف، وهذا ظاهر إن شاء الله تعالى:

فأبي نعيم: خفض بالعطف على الضمير المخفوض في "عنهم"؛ فهذه كلها شواهد ظاهرة تدل على جوازه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز، وذلك لأن الجار مع المجرور بمنزلة شيء واحد، فإذا عطفت على الضمير المجرور -والضمير إذا كان مجرورًا اتصل بالجار، ولم ينفصل منه، ولهذا لا يكون إلا متصلًا، بخلاف ضمير المرفوع والمنصوب -فكأنك قد عطفت الاسم على الحرف الجار، وعَطْفُ الاسمِ عَلَى الحَرْفِ لا يجوز. ومنهم من تمسّك بأن قال: إنما قلنا ذلك لأن الضمير قد صار عوضًا عن التنوين؛ فينبغي أن لا يجوز العطف عليه، كما لا يجوز العطف على التنوين، والدليل على استوائهما أنهم يقولون "يا غلام" فيحذفون الياء كما يحذفون التنوين وإنما اشتبها لأنهما على حرف واحد، وأنهما يكملان الاسم، وأنهما لا يُفْصَلُ بينهما وبينه بالظرف؛ وليس كذلك الاسم المظهر. ومنهم من تمسك بأن قال: أجمعنا على أنه لا يجوز عطف المضمر المجرور على المظهر المجرور؛ فلا يجوز أن يقال "مررت بزيدٍ وَكَ" فكذلك ينبغي أن لا يجوز عطف المظهر المجرور على المضمر المجرور، فلا يقال "مررت بِكَ وزَيْدٍ" لأن الأسماء مشتركة في العطف، فكما لا يجوز أن يكون معطوفًا فلا يجوز أن يكون معطوفًا عليه. والاعتماد على هذه الأدلة على الأول: وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ، الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] فلا حجة لهم فيه من وجهين؛ أحدهما: أن قوله {وَالْأَرْحَامَ} ليس مجرورًا بالعطف على الضمير المجرور، وإنما هو مجرور بالقسم، وجواب القسم قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1] والوجه الثاني: أن قوله {وَالْأَرْحَامَ} مجرور بباء مقدرة غير الملفوظ بها، وتقديره: وبالأرحام، فحذفت لدلالة الأولى عليها، وله شواهد كثيرة في كلامهم سنذكر طرفًا منها مُسْتَوْفًى في آخر المسألة إن شاء الله تعالى. أما قوله تعالى {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [النساء: 127] فلا حجة لهم فيه أيضًا من وجهين: أحدهما: أنا لا نسلم أنه في موضع جرّ، وإنما هو في موضع رفع

بالعطف على "الله" والتقدير فيه: الله يفتيكم فيهن ويفتيكم فيهن ما يتلى عليكم، وهو القرآن، وهو أوجه الوجهين. والثاني: أنا نسلم أنه في موضع جر، ولكن بالعطف على "النساء" من قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} لا على الضمير المجرور في "فيهنَّ". وأما قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إليكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ} [النساء: 162] فلا حجة لهم أيضًا من وجهين: أحدهما: أنا لا نسلم أنه في موضع جر، وإنما هو في موضع نصب على المدح بتقدير فعل، وتقديره: أعني المقيمين، وذلك لأن العرب تنصب على المدح عند تكرر العطف والوصف، وقد يستأنف فيرفع، قال الله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَاليتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [البقرة: 177] فرفع "الموفون" على الاستئناف، فكأنه قال: وهم الموفون، ونصب "الصابرين" على المدح، فكأنه قال: اذكرِ الصابرين، ثم قالت الخرنق، امرأة من العرب: [295] لا يَبْعَدَنْ قومي الذين هُمُ ... سَمُّ العُدَاةِ وآفةُ الجُزْرِ

_ [295] هذان البيتان من كلام الخرنق، وهي أخت طرفة بن العبد البكري لأمه من كلمة ترثي فيها زوجها عمرو بن مرثد وابنها علقمة بن عمرو وأخويه حسان وشرحبيلًا، وهما من شواهد سيبويه "1/ 104 و246 و249" ورضي الدين في باب النعت من شرح الكافي، وشرحها البغدادي في الخزانة "2/ 301" والأشموني "رقم 787" وأوضح المسالك لابن هشام "رقم 396" وشرحهما العيني "3/ 602 و4/ 72 بهامش الخزانة" والمعتر: اسم مكان الازدحام في الحرب، ويقال: "فلان طيب معقد الإزار" إذا كان عفيفًا لا يحله لفاحشة. وصفت قومها بالظهور والغلبة على العدو، وبالكرم ونحر الإبل للأضياف، وبأنهم شجعان صيد وأبطال صناديد يلازمون الحرب ولا يفارقونها، وبأنهم أعفة عن الفواحش لا يدنون منها ولا يقربونها، وجعلت قومها سما لأعدائهم يأتي عليهم ويفتك بهم ولا يذر منهم أحدًا، وآفة للجزر -وهي الإبل- لأنهم يكثرون من نحرها. والاستشهاد بالبيتين في هذا الموضع لأنها قطعت قولها "الطيبين" عن الموصوف -الذي هو قولها "قومي"- من الرفع إلى النصب بإضمار فعل، وفي رواية سيبويه "النازلين" بالنصب أيضًا على القطع، قال ابن هشام: "ويجوز رفع النازلين والطيبين على الإتباع لقومي، أو على القطع بإضمار "هم" ونصبهما بإضمار أمدح أو أذكر، ورفع الأول ونصب الثاني على ما ذكرنا، وعكسه على القطع فيهما" ا. هـ.

النازلون بكل مُعْتَرَكٍ ... والطيبين مَعَاقِدَ الأَزْرِ فنصبت "الطيبين" على المدح فكأنها قالت: أعني الطيبين، ويروى أيضا "والطيبون" بالرفع، أي: وهم الطيبون، وقال الشاعر: [296] إلى المَلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمَامِ ... ولَيْثِ الكَتِيبَةِ في المُزْدَحَمْ وذا الرَّأْي حين تُغَمُّ الأمور ... بذات الصَّلِيلِ وذات اللُّجُمْ فنصب "ذا الرأي" على المدح، فكذلك ههنا، وقال الآخر: [297] وكلُّ قوم أَطَاعُوا أمر مُرْشِدِهِمْ ... إلا نُمَيْرًا أَطَاعَتْ أَمْرَ غَاوِيهَا

_ [296] أنشد جار الله الزمخشري أول هذين البيتين في الكشاف "1/ 15 بولاق" عند تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إليكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} ولم ينسبه شراح شواهده، وأنشده ابن هشام في قطر الندى "رقم 137" وأنشده رضي الدين في باب المبتدأ والخبر وفي باب النعت من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 216 بولاق" والقرم -بفتح القاف وسكون الراء- وهو في الأصل الجمل المكرم الذي أعد للضراب، ثم أطلقوه على الرجل العظيم، وأصل الليث السبع، والكتيبة: الجماعة والفصيلة من الجيش، وأراد بليث الكتيبة الشجاع الفاتك، والمزدحم: أصله مكان الازدحام، وأراد هنا مكان المعركة وموطن الحرب، لأن الأبطال يتزاحمون فيه، وتغم الأمور: أي تتغطى وتستعجم على أهل الرأي لكثرة إشكالها، وذات الصليل وذات اللجم: معارك الحرب، وأصل الصليل صوت السيوف، واللجم: جمع لجام -بوزن كتاب وكتب- وهو العنان الذي يقود به الفارس فرسه. والاستشهاد به هنا في قوله "وذا الرأي" حيث قطعه عما قبله إلى النصب بفعل محذوف تقديره أمدح أو أذكر أو أعني، وما أشبه ذلك، على نحو ما ذكرناه في الشاهد السابق. والنحاة يستشهدون بهذا البيت لعطف بعض الصفات على بعض، فإنك تراه قد عطف قوله "وابن الهمام" على القرم، ثم عطف عليه "وليث الكتيبة" وذلك جائز لأن الموصوف بها واحد، ونظير هذا البيت في عطف بعض الصفات قوله ابن زيابة: يا لهف زيابة للحارث الـ ... ـصابح فالغانم فالآيب إلا أن العطف في بيت ابن زيابة بالفاء التي تدل على الترتيب والتعقيب لأن الصفات التي ذكرها لا تحصل إلا مترتبة متعاقبة. [297] هذان البيتان من شواهد سيبويه "1/ 249" ونسبهما لابن خياط العكلي، وكذلك وقع في شرح الأعلم الشنتمري، ووقع في خزانة الأدب للبغدادي "2/ 301 بولاق" "ابن حماط العكلي" ونمير: قبيلة من بني عامر، وغاويها: يراد بها ههنا مغويها، أي باعثها على الغي وحاملها عليه ومزينة لها، وعلى هذا يكون وزن فاعل ههنا للنسب، ونظيره قولهم: هم ناصب، إذا كانوا يريدون أنه منصب ومتعب، ويجوز أن يراد الغاوي في نفسه، لأنه إذا أطيع فقد أغوى من أطاعه، وقوله "الظاعنين ولما يظعنوا أحدا" يريد أنهم يظعنون عن ديارهم ويفارقونها خوفًا من عدوهم أن يدهمهم فلا يقوون على دفعه، وأنهم لا يستطيعون =

الظاعنين ولَمَّا يُظْعِنُوا أحدًا ... والقائلون: لِمَنْ دَارٌ نُخَلِّيهَا فرفع "القائلون" على الاستئناف؛ ولك أن ترفعهما جميعًا، ولك أن تنصبهما جميعا، ولك أن تنصب الأول وترفع الثاني، ولك أن ترفع الأول وتنصب الثاني، ولا خلاف في ذلك بين النحويين. والوجه الثاني: أنا نسلم1 أنه في موضع جر، ولكن بالعطف على "ما" من قوله: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة: 177] فكأنه قال: يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين، على أنه قد روي عن عائشة عليها السلام أنها سئلت عن هذا الموضع، فقالت: هذا خطأ من الكاتب، وروي عن بعض لد عثمان أنه سئل عنه، فقال: إن الكاتب لما كتب {مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك} [البقرة: 177] قال: ما أكتب؟ فقيل له: اكتب والمقيمين الصلاة، يعني أن الممل أعمل قوله "اكتب" في "المقيمين" على أن الكاتب يكتبها بالواو كما كتب ما قبلها، فكتبها على لفظ الممل. أما قوله تعالى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] فلا حجة لهم فيه؛ لأن "المسجد الحرام" مجرور بالعطف على "سبيل الله" لا بالعطف على "به" والتقدير فيه: وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام؛ لأن إضافة الصد عنه أكثر في الاستعمال من إضافة الكفر به، ألا ترى أنهم يقولون: "صددته عن المسجد"، ولا يكادون يقولون: "كفرت بالمسجد"؟

_ = أن يحملوا أحدا على مفارقة داره، فهم يخافون عدوهم لقلتهم ولذلهم وضعفهم، ولا يخافهم عدوهم، وقوله "والقائلون لمن دار نخليها" يريد أنهم إذا ارتحلوا عن دارهم وخلوها لم يعرفوا من يحلها من قبائل العرب، لأنهم أضعف من كل قبيلة، فكل قبيلة من قبائل العرب يجوز أن تحل دارهم. والاستشهاد ههنا بهذين البيتين في قوله "والقائلون" حيث رفعه على القطع بإضمار مبتدأ، والتقدير: هم الظاعنون، ويجوز أن يكون قوله "الظاعنين" تابعا لقوله "نميرا" ويجوز أن يكون مقطوعًا بتقدير فعل، أي أذم الظاعنين، أو أهجو، أو نحو ذلك، وتجوز في الوصفين جميع الوجوه التي ذكرها المؤلف: إتباعهما، وقطعهما، وإتباع الأول وقطع الثاني، والذي لا يجوز هو أن تقطع ثم تتبع، وذلك لأن الرجوع إلى الإتباع بعد أن انصرفت عنه قبيح، إذ القطع يفيد أن شأن المذكورين معلوم مشهور لا يحتاج إلى وصف يبينه، فإن عدت إلى الإتباع بعد أن قطعت فكأنك نقضت ما أفدته أولا. وكل موضع جاز فيه القطع فإنه يجوز أن يكون قطعه بالنصب بتقدير فعل مدح أو ذم ويجوز قطعه بالرفع بتقدير مبتدأ، سواء أكان المتبوع مرفوعًا أم منصوبًا أم مجرورًا، فاعرف ذلك وكن منه على ثبت.

وأما قوله: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} [الحجر: 20] فلا حجة لكم فيه؛ لأن "مَنْ" في موضع نصب بالعطف على "مَعَايِشَ" أي: جعلنا لكم فيها المعايش والعبيد والإماء. وأما قول الشاعر: [292] فاذهب فما بك والأيام من عجب فلا حجة فيه أيضًا؛ لأنه مجرور على القسم، لا بالعطف على الكاف في "بك". وأما قول الآخر: [181] أَفِيهَا كَانَ حَتْفِي أَمْ سِوَاهَا فلا حجة فيه أيضا؛ لأن "سواها" في موضع نصب على الظرف، وليس مجرورًا على العطف؛ لأنها لا تقع إلا منصوبة على الظرف، وقد ذكرنا ذلك في موضعه. وأما قول الآخر: [293] وما بينها والكعبِ غُوطٌ نَفَانِفُ فلا حجة فيه أيضًا؛ لأنه ليس مجرورًا على ما ذكروا، وإنما هو مجرور على تقدير تكرير "بين" مرة أخرى، فكأنه قال: وما بينها وبين الكعب، فحذف الثانية لدلالة الأولى عليها، كما تقول العرب: ما كل بيضاءَ شحمةً، ولا سوداء تمرة، يريدون "ولا كل سوداء" فيحذفون "كل" الثانية لدلالة الأولى عليها، وقال الشاعر: [298] أَكُلَّ امْرِئٍ تَحْسَبِينَ امْرَأً ... ونارٍ تَوَقَّدُ بالليل نَارَا

_ [298] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 33" والزمخشري في المفصل "رقم 107 بتحقيقنا" وابن يعيش في شرحه "ص345" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 483" وفي أوضح المسالك "رقم 351" والأشموني "رقم 650" وابن عقيل "رقم 238" وشرحه العيني "3/ 445 بهامش الخزانة" والبيت من كلام أبي دؤاد الإيادي، واسمه جارية بن الحجاج -ويقال: حارثة، ويقال: جريرة، ويقال: جويرية- ومعنى البيت: هل تظنين كل رجل رجلًا؟ وهل تظنين كل نار توقد بالليل نارا؟ والمراد: لا ينبغي لك أن تظني كل من رأيت له صورة الرجال رجلًا، لأنه لا يستحق اسم الرجل على الحقيقة إلا من كانت له صفات سنية وأفعال كريمة، ولا ينبغي لك أن تظني كل نار توقد في الليل نارًا؛ لأن النار التي =

أراد "وكل نار" فاستغنى عن تكرير "كل" وهذا كثير في كلامهم، وبهذا يبطل قول من توهَّم منكم أن ياء النسب في قولهم: "رأيت التيميَّ تيم عديَّ" اسم في موضع خفض؛ لأنه أبدل منهما "تَيْمِ عديِّ" فخفضه على البدل؛ لأن التقدير فيه: صاحب تيم عدي، فحذف "صاحب" وجر ما بعده بالإضافة؛ لأنه في تقدير الثَّبَات، وهذا هو الجواب عن قول الآخر: وأبي نعيم ذي اللواء المحرق ثم لو حُمِلَ ما أنشدوه من الأبيات على ما ادعوه لكان من الشَّاذ الذي لا يقاس عليه، والله أعلم.

_ = تستحق إطلاق هذا الاسم عليها هي النار التي يوقدها أربابها لقرى الضيفان ولهداية السالكين في ظلمات الليل. والاستشهاد بالبيت ههنا في قوله: "ونار" فإن هذه الواو عاطفة، و"نار" يحتمل وجهين من الإعراب: الأول: أن يكون مجرورا بتقدير مضاف يكون معطوفا على كل في قوله: "كل امرئ" وعلى هذا الوجه يكون الشاعر قد حذف المضاف وأبقى المضاف إليه على جره، وأصل الكلام: أتحسبين كل امرئ امرأ وكل نار نارا، فكل امرئ: مفعول أول لتحسبين، وامرأ: مفعوله الثاني، وكل نار: معطوف على كل امرئ، ونارًا معطوف على امرأ، فعطف على المفعول الأول مثله، وعلى المفعول الثاني مثله، فهو عطف اثنين على معمولين لعامل واحد وهو تحسبين، وكل ما فيه أنه حذف المضاف وأبقى المضاف إليه على جره كما قلنا، وهذا الوجه هو أقرب وجوه الإعراب في هذه العبارة ونظائرها، وهو الذي يعنيه المؤلف باستشهاده بهذا البيت في هذا الموضع. والوجه الثاني: أن تجعل الواو العاطفة قد عطفت جملة على جملة، فتقدر فعلا كالفعل السابق في الكلام، وتقدر له مفعولا أول يكون مضافا إلى نار المجرور، وتقدير الكلام على هذا الوجه: أتحسبين كل امرئ امرأ وتحسبين كل نار نارا، فحذف الفعل وفاعله ومفعوله الأول، وأبقى المضاف إليه والمفعول الثاني، وهذا الوجه أقل قبولًا من الوجه السابق لما فيه من كثرة المحذوفات. والذي لا يجوز أن تذهب إليه هو أن تجعل "نار" المجرور معطوفا على "امرئ" المجرور، و"نارا" المنصوب معطوفا على "امرأ" المنصوب، وذلك لأن هذا الوجه الذي نحذرك منه يستلزم عطف معمولين على معمولين لعاملين مختلفين، ألست ترى "امرئ" المجرور معمولا لكل باعتباره مضافًا إليه والمضاف يعمل في المضاف إليه الجر، و"امرأ" المنصوب معمولًا لتحسبين باعتباره مفعولًا ثانيًا، والعطف على معمولي عاملين مختلفين مما لا يجيزه النحاة، أما تقدير "كل" وهو الوجه الأول وتقدير الفعل وهو الوجه الثاني فكل واحد منهما يخلصك من هذا المحذور، وإن كان أحدهما أفضل من الآخر، فاعرف هذا، وكن منه على ثبت، والله يرشدك ويبصرك.

مسألة العطف على الضمير المرفوع المتصل في اختيار الكلام

66- مسألة: [العطف على الضمير المرفوع المتصل في اختيار الكلام] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز العطف على الضمير المرفوع المتصل في اختيار الكلام، نحو: "قُمْتُ وزيدٌ". وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز إلا على قبح في ضرورة الشعر. وأجمعوا على أنه إذا كان هناك توكيد أو فصل فإنه يجوز معه العطف من غير قبح. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه يجوز العطف على الضمير المرفوع المتصل أنه قد جاء ذلك في كتاب الله تعالى وكلام العرب، قال الله تعالى: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} [النجم 6، 7] فعطف "هو" على الضمير المرفوع المستكن في: {اسْتَوَى} والمعنى: فاستوى جبريل ومحمد بالأفق، هو مطلع الشمس؛ فدل على جوازه، وقال الشاعر: [299] قلت إذا أقبلت وزُهْرٌ تَهَادَى ... كَنِعَاجِ المَلا تَعَسَّفْنَ رَمْلَا

_ [299] هذا البيت من كلام عمر بن أبي ربيعة المخزومي، وهو من شواهد سيبويه "1/ 390" والزمخشري في المفصل، وابن يعيش في شرحه "ص398" والأشموني "رقم 848" وابن عقيل "رقم 297" وشرحه العيني "4/ 161 في هامش الخزانة" وابن جني في الخصائص "2/ 386" وأبي العباس المُبَرِّد في الكامل "1/ 189 و2/ 39" وزهر -بضم الزاي وسكون الهاء- جمع زهراء، وأراد النساء المشرقات اللون، وتهادى: أصله تتهادى، فحذف إحدى التاءين، والنعاج: جمع نعجة، والفلا: جمع فلاة، وهي الصحراء الواسعة، وأراد بنعاج الفلا الظباء، وتعسفن: سرن سيرا شديدا ليس فيه تؤدة ولا رفق. والاستشهاد بالبيت ههنا في قوله "أقبلت وزهر" حيث عطف قوله "وزهر" على الضمير المستتر في قوله "أقبلت" من =

فعطف "زُهْرٌ" على الضمير المرفوع في "أَقْبَلَتْ" وقال الآخر: [300] وَرَجَا الأُخَيْطِلُ من سَفَاهَةِ رَأْيِهِ ... ما لم يكن وأبٌ له لِيَنَالَا

_ = غير أن يؤكد الضمير المستتر بضمير منفصل، وهذا جائز في سعة الكلام عند الكوفيين، وخصه سيبويه وجمهور البصريين بحالة الضرورة. ونظيره مما لم ينشده المؤلف قول الراعي، وهو من شواهد سيبويه "2/ 391": فلما لحقنا والجياد عشية ... دعوا يا لكلب واعتزينا لعامر فقد عطف قوله "الجياد" بالواو على الضمير المرفوع المتصل في قوله "لحقنا" ولو أنه جرى على ما التزمه البصريون لقال: فلما لحقنا نحن والجياد، وقد وقع هذا في الكلام: من ذلك ما روي أن بعض العرب قال: مررت برجل سواء والعدم، برفع العدم على أنه معطوف على ضمير مستتر في سواء لأنه بمعنى مستو، ومن ذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كنت وجار لي، برفع جار على أنه معطوف على الضمير المتصل المرفوع في "كنت" ومن ذلك قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه "كنت وأبو بكر وعمر، وهاتان العبارتان عبارة عمر وعبارة علي قد رواهما البخاري في صحيحه، ولهذا ذهب ابن مالك في شرح التسهيل إلى موافقة الكوفيين، وإن كان قد رجح مذهب البصريين في الألفية. [300] هذا البيت من كلام جرير بن عطية بن الخطفي، يهجو الأخطل التغلبي، وهو من شواهد الأشموني "رقم 847" وأوضح المسالك "رقم 425" وابن الناظم، وشرحه العيني "4/ 160" بهامش الخزانة" والأخيطل: تصغير الأخطل، وأصله الوصف من الخطل، وهو الكلام الخارج عن حد الصواب والاعتدال، وبذلك لقبوا غياث بن الغوث التغلبي الذي يهجوه جرير، والسفاهة: ضعف الرأي. ومحل الاستشهاد في البيت قوله "يكن وأب له" حيث عطف قوله "أب" بالواو على الضمير المرفوع المستتر في "يكن" وهو يوافق رأي الكوفيين، على ما بَيَّنَّاه لك في شرح الشاهد السابق، ولو أنه جاء بالكلام على ما التزمه البصريون لقال: ما لم يكن هو وأب له. ومما جاء عن العرب مما فيه العطف بغير توكيد بالضمير المنفصل قول شاعر الحماسة، وهو من شواهد الرضي، وشرحه البغدادي "2/ 236" ولست بنازل إلا ألمت ... برحلي أو خيالتها الكذوب فقد عطف بأو قول "خيالتها" على الضمير المستتر في قوله "ألمت" والبصريون يرون هذا البيت أخف من بيت جرير وبيت عمر بن أبي ربيعة وبيت الراعي، والسر في ذلك أن الكلام طال بسبب إتيانه بمتعلق للفعل وهو قوله: "برحلي" فجعلوا طول الكلام نائبا مناب التوكيد، وجعلوا من هذه البابة قول الله تعالى: {مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} فقد زعموا أن الكلام قد طال بذكر "لا" ولو أن ذكرها جاء بعد حرف العطف وهو الواو، فلذلك ساغ ترك التوكيد بالضمير المنفصل، وهو كلام لا يقضي العجب منه، أن يجدوا في كلام الله تعالى -وهو أفصح الكلام وأدقه رعاية للصحيح البالغ الغاية- دليلًا يشهد لخصومهم فيتمحّلون ويتعلّلون.

فعطف "وأبٌ" على الضمير المرفوع في "يَكُنْ" فدل على جوازه، كالعطف على الضمير المنصوب المتصل. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز العطف على الضمير المرفوع المتصل وذلك لأنه لا يخلو: إما أن يكون مقدرًا في الفعل أو ملفوظًا به؛ فإن كان مقدرًا فيه نحو "قام وزيدٌ" فكأنه قد عَطَفَ اسمًا على فعل، وإن كان ملفوظًا به نحو "قمت وزيدٌ" فالتاء تنزل بمنزلة الجزء من الفعل، فلو جوّزنا العطف عليه لكان أيضًا بمنزلة عطف الاسم على الفعل، وذلك لا يجوز. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله تعالى: {فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} [النجم 6، 7] فالواو فيه واو الحال، لا واو العطف، والمراد به جبريل وحده، والمعنى أن جبريل وحده استوى بالقوة في حالة كونه بالأفق، وقيل: فاستوى على صورته التي خلق عليها في حالة كونه بالأفق، وإنما كان قبل ذلك يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- في صورة رجل. وأما ما أنشدوه من قوله: [299] قلت إذ أقبلت وزُهْرٌ تَهَادَى [300] ما لم يكن وأبٌ له لِيَنَالَا فمن الشاذ الذي لا يؤخذ به، ولا يقاس عليه، على أنا نقول: إنما جاء ههنا لضرورة الشعر، والعطف على الضمير المرفوع المتصل في ضرورة الشعر عندنا جائز؛ فلا يكون لكم فيه حجة. وتشبيههم له بالضمير المنصوب المتصل فلا وجه له بحال؛ لأن الضمير المنصوب المتصل وإن كان في اللفظ في صورة الاتصال فهو في النية في تقدير الانفصال، بخلاف الضمير المرفوع المتصل؛ لأنه في اللفظ والتقدير بصفة الاتصال؛ فبان الفرق بينهما، وقد ذكرنا ذلك مستوفى في كتابنا الموسوم بأسرار العربية1، والله أعلم.

_ 1 لم أجد هذا الموضوع الأصيل في أسرار العربية.

مسألة هل تأتي "أو" بمعنى الواو، وبمعني "بل"؟

67- مسألة: [هل تأتي "أو" بمعنى الواو، وبمعنى "بل"؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "أو" تكون بمعنى الواو، وبمعنى بل. وذهب البصريون إلى أنها لا تكون بمعنى الواو، ولا بمعني بل. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء ذلك كثيرًا في كتاب الله تعالى وكلام العرب، قال الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُون} [الصافات: 147] فقيل في التفسير: إنها بمعنى بل، أي: بل يزيدون، وقيل: إنها بمعنى الواو، أي: ويزيدون، ثم قال الشاعر: [301] بَدَتْ مثل قَرْنِ الشمس في رَوْنَقِ الضُّحَى ... وصُورَتِهَا أو أَنْتِ في العَيْنِ أَمْلَحُ

_ [301] بدت: أي ظهرت، وقرن الشمس -بفتح القاف وسكون الراء المهملة- أولها عند طلوعها، وقيل: هي أول شعاعها، وقيل: ناحيتها، ورونق الضحى: أوله، يقال: "زرت فلانا رونق الضحى" أي في أوله، وقال الشاعر: ألم تسمعي -أي عبد- في رونق الضحي ... بكاء حمامات لهن هدير وقالوا "رونق الشباب" وهم يريدون أوله وماءه. والاستشهاد به ههنا في قوله "أو أنت أملح" فإن الكوفيين أنشدوا البيت مستدلين به على أن "أو" في هذه العبارة بمعنى بل، فكأن الشاعر بعد أن قال "بدت مثل قرن الشمس" رأى أنها أعلى من ذلك فأضرب عما قال أولًا فقال: بل أنت أملح. قال ابن هشام في مغني اللبيب "ص64 بتحقيقنا": "السادس -من معاني أو- الإضراب كبَلْ، فعن سيبويه إجازة ذلك بشرطين تقدم نفي أو نهي، وإعادة العامل، نحو ما قام زيد أو ما قام عمرو، ولا يقم زيد أو لا يقم عمرو، ونقله عنه ابن عصفور، ويؤيده أنه قال في قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} ولو قلت أولًا تطع كفورًا انقلب المعنى، ويعني أنه يصير إضرابًا عن النهي الأول ونهيًا عن الثاني فقط، وقال الكوفيون وأبو علي وأبو الفتح وابن برهان: تأتي للإضراب =

أراد "بل وقال تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] أي: وكفورًا، ثم قال النابغة: [302] قالت: ألا لَيْتَمَا هذَا الحَمَامُ لَنَا ... إِلَى حَمَامَتِنَا، أو نِصْفُهُ فَقَدِ

_ = مطلقًا، احتجاجًا بقول جرير: ماذا ترى في عيال قد برمت بهم ... لم أحص عدتهم إلا بعداد كانوا ثمانين، أو زادوا ثمانية ... لولا رجاؤك قد قتلت أولادي وقراءة أبي السمال "أَوْ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ" بسكون واو أو" ا. هـ كلامه وقال البغدادي في شرح شواهده: "على أن أو فيه بمعنى بل للإضراب الانتقالي، وقيل: للشك، كأن كثرتهم أوجبت الشك في عدتهم، ومن ثم احتجاج في عدتهم إلى عداد، وقال الكوفيون: أو هنا بمعنى الواو" ا. هـ كلامه. والحاصل أن الكوفيين يخرجون هذا البيت بأحد تخريجين: الأول: أن أو بمعنى واو العطف التي لمطلق الجمع، والمعنى عليه: كانوا ثمانين وزادوا ثمانية، والثاني: أن أو بمعنى بل للإضراب الانتقالي، والمعنى عليه: كانوا ثمانين بل زادوا على الثمانين ثمانية، وقد ذكر هذا شراح الألفية منهم ابن عقيل "1/ 181" والأشموني "برقم 847" والبصريون يخرجونه على أن أو فيه للشك، وسيذكر المؤلف هذا التخريج قريبا. [302] هذا البيت من قصيدة النابغة الذبياني المعلقة التي منها الشاهدان "101 و159" وهو من شواهد سيبويه "1/ 282" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 93" وأنشده فيه ثلاث مرات "ص63 و286 و308 بتحقيقنا"، وفي أوضح المسالك "رقم 138" وفي شذور الذهب "رقم 138" والأشموني "رقم 271" ورضي الدين في باب الحروف المشبهة بالفعل، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 297" كما شرحه العيني "2/ 254 بهامش الخزانة" ومحل الاستشهاد بهذا البيت في هذا الموضع قوله "أو نصفه" فإن الكوفيين ينشدونه شاهدا على أن "أو" بمعنى الواو الدالة على مطلق الجمع، ويؤيد ما ذهبوا إليه أمران الأول: أنه يروى "ونصفه" بالواو، وقد ذكرنا لك من قبل أنه إذا رويت عبارة بروايتين ووضعت في إحداهما كلمة مكان كلمة في الرواية الأخرى دلَّ ذلك على أن الكلمتين بمعنى واحد، والثاني: أن فتاة الحي التي حكى النابغة عنها أنها قالت "ألا ليتما" إلى آخر البيت كانت قد تمنت هذا الحمام ونصفه منضمًّا إلى حمامتها، ويرون عنها أنها قالت: ليت الحمام ليه ... إلى حمامتيه ونصفه قديه ... تم الحمام ميه ولا يتم الحمام مائة إلا إذا انضم الحمام إلى نصفه إلى حمامتها، بدليل قول النابغة في هذه القصة من أبيات القصيدة: فحسبوه فألفوه كما ذكرت ... ستًا وستين لم تنقص ولم تزد ولو كانت "أو" على أصله لم تصلح هذه الحسبة، وتخريج المؤلف لهذا البيت على أن في الكلام حذف المعطوف عليه وحرف العطف وأن تقدير الكلام: ليتما هذا الحمام لنا أو هو ونصفه -مع بقاء أو على معناها الأصلي- بعيد كل البعد، فوق أنه لا مستند له من قواعد =

أي: ونِصْفُه، والشواهد على هذا النحو من كتاب الله تعالى وكلام العرب أكثرُ من أن تُحْصَى. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الأصل في "أو" أن تكون لأحد الشيئين على الإبهام، بخلاف الواو وبل؛ لأن الواو معناها الجمع بين الشيئين، وبل معناها الإضراب، وكلاهما مخالف لمعنى أو، والأصل في كل حرف أن لا يدل إلا على ما وُضِعَ له، ولا يدل على معنى حرف آخر؛ فنحن تمسكنا بالأصل، ومن تمسك بالأصل استغنى عن إقامة الدليل، ومن عدل عن الأصل بقي مُرْتَهَنًا بإقامة الدليل، ولا دليل لهم يدل على صحة ما ادعوه. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 174] فلا حجة لهم فيه، وذلك من وجهين؛ أحدهما: أن يكون للتخيير، والمعنى أنهم إذا رآهم الرائي تخير في أن يقدرهم مائة ألف، أو يزيدون على ذلك، والوجه الثاني: أن يكون بمعنى الشك، والمعنى أن الرائي إذا رآهم شك في عِدَّتِهِم لكثرتهم، أي: أن حالهم حال من يُشَك في عدتهم لكثرتهم؛ فالشك يرجع إلى الرائي، لا إلى الحق تعالى: كما قال تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175] بصيغة التعجب، والتعجب يرجع إلى المخاطبين، لا إلى الله تعالى، أي: حالهم حال من يُتَعَجب منه؛ لأن حقيقة التعجب في حق الحق لا تتحقق؛ لأن التعجب إنما يكون بحدوث علم بعد أن لم يكن، ولهذا قيل في معناه: التعجب ما ظهر حكمه وخفي سببه، والحق تعالى عالم بما كان، وبما يكون، وبما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، وكما أن التعجب يرجع إلى الخلق لا إلى الحق، فكذلك ههنا.

_ = النحاة، فإن الذي تعودوا أن يقولوه: إن المحذوف هو الحرف العاطف والمعطوف به، كما في الآية الكريمة التي تلاها {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} التقدير: فضرب فانفجرت، فالمحذوف الذي قدره هو فاء العطف والفعل الذي تعطفه هذه الفاء على ما قبله، فأما ما قدره في البيت فهو معطوف على اسم مذكور بحرف مذكور وعاطف آخر لاسم مذكور على المعطوف المحذوف، وهذا شيء عجيب أوقعه فيه التعصب للبصريين ولو سلمنا أن ذلك جائز لما صلح أيضا؛ لأن مراد النابغة أن يصف هذه الفتاة بدقة النظر وسرعة الحساب فكيف يتفق ذلك مع شكلها فيما تتمناه هذا ما ظهر لي. والنحاة يستشهدون بهذا البيت أيضا على أن ليت إذا اتصلت بها ما الزائدة لم تخرجها عما استقر لها من الاختصاص بالجمل الاسمية، وأن الأكثر فيها مع الاتصال بما إعمالها في الاسم والخبر، وهم يروون قوله "ألا ليتما هذا الحمام" بنصب الحمام على الإعمال، وبرفعه على الإهمال.

وأما احتجاجهم بقول الشاعر: [301] .... أو أنتِ في العين أَمْلَحُ فالرواية فيه "أم أنت في العين أملح" ولئن سلمنا أن الرواية "أو" فلا حجة لهم فيه أيضا؛ لأن "أو" فيه للشك، وليست بمعنى بل؛ لأن مذهب الشعراء أن يخرجوا الكلام مُخْرَج الشك وإن لم يكن هناك شك؛ ليدلوا بذلك على قوة الشبه، ويسمى في صنعة الشعر "تجاهل العارف" كقول الشاعر: [303] فَيَا ظَبْيَةَ الوَعْسَاءِ بين جُلَاجِل ... وبين النَّقَا آأَنْتِ أَمْ أُمُّ سَالِمِ؟ وكقول الآخر: [304] بالله يا ظَبَيَاتِ القَاعِ قُلْنَ لَنَا: ... ليلاي منكنّ أَمْ ليلى من البَشَرِ؟

_ [303] هذا البيت من كلام ذي الرمة غيلان بن عقبة، وهو من شواهد سيبويه "2/ 168" وابن جني في الخصائص "2/ 458" والقزويني في الإيضاح "379" ورضي الدين في شرح الشافية "رقم 168" وشرحه البغدادي "ص347 بتحقيقنا" وأنشده ابن يعيش في شرح المفصل "ص1315" وانظر بعد ذلك أمالى أبي علي القالى "2/ 61" وكامل المُبَرِّد "بغية الآمل 6/ 181" وأمالى ابن الشجري "1/ 321" ولسان العرب "ج ل ل" ومعجم ياقوت "جلاجل" والوعساء: رملة، وجلاجل: قد ضبطها ابن منظور بفتح الجيم الأولى، وقال ياقوت "جلاجل: بالضم وكسر الثانية، ويروى بفتح الأولى، ورأيته بخط أبي زكريا التبريزي بحاءين مهملتين الأولى مضمومة.. جبل بالدهناء" ا. هـ. والاستشهاد بالبيت في قوله "أأنت أم سالم" فإن ظاهر ما تدل عليه هذه العبارة أنه لا يعلم أيهما أجمل فاستفهم لتخبره، ولكن الحقيقة أنه عارف أن أم سالم أجمل، فتجاهل ليأخذ الإقرار بأن أم سالم أجمل، وهذا نوع من البديع يسمى تجاهل العارف وقد عرفه السكاكي بأنه "سوق المعلوم مساق المجهول لنكتة" والنكتة ههنا هي إظهار تدلهه في الحب وأنه لفرط عشقه لم يعد يعرف أظهر الأشياء وأقربها إليه. [304] هذا البيت من شواهد الإيضاح للقزويني "ص379 بتحقيقنا" وأوضح المسالك لابن هشام "رقم 539" وشرح الأشموني "رقم 131" وشرحه العيني "1/ 416 و4/ 518" وقد اختلف العلماء في نسبة هذا البيت، فزعم قوم أنه لمجنون بني عامر، وكأنهم اغتروا بذكر اسم ليلى فيه، وقد بحثت جميع ديوان المجنون فلم أجده فيه، ونسبه قوم لذي الرمة، ونسبه العيني للعرجي، ونسبه العباسي لبعض الأعراب ولم يسمه "المعاهد 418" ونسبه القزويني للحسين بن عبد الله الغزي، ونسبه الباخرزي في الدمية لبدوي سماه كاهلا الثقفي، وانظر بعد ذلك كله الشاهد رقم "78" الذي مضى في المسألة 15، والقاع: أرض سهلة قد انفرجت عنها الجبال والآكام، والاستشهاد به ههنا في قوله "ليلى منكن أم ليلى من البشر" فإن ظاهر هذه العبارة أنه لا يعلم إن كانت ليلى من جنس الظباء أم من جنس الإنسان، فاستفهم لتخبره، والحقيقة أنه لا يجهل ذلك، فتجاهل وهو عارف، ويسمي علماء البديع =

وإن لم يكن هناك شك ولا شبهة، وإذا كانوا يخرجون الكلام مُخْرَجَ الشك وإن لم يكن هناك شك لم تخرج "أو" عن أصلها. وأما قول الله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] فلا حجة لهم فيه؛ لأن "أو" فيها للإباحة، أي: قد أبحتُكَ كُلَّ وَاحِدٍ منهما كيف شئت، كما تقول في الأمر "جالس الحسن أو ابن سيرين" أي: قد أبحتك مجالسة كل واحد منهما كيف شئت، والمنع بمنزلة الإباحة، فكما أنه لا يمتنع من شيء أبحته له، فكذلك لا يُقْدِم على شيء نهيته عنه، وأما قول الآخر: [302] ... أو نِصْفُهُ فَقَدِ فنقول: الرواية "ونصفه فقد" بالواو؛ فلا يكون لكم فيه شاهد، ولو سلمنا أن الرواية على ما رويتموه فنقول: "أو" فيه باقية على أصلها، وهو أن يكون التقدير فيه: ليتما هذا الحمام أو هو ونصفه، فحذف المعطوف عليه وحرف العطف، كقوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} [البقرة: 60] أي: فضرب فانفجرت، وعلى هذا التقدير قول الشاعر: [305] ألا فَالبَثَا شَهْرَيْنِ أَوْ نِصْفَ ثَالِثِ أي: شهرين أو شهرين ونصف ثالث، ألا ترى أنك لا تقول مبتدئا "لبثت نصف ثالث" وإذا وجب أن يكون المعطوف عليه محذوفًا كانت باقية على أصلها، فدلَّ على صحة ما ذهبنا إليه، والله أعلم.

_ = هذا النوع من الكلام تجاهل العارف، وهو نظير ما ذكرناه في البيت السابق، ونظير هذين البيتين قول أبي الطيب المتنبي: أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي؟ وقول التهامي يشكو السهر: قصرت جفوني أم تباعد بينها ... أم مقلتي خلقت بلا أشفار؟ وقول مهيار الديلمي: سلا ظبية الوادي - وما الظبي مثلها ... وإن كان مصقول الترائب أكحلا - أأنت أمرت البدر أن يصدع الدجى ... وعلمت غصن البان أن يتميلا؟ [305] لم أقف لهذا الشاهد على تكملة، ولا على سوابق أو لواحق تتصل به، ولا على نسبة إلى قائل معين، والاستشهاد به في قوله "أو نصف ثالث" فإنه على تقدير حذف معطوف وحرف عطف، وأصل الكلام: ألا فالبثا شهرين أو شهرين ونصف شهر ثالث، وقد بيَّنَّا لك رأينا في هذا التقدير في شرح الشاهد رقم 302.

مسألة هل يجوز أن يعطف بلكن بعد الإيجاب؟

68- مسألة: [هل يجوز أن يعطف بـ"لكن" بعد الإيجاب؟] ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز العطف بـ"لكن" في الإيجاب، نحو: "أتاني زيد لكن عمرو". وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز العطف بها في الإيجاب، فإذا جيء بها في الإيجاب وجب أن تكون الجملة التي بعدها مخالفة للجملة التي قبلها، نحو "أتاني زيد لكن عمرو لم يأت" وما أشبه ذلك. وأجمعوا على أنه يجوز العطف بها في النفي. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: أجمعنا على أن "بل" يجوز العطف بها بعد النفي والإيجاب؛ فكذلك "لكن" وذالك لاشتراكهما في المعنى، ألا ترى أنك تقول "ما جاءني زيد لكن عمرو" فتثبت المجيء للثاني دون الأول، كما لو قلت "ما جاءني زيد بل عمرو" فتثبت المجيء للثاني دون الأول، فإذا كانا في معنى واحد، وقد اشتركا في العطف بهما في النفي، فكذلك في الإيجاب. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز العطف بها بعد الإيجاب وذلك لأن العطف بها في الإيجاب إنما يكون في الغلط والنسيان، ألا ترى أنك لو عطفت بها بعد الإيجاب لكنت تقول "جاءني زيد لكن عمرو" فكنت تثبت للثاني بلكن المجيء الذي أثبته للأول، فيعلم أن الأول مرجوع عنه كالعطف ببل في الإيجاب، نحو جاءني زيد بل عمرو" وإذا كان العطف بلكن في الإيجاب إنما يكون في الغلط والنسيان فلا حاجة إليها؛ لأنه قد استغنى عنها ببل في الإيجاب؛ لأنه لا حاجة إلى تكثير الحروف الموجبة للغلط، وقد يستغنى بالحرف عن الحرف في بعض الأحوال إذا كان في معناه، ألا ترى أنهم استغنوا بإليك عن حَتَّاكَ، وبمثلك عن كَكَ، وكذلك استغنوا عن وَدَعَ بِتَرَكَ؛ لأنه في معناه، وكذلك استغنوا به عن وَذَرَ، وكذلك استغنوا بمصدر ترك واسم الفاعل منه عن مصدر ودع ووذر، وعن اسم الفاعل منهما، فيقال: ترك تركًا فهو تارك، ولا يقال: وَدَعَ وَدْعًا

وهو وادع. لا وَذَرَ وَذَرًا فهو واذر؛ فأما قول أبي الأسود الدؤلي: [306] ليت شعري عن خَلِيلِي ما الذي ... غَالَهُ في الحب حتى وَدَعَهْ؟ وقول سُوَيد بن أبي كاهل: [307] فَسَعَى مَسْعَاتَهُ في قَوْمِهِ ... ثُمَّ لم يَبْلُغْ ولا عَجْزَا وَدَعْ

_ [306] أنشد ابن منظور هذا البيت "ود ع" ونسبه إلى أبي الأسود الدؤلي، ثم قال "وهذا البيت روى الأزهري عن ابن أخي الأصمعي أن عمه أنشده لأنس بن زنيم: ليت شعري عن أميري ما الذي ... غاله في الحب حتى ودعه لا يكن برقك برقًا خلبًا ... إن خير البرق ما الغيث معه قال ابن بري: وقد روي البيتان للمذكورين" ا. هـ كلام ابن منظور، واستشهد به الرضي في شرح الشافية "رقم 20" وشرحه البغدادي "ص50" وودع يدع: معناه ترك يترك، والاستشهاد بهذا البيت في قوله "ودعه" بتخفيف الدال مفتوحة -حيث ورد فيه الفعل الماضي الثلاثي من هذه المادة، والمشهور أن العرب أهملت الماضي الثلاثي من هذه المادة، واستعملت المضارع والأمر منها، وقد ذكر المؤلف أن المشهور أن العرب أهملت اسم الفاعل من هذه المادة أيضًا، وأنهم استغنوا عن الفعل الثلاثي المجرد من هذه المادة بفعل آخر من معناه، وهو ترك، واستغنوا كذلك عن "وذر" الماضي؛ لأن ترك يقوم مقامه، واستعملوا مضارع "وذر" وأمره، فقالوا "يذر، ذر" قال الله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} وقال سبحانه {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} وقد استعمل الشاعر في بيت الشاهد "ودع" الثلاثي المجرد حين اضطر؛ مراجعة لأصل مهجور، ونظيره قول الآخر: وكان ما قدموا لأنفسهم ... أكثر نفعًا من الذي ودعوا ونظيرهما قول الآخر: فسعى مساعاته في قومه ... ثم لم يدرك، ولا عجزًا ودع وقد قرأ عروة بن الزبير في قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} بتخفيف الدال، قال الليث: "العرب لا تقول: ودعته فأنا وادع، ولكن يقولون في الغابر "أي في المضارع" يدع، وفي الأمر: دعه، وفي النهي: لا تدعه" ا. هـ. وقد ورد استعمال اسم الفاعل من ودع الثلاثي المجرد في قول معن بن أوس: عليه شريب لين وادع العصا ... يساجلها حماته وتساجله وفي بيت آخر أنشده أبو علي الفارسي في البصريات: فأيهما ما أتبعن فإنني ... حزين على ترك الذي أنا وادع كما ورد المصدر الثلاثي المجرد في حديث ابن عباس "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن على قلوبهم" أي عن تركهم إياها والتخلف عنها، قال ابن بري "وزعم النحوية أن العرب أماتوا مصدر يدع ويذر، واستغنوا عنه بالترك، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أفصح العرب، وقد وردت عنه هذه الكلمة" ا. هـ. وقال ابن الأثير: "وإنما يحمل قول النحاة على قلة استعماله، فهو شاذ في الاستعمال صحيح في القياس، وقد جاء في غير حديث، حتى قرئ به في قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} بالتخفيف" ا. هـ. [307] هذا البيت من كلام سويد بن أبي كاهل، اليشكري، وهو البيت الحادي والثمانون من =

فهو محمول على أنه بمعنى وَدَّعَ بالتشديد فخفَّف، وهو على كل حال من الشاذ الذي لا يعتدُّ به في الاستعمال. وإذا كان كذلك وجب أن تكون الجملة التي بعدها مخالفة لما قبلها؛ ليكونا خبرين مختلفين. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنا أجمعنا على أن بل يجوز العطف بها بعد النفي والإيجاب فكذلك لكن لاشتراكهما في المعنى" قلنا: إنما شاركت لكن بل في النفي دون الإيجاب؛ لأن مشاركتها لها في النفي صواب وليس على سبيل النسيان والغلط؛ ألا ترى أنك إذا قلت في النفي "ما جاءني زيد لكن عمرو" لم توجب نسيانًا ولا غلطًا كما لو قلت "ما جاءني زيد بل عمرو" وإذا كان استعماله في النفي لا يوجب نسيانا ولا غلطا، فتكثير ما هو صواب لا يُنْكَر، بخلاف استعماله في الإيجاب؛ فإنه يوجب النسيان والغلط، والنسيان والغلط إنما يقع نادرًا قليلًا، فاقتصر فيه على حرف واحد وهو "بل". ثم ليس من ضرورة تشارك لكن وبل في بعض الأحوال مشاركتهما في كل الأحوال، ألا ترى أن "بل" لا يحسُنُ دخول الواو عليها؟ ولا يقال "وبل" و"لكن" يحسن دخول الواو عليها فيقال "ولكن" قال الله تعالى: "وَلَكِنِ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا" [البقرة: 102] في قراءة من قرأ بالتخفيف، وكذلك قوله: "وَلَكِنِ البر" [البقرة: 177] والشواهد على ذلك من كتاب الله وكلام العرب مما لا يحصى كثرة، وذلك لا يوجد البتة في "بل" فدلَّ على ما قلناه، والله أعلم.

_ = المفضلية الأربعين "انظر المفضليات ص190-202 ط دار المعارف" وقبل البيت المستشهد به قوله: كيف يرجون سقاطي بعدما ... لاح في الرأس بياض وصلع ورث البغضة عن آبائه ... حافظ العقل لما كان استمع يصف شانئه بأنه ورث بغضه عن آبائه، وسمعهم يذكرون العداوة وأسبابها ويشتمونه فحفظ ذلك عنهم بعد أن وعاه وعقله، ومسعاتهم: سعي آبائه، ورواها المؤلف "مسعاته" يريد أنه سعى كما كانوا يسعون فلم يظهر بشيء كما لم يظفروا من قبل. والاستشهاد به في قوله "ودع" حيث استعمل الفعل الماضي الثلاثي المجرد، ومعناه ترك، والكلام فيه كالكلام في الشاهد السابق، قال ابن جني "إنما هذا على الضرورة؛ لأن الشاعر إذا اضطر جاز له أن ينطق بما ينتجه القياس وإن لم يرد به سماع -ثم أنشد بيت أبي الأسود، وهو الشاهد السابق- وعليه قراءة بعضهم: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} لأن الترك ضرب من القلى، فهذا أحسن من أن يعل باب استحوذ واستنوق الجمل لأن استعمال ودع مراجعة أصل، وإعلال استحوذ واستنوق ونحوهما من المصحح ترك أصل، وبين مراجعة الأصول وتركها ما لا خفاء به" ا. هـ. وانظر كتاب سيبويه "2/ 256"

مسألة هل يجوز صرف أفعل التفضيل في ضرورة الشعر؟

69- مسألة: [هل يجوز صرف أفعل التفضيل في ضرورة الشعر؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "أفعل منك" لا يجوز صَرْفُه في ضرورة الشعر. وذهب البصريون إلى أنه يجوز صرفه في ضرورة الشعر. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن "مِنْ" لما اتصلت به منعت من صرفه لقوة اتصالها به، ولهذا كان في المذكر والمؤنث والتثنية والجمع على لفظ واحد، نحو "زيد أفضل من عمرو، وهند أفضل من دعد، والزيدان أفضل من العمرين، والزيدون أفضل من العمرين" وما أشبه ذلك؛ فدل على قوة اتصالها به؛ فلهذا قلنا: لا يجوز صرفه. ومنهم من تمسك بأن قال: إنما قلنا ذلك لأن "من" تقوم مقام الإضافة ولا يجوز الجمع بين التنوين والإضافة؛ فكذلك لا يجوز الجمع بينه وبين ما يقوم مقام الإضافة، وإنما لم يجز الجمع بين التنوين والإضافة لأنهما دليلان من دلائل الأسماء، فاستغني بأحدهما عن الآخر. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يجوز صرفه لأن الأصل في الأسماء كلها الصرف، وإنما يُمْنَع بعضها من الصرف لأسباب عارضة تدخلها على خلاف الأصل؛ فإذا اضطر الشاعر ردَّها إلى الأصل، ولم يعتبر تلك الأسباب العارضة التي دخلت عليها، قال أبو كبير الهذلي: [308] ممن حملن به وهن عَوَاقِدٌ ... حُبُكَ النِّطَاق فَشَبَّ غير مُهَبَّل

_ [308] هذا البيت من كلام أبي كبير الهذلي، واسمه عامر بن الحليس، ويقال: عويمر بن الحليس، أحد بني سعد بن هذيل، وهو من كلمة أثر منها أبو تمام في ديوان الحماسة =

فصرف "عواقد" وهي لا تنصرف؛ لأنه ردها إلى الأصل، وقال النابغة: [309] فَلَتَأْتِيَنْكَ قَصَائِدٌ

_ = عشرة أبيات ثانيها هذا البيت، وانظر الشاهد "رقم 144" في المسألة رقم 28، والبيت المستشهد به هنا من شواهد سيبويه "1/ 56" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 942" وابن يعيش في شرح المفصل "ص830" ورضي الدين في باب اسم الفاعل من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 466" والأشموني "رقم 707" وابن الناظم في باب إعمال اسم الفاعل، وشرحه العيني "3/ 558" والضمير في قوله "حملن" يعود إلى النساء وإن لم يجر لهن ذكر، ولكن لما كان المراد مفهوما جاز هذا الإضمار، والحبك -بضم الحاء المهملة والباء الموحدة- جمع حبيك، والحبك: الطرائق، والنطاق -بكسر النون بزنة الكتاب- ما تشده المرأة في حقوها، وتقول: انتطقت المرأة؛ إذا لبست النطاق، واحتبكت؛ إذا لبست الحباك وهو الإزار، وشب: قوي وترعرع، والمهبّل: المدعو عليه بالهبل وهو الثكل، وقيل: هو المعتوه الذي لا يتماسك. يقول: إن هذا الفتى من الفتيان الذين حملت أمهاتهم بهم وهن غير مستعدات للفراش فنشأ محمودًا مرضيًا. والاستشهاد بهذا البيت ههنا في قوله "عواقد" فإن هذه الكلمة على صيغة منتهى الجموع وهي تقتضي المنع من صرف الاسم، ولكن الشاعر قد صرف هذه الكلمة ونونها حين اضطر لإقامة الوزن، ونظيره قول امرئ القيس بن حجر الكندي: تبصر خليلي هل ترى من ظعائن ... سوالك نقب بين حزمي شعبعب؟ وقول زهير بن أبي سلمى: تبصر خليلي هل ترى من ظعائن ... تحملن بالعلياء من فوق جرثم؟ وقوله سحيم: تبصر خليلي هل ترى من ظعائن ... تحملن من جنبي شروري غواديا ومن صرف الاسم الممنوع من الصرف قول امرئ القيس في معلقته: ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة ... فقالت: لك الويلات إنك مرجلي والنحاة يستشهدون ببيت الشاهد على أنه نصب قوله "حبك النطاق" بعواقد الذي هو جمع عاقدة الذي هو اسم الفاعل المؤنث من قولهم "عقدت المرأة نطاقها" إذا شدَّته وربطته. [309] هذه قطعة من بيت للنابغة الذبياني، وهو بتمامه. فلتأتينك قصائد، وليدفعن ... جيشا إليك قوادم الأكوار وكان زرعة بن عمرو بن خويلد لقي النابغة بعكاظ، فأشار عليه أن يطلب إلى قومه ويحضهم على قتال بني أسد وترك حلفهم، وأبى النابغة، فبلغه أن زرعة يتوعده، فقال قصيدته التي منها بيت الشاهد، وأولها: طال الثواء على رسوم ديار ... قفر أسائلها، وما استخباري؟ والقوادم: جمع قادمة، والقادمة: مقدم الرحل، والأكوار: جمع كور، وهو رحل الناقة. ويتهدده بأنه سيهجوه، وبأنه سيغزوه، والاستشهاد بالبيت في قوله "قصائد" فإن هذه الكلمة على صيغة منتهى الجموع وهي تقتضي منع الصرف، وقد صرف الشاعر هذه الكلمة حين اضطر إلى إقامة الوزن، على نحو ما قررناه في البيت الذي قبل هذا البيت.

فصرف "قصائد" وهي لا تنصرف؛ لأنه ردها إلى الأصل، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة في أشعارهم. والذي يدل على هذا أن ما لا أصل له في الصرف ودخول التنوين لا يجوز للشاعر أن ينونه للضرورة، لأنه لا أصل له في ذلك فيرده إلى حالة قد كانت له، فإذا ثبت هذا فنقول: أفعل منك اسم، والأصل فيه الصرف، وإنما امتنع من الصرف لوزن الفعل والوصف، فصار بمنزلة "أحمر"، وكما وقع الإجماع على أن "أحمر" يجوز صرفه في ضرورة الشعر ردًّا إلى الأصل فكذلك أفعل منك، ثم إذا جار عندكم في ضرورة الشعر ترك صرف ما أصله الصرف -وهو عدول عن الأصل إلى غير أصل- فكيف لا يجوز صرف ما أصله الصرف وهو رجوع عن غير أصل إلى أصل؟ وهل منع ذلك إلا رفض القياس، وبناء على غير أساس؟ وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن من لما اتصلت به منعت من صرفه" قلنا: هذا باطل؛ لأن اتصال من ليس له تأثير في منع الصرف، وإنما المؤثر في منع الصرف وزن الفعل والوصف. والذي يدل على ذلك أنهم قد قالوا: "زيد خير منك، وشر منك" فيصرفون مع اتصال "من" به، ولم يمنعوهما الصرف مع دخول "من" عليهما واتصالها بهما، ولو كان كما زعموا لوجب أن لا ينصرفا لاتصال "من" بهما، فلما انصرفا مع اتصال "من" بهما دلّ على أن اتصالها بهما لا أثر له في منع الصرف، وإنما المؤثر في منع الصرف وزن الفعل والوصف. والذي يدل على صحة هذا أنه لما زال وزن الفعل من "خير منك، وشر منك" انصرف؛ لأن الأصل: أخير منك، وأشرر منك؛ إلا أنهم حذفوا الهمزة منهما لكثرة الاستعمال، وأدغموا إحدى الراءين في الأخرى من قولهم "شر منك" لئلا يجتمع حرفان متحركان من جنس واحد في كلمة واحدة؛ لأن ذلك مما يستثقل في كلامهم، فلما نقصا عن وزن الفعل بقي فيهما علة واحدة وهي الوصف، فَرُدَّا إلى الأصل وهو الصرف؛ لأن العلة الواحدة لا تقوى على منع الصرف الذي هو الأصل. وأما قولهم "إنه لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث؛ لاتصال من به" قلنا: إنما لم يثنَّ ولم يجمع ولم يؤنث لثلاثة أوجه: الوجه الأول: أنه لم يثنَّ ولم يجمع ولم يؤنث لأنه تضمن معنى المصدر؛ لأنك إذا قلت "زيد أفضل منك" كان معناه فضل زيد يزيد على فضلك؛ فجعل موضع يزيد فضله أفضل، فتضمن معنى المصدر والفعل معا، والفعل والمصدر مذكران، ولا تدخلهما تثنية ولا جمع، فكذلك ما تضمنهما.

والوجه الثاني: أنه لم يثنَّ ولم يجمع ولم يؤنث لأنه مضارع للبعض الذي يقع به التذكير والتأنيث والتثنية والجمع بلفظ واحد. والوجه الثالث: إنما لم يثنَّ ولم يجمع لأن التثنية والجمع إنما تلحق الأسماء التي تنفرد بالمعاني، و"أفعل" اسم مركب يدل على فعل وغيره، فلم يجز تثنيته ولا جمعه، كما لم يجز تثنية الفعل ولا جمعه لما كان مركبا يدلُّ على معنى وزمان، وإنما فعلت العرب ذلك اختصارًا للكلام، واستغناء بقليل الكلام عن كثيره، ولم يجز تأنيثه لما ذكرنا من تضمنه معنى المصدر، والمصدر مذكر، ثم على أصلكم إنما وُحِّد "أفعل" لأنه جرى مجرى الفعل؛ ولهذا كانت إضافته غير حقيقية. وأما قولهم "إن من تقوم مقام الإضافة، ولا يجوز الجمع بين التنوين والإضافة" قلنا: لو كان الأمر كما زعمتم لوجب أن يدخله الجر في موضع الجر، كما إذا دخلته الإضافة، فلما أجمعنا على أنه لا ينصرف ويكون في موضع الجر مفتوحًا كسائر ما لا ينصرف دلَّ على فساد ما ذهبتم إلى. وأما قولهم "إنما لم يجز الجمع بين التنوين والإضافة لأنهما دليلان من دلائل الأسماء" قلنا: لا نسلم أنه إنما لم يجز الجمع بين التنوين والإضافة لأنهما دليلان من دلائل الأسماء، وإنما لم يجز الجمع بين التنوين والإضافة لوجهين: أحدهما: أن الإضافة تدل على التعريف، والتنوين يدل على التنكير فلو جوّزنا الجمع بينهما لأدى ذلك إلى أن يجمع بين علامة تعريف وعلامة تنكير في كلمة واحدة، وهما ضدّان، والضدّان لا يجتمعان. والوجه الثاني: أن الإضافة علامة الوصل، والتنوين علامة الفصل. فلو جوّزنا الجمع بينهما لأدّى ذلك إلى أن يجمع بين علامة وصل وعلامة فصل في كلمة واحدة، وهما ضدّان، والضدّان لا يجتمعان. وما ذهبوا إليه من التعليل يبطل بحرف الجر مع لام التعريف؛ فإنهما يجوز اجتماعهما، نحو "مررت بالرجل" وإن كانا دليلين من دلائل الأسماء، إلى غير هذين الدليلين من دلائل الأسماء، والله أعلم.

مسألة منع صرف ما ينصرف في ضرورة الشعر

70- مسألة: [منع صرف ما ينصرف في ضرورة الشعر] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز ترك صرف ما ينصرف في ضرورة الشعر، وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش وأبو علي الفارسي وأبو القاسم بن برهان من البصريين، وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز، وأجمعوا على أنه يجوز صرف ما لا ينصرف في ضرورة الشعر. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه يجوز ترك صرف ما ينصرف في ضرورة الشعر أنه قد جاء ذلك كثيرًا في أشعارهم، قال الأخطل: [310] طَلَبَ الأَزَارِقَ بِالكَتَائِبِ إذ هَوَتْ ... بِشَبِيبِ غَائِلَةِ الثُّغُورِ غَدُورُ

_ [310] هذا البيت للأخطل -غياث بن الغوث- التغلبي، من كلمة يمدح فيها سفيان بن الأبيرد، وهو من شواهد الأشموني "رقم 994" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 487" وابن الناظم في باب ما لا ينصرف من شرح الألفية، وشرحه العيني "4/ 362 بهامش الخزانة" والأزارق: جمع أزرقي، وهو المنسوب إلى نافع بن الأزرق، رأس الخوارج، وكان من حق العربية عليه أن يقول "الأزارقة" لأنهم يزيدون التاء في الجمع عوضًا عن ياء النسبة التي تكون في المفرد، قالوا: المهالبة، والأشاعرة، في جمع أشعري ومهلبي، ولكنه حذف التاء حين اضطر لإقامة الوزن، والكتائب: جمع كتيبة، وهي الفرقة من الجيش، وتطلق الكتيبة على الخيل المغيرة من المائة إلى الألف، وهوت: سقطت، وشبيب: هو شبيب بن يزيد بن نعيم الشيباني، وكان رأسًا من رءوس الخوارج في عهد عبد الملك بن مروان، وقاتله الحجاج بن يوسف الثقفي. ومحل الاستشهاد بالبيت ههنا قوله: "بشبيب" حيث منعه من الصرف مع أنه ليس فيه إلا العلمية، وهي وحدها لا تقتضي المنع من الصرف، وإنما تقتضيه إذا انضمت إليه علة أخرى مثل التأنيث في فاطمة وحمزة وزينب، ومثل العدل في عمر وزفر وجمح، ومثل زيادة الألف والنون في عثمان وعفان وعمران، ومثل وزن الفعل =

فترك صرف "شبيب" وهو منصرف، وقال حَسَّان: [311] نصروا نبيهم وشدُّو أَزْرَهُ ... بِحُنَيْنَ يوم تَوَاكُلِ الأبطالِ فترك صرف "حنين" وهو منصرف، قال الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة: 25] ولم يُرْوَ عن أحد من القراء أنه لم يصرفه، وقال الفرزدق: [312] إذا قال غَاوٍ من تَنْوخَ قصيدةً ... بها جَرَبٌ عُدَّتْ على بِزَوْبَرَا

_ = في أحمد ويشكر وبقم، قال ابن يعيش "السبب الواحد لا يمنع الصرف في حال الاختيار والسعة، وقد أجاز الكوفيون والأخفش وجماعة من المتأخرين البصريين كأبي علي وابن البرهان وغيرهما ترك صرف ما ينصرف، وأباه سيبويه وأكثر البصريين، وقد أنكر المنع أبو العباس المُبَرِّد، وقال: ليس لمنع الصرف أصل يردّ إليه، وقد أنشد من أجاز ذلك أبياتًا صالحة العدة ... وقد تأولها أبو العباس وروى شيئًا منها على غير ما رووه" ا. هـ. وقال ابن هشام "وأجاز الكوفيون والأخفش والفارسي للمضطر أن يمنع صرف المنصرف، وأباه سائر البصريين، وعن ثعلب أنه أجاز ذلك في الكلام" ا. هـ. وقال الرضي "وجوز الكوفيون وبعض البصريين للضرورة ترك صرف المنصرف، لا مطلقًا، بل بشرط العلمية دون غيرها من الأسباب؛ لقوتها وذلك بكونها شرطًا لكثير من الأسباب مع كونها سببًا" ا. هـ. [311] هذا البيت لحسان بن ثابت الأنصاري، وقد أنشده ابن منظور "ح ن ن" وعزاه إليه، وحنين -بالضم، على زنة التصغير- اسم واد بين مكة والطائف، قال الأزهري: حنين اسم وادٍ كانت به وقعة أوطاس، ذكره الله تعالى في كتابه فقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} وقال الجوهري: حنين موضع، يذكر ويؤنث، فإذا قصدت به الموضع ذكرته وصرفته كقوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} وإن قصدت به البقعة أنثته ولم تصرفه، وأنشد لذلك بيت حسان، وإذا كان ما قاله الجوهري صحيحًا -وهو صحيح إن شاء الله- فإن منع حسان صرف "حنين" يكون جاريًا على القياس، ولا ضرورة فيه؛ لأن فيه علتين إحداهما العلمية والأخرى التأنيث، فأما أن القراء أجمعوا على صرف "حنين" في الآية الكريمة فلا يدل على عدم جوازه في السعة بتقدير تأنيثه على أنه علم على البقعة، وذلك لأن القراءة لا تتبع صحة الوجه عربية، ولكنها سنة متبعة وهي لا تخالف العربية ولكن ليس معنى هذا أن كل ما جاز في العربية جازت القراءة به، ولكن معناه أن كل ما قرئ به فهو جائز في العربية، وفرق بين الكلامين، والمؤلف نفسه شنع على الكوفيين في المسألة "33" على أساس زعمهم أن كل ما جاز في العربية يرد في القرآن ولم يقرأ به القراء. [312] نسب المؤلف هذا البيت للفرزدق، وقد أنشده ابن منظور "ز ب ر" ونسبه إلى ابن أحمر، وأنشده ابن يعيش في شرح المفصل "ص44 ليبزج" ونسبه إلى الطرماح، وأنشد ابن سيده في المخصص "15/ 183" كلمة الاستشهاد من هذا البيت، من غير عزو، وقد رجعت إلى ديوان الفرزدق، فوجدت فيه أربعة أبيات يقولها لقومه يقع هذا البيت ثانيها، وقبله: يا قوم إني لم أكن لأسبكم ... وذو البرء محقوق بأن يتعذرا

فترك صرف "زَوْبَرَ" وهو منصرف، ومعناه نُسِبَتْ إليّ بكمالها من قولهم: أخذ الشيء بزَوْبَرِهِ، إذا أخذه كله، وقيل: "بزَوْبَرَا" أي كذبًا وزورًا، وقال الآخر: [313] إلى ابْنِ أُمِّ أُنَاسَ أَرْحَلُ نَاقَتِي ... عمرو فَتُبْلِغُ حَاجَتِي أو تُزْحِفُ

_ = ووجدت له قطعة أخرى عدتها اثنا عشر بيتًا يقولها في التنصل إلى خالد القسري عامل هشام بن عبد الملك بن مروان على العراق؛ من هجاء كان قد هجى به خالد، فاتّهم الفرزدق بذلك الهجو، وهذا البيت يقع سادس أبياتها، وأولها: ألكني إلى راعي الخليفة والذي ... له الأفق والأرض العريضة نورا والغاوي: غير الرشيد، ويروى "إذا قال راوٍ" ويروى "عاوٍ" بالعين المهملة -من العواء، وهو صوت الكلب، وبها جرب: أي فيها عيب من هجاء ونحوه، وقوله "عدت عليّ بزوبرا" أي نسب إليّ بكمالها، مأخوذ من قولهم: أخذ الشيء بزوبره، يريدون كله، جعل زوبر علمًا على هذا المعنى. وقد نقل ابن جني عن أبي علي ما قد يفيد أن منع صرف زوبر في هذا البيت جارٍ على القياس، قال "سألت أبا علي عن ترك صرف زوبر، فقال: علقه علمًا على القصيدة فاجتمع فيه التعريف والتأنيث" ا. هـ. [313] هذا البيت من كلام بشر بن أبي خازم، وقد أنشده ابن منظور "ز ح ف" وعزاه إليه، غير أنه وقع هناك هكذا: قال ابن إياس ارْحَلْ ناقتي ... عمرو فتبلغ حاجتي أو تُزْحِفُ والذي يتجه لي أن ما وقع في اللسان محرف عما رواه المؤلف هنا، ثم إني رأيت البغدادي يشير إلى أن هذا البيت قد قيل في مدح عمرو بن حجر الكندي، وأم أناس: كما قال المؤلف أيضًا هي بنت ذهل، من بني شيبان، وقد روي هذا البيت على وجه آخر، وهو: وإلى ابن أم أناس تعمد ناقتي ... عمرو، لتنجح ناقتي أو تتلف وقد بحثت طويلًا عن الكلمة التي منها هذا البيت فلم أعثر عليها. وتقول "رحل فلان ناقته يرحلها، من باب فتح" إذا وضع عليها الرحل وهيأها للسفر، وقوله "فتبلغ حاجتي" حذف المفعول الأول، وأصل الكلام: فتبلغني حاجتي، وقد أعتاد الشعراء أن يطلبوا إلى الناقة إبلاغهم حاجتهم، وانظر إلى قول الشماخ بن ضرار الغطفاني: إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين وإلى قول عنترة بن شداد العبسي قبله: هل تبلغني دارها شدنية ... لعنت بمحروم الشراب مصرم وقوله في بيت الشاهد "أو تزحف" مأخوذ من قولهم "زحف البعير يزحف زحفا -مثل فتح يفتح فتحا- وزحوفا، وزحفانا" إذا أعيا فجر فرسنه، يقول: إني أرحل ناقتي إلى عمرو بن أم أناس، فإما أن تبلغني مقصدي وإما أن تعيا فلا تستطيع السير، يريد أنه لا يرأف بها ولا يشفق عليها ولا يعطيها شيئًا من الراحة. والاستشهاد بالبيت في قوله "أم أناس" فقد منع "أناس" من الصرف، فجره بالفتحة من غير تنوين مع أنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو العلمية، والكلام فيه كالكلام في الأبيات السابقة.

فترك صرف "أناس" وهو منصرف، و"أم أناس" بنت ذهل من بني شيبيان، و"عمرو" يريد عمرو بن حجر الكندي، وقال الآخر: [314] أُؤَمِّلُ أَنْ أَعِيشَ وأَنَّ يَوْمِي ... بأَوَّلَ أَوْ بَأَهْوَنَ أَوْ جُبَارِ أَوِ التَّالي دُبَارَ؛ فإن أَفُتْهُ ... فَمُؤْنِسَ أو عَرُوبةً أو شِيَارِ فترك صرف "دبار" وهو منصرف، و"دبار" يوم الأربعاء، وما ذكره في هذين البيتين أسماء الأيام في الجاهلية؛ فأول: يوم الأحد، وأهون: يوم الإثنين، وجبار: يوم الثلاثاء، ودبار: يوم الأربعاء، ومؤنس: يوم الخميس، وعروبة: يوم الجمعة، وشيار: يوم السبت، وقال الآخر: [315] فَأَوْفَضْنَ عنها وهي تَرْعُو حُشَاشَةً ... بِذِي نَفْسِهَا والسَّيْفُ عُرْيَانُ أَحْمَرُ

_ [314] أنشد ابن منظور هذين البيتين "ج ب ر - د ب ر - ش ى ر - أن س - هـ ون" ولم يعزهما إلى قال معين في أحد هذه المواضع، وهذه الأسماء أعلام على أيام الأسبوع، على ما كان العرب يسمونها في الجاهلية، وقد بينها المؤلف، ومحل الاستشهاد في البيت قوله "دبار" حيث منعه من الصرف مع أنه لا يوجد فيه إلا سبب واحد وهو العلمية، ونظيره يقال في "مؤنس" أما "أول، وأهون" ففيهما العلمية ووزن الفعل وأما "عروبة" ففيه العلمية والتأنيث، وأما "جبار، وشيار" فقد صرفهما فجرهما بالكسرة، وعدم تنوينهما بسبب الرويّ، وقد ضبط في لسان العرب "دبار، ومؤنس" بالجر، وفيه مقال. [315] أوفضن عنها: أسرعن، والإيفاض: الإسراع. وفي القرآن الكريم: {كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43] ووفضت الإبل تفض -مثل وعد يعد- واستوفضت تستوفض، إذا أسرعت، وأوفض الرجل واستوفض: أي أسرع، واستوفض إبله: طردها واستعجلها، وترغو: من الرغاء، وهو صوت الإبل، تقول: رغا البعير، يرغو رغاء، إذا صوت فضج، وقد يقال الرغاء لصوت الضباع والنعام. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله: "عريان" حيث منعه من الصرف مع أنه ليس فيه إلا الوصفية، وهي وحدها غير كافية في منع الصرف. فإن قلت: كيف زعمت أن هذه الكلمة ليس فيها غير الوصفية مع أن الألف والنون فيها زائدتان، فتكون قد اشتملت على الوصفية وزيادة الألف والنون، وهما علتان تقتضيان المنع من الصرف نحو عطشان وسكران وغضبان وغرثان. قلت: إن شرط تأثير زيادة الألف والنون في منع الصرف مع الوصفية أن يكون مؤنث ما فيه الألف والنون بألف التأنيث، ألست ترى مؤنث عطشان عطشى، ومؤنث سكران سكرى، ومؤنث غضبان غضبى، ومؤنث غرثان غرثى، وترى مؤنث عريان عريانة، ومؤنث سيفان -وهو الرجل الطويل الممشوق- سيفانة، ومؤنث ندمان ندمانة، فما كان مؤنثه فعلى فهو ممنوع من الصرف للوصفية وزيادة الألف والنون، وما كان مؤنثه فعلانة فهو مصروف، والسر في ذلك أن زيادة الألف والنون مع الوصف محمولة في المنع من الصرف على ألف التأنيث الممدودة وهذه لمذكرها صيغة غير صيغة المؤنث نحو حمراء وأحمر ودعجاء =

فترك صرف "عُرْيَان" وهو منصرف؛ لأن مؤنثه عُرْيَانَة لا عَرْيَا. وقال الآخر: [316] قالت أميمة ما لِثَابِتَ شاخصًا ... عَارِي الأَشَاجِعِ نَاحِلًا كالمُنْصُلِ فترك صرف "ثابت" وهو منصرف، وقال العباس بن مرداس السُّلمِي: [317] فَمَا كان حِصْنٌ ولا حَابِسٌ ... يفوقان مرداس في مَجْمَعِ

_ = وأدعج، فوجب في الالف والنون أن تكون صيغة المؤنث غير صيغة المذكر حتى يتم الشبه بين الفرع والأصل، فإن وجدت كلمة فيها الوصفية والألف والنون الزائدتان، وكان لها مؤنثان أحدهما على فعلانة بزيادة تاء التأنيث والآخر على فعلى بالألف المقصورة فإن هذه الكلمة تكون ذات وجهين، كل وجه منهما يرجع إلى لغة غير التي يرجع إليها الوجه الآخر، ومن أمثلة ذلك عطشان وغضبان، فإن جمهور العرب يقولون في مؤنثهما عطشى وغضبى، وعلى هذا يكون عطشان وغضبان، ممنوعين من الصرف، وبنو أسد وحدهم يقولون في مؤنثهما: عطشانة وغضبانة، وعلى هذا يكون عطشان وغضبان مصروفين، وشيء آخر في "عريان" يدلك على أنه مصروف، وذلك أن الألف والنون الزائدين لا يكونان مانعين من الصرف مع الوصفية إلا فيما كان أوله مفتوحًا كجميع الأمثلة التي ذكرناها، وعريان مضموم الأول، فأنت لا تحتاج في معرفة أنه لا يمنع من الصرف إلى جديد. [316] أميمة: من أسماء النساء، وأصلها تصغير أم، وقوله "ما لثابت" أي ما الذي طرأ عليه بعدنا حتى غيّر حاله، وشاخصًا: يحتمل وجهين، أولهما: أن يكون مأخوذًا من قولهم "شخص بصر فلان فهو شاخص" إذا فتح عينيه وجعل لا يطرف، ويكون ذلك عند الذهول أو مشارفة الموت، والثاني: أن يكون مأخوذًا من قولهم "شخص فلان بشخص شخوصًا" أي سار من بلد إلى بلد، تريد أنه متهيّئ للرحيل، والأول أقرب لما بعده، وقوله "عاري الأشاجع" تريد أنه هزل وضعف، وناحلا: أي قد شحب لونه وتغير وضعف جسمه وهزل، والمنصل -بضم الميم وصاده مضمومه أو مفتوحة- السيف، ولم يجئ على هذين الوزنين غير هذه الكلمة وقولهم "منخل" -بضم ميمه وخائه وبضم الميم وفتح الخاء- ومحل الاستشهاد هنا بهذا البيت قوله "ما لثابت" حيث منع "ثابت" من الصرف مع أنه ليس فيه إلا العلمية، على نحو ما قررناه في الشواهد السابقة، وفي قوله "عاري الأشاجع" شاهد للنحاة، حيث لم يظهر الفتحة التي يقتضيها الإعراب على ياء "عاري" فإن هذه الكلمة حال من ثابت مثل قوله "شخاصا" الذي قبله، وقد عامل الشاعر الاسم المنقوص في حال النصب معاملة الاسم المنقوص المرفوع والمجرور، ولذلك نظائر كثيرة في العربية. [317] هذا البيت من كلام العباس بن مرداس السلمي، يقوله لسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن وزع غنائم حنين فأعطى عيينة بن حصن الفزاري والأقرع بن حابس وغيرهما من المؤلفة قلوبهم أكثر مما أعطى العباس بن مرادس، فغضب العباس فقال أبياتًا منها هذا البيت، وهو من =

فترك صرف "مرادس" وهو منصرف. قالوا: ولا يجوز أن يقال "إن الرواية: [317] يفُوقَان شَيْخِيَ في مَجْمَعِ وشيخه أبُوهُ مرادس" لأنا نقول: بل الرواية الصحية المشهورة ما رويناه، على أنا لو قدرنا أنه قد روى رواية أخرى كما رويتموه فما العذر عن هذه الرواية الصحيحة مع شهرتها؟ وقال دَوْسَر بن دهبل القريعي: [318] وقَائِلَةٍ ما بَالُ دَوْسَرَ بَعْدَنَا ... صَحَا قَلْبُهُ عن آلِ ليلى وعن هِنْدِ فلم يصرف "دوسر" وهو منصرف. قالوا: ولا يجوز أن يقال إن الرواية: [318] ما للقُرَيْعِيِّ بَعْدَنَا

_ = شواهد الرضي في شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 71" وشواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص81" والأشموني "رقم 992" وابن الناظم في باب الاسم الذي لا ينصرف من شرح الألفية، وشرحه العيني "4/ 365 بهامش الخزانة" وحصن: هو أبو عيينة، وحابس: أبو الأقرع، ومرداس: أبو العباس قائل هذا البيت، يريد أن أبويهما لم يكونا خيرا من أبيه، والاستشهاد به في قوله "مرداس" حيث منعه من الصرف وليس فيه إلا علة واحدة وهي العلمية، على نحو ما ذكرناه في شرح الشواهد السابقة، والرواية الأخرى -وهي "يفوقان شيخي في مجمع"- هي رواية أبو العباس المبرد، وقد قال ابن مالك "وللمبرد إقدام في رد ما لم يرو، مع أن البيت بذكر مرداس ثابت بنقل العدل عن العدل في صحيح البخاري ومسلم، وذكر شيخي لا يعرف له سند صحيح، ولا سبب يدنيه من التسوية فكيف من الترجيح" ا. هـ. [318] هذا البيت لدوسر بن دهبل القريعي كما قال المؤلف، وقد استشهد به الأشموني "رقم 993" وابن الناظم، وشرحه العيني "4/ 366 بهامش الخزانة" وما بال دوسر: أي ما شأنه وما حاله؟ وصحا قلبه: تريد أنه سلا أحبابه وترك ما كان عليه من الصبابة، ومنه قول زهير بن أبي سلمى المزني: صحا القلب عن سلمى، وقد كاد لا يسلو ... وأقفر من سلمى التعانيق والثقل وأصرح منه قول زهير أيضًا: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعرى أفراس الصبا ورواحله والاستشهاد بهذا البيت ههنا في قوله "دوسر" حيث منعه من الصرف مع أنه ليس فيه إلا علة واحدة وهي العلمية، وهو نظير ما ذكرناه في شرح الشواهد السابقة، والرواية الأخرى -وهي "ما للقريعي بعدنا"- ذكرها ابن عصفور، وقال "والجيد الصحيح عندنا في إنشاد هذا البيت، ثم ذكرها" وهذه جرأة كجرأة أبي العباس المُبَرِّد التي حكيناها لك، وندد بها العلامة بن مالك، وذكرنا لك نص عبارته في شرح الشاهد السابق.

لأنَّا نقول؛ بل الرواية الصحيحة المشهورة ما رويناه، ولو قدرنا أن ما رويتموه صحيح فما عذركم عما رويناه مع صحته وشهرته؟ وقال الآخر: [319] وَمُصْعَبُ حِينَ جَدَّ الأَمْـ ... ـر أكثرُها وأطيبُها قالوا: ولا يجوز أن يقال إن الرواية: [319] وأنتم حين جَدَّ الأمر ... لأنَّا نقول: بل الراوية الصحيحة ما رويناه، ولو قدرنا ما رويتموه صحيحًا فما عذركم عما رويناه على ما بيّنّا؟ وقال الآخر: [320] وممن ولدوا عامرُ ... ذو الطَّولِ وذو العَرْضِ

_ [319] أنشد ابن يعيش في شرح المفصل "ص81" هذا البيت من غير عزو، والمصعب في الأصل: الفحل، وقالوا "رجل مصعب" يعنون أنه سيد، ثم سموا مصعبا، وممن سمي بهذا الاسم مصعب بن الزبير بن العوام، وقالوا "المصعبان" يعنون مصعبا وابنه عيسى بن مصعب، وقيل: يعنون مصعب بن الزبير وأخاه عبد الله، ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "ومصعب" فإنه مرفوع بغير تنوين، فدل ذلك على أنه ممنوع من الصرف، مع أنه ليس فيه إلا علة واحدة وهي العلمية، والدليل على أن الأصل في مصعب الصرف قول عبيد الله بن قيس الرقيات: إنما مصعب شهاب من اللـ ... ـه تجلت عن وجهه الظلماء وقول الفرزدق همام بن غالب "الديوان ص26": وقدر أي مصعب في ساطع سبط ... منها سوابق غارات أطانيب و" أطانيب" في قول الفرزدق ليست وصفًا للسوابق كما توهمه صاحب اللسان، فقال "وخيل أطانيب: يتبع بعضها بعضا، ومنه قول الفرزدق، ثم أنشد البيت" ولو كانت الأطانيب من صوف الخيل المعبر عنها ههنا بالسوابق لكانت منصوبة، ولكن الأطانيب في هذا البيت من وصف الغارات المجرور، وقال صاحب الأساس "وغارات أطانيب: متصلة لا آخر لها، وقال الفرزدق، ثم أنشد البيت". [320] هذا البيت لذي الإصبع العدواني، واسمه الحارث بن محرث بن حرثان من كلمة رواها أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني "3/ 4 و10 بولاق" والبيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص81" وابن عقيل "321" وابن الناظم في باب ما لا ينصرف من شرح الألفية، وشرحه العيني "4/ 364 بهامش الخزانة" وأنشده ابن منظور "ع م ر" من غير عزو "وعامر" هو عامر بن الظرب العدواني، الذي يقول فيه ذو الإصبع من كلمة الشاهد: ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي وهو ذو الحلم الذي قيل فيه المثل "إن العصا قرعت لذي الحلم" وقيل: إن ذا الحلم هو عمرو بن حممة الدوسي "انظر شرح التبريزي على الحماسة 1/ 201 بتحقيقنا" وقوله "ذو الطول وذو العرض" كناية عن عظم جسمه، والعرب تتمدح بطول الأجسام، ومن ذلك =

فترك صرف "عامر" وهو ينصرف، ولم يجعله قبيلة لأنه وصفه فقال "ذو الطول وذو العرض" ولو كانت قبيلة لوجب أن يقول: ذات الطول وذات العرض، ولا يجوز أن يقال "إنما لم يصرفه لأنه ذهب به إلى القبيلة كما قرأ سيد القراء أبو عمرو بن العلاء "وجئتك من سَبَأَ بنَبَأ يقين" فترك صرف سَبَأ، لأنه جعله اسمًا للقبيلة حملًا على المعنى، وقال الشاعر: [321] من سَبَأَ الحَاضِرِينَ مأرِبَ إذ ... يبنون من دون سَيْلِهِ العَرِمَا

_ = قول الشاعر، وهو من شواهد النحاة: تبين لي أن القماءة ذلة ... وأن أعزاء الرجال طيالها والقماءة -بفتح القاف بزنة الصحابة- قصر القامة، وطيالها: أي طوالها، ويروى بالواو أيضا، ومحل الاستشهاد بالبيت ههنا قوله "عامر" فقد جاء به مرفوعًا من غير تنوين، فدلّ على أنه منعه من الصرف مع أنه ليس فيه إلا علة واحدة وهي العلمية، والكلام فيه كالكلام في الشواهد السابقة، وسنتعرض لهذا البيت مرة أخرى في شرح الشاهد 327 الآتي: [321] أنشد ابن منظور هذا البيت "س ب أ "من غير عزو، وأنشده مرة أخرى "ع ر م" وعزاه إلى الجعدي من غير تعيين، وهو من شواهد سيبويه "2/ 28" وعزاه الأعلم إلى النابغة الجعدي، وسبأ: اسم بلدة كانت تسكنها بلقيس صاحبة سليمان بن داود، وقيل: اسم رجل يجمع عامة قبائل اليمن، وقال الزّجّاج: سبأ هي مدينة تعرف بمأرب، من صنعاء على مسيرة ثلاث ليال، وفي القرآن الكريم: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] والقراء يقرأون {مِنْ سَبَأٍ} بالجر والتنوين على أنه مصروف، وكان أبو عمرو بن العلاء يقرأ بالفتح من غير تنوين على أنه ممنوع من الصرف، فأما من صرفه فعلى تأويله بمذكر، وأما من لم يصرفه فعلى تأويله بمؤنث، الحاضرين: جمع حاضر وأصل الحاضر الحي العظيم، وقال ابن سيده: الحي إذا حضروا الدار التي بها مجتمعهم. وقال الشاعر: في حاضر لجب بالليل سامره ... فيه الصواهل والرايات والعسكر ونظيره سامر لجماعة السمار، وحاج لجماعة الحجاج، وجامل لجماعة الجمال، وأراد ههنا معنى الوصف الذي يتضمنه هذا اللفظ، ومأرب: اسم بلاد الأزد التي أخرجهم منها سيل العرم، وانتصابه على معنى "في" والعرم -بفتح العين وكسر الراء أو فتحها جمع عرمة، وهي سد يعترض به الوادي، وقيل: العرم جمع لا واحد له، وقال أبو حنيفة الدينوري: العرم هي الأحباس تبنى في أوساط الأودية. والاستشهاد بالبيت هنا في قوله: "سبأ" حيث منعه من الصرف، فجاء به مفتوحًا من غيرت تنوين، مع أنه ليس فيه إلا سبب واحد -وهو العلمية- فإنه أراد به ههنا سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ومن ينسب إلى بدليل أنه وصفه بعد ذلك بقوله "الحاضرين" وبهذا استدل الكوفيون على أنه يجوز للشاعر إذا اضطر أن يمنع الاسم المنصرف من الصرف، والبصريون يتمحلون فيدعون أنه منع "سبأ" من الصرف لأنه أراد به مؤنثًا وهو القبيلة، ووصفه بالمذكر نظرًا إلى المعنى لأن القبيلة رجال أو فيهم رجال. ونقول: إنه لما جرت عادة الشعراء بأن يصرفوا "سبأ" فيجروه =

فلم يصرف "سبأ" لأنه جعله اسمًا لقبيلة حملًا على المعنى، وقال الله تعالى: {أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ} [هود: 68] فلم يصرف {ثَمُودَ} الثاني؛ لأنه جعل اسمًا للقبيلة حملًا على المعنى، ثم قال الشاعر: [322] تَمُدُّ عليهم من يمين وأَشْمُلٍ ... بُحُورٌ له من عَهْدِ عَادَ وتُبّعَا وقال الآخر: [323] لو شَهْدَ عاد من زمان عَادِ ... لَابْتزَّهَا مَبَارِكَ الجِلَادِ

_ = بالكسرة مع التنوين نحو قول الشاعر: أضحت ينفرها الولدان من سبإ ... كأنهم تحت دفّيها دحاريج فإن منعها شارع من الصرف يكون قد جاء بها على خلاف المعهود من أمثاله، وهذا هو المنع من الصرف مع عدم استكمال سبب المنع، ثم إن الكوفيين لا يقولون: إنه يجوز منع المنصرف من الصرف في سعة الكلام، بل يقولون: استساغ الشعراء لأنفسهم حين الضرورة أن يمنعوا المصروف من الصرف. [322] أنشد ابن منظور هذا البيت "ع ود" من غير عزو، وهو من شواهد سيبويه "2/ 27" ونسبه إلى زهير، وعاد: قبيلة، وهم قوم هود عليه السلام، قال الليث: "عاد الأولى هم عاد بن عاديا بن سام بن نوح الذين أهلكهم الله. وأما عاد الأخيرة فهم بنو تميم، ينزلون رمال عالج، عصوا الله فمسخوا" ا. هـ. وتبع -بضم التاء وتشديد الباء مفتوحة- واحد التبابعة وهم ملوك اليمن، سموا بذلك لأن بعضهم كان يتبع بعضا، كلما هلك واحد منهم قام مقامه آخر تابعًا له على مثل سيرته. والاستشهاد بالبيت في قوله "عاد وتبعا" حيث منعهما من الصرف مع أنه لا يوجد فيهما إلا علة واحدة وهي العلمية، وقد وردت كلمة "عاد" في القرآن الكريم عدة مرار مصروفة على الأصل، من ذلك قول الله تعالى: {وَإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} [الأعراف: 65] وقوله سبحانه: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} [النجم: 50] ووردت كلمة تبع في القرآن الكريم مصروفة أيضًا، وذلك في قوله سبحانه: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} [الدخان: 37] فمجيء هاتين الكلمتين في قول الشاعر: من عهد عاد وتبعا" غير منصرفتين: أي مجرورتين بالفتحة نيابة عن الكسرة يدل على أنه يجوز للشاعر حين يضطر أن يمنع الاسم المنصرف من الصرف، وقد حكى ابن منظور "ع ود" أنه يقال "ما أدري أي عاد هو" غير مصروف، ومعناه ما أدري أي خلق هو، وهو غريب جدًا، فإن البصريين لم يقبلوا القول بجواز منع صرف المصروف في الضرورة، والكوفيين إنما أجازوا ذلك في ضرورة الشعر، فكيف جاز في السعة ذلك؟ [323] هذان البيتان من الرجز المشطور، وهما من شواهد سيبويه "2/ 27" ولم ينسبهما إلى قائل معين، ولا نسبهما الأعلم في شرحه، وشهد: هو هنا بفتح الشين وسكون الهاء، وأصله بكسر الهاء على مثال علم، فسكن الشاعر العين المكسورة للتخفيف، وانظر الشواهد "73-77" السابقة، وابتزها: سلبها، ومبارك الجلاد: وسط الحرب ومعظمها، وأصل الكلام: لابتزها من مبارك الجلاد، فحذف حرف الجر وأوصل الفعل إلى الاسم بنفسه. ومحل =

وقال الآخر: [324] عَلِمَ القبائل من مَعَدَّ وغيرها ... أن الجَوَادَ محمدٌ بنُ عطارِدِ وقال الآخر: [325] ولسنا إذا عُدّ الحصى بِأقِلَّةٍٍ ... وإن مَعَدّ اليوم مُودٍ ذَلِيلُهَا

_ = الاستشهاد بهذا البيت هنا قوله "عاد" الأولى فإنه روي بالفتح من غير تنوين، وذلك يدل على أنه منعه من الصرف، والقول فيه كالقول في البيت السابق، وأما "عاد" التي وردت في البيت بعد ذلك فهي مجرورة بالكسرة الظاهرة بدليل الرويّ في البيت الثاني، فلا دليل فيه؛ لأنه جاء على الأصل. [324] هذا البيت من شواهد سيبويه "2/ 27" ولم ينسبه ولا نسبه الأعلم، ولكن الأعلم قال "والممدوح محمد بن عطارد، أحد بني تميم وسيدهم في الإسلام" ا. هـ، ومعد: هو ابن عدنان جد العرب العدنانية. والاستشهاد بالبيت في قوله "معد" حيث منعه الشاعر من الصرف، وهو إن كان المراد به الرجل الذي اسمه "معد" والحيّ لم يكن فيه إلا سبب واحد من أسباب منع الصرف، وإن كان المراد به القبيلة -وهو الظاهر في هذا البيت لقوله قبل ذلك: "علم القبائل" ثم قوله "وغيرها" بضمير المؤنث- كان منعه من الصرف جاريًا على القاعدة المطردة لأنه حينئذ يكون مشتملًا على العلمية والتأنيث، قال الأعلم: "الشاهد فيه ترك صرف معد حملًا على معنى القبيلة، والأكثر في كلامهم صرفه؛ لأن الغالب عليه أن يكون اسمًا للحيّ" ا. هـ. ومن منع صرف "معد" قول الشاعر، وهو من شواهد سيبويه أيضًا: وأنت امرؤ من خير قومك فيهم ... وأنت سواهم في معد مخير [325] أنشد ابن منظور هذا البيت "م ع د" من غير عزو، وهو من شواهد سيبويه "2/ 27" ولم ينسبه ولا نسبه الأعلم إلى قائل معين. ووقع في اللسان "مؤذ ذليلها" تحريف ما أثبتناه موافق لما في أصول هذا الكتاب ولما جاء في كتاب سيبويه، والحصى: يضرب مثلا في الكثرة، وانظر إلى قول الأعشى ميمون: ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر والمودي: الهالك، تقول: أودى يودي هو مود، تريد هلك فهو هالك. يقول: إذا كثر عدد من حصل من الأشراف وأهل المجد والعدد لم يكن عددنا قليلا فنهلك ونذهب ونضيع سدى من القلة والذلة. والاستشهاد بالبيت في قوله "معد" حيث منعه من الصرف، والكلام فيه كالكلام في البيت السابق "رقم 324": إن كان المراد الحي أو الرجل الذي اسمه "معد" لم يكن فيه إلا سبب واحد من أسباب منع الصرف فيكون منعه من الصرف للضرورة، وإن كان المراد به القبيلة كان منعه من الصرف على القاعدة المطردة لاشتماله على العلمية والتأنيث، والوجه الثاني: هو الظاهر في هذا البيت أيضا؛ لأنه أعاد الضمير على "معد" مؤنثًا في قوله "مود ذليلها" فيكون هذا مما يرجح أنه أراد به القبيلة، فاعرف ذلك.

وقال الآخر: [326] غَلَبَ المَسَامِيحَ الوَلِيدُ سَمَاحَةً ... وكَفَى قريش المُعْضِلَاتِ وسَادَهَا فلم يصرف "قريش" لأنه جعله اسمًا للقبيلة حملًا على المعنى، والحمل على المعنى كثير في كلامهم، قال الشاعر: [327] قامت تُبَكِّيهِ على قبره ... من لي من بعدك يا عَامِرُ

_ [326] هذا البيت لعدي بن الرقاع العاملي، وقد أنشده ابن منظور "ق ر ش" أول بيتين ونسبهما إليه، وقال: إنه يمدح فيهما الوليد بن عبد الملك بن مروان، والبيت الثاني هو قوله: وإذا نشرت له الثناء وجدته ... ورث المكارم طرفها وتلادها والبيت من شواهد سيبويه "1/ 26" والمساميح: جمع سمح على غير قياس، وهو الذي خلقه السماحة والجود، والمعضلات: الشدائد، واحدها معضلة، وسادها: أي صار سيدها ووالي أمورها. والاستشهاد به في قوله "قريش فقد منعه من الصرف، وأنت إن أردت به الحي أو الرجل كان منعه من الصرف ضرورة من الضرورات التي أباحها الكوفيون للشاعر وحظرها البصريون على الشاعر وغيره، وإن أردت به القبيلة كان منعه من الصرف جاريًا على القاعدة المطردة لوجود سببين مانعين من الصرف حينئذٍ وهما العلمية والتأنيث، قال الأعلم الشنتمري "الشاهد فيه ترك صرف قريش حملا على معنى القبيلة، والصرف فيها أكثر وأعرف لأنهم قصدوا بها قصد الحي وغلب ذلك عليها" ا. هـ كلامه؛ أما أن المراد في هذا البيت القبيلة فيرشحه قوله بعد ذلك في البيت "وسادها" فأعاد الضمير مؤنثًا؛ فذلك يؤيد أنه عنى القبيلة، وقال ابن سيده: وقول الشاعر: وجاءت من أباطحها قريش ... كسيل أتى بيشة حين سالا قال: عندي أنه أراد قريش -غير مصروف- لأنه عنى القبيلة، ألا تراه قال جاءت فأنث؟ قال: وقد يجوز أن يكون أراد: وجاءت من أباطحها جماعة قريش فأسند الفعل إلى الجماعة، فقريش على هذا مذكر، اسم للحي" ا. هـ كلامه، وقال سيبويه: "وإن شئت جعلت تميما وأسدا اسم قبيلة فلم تصرفه، والدليل على ذلك قول الشاعر: نبا الخز عن روح، وأنكر جلده ... وعجت عجيجًا من جذام المطارف وسمعنا من العرب من يقول: فإن تبخل سدوس بدرهميها ... فإن الريح طيبة قبول فإذا قالوا: ولد سدوس كذا وكذا، أو ولد جذام كذا وكذا؛ صرفوه، ومما يقوّي ذلك أن يونس زعم أن بعض العرب يقول: هذه تميم بنت مر، وسمعناهم يقولون: قيس بنت عيلان، وتميم صاحبة ذلك، فإنما قال بنت حين جعله اسمًا للقبيلة، ومن ذلك قولهم: باهلة بن أعصر، فباهلة امرأة، ولكنه جعله اسمًا للحي فجاز له أن يقول: ابن" ا. هـ كلامه. وحاصله أنك حين تريد الحي أو القوم تذكر وتصرف، وليس يعنيك إن كان أصل الاسم لمذكر أو مؤنث، وحين تريد القبيلة تؤنث وتمنع الصرف ولا يعنيك أن يكون أصل الاسم لمذكر أو مؤنث. [327] أنشد ابن منظور هذين البيتين "ع م ر" من غير عزو، والبيتان في الحديث عن امرأة قامت =

تَرَكَتْنِي في الدَّار ذَا غُرْبَةٍ ... قد ذلَّ من ليس له ناصرُ وكان الأصل أن يقول "ذات غربة" فحمله على المعنى، فكأنها قالت: تركتني إنسانًا ذا غربة، والإنسان يطلق على الذكر والأنثى، وقال الأعشى: [328] لقوم فكانوا هُمُ المُنْفِدِينَ ... شرابهمُ قبلَ إنفادِهَا

_ = على قبر رجل تبكيه، وقوله "تركتني في الدار ذا غربة" معناه أنها -وإن كانت في دارها وبين ذويها وأهلها- تشعر بالوحدة والغربة؛ لأنها ما كانت تجد الأنس في غير عامر المبكى، ثم علل ذلك بقوله "قد ذل من ليس له ناصر" ومحل الاستشهاد قوله "ذا غربة" فإنه كان ينبغي -لو أنه أجرى الكلام على ما يقتضيه اللفظ- أن يقول "ذات غربة" لأن الحديث على لسان امرأة، بدليل قوله "قامت تبكيه" لكنه -مع ذلك- أجرى الكلام على المعنى؛ فإن المرأة يقال لها "إنسان" أو "شخص" والشخص مذكر، فيجوز أن تجري عليه صفات المذكرين تبعًا للفظه، ويجوز أن تجري عليه صفات المؤنثات تبعا للمراد منه، أما أن المرأة يطلق عليها لفظ "شخص" فدليله قول عمر بن أبي ربيعة: فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر فقد قال "ثلاث شخوص" بغير تاء في ثلاث، وترك التاء في لفظ العدد يكون عندما يكون المعدود مؤنثا، ويدل لهذا أيضا أنه فسر ثلاث الشخوص بقوله "كاعبان ومعصر" والكاعب: المرأة التي كعب ثديها ونهد. وفي بيت الشاهد قال "ذا غربة" أي أشخاص ذا غربة، وهذا ظاهر إن شاء الله. ومن الإجراء على المعنى ما أنشده ابن منظور "ب ك ى" قال: "وقول طرفة: وما زال عني مما كننت يشوقني ... وما قلت حتى ارفضّت العين باكيا فإنه ذكر باكيا -وهي خبر عن العين، والعين أنثى- لأنه أراد حتى ارفضت العين ذات بكاء، وإن كان أكثر ذلك إنما هو فيما كان معنى فاعل لا معنى مفعول، وقد يجوز أن يذكر على إرادة العضو، ومثل هذا يتسع فيه القول، ومثله قول الأعشى: أرى رجلا منهم أسيفا كأنما ... يضم إلى كشحيه كفًا مخضبا أي ذات خضاب، أو على إرادة العضو كما تقدم، وقد يجوز أن يكون مخضبا حالا من الضمير الذي في يضم" ا. هـ كلامه بحروفه. [328] هذا البيت هو الثالث والعشرون من قصيدة للأعشى ميمون بن قيس مطلعها: أجدك لم تغتمض ليلة ... فترقدها مع رقادها وقبل البيت المستشهد به قوله: فباتت ركاب بأكوارها ... لدينا، وخيل بألبادها وانظر الديوان "ص50-56" وقد وهم المؤلف فزعم أن ضمير المؤنث في قوله "قبل إنفادها" يعود إلى الشراب لأنه الذي تقدم ذكره في البيت، وعنده أن الشاعر أراد أن يقول "فكانوا هم المنفدين شرابهم قبل إنفاده" غير أن القافية ألجأته إلى أن يقول "قبل إنفادها" وأنه استساغ ذلك لأن الشراب ههنا هو الخمر، والخمر مؤنثة، فلما لم يتيسر له أن يعيد إليه الضمير باعتبار لفظه المتقدم أعاده إلى باعتبار معناه فأنثه، هكذا زعم المؤلف، وليت =

وكان الأصل أن يقول "قبل إنفاذه" لأن الشراب مذكر، إلا أنه أنثه حملًا على المعنى؛ لأن الشراب هو الخمر في المعنى، وقال الآخر: [329] يا بئرُ يا بئرَ بني عَدِيِّ ... لأَنْزَحَنَّ قَعْرَكَ بالدُّلِيِّ حتى تعودي أَقْطَعَ الوَلِيِّ وكان الأصل أن يقول "قَطْعِي الولي" لأن البئر مؤنثة، إلا أنه ذكره حملا على المعنى، فكأنه قال: حتى تعودي قليبا أقطع الولي، والقليب الأغلب عليه التذكير، ولذلك قالوا في جمعه "أَقْلِبَةٌ" وأفعلة بناء يختص به المذكر في القلة كاختصاص المؤنث بأَفْعُلٍ في القلة، وقوله "ذو الطول وذو العرض" يرجع إلى الحي، فانتقل

_ = شعري كيف ينفدون الشراب قبل إنفاده؟ ولكن العلماء الأثبات أعادوا الضمير المؤنث في قوله "قبل إنفادها" إلى أحد شيئين يصح مع كل واحد منهما اللفظ والمعنى؛ أما أحد هذين فقد ذكره أبو عبيدة، قال: فكانوا هم المنفدين شرابهم قبل أن تنفد عقولهم، يعني أنهم شربوا حتى أنفدوا ما عندهم من الشراب ولم تغب عقولهم، بل بقيت لهم يقظتهم وصحوهم وعلمهم بما يدور حولهم، وأما الثاني: فقد ذكره غير أبي عبيدة، قال: فكانوا هم المنفدين شرابهم قبل إنفاد دراهمهم، يريد أنهم مياسير وأن أموالهم زادت على ثمن ما شربوه، وكلا هذين الوجهين صحيح المعنى صحيح اللفظ، ويكون مرجع الضمير ملحوظا من السياق ومدلولا عليه به ولا يكون في البيت دليل على ما ساقه المؤلف للاستشهاد به عليه. [329] هذه ثلاثة أبيات من الرجز المشطور، والبئر: معروفة، وهي مؤنثة بغير علامة تأنيث؛ فيخبر عنها بالمؤنث، وتوصف بصفات المؤنث، ويعود إليها الضمير مؤنثا؛ وتقول: نزحت البئر أنزحها نزحا -من مثال فتح يفتح فتحا- إذا استقيت ماءها حتى ينفد أو يقل، وقالوا "هذا ماء لا ينزح" بكسر الزاي وبفتحها -يريديون أنه كثير لا ينفد، وقعر البئر -بفتح القاف وسكون العين- أقصاه وعمقه ونهاية أسفله والدّلي: جمع دلو، وأصلها دلوو -على مثال فأس وفئوس وقبر وقبور، ثم قلبت الواو المتطرفة ياء فصار "دلوي" فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء، ثم قلبت ضمة الدال كسرة لمناسبة الياء المشددة، وهذه الأعمال إلى هنا واجبة كلها، ثم لك بعد ذلك أن تقلب ضمة الدال كسرة؛ لمناسبة ما بعدها ولأن الانتقال من ضمة إلى كسرة بعدها ياء مشددة ثقيل، ولك أن تبقيها على حالها، وتقول: قطع ماء الركية قطوعًا وقطاعا، تريد أنه انقطع أو قل، والولي -من مثال غني- أصله المطر ينزل بعد المطر، والمطر الأول يسمى الوسمي، وأراد الماء، والاستشهاد بهذه الأبيات في قوله "حتى تعودي أقطع الولي" فإن قوله "أقطع الولي" من صفات البئر، وقد علمت أن البئر مؤنثة، فمن حق ما توصف به أن يؤتى به على غرار صفات المؤنث، فكان من حق العربية عليه أن يقول "حتى تعودي قطعي الولي" إلا أنه لما كان من أسماء البئر القليب، وكان الأغلب على القليب التذكير، وصف البئر التي ذكرها في كلامه بالمذكر باعتبار أنها قليب، فحمل صفتها على المعنى، وهذا ظاهر إن شاء الله.

من معنى إلى معنى، والتنقل من معنى إلى معنى كثير في كلامهم كما قال الشاعر: [330] إن تميمًا خُلِقَتْ ملمومًا ... قومًا ترى واحدهم صِهْمِيما فقال "خُلِقَتْ" أراد به القبيلة، ثم قال "ملموما" أراد به الحي، ثم ترك لفظ الواحد وحقق مذهب الجمع فقال "قوما ترى واحدهم صهميما" والصهميم: هو الذي لا ينثني عن مراده، لأنا نقول1: نحن لا ننكر الحمل على المعنى في كلامهم، ولا التنقل من معنى إلى معنى، ولكن الظاهر ما صرنا إليه؛ لأن الحمل على اللفظ والمعنى2 أولى من الحمل على المعنى دون اللفظ، وجري الكلام على معنى واحد أولى من التنقل من معنى إلى معنى، فلما كان ما صرنا إلى أكثر في الاستعمال وأحسن في الكلام كان ما صرنا إليه أولى، وقال أبو دَهْبَلٍ الجمحي: [331] أنا أبو دهبل وَهْبٌ لِوَهَبْ ... من جُمَحٍ، والعزُّ فيهم والحَسَبْ

_ [330] هذان بيتان من الرجز المشطور أنشدهما مع بيتين آخرين ابن منظور "ص هـ م" قال: "والصهميم: السيد الشريف من الناس، ومن الإبل الكريم، والصهميم: الخالص في الخير والشر، مثل الصميم، قال الجوهري: والهاء عندي زائدة وأنشد أبو عبيد للمخيس: إن تميما خلقت ملموما ... مثل الصفا لا تشتكي الكلوما قوما ترى واحدهم صهميما ... لا راحم الناس ولا مرحوما قال ابن بري: صوابه أن يقول: وأنشد أبو عبيدة للمخيس الأعرجي، قال: كذا قال أبو عبيدة في كتاب المجاز في سورة الفرقان عند قوله عز وجل: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} [الفرقان: 11] فالسعير مذكر، ثم أنثه فقال: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا} [الفرقان: 12] وكذلك قوله "إن تميما خلقت ملموما" فجمع وهو يريد أبا الحي، ثم قال "لا راحم الناس ولا مرحوما" قال: هذا الرجز يروى في رجز رؤبة أيضا، وقال ابن بري: وهو المشهور" ا. هـ. فالأبيات تنسب إلى المخيس الأعرجي وإلى رؤبة بن العجاج، والأشهر الأعرف أنها لرؤبة بن العجاج، والملموم: اسم المفعول من اللم وهو الجمع الكثير الشديد، وهو أيضا مصدر قولهم "لم الشيء يلمه لما" إذا جمعه وأصلحه: والصفا: جمع صفاة وهي الصخرة الملساء، والكلوم جمع كلم وهو الجرح وزنا ومعنى. ومحل الاستشهاد قولهم "خلقت ملموما" فإنه قد جاء به كما يجيء بأوصاف المؤنث، فدل بهذا على أنه يريد بتميم القبيلة، وكذلك في قوله "لا تشتكي الكلوما" ثم بعد ذلك قال "قوما ترى واحدهم صهميما" فأجرى الكلام على أنه يريد الحي، وقد سمعت في كلام أبي عبيدة ما يؤيده. [331] أبو دهبل -بفتح الدال والباء بينهما هاء ساكنة، ويضبط بكسر الدال والباء وهو خطأ- اسمه وهب بن زمعة -بسكون الميم قبلها زاي مفتوحة- أحد بني جمح وكان رجلًا جميلًا =

فترك صرف "دهبل" وهو منصرف، وقال الآخر: [332] أخشى على دَيْسَمَ من بُعْدِ الثَّرَى ... أبى قضاءُ اللهِ إلا ما ترى فترك صرف "ديسم" وهو منصرف. فإذا صحت هذه الأبيات بأسرها دلَّ على صحة ما ذهبنا إليه. وأما من جهة القياس فإنه إذا جاز حذف الواو المتحركة للضرورة من نحو قوله: [333] فَبَيْنَاهُ يَشْرِي رَحْلَهُ قال قَائلٌ: ... لمن جَمَلٌ رِخْوُ المِلَاطِ نَجِيبُ

_ = شاعرًا عفيفًا، وقد قال الشعر في آخر خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأكثر مدائحه في عبد الرحمن بن الوليد بن عبد شمس بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم، وفي هذا البيت الذي أنشده المؤلف شاهدان: الأول: في قوله "أبو دهبل" حيث منعه من الصرف مع أنه علم على وزن جعفر، وليس فيه إلا العلمية، وقياس أمثاله أن ينون ويجر بالكسرة، لكنه لما اضطر لإقامة الوزن منعه من التنوين وجره بالفتحة، هذا بيان كلام المؤلف، لكن يقال على هذا: إن كلمة "دهبل" في الأصل فعل ماضٍ، قال في اللسان "التهذيب: ابن الأعرابي: دهبل؛ إذا كبر اللقم ليسابق في الأكل" ا. هـ. وقال ابن دريد في الاشتقاق "ص129" "دهبل دهبلة؛ إذا مشى مشيا ثقيلا" فإذا كان "دهبل" في الأصل فعلًا ماضيًا فيجوز أن يكون الشاعر رجع به إلى أصله فحكاه كما تحكى الجمل التي يسمى بها نحو يزيد ويشكر، وعلى هذا لا يكون في البيت شاهد لما ذكره المؤلف، والشاهد الثاني: في قوله "من جمح" فإن هذا الاسم أحد الأعلام المعدولة عن فاعل، ففيه العلمية والعدل، فكان يجب عليه أن يمنعه من الصرف، لكنه لما اضطر إلى تنوينه صرفه، ولا يختلف النحاة في أنه يجوز للشاعر عند الضرورة أن يصرف الاسم الذي لا ينصرف. [332] هذان بيتان من مشطور الرجز، وقد أنشد ابن منظور "د س م" هذين البيتين عن ابن دريد، من غير عزو، إلا أن عنده "من برد الثرى" والديسم في الأصل: ولد الدب، ويقال: إنه ولد الذئب من الكلبة، والديسم أيضًا: الظلمة، وسئل أبو الفتح صاحب قطرب -وكان اسم أبي الفتح هذا "ديسم"- فقال: الديسم: الذرة، وقد سمي به، ومحل الاستشهاد قوله "ديسم" فقد منعه من الصرف فترك تنوينه وجره بالفتحة مع أنه ليس فيه غير العلمية. قال ابن منظور: "ترك صرفه للضرورة" ا. هـ. [333] هذا البيت من شواهد رضي الدين في باب الضمير من شرح الكافية، وقد شرحه البغدادي في الخزانة "2/ 396" وشواهد ابن يعيش في شرح المفصل "82 و416" وابن جني في الخصائص "1/ 96" وكل هؤلاء الأعلام رووه على ما رواه المؤلف، وفي كلام البغدادي ما يفيد أن البيت من شواهد سيبويه في باب ما يحتمل الشعر، وقد راجعت كتاب سيبويه فلم أجده، والبيت من كلام العجير السلولي، إلا أن الذي في شعر العجير رويّه لام على هذا الوجه. فبيناه يشري رحله قال قائل: ... لمن جمل رخو الملاط ذلول؟ =

فَلأَن يجوز حذف التنوين للضرورة كان ذلك من طريق الأولى، وهذا لأن الواو من "هو" متحركة، والتنوين ساكن، ولا خلاف أن حذف الحرف الساكن أسهل من حذف الحرف المتحرك، فإذا جاز حذف الحرف المتحرك الذي هو الواو للضرورة فلأن يجوز حذف الحرف الساكن كان ذلك من طريق الأولى؛ ولهذا كان أبو بكر بن السراج من البصريين -وكان من هذا الشأن بمكان- يقول: لو صحت الرواية في ترك صرف ما ينصرف لم يكن بأبعد من قولهم: [333] فبيناه يشري رحله قال قائل ولما صحت الرواية عند أبي الحسن الأخفش وأبي علي الفارسي وأبي القاسم بن برهان من البصريين صاروا إلى جواز ترك صرف ما ينصرف في ضرورة الشعر واختاروا مذهب الكوفيين على مذهب البصريين، وهم من أكابر أئمة البصريين والمشار إليهم من المحققين. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز ترك صرف ما ينصرف لأن الأصل في الأسماء الصرف، فلو أنا جوزنا ترك صرف ما ينصرف لأدّى ذلك إلى ردّه عن الأصل إلى غير أصل، ولكان أيضا يؤدي إلى أن يلتبس ما ينصرف بما لا ينصرف؛ وعلى هذا يخرج حذف الواو، من "هو" في نحو قوله: [333] فبيناه يشري رحله قال قائل

_ = والبيت في وصف رجل أضل بعيره ويئس من عوده فأراد أن يبيع رحله فبينا هو يبيع رحله؛ إذ سمع من يعرف البعير ليطلبه صاحبه، شبه حاله مع من يحب بحال صاحب هذا البعير، والاستشهاد بالبيت في قوله "فبيناه" فإن أصل هذه الكلمة "فبينا هو" بضم الهاء وفتح الواو، والعلماء يختلفون في حذفها: هل حذفت وهي متحركة مفتوحة أو سكنت أولًا ثم حذفت وهي ساكنة؟ أما الأعلم فزعم أن الشاعر سكن الواو، ضرورة، ثم حذف هذه الواو الساكنة ضرورة أخرى، فأدخل ضرورة على ضرورة وأما ابن يعيش والمؤلف فكذا أن الشاعر حذفها وهي مفتوحة، ومن أمثال هذا البيت قول الشاعر وهو من شواهد سيبويه "1/ 12": بيناه في دار صدق قد أقام بها ... حينا يعللنا وما نعلله قال الأعلم: "أراد بينا هو، فسكن ضرورة، ثم حذف، فأدخل ضرورة على ضرورة" ا. هـ. ونظيره قول الراجز، وأنشده سيبويه أيضا: هل تعرف الدار على تبراكا؟ ... دار لسعدى إذه من هواكا قال الأعلام: "أراد إذ هي فسكن الياء أولا ضرورة، ثم حذفها ضرورة أخرى بعد الإسكان، تشبيها لها بعد سكونها بالياء اللاحقة في ضمير الغائب إذا سكن ما قبله والياء والواو اللاحقة له في هذا الحال، نحو عليه ولديه ومنه وعنه" ا. هـ. وقال ابن يعيش بعد أن أنشد البيت المستشهد به ههنا: "إنما هو فبينا هو، فحذف الواو من هو وهي متحركة من نفس الكلمة، وإذا جاز حذف ما هو من نفس الحرف كان حذف التنوين الذي هو زيادة للضرورة أولى: ا. هـ.

فإنه لا يؤدِّي إلى الالتباس، بخلاف حذف التنوين، فَبَانَ الفرق بينهما. والذي أذهب إليه في هذه المسألة مذهب الكوفيين؛ لكثرة النقل الذي خرج عن حكم الشذوذ، لا لقوته في القياس. وأما الجواب عن كلمات البصريين: أما قولهم "إنما لم يجز ترك صرف ما ينصرف لأنه يؤدّي إلى ردّه عن الأصل إلى غير أصل "قلنا: هذا يبطل بحذف الواو من "هو" في قوله: [333] فبيناه يشري رحله قال قائل خصوصًا على أصلكم، أن الواو عندكم أصلية لا زائدة كما هي على أصل الخصم زائدة: قولهم "إنما جاز1 لأنه لا يؤدي إلى الالتباس؛ بخلاف ما هنا" قلنا: الجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أنا لا نسلم أنه لا يؤدي ههنا إلى الالتباس؛ لأنك تقول "غزا هو" فيكون توكيدا للضمير المرفوع بأنه فاعل، فإذا حذفت الواو منه التبست الهاء الباقية بالهاء التي هي ضمير المنصوب بأنه مفعول نحو "غزاه" فإنه يجوز أن لا تمطل حركتها، قال الشاعر: [334] تراه كأن الله يَجْدَعُ أنفه ... وعينيه إن مولاه ثاب له وفر

_ [334] أنشد هذا البيت ابن منظور "ج د ع" ولم يعزه، وأنشده الجاحظ في الحيوان "6/ 40" ونسبه إلى خالد بن الطيفان، وأنشده ابن جني في الخصائص "2/ 431" والشريف المرتضى في أماليه "2/ 259 و375" والبيت من شواهد ابن الناظم في شرح الألفية في باب عطف النسق، وقد شرحه العيني "4/ 171" بهامش الخزانة، وقال "قائله هو الزبرقان بن بدر، قاله كراع، ونسبه الجاحظ لخالد بن الصليفان "هكذا" وقبله: ومولى كمولى الزبرقان دملته ... كما دملت ساق يهاض بها كسر إذا ما أحالت والجبائر فوقها ... مضى الحول، لا برء مبين، ولا جبر ومولى الزبرقان الذي يشير إليه صاحب البيت المستشهد به هو -كما في الحيوان 6/ 39- علقمة بن هوذة وفيه يقول الزبرقان: لي ابن عم لا يزا ... ل يعيبني ويعين عائب والنحاة يستشهدون بهذا البيت في قوله "وعينيه" فإن هذه الكلمة لا يصح أن تكون معطوفة على قوله "أنفه" لأنها لو كانت معطوفة على أنفه لكانت معمولة لقوله يجدع ضرورة أن =

وكذلك الهاء أيضًا في سائر المنصوبات؛ فإنه يجوز أن لا تُمْطَلَ حركتُها في الشعر كضمير المجرور؛ فإنهم يسوُّون بينهما في ذلك، قال الشاعر: [335] له زجل كأنه صوتٌ حادٍ ... إذا طلب الوسيقة أو زَمِيرُ وقال الآخر: [336] أو مُعْبَرُ الظَّهْرِ يَنْأَى عن وَلِيَّتِهِ ... ما حجَّ ربُّهُ في الدنيَا ولا اعْتَمَرَا

_ = المعطوف يشارك المعطوف عليه في تسلط عامله عليه، ولا يصح ذلك؛ لأن الجدع في لسان أهل هذه اللغة خاص بالأنف، فلا يجوز أن تقول: جدعت عينيه، ولا جدعت يديه، ولا جدعت أذنيه، وما أشبه ذلك، ولهذا كان قوله "وعينيه" عندهم مفعولا به لفعل محذوف تقديره "ويفقأ عينيه" وتكون جملة هذا الفعل معطوفة بالواو على جملة الفعل السابق، قال السيد المرتضى "أراد ويفقأ عينيه، لأن الجدع لا يكون بالعين، واكتفى بيجدع من يفقأ" ا. هـ. والمؤلف قد أنشد هذا البيت ليستشهد به على أن الشاعر قد يمطل حركة ضمير الغائب المتصل -أي يمدها فينشأ عنها حرف مد يجانس حركتها- وقد لا يمطلها، وبيان ذلك أنك تقول "أعطيته مما له عندي" فتمطل الهاء في "أعطيته" وفي "له" والأولى في محل نصب والثانية في محل جر -حتى ينشأ من ضمة كل منهما واو، ويجوز أن تكتفي بالضمة في كل كلمة منهما، وأن تمطل واحدة وتدع أخرى بلا مطل، كل ذلك جائز، وليس واحد من الوجهين بأولى من الآخر، وقد جمع الشاعر صاحب هذا الشاهد بين الوجهين في هذا البيت؛ فقد مطل الهاء في "أنفه" واكتفى بالحركة من غير مطل في "وعينيه". [335] هذا البيت من كلام الشماخ بن ضرار الغطفاني يصف حمار وحش، وهو من شواهد سيبويه "1/ 11" وابن جني في الخصائص "1/ 127" والزجل -بالتحريك- صوت فيه حنين وترنم، والحادي: الذي يتغنى أمام الإبل ويطربها لكي يعينها على السير وألا تمل، والزمير: صوت المزمار، والوسيقة: أراد به أنثى حمار الوحش. يقول: إذا طلب أنثاه صوت بها وكأنه صوته -لما فيه من الحنين، ومن حسن الترجيع والتطريب- صوت حاد يتغنى بإبل أو صوت مزمار. والاستشهاد بالبيت ههنا في قوله "كأنه صوت حاد" فإن الشاعر لم يمطل الضمة التي على ضمير الغائب في كأنه حتى تنشأ عنها واو، بل اختلس الضمة اختلاسًا، وهذا بين بعد ما ذكرناه في شرح الشاهد السابق. [336] وهذا البيت أيضا من شواهد سيبويه "1/ 12" ونسبه لرجل من باهلة، ولم يزد الأعلم في نسبته على ذلك، والشاعر يصف بعيرا لم يستعمله صاحبه في سفر لحج أو عمرة، ومعبر الظهر: ممتلئة باللحم مع كثرة وبره، والولية: البرذعة، وأراد بقوله "ينأى عن وليته" أنه يعسر وضعها عليه لكونه قد اشتد سمنه وكثر وبره، وكان ينبغي أن يقول "تنأى عنه وليته" لكنه قلب، ووجهه أنه إذا نأى عنها فإنه يجعلها تنأى عنه، وربه: أي صاحبه. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "ربه" فإنه اختلس الضمة التي على ضمير الغائب المجرور اختلاسًا، ولم يشبع هذه الضمة حتى تنشأ عنها واو، على نحو ما قررناه في شرح الشاهد رقم 334.

وقال الآخر: [337] فما له من مجد تلِيدٍ، ومَالَهُ ... من الريح فضلٌ لا الجنوبُ ولا الصَّبَا وقال الآخر: [338] فإن يَكُ غثًّا أو سمينًا فإنني ... سأجعل عينيه لنفسه مَقْنَعَا وقال الآخر: [339] وأيقن أن الخيل إن تَلْتَبِسْ به ... يكن لفَسِيل النخل بعده آبِرُ

_ [337] هذا البيت للأعشى ميمون بن قيس "د90" وهو من شواهد سيبويه "1/ 12" ونسبه للأعشى، وتبعه الأعلم، وهو البيت الرابع والعشرون من قصيدة له مطلعها: كفى بالذي تولينه لو تجنبا ... شفاء لسقم بعد ما كان أشيبا والأعشى يهجو في البيت رجلا بأنه لئيم الأصل لم يرث مجدا ولا كسب خيرًا، فضرب له المثل بنفي حظه من الريحين والجنوب والصبا لأن الجنوب والصبا أكثر الرياح عندهم خيرًا، والجنوب تلقح السحاب، والصبا تلقح الأشجار، وقد يتأول على أنه لا خير عنده ولا شر، كما يقال: فلان لا ينفع ولا يضر، أي أنه ليس بشيء يعبأ به. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "وما له من مجد" حيث اختلس ضمه الهاء اختلاسًا ولم يشبعها حتى تنشأ عنها واو، ولكن رواية المؤلف ورواية سيبويه من قبله تخالف رواية الديوان، فقد ورد البيت في الديوان هكذا: وما عنده مجد تليد، وما له ... من الريح فضل، لا الجنوب ولا الصبا والهاء في "عنده" على هذه الرواية مشبعة غير مختلسة، وسيبويه غير متهم فيما يرويه عن العرب. [338] هذا البيت من كلام مالك بن خريم -بالخاء المعجمة، بوزن المصغر- وهو من شواهد سيبويه "1/ 10" وقد نسبه إليه، وأقر الأعلم هذه النسبة. يصف الشاعر ضيفًا نزل به، وأنه سيقدم إليه ما عنده من القرى، ويحكمه فيه ليختار منه أفضل ما تقع عليه عيناه، فيقنع بذلك. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "لنفسه" فإن الشاعر قد اختلس كسرة الهاء اختلاسًا، ولم يمطلها حتى تنشأ عنها ياء، وذلك مما يقع في الشعر، وهو مثل ما ذكرناه في الشواهد السابقة. [339] وهذا البيت أيضًا من شواهد سيبويه "1/ 11" ونسبه إلى حنظلة بن فاتك، وأقر الأعلم هذه النسبة، قال الأعلم: "والبيت يتأول على معنيين، أحدهما -وهو الأصح: أن يكون وصف جبانًا، فيقول: أيقن هذا الرجل أنه إن التبست به الخيل قتل فصار ماله إلى غيره، فكع وانهزم. والمعنى الآخر أن يكون وصف شجاعًا فيقول: قد علم أنه إن ثبت وقتل لم تتغير الدنيا بعده وبقي من أهله من يخلفه في حرمه وماله، فثبت ولم يبال بالموت" ا. هـ. والخيل: أراد بها خيل الفرسان في الحرب، وفسيل النخل -بفتح الفاء- صغاره، والآبر: الذي يصلح النخل، وعمله الإبار، ومحل الاستشهاد من البيت قوله: "بعده" حيث اختلس ضمه الهاء اختلاسًا ولم يمطلها حتى تنشأ عنها واو، على نحو ما ذكرناه في الشواهد السابقة.

211- وقال الآخر: [340] أَنَا ابْنَ كِلَابٍ وابْنُ أوْس؛ فمن يَكُنْ ... قِنَاعُهُ مُغْطِيًّا فإني مُجْتَلَى وقال الآخر: [341] لأَعْلِطَنَّهُ وسمًا لا يُفَارِقُهُ ... كما يُحَز بحمَّى المَيسَمِ البَحِرُ وقال الآخر: [342] لي والدٌ شيخٌ تَهِضْهُ غَيْبَتِي ... وأظن أن نفاد عُمْرِهِ عَاجِلُ

_ [340] أنشد ابن منظور هذا البيت "غ ط ى" من غير عزو. وتقول: غطى الشيء يغطيه غطيًا -من مثال رماه يرميه رميا- إذا ستره، وتقول "فلان مغطى" تريد أنه خامل الذكر لا نباهة له، وقال حسان بن ثابت: رب حلم أضاعه عدم الما ... ل وجهل غطى عليه النعيم وقول صاحب الشاهد "فإني مجتلى" حكى ابن منظور أنه يروى "فإني لمجتلى" والمراد فإني نابه الذكر محمود الأثر، وهو في هذا الموضع قريب من قولهم "هو ابن جلا" ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "قناعه" حيث اختلس الشاعر ضمه الهاء اختلاسًا، ولم يمطلها حتى تنشأ عنها واو، والكلام فيه كالكلام في الشواهد السابقة. [341] أنشد منظور هذا البيت "ب ح ر" من غير عزو، وأعلطنه: أصل هذه المادة العلاط -بوزن الكتاب- وهو صفحة العنق من كل شيء، والعلاطان: صفحتا العنق من الجانبين، ثم سموا السمة في عرض عنق البعير أو الناقة علاطًا، فإن كانت السمة بالطول سموها سطاعا، وقالوا: علط البعير والناقة يعلطهما -من بابي ضرب ونصر- إذا وسمهما، وقالوا أيضا "علطه" بالتشديد للكثرة، وقالوا: علطه بالقول -أو بالشر- إذا رماه بعلامة يعرف بها، والعلاط -بالكسر- الذكر بالسوء. والوسم: العلامة، والميسم -بكسر الميم الأولى- اسم الآلة من الوسم، والبحر -بفتح الباء وكسر الحاء- الوصف من البحر -بالتحريك- وهو أن يلقى البعير بالماء فيكثر منه حتى يصيبه منه داء، يقال: بحرا يبحر بحرا -من مثال فرح يفرح فرحا- فإذا أصابه هذا الداء كوي في موضع فيبرأ، قاله الفراء، وقال الأزهري: الداء الذي يصيب البعير فلا يروى بالماء هو النجر أو البجر -بالنون والجيم أو بالباء والجيم- وأما البحر فهو داء يورث السل، وأبحر الرجل؛ إذا أخذه السل، ورجل بحير وبحر: مسلول ذاهب اللحم، عن ابن الأعرابي، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "لأعلطنه" حيث اختلس ضمة الهاء اختلاسا، ولم يمطلها حتى تنشأ عنها واو، على مثال ما ذكرناه في شرح الشواهد السابقة. [342] الشيخ: من استبانت فيه السن، وقيل: الرجل شيخ متى بلغ خمسين سنة إلى آخر عمره، وقيل: إلى الثمانين، وتهضه: مضارع "هاض العظم يهيضه هيضا" مثل باعه يبيعه بيعا -إذا كسره بعد ما كاد ينجبر، وكل وجع على وجع فهو هيض، وتقول "هاضني هذا الأمر" إذا ردك في مرضك، وقد عامل قوله "تهضه" معاملة المجزوم وإن لم يسبقه جازم، وقد كان =

والوجه الثاني: أنه يبطل بصرف ما لا ينصرف، فإنه يوقع لبسًا بين ما ينصرف وما لا ينصرف في نحو قوله: [343] قواطنًا مكة من وُرْقِ الحَمِي وكذلك سائر ما لا ينصرف، ومع هذا فقد وقع الإجماع على جوازه، فكذلك ههنا. فإن قالوا: الكلام به يتحصل القانون دون الشعر1، وصرف ما لا ينصرف لا يوقع لبسا بين ما ينصرف وما لا ينصرف؛ لأنه لا يلتبس ذلك في اختيار الكلام. قلنا: وهذا هو جوابنا عما ذكرتموه؛ فإنه إذا كان الكلام هو الذي يتحصل به القانون دون الشعر، فترك صرف ما ينصرف في ضرورة الشعر لا يوجب لبسًا بين ما ينصرف وما لا ينصرف؛ إذ لا يلتبس ما ينصرف وما لا ينصرف في اختيار الكلام، والله أعلم.

_ = من حق العربية عليه أن يقول: "تهيضه غيبتي" إلا أنه حذف الياء كما يحذفها لو أن الفعل كان مجزومًا، ونفاد عمره: ذهابه وزواله، ومحل الاستشهاد في البيت قوله "عمره" فقد اختلس كسرة الهاء -وهي ضمير الغائب العائد إلى والد- اختلاسًا، ولم يشبعها حتى تتولد عنها ياء، وهو نظير ما تقدم في شرح الشواهد السابقة. [343] هذا بيت من الرجز المشطور، وهو من شواهد سيبويه "1/ 8" ونسبه إلى العجاج، وقد أنشده ابن منظور "ح م م" ثالث ثلاثة أبيات، ونسبها إلى العجاج وهي في روايته هكذا: ورب هذا البلد المحرم ... والقاطنات البيت غير الريم قواطنا مكة من ورق الحمى وهو من شواهد ابن عقيل "رقم 262" وشرحه العيني "3/ 554 في هامش الخزانة" والقاطنات: جمع قاطنة، وهي اسم الفاعل المؤنث من "قطن المكان يقطنه" إذا أقام فيه، والريم: جمع رائمة، وهي اسم الفاعل المؤنث من "رام الموضع يرميه" إذا فارقه وتركه، ويروى "أوالفا" وهو جمع آلفة، ومهما يكن من شيء فإن في قوله "أوالفا" أو "قواطنا" صرف الاسم الذي لا ينصرف؛ فإنه على صيغة منتهى الجموع، وكان عليه أن ينصبه بالفتحة من غير تنوين، إلا أنه لما اضطر إلى إقامة الوزن نونه.

مسألة القول في علة بناء "الآن"؟

71- مسألة: [القول في علّة بناء "الآن"؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "الآن" مبنيّ؛ لأن الألف واللام دخلتا على فعل ماضٍ من قولهم: "آن يَئِينُ" أي حان، وبقي الفعل على فتحته. وذهب البصريون إلى أنه مبنيّ لأنه شابه اسم الإشارة، ولهم فيه أيضًا أقوال أُخَرُ نذكرها في دليلهم. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن الألف واللام فيه بمعنى الذي، ألا ترى أنك إذا قلت "الآن كان كذا" كان المعنى: الوقت الذي آن كان كذا، وقد تُقَامُ الألف واللام مقام الذي لكثرة الاستعمال طلبًا للتخفيف، قال الفرزدق: [344] ما أنت بالحَكَمِ التُرْضَى حُكُومَتُهُ ... ولا البَلِيغِ ولا ذِي الرَّأْيِ والجَدَلِ

_ [344] هذا البيت من كلام الفرزدق همام بن غالب يهجو فيه رجلا من بني عذرة، وهو من شواهد الأشموني "رقم 97" وأوضح المسالك "رقم 30" وشذور الذهب "رقم 2" وقد شرحه العيني "1/ 111 بهامش الخزانة" والحكم -بالتحريك الذي يحكمه الخصمان ليفصل بينهما، والبليغ: اللسن الفصيح، ويروى في مكان هذه الكلمة "ولا الأصيل" والأصيل: الحسيب، والجدل -بالتحريك- شدة الخصومة. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "الترضى" حيث دخلت ال الموصولة على الفعل المضارع، وهذا يدل على أن الموصولة لا تدل على أن ما دخلت عليه اسم، لأنها تدخل على الاسم نحو القائم والمضروب، وعلى الفعل وغيره كما في بيت الشاهد وما يليه من الشواهد.

أراد "الذي تُرْضَى" وقال الآخر: [345] بل القوم الرسول الله فيهم ... هم أهل الحكومة من قُصِيِّ وقال الآخر: [91] يقول الخَنَا وأبغض العُجْمِ نَاطِقًا ... إلى ربنا صوت الحمار اليجدع ويستخرج اليربوع من نَافِقَائِهِ ... ومن جُحره بالشّيحة اليَتَقَصَّعُ أراد "الذي يُجَدَّعُ، والذي يَتَقَصَّعُ" فكذلك ههنا في الآن، وبقي الفعل على فتحته، كما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنه نَهَى عن قيل وقال" وهما فعلان ماضيان، فأدخل عليهما حرف الخفض وبَقَّاهما على فتحهما، وكذلك قولهم "من شَبّ إلى دَبَّ" بالفتح؛ يريديون من أن كان صغيرًا إلى أن دَبَّ كبيرًا، فَبَقُّوا الفتح فيهما، فكذلك ههنا. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن سبيل الألف واللام أن يدخلا لتعريف الجنس، كقوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] وكقولهم "الرجل خير من المرأة" وكقولهم "أهلك الناس الدينار والدرهم" أو لتعريف العهد، كقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15، 16] أو يدخلا على شيء قد غلب عليه نعته فعرف به، كقولك: الحارث، والعباس، والسِّمَاك، والدَّبَرَان؛ فلما دخلا ههنا على غير ما ذكر ودخلت على معنى الإشارة إلى الوقت الحاضر صار معنى قولك "الآن" كقولك: هذا الوقت، فشابه اسم الإشارة، واسم الإشارة مبنيّ؛ فكذلك ما أشبهه، وكان الأصلُ فيه أن يبنى على السكون إلا أنه بني على حركة لالتقاء الساكنين، وكانت الفتحة أولى لوجهين: أحدهما: أنها أَخَفُّ الحركات وأشكلها بالألف والفتحة التي قبلها فأتبعوها

_ [345] وقع في كتب النحاة بيت يشبه أن يكون هو هذا البيت لولا اختلاف يسير، والبيت المشار إليه هو: من القوم الرسول الله منهم ... لهم دانت رقاب بني معد وهو من شواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 67" وابن عقيل "رقم 31" والأشموني "رقم 108" ودانت: خضعت وانقادت وذلت، ومعد: هو ابن عدنان أبو العرب الحجازية كلهم، وبنو قصيّ: هم قريش، وبنو هاشم قوم النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم: ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "الرسول الله منهم" فإن ال في أول هذه العبارة موصولة، والأصل في صلة ال الموصولة أن تكون صفة صريحة كاسم الفاعل واسم المفعول، ولكن الشاعر قد جاء في هذا الكلام بصلة ال الموصولة جملة اسمية من مبتدأ وخبر كما تكون صلة الذي وفروعه، وكأنه قال: من القوم الذين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم.

الألف والفتحة التي قبلها كما أتبعوا ضمة الذال التي في "مُنْذُ" ضمة الميم، وإن كان حق الذال أن تكسر لالتقاء الساكنين. والوجه الثاني: أن نظائرها من الظروف المستحقة لبناء أواخرها على حركة كأين وأيان بنيت على الفتح؛ فكذلك "الآن" لمشاركتها لهما في الظرفية. ومنهم من قال، وهو أبو العباس المبرد: إنما بني "الآن" لأنه وقع في أول أحواله بالألف واللام، وسبيل ما يدخل عليه الألف واللام، أن يكون منكورًا أولا ثم يعرف بهما، فلما خالف سائر أخواته من الأسماء وخرج إلى غير بابه بُنِيَ. ومنهم من قال، وهو أبو سعيد السيرافي: إنما بني لأنه لما لزم موضعًا واحدًا أشبه الحرف؛ لأن الحروف تلزم مواضعها التي وضعت فيها في أوليتها، والحروف مبنية؛ فكذلك ما أشبهها. ومنهم من قال، وهو أبو علي الفارسي: إنما بني لأنه حذف منه الألف واللام وضمن الاسم معناهما، وزيدت فيه ألف ولام أُخْرَيان. وبني على الفتح في جميع الوجوه؛ لما ذكرناه في الوجه الأول، وهو الذي عليه سيبويه وأكثر البصريين. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن الألف واللام فيه بمعنى الذي "قلنا" هذا فاسد؛ لأن الألف واللام إنما يدخلان على الفعل وهما بمعنى الذي في ضرورة الشعر كما أنشدوه من الأبيات، لا في اختيار الكلام؛ فلا يكون فيه حجة. وأما ما شبهوه به من نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن قيل وقال فليس بمشبه له؛ لأنه حكاية، والحكايات تدخل عليها العوامل فَتُحْكَى، ولا تدخل عليها الألف واللام؛ لأن العوامل لا تغير معاني ما تخل عليه كتغيير الألف واللام، ألا ترى أنك تقول: "ذهب تأبط شرًّا، وذَرَّى حبًا، وبرق نحره، ورأيت تأبط شرا، وذرى حبا، وبرق نحره، ومررت بتأبط شرا، وذرى حبا، وبرق نحره" ولا تقول: هذا التأبط شرا، ولا الذرى حبا، ولا البرق نحره، وما أشبه ذلك، وكذلك تقول: رفعنا اسم كان بكان، ونصبنا اسم إن بإن، ولا تقول رفعناه بالكان ونصبناه بالإنّ، فبان الفرق بينهما؛ وهذا هو الجواب عن قولهم "من شَبَّ إلى دَبَّ" على أنه لو أخرجت هذه الأشياء إلى الأسماء فقيل "عن قيلٍ وقالٍ"، "ومن شبٍّ إلى دبٍّ" فأدخلت الجر والتنوين لكان ذلك جائزًا بالإجماع، على أنه قد صحّ عن العرب أنهم قالوا: من شب إلى دب -بالجر والتنوين- وقد حكى ذلك أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء من أصحابكم، وذلك ألزم لكم وأوفى حجة عليكم، والله أعلم.

مسألة فعل الأمر معرب أو مبني؟

72- مسألة [فعل الأمر معرب أو مبنيّ؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن فعل الأمر للمُوَاجَهِ المُعَرَّى عن حرف المضارعة -نحو افعل- معربٌ مجزومٌ. وذهب البصريون إلى أنه مبني على السكون. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه معرب مجزوم لأن الأصل في الأمر للمُوَاجَهِ في نحو: "افْعَلْ" لِتَفْعَلْ، كقولهم في الأمر للغائب "ليفعل" وعلى ذلك قوله تعالى: "فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ" [يونس: 58] في قراءة من قرأ بالتاء من أئمة القرَّاء، وذُكِرَتِ القِرَاءةُ أنها قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- من طريق أُبَيِّ بن كعب، ورويت هذه القراءة عن عثمان بن عفان وأنس بن مالك والحسن البصري ومحمد بن سيرين وأبي عبد الرحمن السلمي وأبي جعفر يزيد بن القعقاع المدني وأبي رجاء العُطَارديّ وعاصم الجَحْدَريّ وأبي التَّيَّاح وقتادة والأعرج وهلال بن يِسَاف والأعمش وعمرو بن فائد وعلقمة بن قيس ويعقوب الحضرمي وغيرهم من القراء. وقد جاء في الحديث "ولتَزُرَّهُ ولو بِشَوْكَةٍ" أي زُرَّهُ، وجاء عنه -صلوات الله- عليه أنه قال في بعض مغازيه: "لتأخذوا مصافّكم" أي خذوا، وقال -صلوات الله عليه- مرة أخرى "لِتَقُومُوا إلى مَصَافِّكم" أي قوموا، وقال الشاعر: [346] لِتَقُمْ أنت يابْنَ خير قريش ... فَتُقَضَّى حَوَائجُ المسْلِمينَا

_ [346] هذا البيت من شواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 379" وأنشده مرتين "في ص227 و552" ولم يتحدث عنه السيوطي في شرح شواهده، ويروى "كي لتقضى حوائج المسلمينا" ويروى "فلتقضى حوائج المسلمينا". وتقول: قضى فلان الشيء؛ تريد عمله، وقال الشاعر، وهو أبو ذؤيب الهذلي: وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع =

...................................................................

_ = مسرودتان: أراد درعين، والسوابغ: جمع سابغة، وهي الدرع أيضا، وفي القرآن الكريم {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 11] أي دروعا سابغات. والحوائج: جمع حاجة، على غير قياس، كأنهم جمعوا حائجة، وكان الأصمعي ينكر هذا الحرف ويدعي أنه مولد، قال ابن بري "إنما أنكره الأصمعي لخروجه عن قياس جمع حاجة، والنحويون يزعمون أنه جمع لواحد لم ينطق به وهو حائجة، وذكر بعضهم أنه سمع حائجة لغة في الحاجة، وأما قول الأصمعي إنه مولد فإنه خطأ منه؛ لأنه قد جاء ذلك في حديث سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي أشعار العرب الفصحاء، فمما جاء في الحديث ما روي عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن لله عبادا خلقهم لحوائج الناس، يفزع الناس إليهم في حوائجهم، أولئك الآمنون يوم القيامة" ومما جاء في أشعار العرب الفصحاء قول أبي سلمة المحاربي: ثممت حوائجي، ووذأت بشرًا ... فبئس معرس الركب السغاب ثممت -بالثاء المثلثة-: أصلحت. وقال الشماخ: تقطع بيننا الحاجات إلا ... حوائج يعتسفن مع الجريء وقال الأعشى: الناس حول قبابه ... أهل الحوائج والمسائل وقال الفرزدق: ولي ببلاد السند عند أميرها ... حوائج جمات وعندي ثوابها وقال هميان بن قحافة: حتى إذا ما قضت الحوائجا ... وملأت حلابها الخلانجا" ا. هـ. وقول الشاعر في البيت المستشهد به "فتقضى" هو بتشديد الضاد في هذه الرواية نظير ما أنشده ابن خالويه: خليلي إن قام الهوى فاقعدا به ... لعنا نقضى من حوائجنا رما وفي الرواية الأخرى "كي لتقضى" هو بالتخفيف من مثال رمى يرمى. ثم إن قرأت هذا الفعل بالبناء للمعلوم في أي الروايتين كنت قد عاملت الفعل المعتل بالياء في حال النصب كما تعامله في حال الرفع فقدرت الفتحة على الياء ومن حقها أن تظهر، وإن قرأته بالبناء للمجهول كانت الفتحة مقدرة على الألف، وكان قوله "حوائج المسلمينا" مرفوعًا على أنه نائب الفاعل، ونرى لك أن تقرأ هذه القراءة. والاستشهاد بالبيت في قوله "لتقم" حيث إن الشاعر استعمل أمر المخاطب بالفعل المضارع المقرون بلام الأمر، وهو الأصل. وقد رجح ابن هشام في مغني اللبيب رأي الكوفيين في هذه المسألة، قال "وزعم الكوفيون وأبو الحسن أن لام الطلب حذفت حذفًا مستمرًا في نحو قم واقعد، وأن الأصل لتقم ولتقعد، فحذفت اللام للتخفيف، وتبعها حرف المضارعة، وبقولهم أقول: لأن الأمر معنى حقه أن يؤدى بالحرف، ولأنه أخو النهي ولم يدل على النهي إلا بالحرف، ولأن الفعل إنما وضع لتقييد الحدث بالزمان المحصل، وكونه أمرًا أو خبرًا خارج عن مقصوده، ولأنهم قد نطقوا بذلك الأصل كقوله "لتقم أنت.. البيت" وكقراءة جماعة "فبذلك فلتفرحوا" وفي الحديث =

وقال الآخر: [347] فلتكن أبعد العُدَاةِ من ... الصلح من النجم جَارُهُ العَيُّوقُ وقال الآخر: [348] لتبعد إذ نأى جَدْوَاكَ عنِّي ... فلا أشقى عليك ولا أُبَالِي

_ = "لتأخذوا مصافكم" ولأنك تقول: اغز واخش وارم واضربا واضربوا واضربي كما تقول في الجزم، ولأن البناء لم يعهد كونه بالحذف، ولأن المحققين على أن أفعال الإنشاء مجردة عن الزمان كبعت وأقسمت وقبلت، وقد أجابوا عن كونها -مع ذلك- أفعالا بأن تجردها عارض لها عند نقلها عن الخبر، ولا يمكنهم ادعاء ذلك في نحو قم؛ لأنه ليس له حالة غير هذه، وحينئذ فتشكل فعليته. فإذا ادعى أن أصله "لتقم" كان الدال على الإنشاء اللام، لا الفعل" وهو كلام دقيق، وفيه كل ما ذكره المؤلف عنهم وزيادة، فاحرص عليه. [347] النجم: أراد به ههنا الثريا، والعيوق -بفتح العين وتشديد الياء مضمومة- قال الجوهري: "نجم أحمر مضيء في طرف المجرّة الأيمن؛ يتلو الثريا، ولا يتقدم، وأصله فيعول، فلما التقى الياء والواو والأولى ساكنة صارتا ياء مشددة" ا. هـ. وفي قوله "من النجم" إشكال، فإن "من" التي تدخل على المفضول إنما تلحق أفعل التفضيل إذا كان نكرة، تقول: زيد أشرف منك نسبًا، وأضوأ منك وجهًا، فإذا ألحقت ال بأفعل التفضيل أو أضفته لم تأتِ بمن مع المفضول، تقول: زيد الأشرف نسبا، والأضوأ وجها، وزيد أشرف الناس نسبا، وأضوأ الناس وجها، ولا تأتي بمن، فلا تقول: زيد الأشرف منك نسبا والأضوأ منك وجها، وزيد أشرف الناس منك وجها، وزيد أضوأ الناس منك وجها، ولهذا كان قوله "من النجم" محل كلام كقول الأعشى ميمون: ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر وكقول قيس بن الخطيم الأنصاري: نحن بغرس الودي أعلمنا ... منا بركض الجياد في السدف ويمكن أن يتمحل في بيت الشاهد مثل الذي تمحله النحاة في بيت الأعشى وبيت قيس، فيدعى أن "من" هذه ليست متعلقة بأبعد المذكور المضاف إلى "العداة" ولكنها متعلقة بأبعد آخر محذوف ليس مضافًا، وتقدير الكلام على هذا: لتكن أبعد العداة من الصلح أبعد من النجم.... إلخ، فأما "من" في قوله "من الصلح" فليست هي من التي يمتنع لحاقها لأفعل التفضيل المقرون بال أو المضاف، وذلك لأنها ليست "من" الداخلة على المفضول، والممنوع هو من التي تدخل على المفضول، ولهذا كان قول الشاعر: فهم الأقربون من كل خير ... وهم الأبعدون من كل ذم صحيحًا لا غبار عليه. ومحل الاستشهاد بالبيت ههنا قوله "فلتكن أبعد.... إلخ" حيث أمر المخاطب بالفعل المضارع المبدوء بتاء المضارعة المقرون بلام الأمر، على ما هو الأصل في هذا المعنى، وقد ذكرنا مثله في شرح الشاهد السابق. [348] الجدوى -بوزن التقوى- العطية، والجدا -بالفتح- مثله، وتقول: جدا عليه يجدي =

فثبت أن الأصل في الأمر للمواجهة [في نحو افعل] أن يكون باللام نحو لتفعل كالأمر للغائب، إلا أنه لما كثر استعمال الأمر للواجه في كلامهم وجرى على ألسنتهم أكثر من الغائب استثقلوا مجيء اللام فيه مع كثرة الاستعمال فحذفوها مع حرف المضارعة طلبا للتخفيف، كما قالوا "أيش" والأصل: أيّ شيء، وكقولهم "عِمْ صباحا" والأصل فيه: انْعِم صباحا، من نعم ينعم بكسر العين في أحد اللغتين، وكقولهم "وَيْلُمِّهِ" والأصل فيه: ويل أمه، إلا أنهم حذفوا في هذه المواضع لكثرة الاستعمال، فكذلك ههنا: حذفوا اللام لكثرة الاستعمال؛ وذلك لا يكون مزيلا لها عن أصلها ولا مبطلا لعملها. ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أنه معرب مجزوم أنا أجمعنا على أن فعل النهي معرب مجزوم نحو "لا تفعل" فكذلك فعل الأمر نحو "افعل" لأن الأمر ضد النهي، وهم يحملون الشيء على ضده كما يحملونه على نظيره، فكما أن فعل النهي معرب مجزوم فكذلك فعل الأمر. ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أنه معرب مجزوم بلام مقدرة أنك تقول في المعتل "اغْْزُ، وارْمِ، واخش" فتحذف الواو والياء والألف كما تقول "لم يغزُ، ولم يرمِ، ولم يخشَ" بحذف [حرف] العلة؛ فدل على أنه مجزوم بلامٍ مقدرة. قالوا: ولا يجوز أن يقال "إن حرف الجر لا يعمل مع الحذف فحرف الجزم أولى؛ لأن حرف الجر أقوى من حرف الجزم؛ لأن حرف الجر من عوامل الأسماء، وحرف الجزم من عوامل الأفعال، وعوامل الأسماء أقوى من عوامل الأفعال، فإذا كان الأقوى لا يعمل مع الحذف فالأضعف أولى" لأنا نقول: قولكم "إن حرف الجر لا يعمل مع الحذف" لا يستقيم على أصلكم؛ فلا يصلح إلزامًا لكم؛ فإنكم تذهبون إلى أن "رُبَّ" تعمل الخفض مع الحذف بعد الواو والفاء وبل، وإعمالها بعد الواو نحو قول الراجز: [236] وبَلَدٍ عامِيَةٍ أَعَماؤُهُ ... كأن لون أرضه سماؤه

_ = جدى، وكذلك أجداه: أي أعطاه، وفلان قليل الجدا على قومه، وقال أبو العيال الهذلي: بخلت فطيمة بالذي توليني ... إلا الكلام، وقلما تجديني وقوله: "لتبعد" أراد لتهلك فما في حياتك خير، ونأى: بعد، وقوله "فلا أشقى عليك ولا أبالي" يريد إن هلكك يذهب عني ما أنا فيه من الشقاء بحياتك. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "لتبعد" حيث أمر المخاطب بالفعل المضارع المبدوء بتاء المضارعة المقرون بلام الأمر، على نحو ما قررناه في شرح الشاهد السابق.

أي: ورُبَّ بلد، وإعمالها بعد الفاء نحو قول الشاعر: [240] فَحُورٍ قد لَهَوْتُ بِهِنَّ عِينٍ أي: فرُبَّ حورٍ، وإعمالها بعد بل نحو قول الراجز: [349] بل بلد ملءُ الفجاجِ قَتَمُهْ ... لا يَشْتَرِي كَتّانُهُ وجَهْرَمُهْ أي: بل رب بلد، فأعملتم "رب" في هذه المواضع مع الحذف، وهي حرف خفض وهذه مناقضة ظاهرة؛ فدل على أن حرف الخفض قد يعمل مع الحذف، على أنه قد حكى نَقَلَةُ اللغة عن رؤبة أنه كان إذا قيل له: كيف أصبحت، يقول: خيرٍ عافاك الله، أي: بخير، فيعمل [حرف] الخفض مع الحذف. وكذلك أيضا مَنْعُكُمْ إعمال حرف الجزم1 مع الحذف لا يستقيم أيضا على أصلكم، فإنكم تذهبون إلى أن حرف الشرط يعمل مع الحذف في ستة مواضع، وهي: الأمر، والنهي، والدعاء، والاستفهام، والتمني، والعرض، والأمر نحو: ايتني آتك، والنهي: لا تفعل يكن خيرًا لك، والدعاء: اللهم ارزقني بعيرًا أحجَّ عليه، والاستفهام: أين بيتك أزرك، والتمني: ألا ماء أشربه، والعرض: ألا تنزل أكرمك، فأعملتم حرف الشرط مع الحذف في هذه المواضع كلها لتقديره فيها.

_ [349] هذان بيتان من الرجز المشطور، وهما من كلام رؤبة بن العجاج من أرجوزة طويلة يمدح فيها أمير المؤمنين أبا العباس السفاح أول الخلفاء العباسيين، وأول هذه الأرجوزة قوله: قلت لزير لم تصله مريمه ... ضليل أهواء الصبا يندمه والبيت المستشهد به ههنا من شواهد الأشموني "رقم 574" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 168" وفي شذور الذهب "رقم 163" وابن عقيل "رقم 219" والبلد يذكر ويؤنث، والتذكير أكثر، والفجاج: جمع فج، وهو الطريق الواسع، وقتمه -بفتح القاف والتاء جميعًا، وأصله القتام، بوزن السحاب، فخففه بحذف الألف -وهو الغبار، والجهرم -بوزن جعفر- هو البساط، وقيل: أصل هذه الكلمة "جهرميه" بياء مشددة كياء الكرسي، للنسبة إلى جهرم وهي إحدى بلاد فارس، وإنه حذف ياء النسبة لما يصف نفسه بالقدرة على الأسفار وتحمل المشاق، ويشير إلى أن ناقته جلدة قوية على قطع الطرق الوعرة والمسالك الصعبة، والاستشهاد بالبيت في قوله "بل بلد" حيث جر النكرة بعد بل برب المحذوفة، وأصل الكلام "بل رب بلد" وانظر الشاهد رقم 239 السابق، ومثل هذا الشاهد قول رؤبة بن العجاج أيضا: بل بلد ذي صعد وأصباب ... تخشى مراديه وهجر دواب

وقد جاء عن العرب إعمال حرف الجزم مع الحذف، قال الشاعر: [350] محمد تَفْدِ نفسك كلُّ نفسٍ ... إذا ما خِفْتَ من أَمْرٍ تَبَالَا والتقدير فيه: لتفد نفسك، فحذف اللام وأعملها في الفعل الجزم، وقال الشاعر: [351] فقلت ادْعِي وأدْعُ؛ فإن أَنْدى ... لصوت أن ينادي داعيان

_ [350] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 408" وابن يعيش في شرح المفصل "ص942" والمؤلف في أسرار العربية "ص125" ورضي الدين في باب جوازم المضارع من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 629" وابن الناظم في باب الجوازم من شرح الألفية، وشرحه العيني "4/ 418" وقد اختلف العلماء في نسبة هذا البيت؛ فنسبه الرضي في باب فعل الأمر "2/ 249" إلى حسان بن ثابت، وهو غير موجود في ديوانه، ونسبه ابن هشام في شذور الذهب إلى أبي طالب بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، قال البغدادي "وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل: هو للأعشى "ا. هـ" وهو عجيب غاية في العجب، والتبال: سوء العاقبة، وأصله الوبال -بالواو- فأبدلت الواو تاء، والمعنى: إذا خفت وبال أمر أعددت له، والاستشهاد بالبيت في قوله "تفد" فإن سيبويه رحمه الله -كالكوفيين- خرج هذه الكلمة في هذا البيت على أن الأصل "لتفد" بلام الأمر مكسورة وبجزم الفعل المضارع بحذف الياء وإبقاء الكسرة دالة عليها، ثم حذفت اللام وبقي الفعل على ما كان عليه معها، قال سيبويه "واعلم أن هذه اللام قد يجوز حذفها في الشعر، وتعمل مضمرة، وكأنهم شبهوها بأن إذا عملت مضمرة، قال الشاعر: محمد تفد نفسك كل نفس ... إذا ما خفت من شيء تبالا وإنما أراد لتفد" ا. هـ. وقال الأعلم "الشاهد فيه إضمار لام الأمر في قوله تفد، والمعنى لتفد نفسك، وهذا من أقبح الضرورة، لأن الجازم أضعف من الجار، وحرف الجر لا يضمر" يريد أن حرف الجر لا يعمل وهو محذوف، مع أنه أقوى من الجازم، وإذا كان الأقوى لا يعمل محذوفا فلأن لا يعمل الأضعف محذوفا من باب الأولى. وقد خرجه قوم تخريجًا آخر، فذهبوا إلى أن "تفد" فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة للتخفيف اجتزاء بكسر ما قبلها للدلالة عليها، وكأنه قال: محمد تفدي نفسك كل نفس، ثم حذف الياء مضطرا ليقيم وزن البيت، واكتفى بالكسرة التي قبلها، وقد قرر المؤلف أن العرب قد تحذف حروف المد واللين وتكتفي بالحركات التي قبلها لأنها مجانسة لها، وانظر الشواهد "245-254" ثم انظر الشاهد 283. [351] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 426" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 648" وفي أوضح المسالك "رقم 501" وفي شذور الذهب "رقم 154" والأشموني "رقم 1035" وابن عقيل "رقم 327" وقد اختلف العلماء في نسبة هذا البيت، فنسبه سيبويه إلى الأعشى، وقال الأعلم "ويروى للحطيئة" والصحيح أن البيت من كلمة عدة أبياتها ثلاثة عشر بيتًا لدثار بن شيبان النمري، أحد بني النمر بن قاسط، وهذه القصيدة مما رواه أبو =

أراد "ولأَدْعُ "وقال الآخر: [352] على مثل أصحاب البعوضة فَاخْمِشِي ... لك الويلُ حُرّ الوجه أو يَبْكِ من بَكَى

_ = السعادات بن الشجري في مختاراته "ق3 ص6" وكل من ذكرنا من النحاة من سيبويه إلى آخرهم رووا "ادعى وأدعو إن أندى" ولكن ابن الشجري روى "ادعى وأدع فإن أندى" كما روى المؤلف، وأندى: أفعل تفضيل من قولهم "ندى صوت فلان يندى ندى -من مثال فرح يفرح فرحًا" إذا ارتفع وبعد. ومحل الاستشهاد من البيت قوله "وأدع" فإن المؤلف أنشده على لسان الكوفيين على أن الشاعر أراد "ولأدع" بلام الأمر وبجزم الفعل المضارع بحذف الواو والضمة قبلها دليل عليها، وهذا يدل على أن العرب لا ترى مانعا من أن تحذف الحرف الجازم للمضارع وتبقي عمله، على خلاف ما ذهب إليه البصريون من أن ذلك لا يجوز، وأما النحاة الذين رووا "وأدعوا" ومنهم سيبويه -فإنهم يستدلون بهذه العبارة على أن الفعل المضارع ينصب في جواب الأمر بعد الواو، كما انتصب المضارع المقترن بهذه الواو بعد النهي في قول أبي الأسود الدؤلي، ونسبه سيبويه "1/ 424" إلى الأخطل: لا تنه عن عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم ومثل بيت الشاهد -في حذف لام الأمر وبقاء المضارع مجزوما بعد حذفه- قول الشاعر، وهو من شواهد ابن الناظم في شرح الألفية، وشرحه العيني "4/ 420". فلا تستطل مني بقائي ومدتي ... ولكن يكن للخير منك نصيب فإنه أراد: ولكن ليكن للخير منك نصيب، فحذف لام الأمر وأبقى المضارع -وهو "يكن"- مجزومًا كما كان واللام مقترنة به. [352] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 409" وأنشده ابن منظور "ب ع ض" وكلاهما نسبه لمتمم بن نويرة. والبعوضة: اسم مكان بعينه، كانت فيه موقعة قتل فيها جماعة من قومه. ومحل الاستشهاد في البيت قوله "أو يبك" وللعلماء في تخريج هذه الكلمة رأيان، الأول: أن "يبك" مجزوم بلام أمر محذوفة، وأصل الكلام "أو ليبك" فحذف لام الأمر وأبقى عملها، على نحو ما ذكرناه في شرح الشاهد السابق وبهذا يستدل الكوفيون على أن حذف حرف الجزم مع بقاء عمله واقع في كلام العرب، والتخريج الثاني: أن "يبك" مجزوم حملًا على معنى "فأخمشي" لأن فعل الأمر أصله فعل مضارع للمخاطب مجزوم بلام الطلب وكأنه قال "على مثل أصحاب البعوضة فلتخمشي وجهك أو يبك من بكى" والبصريون يرون هذا الوجه أقرب مأخذا وأيسر طريقا من الوجه الأول؛ لأنه يخلصهم من استشهاد الكوفيين بالبيت ويبقى لهم ما أصلوه من القاعدة التي تقول: إن حذف حروف الجزم وبقاء عملها وحذف حروف الجر وبقاء عملها لا يجوز؛ لأنها عوامل ضعيفة. ونظير هذا البيت ما أنشده سيبويه "1/ 409" ونسبه لأحيحة بن الجلاح: فمن نال الغنى فليصطنعه ... صنيعته ويجهد كل جهد والاستشهاد به في قوله "ويجهد" فإنه جزمه بتقدير لام أمر، وأصل العبارة "وليجهد" فحذف اللام، وأبقى الفعل مجزوما كما كان واللام مقترنة بهن وسيبويه يقول "واعلم أن حروف الجزم لاتجزم إلا الأفعال، ولا يكون الجزم إلا في هذه الأفعال المضارعة =

أراد "لِيَبْكِ" وقال الآخر: [353] من كان لا يزعم أني شاعر ... فيدن مني تَنْهَهُ المَزَاجِرُ أراد "فليدن" فحذف اللام وأعملها في الفعل الجزم، وهذا كثير في أشعارهم، وإذا جاز أن يعمل حرف الجزم مع الحذف في هذه المواضع جاز أن يعمل ههنا مع الحذف لكثرة الاستعمال. وكذلك أيضا منعكم إعمال سائر عوامل الأفعال مع الحذف لا يستقيم أيضا على أصلكم؛ فإنكم تذهبون إلى أن أن الخفيفة المصدرية تعمل مع الحذف بعد الفاء إذا كانت جوابا للستة الأشياء التي جوزتم فيها إعمال أن الخفيفة الشرطية مع الحذف، نحو: ايتني فآتيك، ولا تفعل يكون خيرا لك، واللهم ارزقني بعيرا فأحج عليه، وأين بيتك فأزورك، وألا ماء فأشربه، وألا تنزل فأكرمك، وكذلك تعملونها مع الحذف بعد الفاء في جواب النفي نحو: ما أنت صاحبي فأعطيك، وكذلك أيضا تعملونها مع الحذف بعد الواو نحو: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، وبعد "أو" نحو: لأشكونك أو تُعْتِبَنِي، وبعد لام كي نحو: جئتك لتكرمني، وبعد لام الجحود نحو: ما كنت لأفعل ذلك، وبعد حتى نحو: سرت حتى أدخلها، قال الله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] وإذا جاز لكم أن تعملوا أن الناصبة للفعل بعد هذه الأحرف مع الحذف وهي من عوامل الأفعال وإن الجازمة للفعل في المواضع التي بيّناها مع الحذف وهي من عوامل الأفعال جاز أن تعمل اللام الجازمة للفعل مع الحذف لكثرة الاستعمال وإن كانت من عوامل الأفعال.

_ = للأسماء، كما أن الجر لا يكون إلا في الأسماء، والجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء، فليس للاسم في الجزم نصيب، وليس للفعل في الجر نصيب، فمن ثم لم يضمروا الجازم كما لم يضمروا الجار، وقد أضمره الشاعر، شبهه بإضمارهم رب وواو القسم في كلام بعضهم "ا. هـ كلامه. [353] هذان بيتان من مشطور الرجز، وقد أنشدهما ابن منظور "ز ج ر" ولم يعزهما، وتقول: دنا فلان من فلان يدنو، تريد قرب يقرب، وزجره: منعه، وأراد بالمزاجر الأسباب التي من شأنها أن تمنعه وتنهره وتنهاه. ومحل الاستشهاد من البيت قوله "فيدن مني" فإن أصله -فيما زعم الكوفيون ومن استشهد بهذا البيت- "فليدن مني" بلام أمر مقترنة بفعل مضارع مجزوم بحذف الواو والضمة قبلها دليل عليها، فحذف الراجز لام الأمر وأبقى الفعل المضارع على جزمه الذي كان عليه واللام مقترنة به. ورواية ابن منظور في البيت "فليدن مني تنهه" بلام الأمر، وقال بعد إنشاده "ويروى: من كان لا يزعم أني شاعر فيدن مني، أراد فليدن، فحذف اللام، وذلك أن الخبن في مثل هذا أخف على ألسنتهم، والإتمام عربي" ا. هـ.

قالوا: ولا يجوز أن يقال "إنَّ نَزَالِ مبنيّ لأنه قام مقام فعل الأمر، فلو لم يكن فعل الأمر مبنيًّا وإلا لما بني ما قام مقامه" لأنا نقول: إنما بني نزال لتضمنه معنى لام الأمر، ألا ترى أن نزال اسم انْزِلْ، وأصله لتنزل، فلما تضمن معنى اللام كتضمن أين معنى حرف الاستفهام، وكما أن أين بنيت لتضمنها معنى حرف الاستفهام؛ فكذلك بنيت نزال لتضمنها معنى اللام. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه مبني على السكون لأن الأصل في الأفعال أن تكون مبنية، والأصل في البناء أن يكون على السكون، وإنما أعرب ما أعرب من الأفعال أو بني منها على فتحة لمشابهة ما بالأسماء، ولا مشابهة بوجه ما بين فعل الأمر والأسماء؛ فكان باقيًا على أصله في البناء. ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أنه مبني أنا أجمعنا على أن ما كان على وزن فَعَالِ من أسماء الأفعال -كنزال، وتراك، ومناع، ونعاء، وحذار، ونظار- مبني؛ لأنه ناب عن فعل الأمر فنزال ناب عن انزل، وتراك ناب عن اترك، ومناع ناب عن امنع، ونعاء ناب عن انع، وحذار ناب عن احذر، ونظار ناب عن انظر، قال زهير: [354] ولأنت أشجع من أسامة إذ ... دُعِيَتْ نَزَالِ وَلَجَّ في الذُّعْر

_ [354] هذا البيت من قصيدة لزهير بن أبي سلمى المزني "د 88-95" يمدح فيه هرم بن سنان المري، وانظر الشاهد رقم 232 الذي مضى في المسألة 54، وهو من شواهد سيبويه "2/ 37" وابن يعيش في شرح المفصل "ص495 و514" ورضي الدين في باب أسماء الأفعال من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 61" وأنشده ابن منظور "ن ز ل" معزوا إليه، وأسامة: علم جنسي على الأسد، ووقع في رواية سيبويه "ولنعم حشو الدرع أنت" يريد أنت شجاع مقدام إذا لبست الدرع فكنت حشوها واشتدت الحرب فتنادى الأبطال: نزال، وصار الناس من الذعر في مثل لجة البحر، و"نزال" اسم فعل أمر معناه انزل، ومن حقه ألا يقع في مواقع الإعراب، فلا يكون فاعلًا ولا نائب فاعل ولا مفعولا به ولا غير ذلك، وذلك بسبب أن الفعل وما كان اسمًا له لا ينبغي أن يقع هذه المواقع، إلا أنه قد يقصد لفظه على طريق الحكاية، وحينئذ يقع في مواقع الإعراب المختلفة، وقد وقع هذا اللفظ في هذا البيت نائب فاعل، وقد أنث له الفعل بالتاء ليدل على أنه مؤنث، ونظير ذلك ما ورد في قول زيد الخيل: وقد علمت سلامة أن سيفي ... كريه كلما دعيت نزال فقد وقع لفظ "نزال" نائب فاعل في هذا البيت وأنث له الفعل كما في البيت المستشهد به، وبني في كل من البيتين على الكسر لما سنذكره في شرح الشاهد الآتي:

أراد انْزِلْ، وأنثها لأنها بمنزلة النَّزْلة، وقال الآخر: [355] عرضنا نزالِ فلم ينزلوا ... وكانت نزال عليهم أَطَمْ وقال الآخر: [356] فدعوا نزال فكنت أوَّل نازلٍ ... وعَلَامَ أَرْكَبُهُ إذا لم أَنْزِلِ

_ [355] هذا البيت من كلام جريبة الفقعسي، وقد أنشده ابن منظور "ن ز ل" وعزاه إليه، وقد فسرنا "نزال" في البيت السابق بما يغني عن الإعادة، و"أطم" أفعل تفضيل من قولهم "طم الأمر" أي تفاقم، وأصله قولهم "طم الماء طما وطموما" أي غمر، و"طم البحر" أي غلب سائر البحور، وقد وقع لفظ "نزال" في هذا البيت في موقعين من مواقع الإعراب، الأول: وقع فيه مفعولا به، وذلك قوله "عرضنا نزال" والثاني: وقع فيه اسمًا لكان، وذلك قوله "وكانت نزال" وذلك كله لأنه قصد اللفظ على ما بيناه في شرح الشاهد السابق، قال ابن السراج: اعلم أنه لا يبنى على مثال فعال من هذا الباب على الكسر إلا وهو مؤنث معرفة معدول عن جهته، وإنما بني على الكسر لأن الكسر مما يؤنث به، تقول للمرأة: أنت فعلت، وإنك فاعلة، وكان أصل هذا -إذا أردت به الأمر- السكون، فحركته لالتقاء الساكنين، وجعلت الحركة الكسرة للتأنيث، وذلك قولك: نزال، وتراك؛ ومعناه انزل واترك، فهما معدولان عن المتاركة والمنازلة، قال الشاعر تصديقًا لذلك: ولنعم حشو الدرع أنت إذا ... دعيت نزال، ولج في الذعر فقال "دعيت" لما ذكرت لك من التأنيث" ا. هـ كلامه. [356] هذا البيت من كلام ربيعة بن مقروم الضبي، وقد أنشده ابن منظور "ن ز ل" ثاني بيتين من غير عزو، وأولهما قوله: ولقد شهدت الخيل يوم طرادها ... بسليم أوظفة القوائم هيكل والأوظفة: جمع وظيف -بوزن رغيف وأرغفة- والوظيف: مستدق الذارع والساق من الخيل والإبل، والهيكل: الفرس الطويل علوًا عدولًا، وهو الضخم من كل الحيوان، وقال امرؤ القيس في معلقته: وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل قال ابن منظور في تفسير بيت ربيعة "وصف فرسه بحسن الطراد فقال: وعلام أركبه إذا لم أنازل الأبطال عليه؟ وكذلك قول الآخر: فلم أذخر الدهماء عند الإغارة ... إذا أنا لم أنزل إذا الخيل جالت؟ فهذا بمعنى المنازلة في الحرب والطراد لا غير، ويدل علي أن نزال في قوله "فدعوا نزال" بمعنى المنازلة دون النزول إلى الأرض قوله: وعلام أركبه إذا لم أنزل؟ أي لماذا أركبه إذا لم أقاتل عليه؟ أي في حين عدم قتالي عليه؟ وإذا جعلت نزال بمعنى النزول إلى الأرض صار المعنى: وعلام أركبه حين لم أنزل إلى الأرض؟ ومعلوم أنه حين لم ينزل هو راكب، فكأنه قال: وعلام أركبه في حين أنا راكب؟ "ا. هـ. ومحل الاستشهاد =

وقال الآخر: [357] تَرَاكِهَا من إبل تَرَاكِهَا ... أما ترى الموت لدى أَوْرَاكِهَا أراد "اتْرُكْهَا" وقال الآخر: [358] مَنَاعِهَا من إبل مَنَاعِهَا ... أما ترى الموت لدى أرباعها أراد "امنعها" وقال جرير: [359] نَعَاءِ أبا ليلى لكل طِمِرَّةٍ ... وجَرْدَاءَ مثل القَوْسِ سَمحٌ حُجُولُهَا

_ = بالبيت ههنا قوله "فدعوا نزال" حيث أوقع لفظ "نزال" في موقع المفعول به لأنه أراد هذا اللفظ ولو أراد المعنى لم يجز له أن يوقعه في شيء من مواقع الإعراب؛ لأن الفعل وما هو بمعناه لا يقع في شيء منها، وقد بينا لك ذلك في شرح الشواهد السابقة. [357] هذان بيتان من مشطور الرجز، وهما من شواهد سيبويه "2/ 37" وابن يعيش في شرح المفصل "ص515" ولم يعزهما واحد منهما إلى قائل معين، وقد أنشدهما ابن منظور "ت ر ك" وعزاهما إلى طفيل بن يزيد الحارثي، وتراك: اسم فاعل أمر بمعنى اترك، وهو مبني على الكسر لما ذكرنا في شرح الشاهد 355، وفيه ضمير مستتر واجب الاستتار كما يكون في فعل الأمر، والضمير البارز المتصل في محل نصب به. ومحل الاستشهاد قوله "تراكها" حيث استعمل فعال المأخوذ من مصدر الفعل الثلاثي المتصرف اسم فعل أمر، وبناه على الكسر، على ما بيناه في شرح الشواهد السابقة. [358] هذان بيتان من الرجز المشطور، وهما من شواهد سبيوبه "2/ 36" وابن يعيش في شرح مفصل الزمخشري "ص515" ولم يعزهما واحد منهما لقائل معين، ومناع: اسم فعل أمر بمعنى امنع، والأرباع: جمع ربع، وهو المنزل والدار بعينها، والوطن متى كان وبأي مكان كان، ويجمع أيضا على أربع ورباع وربوع. ومحل الاستشهاد به قوله "منعها" حيث استعمل فعال المأخوذ من مصدر الفعل الثلاثي المتصرف اسم فعل أمر، وبناه على الكسر، على نحو ما بيناه في شرح الشواهد السابقة. [359] هذا البيت من شواهد سيبويه "2/ 37" ونسبه إلى جرير بن عطية، ووافق الأعلم على هذه النسبة، ولكني لم أجده في ديوان جرير، ونعاء: اسم فعل أمر معناه انع، أي اذكر خبر موته والفجيعة فيه، والطمرة -بكسر الطاء والميم جميعا، وتشديد الراء مفتوحة- الخفيفة السريعة من الخيل، والجرداء: القصيرة الشعر، وهذان من الأوصاف التي توصف بها عتاق الخيل، وشبهها بالقوس لانطوائها من الهزال، يريد أنه كان يجهدها في الحرب والإغارات حتى هزلت، وقوله "سمح حجولها" الحجل: القيد، يريد أنها مذللة خاضعة للتقييد، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "نعاء أبا ليلى" حيث استعمل فيه اسم الفعل المأخوذ من مصدر الفعل الثلاثي المتصرف -وهو نعى- وجاء به على وزن فعال، وبناه على الكسر، وقد أضمر فيه فاعله كما يضمر في فعل الأمر الذي بمعناه، ونصب به المفعول -وهو قول "أبا ليلى"- لأن فعل الأمر الذي هو بمعناه يصل إلى المفعول به =

أراد "انْعَ" وقال الآخر: [360] نعاءِ ابن ليلى للسَّماحة والنَّدَى ... وأيدي شمال باردات الأنامل [361] نعاءِ جُذَامًا غير موت ولا قتل ... ولكن فِرَاقًا للدَّعَائِمِ والأَصْل أراد "انْعَ جُذَامًا" وقال الآخر، وهو أبو النجم: [362] حَذَارِ من أرماحنا حَذَارِ

_ = بنفسه، والمؤلف يريد أن يستدل بهذا ونحوه على أن الأسماء التي على وزن فعال الدالة على الأمر مبنية على الكسر في لسان العرب، وقد بينا علة ذلك في شرح الشواهد السابقة. [360] هذا البيت من شواهد سيبويه "2/ 37" ولم يعزه، ولا عزاه الأعلم الشنتمري في شرح شواهده، ونعاء: أي انع، أي اذكر خبر موته والفجيعة فيه، والسماحة: الجود، والندى: الكرم، وقوله "وأيدي شمال باردات الأنامل" أحسن ما يحمل عليه هذا الكلام أن تكون الواو للحال، وأيدي شمال: مبتدأ، وباردات الأنامل: خبره، والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب حال، أي اذكر خبر موت ابن ليلى للجود والكرم في حال كون أيدي الشمال باردات الأنامل، أي ليكن ذكرك إياه عند برد ريح الشمال لأنه هو الذي كان يغيث من هذا البرد، وخص الشمال لأنها أبرد الرياح، ولأنها هي التي يأتي معها القحط والجدب؛ فعندها تظهر حاجة المحتاجين الذين كان يقوم عليهم، وخص الأنامل -وهي أطراف الأصابع- لأن البرد يسرع إليها. والاستشهاد بهذا البيت في قوله "نعاء ابن ليلى" والكلام فيه كالكلام فيما قبله. [361] هذا البيت للكميت بن زيد كما قال المؤلف، وهو شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص515" وقد أنشده ابن منظور "ن ع ا" وكلاهما نسبه إلى الكميت. ونعاءك معناه انع، والأصل فيه ذكر خبر موته والفجيعة فيه، وكانوا في جاهليتهم إذا مات منهم ميت له خطر وقدر ركب راكب وجعل يسير في الناس ويرد عليهم محلاتهم وهو يقول "نعاء فلانا" أي أظهر خبر وفاته، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما كان أهل الجاهلية يصنعونه، والدعائم: جمع دعامة، وأصله أن يميل شيء فتدعمه بخشبة ونحوها لتقيمه، وسموا سيد القوم دعامة، من ذلك، لأنه الذي يقيم ما اعوج من أمورهم. يقول: انع هؤلاء القوم واذكر الفجيعة فيهم، ولكن لا تذكر ذلك لأنهم ماتوا أو قتلوا، ولكن لأنهم فارقوا سادتهم وأهل الخطر منهم فتبدد أمرهم وانصدع شملهم. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "نعاء جذاما" حيث استعمل فيه اسم فعل أمر مأخوذًا من مصدر الفعل الثلاثي المتصرف، وبناه على الكسر، والكلام فيه كالكلام فيما مضى من الشواهد. [362] هذا البيت من شواهد سيبويه "2/ 37" وقد نسبه إلى أبي النجم الفضل بن قدامة العجلي، وقد أنشده ابن منظور "ح ذ ر" وأنشد بعده: أو تجعلوا دونكم وبار

أراد "احْذَرْ" وقال رؤبة: [363] نَظَارِ كي أركبها نَظَارِ أراد "انْظُرْ" فلو لم يكن فعل الأمر مبنيًّا وإلا لما بني ما ناب مَنَابَهُ، وما ذكره الكوفيون على هذا فسنذكر فساده في الجواب عن كلماتهم في موضعه إن شاء الله تعالى. أما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن الأصل في افعل لتفعل" قلنا: لا نسلم، قولهم "كما قالوا للغائب: ليفعل" قلنا: فكان يجب أن لا يجوز حذف اللام منه، كما لا يجوز في الغائب، قولهم "إنما حذفت في الأمر للمواجهة لكثرة الاستعمال" قلنا: هذا فساد؛ لأنه لو كان الأمر كما زعمتم لوجب أن يختص الحذف بما يكثر استعماله دون ما يقل استعماله- نحو: احْرَنْجَمَ واعْرَنْزَمَ، واعْلَوَّطَ، واخْرَوَّطَ، واسْبَطَرَّ، واسْبَكَرَّ- وما أشبه ذلك من الأفعال؛ لأن الحذف لكثر الاستعمال إنما يختص بما يكثر في الاستعمال، ألا ترى أنهم قالوا في "لم يكن": لم يَكُ؛ فحذف النون لكثرة الاستعمال، ولم يقولوا في "لم يَصُنْ": لم يَصُ، ولا في "لم يَهُنْ": لم يَهُ، لأنه لم يكثر استعماله، وقالوا في "لم أُبَالِ": لم

_ = ونسبهما إليه، وحذار: اسم فعل أمر معناه احذر، واشتقاقه من الحذر، ووبار: أرض كانت من مساكن عاد بين اليمن ورمل يبرين، فلما أهلك الله عادًا صارت خرابًا لا يتقاربها أحد من الناس، ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "حذار" وهو اسم لفعل الأمر وواقع موقعه، وكان حقه السكون لأن فعل الأمر مبني على السكون، إلا أنه حرك للتخلص من التقاء الساكنين، وخص بالكسر لأنه اسم مؤنث والكسرة والياء مما يخص به المؤنث نحو قولك "أنت تذهبين" كسرة التاء في "أنت" دالة على المؤنث والياء في "تذهبين" دالة على المؤنث، وربما نونه بعضهم كما في قول الشاعر: حذار حذار من فوارس دارم ... أبا خالد من قبل أن تتندما فنوّن "حذار" الثانية ولم يكن ينبغي له ذلك، غير أنه اضطر إلى ذلك ليتم به الوزن. [363] هذا البيت من كلام رؤبة بن العجاج، وهو من شواهد سيبويه "2/ 37" ونسبه إلى رؤبة، ووافق الأعلم على هذه النسبة. ونظار: اسم فعل أمر بمعنى انظر، أي انتظر، تقول: نظرته أنظره -من مثال نصرته أنصره- وانتظرته أنتظره، وأنظرته أنظره، كله بمعنى واحد، وقرئ في قوله تعالى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] بقطع الهمزة على أنه من مثال أكرم وبوصل الهمزة على أنه ثلاثي من باب نصر، وقيل في التفسير: إن المعنى على القراءتين انتظرونا، وقال عمرو بن كلثوم: أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا ومحل الاستشهاد من البيت قوله "نظار" فإنه اسم فعل أمر مبني على الكسر، والقول فيه كالقول فيما سبق من الشواهد، والعلة كالعلة.

أَبَلْ؛ فحذفوا الكسرة لكثرة الاستعمال، ولم يقولوا في "لم أوَالِ": لم أوَلْ، ولا في "لم أَعَالِ": لم أَعَلْ؛ لأنه لم يكثر استعماله، وكذلك قالوا في أي شيء": أيْشٍ -بالشين معجمة- لكثرة استعماله، ولم يقولوا في "أي سَيء": أيس -بالسين غير معجمة- لقلة استعماله، وقالوا "عِمْ صباحًا" في أنعم صباحا؛ لكثرته، ولم يقولوا "عمِ ْبَالًا" في انعم بالًا؛ لقلته، وقالوا "وَيْلُمِّهِ" في: ويل أمِّهِ، ولم يقولوا في "ويلخته" في ويل أخته؛ لقلته، فلما حذفت اللام وحرف المضارعة في محل الخلاف من جميع الأفعال التي تكثر في الاستعمال والتي تقل في الاستعمال دلَّ على أن ما ادَّعَوْهُ من التعليل ليس عليه تعويل، ثم لو قدرنا أن الأصل فيه ما صرتم إليه إلا أنه قد تضمن معنى لام الأمر، فإذا تضمن معنى لام الأمر فقد تضمن معنى الحرف، وإذا تضم معنى الحرف وجب أن يكون مبنيًّا. ثم نقول إن علة وجود الإعراب في الفعل المضارع وجود حرف المضارعة، فما دام حرف المضارعة ثابتا كانت العلة ثابتة، ومادامت العلة ثابتة سليمة عن المضارعة كان حكمها ثابتًا؛ ولهذا كان قوله تعالى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 10] معربًا، وقوله صلوات الله عليه "ولتزُرَّهُ" و"لتأخُذُوا" و"لتقومُوا" وما أشبهه معربًا لوجود حرف المضارعة، ولا خلاف في حذف حرف المضارعة في محل الخلاف، وإذا حذف حرف المضارعة -وهو علة وجود الإعراب فيه- فقد زالت العلة؛ فإذا زالت العلة زال حكمها، فوجب أن لا يكون فعل الأمر معربًا. وأما قولهم "إن فعل النهي معرب مجزوم، فكذلك فعل الأمر؛ لأنهم يحملون الشيء على ضده كما يحملونه على نظيره" قلنا: حمل فعل الأمر على فعل النهي في الإعراب غير مناسب؛ فإن فعل النهي في أوله حرف المضارعة الذي أوجب للفعل المشابَهَةَ بالاسم، فاستحق الإعراب، فكان معربًا وأما فعل الأمر فليس في أوله حرف المضارعة الذي يوجب للفعل المشابهة بالاسم؛ فيستحق أن لا يعرب؛ فكان باقيًا على أصله في البناء. والذي يدل على ذلك أن لام التأكيد التي تدخل على الفعل المضارع في نحو "إن زيدا ليقوم" كما تقول "إن زيدا لقائم" لا يجوز دخولها على فعل الأمر، كما لا يصح دخولها على الفعل الماضي، وإن كان الماضي أقوى من فعل الأمر بدلالة الوصف به، والشرط به، وبنائه على حركة تشبه حركة الإعراب [و] بدليل أنه لا يلحق آخره هاء السكت، كما لا يلحق آخر الاسم المعرب، وإذا كان الماضي لا تدخله هذه اللام مع وجود شبه ما بالأسماء فلأن لا تدخل هذه اللام فعل الأمر مع عدم شبهٍ ما بالأسماء كان ذلك من طريق الأولى، وإذا ثبت أنها لا تدخله دلَّ على أنه لا مشابهة بينه وبين الاسم، وإذا لم يكن بينه وبين الاسم مشابهة كان مبنيًّا على أصله.

وأما قولهم: "إنك تحذف الواو والياء والإلف من نحو: اغز، وارم، واخش، ما تحذفها من نحو: لم يغز، ولم يرم، ولم يخش" قلنا: إنما حذفت هذه الأحرف التي هي الواو والياء والألف للبناء، لا للإعراب والجزم، حملًا للفعل المعتل على الصحيح، وذلك أنه لما استوى الفعل المجزوم الصحيح وفعل الأمر الصحيح، كقولك "لم يفعل وافعل يا فتى" وإن كان أحدهما مجزومًا والآخر ساكنًا سوِّيَ بينهما في الفعل المعتل، وإنما وجب حذفها في الجزم لأن هذه الأحرف التي هي الواو والياء والألف جرت مجرى الحركات لأنها تشبهها، وهي مركبة منها في قول بعض النحويين، والحركات مأخوذة منها في قول آخرين، وعلى كلا القولين فقد وجدت المشابهة بينهما، وكما أن الحركات تحذف للجزم، فكذلك هذه الأحرف، فلما وجب حذف هذه الأحرف في المعتل للجزم، فكذلك يجب حذفها من المعتل للبناء؛ حملًا للمعتل على الصحيح؛ لأن الصحيح هو الأصل، والمعتل فرع عليه؛ فحذف حملًا للفرع على الأصل. والذي يدل على صحة ما ذكرناه وأنه ليس مجزومًا بلام مقدرة أن حرف الجر لا يعمل مع الحذف، فحرف الجزم أولى. قولهم "إنكم تذهبون إلى أن رب تعمل الخفض مع الحذف بعد الواو والفاء وبل" قلنا: إنما جاز ذلك لأن فيما بقي من هذه الأحرف دليلًا على ما ألقي وبيانًا عنه، فلما كانت هذه الأحرف دليلًا عليه وبيانا عنه جاز حذفه؛ لأن المحذوف بهذه المثابة في حكم الثابت، بخلاف حرف الجزم؛ فإنه حذف وليس في اللفظ حرف يدل عليه ولا يبين عنه، فبان الفرق بينهما. وأما قولهم "إنكم تذهبون إلى أن حرف الشرط يعمل مع الحذف في ستة مواضع، وهي الأمر والنهي والدعاء والاستفهام والتمني والعرض" قلنا: الجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أنا لا نسلم حذف حرف الشرط في هذه المواضع، ولا أن الفعل مجزوم بتقدير حرف الشرط، وإنما هو مجزوم لأنه جواب لهذه الأشياء التي هي الأمر والنهي والدعاء والاستفهام والتمني والعرض، وهذا الوجه ذكره بعض النحويين، وليس بصحيح؛ لأنك لو حملت الكلام على ظاهره من غير تقدير حرف الشرط لكان ذلك يؤدي إلى محال، ألا ترى أنك إذا قلت: "ايتني آتك" كان الأمر بالإتيان موجبًا للإتيان، وإذا قلت: "لا تفعل يكن خيرًا" كان النهي عن الفعل موجبًا للخير، وإذا قلت: "اللهم ارزقني بعيرا أحجَّ عليه" كان الدعاء بالرزق موجبًا للحج، وإذا قلت: "أين بيتك أزرْك" كان الاستفهام عن بيته موجبًا للزيارة، وإذا قلت: "ألا

ماء أشربْه" كان التمني للماء موجبًا للشرب، وإذا قلت "ألا تنزل عندنا أكرمْك" كان العرض موجبًا للكرامة، وذلك محال؛ لأن الأمر بالإتيان لا يكون موجبًا للإتيان وإنما يوجبه الإتيان؛ والنهي عن الفعل لا يكون موجبًا للخير، وإنما يوجبه الانتهاء، والدعاء بالرزق لا يكون موجبًا للحج، وإنما يوجبه الرزق، والاستفهام عن بيته لا يكون موجبًا للزيارة، وإنما يوجبه التعريف، والتمني للماء لا يكون موجبًا للشرب، وإنما يوجبه وجوده، والعرض بالنزول لا يكون موجبًا للكرامة، وإنما يوجبه النزول؛ فدل على أن حرف الشرط فيها كلها مقدر، وأن التقدير: ايتني فإنك إن تأتني آتك، ولا تفعل فإنك إن لا تفعل يكن خيرًا لك، واللهم ارزقني بعيرًا فإنك إن ترزقني بعيرًا أحج عليه، وأين بيتك فإنك إن تعرِّفْنِي بيتك أزرك، وألا ماء فإن يك ماء أشربه، وألا تنزل فإنك إن تنزل أكرمك؛ فدلّ على أن هذا الوجه الذي ذكره بعضهم عن تعري الكلام عن تقدير حرف الشرط ليس بصحيح. والوجه الثاني: وهو الصحيح -أنا نسلم تقدير حرف الشرط، وأنه حذف، وإنما حذف لدلالة هذه الأشياء عليه، فصار في حكم ثابت على ما بيَّنَّا في حذف رُبَّ. وأما قولهم "إن إعمال حرف الجزم مع حذف الحرف قد جاء كثيرًا، وأنشدوا الأبيات التي رووها" فنقول: أما قوله: [350] محمد تَفْدِ نفسك كُلُّ نفس ... إذا ما خفت من أمر تَبَالَا فقد أنكره أبو العباس محمد بن يزيد المُبَرِّد، ولئن سلمنا صحته -وهو الصحيح- فنقول: قوله "تفد نفسك" ليس مجزومًا بلام مقدرة، وليس الأصل فيه لتفد نفسك، وإنما الأصل: تفدي نفسك، من غير تقدير لام، وهو خبر يراد به الدعاء، كقولهم: غفر الله لك، ويرحمك الله، وإنما حذف الياء لضرورة الشعر اجتزاء بالكسرة عن الياء، كما قال الأعشى: [247] وأخو الغَوَانِ متى يشأ يَصْرِمْنَهَ ... ويَصِرْنَ أعداء بُعَيْدَ وِدَادِ أراد "الغواني" فاجتزأ بالكسرة عن الياء، وقال الآخر: [364] فما وَجَدَ النَّهْدِيُّ وَجْدًا وَجَدْتُهُ ... ولا وَجَدَ العُذْرِيُّ قبل جَمِيلُ

_ [364] النهدي: المنسوب إلى نهد -بفتح النون وسكون الهاء- وهي قبيلة من قبائل اليمن يرجع نسبها إلى قضاعة، فهي نهد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، والعذري: المنسوب إلى عذرة -بضم العين وسكون الذال المعجمة- وهي قبيلة عظيمة =

أراد "قَبْلِي" وقال الآخر: [365] وطِرْتُ بِمُنْصُلِي في يَعْمَلَاتِ ... دوامي الأيدِ يَخْبِطْنَ السَّرِيحَا أراد "الأيدي". وقال خُفَافُ بن نَدْبَةَ السلمي: [366] كنواحِ ريش حمامة نجدية ... ومسحت باللثتين عَصْفَ الإِثْمِدِ أراد "كنواحي" فاجتزأ بالكسرة عن الياء كما يجتزئون بالضمة عن الواو وبالفتحة عن الألف، فاجتزاؤهم بالضمة عن الواو كقولهم في قاموا "قامُ" وفي كانوا "كانُ" قال الشاعر: [245] فلو أن الأطِبَّاء كانُ حَوْلِي ... وكانَ مع الأطباء الأَسَاةُ إذا ما أذهبوا ألمًا بقلبي ... وإن قيل: الأطِبَّاء الشّفَاةُ أراد "كانوا" فاجتزأ بالضمة عن الواو.

_ = من قبائل العرب يرجع نسبها إلى قضاعة أيضا، فهي: عذرة بن سعد بن هذيم بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، ومن بني عذرة جميل بن عبد الله بن معمر صاحب بثينة، ومنهم أيضا عروة بن حزام بن مالك صاحب عفراء، ومنهم مجنون بني عامر صاحب ليلى، والاستشهاد في هذا البيت بقوله "قبل" فإنه يروى بكسر اللام وأصله "قبلي" فحذف ياء المتكلم مكتفيًا بالكسرة التي قبلها للدلالة عليها، ولو أنه قال "قبل" بضم اللام على حذف المضاف إليه ونيّة معناه لاستقام له الوزن وسلم من كل شيء، فقد كان متمكنًا من أن يأتي بالبيت على وجه لا ضرورة فيه، وذلك يدل على أن حذف حرف العلة لدلالة الحركة عليه أمر هين عندهم لا يرون به بأسا، وانظر الشواهد 245-254 التي مضت في المسألة 56 ثم انظر الشاهد 274 والشاهد 283 في المسألة 62. [365] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 9" ولم يعزه ولا عزاه الأعلم إلى قائل معين، والمنصل -بضم الميم والصاد بينها نون ساكنة- السيف، واليعملات: جمع يعملة، وهي الناقة القوية على العمل، وقوله "دوامي الأيد" إشارة إلى أنه كان في سفر وأن نوقه قد حفين لإدمان السير ودميت أخفافهن، والسريح: جلود أو خرق تشد على أخفاق الناقة، وصف أنه عقر نوقه بسيفه للأضياف مع شدة حاجته إليهن لكونه مسافرًا، والاستشهاد بالبيت في قوله "دوامي الأيد" حيث حذف الياء اكتفاء بالكسرة قبلها، وأصله "دوامي الأيدي". [366] هذا البيت من شواهد سيبويه أيضا "1/ 9" ونسبه إلى خفاف بن ندبة السلمي -وصف الشاعر شفتيّ امرأة فشبهها بنواحي ريش الحمامة في رقتهما ولطافتهما، وأراد أن لثاتها تضرب إلى السمرة فكأنها مسحت بالإثمد، وعصف الإثمد: ما سحق منه، وخص الحمامة النجدية لأنه يريد الحمام الورق وهي تألف الجبال، ولا تألف الفيافي والسهول، والنجدية: المنسوبة إلى النجد، وهو ما ارتفع من الأرض، والاستشهاد بالبيت في قوله "كنواح" فإنه أراد أن يقول: كنواحي ريش حمامة" فلم يتهيأ له أن يقيم وزن البيت مع الياء فحذفها اكتفاء بالكسرة التي قبلها للدلالة عليها.

واجتزاؤهم بالفتحة عن الألف نحو ما أنشدوا: [245] فلست بمدركٍ ما فاتَ منِّي ... بِلَهْفٍ ولا بِلَيْتَ ولا لَوَانِّي أراد "بلهفًا" فاجتزأ بالفتحة عن الألف، كما قال رؤبة: [283] وصَّانِي العجاج فيما وَصَّنِي أراد "فيما وصاني" فاجتزأ بالفتحة عن الألف. واجتزاؤهم بهذه الحركات عن هذه الأحرف كثير في كلامهم، والشواهد على ذلك أكثر من أن تُحْصَى. ثم لو صح أن التقدير فيه "لتفد" كما زعمتم فنقول: إنما حذف اللام لضرورة الشعر. وما حذف للضرورة لا يجعل أصلًا يقاس عليه. وأما قوله. [351] فقلت ادْعِي وأَدْعُ فإنَّ أندى فإنه قد روي: [351] ... ادعي وأَدْعُو إنَّ أندى بإثبات الواو في "أدعو" وحذف الفاء من "إن" فلا يكون فيه حجة، ولئن صح ما رووه فهو محمول على ضرورة الشعر كما بينا في البيت الأول، وهو الجواب عن قول الآخر: [352] ... أو يَبْكِ من بَكَى وعن قول الآخر: [353] فيدن مني تَنْهَهُ المَزَاجِرُ والذي يدل على أن ذلك مما يختص بالشعر أن أبا عثمان المازني قال: جلست في حلقة الفراء فسمعته يقول لأصحابه: لا يجوز حذف لام الأمر إلا في شعر، وأنشد: [353] من كان لا يزعم أني شاعر ... فَيَدْنُ مني تَنْهَهُ المَزَاجِرُ فقلت له: لم جاز في الشعر ولم يجز في الكلام؟ فقال: لأن الشعر يضطر فيه الشاعر فيحذف؛ فدل على أن هذا الحذف إنما يكون في الشعر لا في اختيار الكلام، بالإجماع. وأما ما رووه عن رؤبة من قوله: "خيرٍ" فلا خلاف أنه من الشاذ النادر الذي لا يعرَّجُ عليه، ولهذا أجمع النحويون قاطبة على أنه لا يجوز في جواب من قال: "أين تذهب" أن يقال: زيدٍ، على تقدير إلى زيد، وفي امتناع ذلك

بالإجماع دليل على أنه من النادر الذي لا يلتفت إليه ولا يقاس عليه. وأما قولهم "إنكم تذهبون إلى أن "أن" الخفيفة المصدرية تعمل مع الحذف بعد الفاء والواو وأو ولام كي ولام الجحود وحتى، وإذا جاز لكم أن تعملوها مع الحذف وهي من عوامل الأفعال كذلك يجوز لنا أن نُعْمِلَ اللام مع الحذف وهي من عوامل الأفعال" قلنا: الجواب عن هذا من وجهين. أحدهما: إنما جاز حذفها لأن هذه الأحرف دالة عليها، فصارت في حكم ما لم يحذف، على ما بينا في حذف رب وحرف الشرط، بخلاف لام الأمر، فبان الفرق بينهما. والوجه الثاني: أنه لو كانت اللام الجازمة للفعل محذوفة كما تحذف أن لكان يجب أن يُلْقَى حرف المضارعة فيقال "تفعل" في معنى لتفعل، كما بقي حرف المضارعة مع حذف أن بعد الفاء والواو وأو ولام الجحود ولام كي وحتى، فلما حذف ههنا حرف المضارعة فقيل "افعل" دل على أن ما ذهبوا إليه قياس باطل لا أصل له ولا حاصل. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه أن ما كان على وزن فعال من أسماء الأفعال نحو نزال مبنيّ لقيامه مقام فعل الأمر، فلو لم يكن فعل الأمر مبنيا وإلا لما بني ما قام مقامه. قولهم "إنما بني ما كان على فعال من أسماء الأفعال لتضمنه معنى لام الأمر، لأن نزال اسم انزل وأصله لتنزل" قلنا: هذا بناء منكم على أن فعل الأمر مقتطع من الفعل المضارع، وقد بينا فساده بما يغني عن الإعادة، ودللنا على أن فعل الأمر صيغة مُرْتَجَلَةٌ قائمة بنفسها باقية في البناء علي أصلها؛ فوجب أن يكون هذا الاسم مبنيًّا لقيامه مقامه على ما بينا، والله أعلم.

مسألة القول في علة إعراب الفعل المضارع

73- مسألة: [القول في علة إعراب الفعل المضارع] 1 أجمع الكوفيون والبصريون على أن الأفعال المضارعة معربة، واختلفوا في علة إعرابها؛ فذهب الكوفيون إلى أنه إنما أعربت لأنه دخلها المعاني المختلفة والأوقات الطويلة. وذهب البصريون إلى أنها إنما أعربت لثلاثة أوجه؛ أحدها2 أن الفعل المضارع يكون شائعًا فيتخصص، كما أن الاسم يكون شائعًا فيتخصص، ألا ترى أنك تقول "يذهب" فيصلح للحال والاستقبال، فاختص بعد شياعه، كما أن الاسم يختص بعد شياعه، كما تقول "رجل" فإذا قلت "سوف يذهب" اختص بالاستقبال، فاختص بعد شياعه، كما أن الاسم يختص بعد شياعه، كما تقول "رجل" فيصلح لجميع الرجال، فإذا قلت "الرجل" اختص بعد شياعه، فلما اختص هذا الفعل بعد شياعه كما أن الاسم يختص بعد شياعه فقد شابهه من هذا الوجه، والوجه الثاني: أنه تدخل عليه لام الابتداء تقول: "إن زيدا ليقوم" كما تقول "إن زيدا لقائم" فلما دخلت عليه لام الابتداء كما تدخل على الاسم دلَّ على مشابهة بينهما، ألا ترى أنه لا يجوز أن تدخل هذه اللام على الفعل الماضي ولا على فعل الأمر! ألا ترى أنك لا تقول: "إن زيدا لقام" ولا "إن زيدا لاضْرِبْ عمرًا" وما أشبه ذلك؛ لعدم المشابهة بينهما وبين الاسم. والوجه الثالث: أنه يجري على اسم الفاعل في حركته وسكونه، ألا ترى أن قولك "يضرب" على وزن "ضارب" في حركته وسكونه، فلما أشبه هذا الفعل الاسم من هذه الأوجه وجب أن يكون معربًا كما أن الاسم معرب. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: قولهم: "إنما أعربت لأنها دخلها المعاني

_ 1 انظر في هذه المسألة: أسرار العربية للمؤلف "ص126" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص922" وشرح الأشموني مع حاشية الصبان "1/ 64 و3/ 234 بولاق" وتوضيح الشيخ خالد الأزهري "1/ 66 و2/ 289". 2 العلة في إعراب المضارع عند البصريين هي مشابهته للاسم، وهذه الوجوه التي ذكرها المؤلف هي بعض وجوه مشابهة الفعل المضارع للاسم.

المختلفة والأوقات الطويلة قلنا: قولكم يدخلها المعاني المختلفة يبطل بالحروف؛ فإنها تدخلها المعاني المختلفة، ألا ترى أن "ألا" تصلح للاستفهام والعرض والتمني، و"مِنْ" تجيء لمعانٍ مختلفة من ابتداء الغاية والتبعيض والتبيين والزيادة للتوكيد، إلى غير ذلك من الحروف، ولا خلاف بين النحويين أنه لا يعرب منها شيء وقولكم "والأوقات الطويلة" تبطل بالفعل الماضي؛ فإنه كان ينبغي أن يكون معربًا؛ لأنه أطول من المستقبل؛ لأن المستقبل يصير ماضيًا، والماضي لا يصير مستقبلًا، فإذا كان الماضي الذي هو الأطول مبنيًّا؛ فكيف [يجوز أن] يكون المستقبل الذي هو دونه معربًا؟ فلو كان طول الزمان يوجب الإعراب لوجب أن يكون الماضي معربًا، فلما لم يعرب دلَّ على أن هذا تعليل ليس عليه تعويل، والله أعلم.

مسألة القول في رفع الفعل المضارع

74- مسألة: [القول في رفع الفعل المضارع] 1 اختلف مذهب الكوفيين في رفع الفعل المضارع نحو "يقوم زيد، ويذهب عمرو" فذهب الأكثرون إلى أنه يرتفع لتعريه من العوامل الناصبة والجازمة، وذهب الكسائي إلى أنه يرتفع بالزائد في أوله، وذهب البصريون إلى أنه يرتفع لقيامه مقام الاسم. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن هذا الفعل تدخل عليه النواصب والجوازم، فالنواصب نحو: أن، ولن، وإذن، وكي، وما أشبه ذلك، والجوازم نحو: لم، ولما، ولام الأمر، ولا في النهي، وإن في الشرط، وما أشبه ذلك، فإذا دخلت عليه هذه النواصب دخله النصب، نحو "أريد أن تقوم، ولن يقوم، وإذن أكرمك، وكي تفعل ذلك"، وما أشبه ذلك، وإذا دخلت عليه هذه الجوازم دخله الجزم، نحو "لم يقم زيد، ولما يذهب عمرو، ولينطلق بكر، ولا يفعل بشر، وإن تفعل أفعل" وما أشبه ذلك، وإذا لم تدخله هذه النواصب أو الجوازم يكون رفعًا، فعلمنا أن بدخولها دخل النصب أو الجزم، وبسقوطها عنه دخله الرفع. قالوا: ولا يجوز أن يقال: "إنه مرفوع لقيامه مقام الاسم" لأنه لو كان مرفوعًا لقيامه مقام الاسم لكان ينبغي أن ينصب إذا كان الاسم منصوبًا كقولك: "كان زيد يقوم" لأنه قد حلّ محلّ الاسم إذا كان منصوبًا وهو "قائمًا" ثم كيف يأتيه الرفع لقيامه مقام الاسم والاسم يكون مرفوعًا ومنصوبًا ومخفوضًا؟ ولو كان كذلك لوجب أن يعرب بإعراب الاسم في الرفع والنصب والخفض، يدل عليه2 أنا وجدنا نصبه وجزمه بناصب وجازم لا يدخلان على الاسم؛ فعلمنا أنه يرتفع من

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني بحاشية الصبان "3/ 234 بولاق" وتوضيح الشيخ خالد الأزهري "2/ 289 بولاق". 2 في ر "يدل عليه وهو أنا وجدنا" وكلمة "وهو" مقحمة.

حيث لا يرتفع الاسم مثل الحالين في النصب والجزم، فدلَّ على ما قلنا. والذي يدل على أنه لا يرتفع لقيامه مقام الاسم أنه لو كان مرفوعًا لقيامه مقام الاسم لكان ينبغي أن لا يرتفع في قولهم "كاد زيد يقوم" لأنه لا يجوز أن يقال: كاد زيد قائمًا، فلما وجب رفعه بالإجماع دلَّ على صحة ما قلناه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه مرفوع لقيامه مقام الاسم، وذلك من وجهين: أحدهما: أن قيامه مقام الاسم عامل معنوي؛ فأشبه الابتداء، والابتداء يوجب الرفع، فكذلك ما أشبهه. والوجه الثاني: أنه بقيامه مقام الاسم قد وقع في أقوى أحواله، فلما وقع في أقوى أحواله وجب أن يعطى أقوى الإعراب، وأقوى الإعراب الرفع؛ فلهذا كان مرفوعًا لقيامه مقام الاسم. ولا يلزم على كلامنا الفعل الماضي؛ فإنه يقوم مقام الاسم، ومع هذا فلا يجوز أن يكون مرفوعًا؛ لأنه إنما لم يكن قيام الفعل الماضي مقام الاسم موجبًا لرفعه، وذلك لأن الفعل الماضي ما استحق أن يكون معربًا بنوع ما من الإعراب؛ فصار قيامه مقام الاسم بمنزلة عدمه في وجوب الرفع؛ لأن الرفع نوع من الإعراب، وإذا لم يكن يستحق أن يعرب بشيء من الإعراب استحال أن يكون مرفوعًا؛ لأنه نوع منه، بخلاف الفعل المضارع؛ فإنه استحق جملة الإعراب بالمشابهة التي بيناها، فكان قيامه مقام الاسم موجبا له الرفعَ؛ وصار هذا بمنزلة السيف؛ فإنه يقطع في محل يقبل القطع، ولا يقطع في محل لا يقبل القطع، فعدم القطع في محل لا يقبل القطع لا يدل على أنه ليس بقاطع، فكذلك ههنا: عدم الرفع في الفعل الماضي مع قيامه مقام الاسم لا يدل على أن قيام الفعل المضارع مقام الاسم ليس بموجب للرفع، وهذا واضح لا إشكال فيه. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنه يرتفع بتعرِّيه من العوامل الناصبة والجازمة" قلنا: هذا فاسد، وذلك لأنه يؤدي إلى أن يكون الرفع قبل النصب والجزم، ولا خلاف بين النحويين أن الرفع قبل النصب والجزم؛ وذلك لأن الرفع صفة الفاعل، والنصب صفة المفعول، وكما أن الفاعل قبل المفعول؛ فكذلك ينبغي أن يكون الرفع قبل النصب، وإذا كان الرفع قبل النصب فلأن يكون قبل الجزم كان ذلك من طريق الأولى، فلما أدّى قولهم إلى خلاف الإجماع وجب أن يكون فاسدًا.

قولهم "لو كان مرفوعًا لقيامه مقام الاسم لكان ينبغي أن يكون منصوبًا إذا كان الاسم منصوبًا -إلى آخر ما ذكروه" قلنا: إنما لم يكن منصوبًا ومجرورًا إذا قام مقام اسم منصوب أو مجرور؛ لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال؛ وهذا فعل؛ فلهذا لم يكن عامل الاسم عاملًا فيه. وأما قولهم "وجدنا نصبه وجزمه بناصب وجازم لا يدخلان على الاسم، فعلمنا أنه يرتفع من حيث لا يرتفع الاسم" قلنا: وكذلك نقول؛ فإنه يرتفع من حيث لا يرتفع الاسم؛ لأن ارتفاعه لقيامه مقام الاسم، والقيام مقام الاسم ليس بعامل للرفع في الاسم. وأما قول الكسائي "إنه يرتفع بالزائد في أوله" فهو قول فاسد من وجوه: أحدها: أنه كان ينبغي أن لا تدخل عليه عوامل النصب والجزم؛ لأن عوامل النصب والجزم لا تدخل على العوامل. والوجه الثاني: أنه لو كان الأمر على ما زعم لكان ينبغي أن لا ينتصب بدخول النواصب، ولا ينجزم بدخول الجوازم؛ لوجود الزائد أبدًا في أوله، فلما انتصب بدخول النواصب وانجزم بدخول الجوازم دلَّ على فساد ما ذهب إليه. والوجه الثالث: إن هذه الزوائد بعض الفعل، لا تنفصل منه في لفظ، بل هي من تمام معناه، فلو قلنا: "إنها هي العاملة" لأدى ذلك إلى أن يعمل الشيء في نفسه، وذلك محال، ويخرج على هذا "أن" المصدرية فإنها تعمل في الفعل المستقبل وهي معه في تقدير المصدر؛ لأنها قائمة بنفسها ومنفصله عن الفعل، وكل واحد منهما ينفصل عن صاحبه، فبان الفرق بينهما. وأما قولهم: "إنه لو كان مرفوعًا لقيامه مقام الاسم لكان ينبغي أن لا يرتفع في قولهم: كاد زيد يقوم؛ لأنه لا يجوز أن يقال كاد زيد قائما" قلنا: هذا فاسد؛ لأن الأصل أن يقال: كاد زيد قائمًا، ولذلك ردَّه الشاعر إلى الأصل لضرورة الشعر في قوله: [367] فَأُبْتُ إلى فهمٍ وما كدت آئِبًا ... وكم مثلها فارقْتُها وهي تَصْفِرُ

_ [367] هذا البيت من كلام تأبط شرا، واسمه ثابت بن جابر بن سفيان، الفهمي وهو تاسع تسعة أبيات اختارها أبو تمام حبيب ابن أوس الطائي في ديوان الحماسة "انظر شرح التبريزي 1/ 75 بتحقيقنا وشرح المرزوقي ص74-84" والبيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص923 و1021" والأشموني "رقم 231" وأوضح المسالك "رقم 118" وابن عقيل "رقم 85" وابن الناظم في باب أفعال المقاربة من شرح الألفية، وشرحه العيني "2/ 165 بهامش الخزانة" ورضي الدين في باب الفعل المضارع من شرح الكافية، وشرحه =

إلا أنه لما كانت "كاد" موضوعة للتقريب من الحال واسم الفاعل ليس دلالته على الحال بأولى من دلالته على الماضي عدلوا عنه إلى "يفعل" لأنه أدلُّ على مقتضى كاد، ورفعوه مراعاة للأصل؛ فدلَّ على صحة ما ذهبنا إليه، والله أعلم.

_ = البغدادي في الخزانة "3/ 540" وكان بنو لحيان -وهم حي من هذيل- وقد وجدوا تأبط شرا يشتار عسلا فوق جبل، فأخذوا عليه طريقه، فلما أحس ذلك منهم وكره أن يقع في أسرهم انطلق إلى مكان بعيد ثم صب ما معه من العسل على الصخر وانزلق عليه حتى انتهى إلى الأرض ثم أسلم قدميه للريح فنجا، وفهم -بفتح فسكون- قبيلة تأبط شرًا، وهم بنو فهم بن عمرو بن قيس عيلان "وما كدت آئبا" رواية الحماسة "وما كنت آئبا" ولا شاهد فيها لما نحن فيه الآن، وآئب: اسم الفاعل من آب يئوب أوبا ومآبا: أي رجع، وتصفر: تتأسف وتتحزن على أنها لم تستطع أن تنال مني. وموضع الاستشهاد بهذا البيت هنا هو قوله "وما كدت أئبا" حيث جاء الشاعر بخبر "كاد" اسما مفردا منصوبًا، والأصل في أفعال المقاربة ني كون خبرها جملة فعلية فعلها مضارع، قال ابن جني "استعمل الشاعر الاسم الذي هو الأصل المرفوض الاستعمال موضع الفعل الذي هو فرع، وذلك أن قولك كدت أقوم أصله كدت قائما، ولذلك ارتفع المضارع -أي لوقوعه موقع الاسم- فأخرجه الشاعر على أصله المرفوض، كما يضطر الشاعر إلى مراجعة الأصول المهجورة عن مستعمل الفروع، نحو صرف ما لا ينصرف، وإظهار التضعيف، وتصحيحه المعتل، وما جرى مجرى ذلك" ا. هـ كلامه. ونظير هذا البيت قول الشاعر، وهومن شواهد ابن يعيش "ص924" و"232" ومغني اللبيب "250" وشرحه العيني "2/ 161": أكثرت في العذل ملحا دائما ... لا تكثرن إني عسيت صائما

مسألة عامل النصب في الفعل المضارع بعد واو المعية

75- مسألة: [عامل النصب في الفعل المضارع بعد واو المعية] 1 ذهب الكوفيون إلى أن الفعل المضارع في نحو قولك: "لا تأكل السمك وتَشْرَبَ اللبن" منصوب على الصرف. وذهب البصريون إلى أنه منصوب بتقدير أن، وذهب أبو عُمَرَ الجَرْمِيُّ من البصريين إلى أن الواو هي الناصبة بنفسها؛ لأنها خرجت عن باب العطف. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا: إنه منصوب على الصرف، وذلك لأن الثاني مخالف للأول، ألا ترى أنه لا يحسن تكرير العامل فيه، فلا يقال: لا تأكل السمك ولا تشرب اللبن، وأن المراد بقولهم: "لا تأكل السمك وتشرب اللبن" بجزم الأول وبنصب الثاني النهي عن أكل السمك وشرب اللبن مجتمعين، لا منفردين، فلو طَعِمَ كل واحد منهما منفردا لما كان مرتكبًا للنهي، ولو كان في نية تكرير العامل لوجب الجزم في الفعلين جميعًا، فكان يقال: "لا تأكل السمك وتشربِ اللبن" فيكون المراد هو النهي عن أكل السمك وشرب اللبن منفردين ومجتمعين، فلو طَعِمَ كل واحد منهما منفردا عن الآخر أو معه لكان مرتكبا للنهي؛ لأن الثاني موافق للأول في النهي، لا مخالف له، بخلاف ما وقع الخلاف فيه؛ فإن الثاني مخالف للأول، فلما كان الثاني مخالفًا للأول ومصروفا عنه صارت مخالفته للأول وصرفه عنه ناصبًا له، وصار هذا كما قلنا في الظروف، نحو "زيدٌ عندك" وفي المفعول معه، نحو "لو تُرِكَ زيدٌ والأسد لأكلَهُ" فكما كان الخلاف يوجب النصب هناك، فكذلك ههنا. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا: إنه منصوب بتقدير "أن" وذلك لأن الأصل في الواو أن تكون حرف عطف، والأصل في حروف العطف أن لا تعمل؛ لأنها لا تختص؛ لأنها تدخل تارة على الاسم وتارة على الفعل على ما بيّنّا

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني مع حاشية الصبان "3/ 258 و260" وشرح المفصل لابن يعيش "ص929" وشرح الرضي على الكافية "2/ 223 وما بعدها".

في غير موضع، وإنما لما قصدوا أن يكون الثاني في غير حكم الأول وحُوِّل المعنى حول إلى الاسم، فاستحال أن يضم الفعل إلى الاسم، فوجب تقدير "أن"؛ لأنها مع الفعل بمنزلة الاسم، وهي الأصل في عوامل النصب في الفعل. وأما ما ذهب إليه أبو عمر الجَرْمِي أنها عاملة لأنها خرجت عن باب العطف فباطل؛ لأنه لو كانت هي العاملة كما زعم لجاز أن تدخل عليها الفاء والواو للعطف، وفي امتناعه من ذلك دليل على بطلان ما ذهب إليه. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إن الثاني مخالف للأول فصارت مخالفته له وصرفه عنه موجبًا له النصب" قلنا: قد بينا في غير مسألة أن الخلاف لا يصلح أن يكون موجبًا للنصب، بل ما ذكرتموه هو الموجب لتقدير "أن" لا أن العامل هو نفس الخلاف والصرف، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال: إن زيدا في قولك: "أكرمت زيدًا" لم ينتصب بالفعل، وإنما انتصب بكونه مفعولًا، وذلك محال؛ لأن كونه مفعولًا يوجب أن يكون أكرمت عاملًا فيه النصب، فكذلك ههنا: الذي أوجب نصب الفعل ههنا بتقدير "أن" هو امتناعه من أن يدخل في حكم الأول، كما أن الذي أوجب نصب زيد في قولك "أكرمت زيدا" وقوع الفعل عليه؛ فدلّ على ما قلناه، والله أعلم.

مسألة عامل النصب في الفعل المضارع بعد فاء السببية

76- مسألة: [عامل النصب في الفعل المضارع بعد فاء السببية] 1 ذهب الكوفيون إلى أن الفعل المضارع الواقع بعد الفاء في جواب الستة الأشياء -التي هي الأمر والنهي والنفي والاستفهام والتمني والعرض- ينتصب بالخلاف، وذهب البصريون إلى أنه ينتصب بإضمار أن، وذهب أبو عمر الجرمي إلى أنه ينتصب بالفاء نفسها؛ لأنها خرجت عن باب العطف، وإليه ذهب بعض الكوفيين، والكلام في هذه المسألة على طريق الإجمال كالكلام في المسألة التي قبلها، فأما الكلام على سبيل التفصيل فنقول: أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن الجواب مخالف لما قبله؛ لأن ما قبله أمر أو نهي أو استفهام أو نفي أو تمنٍ أو عرض، ألا ترى أنك إذا قلت: "إيتنا فنكرمك" لم يكن الجواب أمرًا، فإذا قلت "لا تنقطع عنا فَنَجْفُوكَ" لم يكن الجواب نهيًا، وإذا قلت "ما تأتينا فتحدثنا" لم يكن الجواب نفيا، وإذا قلت: "أين بيتك فأزورك" لم يكن الجواب استفهاما، وإذا قلت: "ليت لي بعيرا فأحج عليه" لم يكن الجواب تمنيا، وإذا قلت: "ألا تنزل فتصيب خيرا" لم يكن الجواب عرضا، فلما لم يكن الجواب شيئا من هذه الأشياء كان مخالفا لما قبله وإذا كان مخالفا لما قبله وجب أن يكون منصوبًا على الخلاف على ما بينا. وأما البصريون فقالوا: إنما قلنا: إن "هـ" منصوب بتقدير "أن" وذلك لأن الأصل في الفاء أن يكون حرف عطف، والأصل في حروف العطف أن لا تعمل؛ لأنها تدخل تارة على الأسماء وتارة على الأفعال، على ما بينا فيما تقدم؛ فوجب أن لا تعمل، فلما قصدوا أن يكون الثاني في غير حكم الأول وحوِّل المعنى حوِّل إلى الاسم، فاستحال أن يضم الفعل إلى الاسم، فوجب تقدير "أن"؛ لأنها مع الفعل

_ 1 انظر في هذه المسألة شرح الأشموني مع حاشية الصبان "3/ 258" وما ذكرناه من المراجع في المسألة السابقة.

بمنزلة الاسم، وهي الأصل في عوامل النصب في الفعل على ما بيَّنا قبل، وجاز أن تعمل "أن" الخفيفة مع الحذف دون أنّ الشديدة، وإن كانت الشديدة أقوى من الخفيفة؛ لأن الشديدة من عوامل الأسماء، والخفيفة من عوامل الأفعال، وعوامل الأسماء أقوى من عوامل الأفعال؛ لأن الفاء ههنا صارت دالة عليها، فصارت في حكم ما لم يحذف، وكذلك الواو وأو ولام كي ولام الجحود وحتى، وصارت دالة عليه، فجاز إعمالها مع الحذف، بخلاف "أن" الشديدة فإنه ليس في اللفظ ما يدل على حذفها، فبان الفرق بينهما. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: قولهم "إن الجواب لما كان مخالفا لما قبله وجب أن يكون منصوبًا على الخلاف" قلنا: قد أجبنا عن هذا في غير موضع فيما مضى؛ فلا نعيده ههنا. وأما من ذهب إلى أنها هي العاملة لأنها خرجت عن بابها؛ قلنا: لا نسلم، فإنها لو كانت هي الناصبة بنفسها، وأنها قد خرجت عن بابها لكان ينبغي أن يجوز دخول حرف العطف عليها، نحو "ايتني وفأكرمك وفأعطيك" وفي امتناع دخول حرف العطف عليها دليل على أن الناصب غيرها، ألا ترى أن واو القسم لما خرجت عن بابها جاز دخول حرف العطف عليها، نحو "فوالله لأفعلن، ووالله لأذهبن" لأن الحرف إنما يمتنع دخوله على حرف مثله إذا كانا بمعنى واحد، فلما امتنع دخول حرف العطف ههنا على الفاء دلَّ أنها باقية على حكم الأصل، فلا يجوز أن يدخل عليها حرف العطف، والله أعلم.

مسألة هل تعمل "أن" المصدرية محذوفة من غير بدل؟

77- مسألة [هل تعمل "أن" المصدرية محذوفة من غير بَدَلٍ؟] 1 ذهب الكوفيين إلى أنَّ "أن" الخفيفة تعمل في الفعل المضارع النصب مع الحذف من غير بدل. وذهب البصريون إلى أنها لا تعمل مع الحذف من غير بدل. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه يجوز إعمالها مع الحذف قراءة عبد الله بن مسعود {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [البقرة: 83] فنصب "لا تَعْبُدُواَ" بأن مقدرة؛ لأن التقدير فيه: أن لا تعبدوا إلا الله، فحذف "أن" وأعملها مع الحذف، فدل على أنها تعمل النصب مع الحذف، وقال طرفة: [368] أَلَا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الوَغَى ... وأن أشهد اللَّذَّات هل أنت مُخْلِدِي

_ [368] هذا البيت من معلقة طرفة بن العبد البكري، وهو من شواهد سيبويه "1/ 452" وابن منظور "أن ن" وابن يعيش في شرح المفصل "ص169" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 626" وابن عقيل "رقم 333" وشرحه العيني "4/ 402 بهامش الخزانة" وأنشده رضي الدين وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 57 و3/ 594" والزاجري: أي الذي يكفني ويمنعني؛ والوغى -بوزن الفتى مقصورًا- الحرب، يقول: أنا لست خالدًا، ولا بدَّ أن يأتيني الموت يومًا، فليس مما يقتضيه العقل أن أقعد عن شهود الحرب ومنازلة الأقران مخافة أن أموت. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "أحضر الوغى" وهذا الفعل يروى بروايتين، الأولى: برفع "أحضر" وقد رواه سيبويه على هذا الوجه، ورواه ابن هشام في المغني ليستشهد به على رواية الرفع، وهذه الرواية هي الأصل عند الفريقين، فإن الأصل أن يرتفع المضارع ما لم يسبقه ناصب ولا جازم، والرواية الأخرى بنصب "أحضر" على أنه فعل مضارع منصوب بأن المصدرية محذوفة، قال الأعلم "وقد يجوز النصب بإضمار أن ضرورة، وهو مذهب الكوفيين" ا. هـ.

فنصب "أحضر" لأن التقدير فيه: أن أحضر، فحذفها وأعملها على الحذف. والدليل على صحة هذا التقدير أنه عطف عليه قوله "وأن أشهد اللذات" فدل على أنها تنصب مع الحذف. وقال عامر بن الطُّفَيلِ: [369] فلم أَرَ مثلها خُبَاسَةَ وَاجِدٍ ... ونَهْنَهْتُ نفسي بعد ما كِدْتُ أَفْعَلَهْ

_ [369] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 155" ونسبه لعامر بن جوين الطائي، وأقر هذه النسبة الأعلم الشنتمري، واستشهد به ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 895" ولم يعزه، والأشموني "رقم 237" وأنشده ابن منظور "خ ب س" وقال قبل إنشاده "قال عمر بن جوين وامرؤ القيس" هكذا محرفًا، وروى أبو الفرج الأصفهاني عجز هذا البيت لعامر بن جوين الطائي وهو مع بيت سابق عليه بروايته هكذا: فكم للسعيد من هجان مؤبلة ... تسير صحاحا ذات قيد ومرسلة أردت بها فتكا فلم أرتمض له ... ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله وقد استشهد بالبيت ابن الناظم في نواصب المضارع، وشرحه العيني "4/ 401" والخباسة -بضم الخاء وفتح الباء مخففة- الغنيمة، وتقول: خبس فلان الشيء يخبسه -من مثال نصر- واختبسه، وتخبسه: أي أخذه وغنمه. ونهنهت نفسي: كففتها وزجرتها، وقال أبو جندب الهذلي. فنهنهت أولي القوم عنهم بضربة ... تنفس عنها كل حشيان مجحر والاستشهاد بهذا البيت في قوله "كدت أفعله" وكل العلماء متفقون على أن الرواية بنصب اللام في "أفعله" ولكنهم يختلفون في التخريج، فأما سيبويه فيرى أن الفعل المضارع هنا منصوب بأن المصدرية محذوفة مع أنه يقول: إن الأصل تجرد المضارع الذي يقع خبرًا لكاد من أن المصدرية، فقد ركب ضرورة على ضرورة، قال: "حمله على أن؛ لأن الشعراء قد يستعملون أن هنا مضطرين كثيرًا" ا. هـ. وقال الأعلم "الشاهد فيه نصب أفعله بإضمار أن ضرورة، ودخول أن على كاد لا يستعمل في الكلام، فإذا اضطر الشاعر أدخلها عليها تشبيهًا لها بعسى، لاشتراكهما في معنى المقاربة، فلما أدخلوها بعد كاد في الشعر ضرورة توهمها هذا الشاعر مستعملة، ثم حذفها ضرورة، هذا تقدير سيبويه، وقد خولف فيه؛ لأن أن مع ما بعدها اسم فلا يجوز حذفها، وحمل المراد بالفعل على إرادة النون الخفيفة وحذفها ضرورة، والتقدير عنده: بعد ما كدت أفعلنه، وهذا التقدير أيضًا بعيد، لتضمنه ضرورتين: إدخال النون في الواجب، ثم حذفها، فقول سيبويه أولى، لأن أن قد أتت في الأشعار محذوفة كثيرا" ا. هـ. وترجيحه مقالة سيبويه مع اشتماله على ضرورة مركبة على ضرروة أخرى من أعجب العجب، وقال ابن هشام في مغني اللبيب: "حذف أن الناصبة: هو مطرد في مواضع معروفة، وشاذ في غيرها، نحو: خذ اللص قبل يأخذك، ومرة يحفرها، ولا بدّ من تتبعها، أي قبل أن يأخذك، وأن يحفرها، ولا بدّ من أن تتبعها، وقال به سيبويه في قوله: ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله وقال المُبَرّد: الأصل أفعلها، ثم حذفت الألف ونقلت حركة الهاء لما قبلها، وهذا أولى =

فنصب "أفعله" لأن التقدير فيه: أن أفعله؛ فدلّ على أنها تعمل مع الحذف، وهذا على أصلكم ألزم؛ لأنكم تزعمون أنها تعمل مع الحذف بعد الفاء في جواب الأمر والنهي والنفي [والاستفهام] والتمني والعرض، وكذلك بعد الواو واللام وأو وحتى فكذلك ههنا. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنها لا يجوز إعمالها مع الحذف أنها حرف نصب من عوامل الأفعال، وعوامل الأفعال ضعيفة؛ فينبغي أن لا تعمل مع الحذف من غير بدل. والذي يدل على ذلك أنَّ "أنَّ" المشددة التي تنصب الأسماء لا تعمل مع الحذف، وإذا كانت "أَنَّ" المشددة لا تعمل مع الحذف فأنِ الخفيفة أولى أن لا تعمل، وذلك لوجهين. أحدهما: أن "أن" المشددة من عوامل الأسماء، و"أن" الخفيفة من عوامل الأفعال، وعومل الأسماء أقوى من عوامل الأفعال، وإذا كانت أن المشددة لا تعمل مع الحذف وهي الأقوى فأن لا تعمل "أن" الخفيفة مع الحذف وهي الأضعف كان ذلك من طريق الأولى. والثاني: أن "أن" الخفيفة إنما عملت النصب لأنها أشبهت "أنّ" المشددة، وإذا كان الأصل المشبه به لا ينصب مع الحذف، فالفرع المشبه أولى أن لا ينصب مع الحذف؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون الفرع أقوى من الأصل وذلك لا يجوز. والذي يدل على ضعف عمل "أن" الخفيفة أنه من العرب من لا يعملها

_ = من قول سيبويه؛ لأنه أضمر أن في موضع حقها ألا تدخل فيه صريحًا وهو خبر كاد، واعتد بها مع ذلك بإبقاء عملها" ا. هـ كلامه. ويتخلص من هذين الكلامين كلام الأعلم وكلام ابن هشام أن في قول الشاعر: "بعد ما كدت أفعله" ثلاثة تخريجات: التخريج الأول: تخريج سيبويه، وحاصله أن الفتحة على لام "أفعله" فتحة إعراب، وأن الفعل المنصوب بأن المصدرية محذوفة، وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة. التخريج الثاني: التخريج الذي حكاه الأعلم ولم يبين القائل به، وحاصله أن الفتحة التي على لام "أفعله" فتحة بناء، وأن الفعل مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة المحذوفة تخفيفًا، وقد ذكر المؤلف هذا التخريج. التخريج الثالث: تخريج أبي العباس المبرد، وحاصله أن الفتحة التي على لام "أفعله" لا هي فتحة الإعراب ولا هي فتحة البناء، ولكنها فتحة منقولة من الحرف الذي بعدها والفعل مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة العارضة بسبب النقل.

مظهرة ويرفع ما بعدها تشبيهًا لها بما؛ لأنها تكون مع الفعل بعدها بمنزلة المصدر كما أن "ما" تكون مع الفعل بعدها بمنزلة المصدر، ألا ترى أنك تقول "يعجبني أن تفعل" فيكون التقدير: يعجبني فعلك، كما تقول "يعجبني ما تفعل فيكون التقدير: يعجبني فعلك، فلما أشبهتها من هذا الوجه شُبِّهَتْ بها في ترك العمل، وقد روى ابن مجاهد أنه قرئ "لمن أراد أن يتم الرضاعة" بالرفع، وقال الشاعر: [370] يا صاحبي فَدَتْ نفسي نفوسكما ... وحيثما كنتما لَاقَيْتُمَا رَشَدَا

_ [370] قد استشهد بثالث هذه الأبيات ابن يعيش في شرح المفصل "ص925" وابن جني في شرح تصريف المازني "1/ 278" ورضي الدين في شرح الكافية "2/ 217" وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 559" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 35" وفي أوضح المسالك "رقم 493" والأشموني "رقم 1011" وشرحه العيني "4/ 380 بهامش الخزانة" وقال البغدادي "وهذه الأبيات الثلاثة قلما خلا عنها كتاب نحو، ومع كثرة الاستعمال لم يعزها أحد إلى شاعر" وأنشد العيني وابن جني ثاني هذه الأبيات هكذا: إن تقضيا حاجة لي خفّ محملها ... تستوجبا سنة عندي بها ويدا ومحل الاستشهاد بهذه الأبيات قوله "أن تقرآن" وقد اختلف العلماء في تخريج هذه الكلمة؛ فذهب قوم منهم الزمخشري وابن يعيش وتبعهما شراح الألفية -إلى أن "أن" هذه هي المصدرية التي تختص بالدخول على الفعل المضارع، والتي ينصب بها عامة العرب، ولكنها أهملت في هذا البيت ونحوه حملًا على "ما" المصدرية أختها، لاشتراكهما في معنى المصدرية وفي أن كل واحدة منهما تسبك ما بعدها بمصدر، وادّعى جماعة منهم ابن يعيش- أن إهمال "أن" المصدرية لغة لجماعة من العرب، قال: "على أن من العرب من يلغي عمل أن تشبيهًا بما، وعلى هذا قرأ بعضهم "لمن أراد أن يتم الرضاعة" بالرفع "ا. هـ. وذهب جماعة منهم أبو علي الفارسي وابن جني إلى أن "أن" ههنا مخففة من الثقيلة، وليست هي المصدرية المختصة بالفعل المضارع، وكان من حق العربية على الشاعر أن يفصل بين "أن" والفعل بالسين أو بسوف أو بقد، كما في قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} [المزمل: 20] وقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل: 20] وقوله: {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} [المائدة: 113] ولكنه ترك الفصل حين اضطر لإقامة الوزن، قال ابن جني في شرح التصريف "1/ 278" "سألت أبا علي عن ثبات النون في تقرآن بعد أن، فقال: أن مخففة من الثقيلة، وأولاها الفعل بلا فصل للضرورة، فهذا أيضًا من الشاذ عن القياس والاستعمال جميعا" ا. هـ. وجعل ابن هشام القول بأن "أن" هي المخففة من الثقيلة قول الكوفيين، والقول بأنها المصدرية أهملت حملًا على قول البصريين، قال في مغني اللبيب "ص30 بتحقيقنا" "وقد يرفع الفعل بعد أن، كقراءة ابن محصين "لمن أراد أن يتم الرضاعة" وقول الشاعر: أن تقرآن على أسماء ويحكما ... مني السلام وألا تشعرا أحدا وزعم الكوفيون أن أن هذه هي المخففة من الثقيلة شذ اتصالها بالفعل، والصواب قول البصريين إنها أن الناصبة أهملت حملًا على ما أختها المصدرية" ا. هـ.

أن تَحْمِلَا حاجةً لِي خَفّ مَحْمِلُهَا ... تصنعا نعمةً عندي بها وَيَدَا أن تَقْرَآنِ على أسماء ويَحْكُمَا ... مني السلام، وأن لا تُشْعِرا أحدا فقال "أن تقرآن" فلم يعملها تشببها لها بما، على ما بيّنّا. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قراءة من قرآ: {لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّه} [هود: 26] فهي قراءة شاذة، وليس لهم فيها حجة؛ لأن: {تَعْبُدُوا} مجزوم بلا؛ لأن المراد بها النهي، وعلامة الجزم والنصب في الخمسة الأمثلة التي هذا أحدها واحدةٌ. أما قول طرفة: [368] ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى الرواية عندنا على الرفع، وهي الرواية الصحيحة، وأما من رواه بالنصب؛ فلعله رواه على ما يقتضيه القياس عنده من إعمال "أن" مع الحذف، فلا يكون فيه حجة، ولئن صحت الرواية بالنصب؛ فهو محمول على أنه توهَّم أنه أتى بأن، فنصب على طريق الغلط، كما قال الأحوص اليَرْبُوعِي: [117] مشائيمُ ليسوا مصلحين عشيرةً ... ولا ناعبٍ إلا ببينٍ غُرَابُها فجر قوله "ناعب" توهما أنه قال "ليسوا بمصلحين" فعطف عليه بالجر، وإن كان منصوبًا كما قال صِرْمَةُ الأنصاري: [115] بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابقٍ شيئًا إذا كان جائيًا فجر "سابق" توهما أنه قال "لست بمدرك ما مضى" فعطف عليه بالجر وإن كان منصوبًا، وهذا لأن العربي قد يتكلم بالكلمة إذا استهواه ضربٌ من الغلط فيعدل عن قياس كلامه وينحرف عن سَنَنِ أصوله، وذلك مما لا يجوز القياس عليه. وأما قول الآخر: [369] ... بعد ما كدت أفعله فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنه نصب "أفعله" على طريق الغلط على ما بيناه فيما تقدم، كأنه توهم أنه قال "كدت أن أفعله" لأنهم قد يستعملونها مع كاد في ضرورة الشعر، كما قال الشاعر: [371] قد كاد من طول البِلَى أن يَمْصَحَا

_ [371] هذا بيت من الرجز المشطور، وقبله: ربع عفاه الدهر طولا فانمحى وقد أنشده سيبويه "1/ 478" ونسبه إلى رؤبة بن العجاج، وأقره على هذه النسبة الأعلم =

فأما في اختيار الكلام فلا يستعمل مع "كاد" ولذلك لم يأتِ في قرآن ولا كلام فصيح. قال الله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] وقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 117] وكذلك

_ = الشنتمري، وأنشده أيضًا ابن يعيش فيشرح المفصل "ص1033" ونسبه لرؤبة أيضًا، وأنشده رضي الدين في باب أفعال المقاربة من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 90" وذكر أنه لم يعثر عليه في ديوان رؤبة، وأنشده جماعة من شراح الألفية، وشرحه العيني "2/ 215 بهامش الخزانة" والربع: المنزل حيث كان، ويروى "رسم" وهو ما بقي لاصقًا بالأرض من آثار الديار، وعفا: يكون لازمًا بمعنى درس، تقول: عفا المنزل يعفو، أي درس، ومنه قول لببيد بن ربيعة العامري في مطلع معلقته: عفت الديار محلها فمقامها ... بمنى تأبد غولها ورجامها ويكون عفا متعديا كما في البيت الذي قبل بيت الشاهد، ومعناه محا آثاره، وانمحى: مطاوع "محاه يمحوه" ويروى "فامحى" بتشديد الميم، على أنه قلب النون ميمًا ثم أدغم الميم في الميم، ومحل الاستشهاد في البيت قوله: "كاد أن يمصحا" حيث اقترن المضارع الواقع خبرًا لكاد بأن المصدرية، ومذهب سيبويه أن المستعمل في الكلام إسقاط أن، وأن ذكر أن معها مما يجيء في الشعر للضرورة تشبيهًا لكاد بعسى، كما أن المستعمل في الكلام ذكر أن في خبر عسى، وأنها قد تسقط مع عسى تشبيهًا لعسى بكاد. وأقول: قد وقع اقتران الفعل الواقع خبرا لكاد بأن في الحديث، وفي جملة من الشعر العربي، فمن ذلك ما ورد في صحيح البخاري في شأن أمية بن أبي الصلت "كاد أن يسلم" ويروى: "كاد الفقر أن يكون كفرًا" وفي حديث عمر بن الخطاب "ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب" وفي حديث جبير بن مطعم "كاد قلبي أن يطير" وأما الشعر فمنه بيت الشاهد، ومنه قول ذي الرمة: وجدت فؤادي كاد أن يستخفه ... رجيع الهوى من بعض ما يتذكر ومنه قول محمد بن مناذر، وهو من شواهد الأشموني: كادت النفس أن تفيظ عليه ... إذا غدا حشو ريطة وبرود ومنه قول الآخر، وهو من شواهد الأشموني أيضًا: أبيتم قبول السلم منا؛ فكدتم ... لدى الحرب أن تغنوا السيوف عن السل ومنه ما أنشده ابن الأعرابي: يكاد لولا سيره أن يملصا ومنه ما أنشده هو وغيره: حتى تراه وبه إكداره ... يكاد أن ينطحه إمجاره لو لم ينفس كربه هراره ومنه ما أنشده أبو زيد في صفة كلب: يرتم أنف الأرض في ذهابه ... يكاد أن ينسل من إهابه

سائر ما في القرآن من هذا النحو؛ فأما الحديث1 "كاد الفقر أن يكون كفرًا" فإن صح فزيادة "أن" من كلام الراوي، لا من كلامه عليه السلام؛ لأنه صلوات الله عليه أفصح من نطق بالضاد. والوجه الثاني: أن يكون أراد بقوله "بَعْدَ ما كدت أَفْعَلَهْ" بعد ما كدت أفعلها، يعني الخَصْلَةَ. فحذف الألف وألقى فتحة الهاء على ما قبلها، وهذا التأويل في هذا البيت حكاه أبو عثمان عن أبي محمد التوزي عن الفراء من أصحابكم، كما حكي أن بعض العرب قتل رجلًا يقال له مَرْقَمَةُ وقد كلفه وآخر أن يبتلعا جُرْدَانَ الحمار2 فامتنعا فَقَتَلَ مَرْقَمةَ، فقال الآخر "طَاحَ مَرْقَمَةْ" فقال له القاتل: "وأنت إن لم تَلْقَمَهْ" يريد: تَلقمُهَا، فحذف الألف وألقى حركة الهاء على الميم، وكما قال الشاعر: [372] فإني قد رأيت بدار قومي ... نوائبَ كنت في لَخْمٍ أَخَافَهْ يريد: "أخافُها" فحذف الألف وألقى حركة الهاء على الفاء، وهي لغة لخم، وحكى أصحابكم "نحن جئنَاكَ به" أي جئناك بِهَا، فحذف الألف وألقى حركة الهاء على الباء، فكذلك ههنا. والوجه الأول أَوْجَهُ الوجهين، لأنه يحتمل أن يكون التقدير في قوله:

_ [372] النوائب: جمع نائبة، وأصلها اسم الفاعل من "نابه ينوبه" إذا نزل به وعرض له، ثم أطلقوا النائبة على ما ينزل بالمرء من الحوادث والمصائب والمهمات، وفي حديث خيبر "قسمها نصفين: نصفًا لنوائبه وحاجاته، ونصفًا بين المسلمين" ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "أخافه" بفتح الفاء وسكون الهاء فإن أصل هذه الكلمة "أخافها" بضم الفاء وبضمير المؤنثة العائد إلى "نوائب" فأراد الشاعر الوقف بنقل الحركة، فحذف الألف، ثم ألقى حركة الهاء على الفاء بعد أن أسقط حركة الفاء الأصلية، على مثل ما ذكرناه في شرح المثل السابق.

"وأنت إن لم تلقمه" تَلْقَمَنْهُ -بنون التأكيد الخفيفة- فحذفها وبقيت الميم مفتوحة، كما قال الشاعر: [373] اضرِبَ عنك الهُمُوم طَارِقَهَا ... ضربك بالسوط قَوْنَسَ الفَرَسِ

_ [373] هذا البيت من شواهد مغني اللبيب "رقم 900 بتحقيقنا" وابن جني في الخصائص "1/ 126" وقد أنشده ابن منظور "ق ن س" ونقل عن ابن بري أن البيت لطرفة بن العبد البكري، وقد رواه أبو زيد في نوادره "13" وقال قبل إنشاده "قال أبو حاتم: أنشدني الأخفش بيتا مصنوعا لطرفة" وقد استشهد به ابن يعيش في شرح المفصل "ص1242" وابن الناظم في باب نوني التوكيد من شرح الألفية، وشرحه العيني "4/ 337" بهامش الخزانة" و"اضرب" يقع في موضعه "اصرف" والأول أدق وأوفق ببقية البيت، وطارقها: اسم الفاعل من "طرق يطرق" إذا أتى ليلا، وقونس الفرس -بفتح القاف والنون وسكون الواو وآخره سين مهملة- هو العظم الناتئ بين أذني الفرس، ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "اضرب عنك" فإن الرواية فيه بفتح الباء، وقد خرج العلماء هذه الرواية على أن أصل الكلام "اضربن عنك" بنون توكيد خفيفة ساكنة، وفعل الأمر يبنى مع نوني التوكيد على الفتح، ثم حذف الشاعر نون التوكيد وهو ينويها، فلذلك أبقى الفعل على ما كان عليه وهو مقرون بها؛ لتكون هذه الفتحة مشيرة إلى النون المحذوفة ودالة عليها، وهذا شاذ؛ لأن نون التوكيد الخفيفة إنما تحذف إذا وليها ساكن كما في قول الأضبط بن قريع السعدي: لا تهين الفقر علك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه فإنه أراد "لا تهين الفقير" بنونين: أولاهما: لام الكلمة، والثانية: نون التوكيد الخفيفة، فحذف نون التوكيد لأن التالي لها ساكن وهو لام "الفقير" ويدل على حذف النون ههنا الفتحة التي على لام الكلمة والياء التي هي عين الكلمة؛ إذ لو لم يكن على تقدير النون لحذف هذه الياء، لأن الأجوف المجزوم تحذف عينه للتخلص من التقاء الساكنين: سكون هذه العين المعتلة، وسكون اللام للجازم. ونظير بيت الشاهد في حذف نون التوكيد الخفيفة مع أنه ليس بعدها ساكن قول الشاعر، وأنشده الجاحظ في البيان "2/ 187" والحيوان "7/ 84" على وجه لا شاهد فيه: خلافا لقولي من فيالة رأيه ... كما قيل قبل اليوم خالف تذكرا محل الشاهد قوله "خالف" فإن الرواية في هذه الكلمة بفتح آخره، وتخريجها أن الأصل "خالفن" بنون التوكيد الخفيفة، فحذف النون وهو ينويها، ورواية الجاحظ "خالف فتذكرا" ومثله قول الآخر وأنشده أبو علي الفارسي: إن ابن أحوص مغرور فبلغه ... في ساعديه إذا رام العلا قصر الشاهد في قوله "فبلغه" فإن أصله "فبلغنه "بنون ساكنة بعد الغين، فحذف النون. ومثله قول الآخر: يا راكبا بلغ إخواننا ... من كان من كندة أو وائل الاستشهاد بقوله "بلغ" فإن الأصل "بلغن" فحذف النون وأبقى الغين على فتحتها ونظيره قوله الآخر وأنشده أبو زيد في نوادره "ص13" وابن جني في الخصائص "3/ 94": =

والتقدير "اضْرِبَنْ عنك الهموم" فحذف النون وبقيت الباء مفتوحة، فكذلك ههنا. وأما قولهم "إنها تعمل عندكم مع الحذف بعد الفاء والواو وأو واللام وحتى" قلنا: إنما جاز ذلك؛ لأن هذه الأحرف دالة عليها، فتنزلت منزلة ما لم يحذف، فعلمت مع الحذف، بخلاف ههنا، فإنه ليس ههنا حرف يدل عليها؛ فلم يعمل مع الحذف، والله أعلم.

_ = في أي يومي من الموت أفر ... أيوم لم يقدر أم يوم قدر الاستشهاد بقوله: "لم يقدر" فإن الرواية بفتح الفعل المضارع على تقدير أنه مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة المقدرة، وأصله "يقدرن" فحذفت النون وأبقى المضارع مفتوح الآخر للإشارة إليها.

مسألة هل يجوز أن تأتي "كي" حرف جر؟

78- مسألة: [هل يجوز أن تأتي "كي" حرف جر؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "كي" لا تكون إلا حرف نصب، ولا يجوز أن تكون حرف خفض. وذهب البصريون إلى أنها يجوز أن تكون حرف جر. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا: إن "كي" لا يجوز أن تكون حرف خفض؛ لأن "كي" من عوامل الأفعال، وما كان من عوامل الأفعال لا يجوز أن يكون حرف خفض؛ لأنه من عوامل الأسماء، وعوامل الأفعال لا يجوز أن تكون من عوامل الأسماء. والذي يدل على أنها لا تكون حرف خفض دخول اللام عليها كقولك: "جئتك لكي تفعل هذا" لأن اللام على أصلكم حرف خفض، وحرف الخفض لا يدخل على حرف الخفض، وأما قول الشاعر: [374] فلا والله ما يُلْفَى لما بي ... ولا لِلِمَا بِهِمْ أبدًا دواء

_ [374] هذا البيت من كلمة لمسلم بن معبد الوالبي يقولها في ابن عمه عمارة بن عبيد الوالى، والبيت من شواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 302" وفي اوضح المسالك "قم 407" والأشموني "رقم 812" وابن جني في سر الصناعة "رقم 215 في 1/ 283" ورضي الدين في باب التوكيد من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 364 بولاق" كما شرحه العيني "4/ 102" ويلفي: مضارع مبني للمجهول ماضيه المبني للمعلوم الفي، ومعناه وجد؛ وفي القرآن الكريم: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى البَابِ} [يوسف: 25] وفيه: {إِنَّهُمْ الفَوْا آبَاءَهُمْ ضَإلينَ} [الصافات: 69] وقوله "ما بي" أي الذي استقر بي، وأراد به ما في نفسه من الهم والحزن الكدر =

فمن الشاذ الذي لا يُعَرَّج عليه ولا يؤخذ به بالإجماع. قالوا: ولا يجوز أن يقال: "الدليل على أنها حرف جر أنها تدخل على ما الاستفهامية كما يدخل عليها حرف الجر؛ فيقال: كَيْمَه، كما يقال: لِمَهْ" لأنا نقول: مَهْ من كَيْمَهْ ليس لكي فيه عمل، وليس في موضع خفض، وإنما هو في موضع نصب؛ لأنها تقال عند ذكر كلام لم يُفْهَم؛ يقول القائل: أقوم كي تقوم، فيسمعه المخاطب ولم يفهم "تقوم" فيقول: كَيْمَهْ؟ يريد كي ماذا، والتقدير: كي ماذا تفعل، ثم حذف، فَمَهْ: في موضع نصب، وليس لكي فيه عمل. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنها تكون حرف جر دخولها على الاسم الذي هو "ما" الاستفهامية كدخول اللام وغيرها من حروف الجر عليها، وحذف الألف منها، فإنهم يقولون "كيمه" كما يقولون "لمه". والدليل على أنها في موضع جر أن الألف من "ما" الاستفهامية لا يحذف إلا إذا كانت في موضع جر واتصل بها الحرف الجار، كقولهم: لِمَ، وبِمَ، وفِيمَ، عَمّ، قال الله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] وقال تعالى: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54] وقال تعالى: {فِيمَ أنتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43] وقال تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1] فأما إذا اتصل بماذا فلا يجوز حذف الألف منها وإن اتصل بها حرف الجر، فلا يجوز أن يقال في لماذا وبماذا وفيماذا وعمّاذا: لم ذا، وبم ذا، وفيم ذا، وعمّ ذا؛ لأن ما صارت مع ذا كالشيء الواحد، فلم يحذف منها الألف، وكذلك إذا وقعت في صدر الكلام لا يجوز أن يحذف الألف منها؛ كقولهم: ما تريد، وما تصنع، ولا يجوز أن يقال: مَ تريد، ومَ تصنع، فلما حذف الألف منها في قولهم "كيمه" كما يحذف مع حرف الجر دلَّ على أنها حرف جر،

_ = مما يفعل به قومه، وأراد بقوله: "ما بهم" ما في أنفسهم من الحسيكة والغل والحقد والحسد، ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "للما بهم" حيث أكد الشاعر اللام الجارة -وهي حرف غير جوابي- توكيدًا لفظيًّا فأعادها بنفس لفظها الأول من غير أن يفصل بين المؤكد والتوكيد، وتوكيد الحروف غير الجوابية من غير فصل بين المؤكد والتوكيد في نفسه شاذ، وهو في هذا الموطن من هذا البيت بالغ الغاية في الشذوذ، بسبب كون المؤكد والتوكيد على حرف واحد، وكل النحاة يروون البيت على الوجه الذي رواه للمؤلف عليه، ويستدلون به لما قلنا، ولكن ابن الأعرابي روى البيت في وجه آخر، وهو: فلا والله لا يلفى لما بي ... وما بهم من البلوى دواء وعلى هذا يخلو البيت من الشذوذ ومن الشاهد على ما جاء به المؤلف من أجله، فاعرف ذلك.

وإنما حذفت مع حرف الجر لأنها صارت مع حرف الجر بمنزلة كلمة واحدة، فحذفت الألف منها للتخفيف، ودخلها هاء السكت صيانة للحركة عن الحذف، فصار: كيمه، ولمه، وبمه، وفيمه، وعمه، وقد يجوز أن يكونوا أبدلوا الهاء من الألف في "ما" كما أبدلوها من الألف في أنا فقالوا "أَنَهْ" وفي حيهلا فقالوا "حيهله" وقول الكوفيين "إن مَهْ في موضع نصب "فسنبين فساده في الجواب إن شاء الله تعالى. أما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن كي من عوامل الأفعال؛ فلا يجوز أن تكون من عوامل الأسماء" قلنا: هذا الحرف من عوامل الأفعال في كل الأحوال، أو في بعض الأحوال؟ فإن قلتم في كل الأحوال فلا نسلم، وإن قلتم في بعض الأحوال فنسلم، وهذا لأن كي على ضربين؛ أحدهما: ان تكون حرف نصب من عوامل الأفعال كما ذكرتم، وذلك إذا دخلت عليها اللام كقولك "جئتك لكي تكرمني" كما قال تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد: 23] فكي ههنا هي الناصبة بنفسها من غير تقدير أن، ولا يجوز أن تكون ههنا حرف جر؛ لأن حرف الجر لا يدخل على حرف الجر، وهذا لا إشكال فيه، والثاني، أن تكون حرف جر كاللام نحو "جئتك كي تكرمني" فهذه كي حرف جر بمنزلة اللام، والفعل بعدها منصوب بتقدير "أنْ" كما هو منصوب بعد اللام بتقدير "أنْ" وحذفت فيها طلبًا للتخفيف. والذي يدل على أنها بمنزلة اللام أنها في معنى اللام، ألا ترى أنه لا فرق بين قولك "جئتك كي تكرمني" وبين قولك "جئتك لتكرمني" وإذا كانا بمعنى واحد فلا معنى لترك الظاهر لشيء لم يقم عليه دليل؛ فدل على أنها تكون حرف جر كما تكون حرف نصب، فإذا ذهبت بها مذهب حرف الجر لم تتوهم فيه غيره، وإذا ذهبت بها مذهب حرف النصب لم تتوهم فيه غيره؛ فهي وإن كانت حرفًا واحدًا فقد نزلت منزلة حرفين، وصار هذا كما قلتم في "حتى" فإنها تنصب الفعل في حالٍٍ من غير تقدير ناصب، وتخفض الاسم في حالٍ من غير تقدير خافض، على الصحيح المشهور من مذهبكم، ولم يمنع كونها ناصبة للفعل أن تكون خافضة للاسم، فكذلك ههنا، وكذلك أيضًا "حتى" تكون خافضة وتكون عاطفة، وكذلك قلتم إن "إلَّا" تكون ناصبة وتكون عاطفة، وكذلك "حاشى" و"خلا" تكونان ناصبين وخافضين، واللفظ فيها كلها واحد، والعمل مختلف، فكذلك ههنا. وأما قولهم: "إن مَهْ في موضع نصب" قلنا: هذا باطل؛ لأنها لو كانت ما في موضع نصب لكان ينبغي أن لا يحذف الألف من ما؛ لأنها لا يحذف

الألف منها إلا إذا كانت في موضع جر، بخلاف ما إذا كانت في موضع نصب أو رفع؛ فإنه لا يجوز أن يحذف الألف منها، ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول "مَ تفعل" في قولك: ما تفعل، و"مَ عندك" في قولك: ما عندك، فلما حذفت الألف ههنا دلَّ على أنها ليست مع موضع نصب، وإنما هي في موضع جر. ثم هذا الحذف في موضع الجر إنما يكون في ما الاستفهامية، دون ما الموصولة، الا في قولهم "ادْعُ بِمَ شئت" أي: بالذي شئت؛ فإن العرب تحذف الألف من ما الموصولة ههنا خاصة؛ كما تحذفها منها إذا أردت بها الاستفهامية. وقولهم "إنها تقال عند ذكر كلام لم يفهم إلى آخر ما قرروا" قلنا: فكان يجب أن يجوز أن يقال: أن مَهْ، ولن مَهْ، وإذن مَهْ، كما يقال "كيمه" إذا لم يفهم السامع ما بعد هذه الأحرف من الفعل؛ لأنه إنما يسأل عن مصدر، والمصدر في الأفعال بعد هذه الأحرف التي هي أن ولن وإذن وبعد كي واحد، فلما لم يقل ذلك واختصت به كي دونها دلَّ على بطلان ما ذهبوا إليه، والله أعلم.

مسألة القول في ناصب المضارع بعد لام التعليل

79- مسألة: [القول في ناصب المضارع بعد لام التعليل] 1 ذهب الكوفيون إلى أن لام "كي" هي الناصبة للفعل من غير تقدير "أن" نحو "جئتك لتكرمني". وذهب البصريون إلى أن الناصب للفعل "أن" مقدرة بعدها، والتقدير: جئتك لأن تكرمني. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنها هي الناصبة لأنها قامت مقام كي، ولهذا تشتمل على معنى كي، وكما أن كي تنصب الفعل فكذلك ما قام مقامه. ومنهم من تمسك بأن قال: إنما نصبت الفعل لأنها تفيد معنى الشرط، فأشبهت "إن" المخففة الشرطية، إلا أنَّ "إنْ" لما كانت أمَّ الجزاء أرادوا أن يفرقوا بينهما، فجزموا بإن، ونصبوا باللام؛ للفرق بينهما، ولم يكن للرفع مدخل في واحد من هذين المعنيين؛ لأنه يبطل مذهب الشرط؛ لأن الفعل المضارع إنما ارتفع لخلوّه من حرف الشرط وغيره من العوامل الجازمة والناصبة. ولا يجوز أيضًا أن يقال "هلَّا نصبوا بإن وجزموا باللام وكان الفرق واقعًا" لأنا نقول: إنَّ إنْ لما كانت أمّ الجزاء كانت أولى باستحقاق الجزم، لأنها تفتقر إلى فعل الجزاء كما تفتقر إلى فعل الشرط فيطول الكلام، والجزم حذف، والحذف تخفيف، ومع طول الكلام يناسب الحذف والتخفيف، بخلاف اللام، فبان الفرق بينهما. قالوا: ولا يجوز أن يقال "إنها لام الخفض التي تعمل في الأسماء" لأنا نقول: لو جاز أن يقال إن هذه اللام الداخلة على الفعل هي اللام الخافضة والفعل بعدها ينتصب بتقدير "أن" لجاز أن يقال "أمرت بتكرم" على تقدير: أمرت بأن

_ 1 انظر في هذه المسألة: مغني اللبيب لابن هشام "ص210 بتحقيقنا" وشرح الأشموني مع حاشية الصبان "3/ 247" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 307" وما بعدها" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص1188 و1229".

تكرم، فلما لم يجز ذلك بالإجماع دلَّ على فساده، على أنَّا وإن سلمنا أنها من عوامل الأسماء إلا أنها عامل من عوامل الأفعال في بعض أحوالها، والدليل على هذا أنها تجزم الأفعال في غير هاتين الحالين، في الأمر والدعاء، نحو "ليقم زيد، وليغفر الله لعمرو" فكما جاز أن تعمل في بعض أحوالها في المستقبل جزمًا جاز أيضًا أن تعمل في بعض أحوالها فيه نصبًا. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن الناصب للفعل "أن" المقدرة دون اللام، وذلك لأن اللام1 من عوامل الأسماء، وعوامل الأسماء لا يجوز أن تكون عوامل الأفعال؛ فوجب أن يكون الفعل منصوبًا بتقدير "أن". وإنما وجب تقدير "أن" دون غيرها لأن "أن" يكون مع الفعل بمنزلة المصدر الذي يحسن أن يدخل عليه حرف الجر، وهي أمّ الباب، فكان تقديرها أولى من غيرها؛ ولهذا إن شئت أظهرتها بعد اللام، وإن شئت أضمرتها، كما يجوز إظهار الفعل وإضماره بعد "إن" في قولهم "إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر" وإنما حذفت ههنا بعد اللام وكذلك بعد الواو والفاء تخفيفًا، والحذف للتخفيف كثير في كلامهم؛ ولهذا يذهبون إلى أنه حذفت لام الأمر وتاء المخاطب في أمر المَوَاجَهِ طلبًا للتخفيف، وقد حكى هشام بن معاوية عن الكسائي أنه حكى عن العرب "لا بُدَّ مِنْ يَتْبَعَهَا" أي: لا بد مِنْ أن يتبعها؛ فحذف "أن" فكذلك ههنا. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنما قلنا إنها هي الناصبة؛ لأنها قامت مقام كي، وكي تنصب، فكذلك ما قام مقامها" قلنا: لا نسلم أن كي تنصب بنفسها على الإطلاق، وإنما تنصب تارة بتقدير "أن" لأنها حرف جر، وتارة تنصب بنفسها، وليس حملها على إحدى الحالين أولى من الأخرى، بل حملها عليها في الحالة التي تنصب الفعل فيه بتقدير "أن" أولى من حملها عليها في الحالة التي تنصب الفعل بنفسها؛ لأنها في تلك الحالة التي تنصب الفعل بتقدير "أن" حرف جر كما أن اللام حرف جر، وفي الحالة التي تنصب الفعل بنفسها حرف نصب، وحمل حرف الجر على حرف الجر أولى من حمل حرف الجر على حرف النصب، فكما أن "كي" في هذه الحالة تنصب الفعل بتقدير "أن" فكذلك اللام ينبغي أن تنصبه بتقدير أن. وقولهم "إنها تشتمل على معنى كي" قلنا: كما أنها تشتمل على معنى كي، إذا كانت ناصبة، فكذلك تشتمل على معنى كي إذا كانت جارة؛ فإنه لا فرق بين

_ 1 في ر "عاملة من عوامل الأفعال" وليس بذاك.

كي الناصبة وكي الجارة في المعنى؛ على أن كونها في معنى كي الناصبة لا يخرجها عن كونها حرف جر، فإنه قد يتفق الحرفان في المعنى وإن اختلفا في العمل، ألا ترى أن اللام في قولك جئت لأكرمك" بمعنى كي في قولك "جئت كي أكرمك، ولكي أكرمك" وإن كانت اللام حرف جر، وكي حرف نصب، ولم تخرج بذلك عن كونها حرف جر، فكذلك ههنا. فإن قلتم: إن اللام ههنا دخلت على الاسم الذي هو مصدر؛ فلم تخرج عن كونها حرف جر. قلنا: وكذلك اللام ههنا دخلت على الاسم الذي هو مصدر؛ لأن "أن" المقدرة مع الفعل في تقدير المصدر؛ فقد دخلت على الاسم، ولا فرق بينهما. وأما قولهم "إنها تفيد معنى الشرط فأشبهت إن المخففة الشرطية" قلنا: لا نسلم أنها تفيد الشرط، وإنما تفيد التعليل، ثم لو كان كما زعمتم لكان ينبغي أن تحمل عليها في الجزم؛ فيجزم باللام كما يجزم بإن؛ لأجل المشابهة التي بينهما. قولهم "إنَّ إنْ لما كانت أمّ الجزاء أرادوا أن يفرقوا بينهما" قلنا: فهلَّا رفعوا؟ قولهم "إنَّ الرفع يبطل مذهب الشرط" قلنا: فكان ينبغي أن لا ينصب أيضًا؛ لأن النصب أيضًا يبطل مذهب الشرط! وقولهم "إن الفعل المضارع يرتفع لخلوه من حرف الشرط وغيره من العوامل الناصبة والجازمة" قلنا: قد بينا فساد ما ذهبوا إليه من ارتفاع الفعل المضارع بتعرِّيه من العوامل الناصبة والجازمة في موضعه بما يُغْنِي عن الإعادة. وأما قولهم "إنها لو كانت لام الجر لجاز أن يقال: أمرت بتكرم، على معنى أمر بأن تكرم" قلنا: هذا فاسد، وذلك لأن حروف الجر لا تتساوى؛ فإن اللام لها مزية على غيرها؛ لأنها تدخل على المصادر التي هي أغراض الفاعلين، وهي شاملة يحسن أن يسأل بها عن كل فعل فيقال: لم فعلت؟ لأن لكل فاعل غرضًا في فعله، وباللام يخبر عنه ويسأل عنه؛ وكي وحتى في ذلك المعنى، ألا ترى أنك تقول: مدحت الأمير ليعطيني، وحتى يعطيني؛ فجاز أن تقدر بعدها "أنْ" وليست الباء كذلك؛ فلا يجوز أن تقدر. وقولهم "إنا نسلم أنها من عوامل الأسماء؛ إلا أنها من عوامل الأفعال في بعض أحوالها، بدليل أنها تجزم الأفعال في قولهم: ليقم زيد" قلنا: إذا سلمتم أنها من عوامل الأسماء بطل أن تكون من عوامل الأفعال؛ لأن العامل إنما كان عاملًا لاختصاصه، فإذا بطل الاختصاص بطل العمل.

وقولهم "إنها تجزم الفعل" قلنا: لا نسلم أن هذه اللام هي اللام الجازمة، فإن لام الجر غير1 لام الأمر، والدليل على ذلك أن لام الجر لا تقع مبتدأة، بل لا بد أن تتعلق بفعل أو معنى فعل، نحو "جئتك لتقوم" وما أشبه ذلك، وأما لام الأمر فيجوز الابتداء بها من غير أن تتعلق بشيء قبلها، ألا ترى أنك تقول: "ليقم زيد، وليذهب عمرو" فلا تتعلق اللام بفعل ولا معنى فعل، فبان الفرق بينهما، والله أعلم.

_ 1 في ر "فإن لام الجزم غير لام الأمر" وليس بشيء، بل هو خطأ لأنهما شيء واحد.

مسألة هل يجوز إظهار "أن" المصدرية بعد "لكي" وبعد حتى؟

80- مسألة [هل يجوز إظهار "أن" المصدرية بعد "لكي" وبعد حتى؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز إظهار "أن" بعد "كي" نحو "جئت لكي أن أكرمك" فتنصب "أكرمك" بكي، "وأن" توكيد لها، ولا عمل لها. وذهب بعضهم إلى أن العامل في قولك "جئت لكي أن أكرمك" اللام، وكي وأن توكيدان لها، وكذلك أيضًا يجوز إظهار "أن" بعد حتى. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز إظهار "أن" بعد شيء من ذلك بحال. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه يجوز إظهار "أن" بعدها النقل والقياس. أما من جهة النقل فقد قال الشاعر: [375] أردت لِكَيْمَا أن تَطِيرَ بِقِرْبَتِي ... فتتركها شَنًّا بِبَيْدَاءَ بَلْقَعِ

_ [375] هذا البيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص928" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 306" وفي أوضح المسالك "رقم 492" والأشموني "رقم 999" ورضي الدين في نواصب المضارع من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 585" كما شرحه العيني "4/ 404 بهامش الخزانة" و"ما" في قوله: "لكيما" زائدة بالإجماع، وتطير: تسير سيرا سريعا، ومعنى تتركها تخليها، وعلى هذا يكون قوله بعد ذلك "شنا" حالًا من الضمير المستتر في تتركها، ويجوز أن يكون تتركها بمعنى تصيرها، وعلى هذا الوجه يكون قوله بعد ذلك "شنا" مفعولًا ثانيًا لتتركها، وشنا: أي يابسة متخرقة، والبيداء: الصحراء التي يبيد سالكها، أي يهلك، والبلقع: الخالية.

وأما من جهة القياس فلأَنَّ "أنْ" جاءت للتوكيد، والتوكيد من كلام العرب؛ فدخلت "أن" توكيدًا لها، لاتفاقهما في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ كما قال الشاعر: [376] قد يَكْسِبُ المالَ الهِدَانُ الجافي ... بغير لا عَصْفِ ولا اصْطِرَافِ

_ = ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "لكيما أن" حيث أظهر الشاعر "أن" المصدرية بعد كي، وفي هذه العبارة ثلاثة مذاهب للنحاة: المذهب الأول: مذهب جمهور الكوفيين، وتلخيصه أن "كي" في جميع استعمالاتها حرف مصدري ناصب للفعل المضارع بنفسه مثل أن المصدرية الناصبة للمضارع، فإن جاءت "أن" بعدها كما في هذا البيت فأن إما زائدة، وإما بدل من كي، وإما توكيد لكي، لأنهما بمعنى واحد، ونختار أنها توكيد، وإن جاءت اللام بعدها كما في قول الشاعر: كي لتقضيني رقية ما ... وعدتني غير مختلس وكما في بعض الروايات في الشاهد رقم "346" الذي سبق قريبًا تكون اللام زائدة، وإن دخلت على "ما" الاستفهامية نحو قولك "كيمه" كانت كي أيضًا مصدرية، والمضارع المنصوب منها محذوف، وما الاستفهامية مفعول به للمضارع المحذوف، فإذا قال لك قائل "أزورك غدا" فقلت له "كيمه" فكأنك قلت: كي أفعل ماذا؟ المذهب الثاني: مذهب الكسائي، وحاصله أن كي في جميع استعمالاتها حرف جر، دالٍ على التعليل، وانتصاب المضارع بعدها بأن المصدرية مقدرة، فإن تقدمت عليها اللام الدالة على التعليل نحو قوله تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا} فكي بدل من اللام أو توكيد لها ومعناهما واحد، وإن تأخرت اللام كما في البيت الذي أنشدناه والشاهد رقم "346" السابق، فاللام حينئذ بدل من كي أو توكيد لها. المذهب الثالث: مذهب جمهور البصريين، وحاصله أن "كي" تأتي على ثلاثة أوجه: الأول: أن تكون اسمًا مختصرًا من كيف، والثاني: أن تكون حرف جر دال على التعليل مثل اللام فتدخل على ما الاستفهامية وعلى ما المصدرية، والثالث: أن تكون حرفًا مصدريًا مثل أن المصدرية في المعنى والعمل، ولتفصيل مواضع كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة مكان غير هذا الموضع. ومثل البيت المستشهد به قول جميل بن معمر العذري، وهو من شواهد الرضي وابن هشام في المغني: فقالت: أكل الناس أصبحت مانحًا ... لسانك كيما أن تغر وتخدعا؟ ومثله أيضًا قول الآخر، وأنشده أبو ثروان: أردت لكيما أن ترى لي عثرة ... ومن ذا الذي يعطى الكمال فيكمل؟ [376] هذان بيتان من الرجز المشطور، وقد أنشدهما ابن منظور "ص ر ف - ع ص ف" ونسبهما في المرتين إلى العجاج، وقد روى البغدادي "3/ 586" ثانيهما عن الفراء ونسبه إلى رؤبة، ورواهما ابن منظور "هـ د ن" باختلاف يسير هكذا: قد يجمع المال الهدان الجافي ... من غير ما عقل ولا اصطراف ونسبهما إلى رؤبة. والهدان -بكسر الهاء- الأحمق الوخم الثقيل في الحرب، والجافي: =

فأكد "غير" بلا؛ لاتفاقهما في المعنى، ولهذا قلنا: إن العمل لكي، وأن لا عمل لها؛ لأنها دخلت توكيدا لها، وكذلك أيضًا قلنا: إن العمل للام في قولك "جئت لكي أن أكرمك" لأن كي وأن تأكيدان للام، ولا يبعد في كلامهم مثل ذلك؛ فقد قالوا: لا إن ما رأيتُ مثل زيد، فجمعوا بين ثلاثة أحرف من حروف الجحد للمبالغة في التوكيد، فكذلك ههنا. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إظهار "أنْ" بعد "لكي" لا يخلو: إما أن تكون لأنها قد كانت مقدرة فجاز إظهارها بعد الإضمار، وإما أن تكون مزيدة ابتداء من غير أن تكون قد كانت مقدرة، بطل أن يقال "إنها قد كانت مقدرة" لأن "لكي" تعمل بنفسها، ولا تعمل بتقدير "أن" ولو كانت تعمل بتقدير "أن" لكان ينبغي إذا ظهرت "أن" أن يكون العمل لأن دونها، فلما أضيف العمل إليها دلَّ على أنها العامل بنفسها، لا بتقدير أن، وبطل أن يقال أنها تكون مزيدة ابتداء؛ لأن ذلك ليس بمقيس فيفتقر إلى توقيف عن العرب، ولم يثبت عنهم في ذلك شيء، فوجب أن لا يجوز ذلك. ومنهم من تمسك بأن قالوا: إنما لم يجز إظهار "أن" بعد كي وحتى؛ لأن كي وحتى صارتا بدلًا من اللفظ بأن، كما صارت "ما" بدلًا عن الفعل في قولهم: أما أنت منطلقا انطلقت معك، والتقدير فيه: أن كنت منطلقا انطلقت معك، فحذف الفعل وجعلت "ما" عوضا عنه، وكما لا يجوز أن يظهر الفعل بعد "ما" لئلا يجمع بين البدل والمبدل؛ فكذلك ههنا. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما البيت الذي أنشدوه فلا حجة لهم فيه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن هذا البيت غير معروف، ولا يعرف قائله، فلا يكون فيه حجة1.

_ = الغليظ والعصف ومثله الاعتصاف: الطلب والحيلة، تقول: عصف فلان يعصف عصفا -من مثال ضرب يضرب ضربا- واعتصف، تريد أنه كسب وطلب واحتال وكد، وتقول: اصطرف فلان في طلب الكسب، إذا تصرف وكان ذا حيلة. وقد أنشد المؤلف هذا البيت على لسان الكوفيين ليقرر أن الكلمتين إذا كان معناهما واحدًا جاز أن تؤكد إحداهما بالأخرى كما أكد الراجز "غير" بلا في هذا الرجز أو كما تقع أن المصدرية بعد كي المصدرية فتكون أن توكيدًا لكي، وهذا ظاهر بعد أن ذكرنا مذهبهم مفصلًا في شرح الشاهد السابق.

والوجه الثاني: أن يكون قد أظهر "أن" بعد "كي" لضرورة الشعر؛ وما يأتي للضرورة لا يأتي في اختيار الكلام. والوجه الثالث: أن يكون الشاعر أبدل "أن" من "كيما" لأنهما بمعنى واحد، كما يبدل الفعل من الفعل إذا كان في معناه؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ} [الفرقان: 69] فـ "يضاعف" بدل من "يلق" وقال الشاعر: [377] متى تأتنا تُلْمِمْ بنا في ديارنا ... تجد حطبًا جزلًا ونارًا تَأَجَّجَا [378] إن يَغْدِرُوا أو يَجْبُنُوا ... أو يَبْخَلُوا لا يَحْفِلُوا

_ [377] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 446" ولم ينسبه إلى قائل معين، ولا نسبه الأعلم. وقد استشهد به الأشموني "رقم 860" وانظر شرح الشاهد رقم 701 في خزانة الأدب "3/ 66" وانظر أيضًا شرح الشاهد "رقم 30" في شرح قطر الندى لابن هشام. وتلمم: مضارع مجزوم من الإلمام وهو الزيارة. وتأججا: مأخوذ من التأجج وهو التوقّد والالتهاب، وهذه الكلمة تحتمل وجهين: الأول: أن تكون فعلًا ماضيًا، والألف في آخرها على هذا الوجه -يحتمل أن تكون ضمير الاثنين- وهما الحطب الجزل والنار -ويحتمل أن تكون الألف حرف الإطلاق، ويكون في الفعل ضمير مستتر يعود على النار أو على الحطب الجزل، فإذا أعدته على الحطب الجزل كان الأمر ظاهرًا، فإذا أعدته على النار احتجت إلى أن تسأل: كيف أعاد ضمير المذكر على النار وهي مؤنثة؟ ويجاب عن هذا بأنه لما كان تأنيث النار مجازيا استباح الشاعر لنفسه أن يؤنث الفعل المسند إليه. والوجه الثاني: أن يكون "تأججا" فعلًا مضارعا، وأصله تتأجج، فحذف إحدى التاءين، وعلى هذا الوجه يجب أن تعتبر هذه الألف منقلبة عن نون التوكيد الخفيفة للوقف، والأصل "تتأججن". ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "تأتنا تلمم بنا" فإن قوله "تلمم" بدل من قوله: "تأتنا" واسمع إلى سيبويه، قال: "وسألت الخليل عن قوله "متى تأتنا تلمم بنا.... البيت" قال: تلمم بدل من الفعل الأول، ونظيره في الأسماء: مررت برجل عبد الله، فأراد أن يفسر الإتيان بالإلمام كما فسر الاسم الأول بالاسم الآخر" ا. هـ. وقال الأعلم "الشاهد في جزم تلمم لأنه بدل من قوله تأتنا وتفسير له؛ لأن الإلمام إتيان، ولو أمكنه رفعه على تقدير الحال لجاز" ا. هـ. [378] هذان البيتان من شواهد سيبويه أيضًا "1/ 446" وقد نسبهما لبعض بني أسد، ولم يزد الأعلم في نسبتهما على ذلك. وقوله "لا يحفلوا" من قول العرب: ما حفل فلان بكذا، يعنون أنه ما بالى به ولا أكثرت له، والمرجل: اسم المفعول من الترجيل وهو مشط الشعر وتليينه بالدهن ونحوه، ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "لا يحفلوا يغدوا عليك" فإن الفعل الثاني -وهو يغدوا- مجزوم لأنه بدل من الفعل الأول -وهو "لا يحفلوا"- وتفسير له. قال سيبويه "ومثل ذلك أيضًا قوله أنشدنيهما الأصمعي عن أبي عمرو لبعض بني أسد =

يغدوا عليك مُرَجَّلِـ ... ـين كأنهم لم يفعلوا فيغدوا: بدل من قوله: "لا يحفلوا" فكذلك ههنا، وعلى كل حال فهو قليل في الاستعمال. وأما قولهم "إن التأكيد من كلام العرب؛ فدخلت أنْ للتأكيد" قلنا: إنما جاز التوكيد فيما وقع عليه الإجماع؛ لأنه قد جاء عن العرب كثيرًا متواترًا شائعًا، بخلاف ما وقع الخلاف فيه؛ فإنه لم يأتِ عنهم فيه إلا شاذًّا نادرًا لا يُعَرَّج عليه، ولم يثبت ذلك الشاذ النادر أيضًا عنهم؛ فوجب أن لا يكون جائزًا، والله أعلم.

_ ــ = "إن يبخلوا أو يجبنوا.... البيتين" فقوله يغدوا على البدل من قوله لا يحفلوا كما هو؛ لأن غدوهم مرجلين دليل على أنهم لم يحفلوا بقبيح ما أتوه؛ فهو تفسير له وتبيين" ا. هـ.

مسألة هل يجوز مجيء "كما" بمعنى "كيما" وينصب بعدها المضارع؟

81- مسألة: [هل يجوز مجيء "كَمَا" بمعنى "كَيْمَا" وينصب بعدها المضارع؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "كما" تأتي بمعنى كيما، وينصبون بها ما بعدها، ولا يمنعون جواز الرفع، واستحسنه أبو العباس المبرد من البصريين. وذهب البصريون إلى أن "كما" لا تأتي بمعنى "كيما" ولا يجوز نصب ما بعدها بها. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن "كما" تكون بمعنى "كيما" وأن الفعل يُنْصَب بها أنه قد جاء ذلك كثيرًا في كلامهم، قال الشاعر وهو صخر الغَيِّ: [379] جاءت كبيرٌ كما أخفِّرَهَا ... والقوم صيدٌ كأنهم رَمِدُوا

_ [379] هذا هو البيت السادس عشر من قصيدة لصخر الغي بن عبد الله الهذلي "ديوان الهذليين 2/ 57" وكان صخر الغي قد قتل جارًا لبني خناعة من بني سعد بن هذيل من بني الرمداء من مزينة، فحرض أبو المثلم قومه على صخر ليطلبوا بدم المزني، فبلغ ذلك صخرًا، فقال في ذلك هذه القصيدة، وأخفرها -بتضعيف الفاء- أي أمنعها وأجيرها وأؤمنها، تقول "خفر الرجل الرجل، وخفر به، وعليه، وخفره تخفيرًا" إذا أجاره ومنعه وأمنه وكان له خفيرًا، وقال أبو جندب الهذلي: ولكنني جمر الغضى من ورائه ... يخفرني سيفي إذا لم أخفر والصيد -بكسر الصاد- جمع أصيد، وهو الوصف من الصيد -بفتح الصاد والياء جميعًا، وهو داء يأخذ الإبل في رءوسها فترفع رءوسها وتسمو بها، فإذا كان ذلك في الرجل كان من كبر وطماحة. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "كما أخفرها" فإن الكوفيين ذهبوا إلى أن "كما" بمعنى كيما وهي مؤلفة من كي الناصبة للمضارع وما الزائدة، ويجوز أن تكف "ما" الزائدة كي عن عمل النصب فيرتفع المضارع بعدها، ويجوز ألا تكفها فينتصب المضارع بكي كما في هذا البيت، وقد ذهب إلى هذا المذهب أبو علي الفارسي؛ فزعم أن =

أراد "كيما أُخفرها" ولهذا المعنى انتصب "أخفرها" وقال الآخر: [380] وطَرْفَكَ إما جئتنا فاصْرِفَنَّهُ ... كما يحسبوا أن الهوى حيث تنظر أراد "كيما يحسبوا" وقال الآخر: [381] لا تظلموا الناس كما لا تُظْلَمُوا

_ = "كما" أصلها "كيما" فحذفت الياء للتخفيف، وقال ابن مالك: "كما" مؤلفة من الكاف الجارة ومعناها التعليل، ومن ما الكافة، ونصب المضارع بعد "كما" بالكاف الدالة على التعليل حملًا لها على "كي" لأن معناها كمعناها، وهما رأيان متقاربان، غير أن رأي أبي علي الفارسي أدق؛ فإن كون الكاف ناصبة لكونها بمعنى كي بعيد، ومما يبعده أن الكاف من عوامل الأسماء فكيف تكون من عوامل الأفعال؟ [380] هذا البيت من شواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 295" والأشموني "رقم 1002" وهو من شواهد شرح الألفية، وقد شرحه العيني "4/ 407 بهامش الخزانة" وهو البيت التاسع والخمسون من رائية عمر بن أبي ربيعة الطويلة "د84-95 بتحقيقنا" وذكر العلامة الأمير في حواشيه على مغني اللبيب أنه وجد البيت في قصيدة لجميل بن معمر العذري صاحب بثينة. والطرف -بفتح فسكون- أراد به العين، وإما: مركبة من أن الشرطية، وما المؤكدة، واصرفنه: أراد حوله إلى جهة أخرى غير جهتنا، ومحل الاستشهاد بالبيت هنا قوله "كما يحسبوا" فإن الكوفيين ذهبوا إلى أن "كما" مثل "كيما" ويجوز أن ينصب الفعل المضارع بعدها على تقدير أن "ما" زائدة غير كافة، ويجوز أن يرفع بعدها على تقدير أن ما زائدة كافة، وقد جاء هذا البيت بالنصب على الوجه الأول. وقد زعم أبو محمد الأسود في كتابه المسمى "نزهة الأديب" أن أبا علي الفارسي حرف هذا البيت، وأن الصواب روايته على هذا الوجه: إذا جئت فامنح طرف عينيك غيرنا ... لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر ويقول أبو رجاء: إن الرواية في ديوان عمر بن أبي ربيعة على ما قال أبو محمد الأسود، ومع هذا لا أرى لك أن تقبل الطعن في أبي علي الفارسي بأنه صحف البيت ليستشهد به؛ فإن الروايات تكثر في الشعر العربي، وكل راوٍ يعتمد إحدى الروايات ويعول عليها، وقد أسمعناك كلاما مثل كلام أبي محمد في روايات وردت في كتاب سيبويه وقال العلماء بصدد ذلك: إن سيبويه غير متهم فيما يرويه بعد أن يسمعه من أفواه العرب، وإنه لا بد أن يكون قد سمع الرواية التي حكاها في كتابه، والشواهد في هذه المسألة كثيرة، وقد ذكر المؤلف منها جملة فما يدعوا أبا علي إلى أن يحرّف بيتًا ليستشهد به وفي غيره من الشعر الثابت مندوحة؟ بل إن رواية أبي محمد الأسود وهي رواية ديوان عمر تؤيد المذهب الذي رآه أبو علي الفارسي الذي خلاصته أن أصل "كما" هو كيما، فقد أنبأتك غير مرة أن البيت إذا روي بروايتين أو أكثر ووضعت في إحدى الروايتين كلمة في مكان كلمة في الروية الأخرى دلَّ ذلك على أن الكلمتين بمعنى واحد، لأن الراوي العارف بالعربية لا يضع الكلمة مكان الكلمة إلا وهو على ثقة من أن معناهما واحد، لأنه يريد أن يؤدي المعنى الذي فهمه من الكلام، فاعرف ذلك وكن منه على ثبت. [381] هذا البيت من شواهد رضي الدين في باب نواصب المضارع في شرح الكافية، وشرحه =

أراد "كيما لا تظلموا" وقال عَدِيّ بن زيد العِبَادِيُّ: [382] اسْمَعْ حديثا كَمَا يوما تُحَدِّثَهُ ... عن ظهر غيب إذا ما سائلٌ سَأَلَا

_ = البغدادي في الخزانة "3/ 591 و4/ 286" وهو من أرجوزة لرؤبة بن العجاج. ومحل الاستشهاد منه قوله "كما لا تظلموا" فإنه دليل على صحة ما ذهب إليه الكوفيون من أن "كما" يجوز أن ينتصب الفعل المضارع بعدها على أن أصلها كيما فحذفت الياء تخفيفًا، ألست ترى قوله "لا تظلموا" منصوبًا بحذف النون لأنه من الأفعال الخمسة؛ إذ هو فعل مضارع اتصلت به واو الجماعة، وقد وافق أبو العباس المبرد على هذا المذهب ورآه اقتناعًا منه بما ورد من الشواهد الدالة على صحته، وأما البصريون فإنهم امتنعوا من إقرار ذلك، وذهبوا مذاهب في هذه العبارة، فمنهم من أنكر الشواهد أو زعم أن روايتها على غير ما ذكر الكوفيون، وقد سمعت في شرح الشاهد السابق رواية تخرجه عن الاستشهاد به، وقالوا في البيت الذي نحن بصدد شرحه: إن الرواية فيه. لا تظم الناس كما لاتظم بالفعل المضارع المسند إلى ضمير الواحد المخاطب، وهو مرفوع بالضمة الظاهرة، وعليه تكون الكاف للتشبيه أو للتعليل، وما: كافة لهذه الكاف عن الاختصاص بالأسماء وعمل الجر الذي هو الأصل فيها، أو ما: مصدرية، وهي مع الفعل الذي بعدها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، وكأنه قال: لا تظلم الناس لعدم ظلمك، ومنهم من سلم الرواية التي رواها الكوفيون، وزعم أن الناصب في هذه العبارة هو "ما" التي دخلت الكاف عليها، وما هذه مصدرية، والأصل أنها لا تعمل، لكن العرب شبهت ما بأن المصدرية فنصبت بما كما نصبت بأن، وشبهت أن المصدرية بما المصدرية فأهملت أن كما أهملت ما، وانظر الشاهد رقم 370 السابق، وهذا كله جدل ولجاج في الخصومة، والذي ذهب إليه الكوفيون أقرب من جميع ما قالوه. هذا، وقد روى سيبويه بيت الشاهد على وجه آخر "1/ 459" وهو: لا تشتم الناس كما لا تشتم بالإسناد إلى ضمير الواحد المخاطب، وكذلك أنشده رضي الدين في باب حروف الجر من شرح الكافية، وشرحه البغدادي، "4/ 286" وكذلك أنشده الأشموني في نواصب المضارع "رقم 1003" وسيذكر المؤلف هذه الرواية في الرد على كلام الكوفيين. [382] أنشد ابن منظور "ك ى ا" هذا البيت ونسبه إلى عدي كما قال المؤلف، قال: "كي: حرف من حروف المعاني ينصب الأفعال بمنزلة أن، ومعناه العلة لوقوع الشيء، كقولك: جئت كي تكرمني، وقال في التهذيب: تنصب الفعل الغابر، تقول: أدبه كي يرتدع، قال ابن سيده: وقد تدخل عليه اللام، وفي التنزيل العزيز: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد: 23] وقال لبيد لكيلا يكون السندري نديدبي وربما حذفوا كي اكتفاء باللام وتوصلًا بما ولا، فيقال: تحرر كيلا تقع، وخرج كيما يصلي، قال الله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [حشر: 7] وفي كيما لغة أخرى حذف الياء من لفظه كما قال عدي: اسمع حديثا كما يوما تحدثه ... عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا =

وقال الآخر: [383] يُقَلِّبُ عَيْنَيْهِ كما لأَخَافَهُ ... تَشَاوَسْ رويدًا إنني مَنْ تأَمَّلُ

_ =أراد كما يوما تحدثه، وكي، وكيلا، وكيم، وكما: تعمل في الألفاظ المستقبلة عمل أن ولن حتى إذا وقعت في فعل لم يجب" ا. هـ كلامه بحروفه، وضبط المضارع ضبط قلم في بيت عدي بالرفع، والخطب سهل؛ فإن الذي يستدل بهذا البيت لا يقول: إن النصب واجب كما قررناه في شرح الشواهد السابقة، فيحتمل أن في البيت روايتين: الرفع، والنصب، وقد نص -فيما نقله عن ابن سيده- على أن "كما" تعمل في الفعل المضارع عمل أن ولن، وإن كان المؤلف قد أنكر رواية النصب، وزعم أن الرواة اتفقوا على أن الرواية في هذا البيت بالرفع، وعلى ما رواه الكوفيون في هذا البيت بنصب "تحدثه" يستدل بهذا البيت على شيئين: الأول: أنه يجوز نصب الفعل المضارع بعد "كما" وتخريج ذلك على أن الأصل "كيما" فحذفت الياء تخفيفا، وما: زائدة غير كافة، والثاني: أنه لا يضر الفصل بين "كما" والفعل المضارع بالظرف، وهذا ظاهر إن شاء. [383] يقال "فلان يتشاوس في نظره" إذا نظر نظرة ذي نخوة وكبر، وقال أبو عمرو: هو أن ينظر بمؤخر عينه ويميل وجهه في شق العين التي ينظر بها، ويكون ذلك خلقة ويكون من الكبر والتيه والغضب. ورويدًا: أصله تصغير الإرواد تصغير الترخيم -يعني بحذف حروف الزيادة كلها وهي الهمزة التي في أوله والألف التي بعد الواو، ثم إدخال ياء التصغير على حروفه الأصلية وهي الراء والواو والدال- وقد قالوا: أرود فلان في سيره إروادا، يريدون أنه تمهل في سيره وترفق، وسيبويه يرى أن "رويدا" إنما يستعمل استعمال المصادر التي تنوب عن الأفعال، تقول "رويد عليا" أي أملهه، وتكون اسم فعل، تقول "رويدك" أي أمهل، ويرى أيضًا أنه قد يقع صفة فتقول: "سار سيرا رويدا" وأنك قد تذكر المصدر الموصوف كما في هذا المثال، وقد تحذفه فتقول: "سار رويدا" قال "1/ 123" "هذا باب متصرف رويد، تقول: رويد زيدًا، وإنما تريد أرود زيدا، قال الهذلي: رويد عليا، جد ما ثدي أمّهم ... إلينا، ولكن بغضهم متماين وسمعنا من العرب من يقول: والله لو أردت الدراهم لأعطيتك رويد ما الشعر، يريد أرود الشعر، كقول القائل: لو أردت الدراهم لأعطيتك فدع الشعر، فقد تبين لك أن رويد في موضع الفعل، ويكون رويدا أيضًا صفة كقولك: سار سيرا رويدا، ويقولون أيضًا: ساروا رويدا، فيحذفون السير ويجعلونه حالًا به وصف كلامه، واجتزاء بما في صدر حديثه من قوله ساروا عن ذكر السير، ومن ذلك قول العرب، ضعه رويدًا أي وضعًا رويدًا، ومن ذلك قولك للرجل تراه يعالج شيئًا: رويدًا، إنما تريد علاجا رويدا، فهذا على وجه الحال، إلا أن يظهر الموصوف فيكون على الحال وعلى غير الحال "ا. هـ كلامه بحروفه وعلى هذا يكون قول الشاعر في البيت المستشهد به "رويدا" حالًا من الضمير الواجب الاستتار في قوله "تشاوس" وقوله "إنني من تأمل" أي أنا ذلك الذي تتأمله وتنظر إليه، ومتى عرفتني عرفت أنه ليس لك أن تنظر لي نظر الكبر والغضب، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "كما لأخافه" حيث زعم الكوفيون أن الفعل المضارع الذي هو أخافه منصوب =

أراد "كيما أخافه" إلا أنه أدخل اللام توكيدًا، ولهذا المعنى كان الفعل منصوبًا فهذه الأشياء كلها تدل على صحة ما ذهبنا اليه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز النصب بها؛ لأن الكاف في "كما" كاف التشبيه أدخلت عليها "ما" وجُعِلَا بمنزلة حرف واحد كما أدخلت على رب وجُعِلَا بمنزلة حرف واحد، ويليها الفعل كربما، وكما أنهم لا ينصبون الفعل بعد ربما فكذلك ههنا. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما البيت الأول فلا حجة لهم فيه؛ لأنه روي "كما أَخَفِّرُهَا" بالرفع؛ لأن المعنى جاءت كما أَجِيئُهَا، وكذلك رواه الفرَّاء من أصحابكم، واختار الرَّفْعَ في هذا البيت، وهو الرواية الصحيحة. وأما البيت الثاني فلا حجة فيه أيضًا؛ لأن الرواية: [380] لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر وأما البيت الثالث فلا حجة فيه أيضًا؛ لأن الرواية فيه بالتوحيد: [381] لا تَظْلِمِ الناس كما لا تُظْلَمُ كالرواية الأخرى: 381- لا تَشْتُمِ الناس كما لا تُشْتَمُ وأما البيت الرابع فليس فيه حجة أيضًا؛ لأن الرواة اتفقوا على أن الرواية "كما يوما تحدثُهُ" بالرفع كقول أبي النجم: [384] قلت لشيبان: ادْنُ من لِقَائِهِ ... كما تُغَدِّي القوم من شِوَائِهِ

_ = بكما التي هي في الأصل كيما. ونقول: إن هذا البيت لا يصلح لاستدلال الكوفيين أصلًا، وذلك من عدة وجوه: الأول: ما ادّعاه المؤلف من أن الرواية على غير هذا الوجه وأنها "لكيما أخافه" وإن كنا لا نقر المؤلف على هذا، والثاني: أنه بعد تسليم صحة روايتهم يكون النصب باللام في قوله "لأخافه" لأنها لام التعليل وهي عندهم ناصبة بنفسها، أو بأن المضمرة بعد لام التعليل على ما هو مذهب البصريين، والقول بزيادة هذه اللام لا دليل عليه، والوجه الثالث: أنهم -أي الكوفيين- يقولون: إن كي لا تكون إلا مصدرية مثل أن، فمجيء اللام بعدها في مثل هذا الشاهد ينقض هذه المقالة؛ لأننا لو جعلنا اللام توكيدا لكي لم يصح لاختلاف معناهما حينئذ، إذ إن كي مصدرية واللام للتعليل، ولو جعلنا اللام بدلا من كي كانت كما في حكم الساقط من الكلام لأن المبدل منه على نية الطرح من الكلام، ويكون العمل للبدل الذي هو اللام، فيتعين عندهم أن تعتبر زائدة، وهذا ما لم يقم عليه دليل. [384] هذان بيتان من الرجز المشطور، وهما من شواهد سيبويه "1/ 460" وقد نسبهما إلى أبي النجم الفضل بن قدامة العجلي، وقد أقر الأعلم هذه النسبة، قال سيبويه "1/ 459": =

وكقول الآخر: [385] أنِخْ فاصْطَبِغْ قُرْصًا إذا اعتادك الهَوَى ... بِزَيْتٍ كما يَكْفِيكَ فَقْدَ الحَبَائِبِ

_ = "سألت الخليل عن قول العرب: انتظرني كما آتيك، وارقبني كما ألحقك، فزعم أن ما والكاف جعلتا بمنزلة حرف واحد، وصيرت للفعل كما صيرت ربما للفعل، والمعنى لعلي آتيك، فمن ثم لم ينصبوا به كما لم ينصبوا بربما، قال رؤبة: لا تشتم الناس كما لا تشتم وقال أبو النجم: قلت لشيبان: ادن من لقائه ... كما تغدي الناس من شوائه وقال الأعلم: "الشاهد في قوله كما تغدي، حيث وقع بالفعل بعد كما لأنها كاف التشبيه وصلت بما وهيئت لوقوع الفعل بعدها كما فعل بربما، ومعناها لعلّ، ومن النحويين من يجعلها بمعنى كي ويجيز النصب بها وهو مذهب الكوفيين" ا. هـ كلامه. وشيبان: اسم ابن الشاعر، وضمير الغيبة في قوله "لقائه" وقوله "شوائه" يعود إلى ظليم، يأمر الشاعر ابنه شيبان بأن يتبع هذا الظليم ويدنو منه لعله يصيده فيشوي لحمه ويطعم الناس من هذا الشواء. [385] أنخ: فعل أمر من الإناخة، تقول "أناخ فلان بعيره ينيخه إناخة" تريد أنه أبركه، واصطبغ: فعل أمر من الاصطباغ، وأصله الصبغ -بكسر الصاد وسكون الباء- وهو ما يصطبغ به من الإدام، ومثله الصباغ -بكسر الصاد- أيضًا ومنه قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} [المؤمنون: 20] يعني بالصبغ دهن الزيتون، وقال الزجاج: أراد بالصبغ الزيتون، قال الأزهري: وهذا أجود القولين؛ لأنه قد ذكر الدهن قبله، وتقول: صبغ فلان اللقمة يصبغها صبغا -من مثال نصر- إذا دهنها وغمسها، وكل ما غمس فقد صبغ، والقرص -بضم القاف وسكون الراء- أراد به الرغيف من الخبز وقد يقال "قرصة" بالتاء -إذا كانت صغيرة، وترك التاء أكثر، والاستشهاد بهذا البيت في قوله "كما يكفيك" حيث ورد الفعل المضارع مرفوعًا بضمة مقدرة على الياء بعد كما، وغرض المؤلف أن يرد بهذا الشاهد على الكوفيين القائلين بجواز نصب الفعل المضارع بعد كما، لكن هذا الشاهد ومائة شاهد آخر مثله لا يكفي في الرد على ما ذهب إليه الكوفيون، وذلك لأن الكوفيين لا يقولون: إنه يجب أن ينتصب الفعل المضارع بعد كما، وإنما يقولون: إذا وقع الفعل المضارع بعد كما جاز فيه وجهان: أحدهما النصب والآخر الرفع، وقد أتو بشواهد جاء فيها النصب، والذي يرد مذهبهم ألا يكون ثمت شاهد قد جاء بالنصب، وقد حاول المؤلف أن يرد شواهد النصب، ولكنه لم يستقم له الرد؛ لأن الرواة الثقات قد أثبوتها، فاعرف ذلك، ولا تكن أسير التقليد.

ولم يروه أحد "كما يوما تحدثه" بالنصب إلا المفضّل الضّبي وحده، فإنه كان يرويه منصوبًا، وإجماعُ الرواة من نحويّي البصرة والكوفة على خلافه، والمخالف له أقْوَمُ منه بعلم العربية. وأما البيت الخامس ففيه تكلف يقبح، والأظهر فيه: [383] يُقَلِّبُ عينيه لكَيْمَا أَخَافَهُ على أنه لو صحَّ ما رَوَوْهُ من هذه الأبيات على مقتضى مذهبهم فلا يخرج ذلك عن حدّ الشذوذ والقلّة، فلا يكون فيه حجة، والله أعلم.

مسألة هل تنصب لام الجحود بنفسها؟ وهل يتقدم معمول منصوبها عليها؟

82- مسألة: [هل تنصب لام الجحود بنفسها؟ وهل يتقدم معمول منصوبها عليها؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن لام الجَحْدِ هي الناصبة بنفسها، ويجوز إظهار "أن" بعدها للتوكيد، نحو: "ما كان زيد لأن يدخل دارك، وما كان عمرو لأن يأكل طعامك" ويجوز تقديم مفعول الفعل المنصوب بلام الجحد عليها، نحو "ما كان زيد دارك ليدخل، وما كان عمرو طعامك ليأكل". وذهب البصريون إلى أن الناصب للفعل "أن" مقدرة بعدها، ولا يجوز إظهارها، ولا يجوز تقديم مفعول الفعل المنصوب بلام الجحد عليها. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنها هي العاملة بنفسها وجواز إظهار "أن" بعدها ما قدمناه في مسألة لام كي. وأما الدليل على جواز تقديم المنصوب على الفعل المنصوب لام الجحد؛ فما قال الشاعر: [386] لقد عَذَلَتْنِي أُمُّ عمرو، ولم أكن ... مَقَالَتَهَا ما كنتُ حيّا لأَسْمَعَا

_ [386] هذا البيت من شواهد شرح ابن يعيش على المفصل "ص936" وروى صدره "لقد وعدتني أم عمرو" ورضي الدين في نواصب المضارع من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 622" وقال "ولم أقف على تتمته ولا على قائله" ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "مقالتها" فقد وردت الرواية بنصب هذه الكلمة، وقد اتفق الفريقان الكوفيون والبصريون على ثبوت الرواية، ولكنهم اختلفوا في تخريجها، فقال الكوفيون: مقالتها مفعول به تقدم على عامله وهو الفعل المضارع المقترن بلام الجحود الذي هو قوله "لأسمعا" وجوزوا أن يتقدم معمول المضارع المنصوب بلام الجحود على اللام، وقال البصريون: لا يجوز أن يتقدم معمول المضارع المقرون بلام الجحود عليه، وزعموا أن قول الشاعر "مقالتها" مفعول به لفعل مضارع محذوف يدل عليه هذا الفعل المذكور، =

أراد "ولم أكن لأسمع مقالتها" وقدم منصوبَ لأسمع عليه، وفيه لام الجحود، فدلَّ على جوازه، وفيه أيضًا دليل على صحة ما ذهبنا إليه من أن لام الجحود هي العاملة بنفسها من غير1 تقدير "أن" إذ لو كانت أنْ ههنا مُقَدَّرَة لكانت مع الفعل بمنزلة المصدر، وما كان في صلة المصدر لا يتقدم عليه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن الناصب "أن" المقدرة بعدها ما قَدَّمْناه في مسألة لام كي. وأما الدليل على أنه لا يجوز إظهار "أن" بعدها فمن وجهين؛ أحدهما: أن قولهم: "ما كان زيد ليدخل، وما كان عمرو ليأكل" جواب فعل ليس تقديره تقدير اسم، ولا لفظه لفظ اسم؛ لأنه جواب لقول قائل "زيد سوف يدخل، وعمرو سوف يأكل" فلو قلنا "ما كان زيد لأن يدخل، وما كان عمرو لأن يأكل" بإظهار أن لكنا جعلنا مقابل سوف يدخل وسوف يأكل اسمًا؛ لأن أنْ مع الفعل بمنزلة المصدر وهو اسم؛ فلذلك2 لم يجز إظهارها كما لا يجوز إظهار الفعل في قولك "إياك

_ = وأصل الكلام: ولم أكن أسمع مقالتها، ثم يبين هذا الفعل المحذوف الذي أضمره بقوله "لأسمعا" والسر في هذا الخلاف أن الكوفيين يقولون: الناصب للمضارع هو اللام التي للجحود، والبصريون يقولون: الناصب له هو أن المصدرية مضمرة بعد اللام، والمضارع صلة لأن المصدرية، ومعمول الصلة لا يتقدم على الموصول، ولكن هذه القاعدة منقوضة من أساسها، وإن كان قد ارتضاها الجمهور من الفريقين؛ فقد تقدم معمول الصلة على الموصول في قول العجاج: ربيته حتى إذا تمعددا ... كان جزائي بالعصا أن أجلدا فإن قوله "بالعصا" متعلق بقوله "أجلدا" وهو معمول لأن المصدرية، ونظيره قول ربيعة بن مقروم الضبي: هلا سألت وخبر قوم عندهم ... وشفاء غيك خابرا أن تسألي فإن قوله "خابرا" مفعول به تقدم على عامله وهو قوله "تسألي" المنصوب بأن المصدرية، وقد اضطر النحاة لتتم لهم قاعدتهم أن يقولوا: إن "خابرا" منصوب بفعل محذوف يدل عليه الفعل المذكور، وإن قول العجاج "بالعصا" متعلق بفعل محذوف يدل عليه الفعل المذكور بعده. ومثل هذين البيتين قول الآخر وسيأتي قريبا في كلام المؤلف "ص596": وإني امرؤ من عصبة خندفية ... أبت للأعادي أن تذل رقابها وسنعود إلى هذه المسألة مرة أخرى، غير أنا نبادر فنقرر أنا لا نرى مع كثرة الشواهد التي تثبت في مسألة من المسائل أن نعرض عن الشواهد ثم نتمسك بالتعليل؛ لأن هذا عدول عن النص إلى القياس، وذلك لا يجوز، فاعرف هذا، ولا تغفل عنه.

وزيدًا" والوجه الثاني: أن التقدير عندهم: ما كان زيد مُقَدِّرًا لأن يدخل أو نحو ذلك من التقدير الذي يوجب المستقبل من الفعل، و"أنْ" توجب الاستقبال، فاستغنى بما تضمن الكلام من تقدير الاستقبال عن ذكر "أنْ". ومنهم من قال: إنما لم يجز إظهار "أن" بعدها لأنها صارت بدلا من اللفظ بها؛ لأنك إذا قلت "ما كان زيد ليدخل" كان نفيًا لسيدخل، كما لو أظهرت "أن" فقلت "ما كان زيد لأن يدخل" فلما صارت بدلا منها كما أن ألف الاستفهام بدل من واو القسم في قولهم: "أللهِ لأقومنَّ" لم يجز إظهارها؛ إذا كانت اللام بدلا منها فكأنها مظهرة. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قول الشاعر: [386] ..... ولم أكن ... مقالتها ما كنت حيا لأسمعا فلا حجّة لهم فيه؛ لأن "مقالتها" منصوب بفعل مقدر، كأنه قال: ولم أكن لأسمع مقالتها، لا بقوله "لأسْمَعَا" كما قال الشاعر: [387] وإني امرؤ عن عصبة خِنْدِفِيّةِ ... أَبَتْ للأَعَادِي أنْ تَدِيخَ رِقَابُها

_ [387] هذا البيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "936" وابن جني في شرح تصريف المازني "1/ 130" ولم يعزواه، والعصبة: الجماعة من الناس، وخندفية -بكسر الخاء والدال بينهما نون ساكنة- منسوبة إلى خندف، وهي امرأة إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وأصل اسمها ليلى بنت حلوان -ويقال: لها بنت عمران بن الحاف بن قضاعة- لقبت خندف في قصة مشهورة، وأصل الخندفة الإسراع في السير، تقول "خندف الرجل خندفة -من مثال دحرج دحرجة" إذا أسرع، وقالوا: "خندف الرجل" إذا انتسب إلى خندف، وقال رؤبة: إني إذا ما خندف المسمى وظُلِمَ رجلٌ فنادى: يا لخندف، فخرج إليه الزبير بن العوام ومعه سيفه وهو يقول: أخندف إليك أيها المخندف، يريد أسرع إلى نصرتك أيها المعتزي إلى خندف، وتديخ بالدال المهملة، وبالذال المعجمة أيضًا، أي تذل وتخضع، ويروى "أن تذل رقابها" والاستشهاد بالبيت في قوله "أبت للأعادي أن تديخ رقابها" فإن ظاهره أن الجار والمجرور -وهو قوله "للأعادي"- متعلق بقوله "تديخ" المتأخر عنه المعمول لأن المصدرية، فيكون معمول صلة أن المصدرية قد تقدم على أن، ولما كان جمهور النحاة قد اتفقوا على أن معمول صلة أن المصدرية لا يجوز أن يتقدم عليها فإنهم جعلوا الجار والمجرور متعلقًا بفعل محذوف يقدر قبله ويكون المذكور تفسيرا وبيانا لذلك المحذوف، وأصل الكلام: أبت أن تديخ رقابها للأعادي، أن تديخ رقابها، فحذف أن المصدرية وصلتها وهو ينويهما، ثم دلَّ على هذا الذي حذفه بذكر أن المصدرية وصلتها، قال ابن يعيش "وقال الكوفيون: لام الجحد هي العاملة بنفسها، وأجازوا تقديم المفعول على الفعل المنتصب بعد اللام، نحو قولك: ما =

فاللام في قوله "للأعادي" لا تكون من صلة "أن تَدِيخَ" بل من صلة فعل مُقَدَّرٍ قبله، وتقديره "أبت أن تديخ" وجعل هذا المُظْهَر تفسيرًا لذلك المقدر، وهذا النحو في كلامهم أكثر من أن يحصى، والله أعلم.

_ = كنت زيدًا لأضرب، وأنشدوا "لقد وعدتني أم عمرو ... البيت السابق" ولا دليل في ذلك؛ لأنا نقول: إنه منصوب بإضمار فعل، كأنه قال: ولم أكن لأسمع مقالتها، ثم بين ما أضمر بقوله لأسمعا، كما في قوله "أبت للأعادي أن تذل رقابها" التقدير: أبت أن تذل رقابها للأعادي، ثم كرر الفعل بيانا للمضمر، فاعرفه" ا. هـ كلامه. ويقول أبو رجاء: لقد أصل النحاة قاعدة أن معمول الصلة لا يتقدم على الموصول، واستنبطوا لهذه القاعدة علة حاصلها أن الصلة تكملة وتمام للموصول، وهما في قوة الكلمة الواحدة، وأن المعمول من تكملة العامل، وتقديم المعمول كتقديم عجز الكلمة على صدرها، ولما كان تقديم عجز الكلمة على صدرها غير جائز كان تقديم ما هو بمنزلة عجز الكلمة على ما هو بمنزلة صدرها غير جائز أيضًا، فيكون تقديم معمول الصلة على الموصول غير جائز، وفاتهم أن النص مقدم على القياس وعلى التعليل، وأن تقدير شيء وفي الكلام ما يغني عنه مما لا يصح ارتكابه ولا اللجوء إليه، ثم إنهم يقولون دائما: إن الجار والمجرور يتوسع فيهما ما لا يتوسع في غيرهما، فهلا اعتذروا عن تقدم معمول الفعل المعمول لأن المصدرية في هذا البيت بأن هذا المعمول جار ومجرور، وأن الجار والمجرور يتوسع فيهما ما لا يتوسع في غيرهما، ولكننا نعتقد أن البصريين لما رأوا معمول الفعل المنصوب بعد لام الجحود في البيت السابق "الشاهد رقم 386" مفعولا صريحا وليس جارا ومجرورًا، وأن حجة الكوفيين قائمة به، لما رأوا ذلك تغاضوا عن كون المعمول في هذا البيت جارا ومجرورًا وساقوا الكلام مساقًا واحدًا، فتنبه لذلك، وأجل فيه نظرك، والله يتولاك بعصمته وتأييده.

مسألة هل تنصب "حتى" الفعل المضارع بنفسها؟

83- مسألة: [هل تنصب "حتى" الفعل المضارع بنفسها؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن حتى تكون حرف نصب ينصب الفعل من غير تقدير أن، نحو قولك "أطع الله حتى يدخلَك الجنة، واذكر الله حتى تطلعَ الشمس" وتكون حرف خفض من غير تقدير خافض، نحو قولك "مَطَلْتُهُ حتى الشتاء، وسَوَّفْتُهُ حتى الصيف". وذهب أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي إلى أن الاسم يخفض بعدها بإلى مضمرة أو مظهرة. وذهب البصريون إلى أنها في كلا الموضعين حرف جر، والفعل بعدها منصوب بتقدير "أن" والاسم بعدها مجرور بها. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنها تنصب الفعل بنفسها لأنها لا تخلو: إما أن تكون بمعنى كي كقولك: "أطع الله حتى يدخلك الجنة" أي: كي يدخلك الجنة، وإما أن تكون بمعنى إلى أن كقولك: "اذكر الله حتى تطلع الشمس" أي: إلى أن تطلع الشمس، فإن كانت بمعنى كي فقد قامت مقام كي، وكي تنصب، فكذلك ما قام مقامها، وإن كانت بمعنى إلى أن فقد قامت مقام أن، وأن تنصب، فكذلك ما قام مقامها، وصار هذا بمنزلة واو القسم؛ فإنها لما قامت مقام الباء عملت عملها، وكذلك واو رب لما قامت مقامها عملت عملها، فكذلك ههنا. وقلنا "إنها تخفض الاسم بنفسها" لأنها قامت مقام إلى، وإلى تخفض ما بعدها، فكذلك ما قام مقامها. وأما الكسائي فقال: إنما قلت إنها تخفض بإلى مضمرة أو مظهرة لأن التقدير في قولك "ضربت القوم حتى زيد" حتى انتهى ضربي إلى زيد، ثم حذف انتهى ضربي إلى" تخفيفا، فوجب أن تكون إلى هي العاملة. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن الناصب للفعل "أن" المقدرة دون حتى أنَّا أجمعنا على أن حتى من عوامل الأسماء، وإذا كانت من عوامل

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني بحاشية الصبان "3/ 252" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص927 و937" وشرح الكافية للرضي "2/ 224 وما بعدها".

الأسماء فلا يجوز أن تجعل من عوامل الأفعال؛ لأن عوامل الأسماء لا تكون عوامل الأفعال، كما أن عوامل الأفعال لا تكون عوامل الأسماء، وإذا ثبت أنه لا يجوز أن تكون عواملُ الأسماء عواملَ الأفعال، فوجب أن يكون الفعل منصوبًا بتقدير "أن" وإنما وجب تقديرها دون غيرها لأنها مع الفعل بمنزلة المصدر الذي يدخل عليه حرف الجر، وهي أم الحروف الناصبة للفعل؛ فلهذا كان تقديرها أولى من غيرها. والذي يدل على أن الفعل بعد حتى منصوب بتقدير "أن" لا بها نفسها قول الشاعر: [388] دَاوَيْتُ عين أبي الدَّهِيقِ بِمَطْلِهِ ... حتى المصيف ويَغْلُوَ القِعْدَانُ فالمصيف: مجرور بحتى، ويغلو: عطف عليه، فلو كانت حتى هي الناصبة لوجب أن لا يجيء الفعل ههنا منصوبًا بعد مجيء الجر؛ لأن حتى لا تكون في موضع واحد جارة وناصبة، والمعطوف يجب أن يكون على إعراب المعطوف

_ [388] أبو الدهيق: كنية رجل، ومطله: مصدر مطله يمطله من باب نصر إذا سوَّف في قضاء حاجته ولم يفِ له، والمصيف: زمان الصيف، ويغلو: مضارع "إلا البعير في سيره غلوا" إذا ارتفع في سيره فجاوز حسن السير، والقعدان بكسر القاف وسكون العين المهملة جمع قعود، وهو من الإبل الذي يقتعده الراعي في كل حاجة، يتخذه للركوب ولحم الزاد والمتاع. ويقال: القعود من الإبل هو البكر حين يركب ت أي يمكن ظهره من الركوب وأدني ذلك أن يأتي عليه سنتان، يقال للذكر: قعود، وللأنثي قلوص، إلى أن يثنيا، ثم يقال لذكر جمل وللأنثي ناقة، ومحل الاستشاهد من هذا البيت قوله "ويغلو" فإنه فعل مضارع منصوب، وقد سبقه اسم مجرور بحتي لأنها لو كانت هي الناصبة للفعل المضارع لكانت قد عملت الجر في الاسم والنصب في الفعل، ولا نظير لذلك في العربية، ولكانت الواو قد عطفت مضارعا منصوبًا على اسم مجرور وذلك مما لا يجوز، وقد ذهب البصريون إلى أن هذا المضارع منصوب بأن المصدرية محذوفة، والتقدير: أن يغلو القعدان، وأن هذه مع الفعل في تأويل مصدر مجرور معطوف على الاسم المجرور بحتي، وكأنه قال: حتى المصيف وغلو القعدان. قال أبو رجاء: ثم يقال بعد ذلك أن المعروف أن أن المصدرية تقدر بعد حرف من حروف العطف، وهذا هو مذهب البصريين، فأين هذا الحرف الذي ستقدر أن بعده؟ وذلك لأن حتى المذكورة قد عملت الجر في الاسم الذي بعدها، والذي يخطر لي أنه لتكملة كلام البصريين الذي ذكره المؤلف لا بد من تقدير "حتى" أخرى بعد الواو تكون أن المصدرية وما عملت فيه في تأويل مصدر مجرور بها، وتكون الواو قد عطفت حتى ومجرورها على حتى المذكورة ومجرورها، وكأنه قد قال: حتى المصيف وحتي يغلو القعدان؛ فتأمل في ذلك.

عليه؛ فإذا لم يكن قبل "يغلو" فعل منصوب وكان قبله اسم مجرور علمت أن ما بعد الواو يجب أن يكون مجرورًا، وإذا وجب الجر بعد الواو وجب أن يكون "يغلو" منصوبًا بتقدير أنْ؛ لأنَّ أنْ مع الفعل بمنزلة الاسم على ما بيّنا. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنها إذا كانت بمعنى كي فقد قامت مقام كي، وكي تنصب، فكذلك ما قام مقامها" فالكلام على فساده كالكلام في مسألة لام كي؛ فلا نعيده ههنا. وأما قولهم: إنها إذا كانت بمعنى "إلى أن" فقد قامت مقام أنْ، وأنْ تنصب، فكذلك ما قام مقامها" قلنا: هذا فاسد، لأنه يجوز عندكم ظهور أن بعد حتى، ولو كانت بدلا عنها لما جاز ظهورها بعدها؛ لأنه لا يجوز أن يجمع بين البدل والمبدل، ألا ترى أن واو القسم لما كانت بدلا عن الباء لم يجز أن يجمع بينهما؛ فلا يقال: "بوالله لأفعلن" وكذلك التاء في القسم لما كانت بدلا عن الواو لا يقال: "تَوَالله لأقومن" لما كان يؤدي إليه من الجمع بين البدل والمبدل؟ وأما واو رب فلا نسلم أنها قامت مقامها، ولا أنها عاملة، وإنما هذا شيء تدعونه على أصلكم، وقد بيّنّا فساده في موضوعه بما يغني عن الإعادة. وأما ما ذهب إليه الكسائي من أن الخفض بإلى مضمرة أو مظهرة فظاهر الفساد؛ لبعده في التقدير، وإبطال معنى "حتى". وذلك لأن موضع حتى في الأسماء أن يكون الاسم الذي بعدها من جنس ما قبله، وإنما حتى اختصَّته من بين الجنس، لأنه يستبعد منه الفعل أكثر من استبعاده من سائر الجنس، كقولك: قاتل زيد السباع حتى الأسد" لأن قتاله الأسد أبعد من قتاله لغيره، وكقولك "استجرأ على الأمير جنده حتى الضعيفُ الذي لا سلاح معه" لأن استجراء الضعيف الذي لا سلاح معه أبعد من استجراء غيره؛ فلو قلنا إن التقدير فيه: حتى انتهى استجراؤهم إلى الضعيف الذي لا سلاح معه؛ لأدّى ذلك إلى زيادة كثيرة، وكانت "إلى" في صلة "انتهى" لا في صلة "حتى" وذلك خروج عن المتناولات القريبة من غير برهان ولا قرينة، وذلك لا يجوز، وإذا قلنا: إنه مجرور بحتى؛ لم يخرج عن قياس العربية والمتناولات القريبة؛ لأن حتى قد يليها المجرور في حالٍ وغير المجرور في حالٍ، ولا نظائر مما يجر في حال، ولا يجر في حال، نحو "مُذْ، ومُنْذُ" و"حَاشَا، وخلا" في الاستثناء، وإذا ظهر الجر بعدها ولم يدل دليل على إضمار حرف جر -على أن حروف الجر لا تعمل مع الحذف- دلَّ على أنها هي الجارة. والذي يدل على أنها هي الجارة قولهم: "حَتَّام، وحَتَّامَهْ" كقولهم: "إلامَ،

وإلامَهْ" والأصل فيها: حتى ما، وما للاستفهام، فلو لم يكن حتى حرف جر، وإلا لما جاز حذف الألف من "ما" لأن ما لا يحذف ألفها إلا أن يدخل عليها حرف جر، على ما بينا في "كيمه، وفيمه، وبمه، ولمه، وعمَّه" وما أشبه ذلك؛ فدل على أنها هي الجارة. والذي يدل على أنه لا يجوز أن تكون إلى مقدرة بعد حتى أن حتى تقوم مقام إلى، ألا ترى أنك تقول "أَقِمْ حتى يقدم زيد، وسِرْ حتى تطلع الشمس" فيصلح أن تقيم مقامها "إلى" فتقول "أقم إلى أن يقدم زيد، وسر إلى أن تطلع الشمس" فتقوم "إلى" مقام حتى، فإذا كانت تقوم مقامها فينبغي أن لا يجمع بينهما؛ لأن إحداهما تغني عن الأخرى. والذي يدلُّ على أن "حتى" في موضع إلى في هذا الموضع أنك تقول: أقم إلى قدومِ زيد، وأقم حتى قدومِ عمرو. وإنما ظهرت "أن" بعد إلى، ولم تظهر بعد حتى لأن إلى تلزم الاسم، وحتى لا تلزم الاسم، فألزموا إلى أنْ لتظهر اسميةُ ما دخلت عليه، وقوةُ لزومها الجرَّ، وكذلك أيضًا يحسن ظهور "أنْ" بعد لام كي، ولم يحسن بعد حتى وكي؛ لأن اللام تلزم الاسم، بخلاف حتّى وكي، والله أعلم.

مسألة عامل الجزم في جواب الشرط

84- مسألة: [عامل الجزم في جواب الشرط] 1 ذهب الكوفيون إلى أن جواب الشرط مجزوم على الجِوَارِ، واختلف البصريون؛ فذهب الأكثرون إلى أن العامل فيهما حرف الشرط، وذهب آخرون إلى أن حرف الشرط وفعل الشرط يعملان فيه، وذهب آخرون إلى أن حرف الشرط يعمل في فعل الشرط، وفعل الشرط يعمل في جواب الشرط، وذهب أبو عثمان المازني إلى أنه مبنيّ على الوَقْفِ. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه مجزوم على الجوار لأن جواب الشرط مجاور لفعل الشرط، لازم له، لا يكاد ينفكُّ عنه، فلما كان منه بهذه المنزلة في الجوار حمل عليه في الجزم، فكان مجزوما على الجوار، والحمل على الجوار كثير، قال الله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ والْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1] وجه الدليل أنه قال: {وَالْمُشْرِكِينَ} بالخفض على الجوار، وإن كان معطوفا على {الَّذِينَ} فهو مرفوع لأنه اسم "يكن"، وقال تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وأَرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] بالخفض على الجوار، وهي قراءة أبي عمرو، وابن كثير، وحمزة، ويحيى عن عاصم، وأبي جعفر، وخلف، وكان ينبغي أن يكون منصوبًا؛ لأنه معطوف على قوله: {فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُم} [المائدة: 6] كما في القراءة الأخرى، وهي قراءة نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم، ويعقوب، ولو كان معطوفًا على قوله: {بِرُؤُوسِكُمْ} لكان ينبغي أن تكون الأرجل ممسوحة لا مغسولة، وهو مخالف لإجماع أئمة الأمة من السلف والخلف، إلا فيما لا يعد خلافًا، ثم قال زهير: [389] لَعِبَ الرِّيَاحُ بها وغَيَّرَهَا ... بَعْدِي سَوَافِي المُورِ والقَطْرِ

_ [389] هذا البيت من كلام زهير بن أبي سلمى المزني، وهو البيت التالى للشاهد رقم 232 =

فخفض "القطر" على الجوار، وإن كان ينبغي أن يكون مرفوعًا؛ لأنه معطوف

_ = الذي تقدم في المسألة 54 "وانظر الديوان 86-87" ورواية الأعلم "لعب الزمان بها.... إلخ" والسوافي: جمع سافية، وتطلق على الريح التي تسفي التراب، ويقال أيضًا على التراب الذي تسفيه الرياح، أي تذروه وتطيره وتهيجه، والمور -بضم الميم- هو التراب، والقطر -بفتح القاف وسكون الطاء- هو المطر، والاستشهاد بهذا البيت في قوله "والقطر" فإنه مجرور بدليل أن رويّ هذه القصيدة مجرور، فيسبق إلى الوهم أنه معطوف على "المور" لأنه هو المجرور بإضافة سوافي إليه، ولو عطف على المور للزم أن يكون معمولًا لسوافي؛ لأن العامل في المعطوف هو العامل في المعطوف عليه، ويلزم أن يكون تقدير الكلام: سوافي المور وسوافي القطر، ومراد الشاعر أن الذي غير هذه الديار شيئان: أحدهما: الرياح التي تسفي عليها التراب، وثانيهما: المطر، وهذا المعنى لا يتأدى إلا بأن يكون "القطر" معطوفا على سوافي مع أنه ليس للمطر سوافين فيكون مرفوعًا في التقدير، وجره لمجاورته المجرور، فتقول: القطر معطوف على سواف، والمعطوف على المرفوع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المجاورة. والجر على الجوار واقع في العربية في بابي العطف والنعت -وزاد قوم في باب التوكيد أيضًا- فأما باب العطف فمنه هذا البيت، ومنه قول الآخر: كم قد تمششت من قصّ وإنفحة ... جاءت إليك بذاك الأضؤن السود تقول: تمششت العظم؛ إذا مصصت أطرافه، والقصّ -بفتح القاف- عظام الصدر، أو رأس الصدر، والإنفحة -بكسر الهمزة وسكون النون وفتح الفاء- كرش الحمل أو الجدي إذا كان لم يأكل، فإذا أكل فهو كرش، فقول الشاعر "وإنفحة" لا يجوز أن يكون معطوفا على "قص" لأنه لو كان معطوفا على قص لكان قوله تمششت عاملًا فيه، وقد علمت أن التمشش خاص بمص العظم، والإنفحة ليست عظمًا، فوجب أن يكون قوله "إنفحة" مفعولًا به لفعل محذوف، وتقدير الكلام: كم تمششت من عظم وأكلت إنفحة، ويكون إنفحة منصوبًا بفتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المجاورة. وأما الجر إلى الجوار في باب النعت فمن شواهده قولهم "هذا جحر ضب خرب" -بجر خرب مع أنه نعت لجحر المرفوع؛ فخرب مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المجاورة، ونظيره قول امرئ القيس في معلقته: كان ثبيرًا في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمل ثبير: اسم جبل، شبهه بكبير قوم مزمل في بجاد، فمزمل: نعت لكبير المرفوع على أنه خبر كأن، والرواية بجر مزمل بدليل رويّ القصيدة كلها، فهو مرفوع تبعًا لموصوفه وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المجاورة. ونظيره قول دريد بن الصمة: فجئت إليه والرياح تنوشه ... كوقع الصياصي في النسيج الممدد فدافعت عنه الخيل حتى تبددت ... وحتى علاني حالك اللون أسود فأسود صفه لحالك اللون، وأسود مجرور بدليل الرويّ، وحالك اللون: مرفوع لأنه فاعل =

على "سَوَافِي" ولا يكون معطوفًا على "المُورِ" وهو الغُبَار؛ لأنه ليس للقطر سوافٍ كالمور 251- حتى يعطفه عليه، وقال الآخر: [390] كأنَّمَا ضَرَبَتْ قُدَّامَ أعيُنِهَا ... قُطْنًا بِمُسْتَحْصِدِ الأوتار مَحْلُوجِ فخفض "محلوج" على الجوار، وكان ينبغي أن يقول "محلوجًا"؛ لكونه وصلًا لقوله "قطنًا" ولكنه خفضه على الجوار، وقال الآخر: [391] كأنَّ نَسْجَ العَنْكَبُوتِ المُرْمَلِ

_ = علاني، ولكنه جرّ أسود لكونه بجوار اللون المجرور بالإضافة. وأما الجر للمجاورة في باب التوكيد فقد ورد منه قول الشاعر، وهو من شواهد ابن هشام في الشذور. يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم ... أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب فإن قوله "كلهم" توكيد لذوي الواقع مفعولًا به لبلغ، وقد وردت الرواية بجر كل، وقد علمت أن التوكيد يتبع المؤكد في إعرابه؛ فكان حق العربية أن ينصب كلا، ولكنه لما وقع مجاورا للزوجات المجرور بالإضافة جره، فهذا الجر بسبب مجاورة الاسم المجرور. والنحاة يذكرون أن الجر بسبب مجاورة الاسم المجرور سواء أكان في النعت أم في العطف -شاذ، وهو في باب التوكيد أشد شذوذًا، لأنهم مختلفون في مجيئه في هذا الباب، وفي اعتباره فيه. [390] القطن -بضم القاف وسكون الطاء- معروف، و"مستحصد الأوتار" من إضافة الصفة للموصوف، أي الأوتار المستحصدة، وتقول: هذا حبل أحصد -كأحمر- وحصد -كفرح- ومحصد -كمكرم- ومستحصد -بكسر الصاد- إذا كان قد أحكم فتله وصنعته، وهذا اللفظ يقال في كل ما أحكمت صناعته من الحبال والأوتار والدروع، وقالوا "هذا رجل محصد الرأي" أي سديد الرأي محكمه، على التشبيه، وقالوا: "هذا رأي مستحصد" أي محكم وثيق، وهو في هذا بفتح الصاد، وقال لبيد: وخصم كنادي الجن أسقطت شأوهم ... بمستحصد ذي مرة وضروع يريد برأي سديد وثيق محكم، ومحلوج: اسم المفعول من قولهم "حلج القطن يحلجه -من مثال ضرب ونصر" إذا ندفه، وقطن حليج ومحلوج: مندوف، أي قد استخرج منه الحب، وصانع ذلك هو الحلاج كالعطار والقصاب، وصناعته الحلاجة كالعطارة والقصابة، والمحلج والمحلجة والمحلاج: الخشبة أو الحجر الذي يندف عليه، ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "محلوج" فإن الرواية فيه بالجر مع أنه نعت لقوله "قطنا المنصوب على أنه مفعول به لقوله "ضربت" وذلك لأن هذه الكسرة ليست الحركة التي اقتضاها العامل، وإنما هي كسرة المجاورة، فهو منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المجاورة. [391] هذا بيت من الرجز المشطور، وهو من شواهد سيبويه "1/ 217" وشواهد ابن جني في الخصائص "3/ 221" وقد نسبه سيبويه إلى العجاج، وأقر الأعلم هذه النسبة، وقد =

فخفض "المُرْمَلِ" على الجوار، وكان ينبغي أن يقول: "المرملا" لكونه وَصْفًا

_ = كرر البغدادي ذكره في شرح الشاهد رقم 349 من الخزانة "2/ 321" وبعد هذا البيت قوله: على ذرى قلامه المهدل ... سبوب كتان بأيدي الغزل المرمل -بوزن اسم المفعول- أي المنسوج، والقلام -بضم القاف وتشديد اللام- ضرب من النبت، والمهدّل أي المسترسل، والسبوب: الشقق أي قطع الكتان. شبه نسيج العنكبوت على ما نبت من القلام حول المنهل بشقق من الكتان بأيدي الغازلات ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "المرمل" فإنه مجرور بدليل روي الأبيات التي ذكرناها لك مما يليه، وهو صفة لنسج العنكبوت المنصوب لكونه اسم كأن، ومتى كان من المقرر الذي لا يحتمل التردد أن النعت يجب أن يطابق منعوته في حركة إعرابه كان من المسلم به أن هذه الكسرة التي في "المرمل" ليست هي الحركة التي اقتضاها العامل؛ لأن العامل يتقضي فتحة، فهو إذًا منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المجاورة، قال الأعلم "الشاهد فيه جر المرمل على العنكبوت نعتًا لها في اللفظ لقرب جوارها منه، وكان الخليل رحمه الله لا يجيز مثل هذا حتى يكون المتجاوران مستويين في التعريف والتنكير، والتأنيث والتذكير، والإفراد والتثنية والجمع، كقولهم: هذا جحر ضب خرب، وجحرًا ضبين خربين، وجحرة ضباب خربة، وسيبويه يجيز الحمل على الجوار وإن اختلف المتجاوران، إذا لم يشكل المعنى، كقولك: هذان جحرا ضب خربين، وهذا جحر ضبين خرب، واحتج ببيت العجاج هذا، لأنه حمل المرمل وهو مذكر على العنكبوت وهي مؤنثة، والمرمل من وصف الغزل في الحقيقة" ا. هـ، قال أبو رجاء: وقد قال قوم: إنه ليس في هذا البيت رد على الخليل، لأن العنكبوت تذكر وتؤنث، فيجوز أن يكون هنا مذكرًا، فلا يصلح البيت ردًّا عليه، ومثله مما ذكروه في سبيل الرد على الخليل قول الحطيئة، وأنشده ابن جني "3/ 220" والرضي لذلك، وشرحه البغدادي "2/ 321". فإياكم وحية بطن وادٍ ... هموز الناب ليس لكم بسي وحية البطن وادٍ: أراد نفسه، يريد أنه يحمي ناحيته ويذود عما يحميه فيجب عليهم أن يتقوه ويحذروا صولته، وهموز الناب: مأخوذ من الهمز وهو الضغط والغمز، وليس لكم بسي: أي ليست مثلكم ولا مستوية معكم، بل فوقكم وأعلى منكم، والاستشهاد به عندهم في قوله: "هموز الناب" فإن الرواية في هذه الكلمة بجر "هموز" مع أنها نعت للحية المنصوب على التحذير، وقد جرَّ الشاعر هذه الكلمة لأنها في مجاورة كلمة مجرورة وهي قوله: "وادٍ" والهموز مؤنثة لكونها صفة للحية والوادي مذكر، فدلَّ على أنه لا يلزم في الجرّ للمجاورة أن يكون المتجاوران متساويين في التذكير والتأنيث، كما ذهب إليه الخليل بن أحمد، بل يجوز مع تخالفهما في التذكير والتأنيث، وفي التعريف والتنكير، وفي الإفراد والتثنية والجمع، على ما قررناه لك من قبل، قال ابن جني "جر هموز لمجاورته الواد مع اختلاف المضاف والمضاف إليه تذكيرًا وتأنيثًا، فإن =

للنسج، لا للعنكبوت، ومن ذلك قولهم: "جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ" فخفضوا خربًا على الجوار، وكان ينبغي أن يكون مرفوعًا؛ لكونه في الحقيقة صفة للجحر، لا للضّبّ، فكذلك ههنا: جواب الشرط كان ينبغي أن يكون مرفوعًا، إلا أنه جزم للجوار، ولهذا إذا حلت بينه وبين فعل الشرط بالفاء أو بإذا رجع إلى الرفع، وقال الله تعالى: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً ولا رَهَقاً} [الج-ن: 13] وقال تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] . وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن العامل هو حرف الشرط وذلك لأن حرف الشرط يقتضي جواب الشرط كما يقتضي فعل الشرط، وكما وجب أن يعمل في فعل الشرط فكذلك يجب أن يعمل في جواب الشرط. وأما من ذهب إلى أن حرف الشرط وفعل الشرط يعملان في جواب الشرط فقال: إنما قلنا ذلك لأن حرف الشرط وفعل الشرط يقتضيان جواب الشرط؛ فلا ينفك أحدهما عن صاحبه، فلما اقتضياه معًا وجب أن يعملا فيه معًا؛ كما قلنا في الابتداء والمبتدأ أنهما يعملان في الخبر، فكذلك ههنا، غير أن هذا القول وإن اعتمد عليه كثير من البصريين فلا ينفك من ضعفٍ، وذلك لأن فعل الشرط فعل، والأصل في الفعل أن لا يعمل في الفعل، وإذ لم يكن للفعل تأثير في أن يعمل في الفعل، و"إنْ" له تأثير في العمل في الفعل؛ فإضافة ما لا تأثير له إلى ما له تأثير لا تأثير له. والتحقيق فيه عندي أن يقال: إنَّ "إن" هو العامل في جواب الشرط بواسطة فعل الشرط؛ لأنه لا ينفك عنه؛ فحرف الشرط يعمل في جواب الشرط عند وجود فعل الشرط، لا به، كما أن النار تسخن الماء بواسطة القدر والحطب؛ فالتسخين إنما حصل عند وجودهما، لا بهما؛ لأن التسخين إنما حصل بالنار

_ = حية مؤنث وما بعدها مذكر" ا. هـ، وفي هذه الكلام شيآن: الأول: أنه جعل خلاف الخليل وسيبويه في المضاف والمضاف إليه، والأعلم يجعله في المتجاورين اللذين هما المضاف إليه وما جر لمجاورته إياه، ويمكن في كلام سيبويه أن يحمل على كل واحد من هذين، لكني أستبعد أن يكون الخلاف بينهما في مساواة المضاف والمضاف إليه فيما ذكرنا، بل ينبغي أن يكون الخلاف بينهما في المتجاورين على ما فهمه الأعلم، والثاني: أن هذا البيت مثل بيت العجاج؛ لأن الحية يقال على الذكر وعلى الأنثى، والعرب تقول: حيّة ذكر، فيجوز أن يقال: إنه عنى هنا الحية الذكر، والبطن مذكر، فقد اتفق المضاف والمضاف إليه على كلام ابن جني، ويجوز أن يقال: إن هموز مذكر لكونه وصفًا للحية الذكر، والوادي مذكر، فاتفق المتجاوران تذكيرًا وتأنيثًا على ما هو كلام الأعلم، فاعرف هذا وتنبه له.

وحدها فكذلك ههنا؛ إنْ هو العامل في جواب الشرط عند وجود فعل الشرط لا أنه عامل1 معه. وأما من ذهب إلى أن حرف الشرط يعمل في فعل الشرط، وفعل الشرط يعمل في جواب الشرط، فقال: لأن حرف الشرط حرف جزم، والحروف الجازمة ضعيفة فلا تعمل في شيئين، فوجب أن يكون فعل الشرط هو العامل. وهذا القول ضعيف أيضًا؛ لأنه يؤدي إلى إعمال الفعل في الفعل. وقولهم: "الحروف الجازمة ضعيفة فلا تعمل في شيئين" باطل؛ لما بينا من وجه مناسبته للعمل في الشرط وجوابه لاقتضائه لهما، بخلاف غيره من الحروف الجازمة؛ فإنها لما اقتضت فعلًا واحدًا عملت في شيء واحد، وحرف الشرط لما اقتضى شيئين وجب أن يعمل في شيئين قياسًا على سائر العوامل. فأما من ذهب إلى أنه مبني على الوقف فقال: لأن الفعل المضارع إنما أعرب بوقوعه موقع الاسم، وجواب الشرط لا يقع موقع الاسم؛ لأنه ليس من مواضعه؛ فوجب أن يكون مبنيًّا على أصله، فكذلك فعل الشرط2. وهذا القول ليس بمعتدّ به عند البصريين؛ لظهور فساده؛ لأنه لو كان الأمر على ما زعمتم لكان ينبغي أن لا يكون الفعل معربا بعد أن وكي وإذن، وكذلك أيضًا بعد لم ولما ولام الأمر ولا في النهي؛ لأن الاسم لا يقع بعد هذه الأحرف؛ فكان ينبغي أن يكون الفعل بعدها مبنيا؛ لأنه لم يقع موقع الاسم؛ فلما انعقد الإجماع في هذه المواضع على أنه معرب، وأنه منصوب بدخول النواصب ومجزوم بدخول الجوازم؛ دلَّ على فساد ما ذهب إليه. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1] فلا حجة لهم فيه؛ لأن قوله: {وَالْمُشْرِكِينَ} ليس معطوفًا على {الَّذِينَ كَفَرُوا} وإنما هو معطوف على قوله: {مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ} فدخله الجر لأنه معطوف على مجرور، لا على الجوار. وأما قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] فلا حجة لهم فيه أيضًا؛ لأنه على قراءة من قرأ بالجر ليس معطوفا على قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] وإنما هو معطوف على قوله: {بِرُؤُوسِكُمْ} على أن المراد بالمسح في الأرجل الغسل، وقال أبو زيد

_ 1 في ر "إلا أنه عامل معه" ولا يستقيم مع ما قرره. 2 الظاهر أن عبارة "فكذلك فعل الشرط" مقحمة إذ لا مؤدى لها.

الأنصاري: المسح خفيف الغسل، وكان أبو زيد الأنصاري من الثقات الأثبات في نقل اللغة، وهو من مشايخ سيبويه، وكان سيبويه إذا قال "سمعت الثقة" يريد أبا زيد الأنصاري. والذي يدل على ذلك قوله: "تمسحت للصلاة" أي توضأت، والوضوء يشتمل على ممسوح ومغسول، والسر في ذلك أن المتوضئ لا يقنع بصب الماء على الأعضاء حتى يمسحها مع الغسل؛ فلذلك سمي الغسل مسحًا، فالرأس والرجل ممسوحان، إلا أن المسح في الرجل المراد به الغسل لبيان السنة، ولولا ذلك لكان محتملًا، والذي يدل على أن المراد به الغسل ورود التحديد في قوله: {إِلَى الكَعْبَيْنِ} والتحديد إنما جاء في المغسول لا في الممسوح، وقال قوله: الأرجل معطوفة على الرأس في الظاهر، لا في المعنى، وقد يعطف الشيء على الشيء والمعنى فيهما مختلف، قال الشاعر: [392] إذا ما الغانيات بَرَزْنَ يومًا ... وزَجَّجْنَ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا فعطف العيون على الحواجب وإن كانت العيون لا تُزَجَّجَ، وقال الآخر: [334] تراه كأن الله يَجْدَعُ أَنْفَهُ ... وعينيه إِنْ مولاه ثَابَ له وَفْرُ

_ [392] هذا البيت من شواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 587" وفي أوضح المسالك "رقم 259" وفي شرح شذور الذهب "رقم 116" وابن جني في الخصائص "2/ 432" وابن عقيل "رقم 299" والأشموني "رقم 442" والرضي، وشرحه البغدادي "3/ 91 و4/ 173" والبيت من كلام الراعي النميري، واسمه عبيد بن حصين، وبرزن ظهرن، تقول "برز فلان يبرز بروزا -على مثال قعد يقعد قعودا" إذا ظهر، وزجّجن أي دققن، وتقول: رجل أزجّ، وامرأة زجّاء؛ إذا كان كل منهما قد دقق حاجبيه ورققهما في طول، ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "والعيونا" فإن ظاهر الأمر أن هذه الكلمة معطوفة على الحواجب" مع أن العامل في المعطوف عليه لا يصح أن يتسلط على المعطوف؛ لأن العيون لا تزجج، وإنما تكحل، مثلًا، ومن أجل هذا لم يرتض المحققون والأثبات من العلماء أن تكون هذه الواو قد عطفت كلمة العيون على كلمة الحواجب مع بقاء معنى كلمة زججن على معناها الأصلي الذي ذكرناه، بل ذهبوا إلى أحد طريقين: الأول: أن يكون قوله "العيونا" مفعولًا به لفعل محذوف يناسبه، وكأنه قال: زججن الحواجب وكحلن العيونا، وتكون الواو قد عطفت جملة على جملة، والطريق الثاني: أن تتوسع في كلمة "زججن" فتجعل المراد بها حسّنّ أو جملن أو ما أشبه ذلك مما يصح أن يتسلط على المعطوف والمعطوف عليه جميعًا، وعلى هذا تكون الواو قد عطفت مفردا على مفرد، وقد بينا لك ذلك بيانا وافيا في الكلام على الشاهد رقم 334 الذي سبق في المسألة 70 ومن هنا تعلم أن قول المؤلف إنهم عطفوا الثاني على الأول في مثل هذا البيت كلام مبني على الظاهر، ولا شيء فيه من التحقيق.

فعطف عينيه على أنفه، وإن كانت العينان لا توصفان بالجدع؛ وقال لبيد: [393] فَعَلَا فروع الأَيْهُقَانِ وأَطْفَلَتْ ... بالجَلْهَتَيْنِ ظِبَاؤُهَا ونَعَامُهَا فعطف نعامها على ظباؤها، والنعام لا تُطْفِلُ، وإنما تَبِيضُ، وقال الآخر: [394] يالليت بَعْلَكِ في الوَغَى ... متقلّدًا سيفًا ورُمْحًا

_ [393] هذا هو البيت السادس من معلقة لبيد بن ربيعة العامري "انظر شرح التبريزي على المعلقات العشر ص127 ط السلفية" وهو من شواهد ابن جني في الخصائص "2/ 432" ويروى "فغلا فروع الأيهقان" بالغين معجمة ورفع فروع الأيهقان، ويروى "فاعتم نور الأيهقان" ومن روى "فعلا" بالعين مهملة رفع فروع الأيهقان أو نصبه، فأما من روى "فغلا" بغين معجمة فرفع فروع الأيهقان، ومعناه عنده ارتفع وزاد، من قولهم "غلا السعر" إذا ارتفع، وقولهم "غلا الصبي يغلو" إذا شب، والمعنى كذلك عند من روى "فاعتم نور الأيهقان" وعند من روى "فعلا فروع الأيهقان" بالعين المهملة مع رفع الفروع، فأما من روى بنصب الفروع فقد جعل في علا ضميرا مستترا يعود إلى السيل، والمعنى أن السيل قد ارتفع حتى علا فروع الأيهقان وجاوزها، والرفع أجود معنى، لأن الغرض وصف هذه الأرض بالنماء والخصب وأن ما فيها قد عاش ونما، ولأنه المناسب لما بعده، وأطفلت: أي صارت ذات طفل أي ولد، والفروع: الأعالي، واحدها فرع، والجلهتان: جانبا الوادي، وموطن الاستشهاد من هذا البيت قوله "وأطفلت ظباؤها ونعامها" فإن ظاهره أن قوله: "نعامها" معطوف على قوله: "ظباؤها" فيكون الفعل الذي عمل في المعطوف عليه هو العامل في المعطوف وأهل العربية لا يقولون "أطفلت النعامة" وإنما يقولون في هذا المعنى أفرخ النعام أو باض النعام؛ ولهذا يرى أهل التحقيق من النحاة أن العامل في "نعامها" محذوف، والتقدير: أطفلت ظباؤها وأفرخت نعامها، أو أطفلت ظباؤها وباضت نعامها، وعلى هذا تكون الواو قد عطفت جملة "وأفرخت نعامها" على جملة "أطفلت ظباؤها" أو يكون الشاعر قد توسع في معنى "أطفلت" فصيره كقولك "أنتجت" وما يؤدي مؤداه، وحينئذ يصح تسلطه على كل واحد من المعطوف والمعطوف عليه، ويرد على المؤلف ما أوردناه عليه في شرح الشاهد السابق، ونظير ذلك أيضًا قول لبيد في المعلقة نفسها: بطليح أسفار تركن بقية ... منها فأحنق صلبها وسنامها الطليح: الناقة التي أعيت وتعبت، وأحنق، أي ضمر، والاستشهاد به في قوله: "أحنق صلبها وسنامها" فإن ظاهره أن قوله "سنامها" معطوف على قوله "صلبها" فيكون قوله "أحنق" مسلطا عليهما جميعا، وقد قال نقلة اللغة: إنه يقال: "أحنق صلب الناقة" أي ضمر وهزل، ولا يقال "أحنق سنام الناقة" وإنما يقال: ذهب سنامها فيئول بأحد التأويلين السابقين، ومن العلماء من أجاز أن تقول "أحنق السنام" وأغلب ظني أنه إنما أجازه على تضمين أحنق معنى دق أو فني أو ذهب أو ما أشبه ذلك. 394- هذا البيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص224" وكامل المبرد "1/ 196 و218 الخيرية، رغبة الآمل 3/ 234" وخصائص ابن جني "2/ 431" وأنشده ابن منظور

فعطف "رمحًا" على "سيفًا" وإن كان الرمح لا يتقلّد، وقال الآخر: [395] علفتها تبنًا وماء باردًا ... حتى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا

_ "ق ل د" وصحة الرواية "يا ليت زوجك قد غدا" وهو -كما قال الأخفش- من كلام عبد الله بن الزبعرى، ومحل الاستشهاد منه قوله "متقلدًا سيفا ورمحا" فإن ظاهره أن قوله "رمحًا" معطوف على قوله "سيفا" فيكون قوله "متقلدا" مسلطًا وعاملًا في المعطوف والمعطوف عليه جميعا، وقد قال علماء اللغة: إنه يقال: تقلد فلان سيفه، ولا يقال: تقلد رمحه، وإنما يقال: حمل رمحه، وقالوا "المقلد" -بضم الميم وفتح القاف وتشديد اللام مفتوحة- لموضع نجاد السيف من كتف الرجل، والكلام في هذا كالكلام الذي ذكرناه في الشواهد السابقة: إما أن يكون "رمحا" مفعولا لمحذوف، أي متقلدا سيفا ومعتقلا رمحا، وإما أن يكون متقلدا" قد ضمن معنى يصح تسلطيه على المعطوف والمعطوف عليه جميعا كحامل، قال ابن يعيش بعد أن أنشد البيت "يريد متقلدًا سيفًا ومعتقلًا رمحًا؛ لتعذر حمله على ما قبله، لأنه لا يقال: تقلّدت الرمح" ا. هـ. [395] هذا البيت أنشده ابن منظور "ق ل د" وهو من شواهد ابن جني في الخصائص "2/ 431" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 258" وفي شرح شذور الذهب "رقم 115" وابن عقيل "رقم 165" والأشموني "رقم 441" وابن الناظم في باب المفعول معه من شرح الألفية، وشرحه العيني "3/ 101 بهامش الخزانة" والسيد المرتضي في أماليه "2/ 259 ط الحلبي" وتقول: علفت الدابة أعلفها -من باب ضرب- تريد أطعمتها، والتبن -بكسر التاء وسكون الباء- هو قصب الزرع بعد أن يداس، وهمالة: صيغة مبالغة من قولهم: هملت عين فلان؛ إذا أرسلت دمعها إرسالًا، ومحل الاستشهاد في هذا البيت قوله "وماء" فإن ظاهره أنه معطوف بالواو على قوله "تبنًا" ولو كان معطوفا على التبن لكان الواجب أن يتسلط على المعطوف الفعل العامل في المعطوف عليه وهو قوله علفتها، ولكنك تعلم أنه يقال: علفت الدابة تبنا، ولا يقال: علفتها ماء. ولكن يقال: سقيتها ماء، ومن أجل هذا وجب واحد من أمرين: الأول: أن يكون قوله "ماء" مفعولا به لفعل محذوف -والتقدير: وسقيتها ماء- وتكون جملة الفعل المحذوف ومعمولاته معطوفة على جملة علفتها تبنًا، والأمر الثاني: أن تضمن علفتها معنى فعل يصح أن تسلطه على المعطوف والمعطوف عليه جميعًا مثل أنلتها أو قدمت لها أو ما أشبه هذين، ونظير هذا البيت والأبيات السابقة قول طرفة بن العبد البكري. أعمرو بن هند ما ترى رأي صرمة ... لها سبب ترعى به الماء والشجر والاستشهاد بهذا البيت في قوله "ترعى به الماء والشجر" فإن ظاهره غير صحيح لأنه يقال: رعت الماشية الشجر، ولا يقال: رعت الماء، وإنما يقال: شربت الماء، ومن أجل هذا يجب أن تقدر فعلا يعمل في الماء؛ وكأنه قد قال: لها سبب تشرب به الماء وترعى الشجر، وإما أن تضمن ترعى معنى فعل يصح تسلطه على المعطوف والمعطوف عليه جميعا مثل تتناول، وفي بيت طرفة هذا لطيفة، وحاصلها أن الذي منع من صحة تسلط العامل المذكور فيه هو المعطوف عليه، وفي كل الأبيات السابقة كان المانع هو المعطوف، فتأمل.

فعطف ماء على تبنًا، وإن كان الماء لا يعلف، وقال الآخر: [396] شرَّاب أَلْبَان وتمر وأَقِطْ فعطف تمرا على ألبان، وإن كان التمر لا يشرب، فكذلك عطف الأرجل على الرءوس وإن كانت لا تُمْسَحُ. وأما قول زهير: [254] " ... سَوَافِي المُورِ والقَطْرِ فلا حجة لهم فيه؛ لأنه معطوف على المور وهو الغبار، وقولهم: "لا يكون معطوفا على المور لأنه ليس للقطر سواف" قلنا: يجوز أن يكون قد سمى ما تسفيه الريح منه وقت نزوله سوافي كما يسمى ما تسفيه الريح من الغبار سوافي. وأما قوله الآخر: [391] كأن نسج العنكبوت المُرْمَلِ فنقول الرواية "المرمل" بكسر الميم، فيكون من وصف العنكبوت لا النسج،

_ [396] هذا بيت من الرجز المشطور، وقد أنشده أبو العباس المبرد في الكامل "1/ 196 و218 الخيرية، رغبة الآمل 3/ 234" من غير عزو، ولم يتعرض له الأخفش بشيء، والألبان: جمع لبن، وهو معروف، والتمر: معروف أيضًا، والأقط -بفتح الهمزة وكسر القاف وآخره طاء مهملة- وهو طعام يتخذ من اللبن المخيض يطبخ ثم يترك حتى يمصل، وقد يقال: أقط فلان القوم يأقطهم -من مثال ضرب يضرب- إذا أطعمهم الأقط، كما يقال "لبنهم" أي أطعمهم اللبن، و"لبأهم" أي أطعمهم اللبأ، وحكى اللحياني: أتيت بني فلان فخبزوا وأقطوا وحاسوا، أي أطعموني الخبز والأقط والحيس، هكذا حكاه اللحياني من غير أن تعدى هذه الأفعال. ومحل الشاهد في هذا البيت قوله "وتمر" فإن ظاهره أن هذه الكلمة معطوفة بالواو على قوله "ألبان" فيكون قوله "شراب" مسلطا على المعطوف والمعطوف عليه، لكن كل من التمر والأقط مطعوم مأكول، لا مشروب، كما هو واضح، ولهذا خرجه العلماء على أحد وجهين: الأول: أن تقدر عاملا للتمر يكون معطوفا على شراب، والتقدير على هذا: شراب ألبان وطعام تمر وأقط، والثاني: أن تتوسع في شراب فتضمنه معنى كلمة أخرى يصح أن تتسلط على المعطوف والمعطوف عليه جميعًا، والتقدير على هذا: متناول ألبان وتمر وأقط، وهذا واضح إن شاء الله. ومن شواهد هذه المسألة ما أنشده ابن جني "الخصائص 2/ 432" والمرتضى "الأمالي 2/ 259" من قول الراجز: تسمع للأحشاء منه صردًا ... وفي اليدين جسأة وبددا الجسأة -بالضم- الصلابة واليبس، والبدد: التفرق، وكل من الصلابة والتفرق لا يسمع، فوجب أن تقدر لهما فعلًا، وكأنه قال: وترى في اليدين جسأة وبددا، أو تضمن قوله تسمع معنى فعل يصح أن يتسلط على كل من الصرد والصلابة والتفرق، وكأنه قال: تحس منه.

وإن كانت الرواية التي ذكرتم صحيحة وأنه مجرور على الجوار، إلا أنه لا حجة فيه؛ لأن الحمل على الجوار من الشاذ الذي لا يعرج عليه. وكذلك قوله: [390] قُطْنًا بمُسْتَحْصِدِ الأوتار مَحْلُوجِ وقولهم: "جحر ضبّ خرب" محمول على الشذوذ الذي يقتصر فيه على السماع لقلته، ولا يقاس عليه؛ لأنه ليس كل ما حكي عنهم يقاس عليه، ألا ترى أن اللحياني حكى أن من العرب من يجزم بلن وينصب بلم، إلى غير ذلك من الشواذ التي لا يلتفت إليها ولا يقاس عليها، فكذلك ههنا، والله أعلم.

مسألة عامل الرفع في الاسم المرفوع بعد "إن" الشرطية

85- مسألة: [عامل الرفع في الاسم المرفوع بعد "إن" الشرطية] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه إذا تقدم الاسم المرفوع بعد "إن" الشرطية نحو قولك "إنْ زيدٌ أتاني آتِهِ" فإنه يرتفع بما عاد إليه من الفعل من غير تقدير فعل. وذهب البصريون إلى أنه يرتفع بتقدير فعل، والتقدير فيه: إن أتاني زيد، والفعل المظهر تفسر لذلك الفعل المقدر. وحكي عن أبي الحسن الأخفش أنه يرتفع بالابتداء. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما جوزنا تقديم المرفوع مع "إن" خاصة وعملها في فعل الشرط مع الفصل لأنها الأصل في باب الجزاء؛ فلقوتها جاز تقديم المرفوع معها، وقلنا إنه يرتفع بالعائد لأن المكني المرفوع في الفعل هو الاسم الأول؛ فيبنغي أن يكون مرفوعًا به، كما قالوا: "جاءني الظريف زيد" وإذا كان مرفوعًا به لم يفتقر إلى تقدير فعل. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يرتفع بتقدير فعل لأنه لا يجوز أن يُفْصَل بين حرف الجزم وبين الفعل باسم لم يعمل فيه ذلك الفعل، ولا يجوز أن يكون الفعل ههنا عاملا فيه؛ لأنه لا يجوز تقديم ما يرتفع بالفعل عليه، فلو لم يقدر ما يرفعه لبقي الاسم مرفوعًا بلا رافع، وذلك لا يجوز؛ فدلَّ على أن الاسم يرتفع بتقدير فعل، وأن الفعل المظهر الذي بعد الاسم يدل على ذلك المقدر. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنما جوزنا تقديم المرفوع مع "إنْ" خاصة لقوتها لأنها الأصل في باب الجزاء دون غيرها من الأسماء والظروف التي يجازى بها" قلنا: نسلم أن "إنْ" هي الأصل في باب الجزاء، ولكن

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني مع حاشية الصبان "2/ 61" وشرحنا الكبير على شرح الأشموني "2/ 239 وما بعدها" وكتاب سيبويه "1/ 67 وما يليها" ومفصل الزمخشري "1/ 149 بتحقيقنا" وشرح الرضي على الكافية "2/ 237" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص1213".

هذا لا يدل على جواز تقديم الاسم المرفوع بالفعل عليه؛ لأنه يؤدي إلى أن يتقدم ما يرتفع بالفعل عليه، وذلك لا يجوز؛ لأنه لا نظير له في كلامهم، فوجب أن يكون مرفوعًا بتقدير فعل، ويكون الفعل الظاهر مفسرًا له، بلى لما كانت "إن" هي الأصل اختصت بجواز تقديم المرفوع1 بتقدير فعل مع الفعل الماضي خاصة، دون غيرها من الأسماء والظروف التي يجازى بها؛ لأنها هي الأصل، وتلك الأسماء والظروف فرع عليها، والأصل يتصرف ما لا يتصرف الفرع، ألا ترى أن همزة الاستفهام لما كانت هي الأصل في حروف الاستفهام جاز فيها ما لم يجز في غيرها من حروف الاستفهام؟ فكذلك ههنا. وأما قول عدي: [397] فمتي وَاغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو ... هُ وتُعْطَفْ عليه كأس الساقي وقال الآخر: [398] صعدة نابتة في حائرٍ ... أينما تُمَيِّلْهَا تَمِلْ

_ [397] هذا البيت من كلام عدي بن زيد العبادي، وهو من شواهد سيبويه "1/ 458" وابن يعيش "ص1214" ورضي الدين في باب الاشتغال وباب الجوازم من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 456 و3/ 639" والواغل -بالغين المعجمة- وهو الرجل يدخل على الشرب من غير أن يدعوه، يقال: وغل يغل -من مثال وعد يعد- وغلا فهو واغل وهو أيضًا وغل -بسكون الغين- والذي يدخل على القوم وهم يأكلون من غير أن يدعوه أحد يقال له: وارش، أو طفيلي، وينبهم: أي ينزل بهم، ويروى في مكانه "يزرهم" ويروى أيضًا "يجبهم" و"تعطف" مضارع مبني للمجهول، والكأس: وعاء الخمر، ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "متى واغل ينبهم" فإن الشاعر فصل بالاسم المرفوع بين أداة الشرط وفعل الشرط، وقد خرجه النحاة على أن هذا الاسم المرفوع فاعل بفعل محذوف يفسره الفعل المذكور بعد، وتقدر الكلام: متى ينبهم واغل ينبهم، قال الأعلم "الشاهد فيه تقديم الاسم على الفعل في متى، مع جزمها له، ضرورة، وارتفاع الاسم بعدها بإضمار فعل يفسره الظاهر، لأن الشرط لا يكون إلا بالفعل" ا. هـ. وفي عبارته هذه مؤاخذة؛ لأنه -وقد جعل الاسم المرفوع بعد أداة الشرط معمولا لفعل محذوف يلي أداة الشرط- لا يكون الاسم المرفوع متقدمًا، بل هو -على هذا- واقع في موقعه، فتنبه لهذا. [398] هذا البيت من كلام كعب بن جعيل بن قمير -بضم أولهما على زنة التصغير- ابن عجرة، أحد بني تغلب بن وائل، وهو شاعر إسلامي كان في عهد معاوية بن أبي سفيان

وقول الآخر: [399] فمن نحن نُؤْمِنْهُ يَبِتْ وهو آمِنٌ ... ومَنْ لا نُجِرْه يُمْسِ مِنَّا مُفَزَّعَا فهو ضعيف لا يجوز في الكلام؛ لأنه قدر الفعل بعد متى وأينما ومَنْ، وهي

_ والبيت من شواهد سيبويه "1/ 458" وشواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص1214" وشواهد رضي الدين في باب الاشتغال وباب الجوازم من شرح الكافية وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 457" وشواهد ابن عقيل "رقم 336" والأشموني "رقم 1066" وابن الناظم في باب الجوازم، وشرحه العيني "4/ 434" وقبل هذا البيت مما يبين معناه قوله: وضجيع قد تعللت به ... طيب أردانه غير تفل والصعدة -فتح فسكون- القناة التي تنبت مستوية، والحائر: المكان الذي يكون وسطه منخفضا وحروفه مرتفعه عالية، وإنما جعل الصعدة في هذا المكان لأنه يكون أنعم لها وأسد لنبتتها، شبه امرأة بقناة مستوية لدنة قد نبتت في مكان مطمئن الوسط مرتفع الجوانب والريح تعبث بها وهي تميل مع الريح، وموطن الاستشهاد من هذا البيت قوله "أينما الريح تميلها" حيث وقع اسم مرفوع بعد أداة الشرط، ووقع بعد هذا الاسم المرفوع فعل مضارع مجزوم ضرورة، وقد خرج النحاة ذلك على أن الاسم المرفوع فاعل بفعل محذوف يفسره الفعل المتأخر، وهذا الفعل المحذوف هو فعل الشرط، وقد دعاهم إلى هذا أنهم يرون أدوات الشرط تختص بالأفعال، ولا يجوز أن تليها الأسماء المرفوعة على الابتداء، فإن وليها اسم مرفوع فإن كانت الأداة "إن" والفعل المتأخر ماضيًا جاز ذلك، ثم اختلفوا في رافع هذا الاسم الخلاف الذي ذكره المؤلف، وإن كانت الأداة غير "إن" أو كان الفعل غير ماضٍ لم يكن ذلك جائزًا إلا أن يضطر إليه شاعر، وحينئذ يكون ارتفاعه على ما ذكرنا. قال سيبويه "واعلم أن قولهم في الشعر: إن زيد يأتك يكن كذا، إنما ارتفع على فعل هذا تفسيره، كما كان في قولك: إن زيدا رأيته يكن ذلك؛ لأن إن لا تبتدأ بعدها الأسماء ثم يبنى عليها" ا. هـ. [399] هذا البيت من كلام هشام المري، وهو من شواهد سيبويه "1/ 458" ورضي الدين في باب الجوازم من شرح الكافية، وقد شرحه البغدادي في الخزانة "3/ 640" وشواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 652" ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "فمن نحن نؤمنه" حيث وقع الضمير المنفصل المرفوع بعد أداة الشرط وبعده فعل مضارع مجزوم، فيظن من لا علم عنده أن هذا المضارع المجزوم قد عملت فيه أداة الشرط المذكورة، ولكن النحاة البصريين لا يرون ذلك، ويجعلون الضمير المنفصل فاعلا بفعل محذوف يفسره هذا الفعل المذكور بعده، وتقدير الكلام: فمن نؤمنه نؤمنه، فلما حذف فعل الشرط الذي هو الفعل الأول من هذين الفعلين وفيه ضمير مستتر واجب الاستتار تقديره نحن برز هذا الضمير فصار الكلام: فمن نحن نؤمنه، فهذا الضمير البارز المنفصل المرفوع هو الضمير الذي كان مستترًا في الفعل المحذوف، وهذا الفعل المذكور جيء به تفسيرًا وبيانًا لذلك الفعل المحذوف، فاعرف هذا، وكن منه على ثبت.

فرع على إنْ، ولأنه فعل مضارع يظهر فيه عمل حرفِ الجزمِ، وذلك ضعيف في إنْ في الكلام، فإنما يجوز في الشعر، وإذا كان ذلك ضعيفًا في إن وهي الأصل ففيما هو فرع عليه أولى، ولو كان فعلًا ماضيًا لكان في هذه المواضع أسهل؛ إذ كان ذلك جائزا في إنْ في الكلام دون غيرها، وهذا كله شيء يختص بالشعر، ولا يجوز في الكلام. وأما قولهم: "إنه يرتفع بالعائد؛ لأن المَكْنِيَّ المرفوعَ في الفعل هو الاسم الأول فينبغي أن يكون مرفوعًا به كما قالوا: جاءني الظريف زيد" قلنا: هذا باطل؛ لأن ارتفاع زيد في "جاءني الظريفُ زيدٌ" إنما كان على البدل من الظريف، وجاز أن يكون بدلا لتأخر البدل عن المبدل منه، فأما ههنا فلا يجوز أن يكون بدلا؛ لأنه لا يجوز أن يتقدم البدل على المبدل منه، وقد بينا بطلان الرفع بالعائد في موضعه بما يغني عن الإعادة ههنا. وأما ما ذهب إليه أبو الحسن الأخفش من أنه يرتفع بالابتداء ففاسد؛ وذلك لأن حرف الشرط يقتضي الفعل ويختصّ به دون غيره، ولهذا كان عاملًا فيه، وإذا كان مقتضيًا للفعل ولا بد له منه بطل تقدير الابتداء؛ لأن الابتداء إنما يرتفع به الاسم في موضع لا يجب فيه تقدير الفعل؛ لأن حقيقة الابتداء هو التعري من العوامل اللفظية المظهرة أو المقدرة، وإذا وجب تقدير الفعل استحال وجود الابتداء الذي يرفع الاسم. وبهذا يبطل قول من ذهب من الكوفيين وغيرهم إلى أن الاسم بعد "إذا" مرفوع لأنه مبتدأ إما بالترافع أو بالابتداء في نحو قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] لأن "إذا" فيها معنى الشرط، والشرط يقتضي الفعل؛ فلا يجوز أن يحمل على غيره، والله أعلم.

مسألة هل يجوز تقديم اسم مرفوع أو منصوب في جملة جواب الشرط؟ وما يترتب عليه؟

86- مسألة: [هل يجوز تقديم اسم مرفوع أو منصوب في جملة جواب الشرط؟ وما يترتب عليه؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه إذا تقدم الاسم المرفوع في جواب الشرط فإنه لا يجوز فيه الجزم، ووجب الرفع، نحو "إن تأتِنِي زيدٌ يكرِمُك" واختلفوا في تقديم المصنوب في جواب الشرط نحو "إن تأتني زيدا أكرم" فأباه أبو زكرياء يحيى بن زياد الفراء، وأجازه أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي. وذهب البصريون إلى أن تقديم المرفوع والمنصوب في جواب الشرط كله جائز. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز فيه الجزم، وذلك لأن جزم جواب الشرط إنما كان لمجاورته فعل الشرط، فإذا فارقه بتقديم الاسم بطلت المجاورة الموجبة للجزم، فبطل الجزم، وإذا بطل الجزم وجب فيه الرفع. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يجوز، وذلك لأنه يجب أن يقدر فيه فعل كما وجب التقدير مع تقديم الاسم على فعل الشرط؛ لأن حرف الشرط يعمل فيهما، على ما بينا، فكما وجب التقدير مع تقديمه على فعل الشرط فكذلك مع تقديمه على جواب الشرط، ولا فرق بينهما. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنما قلنا: إنه لا يجوز فيه الجزم؛ لأن الجزم في جواب الشرط إنما كان لمجاورته فعل الشرط؛ فإذا فارقه بتقديم الاسم وجب أن يبطل الجزم" قلنا: قد ذكرنا بطلان كون المجاورة موجبة للجزم في موضعه وبينا فساده بما يغني عن الإعادة.

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح الرضي على كافية ابن الحاجب "2/ 238"

والذي يدل على فساد ما ذهب إليه الفراء من منع جواز تقديم المنصوب قول طُفَيْلٍ الغَنَوِي: [400] وللْخَيْلِ أَيَّامٌ؛ فَمَنْ يَصْطَبِرْ لهَا ... ويعرف لها أيَّامَهَا الخَيْرَ تُعْقِبِ فنصب "الخير" بتعقب، وتقديره: تعقب الخير، و"تعقب" مجزوم، وإنما كسرت الباء لأن القصيدة مجرورة، وإنما كان هذا في المجرورة دون المرفوعة والمنصوبة لوجهين؛ أحدهما: أن الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء، فلما

_ [400] هذا البيت من قصيدة طويلة لطفيل الغنوي -وهو أحد شعراء قيس الفحول، وكان يلقب "طفيل الخيل" لكثرة وصفه إياها، كان يلقب "المحبر" لجودة وصفه -وبعد البيت المستشهد به قوله: وقد كان حيانا عدوين في الذي ... خلا؛ فعلى من كان في الدهر فارتبي إلى اليوم لم تحدث إليكم وسيلة ... ولم تجدوها عندنا في التنسب جزيناهم أمس العظيمة؛ إننا ... متى ما تكن منا الوثيقة نطلب وإنما روينا لك هذه الأبيات لتعلم أن روي هذه القصيدة مكسور لأن لذلك مدخلا في بيان الاستشهاد بالبيت، والبيت من شواهد رضي الدين في باب الجوازم، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 642" وقوله "وللخيل أيام" مبتدأ مؤخر وخبر مقدم، وقوله: "من يصطبر لها" من اسم شرط، والفعل بعده مجزوم به على أنه فعل الشرط، وقوله "ويعرف لها أيامها" الفعل معطوف على فعل الشرط، ولهذا كان مجزوما، والخير: مفعول مقدم لتعقب، وتعقب الخير، أي تحدث الخير في عاقبة أمرها، ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "الخير تعقب" فإنه قوله تعقب فعل مضارع واقع جواب الشرط الذي هو "من" والدليل على أنه جواب الشرط أنه مكسور للرويّ، ولا يجوز أن يكون هذا الفعل مرفوعًا ولا أن يكون منصوبًا، لأنهم لا يستسيغون كسر الفعل المضارع لأجل الروي إلا أن يكون مجزومًا، والسر في هذا يرجع إلى أمرين، الأول: أن الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء، كل واحد منهما يختص به قبيل منهما، فالجر يختص به الاسم، والجزم يختص به الفعل، فلما وجب تحريك الفعل المضارع المجزوم لأجل الرويّ حركوه بالحركة التي يختص بها نظيره وهي الكسرة، والوجه الثاني: أن الفتحة والضمة يدخلان الفعل المضارع؛ فلو أنهم حركوا المضارع المجزوم بالفتحة أو الضمة حين تدعوهم الحاجة إلى تحريكه لالتبس الأمر فلم يعرف أهذه الحركة أصلية أم عارضة لأجل الروي، ولكن إذا كسروا آخره للرويّ وقد علم أن الكسر لا يدخله بالأصالة علم من أول وهلة أن هذه الكسرة طارئة وليست أصلية، وهذا ظاهر إن شاء الله أبلغ الظهور، ومتى عرف أن هذا الفعل المضارع مجزوم وقد سبقه أداة شرط وفعل الشرط علم أنه جواب الشرط. وأن كلمة "الخير" مفعول به لهذا الفعل تقدم عليه؛ فدل ذلك على أنه يجوز تقديم الاسم المنصوب بجواب الشرط مع أن جواب الشرط مجزوم؛ فهذا إيضاح كلام المؤلف في هذا الموضوع وبيانه بأوضح عبارة، والله سبحانه أعلى وأعلم.

وجب تحريكه حركوه حركَةَ النظير، والثاني: أن الرفع والنصب يدخلان هذا الفعل، ولا يدخله الجر، فلو حركوه بالضم أو الفتح لالتبس حركة الإعراب بحركة البناء، بخلاف الكسر؛ فإنه ليس فيه لَبْسٌ. والذي يدل على فساد ما ذهب إليه الفراء من امتناع جواز تقديم المنصوب أنا أجمعنا على أن المنصوب فَضْلَهٌ في الجملة، بخلاف المرفوع؛ فينبغي أن لا يعتدّ بتقديمه كتقديم المرفوع، والله أعلم.

مسألة القول في تقديم المفعول بالجزاء على حرف الشرط

87- مسألة: [القول في تقديم المفعول بالجزاء على حرف الشرط] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز تقديم المفعول بالجزاء على حرف الشرط، نحو "زيدا إن تضربْ أضربْ" واختلفوا في جواز نصبه بالشرط؛ فأجازه الكسائي، ولم يجزه الفراء. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز أن ينصب بالشرط ولا بالجزاء. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يجوز تقديم المنصوب بالجزاء على حرف الشرط؛ لأن الأصل في الجزاء أن يكون مقدمًا على "إنْ" كقولك: "أَضْرِبُ إنْ تضرب" وكان ينبغي أن يكون مرفوعًا، إلا أنه لما أُخِّرَ انجزم بالجوار على ما بينا، وإن كان من حقه أن يكون مرفوعًا. والذي يدل على ذلك قول الشاعر: [401] يا أقرعُ بن حابس يا أقرعُ ... إنك إنْ يُصْرَعْ أخوك تصرعُ

_ [401] هذان بيتان من مشطور الرجز، وهما من شواهد سيبويه "1/ 436" وقد نسبه إلى جرير بن عبد الله البجلي، وأقر الأعلم هذه النسبة، وهو أيضًا من شواهد رضي الدين في باب المجموع وباب الجوازم من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 396 و643" وابن يعيش في شرح المفصل "ص1207" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 807" والأشموني "رقم 1083" وابن عقيل "رقم 342" وشرحه العيني "4/ 430" وذكره العيني والبغدادي أن الرجز ينسب إلى عمرو بن خثارم البجلي وأسند العيني ذلك إلى الصاغاني، والأقرع بن حابس: أحد علماء العرب وحكامهم في زمانه، وكان جرير بن عبد الله البجلي قد تنافر إليه هو وخالد بن أرطاة الكلبي، ويصرع -بالبناء للمجهول- أراد يهلك، ومحل الاستشهاد من هذا البيت هنا قوله "تصرع" فإن الرواية فيه بالرفع بدليل البيت السابق عليه، وقد اختلف تخريج العلماء لذلك، فأما سيبويه رحمه الله تعالى فقد جعل جملة "تصرع"

والتقدير فيه: إنك تصرعُ إن يُصْرَعْ أخوك، ولولا أنه في تقديم التقديم، وإلا لما جاز أن يكون مرفوعًا، ولوجب أن يكون مجزومًا، وقال زهير: [402] وإنْ أتاهُ خليل يوم مسألةٍ ... يقول لا غائبٌ ما لي ولا حَرِمُ

_ خبرًا لإن المؤكدة، وهو مؤخر لفظا والنية به التقديم على أداة الشرط، وكأنه قد قال: إنك تصرع إن يصرع أخوك، وجواب الشرط محذوف لأن هذا دال عليه ومشير إليه، قال سيبويه: وقد تقول: "إن أتيتني آتيك": أي آتيك إن أتيتني، قال زهير "وإن أتاه خليل ... البيت 402" ولا يحسن: إن تأتني آتيك، من قبل أن إن هي العاملة، وقد جاء من الشعر، قال جرير بن عبد الله البجلي: إنك إن يصرع أخوك تصرع أي إنك تصرع إن يصرع أخوك، ومثل ذلك قوله: هذا سراقة للقرآن يدرسه ... والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب أي المرء ذيب إن يلق الرشا، قال الأصمعي: هو قديم، أنشدنيه أبو عمرو، وقال ذو الرمة: وإني متى أشرف على الجانب الذي ... به أنت من بين الجوانب ناظر أي ناظر متى أشرف، فجاز هذا في الشعر، وشبهوه بالجزاء إذا كان جوابه منجزما" ا. هـ كلامه، وخلاصته أنه إذا كان فعل الشرط ماضيًا جاز رفع المضارع الواقع جزاء وهذا هو الذي عبر عنه بقوله "وقد تقول: إن أتيتني آتيك" وإذا كان فعل الشرط مضارعًا مجزومًا لم يجز أن ترفع المضارع الواقع جوابًا؛ لأن عمل الجازم قد ظهر في فعل الشرط، وهذا هو الذي عبر عنه بقوله "ولا يحسن: إن تأتني آتيك" لكن إذا وقع مثل هذا في ضرورة الشعر كان تخريجه على ما ذكر من أن المتأخر دليل الجواب، وليس جوابًا، وأما أبو العباس المبرد فقد جعل المتأخر هو الجواب وتمحل له بأنه على تقدير فاء الربط ومبتدأ تقع جملة المضارع خبرا عنه، وتقدير الكلام على هذا: إنك إن يصرع أخوك فأنت تصرع وجملة المبتدأ والخبر في محل جزم جواب الشرط، والجملة الشرطية في محل رفع خبر إن، وتقدير البيت الذي أنشده الأصمعي على كلام المبرد: والمرء عند الرشا إن يلقها فهو ذيب، وتقدير بيت ذي الرمة على هذا: وإني متى أشرف فأنا ناظر، قال الأعلم في تخريج بيت الشاهد "الشاهد فيه على مذهبه تقديم تصرع في النية؛ وتضمنه الجواب في المعنى، والتقدير: إنك تصرع إن يصرع أخوك؛ وهذا من ضرورة الشعر؛ لأن حرف الشرط قد جزم فحكمه أن يجزم الآخر، وهو عند المبرد على حذف الفاء" ا. هـ. 402- هذا البيت من كلام زهير بن أبي سلمى المزني، وهو من شواهد سيبويه "1/ 436" ومفصل الزمخشري، وشرحه لابن يعيش "ص1206" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 679" وفي أوضح المسالك "رقم 511" وفي شرح شذور الذهب "رقم 175" والأشموني "رقم 1081" وابن عقيل "رقم 341" وابن الناظم في باب الجوازم، وشرحه العيني "4/ 429 بهامش الخزانة" والقالي في أماليه "1/ 193 ط الدار" وقوله "وإن أتاه خليل" الضمير المنصوب يعود إلى هرم بن سنان المري، والخليل: الفقير المحتاج؛ وأصله الخلة -بفتح

والتقدير فيه: يقول إن أتاه خليل يوم مسألة، ولولا أنه في تقدير التقديم، وإلا لما جاز أن يكون مرفوعًا، وقال الآخر: [403] فَلَمَ أَرْقِهِ إِنْ يَنْجُ مِنْهَا، وإِنْ يَمُتْ ... فطعنةُ لا غُسٍّ ولا بِمُغَمَّرِ والتقدير فيه: إن ينج فلم أرقه، فقدَّمه في الموضع الذي يستحقه في الأصل،

_ = الخاء وتشديد اللام وهو الفقر، ومن أمثال العرب "الخلة تدعو إلى السلّة" أي الفقر يدعو إلى السرقة، ويوم مسألة: يروى في مكانه "يوم مسغبة" وقوله "لا غائب مالي" يريد أنه لا يعتذر للمحتاج بأن ماله غائب، وقوله "ولا حرم" هو بفتح الحاء المهملة وكسر الراء، ومعناه المحروم، وهو على تقدير مبتدأ، أي ولا أنت محروم؛ ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "يقول" فإنه فعل مضارع وقع بعد أداة شرط وفعل شرط ماضٍ؛ وقد جاء هذا المضارع مرفوعًا؛ فأما سيبويه فيرى أن هذا المضارع ليس هو جواب الشرط، ولكنه دليل على الجواب، وهو على نية التقديم وإن كان متأخرًا في اللفظ، فكأنه قال: يقول: لا غائب مالي ولا حرم إن أتاه خليل، وأما أبو العباس المبرد فيذكر أن هذا المضارع هو نفس الجواب؛ لكنه على تقدير فاء الربط، وكأن الشاعر قد قال: إن أتاه خليل يوم مسألة فهو يقول لا غائب مالي ... إلخ؛ وقد وافق أبو العباس ذلك مذهب الكوفيين وأبي زيد؛ وقد رجحه العلامة موفق الدين بن يعيش؛ قال "فسيبويه يتأوله على إرادة التقديم، كأن المعنى: يقول إن أتاه خليل، وقد استضعف؛ والجيد أن يكون على إرادة الفاء، فكأنه قال: فيقول" ا. هـ. [403] هذا البيت لزهير بن مسعود، وقد أنشده ابن منظور في لسان العرب "غ س س" وقد أنشده ابن جني في الخصائص "2/ 388" وأبو زيد في النوادر "ص7" ثاني بيتين، والغس -بضم الغين وتشديد السين المهملة- الضعيف اللئيم من الرجال، وجمعه أغساس وغساس -بوزن رجال- وغسوس، وقال ابن الأعرابي: هم الضعفاء في آرائهم وعقولهم، والمغمر -بضم الميم الأولى وتشديد الثانية مفتوحة- هو الذي لم يجرب الأمور والناس يستجهلونه، ومثله الغمر -بفتح أوله وثانيه ساكن أو مفتوح أو مكسور، وبضم أوله مع سكون ثانيه- وقال ابن سيده: هو من لا غناء عنده ولا رأي، وقال ابن الأثير: هو الجاهل الغرّ الذي لم يجرب الأمور. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "فلم أرقه أن ينج منها" حيث قدم ما يصلح أن يكون جوابا على أداة الشرط، ألا ترى أنه لو قال "إن ينج منها فلم أرقه" لصح الكلام، فتقديم الشاعر ما يصلح أن يكون جوابا يدل على أن هذا هو موضعه من الكلام، فيكون قول زهير "يقول لا غائب.... إلخ" وقول جرير البجلي "تصرع" متقدما في النية وإن تأخر في اللفظ، وهذا يؤيد ما ذهب إليه سيبويه رحمه الله من أن الفعل المتأخر عن أداة الشرط وفعل الشرط إذا كان غير مجزوم فهو على نية التقديم، من قبل أن هذا هو الموضع الأصلي له، فاعرف ذلك وتنبه له، فأما البصريون فلا يرون ذلك، ويجعلون المتقدم دليلا على الجواب، وليس هو نفس الجواب تقدم، لأن الجواب مجزوم بالشرط، وقد تكرر أن عامل الجزم ضعيف، ومن آثار ضعفه ألا يتقدم معموله عليه.

وإذا ثبت هذا وأنه في تقدير التقديم؛ فوجب جواز تقديم معموله على حرف الشرط؛ لأن المعمول قد وقع في موقع العامل. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز تقديم معمول الشرط والجزاء على حرف الشرط؛ لأن الشرط بمنزلة الاستفهام، والاستفهام له صدر الكلام، فكما لا يجوز أن يعمل ما بعد الاستفهام فيما قبله فكذلك الشرط، ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال "زيدًا أَضَرَبْتَ"؟ فكذلك لا يجوز أن يقال "زيدا إنْ تضرب أضرب". والذي يدلُّ على ذلك أن بين الاستفهام وبين الشرط من المشابهة ما لا خفاء به، ألا ترى أنك إذا قلت "أضربت زيدا؟ " كنت طالبا لما لم يستقر عندك، كما أنك إذا قلت "إن تضرب زيدا أضرب" كان كلامًا معقودًا على الشك؛ فإذا ثبتت المشابهة بينهما من هذا الوجه؛ فينبغي أن يُحْمَلَ أحدهما على الآخر؛ فكما لا يجوز أن يتقدم ما بعد الاستفهام عليه؛ فكذلك الشرط. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إن الأصل في الجزاء أن يكون مقدما على الشرط" قلنا: لا نسلم، بل مرتبة الجزاء بعد مرتبة الشرط؛ لأن الشرط سبب في الجزاء، والجزاء مُسَبِّبُهُ، ومحال أن يكون المسبب مقدما على السبب، ألا ترى أنك لا تقول "إن أشكرك تُعْطِنِي1" وأنت تريد إن تعطني أشكرك؛ لاستحالة أن يتقدم المسبب على السبب، وإذا ثبت أن مرتبة الجزاء أن تكون بعد الشرط وجب أن تكون مرتبة معمولهِ كذلك؛ لأن المعمول تابع لعامل. وأما قول الشاعر: [401] إنك إن يصرع أخوك تصرع فلا حجة لهم فيه؛ لأنه إنما نَوَى به التقديم وجعله خبرا لإنَّ لأجل ضرورة الشعر، وما جاء لضرورة شعر أو إقامة وزن أو قافية فلا حجة فيه. وأما قول زهير: [402] وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول...... فلا نسلِّم أنه رفعه لأن النية به التقديم، وإنما رفعه لأن فعل الشرط ماضٍ، وفعل الشرط إذا كان ماضيًا نحو "إن قمت أقوم" فإنه يجوز أن يبقى على رفعه؛ لأنه لما لم يظهر الجزم في فعل الشرط تُرِكَ الجواب على أول أحواله -وهو الرفع

_ 1 لكنه لو قال "أشكرك إن تعطني" كان صحيحًا وأفاد المعنى، وهو موطن الخلاف، فتأمل.

- وهو وإن كان مرفوعًا في اللفظ فهو مجزوم في المعنى، كقولك "يغفرُ الله لفلان" لفظه مرفوع ومعناه دعاء مجزوم، كقولهم: "ليغفرِ اللهُ لفلان". وأما قول الآخر: [403] فلم أَرْقِهِ إن يَنْجُ منها ... فلا حجة لهم فيه؛ لأن قوله: "فلم أرقه" دليل على جواب الشرط؛ لأن لم أفعل نفي لفعلت، وفعلت تنوب مناب جواب الشرط المحذوف، كما قال الشاعر: [404] يا حَكَمُ الوَارِثَ عن عبد الملك ... أَوْدَيْتُ إن لم تحبُ حَبْوَ المُعْتَنِكْ

_ [404] هذان بيتان من الرجز المشطور، وهما من أرجوزة لرؤبة بن العجاج يمدح فيها الحكم بن عبد الملك بن بشر بن مروان، وأولهما: من شواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 15" وفي شرح قطر الندى "رقم 87" وثانيهما: وحده من شواهد ابن منظور "ع ن ك - ح ب ا" وابن جني في الخصائص "2/ 389 و321" وبين البيتين في أرجوزة رؤبة عدة أبيات، و"أوديت" أي هلكت، وتحبو: له معنيان أحدهما: أن يكون بمعنى الحبو الذي هو الزحف، وأصله مشي الصبي على يديه ورجليه، والآخر: أن يكون بمعنى تمنح وتعطي، تقول: حباه يحبوه حبوًا، وتريد أنه أعطاه، والمعتنك -على زنة اسم الفاعل- أصله البعير يكلف أن يصعد في العانك من الرمل، والعانك من الرمل هو ما انعقد منه، ولا يتأتى الصعود فيه إلا مع جهد ومشقة عظيمين والبعير قد يحبو فيه ويبطئ في سير ويشرف بصدره ويتلطف حتى يتمكن من صعوده يقول: إني أهلك إن لم تمنحني من عنايتك وترفقك بي وتلطفك في معالجة شئوني مثل ما يعطيه البعير من ذلك حين يريد أن يصعد في عانك الرمل. ومحل الاستشهاد من هذا البيت ههنا قوله "أوديت إن لم تحب" فإن قوله "أوديت" في هذه العبارة دليل على جواب الشرط المتأخر وهو قوله "إن لم تحب" ولا يجيز البصريون أن يكون قوله أوديت هو جواب الشرط؛ لأن جواب الشرط معمول للشرط، والشرط عامل ضعيف ومن آثار ضعف العامل: ألا يعمل محذوفًا، ولا متأخرًا عن المعمول، بل لا بد أن يكون مذكورًا متقدمًا على معموله، وقد يجوز حذفه إن قام مقامه شيء، قال ابن جني: "أما قوله: فلم أرقه إن ينج منها، وإن يمت فذهب أبو زيد إلى أنه أراد: إن ينج منها فلم أرقه، وقدم الجواب. وهذا عند كافة أصحابنا غير جائز، والقياس له دافع، وعنه حاجز، وذلك أن جواب الشرط مجزوم بنفس الشرط، ومحال تقدم المجزوم على جازمة، بل إذا كان الجار -وهو أقوى من الجازم؛ لأن عوامل الأسماء أقوى من عوامل الأفعال -لا يجوز تقديم ما انجر به عليه كان ألا يجوز تقديم المجزوم على جازمه أحرى وأجدر، وإذا كان كذلك فقد وجب النظر في البيت، ووجه القول عليه أن الفاء في قوله فلم أرقه لا يخلو أن تكون معلقة بما قبلها أو زائدة، وأيهما كان فكأنه قال: لم أرقه إن ينج منها، وقد علم أن لم أفعل نفي فعلت، وقد أنابوا فعلت

أي: إنْ لم تحبُ أوديتُ، فجعل "أوديت" المقدَّم دلالة على أوديت المؤخر؛ فكما جاز أن يجعل فعلتُ دليلا على جواب الشرط المحذوف فكذلك يجوز أن يُجْعَلَ نفيُهَا الذي هو لم أفعل دليلًا على جوابه؛ لأنهم قد يحملون الشيء على ضده كما يحملونه على نظيره، ألا ترى أنهم قالوا "امرأةٌ عدوَّةٌ" كما قالوا: "صديقة" وقالوا: "مِلْحَفَةٌ جديدةٌ" كما قالوا "عتيقةٌ" وقالوا: "جوعان" كما قالوا: "شبعان" وقالوا: "علم" كما قالوا: "جهل" ولهذا قال الكسائي في قول الشاعر: [405] إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قشيرٍ ... لَعَمْرُ اللهِ أعجبني رِضَاهَا

_ عن جواب الشرط، وجعلوه دليلًا عليه في قوله: يا حكم الوارث عن عبد الملك ... أوديت إن لم تحب حبو المعتنك أي إن لم تحب أوديت، فجعل أوديت المتقدم دليلًا على أوديت هذه المتأخرة، فكما جاز أن تجعل فعلت دليلًا على جواب الشرط المحذوف كذلك جعل نفيها الذي هو لم أفعل دليلًا على جوابه" ا. هـ. والنحاة يستشهدون بهذين البيتين في مسألتين أخريين، أما أولاهما: ففي قوله "يا حكم الوراث" فإن قوله "الوارث" نعت للمنادى قبله، وهذا النعت مقترن بأل، ونعت المنادى المفرد إذا كان مقترنًا بأل يجوز رفعه تبعًا للفظ المنادى ونصبه تبعًا لمحله، فإن المنادى المفرد العلم مبني على الضم في محل نصب، وأما الثانية: ففي قوله "أوديت" فإن هذا الفعل ماضٍ في اللفظ، ولكنه مستقبل في المعنى، أي إني أودي وأهلك إن لم تتداركني، واستعمل الماضي مكان المستقبل تحققًا لوقوعه وثقة منه بأنه كائن لا محالة؛ فكأنه يقول: إن الجود منكم واقع متى أريد وواجب متى طلب. [405] هذا البيت من كلام القحيف العقيلي يمدح حكيم بن المسيب القشيري، وهو من شواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 225" وفي أوضح المسالك "رقم 298" والأشموني "رقم 553" وابن الناظم في باب حروف الجر من شرح الألفية؛ وشرحه العيني "3/ 282 بهامش الخزانة" ورضي الدين في باب حروف الجر من شرح الكافية؛ وشرحه البغدادي "4/ 247" وابن جني في الخصائص "2/ 311 و389" وأبي زيد في نوادره "ص176" وقشير -بزنة التصغير- هو قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وقوله "لعمر الله" أراد الحلف بإقراره لله تعالى بالخلود والبقاء بعد فناء الخلق، وقال قالوا: عمرك الله، وعمري الله؛ بنصب عمر على حذف حرف القسم؛ وبنصب لفظ الجلالة على التعظيم، وعمر: مصدر أضيف لفاعله الذي هو ياء المتكلم أو كاف المخاطب، ويجوز رفع العمر على أنه مبتدأ حذف خبره وجوبا: أي لعمرك الله قسمي. ومحل الاستشهاد في هذا البيت قوله "رضيت علي" حيث عدَّي رضي بعليّ؛ والأصل في هذا الفعل أن يتعدّى بعن كما في قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] وللعلماء في ذلك ثلاثة تخرجيات. الأول: أن الشاعر وضع "على" موضع عن، وزعم من ذهب إلى هذا أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض؛ ومن أمثلة ذلك قول دوسر بن غسان اليربوعي: إذا ما امرؤ ولى علي بودّه ... وأدبر لم يصدر بإدباره ودّي

إنه لما كان "رضيتُ ضد سخطتُ، وسخطتُ تعدَّى بعلى، فكذلك "رضيت" حملًا له على ضده؛ فكذلك ههنا: جعل لم أفعل دليلًا على جواب الشرط المحذوف؛ حملًا على فَعَلْتُ. وحذف جواب الشرط كثير في كلامهم إذا كان في الكلام ما يدل على حذفه، كقولهم: "أنت ظالم إن فعلت كذا" أي: إن فعلت كذا ظلمت، فحذف "ظلمت" لدلالة قوله: "أنت ظالم" عليه، والشواهد على حذف جواب الشرط في كلامهم للدلالة عليه أكثر من أن تحصى، والله أعلم.

_ يريد إذا امرؤ ولّى عني بوده وجفاني ثم رجع إلى الودّ لم يرجع برجوعه ودي؛ فوضع على موضع عن كما في بيت الشاهد؛ ومن وضع حرف في موضع حرف آخر قول عنترة في معلقته: بطل كأن ثيابه في سرحة ... يحذى نعال السبت ليس بتوأم يريد أنه طويل القامة فإذا لبس ثيابه فكأنها نشرت على شجرة مشرفة عالية. فوضع في موضع على، ومن ذلك قول أعرابي من طيّئ: نلوذ في أم لنا ما تغتصب ... من الغمام ترتدي وتنتقب أراد بالأم جبلًا من جبال طيّئ؛ وما تغتصب: أي أنها منيعة على من أرادها؛ وقد وضع في موضع الباء في قوله "نلوذ في أم لنا" لأن "لاذ" يتعدّى بالباء. التخريج الثاني: أن يضمنوا الفعل المذكور في الكلام معنى فعل آخر يتعدّى بالحرف المذكور؛ فيضمنوا "رضي" في قول القحيف معنى عطف أو أقبل؛ وكل من عطف وأقبل يتعدّى بعلى، وهكذا. والتخريج الثالث: أن يحمل الفعل على ضده؛ فيحمل "رضي" في بيت القحيف على سخط، وسخط يتعدّى بعلى، ويحمل "ولى" في قول الطائي "ولى علي بودّه" على أقبل، وأقبل ضد ولّى، وهكذا. وليس كل كلام يمكن تخريجه على كل واحد من هذه التخريجات الثلاثة، بل يحمل على ما يمكن منها. وفي هذا ما يكفي أو يغني.

مسألة القول في "إن" الشرطية، هل تقع بمعنى إذ

88- مسألة: [القول في "إنِ" الشرطية، هل تقع بمعنى إذْ؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "إن" الشرطية تقع بمعنى إذْ، وذهب البصريون إلى أنها لا تقع بمعنى إذ. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن "إن" قد جاءت كثيرًا في كتاب الله تعالى وكلام العرب بمعنى إذ، قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23} أي: وإذ كنتم في ريب؛ لأن "إن" الشرطية تفيد الشك، بخلاف "إذ"؛ ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: "إن قامت القيامة كان كذا" لما يقتضيه من معنى الشك، ولو قلت "إذ قامت القيامة" أو "إذا قامت القيامة" كان جائزًا؛ لأن إذ وإذا ليس فيهما معنى الشك، وإذا ثبت أن "إن" الشرطية فيها معنى الشك؛ فلا يجوز أن تكون ههنا الشرطية؛ لأنه لا شك أنهم كانوا في شك؛ فدلَّ على أنها بمعنى إذ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] أي: إذ كنتم مؤمنين؛ لأنه لا شك في كونهم مؤمنين؛ ولهذا خاطبهم في صدر الآية بالإيمان: {واتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57] أي: إذ كنتم مؤمنين، وقال تعالى: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] أي: إذ وقال تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] أي: إذ شاء الله، وجاء في الحديث عن الرسول صلوات الله عليه حين دخل المقابر: "سلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنَّا إنْ

_ 1 انظر في هذه المسألة: مغني اللبيب لابن هشام "ص26 بتحقيقنا" وخزانة الأدب للبغدادي "3/ 656 في أثناء شرح الشاهد رقم 699" وإيضاح القزويني "88-95 بتحقيقنا".

شاء الله بكم لَاحِقُونَ" أي: إذْ، لأنه لا يجوز الشك في اللحوق بهم، وقال الشاعر: [406] وسمعتَ حَلْفَتَهَا التي حَلَفَتْ ... وإنْ كانَ سَمْعُكَ غير ذِي وَقْرِ

_ [406] الحلفة -بفتح الحاء وسكون اللام- واحدة الحلف، وهو القسم؛ تقول حلف فلان يحلف -من باب ضرب- حلفًا -بفتح فسكون أو بكسر فسكون أو بفتح فكسر؛ ومحلوفًا أيضًا؛ وهذا أحد المصادر التي جاءت على زنة المفعول مثل المجلود والمعقول والمعسور والميسور؛ وقالوا "محلوفة بالله ما فعل كذا" بالنصب: أي يحلف محلوفة بالله ما فعل كذا؛ وقال امرؤ القيس في الحلفة: حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا؛ فما إن من حديث ولا صالي وقال زيد الفوارس الحصين بن ضرار الضبي: تألّى ابن أوس حلفة ليردّني ... إلى نسوة كأنهن مفائد والوقر -بفتح الواو وسكون القاف- ثقل في الأذن؛ ويقال: هو أن يذهب السمع كله؛ قال الله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] وقال: {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} [فصلت: 44] وقال: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} [الأنعام: 25] وقال: {وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} [لقمان: 7] ومحل الاستشهاد في هذا البيت هنا قوله "إن كان سمعك غير وقر" فإن الكوفيين زعموا أن "إن" ههنا بمعنى إذ؛ والكلام تعليل لقوله "سمعت حلفتها" فإن المراد عندهم: سمعت حلفتها لأن سمعك سليم غير ذي وقر؛ والذي دعاهم إلى هذا أن الأصل في الشرط أن يكون مستقبلًا؛ لأن القصد تعليق الجواب عليه، وتعليق الشيء لا يكون على شيء مضى؛ لأنه حينئذ لا فائدة في تعليق وجود الجواب عليه؛ وإنما يكون التعليق فيما يأتي من الزمان؛ فلما وجدوا "إن" تدخل على الفعل الماضي قالوا: إنه لا يراد بها التعليق حينئذ، وإنما يراد بها التعليل؛ وخرجوا ما أثره المؤلف من الآيات الكريمة ونحوها على هذا؛ واستدلوا بجملة أبيات منها هذا البيت الذي أنشده المؤلف ههنا؛ ومنها قول الفرزدق؛ وهو من شواهد الرضي في الجوازم وشواهد المغني: أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا ... جهارًا؛ ولم تغضب لقتل ابن خازم؟ ومنها قول الآخر: أتجزع إن بان الخليط المودع ... وحبل الصفا من عزّة المتقطع؟ ومما يؤيدهم أنك تجد "إن" -فيما ذكروه من الآيات الكريمة والأبيات- لم يذكر بعدها جواب؛ وأن الآيات قد قرئ في كل منها بكسر همزة "إن" وقرئ بفتحها؛ وكذلك الأبيات التي رووها تروى بكسر الهمز وبفتحها؛ فهذه ثلاثة أشياء: كون الفعل بعدها ماضيًا، وعدم ذكر جواب؛ ورواية فتح الهمزة. وكلها يمنع أن تكون "إن" شرطية. وقد تمحل البصريون في كل واحد من هذه الثلاثة: أما مضي الفعل فزعموا أنه -وإن كان ماضيًا في اللفظ- مستقبل في المعنى؛ لأنه سبب لما أريد التعليق عليه، أو لأن المراد: إن يتبيّن كذا، وأما عدم ذكر الجواب فقد ادّعوا أنه محذوف لدلالة الكلام عليه وهو مراد، وأما فتح الهمزة فقد أنكروا وروده.

أي: إذْ، والشواهد على هذا النحو أكثر من أن تُحْصَى. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: أجمعنا على أن الأصل في "إنْ" أن تكون شرطًا، والأصل في "إذ" أن تكون ظرفًا، والأصل في كل حرف أن يكون دالًّا على ما وضع له في الأصل، فمن تمسك بالأصل فقد تمسك باستصحاب الحال؛ ومَنْ عَدَلَ عن الأصل بقي مرتَهَنًا بإقامة الدليل، ولا دليل لهم يدل على ما ذهبوا إليه. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين. أما احتجاجهم بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] فلا حجة لهم فيه، لأن "إنْ" فيه شرطية، وقولهم: "إنَّ إنْ الشرطية تفيد معنى الشك" قلنا: وقد تستعملها العرب وإن لم يكن هناك شك، على ما بيّنّا قبل، ومنه قولهم: "إن كنت إنسانًا فأنت تفعل كذا، وإن كنت ابني فَأَطِعْنِي" وإن كان لا يشك في أنه إنسان وأنه ابنه، ومعناه أن مَنْ كان إنسانًا أو ابنًا فهذا حكمه، فخاطبهم الله تعالى على عادة خطابهم فيما بينهم. وهذا هو الجواب عن جميع ما استشهدوا به من الآيات، إلا قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27} فإن الجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن [262] يكون الاستثناء وقع على دخولهم آمنين، والتقدير فيه: لتدخلن المسجد الحرام آمنين إن شاء الله. والوجه الثاني: أن يكون ذلك على طريق التأديب للعباد ليتأدَّبُوا بذلك، كما قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أن يَشَاءَ اللَّه} [الكهف: 23، 24] . وهذا هو الجواب عن قوله صلوات الله عليه: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" لأنه لما أدَّبه الحق بقوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أن يَشَاءَ اللَّه} [الكهف: 23، 24] تمسَّك بالأدب، وأحال على المشيئة فقال: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون". وعلى هذا أيضًا يحمل قول السلف "أنا مؤمن إن شاء الله تعالى"، ويحتمل أيضًا وجهين آخرين: أحدهما: أن يكونوا قالوا ذلك تركًا لتزكية النفس، لا للشك، كما قال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [لنجم: 32] وكما قيل لبعض الحكماء: ما الصدق القبيح؟ فقال: ثَنَاء الرجل على نفسه.

والثاني: أن يكون قولهم: "إن شاء الله" شكًّا في وصف الإيمان، لا في أصل الإيمان، والشك في وصف الإيمان لا يقدح في أصل الإيمان. وأما قول الشاعر: [406] إن كان سمعك غير ذي وقر فلا حجة فيه، لأن "إن" فيه حرف شرط، لا بمعنى إذ، واستغنى بما تقدم من قوله: "وسمعت" عن جواب الشرط، لدلالته عليه، على ما بيّنّا فيما تقدم، والله أعلم.

مسألة القول في "إن" الواقعة بعد "ما" أنافية مؤكدة أم زائدة؟

89- مسألة: [القول في "إن" الواقعة بعد "ما" أَنَافِيَةٌ مؤكدة أم زائدة؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "إن" إذا وقعت بعد "ما" نحو "ما إنْ زيد قائم" فإنها بمعنى ما. وذهب البصريون إلى أنها زائدة. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن "إن" تكون بمعنى "ما" وقد جاء ذلك كثيرًا في كتاب الله وكلام العرب، قال الله تعالى: {إِنِ الكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20] أي: ما الكافرون إلا في غرور، وقال تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس: 15] أي: ما أنتم، وقال تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم: 10] أي: ما أنتم، وقال تعالى: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [إبراهيم: 11] أي: ما نحن، وقال تعالى: {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ، إِنْ، كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 93] أي: ما كنتم مؤمنين، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} [الزخرف: 81] أي: ما كان للرحمن ولد، إلى غير ذلك؛ فإذا ثبت أنها تكون بمعنى "ما" جاز أن يجمع بينها وبين "ما" لتأكيد النفي، كالجمع بين إنَّ واللام لتوكيد الإثبات. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنها ههنا زائدة أن دخولها كخروجها؛ فإنه لا فرق في المعنى بين قول القول القائل "ما إنْ زيدٌ قائم" وبين "ما زيد قائمًا" فلما كان خروجها كدخولها تنزلت منزلة "من" بعد النفي، كما قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [لأعراف: 59] أي ما لكم إله غيره، وكما قال الشاعر: [159] .... وما بالرَّبْعِ من أحد أي أحد، وأشبهت "ما" إذا وقعت زائدة، قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]

_ 1 انظر في هذه المسألة: توضيح الشيخ خالد الأزهري "1/ 236 بولاق" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص1182" وشرح الرضي على كافية ابن الحاجب "2/ 357".

أي: فبرحمة، وقال تعالى: {عمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون: 40] أي: عن قليل، وقال تعالى: {فبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] أي: فبنقضهم، و"ما" زائدة، فكذلك ههنا. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنها تكون بمعنى ما" قلنا: نسلم أنها تكون بمعنى "ما" في موضع ما، فأما ما احتجوا به فأكثره نقول بموجبه؛ إذ لا نمنع1 أن تقع في بعض المواضع بمعنى ما. وأما ما احتجوا به من قوله تعالى: {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 93] فلا نسلم أن "إن" ههنا بمعنى ما، وإنما هي ههنا شرطية، وجوابه مقدر، والتقدير فيه: إن كنتم مؤمنين فأي إيمان يأمر بعبادة عجل من دون الله تعالى؟ وكذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ} [الزخرف: 81] لا نسلم أيضًا أنها ههنا بمعنى ما، وإنما هي شرطية، وجوابه فأنا أول العابدين: أي الآنفين، من قولهم: "عبِدَ الرجلُ يَعْبُدُ عبدًا فهو عَبْدٌ وعَابِدٌ" إذا أَنِفَ، وجاء في كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه "عَبِدْتُ فَصَمَتُّ" أي أَنِفْتُ فَسَكَتُّ، وقال الشاعر: [407] أولئك قومي إِنْ هَجَوْنِي هَجَوتُهُمْ ... وأعبد إِنْ تُهْجَى تميمٌ بِدَارِمِ

_ [407] أنشد ابن منظور هذا البيت "ع ب د" ونسبه إلى الفرزدق، وقد بحثت في ديوان الفرزدق فلم أجده، وإن كان معنى البيت يتكرر كثيرا في كلام الفرزدق، كقوله لجرير: ولست وإن فقأت عينيك واجدًا ... أبا لك -إذ عد المساعي- كدارم وكقوله في العديل بن الفرخ العجلي: عجبت لعجل إذ تهجى عبيدها ... كما آل يربوع هجوا آل دارم وكقوله، وهو أقرب لبيت الشاهد: وليس بعدل أن سببت مقاعسًا ... بآبائي الشم الكرام الخضارم ولكن عدلا لو سببت وسبني ... بنو عبد شمس من مناف وهاشم وتقول "عبد فلان على فلان يعبد عبدا فهو عبد من مثال فرح يفرح فرحًا فهو فرح" وعابد أيضًا: إذا غضب وأنف، وقد عدّى الفرزدق هذا الفعل بنفسه من غير حرف الجر في قوله: علام يعبدني قومي وقد كثرت ... فهيم أباعر ما شاءوا وعبدان؟ والاستشهاد بالبيت ههنا في قول "وأعبد" فإنه فعل مضارع ماضيه "عبد" من باب فرح، ومعناه أنف وغضب، وقال ابن أحمر يصف الغواص: فأرسل نفسه عبدا عليها ... وكان بنفسه أربًا ضنينا

أي: آنَفُ، ومعنى الآية أنَّا أَوَّلُ الآنفين أن يقال لله ولد، وقيل: أول العابدين، أي: أول من عبد الله وحده، وقيل: المعنى كما أني لست أول من عبد الله فكذلك ليس لله ولد، كما يقال: إن كنت كاتبا فأنا حاسب، يريد أنك لست بكاتب ولا أنا حاسب، على أنا نقول: ولم قلتم إنها إذا كانت في موضع ما بمعنى "ما" ينبغي أن تكون ههنا؟ قولهم: "جمع بينها وبين ما لتوكيد النفي كما جمع بين إنَّ واللام لتوكيد الإثبات" قلنا: لو كان الأمر كما زعمتم لوجب أن يصير الكلام إيجابًا؛ لأن النفي

_ = قيل معنى قوله "عبدًا" أي أنفًا، يقول: أنف أن تفوته الدرة. قال ابن منظور: "وفي التنزيل {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ} [الزخرف: 81] ويقرأ "العبدين" قال الليث: العبد -بالتحريك- الأنف والغضب والحمية من قول يستحيا منه ويستنكف، ومن قرأ "العبدين" فهو مقصور، من عبد يعبد فهو عبد، وقال الأزهري: هذه آية مشكلة، وأنا ذاكر أقوال السلف فيها، ثم أتبعها بالذي قال أهل اللغة، وأخبر بأصحها عندي، أما القول الذي قاله الليث في قراءة "العبدين" فهو قول أبي عبيدة، على أني ما علمت أحدًا قرأ "فأنا أول العبدين" ولو قرئ مقصورًا كان ما قاله أبو عبيدة محتملًا وإذ لم يقرأ به قارئ مشهور لم نعبأ به، والقول الثاني: ما روي عن ابن عيينة أنه سئل عن هذه الآية، فقال: معناه إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين، يقول: فكما أنني لست أول من عبد الله فكذلك ليس لله ولد، وقال السدي: قال الله لمحمد: قل إن كان -على الشرط- للرحمن ولد كما تقولون لكنت أول من يطيعه ويعبده: وقال الحسن وقتادة: إن كان للرحمن ولد، على معنى ما كان، فأنا أول العابدين: أي أول من عبد الله من هذه الأمة، وقال الكسائي "إن كان" أي ما كان للرحمن ولد "فأنا أول العابدين" أي الآنفين، رجل عابد وعبد وآنف وأنف، أي الغضاب الآنفين من هذا القول، وقال: فأنا أول الجاحدين لما تقولون، ويقال: أنا أول من تعبده على الوحدانية مخالفة لكم، وقال ابن الأنباري "إن كان للرحمن ولد" ما كان للرحمن ولد، والوقف على ولد، ثم ابتدئ "فأنا أول العابدين" له على أنه لا ولد له، قال الأزهري: قد ذكرت الأقوال، وفيه قول أحسن من جميع ما قالوا، وأسوغ في اللغة وأبعد من الاستكراه، وأسرع إلى الفهم، روي عن مجاهد أنه قال: "إن كان لله ولد في قولكم فأنا أول من عبد الله وحده وكذبكم فيما تقولون". قال الأزهري: وهذا واضح، ومما يزيده وضوحًا أن الله عز وجل قال لنبيه: {قُلْ} يا محمد {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} في زعمكم "فأنا أول العابدين" إله الخلق أجمعين الذي لم يلد ولم يولد، وأول الموحدين للرب الخاضعين المطيعين له وحده؛ لأن من عبد الله تعالى واعترف بأنه معبود وحده لا شريك له فقد دفع أن يكون له ولد في دعواكم، والله عز وجل واحد لا شريك له وهو معبودي الذي لا ولد له ولا والد، قال الأزهري: وإلى هذا ذهب إبراهيم بن السري وجماعة من ذوي المعرفة، وهو الذي لا يجوز عندي غيره" ا. هـ كلامه.

إذا دخل على النفي صار إيجابًا؛ لأن نفي النفي إيجاب1، وعلى هذا يخرج توكيد الإثبات فإنه لا يغير المعنى؛ لأن إثبات الإثبات لا يصير نفيًا، بخلاف النفي؛ فإنه يصير إيجابًا، فبان الفرق بينهما، والله أعلم.

_ 1 هذه مغالطة ظاهرة، لا يجوز أن تأخذ بها، ولا أن تجدها صحيحة في الرد على ما ذهب إليه الكوفيون، وذلك لأن النفي إذا دخل على النفي لا يكون الكلام إيجابًا على الإطلاق، وبيان هذا أن النفي الداخل على النفي يكون على أحد وجهين: الأول: أن يكون المراد به نفي النفي الأول، وحينئذ يكون الكلام إثباتا وإيجابا؛ لأن نفي النفي إيجاب، والوجه الثاني: أن يكون المراد بالنفي الثاني تأكيد النفي الأول، وحينئذ يكون الكلام نفيًا مؤكدا، ولا يكون إثباتا أصلا، وذلك وارد في التوكيد اللفظي فإنه إعادة اللفظ الأول بنفسه أو بمرادفه. مثل قول جميل: لا، لا أبوح بحب بثنة إنها ... أخذت علي مواثقا وعهودا ثم إن المؤلف رحمه الله في المسألة الثالثة والثلاثين أبطل قول الكوفيين بأن الصفة الصالحة لأن تكون خبرا إذا كان معها ظرف مكرّر وجب نصب هذه الصفة حتى يكون أحد الظرفين خبرا والآخر حالا، إذ لو جوزنا فيها الرفع لكانت هي الخبر، ويكون الظرفان حالين؛ فلا تكون في أحد الظرفين فائدة جديدة، وحمل الكلام على إفادة فائدة جديدة أولى، فأبطل هذا الكلام بقوله "هذا فاسد؛ وذلك لأنه وإن كانت الأولى تفيد ما أفادته الثانية إلا أن ذلك لا يدل على بطلان فائدة الثانية؛ لأن من مذاهب العرب أن يؤكد اللفظ بتكريره.... إلخ" فما الذي حدث ههنا حتى ذهل عن أن من مذاهب العرب أن يؤكد اللفظ بتكريره بلفظه أو بمرادفه؟

مسألة القول في معنى "إن" ومعنى اللام بعدها

90- مسألة: [القول في معنى "إنْ" ومعنى اللام بعدها] 1 ذهب الكوفيون إلى أنَّ "إِنْ" إذا جاءت بعدها اللام تكون بمعنى "ما" واللام بمعنى "إلا". وذهب البصريون إلى أنها مخفّفة من الثقيلة، واللام بعدها لام التأكيد. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء ذلك كثيرًا في كتاب الله وكلام العرب، قال الله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} [الإسراء: 76] أي: وما كادوا إلا يستفزونك، وقال تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم: 51] أي: وما كادوا إلا يزلقونك، وقال تعالى: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ، لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا} [الصافات: 167-168] أي: وما كانوا إلا يقولون، وقال تعالى: {إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 108] أي: ما كان وعد ربنا إلا مفعولًا، ثم قال الشاعر: [408] شلَّت يمينُك إن قَتَلْت لمُسْلِمَا ... كُتِبَتْ عليك عُقُوَبةُ المُتَعَمِّدِ

_ [408] هذا البيت من كلام عاتكة بنت زيد العدوية، ترثي فيه زوجها الزبير بن العوام الذي قلته ابن جرموز وهو منصرف من وقعة الجمل، والبيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص1128" ورضي الدين في باب الحروف المشبهة بالفعل من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 348" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 22" وفي أوضح المسالك "رقم 147" والأشموني "رقم 279" وابن عقيل "رقم 104" وابن الناظم في باب إن وأخواتها من شرح الألفية، وشرحه العيني "2/ 278 بهامش الخزانة" وشلت: يبست، وأصل الفعل شلل -من باب فرح- وقوله "كتبت عليك" يروى في مكانه "حلت عليك" ويروى أيضًا "وجبت عليك" ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "إن قتلت لمسلما" فإن =

أي: ما قتلت إلا مسلمًا، وهو في كلامهم أكثر من أن يحصى. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنها مخففة من الثقيلة لأنا وجدنا لها في كلام العرب نظيرًا، وأنا أجمعنا على أنه يجوز تخفيف "إنَّ" وإن اختلفنا في بطلان عملها مع التخفيف، وقلنا: إن اللام لام التأكيد؛ لأن لها أيضًا نظيرا في كلام العرب، وكون اللام للتأكيد في كلامهم مما لا ينكر لكثرته فحكمنا على اللام بما لا نظير في كلامهم، فأما كون اللام بمعنى "إلا" فهو شيء ليس له نظير في كلامهم، والمصير إلى ما له نظير في كلامهم أولى من المصير إلى ما ليس له نظير. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بالآيات وما أنشدوه على أن "إنْ" بمعنى "ما" واللام بمعنى "إلا" فلا حجة لهم في شيء من ذلك؛ لأنه كله محمول على ما ذهبنا [إليه] من أن "إنْ" مخففة من الثقيلة، واللام لام التأكيد، والذي يدل على ذلك أنَّ "إنْ" التي بمعنى ما لا تجيء اللام معها، كما قال الله تعالى: {إِنِ الكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20] وكما قال الله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [ي-س: 15] وكما قال الله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} [الفرقان: 4] إلى غير ذلك من المواضع، ولم تجئ مع شيء منها اللام. فأما قولهم: "إن اللام في {لَيَسْتَفِزُّونَكَ} و {لَيُزْلِقُونَكَ} و {لَيَقُولَنَّ} و {لَمَفْعُولًا} إلى غير ذلك من المواضع بمنزلة إلا في هذه المواضع" قلنا: هذا فاسد؛ لأنه لو جاز أن يقال "إن اللام تستعمل بمعنى إلا" لكان ينبغي أن يجوز "جاءني القوم لَزَيْدًا" بمعنى إلا زيدًا، فلما لم يجز ذلك دلَّ على فساد ما ذهبتم

_ = الكوفيين ذهبوا إلى أنَّ إنْ في هذه العبارة نافية بمعنى ما، واللام التي في قوله "لمسلما" استثنائية بمعنى إلا، وكأن الشاعر قد قال: ما قتلت إلا مسلما، وتجد في كلام بعض النحاة -منهم الرضي والزمخشري وابن هشام- ما يفيد أن الكوفيين يستدلون بهذا البيت على أنه يجوز أن يقع بعد إن المخففة من الثقيلة الفعل الماضي غير الناسخ، وهو كلام غير مبني على التحقيق، والتحقيق أن جمهور الكوفيين لا يقولون بأن إن تكون مخففة من الثقيلة أصلًا، والكسائي يقول: إذا وليها جملة اسمية جاز أن تكون مخففة من الثقيلة، وإذا وليها فعل فهي نافية واللام بعدها بمعنى إلا، فإن في هذا البيت نافية عند الكوفيين كلهم أجمعين؛ لأن الوالي لها فعل، وقد تنبه لهذا الشيخ خالد فأنكر كلام ابن هشام، وأما البصريون فيرون "إن" في هذا البيت مخففة من الثقيلة، واللام التي بعدها لام فارقة بين الكلام المنفي والكلام المثبت المؤكد، نعني أنها تدخل الكلام في حال إهمال إن المخففة لتكون فارقة بينها وبين إن النافية، وهم يختلفون في هذه اللام: أهي لام الابتداء التي تدخل لتفيد الكلام زيادة توكيد أم هي لام أخرى؟ وليس هذا موضع الإفاضة في هذا الموضوع.

إليه، وإنما جاءت هذه اللام مع "إن" المخففة من الثقيلة لأن "إن" المخففة في اللفظ بمنزلة التي يراد بها النفي، فلما كان ذلك يؤدّي إلى اللّبس جيء بها للفرق بينهما؛ فما جاء للفرق وإزالة اللّبس جعلتموه سببًا للّبس وإزالة الفرق، وهذا غاية الجور عن الصواب والحق، والله أعلم.

مسألة هل يجازى بكيف؟

91- مسألة: [هل يجازى بكيف؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "كيف" يجازى بها كما يجازى بمتى ما وأينما وما أشبههما من كلمات المجازاة. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز أن يجازى بها. أما الكوفيين فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يجوز المجازاة بها لأنها مشابهة لكلمات المجازاة في الاستفهام، ألا ترى أن "كيف" سؤال عن الحال كما أن "أين" سؤال عن المكان، و"متى" سؤال عن الزمان، إلى غير ذلك من كلمات المجازاة، ولأن معناها كمعنى كلمات المجازاة، ألا ترى أن معنى "كيفما تكن أكن": في أي حال تكن أكن، وكما أن معنى "أينما تكن أكن": في أي مكان تكن أكن، ومعنى "متى ما تكن أكن": في أي وقت تكن أكن، ولهذا قال الخليل بن أحمد: مخرجها مخرج الجزاء، وإن لم يقل إنها من حروف الجزاء، فلما شابهت "كيف" ما يجازى به في الاستفهام ومعنى المجازاة وجب أن يجازى بها كما يجازى بغيرها من كلمات المجازاة. قالوا: ولا يجوز أن يقال: "إنما لم يجز المجازاة بها لأنها لا تتحقق بها؛ لأنك إذا قلت "كيف تكن أكن" فقد ضمنت له أن تكون على أحواله كلها وذلك متعذر؛ لأنا نقول: هذا يلزمكم في تجويزكم "كيف تكون أكون"؟ لأن ظاهر هذا يقتضي ما منعتموه؛ فكان ينبغي أن لا يجوز، فلما أجزتموه دلَّ على فساد ما ذهبتم إليه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز المجازاة بها لثلاثة أوجه: أحدها: أنها نقصت عن سائر أخواتها؛ لأن جوابها لا يكون إلا نكرة لأنها

_ 1 انظر في هذه المسألة: مغنى اللبيب لابن هشام "ص205 بتحقيقنا" وشرح الأشموني مع حاشية الصبان "4/ 11".

سؤال عن الحال، والحال لا يكون إلا نكرة، وسائر أخواتها تارة تجاب بالمعرفة وتارة تجاب بالنكرة، فلما قصرت عن أحد الأمرين ضعفت عن تصريفها في مواضع نظائرها من المجازاة. والوجه الثاني: إنما لم يجز المجازاة بها لأنها لا يجوز الإخبار عنها، ولا يعود إليها ضمير، كما يكون ذلك في مَنْ وما وأي ومهما، فلما قصرت في ذلك عن نظائرها ضعفت عن تصريفها في مواضع نظائرها من المجازاة. والوجه الثالث: أن الأصل في الجزاء أن يكون بالحرف، إلا أن يضطر إلى استعمال الأسماء، ولا ضرورة ههنا تلجئ إلى المجازاة بها؛ فينبغي أن لا يجازى بها؛ لأنا وجدنا أيًّا تغني عنها، ألا ترى أن القائل إذا قال "في أي حال تكن أكن" فهو في المعنى بمنزلة "كيف تكن أكن". غير أن هذا الوجه عندي ضعيف لأن "أيا" كما تتضمن الأحوال تتضمن الزمان، والمكان، وغير ذلك؛ فكان ينبغي أن يستغنى بها عن متى ما وأينما وغيرهما من كلمات المجازاة؛ فلما لم يستغنوا بها عنها دلَّ على ضعف هذا التعليل. والتعويل في الدلالة على أنه يجوز أن يجازى بها الوجهان الأولان. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنها أشبهت كلمات المجازاة في الاستفهام، وإن معناها كمعنى كلمات المجازاة" قلنا: لا نسلم أن معناها كمعنى كلمات المجازاة، وذلك لأنه لا تتحقق المجازاة بها، ألا ترى أنك إذا قلت "كيف تكن أكن" كان معناها: على أي حال تكون أكون، فقد ضَمِنْتَ له أن تكون على أحواله وصفاته كلها، وأحوال الشخص كثيرة يتعذر أن يكون المجازي عليها كلها؛ لأنه يتعذر أن يتفق شيآن في جميع أحوالهما، بل ربما كان كثير من الأحوال لا يدخل تحت الإمكان كالصّحة والسّقم والقوة والضعف إلى غير ذلك؛ فإن أحدهما لو كان سقيما والآخر صحيحا أو ضعيفا والآخر قويا لما كان يمكن السقيم أن يجعل نفسه صحيحا ولا الضعيف أن يجعل نفسه قويا، فأما متى ما وأينما فإنه تتحقق المجازاة بهما، ألا ترى أنك إذا قلت "أينما تكن أكن" فقد ضمنت له متى كان في بعض الأماكن أن تكون أيضًا في ذلك المكان، ولا يتعذر، وكذلك إذا قلت "متى تذهب أذهب" ضمنت له في أي زمان ذهب أن تذهب معه، وهذا أيضًا غير متعذر، بخلاف كيف؛ فإنه يتعذر أن يكون المجازى على جميع أحوال المجازي وصفاتها كلها لكثرتها وتنوعها، فبان الفرق.

وأما قولهم: "إن هذا يلزمكم في تجويزكم كيف تكون أكون بالرفع؛ لأن ظاهر هذا يقتضي ما منعتموه" قلنا: الفرق بينهما أنا إذا رفعنا الفعل بعد كيف فإنما نقدر أن هذا الكلام قد خرج على حال عَلِمَهَا المجازي؛ فانصرف اللفظ إليها؛ فلذلك صح الكلام، ولم يمكن هذا التقدير في الجزم بها على المجازاة لأن الأصل في الجزاء أن لا يكون معلوما؛ لأن الأصل في الجزاء أن يكون بإن، وأنت إذا قلت "إن قمتُ قمتَ" فوقت القيام غير معلوم، فلما كان الأصل في الجزاء أن يكون غير معلوم بطل أن تقدر كيف في الجزاء واقعة على حال معلومة لأنها تخرج من الإبهام وتباين أصل كلمات الجزاء؛ فلذلك لم يجز الجزم بها على تقدير حالٍ معلومةٍ، والله أعلم.

مسألة السين مقتطعة من سوف أو أصل برأسه

92- مسألة: [السين مقتطعة من سوف أو أصل برأسه] 1 ذهب الكوفيون إلى أن السين التي تدخل على الفعل المستقبل نحو سأفعل أصلُها سوف. وذهب البصريون إلى أنها أصلٌ بنفسها. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن "سوف" كَثُرَ استعمالها في كلامهم وجَرْيُها على ألسنتهم، وهم أبدا يحذفون لكثرة الاستعمال، كقولهم: "لا أدْرِ، ولم أَبَلْ، ولم يَكُ، وخُذْ، وكُلْ" وأشباه ذلك، والأصل لا أدري، ولم أبال، ولم يكن، واأخذ، واأكل، فحذفوا في هذه المواضع وما أشبهها لكثرة الاستعمال، فكذلك ههنا: لما كثر استعمال "سوف" في كلامهم حذفوا منها الواو والفاء تخفيفا. والذي يدل على ذلك أنه قد صح عن العرب أنهم قالوا في سوف أفعل "سو أفعل" فحذفوا الفاء، ومنهم من قال "سف أفعل" فحذف الواو، وإذا جاز أن يحذف الواو تارة والفاء أخرى لكثرة الاستعمال جاز أن يجمع بينهما في الحذف مع تطرق الحذف إليهما في اللغتين لكثرة الاستعمال. والذي يدل على ذلك أن السين تدل على ما تدل عليه سوف من الاستقبال، فلما شابهتها في اللفظ والمعنى دلَّ على أنها مأخوذة منها، وفرع عليها. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن الأصل في كل حرف يدل على معنى أن لا يدخله الحذف، وأن يكون أصلًا في نفسه، والسين حرف يدل على معنى؛ فينبغي أن يكون أصلًا في نفسه، لا مأخوذًا من غيره. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إن سوف لما كثر استعمالها في كلامهم حذفوا الواو والفاء لكثرة الاستعمال" قلنا: هذا فاسد؛ فإن الحذف

_ 1 انظر في هذه المسألة: مغني اللبيب لابن هشام "ص138 بتحقيقنا" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص1199"

لكثرة الاستعمال ليس بقياس ليجعل أصلًا لمحل الخلاف1، وعلى أن الحذف لو وجد كثيرًا في غير الحرف من الاسم والفعل فقلَّما يوجد في الحرف، وإن وجد الحذف في الحرف في بعض المواضع فهو على خلاف القياس؛ فلا يجعل أصلا يقاس عليه. وأما ما رووه عن العرب من قولهم فسوف أفعل "سو أفعل" و"سَفَ أفعل" فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن هذه رواية تفرَّد بها بعض الكوفيين؛ فلا يكون فيها حجة. والثاني: إن صحت هذه الرواية عن العرب فهو من الشاذ الذي لا يُعْبَأْ به؛ لقلته. والثالث: أن حذف الفاء والواو على خلاف القياس، فلا ينبغي أن يجمع بينهما في الحذف؛ لأن ذلك يؤدّي إلى ما لا نظير له في كلامهم؛ فإنه ليس في كلامهم حرف حذف جميع حروفه طلبا للخفة على خلاف القياس حتى لم يبقَ منه إلا حرف واحد، والمصير إلى ما لا نظير له في كلامهم مردود. وأما قولهم: إن السين تدل على الاستقبال كما أن سوف تدل على الاستقبال" قلنا: هذا باطل؛ لأنه لو كان الأمر كما زعمتم لكان ينبغي أن يستويا في الدلالة على الاستقبال على حدّ واحد، ولا شك أن سوف أشدّ تراخيا في الاستقبال من السين، فلما اختلفا في الدلالة دلَّ على أن كل واحد منهما حرف مستقل بنفسه، غير مأخوذ من صاحبه، والله أعلم.

_ 1 ليس هنا قياس، لأنه قد ورد عن العرب "سوف أفعل" و"سو أفعل" بحذف الفاء، و"سف أفعل" بحذف الواو، وأجمعنا على أن الثاني والثالث مقتطعان من الأول؛ وورد عن العرب أيضًا "سأفعل" فقلنا: وهذا أيضًا مقتطع من الأول؛ فالمدار على الورود عن العرب، فأين القياس؟

مسألة المحذوف من التاءين المبدوء بهما المضارع

93- مسألة: [المحذوف من التاءين المبدوء بهما المضارع] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه إذا اجتمع في أول المضارع تاءان: تاء المضارعة وتاء أصلية -نحو "تَتَنَاوَلُ، وتَتَلَوَّنُ"- فإن المحذوف منها تاء المضارعة دون الأصلية، نحو "تَنَاولُ، وتَلَوَّنُ". وذهب البصريون إلى أن المحذوف منهما التاء الأصلية، دون تاء المضارعة. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنه لما اجتمع في أول هذا الفعل حرفان متحركان من جنس واحد -وهما التاء المزيدة للمضارعة والتاء الأصلية- استثقلوا اجتماعهما؛ فوجب أن تحذف إحداهما؛ فلا يخلو: إما أن تحذف الزائدة، أو الأصلية، فكان حذف الزائدة أولى من الأصلية؛ لأن الزائد أضعف من الأصلي، والأصلي أقوى من الزائد؛ فلما وجب حذف أحدهما كان حذف الأضعف أولى من حذف الأقوى. وأما البصريون فقالوا: إنما قلنا إن حذف الأصلية أولى من الزائدة؛ لأن الزائدة دخلت لمعنى وهو المضارعة، والأصلية ما دخلت لمعنى؛ فلما وجب حذف إحداهما كان حذف ما لم يدخل لمعنى أولى. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إن الزائد أضعف من الأصلي فكان حذفه أولى" قلنا: لا نسلم هذا مطلقًا؛ فإن الزائد على ضربين: زائد جاء لمعنى، وزائد لم يجئ لمعنى، فأما الزائد الذي جاء لمعنى فلا نسلم فيه أن الأصلي أقوى منه، وأما الزائد الذي ما جاء لمعنى فمسلَّم أنه أقوى؛ ولكن لا نسلم أنه قد وجد ههنا، وهذا لأن التاء ههنا جاءت لمعنى المضارعة؛ فقد جاءت لمعنى، وإذا كانت قد جاءت لمعنى فيجب أن تكون تَبْقِيَتُهَا أولى؛ لأن في

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني مع حاشية الصبان "4/ 294 بولاق" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 499 بولاق"

حذفها إسقاطا لذلك المعنى الذي جاءت من أجله، وذلك خلاف الحكمة. والذي يدلّ على صحة هذا ثبوت التنوين في المنقوص والمقصور وحذف حرف العلة منهما لالتقاء الساكنين وإن كان أصليًا فيهما، ألا ترى أنك تقول في المنقوص "هذا قاضٍ، ومررت بقاضٍ" والأصل فيه "هذا قاضيٌ، ومرت بقاضيٍ" إلا أنهم لما حذفوا الضمة والكسرة استثقالا لهما على الياء بقيت الياء ساكنة والتنوين ساكنًا فحذفوا الياء لالتقاء الساكنين وأبقوا التنوين؛ لأن الياء ما جاءت لمعنى، والتنوين جاء لمعنى؛ فكان تبقيته أولى، فكذلك أيضًا تقول في المقصور "هذه رحًا وعصًا" والأصل فيه "رحيٌ وعَصَوٌ" فلما تحركت الياء والواو انفتح ما قبلهما قلبوهما ألفًا1 لتحركهما وانفتاح ما قبلهما، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين وبقي التنوين بعدها؛ لأن الألف ما جاءت لمعنى، والتنوين جاء لمعنى؛ فكان تبقيته أولى، فكذلك ههنا، ولهذا كان الواجب في تصغير منطلق ومغتسل: مطيلق ومغيسل، وكذلك التكسير نحو: مَطَالق ومَغَاسل بإثبات الميم وحذف النون من منطلق والتاء من مغتسل؛ لأن الميم جاءت لمعنى -وهو الدلالة على اسم الفاعل- والنون والتاء ما جاءتا لمعنى؛ فكان حذفهما أولى من حذف الميم؛ لأنها جاءت لمعنى، وكذلك القياس في كل حرفين اجتمعا فوجب حذف أحدهما؛ فإن حذف ما لم يجئ لمعنى أولى من حذف ما جاء لمعنى، والسر فيه هو2 أن الحرف الذي جاء لمعنى قد تَنَزَّلَ في الدلالة على معنى بمنزلة سائر الكلمة التي تدل بجميع حروفها على معنى، بخلاف الحرف الذي لم يجئ لمعنى؛ فإنه ليس فيه دلالة على معنى في نفسه البتة، فكما يمتنع أن تحذف الكلمة بأسرها لشيء لا معنى له في نفسه؛ فكذلك ههنا: يمتنع أن يحذف الحرف الذي جاء لمعنى لأجل حرف لم يجئ لمعنى، فدل على أن حذف التاء الأصلية أولى من الزائدة على ما بيّنّا، والله أعلم.

_ 1 في ر "قلبوها ألفا" وليس بذاك. 2 في ر "وهو أن.... إلخ" والظاهر أن الواو من "وهو" زائدة.

مسألة هل تدخل نون التوكيد الخفيفة على فعل الاثنين وفعل جماعة النسوة؟

94- مسألة: [هل تدخل نون التوكيد الخفيفة على فعل الاثنين وفعل جماعة النسوة؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز إدخال نون التوكيد الخفيفة على فعل الاثنين وجماعة النسوة، نحو "افْعَلَانْ وافْعَلْنَانْ" بالنون الخفيفة، وإليه ذهب يونس بن حبيب البصري. وذهب البصريون إلى انه لا يجوز إدخالها في هذين الموضعين. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يجوز ذلك لوجهين: أحدهما: أن هذه النون الخفيفة مخففة من الثقيلة، وأجمعنا على أن النون الثقيلة تدخل في هذين الموضعين؛ فكذلك النون الخفيفة. والوجه الثاني: أن هذه النون إنما دخلت في القسم والأمر والنهي والاستفهام والشرط بإمَّا لتوكيد الفعل المستقل، فكما يجوز إدخالها للتوكيد على كل فعل مستقبل وقع في هذه المواضع فكذلك فيما وقع الخلاف فيه، قُصَارَى ما يُقَدَّر أن يقال: إنه يؤدي إلى اجتماع الساكنين الألف والنون، وقد جاء ذلك في كلام العرب؛ لأن الألف فيها فرط مد، والمد يقوم مقام الحركة، وقد قرأ نافع، وهو أحد أئمة القراء {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ} [الأنعام: 162] بسكون الياء من {وَمَحْيَايَ} فجمع بين الساكنين وهما الألف والياء، فكذلك ههنا، وقد حكي عن بعض العرب أنه قال "التقت حلقتا البطان" بإثبات الألف مع لام التعريف، وقد حكي عن بعض العرب أيضًا أنه قال "له ثُلُثَا المالِ" بإثبات الألف، فجمع بينها وبين لام التعريف وهما ساكنان لما في الألف من إفراط المد، ولذلك أيضًا يجوز تخفيف الهمزة المتحركة إذا كان قبلها ألف نحو هَبَاءة، والهمزة المخففة ساكنة. والذي يدل على صحة مذهبنا قراءة ابن عامر "ولا تتعبان" بنون

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني بحاشية الصبان "3/ 189" وتصريح الشيخ خالد "2/ 261".

التوكيد الخفيفة، والمراد به موسى وهارون، فدل على ما قلناه. قالوا: ولا يجوز أن يقال: "إنما يجتمع حرفان ساكنان في الوصل، إذا كان الثاني منهما مدغما في مثله، نحو "دابَّة، وتُمُودَّ، وأُصَيْمّ" لأنا نقول: إن هذا النحو قد يلحقه ما يوجب له الإدغام، نحو قولنك "اضربا نُّعْمَانَ، واضربانِّي" فالنون الأولى في قولك "اضربا نعمان" نون التوكيد الخفيفة، والنون الثانية نون "نعمان" وكذلك النون الأولى في "اضربانّي" نون التوكيد المخففة، والنون الثانية التي تصحب ضمير المتكلم1؛ فينبغي أن تجيزوا هذا الإدغام؛ لأن الألف تقع وبعدها نونٌ مشددة، كقوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس: 89] في قراءة من قرأ بالتشديد، فلما لم تجيزوا ذلك دلَّ على فساد ما ذهبتم إليه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز دخول نون التوكيد الخفيفة في هذين الموضعين، وذلك لأن نون الاثنين التي للإعراب تسقط؛ لأن نون التوكيد إذا دخلت على الفعل المعرب أكدت فيه الفعلية فردَّته إلى أصله وهو البناء، فإذا سقطت النون بقيت الألف؛ فلو أدخل عليها نون التوكيد الخفيفة لم يَخْل: إما أن تحذف الألف أو تكسر النون، أو تُقَرَّ ساكنة، بطل أن تحذف الألف؛ لأنه بحذفها يلتبس فعل الاثنين بالواحد، وبطل أن تكسر النون؛ لأنه لا يعلم هل هي نون الإعراب أو نون التوكيد، وبطل أن تُقَرَّ ساكنة؛ لأنه يؤدي إلى أن يجمع بين ساكنين مظهرين في الإدراج، وذلك لا يجوز؛ لأنه إنما يكون ذلك في كلامهم إذا كان الثاني منهما مدغما، نحو "دابّة، وضالّة، وتمودّ الثوب، ومُدَيْقّ، وأصيمّ" وما أشبه ذلك؛ فبطل إدخال هذه النون في فعل الاثنين. وكذلك أيضًا يبطل إدخالها في فعل جماعة النسوة، وذلك لأنك إذا ألحقته إياها لم يَخْلُ: إما أن تبين النونين مظهرتين، أو تدغم إحداهما في الأخرى، أو تلحق الألف فتقول: "يفعلنان" بطل أن تبين النونين مظهرتين؛ لأنه يؤدي إلى اجتماع المثلين، وذلك لا يجوز، وبطل أن تدغم إحداهما في الأخرى؛ لأن لام الفعل ساكنة، والمدغم كذلك؛ فيلتقي ساكنان، وساكنان لا يجتمعان؛ فيؤدي إلى تحريك اللام مع ضمير الفاعل من غير فائدة، وذلك لا يجوز، وكان أيضًا يؤدي إلى اللبس؛ لأنه لا يخلو: إما أن تحرك اللام بالفتح، أو الضم، أو الكسر؛ فإن حركتها بالفتح التبس بفعل الواحد إذا لحقته النون الشديدة، نحو "تضربنَّ يا رجل" وإن حركتها بالضم التبس بفعل الجمع، نحو "تضربُنَّ يا رجال" وإنّ حركتها

_ 1 هي النون التي سموها نون الوقاية.

بالكسر التبس بفعل المرأة المخاطبة، نحو "تضربنَّ يا امرأة" فبطل تحريك اللام، وبطل أن تلحق الألف؛ لأنه لا يخلو: إما أن تكسر النون لالتقاء الساكنين، أو تترك ساكنة مع الألف، بطل أن تكسر لالتقاء الساكنين؛ لأنها تجري مجرى نون الإعراب، وذلك لا يجوز، وبطل أن تترك ساكنة مع الألف؛ لأنه يجتمع ساكنان على غير حَدِّه؛ لأنه لم ينقل ذلك عن أحد من العرب، ولا نظير له في كلامهم، وذلك لا يجوز؛ فإذا ثبت هذا فلسنا بمضطرين إلى إدخالها على صورة لم تنقل عن أحد من العرب وتخرج بها عن منهاج كلامهم. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إن النون الخفيفة مخففة من الثقيلة" قلنا: لا نسلم، بل كل واحد منهما أصل في نفسه، غير مأخوذ من صاحبة؛ فالنون الشديدة والخفيفة، وإن اشتركا في التأكيد فهما متغايران في الحقيقة، وكلتاهما لتأكيد الفعل، وإخراجه عن الحال، وإخلاصه للاستقبال، والثقيلة آكد في هذا المعنى من الخفيفة. والذي يدل على أن الخفيفة ليست مخففة من الثقيلة أن الخفيفة تتغير في الوقف، ويوقف عليها بالألف، قال الله تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} [العلق: 15] وقال تعالى: {لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف: 32] أجمع القرَّاء على أن الوقف في هذين الموضعين {لَنَسْفَعًا} ، {َلِيَكُونًا} بالألف لا غير. وقال الشاعر: [409] يَحْسِبُهُ الجاهل ما لم يعلما ... شيخًا على كرسيّه معمَّمًا

_ [409] هذان بيتان من مشطور الرجز لأبي الصمعاء مساور بن هند العبسي، وهما من شواهد سيبويه "2/ 152" وابن يعيش في شرح المفصل "ص1241" ورضي الدين في باب نون التوكيد من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 569" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 474" وابن عقيل "رقم 317" وقد زعم الأعلم أن هذين البيتين في وصف جبل قد عمه الخصب ونما فيه النبات فجعله الراجز كشيخ مزمل في ثيابه معمم بعمامته، وأنه خص الشيخ لوقاره في جلسته وحاجته للاستكثار من الثياب. وليس هذا الكلام بشيء، بل البيتان في وصف وطب لبن قد علته رغوة اللبن وتكورت فوقه فأشبهت العمامة بدليل أن قبل البيتين قوله: وقد حلبن حيث كانت قيما ... مثنى الوطاب، والوطاب الزمما وقمعا يكسى ثماما قشعما قيما: هو -بضم القاف وتشديد الياء- جمع قائمة، والقياس أن يقال: قوم -بالواو- لأن عين هذه الكلمة واو، ومثنى الوطاب: أي المتكرر منه، والوطاب: جمع وطب وهو سقاء اللبن خاصة، والزمم: جمع زام، وهو المملوء، والقمع -بكسر القاف وفتح الميم- هو =

فقال "يَعْلَمَا" بالألف، ولا يجوز أن يكون ههنا بالنون؛ لمكان قوله "مُعَمَّمَا" بالألف، لأن النون لا تكون وصلا مع الألف في لغة من يجعلها وصلا، ولا رويًّا مع الميم إلا في الإكفاء، وهو عيب من عيوب الشعر، ولو جاز أن تقع رويّا معها لما جاز ههنا؛ لأن النون مقيدة، والميم مطلقة، فإن أتى بتنوين الإطلاق على لغة بعض العرب فقال "معمما" بالتنوين جاز أن يقول "يَعْلَمَنْ" بالنون؛ لأنهم يجعلون في القافية مكان الألف والواو والياء تنوينا، ولا فرق عنده في ذلك بين أن تكون هذه الأحرف أصلية أو منقلبة أو زائدة، في اسم أو فعل، كما قال الشاعر: [410] أَقِلِّي اللَّوْمَ عاذلَ والعتابَنْ ... وقولي: إنْ أَصَبْتُ لقد أَصَابَنْ

_ = شيء يوضع في فم السّقاء ويصبّ اللبن فيه مخافة أن يقع على الأرض، والثمال -بضم الثاء- ههنا الرغو، ويحسبه: أي الوطب الذي علاه الثمال، وما في قوله "ما لم يعلما" مصدرية ظرفية: أي مدة عدم علمه، ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "يعلما" والعلماء يستشهدون بهذه الكلمة لشيئين: أولهما أن نون التوكيد تنقلب ألفًا في الوقف، ألا ترى الراجز قد جاء بهذه الكلمة في آخر البيت بالألف لأن آخر البيت محل الوقف؟ والثاني أن الفعل المضارع المنفي بلم تدخل عليه نون التوكيد تشبيهًا للم بلا الناهية، وسيبويه يرى أن ذلك لا يكون إلا في الضرورة، قال الأعلم "الشاهد فيه دخول النون في قوله لم يعلمن، وليس المضارع بعد لم من مواضع نون التوكيد، ضرورة" ا. هـ بتوضيح يسير. [410] هذا البيت من كلام جرير بن عطية بن الخطفي، وهو من شواهد سيبويه "1/ 298/ و299" وابن جني في الخصائص "2/ 96" وفي شرح تصريف المازني "1/ 244" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 567" وفي أوضح المسالك "رقم 1" والأشموني "رقم 4" وابن عقيل "رقم 1" وشرحه العيني "1/ 91 بهامش الخزانة" ورضي الدين في أوائل شرح الكافية وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 34" ومفصل الزمخشري وشرحه لابن يعيش "ص1231" وأقلي: فعل أمر من الإقلال، وهو في الأصل جعل الشيء قليلا، وقد يطلق على ترك الشيء بتة، وهو المراد ههنا، واللوم: العذل والتوبيخ، وعاذل: مرخم عاذلة، وهو اسم فاعل مؤنث من العذل وهو اللوم والتعنيف، والعتاب: هو مخاطبة الإدلال ومذاكرة الغضب، والمراد ههنا اللوم في تسخط، وأصبت: يروى بضم التاء على أنها ضمير المتكلم، ويروى بكسرها على أنها ضمير المخاطبة المؤنثة. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "العتابن" و"أصابن" حيث لحق التنوين هاتين الكلمتين، وههنا أشياء لا بد أن ننبّهك إليها، الأول: أن هذا التنوين يسمى تنوين الترنّم، وهو غير مختص بالأسماء، بل يدخل الاسم والفعل والحرف، ويدخل من الأسماء المتمكن وغير المتمكن والمقرون بأل وغير المقرون بها، ولو كان مختصًّا بالأسماء لما دخل غير الأسماء المتمكنة المجردة من أل، والثاني: أن هذا ضرب من ضروب إنشاد القوافي، قال سيبويه في باب وجوه القوافي في الإنشاد: "وأما ناس كثير من تميم فإنهم يبدلون مكان المدة النون فيما ينون وما =

وكما قال الشاعر: [411] وقد كنت من سلمى سنين ثمانيًا ... على صِيرِ أمرٍ ما يُمِرُّ وما يَحْلُنْ وكما قال الشاعر: [412] قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدَّخُول فَحَوْمَلِ

_ = لم ينون، لما لم يريدوا الترنم أبدلوا مكان المدة نونًا، ولفظوا بتمام البناء وما هو منه، كما فعل أهل الحجاز ذلك بحروف المد" ا. هـ الثالث: أنهم سموا هذا التنوين تنوين الترنم، مع أنه في الواقع تنوين المقصود منه ترك الترنم كما سمعت في عبارة سيبويه، وقد قال العلماء: إن هذه التسمية على تقدير مضاف، أي تنوين قطع الترنّم، أو ما أشبه ذلك. [411] هذا البيت من كلام زهير بن أبي سلمى المزني "الديوان ص96" وهو البيت الثاني من قصيدته التي مطلعها: صحا القلب عن سلمى، وقد كاد لا يسلو ... وأقفر عن سلمى التعانيق فالثقل وصحا القلب: أفاق من سكرة حبه، وأراد قلبه، يقول: أفاق قلبي من حب سلمى وبعدها عنه، وقد كاد لا يفيق لشدة تعلقه بها، وأقفر: خلا، والتعانيق: أرض، والثقل يروى بالفاء، وبالقاف، ويروى "الثجل" بالجيم وقد ورد في معجم البلدان بالثلاثة، واستشهد بهذا البيت، والثقل: موضع في شق العالية، وصير الأمر -بكسر الصاد- منتهاه وصيرورته، تقول: أنا من حاجتي على صير أمر، وعلى صيرورة وعلى صمات -بضم أوله- وعلى ثبار -بكسر أوله- إذا كنت على شرف منها، وقوله "ما يمر" أي ما يكون مرًا فأيأس منه وأتخلى عنه، ويحلو: أي ما يكون حلوًا فأرجوه وأتمنى تمامه. ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "وما يحلن" حيث ألحق هذه الكلمة تنوين الترنم، أي تنوين قطع الترنم على ما علمت في شرح الشاهد السابق، وهذه الكلمة فعل مضارع، فدل ذلك على أن هذا الضرب من التنوين غير مختص بالأسماء كما بيناه لك آنفا، والمنشد قد حذف حرف المد وجاء بدله بالتنوين، ونريد أن ننبهك ههنا إلى أن حرف المد الذي حذفه المنشد من كلمة "يحلو" وأتى بدله بالتنوين، هو من أصول هذه الكلمة لأنه لام الفعل، أما في "أصابن" وفي "العتابن" في بيت جرير السابق فحرف المد الذي يأتي المنشد بدله بالتنوين حرف زائد على أصول الكلمة وإنما يأتي المنشد بحرف المد أيضًا إذا قصد الترنم، واستمع إلى سيبويه يقول "أما إذا ترنموا فإنهم يلحقون الألف والياء والواو ما ينون وما لا ينون، لأنهم أرادوا مد الصوت" ا. هـ، ونظير هذا البيت إنشادهم بيت رؤبة: داينت أروى والديون تقضن ... فمطلت بعضًا وأدت بعضن بالنون في "يقضن" حذف الألف "تقضى" وهي لام. [412] هذا البيت هو مطلع قصيدة امرئ القيس بن حجر الكندي المعلقة "شرح المعلقات العشر للتبريزي ص1" وهو من شواهد سيبويه "2/ 298" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 269" وفي أوضح المسالك "رقم 413" وفي شرح قطر الندى "رقم 24" والأشموني "رقم 819" وابن الناظم في باب عطف النسق، وشرحه العيني "4/ 130" ورضي الدين في باب =

بتنوين الرويّ، وإنما يفعلون ذلك إذا أرادوا ترك الترنم؛ لأن التنوين ليس فيه من الامتداد ما في الألف والواو والياء؛ فإثبات النون في "يعلمن" في القافية على هذه اللغة لا يدل على أنه لا يجب أن يوقف عليها بالألف في سائر الكلام، وقال الشاعر: [413] وإيَّاكَ والمَيْتَاتِ لا تَقْرَبَنَّهَا ... ولا تَعْبُدِ الشيطان، واللهَ فاعبدا

_ = الحروف العاطفة من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 397" وقف: فعل أمر من الوقوف، والألف المتصلة به تحتمل وجهين: الأول أن تكون ضمير المثنى المخاطب، والثاني أن تكون منقلبة عن نون التوكيد، والأصل "قفن" ثم أبدل النون ألفا للوقف، ثم عامل الكلمة في الوصل معاملتها في الوقف، ونبك: مضارع من البكاء مجزوم في جواب الأمر، والسقط -مثلث السين والقاف ساكنة- ما تساقط من الرمل، واللوى -بكسر أوله مقصورًا- المكان الذي يسترق فيه الرمل فيخرج منه إلى الجدد، والدخول وحومل: موضعان وكان الأصمعي يعيب امرأ القيس في قوله "بين الدخول فحومل" ويقول: كان ينبغي أن يجيء بواو العطف فيقول "بين الدخول وحومل" لأن كلمة بين لا تضاف إلا إلى متعدد، سواء أكان بلفظ واحد كأن يكون المضاف إليه مثنى أو مجموعًا نحو أن تقول: جلست بين الرجلين الكريمين، أو تقول: جلست بين العلماء، أم كان تعدده بالعطف وذلك لا يكون إلا بالواو، وقد اعتذر العلماء عن امرئ القيس بأن غرضه بين أماكن الدخول فأماكن حومل، فهو من باب التعدد بلفظ واحد. ومحل الاستشهاد بهذا البيت ههنا قوله "ومنزلن" وقوله "فحوملن" حيث ألحق المنشد النون في الكلمتين، والقول فيهما كالقول في البيتين السابقين. [413] ما أنشده المؤلف عجز بيت للأعشى ميمون، ويروى صدره: وذا النصب المنسوك لا تنسكنه وهذا البيت والبيت العشرون من قصيدته التي كان قد أعدّها ليمدح به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدته قريش "الديوان 101 – 103" والبيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص1239" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 616" وفي أوضح المسالك "رقم 477" وفي شرح قطر الندى "رقم 149" والأشموني "رقم 969" وكلا هؤلاء رووا صدره: وإياك والميتات لا تقربنها وهو تلفيق بيت واحد من بيتين من أبيات القصيدة، وقد شرحه العيني "4/ 340 بهاشم الخزانة" وبين انفصال الشطرين، ويروى: وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... بعاقبة، والله ربك فاعبدا والفاء في قوله "فاعبدا" تحتمل ثلاثة أوجه: الأول أن تكون زائدة، والثاني أن تكون واقعة في جواب أما مقدرة، وكأن قد قال: وأما الله ربك فاعبد، والوجه الثالث أن تكون عاطفة، والمعطوف عليه محذوف، وكأنه قد قال: تنبه فاعبد الله ربك ومحل الاستشهاد بهذا البيت ههنا قوله: "فاعبدا" فإن أصل هذه الكلمة "فاعبدن" بنون توكيد خفيفة، فلما أراد أن يقف =

والشواهد على هذا النحو كثيرة جدا؛ فلو كانت هذه النون مخففة من الثقيلة لما كانت تتغير في الوقف، ألا ترى أن نون "إن" و"لكن" المخففتين من إنَّ ولكنَّ الثقيلتين؛ لما كانتا مخففتين من الثقيلتين لم تتغيرا في الوقف عما كانتا عليه في الوصل؛ فلما تغيرت النون الخفيفة في الوقف دلَّ على أنها ليست مخففة من الثقيلة، يدل عليه أن النون الخفيفة تحذف في الوقف إذا كان ما قبلها مضموما أو مكسورا، تقول في الوصل "هل تَضْرِبُنْ زيدا، وهل تَضْرِبِنْ عمرًا" فإن وقفت قلت "هل تضربون، وهل تضربِيِنْ" فتردُّ نون الرفع التي كنت حذفتها للبناء؛ لزوال ما كنت حذفت من أجله، ولو كانت مثل نون "إنْ، ولكنْ" المخففتين من الثقيلتين لما جاز أن تحذف، يدل عليه1 أنَّ النون الخفيفة إذا لقيها ساكن حذفت، تقول في "اضْرِبَنْ يا هذا" إذا وصلتها: اضْرِبَ القَوْمَ2، فتحذف النون ولا تحركها لالتقاء الساكنين، ولو كانت مخففة من الثقيلة مثل "إنْ، ولكنْ" لما كان يجوز أن تحذف؛ فدلَّ على أنها ليست مخففة من الثقيلة وأنها بمنزلة التنوين، وإنما وجب حذفها ههنا، بخلاف التنوين؛ لأن نون التوكيد تدخل على الفعل والتنوين يدخل على الاسم، والاسم أصل للفعل، والفعل فرع عليه؛ فجعل ما يدخل على الاسم الذي هو الأصل أقوى مما يدخل على الفعل الذي هو الفرع؛ فلهذا المعنى حذفت النون لالتقاء الساكنين ولم يحذف التنوين، على أنه قد قرأ بعض أئمة القراء: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فحذفت التنوين من {أَحَدٌ} لالتقاء الساكنين، وقرأ أيضًا بعض القراء {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يّ-س: 40] فحذف التنوين من {سَابِقُ} لالتقاء الساكنين، لا للإضافة، ولهذا نصب {النَّهَارِ} ؛ لأنه

_ = عليها أبدلها ألفًا، قال ابن يعيش بعد أن أنشد البيت "قال لا تقربنّها بالنون الشديدة في النهي، وقال والله فاعبدا، فأتى بالنون الخفيفة مع الأمر، ثم وقف فأبدل منها الألف" ا. هـ، ومثل هذا البيت قول الأعشى ميمون صاحب الشاهد الذي نحن بصدد شرحه: وصل على حين العشيات والضحى ... ولا تحمد المثرين، والله فاحمدا وقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي: وقمير بدا لخمس وعشريـ ... ـن له قالت الفتان: قوما والاستشهاد بهذا البيت في قوله "قوما" فإن هذه الألف لا يجوز أن تكون ألف الاثنين، لأن الحديث عن واحد، فوجب أن تكون منقلبة عن نون التوكيد الخفيفة للوقف.

مفعول "سابق"، وقال الشاعر: [414] فَأَلْفَيْتُهُ غيرَ مُسْتَعْتِبٍ ... ولا ذاكر اللهَ إلا قليلًا

_ [414] ينسب هذا البيت لأبي الأسود الدؤلي، وهو من شواهد سيبويه "1/ 85" وابن جني في الخصائص "1/ 311" والزمخشري في المفصل، وابن يعيش في شرحه "ص1235" ورضي الدين في باب التنوين من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 554" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 808" وابن الشجري في أماليه "1/ 346" والزمخشري في تفسير سورة آل عمران من الكشاف "1/ 152 بولاق" وألفيته: أي وجدته، وانظر شرح الشاهد 374 السابق في المسألة 78، ومستعتب: أي طالب العتبى، وهي الرضا، والاستشهاد بالبيت يستدعي أن نقدم لك بين يدي بيانه بحثا في ذكر المواضع التي يحذف فيها التنوين من الاسم وجوبًا، فنقول: إنما يحذف التنوين من الاسم وجوبا في ثمانية مواضع؛ الأول: بسبب الإضافة، نحو قولك: زيد ضارب بكر، والثاني: بسبب شبه الإضافة نحو قولك: لا مال لزيد عندك، إذا لم تقدر هذه اللام مقحمة، فإن قدرتها مقحمة كان حذف التنوين بسب إضافة مال إلى زيد، فيكون من النوع الأول: والثالث: بسبب اقتران الاسم بأن نحو الضارب والرجل والغلام، والرابع: بسبب وجود علتين يقتضيان المنع من الصرف نحو فاطمة وأحمد وضوارب، والخامس: بسبب اتصال الضمير بعامله نحو ضاربك وصاحبك، إذا قدرت الضمير في محل نصب على المفعولية، فإن جعلته في محل جر بالإضافة كان من النوع الأول، والسادس: بسبب البناء، وذلك في النداء واسم لا نحو يا رجل لمعين ولا رجل عندك، والسابع: بسبب كون الاسم علما موصوفا بابن مضاف إلى علم نحو يا زيد بن عمرو، والثامن: بسبب الوقف في غير المنصوب، أما في المنصوب فإن التنوين يقلب ألفا في المشهور من لغة العرب، وربيعة تعامل المنصوب معاملة غيره. إذا عرفت هذا فاعلم أن محل الاستشهاد بهذا البيت قوله "ولا ذاكر الله" والرواية فيه بنصب لفظ الجلالة على التعظيم، وهو معمول لذاكر، وكان من حق العربية عليه أن ينون "ذاكر" لكنه حذف التنوين لضرورة الشعر، وقد كان يمكنه أن يضيف "ذاكر" إلى لفظ الجلالة؛ فيكون حذف التنوين حينئذ واجبًا، لا ضرورة، لكنه آثر أن يرتكب الضرورة على حذفه للإضافة لقصد حصول التماثل بين المتعاطفين في التنكير، قال سيبويه "وزعم عيسى أن بعض العرب ينشد هذا البيت لأبي الأسود الدؤلي: فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله ... البيت لم يحذف التنوين استخفافا ليعاقب المجرور، ولكنه حذفه لالتقاء الساكنين كما قال رمى القوم، وهذا اضطرار، وهو مشبه بذلك الذي ذكرت لك" ا. هـ. وقال الأعلم "الشاهد فيه حذف التنوين من ذاكر لالتقاء الساكنين ونصب ما بعده، وإن كان الوجه إضافته، وفي حذف تنوينه لالتقاء الساكنين وجهان: أحدهما أن يشبه بحذف النون الخفيفة إذا لقيها ساكن كقولك: اضرب الرجل، تريد اضربن، والوجه الثاني: أن يشبه بما حذف تنوينه من الأسماء الأعلام إذا وصف بابن مضاف إلى علم كقولك: رأيت زيد بن عمرو، وأحسن ما يكون حذف التنوين للضرورة في مثل قولك: هذا زيد الطويل؛ لأن النعت والمنعوت كالشيء الواحد، فيشبه بالمضاف والمضاف إليه" ا. هـ.

أراد "ذاكر الله" فحذف التنوين لالتقاء الساكنين، لا للإضافة، ولهذا نصب "الله" بذاكر، وقال الآخر: [415] تُذْهِلُ الشيخ عن بنيه، وتُبْدِي ... عن خِدَامِ العَقِيلَةُ العَذْرَاءُ أراد "عن خدام" فحذف التنوين لالتقاء الساكنين، لا للإضافة، ولهذا رفع "العقيلَةُ" لأنها فاعل "تُبْدِي". وقال الآخر: [416] تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مُغْبَرٌّ قبيحُ

_ [415] هذا البيت من كلام عبيد الله بن قيس الرقيات، وقبله قوله: كيف نومي على الفراش ولما ... تشمل الشام غارة شعواء والبيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص1236" وقد أنشد ابن منظور البيتين "خ د م" من غير عزو، وأنشدهما ابن الشجري في أماليه "1/ 345" وعزاهما إليه، وتبدي: تظهر، وعدّاه بعن في قوله: "وتبدي عن خدم" لأنه ضمنه معنى تكشف، كما جاء في قول امرئ القيس في المعلقة: تصدّ وتبدي عن أسيل، وتتقي ... بناظرة من وحش وجرة مطفل والخدام -بكسر الخاء- جمع خدمة، وهي الخلخال، وربما سميت الساق نفسها خدمة؛ لكونها موضع الخدمة. والعقيلة: الكريمة المخدرة من النساء، والعذراء: البكر، وجملة "تذهل الشيخ" في محل رفع صفة لغارة، والرابط في هذه الجملة بين الموصوف والصفة الضمير المستتر في "تذهل" فإنه يعود إلى غارة، وجملة "وتبدي عن خدام" في محل رفع بالعطف على الجملة السابقة، ورابط هذه الجملة بالموصوف محذوف، وأصل الكلام: وتبدي العقيلة العذراء لها -أي لهذه الغارة، أي لأجلها- عن خدام، أي ترفع المرأة الكريمة من شدة هذه الغارة ثوبها طالبة الهرب فيبدو خلخالها، ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "خدام" فقد كان من حق العربية عليه أن ينوّن هذه الكلمة لأنها ليست في موضع من المواضع الثمانية التي أحصيناها لك في شرح الشاهد السابق، ولكنه حذف هذا التنوين للضرورة على نحو ما ذكرناه لك في شرح الشاهد السابق، ومن العلماء من يذكر أن الشاعر قد حذف التنوين من هذه الكلمة لأنه قدر إضافتها إلى ضمير العقيلة العذراء، وأصل الكلام على هذا: وتبدي عن خدامها العقيلة العذراء، فحذف الضمير وهو ينويه، فلذلك أبقى التنوين محذوفا، قال ابن منظور "وخدام ههنا في نية خدامها" ا. هـ. ومن العلماء من يروي هذا البيت على وجه آخر ليس فيه شاهد، وهو: كيف نومي على الفراش، ولما ... تشمل الشام غارة شعواء تذهل الشيخ عن بنيه، وتبدي ... عن براها العقيلة العذراء [416] يعزى هذان البيتان إلى آدم أبي البشر، وقد أنشدهما ابن الشجري في أماليه "1/ 346" وذكر أنه يقولها بعد أن قتل ابنه قابيل أخاه هابيل، ويروى صدر الثاني "تغير كل ذي حسن وطيب" والبشاشة: طلاقة الوجه. ومحل الاستشهاد من البيت قوله "بشاشة" واعلم أولًا أن من العلماء من يروي هذه الكلمة برفع "بشاشة" من غير تنوين ويضيفها إلى الوجه، فيكون آخر البيت الثاني مجرورًا وآخر البيت الأول مرفوعًا، ويكون في هذين البيتين =

تغيَّرَ كلُّ ذي طَعْمٍ ولونٍ ... وقَلَّ بَشَاشَةَ الوجهُ المَلِيحُ أراد "قل بشاشة" بالتنوين؛ فحذف التنوين لالتقاء الساكنين، لا للإضافة، ولهذا رفع "الوجه" لأنه فاعل "قل" ويروى هذا الشعر لآدم عليه السلام، وقال الآخر: [417] حَيْدَةُ خالي ولَقِيطٌ وعلي ... وحاتم الطائيُّ وهَّابُ المِئِي يراد "حاتم" بالتنوين؛ فحذف التنوين لالتقاء الساكنين، وقال الآخر: [418] عمروُ الذي هَشَم الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ... ورجالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ

_ = الإقواء، وهو تغير حركة حرف الروي، ومنهم من يروي بنصب "بشاشة" من غير تنوين، ويرفع "الوجه" على أنه فاعل قل، ويرفع "المليح" على أنه صفة للفاعل، وعلى هذا يسلم البيتان من الإقواء، ولكن يقع في ثانيهما ضرورة حذف التنوين من الاسم الذي هو بشاشة لغير سبب من الأسباب الثمانية التي ذكرناها في شرح الشاهد 414 وقد قرئ في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] برفع ذائقة من غير تنوين ونصب الموت على أنه مفعول به لذائقة، وحذف التنوين على هذا للتخلص من التقاء الساكنين كما في بيت الشاهد والبيتين قبله. وحكى أبو سعيد السيرافي قال: "حضرت مجلس أبي بكر بن دريد، ولم أكن قبل ذلك رأيته، فجلست في ذيل المجلس، فأنشده أحد الحاضرين بيتين يعزيان إلى آدم عليه السلام قالهما لما قتل ابنه قابيل هابيل وهما" تغيرت البلاد.... البيتين" فقال أبو بكر: هذا شعر قد قيل في صدر الدنيا وجاء فيه الإقواء، فقلت: إن له وجهًا يخرجه من الإقواء، فقال: ما هو؟ قلت: نصب بشاشة، وحذف التنوين منها لالتقاء الساكنين لا للإضافة، فتكون بهذا التقدير نكرة منتصبة على التمييز، ثم رفع الوجه وصفته بإسناد قل إليه، فقال لي: ارتفع، فرفعني حتى أقعدني إلى جنبه". [417] هذان بيتان من الرجز المشطور، وهما لامرأة من بني عقيل تفخر بأخوالها من اليمن كذا قال أبو زيد في النوادر "ص91" وهما من شواهد رضي الدين في باب العدد وباب الجمع وباب التنوين من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 304" وقد أنشدهما ابن منظور "م أى" وأبو زيد في نوادره "ص91" وابن جني في الخصائص "1/ 311" وحيدة، ولقيط، وعلي: أعلام أشخاص، و"حاتم الطائي" مضرب المثل في الجود والكرم. ومحل الاستشهاد من هذا الشاهد قوله "وحاتم الطائي" حيث حذف التنوين من حاتم لالتقاء الساكنين، لا لسبب من الأسباب الثمانية التي بيناها لك في شرح الشاهد 414، وهذا الحذف ههنا للضرورة، وكان الأصل أن يحرك التنوين فتنشأ نون يكسرها على ما هو الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، ولكنه لم يفعل ذلك وحذف التنوين رأسا، وقد سمعت في عبارة الأعلم الشنتمري التي أثرناها لك في شرح الشاهد 414 أن الحذف في "وحاتم الطائي" أخف الضرورات لكون الطائي صفة لحاتم، والصفة مع موصوفها كالكلمة الواحدة، وفي البيت شاهد آخر، وذلك في قوله "المئي" حيث حذف النون، وأصله "المئين" لأنها أخت التنوين. [418] هذا البيت لمطرود بن كعب الخزاعي، من كلمة له يمدح فيها هاشم بن عبد مناف والد =

وقال الآخر: [419] حُمَيْدُ الذي أمَجٌ دَارُهُ ... أَخُو الخَمْرِ ذو الشَّيْبَةِ الأصْلَعُ

_ = عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هاشم يسمى عمرًا، فسموه هاشما لأنه كان يهشم الثريد لقومه ويطعمهم في المجاعات، وقد روى هذا البيت ابن دريد في الاشتقاق "ص13" ونسبه لمطرود بن كعب الخزاعي، ورواه ابن منظور "هـ ش م" ونسبه إلى ابنه هاشم ولم يسمها، ثم قال: "وقال ابن برى: الشعر لابن الزبعرى". وأنشده أبو العباس المبرد في الكامل "1/ 148" ولم يعزه إلى قائل معين، وأبو زيد في نوادره "ص167". قال أبو رجاء: والسر في هذا الاضطراب أن لمطرود بن كعب الخزاعي كلمة على هذا الروي، ولابن الزبعرى كلمة أخرى على الروي نفسه، فأما كلمة مطرود بن كعب الخزاعي فرواها السيد المرتضى في أماليه "2/ 268" وأما أبيات بن الزبعرى فرواها ابن هشام في السيرة، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، وروى السيد المرتضى منها بيتين أولهما بيت الشاهد، ومما كان من دواعي الاضطراب أن عجز هذا البيت وقع في الشعرين جميعا: شعر مطرود بن كعب الخزاعي، وشعر ابن الزبعرى. والاستشهاد بهذا البيت في قوله "عمرو" حيث حذف التنوين منه لغير سبب من الأسباب الثمانية التي فصلناها في شرح الشاهد 414"، وإنما حذفه للتخلص من التقاء الساكنين: التنوين، وسكون اللام في "الذي" وليس هذا هو طريق التخلص من التقاء الساكنين الذي اعتاد العرب أن يسلكوه، إنما طريقهم أن يحركوا التنوين فتنشأ نون مكسورة، فلما لم يسلك الشاعر طريقهم المعتاد بل حذف التنوين رأسا كان ذلك ارتكابًا للضرورة التي يرتكبها الشاعر حين يلجئه إليه ملجئ من إقامة الوزن ونحوه. [419] أنشد ابن منظور هذا البيت "أم ج" عن أبي العباس المبرد "الكامل 1/ 148 الخيرية"، ولم يعزه، وابن الشجري في أماليه "1/ 345" وأبو زيد في نوادره "ص117" وأنشده ياقوت في معجم البلدان "أمج" ثاني ثلاثة أبيات، وقال قبل إنشاده: "أمج بالجيم، وفتح أوله وثانيه، والأمج في اللغة: العطش، من أعراض المدينة، منها حميد الأمجي، دخل على عمر بن عبد العزيز، وهو القائل: شربت المدام فلم أقلع ... وعوتبت فيها فلم أسمع حميد الذي أمج داره ... أخو الخمر ... البيت علاه المشيب على حبها ... وكان كريمًا، فلم ينزع ومن هنا تعلم أن في بيت الشاهد الإقواء، وهو كما قلنا في شرح الشاهد رقم 416 اختلاف حركة الروي في آخر البيت، فإن حركة الروي في "الأصلع" الضمة، وحركته في بقية الأبيات الكسرة، إلا أن يكون الرواة يروون "الأصلع" بالجر للجوار، لأن كلمة "الشيبة" قبله مجرورة بإضافة "ذو" إليها، وانظر الشواهد 389-391 السابقة في المسألة رقم 84. ومحل الاستشهاد بهذا البيت ههنا قوله "حميد" حيث حذف التنوين من هذه الكلمة لغير سبب من الأسباب الثمانية التي ذكرناها في شرح الشاهد رقم 414 وكان الأصل أن يحرك هذا التنوين حتى تنشأ نون مكسورة على ما هو الأصل في التخلص من =

وقال الآخر: [420] لَتَجِدَنِّي بالأمير بَرًّا ... وبالقَنَاة مِدْعَسًا مِكَرَّا إذا غُطَيْفُ السُّلَمِيُّ فَرَّا أرد" غطيف" بالتنوين، إلا أنه حذفه لالتقاء الساكنين، كما حذفت نون التوكيد لالتقاء الساكنين. والذي يدل على أن نون التوكيد في الفعل بمنزلة التنوين في الاسم أنه إذا انفتح ما قبلها أُبْدِلَتْ منها في الوقف ألفًا، وإذا انضم ما قبلها أو انكسر حذفتها، كما تُبْدِلُ من التنوين في النصب إذا وقفت ألفًا، نحو "رأيت زيدا" وتحذفه في الرفع والجر وتقف بالسكون نحو "هذا زيد، ومررت بزيد" فدلّ على ما قلناه. وأما قولهم: "إن هذه النون دخلت لتأكيد الفعل المستقبل؛ فكما جاز إدخالها في كلّ فعلٍ؛ فكذلك فيما وقع فيه الخلاف" قلنا: إنما جاز هناك لمجيئه في النقل، وصحته في القياس، وأما ما وقع فيه الخلاف فلم يأتِ في النقل عن أحد من العرب، ولا يصحُّ في القياس؛ لأنه لا نظير له في كلامهم. وأما قولهم: "إن الألف فيها زيادة مدّ" قلنا: إلا أنه على كل حال لا يخفُّ كل الخفة، ولا يَعْرَى عن الثقل، هذا مع عدم نظيره في النقل وضعفه في القياس؛ لأن الألف لم تخرج عن كونها ساكنة، وإذا كانت ساكنة فلا يجوز أن يقع بعدها ساكن إلا مدغما، نحو "دابّة وشابّة" لأن الحرف المدغم بحرفين: الأول ساكن، والثاني متحرك، إلا أنه لما نَبَا اللسان عنهما نَبْوَةً واحدة، وصارا بمنزلة حرف واحد وفيهما حركة قد رفع المدّ في الألف كأنه لم يجتمع ساكنان.

_ = التقاء الساكنين اللذين هما سكون التنوين وسكون لام الذي لأن بينهما ألف وصل ولا اعتداد بها في الدرج، لكنه حذف التنوين رأسًا في هذا الموضع للتخلص من التقاء هذين الساكنين، وهذا الحذف من الضرورات التي لا تقع إلا في الشعر. [420] هذه ثلاثة أبيات من الرجز المشطور، وقد أنشد ثلاثتها ابن الشجري في أماليه "1/ 345" وابن منظور "د ع س" وأنشد أولها وثانيها "د ع ص" ولم يعزها في المرتين، وأنشدها أبو زيد في النوادر "91" مع بيتين سابقين من غير عزو، وتقول: رجل مدعس، ومدعص -وهو بالصاد أشهر- ومداعس بضم الميم هنا: أي طعان، وتقول: دعصه بالرمح يدعصه دعصا -من مثال فتح- إذا طعنه به، وقد يمسى الرمح مدعصًا؛ لأنه آلة الدعص، وجمعه مداعص -بفتح الميم- ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "غطيف" حيث حذف التنوين لغير واحد من الأسباب الثمانية السابقة بيانها، بل للتخلص من التقاء الساكنين، وهو ضرورة، والقول فيه كالقول في الشواهد السابقة.

وأما قولهم: "إنه قد جاء في غير المدغم، كقوله تعالى: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ} [الأنعام: 162] فنقول: وجه هذه القراءة أنه نوى الوقف فحذف الفتح، وإلا فلا وجه لهذه القراءة في حال الوصل، إلا أن يجري الوصلُ مجرى الوقف. وذلك إنما يجوز في حالة الضرورة. وأما ما حكي عن بعض العرب من قوله "التقتْ حَلْقَتَا البطان" وقول الآخر "ثلثا المال" فغير معروف، والمعروف عن العرب حذف الألف من "حلقتا البطان، وثلثا المال" وما أشبههما؛ لالتقاء الساكنين، وإن صحّ ما حكيتموه عن أحد من العرب فهو من الشاذ النادر الذي لا يقاس عليه، ولا يعتد به لقلته. وأما قولهم: "إنه يجوز تخفيف الهمزة في نحو هَبَاءة، والهمزة المخففة ساكنة" قلنا: لا نسلم أنها ساكنة، بل هي متحركة، وسنبين فساد ذلك مستقصى في موضعه إن شاء الله تعالى. وأما قراءة ابن عمار: "وَلَا تَتََّبِعَانِ" بالنون الخفيفة فهي قراءة تفرد بها، وباقي القراءة على خلافها، والنون فيها للإعراب علامة الرفع؛ لأن "لا" محمول على النفي، لا على النهي، والواو في "ولا" واو الحال، والتقدير: فاستقيما غير متبعين، كما قال الشاعر: [421] بِأَيْدِي رِجَالٍ لم يَشِيمُوا سُيُوفَهُمْ ... ولم تَكْثُرِ القَتْلَى بِهَا حين سُلّتِ

_ [421] هذا البيت من شواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 592" وابن يعيش في شرح المفصل "ص248" وأنشده ابن منظور "ش ي م" وعزاه إلى الفرزدق، وقد وجدته في ديوان الفرزدق "ص139" بيتًا مفردًا، وأنشده ابن رشيق في العمدة "2/ 178 بتحقيقنا" وعزاه إلى سليمان بن قنة في رثاء الحسين بن علي رضي الله عنهما وذكر آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "ويروى للفرزدق" وروى صدره: أولئك قوم لم يشيموا سيوفهم ورواه أبو العباس المبرد في الكامل "1/ 180 الخيرية" ولم يشيموا سيوفهم: أي لم يغمدوها، أي لم يعيدوها إلى قربها، وقال قوم: المراد لم يسلوها، أي لم يخرجوها من أغمادها، فهو على هذا من الأضداد. ومحل الاستشهاد من هذا البيت ههنا قوله "ولم تكثر القتلى" فإن جماعة من العلماء -منهم ابن يعيش وابن هشام- ذهبوا إلى أن الواو في قوله "ولم تكثر.... إلخ" هي واو الحال، قال ابن هشام "ولو قدرت للعطف لانقلب المدح ذمًّا" ا. هـ، وهذا مبني على أن معنى "لم يشيموا سيوفهم" لم يعيدوها إلى أغمادها، يريد أنهم لم يعيدوها إلى أغمادها في حال عدم كثرة القتلى، أي انتفت إعادتهم السيوف إلى الأغماد في حال عدم كثرة القتلى؛ فيكون الثابت لهم إدخال السيوف في أغمادها حال كثرة القتلى، وهذا مدح أي مدح، وهو مبنيّ على جعل الواو للحال، فأما إن جعلت الواو للعطف. =

أي: لم يَشِيمُوا سيوفَهم غيرَ كاثرة بها القتلى، والمعنى لم يشيموا سيوفهم1 إلا في تلك الحالة، وإذا كان محمولا على النفي لا على النهى لم يكن لكم فيه حجة. والذي يدل على فساد ما ذهبوا إليه أنه لا يجتمع ساكنان في الوصل إلا إذا كان الثاني منهما مدغما. قولهم: "إن هذا النحو قد يلحقه ما يوجب له الإدغام، نحو: اضْربَا نُّعْمَانَ واضْرِبَانِّي، فينبغي أن تجيزوا هذا للإدغام" قلنا: هذا لا يستقيم؛ لأنا نكون قد رَدَدْنَا النونَ الخفيفة مع لزوم حذفها في حال الوصل والوقف إذا لم يتبعه كلام، وذلك خطأ. ثم كيف ترده وأنت لو جمعت هذه النون إلى نون ثانية لاعتلت وأدغمت وحذفت في قول بعض العرب؟ فإذا كُفُوا مؤنتها لم تكن ليردوها إلى ما يستثقلون، ولو جوزنا هذا في "اضربا نُّعْمَان" ونحوه لوجب إجازته في قولك "اضْرِبَانَ أباكما" في قول من لم يهمز؛ لأن هذا الموضع لم يمتنع فيه الساكن من التحريك، فتردها إذا وثقت بالتحريك كما رددتها حيث وثقت في الإدغام، وكما لا يجوز أن ترد في هذا وما أشبهه لأنك جئت به إلى شيء قد لزمه الحذف فكذلك ههنا، ولو وجب2 إجازته في غير ذلك من الأسماء التي لا نون في أولها؛ ليكون

_ = والمفروض أن معنى لم يشيموا لم يغمدوا فإن المعنى حينئذ انتفت إعادتهم السيوف إلى أغمادها وانتفت أيضًا كثرة القتلى، يعني أن الثابت لهم شيآن: عدم إغماد السيوف، وعدم كثرة القتلى، وهذا ذم شنيع، ولا شك أنه ليس مراد الشاعر، وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن الواو في قوله "ولم تكثر القتلى" يجوز أن تكون للعطف، وصححوا المعنى على ما أراد الشاعر بأحد وجهين: الأول أن معنى "لم يشيموا سيوفهم" لم يسلّوها: أي لم يخرجوها من أغمادها. وهذا وجه نقله مع الوجه الأول ابن رشيق في العمدة؛ قال بعد إنشاد البيت: "أراد لم يغمدوا سيوفهم إلا بعد أن كثرت به القتلى؛ كما تقول: لم أضربك ولم تجن عليّ إلا بعد أن جنيت عليّ، وقال آخرون: أراد لم يسلوا سيوفهم إلا وقد كثرت بها القتلى؛ كما تقول: لم ألقك ولم أحسن إليك إلا وقد أحسنت إليك؛ والقولان جميعا صحيحان؛ لأنه من الأضداد" ا. هـ. والحاصل أنك إذا فسرت لم يشيموا سيوفهم" بلم يغمدوها تعين أن تكون الواو للحال، وإن فسرت "يشيموا سيوفهم" بلم يسلوها جاز أن تكون الواو للعطف وجاز أن تكون للحال؛ والوجه الثاني من الوجهين: أن مراد الشاعر بقوله "ولم تكثر القتلى" أنهم لم يكثروا من القتل؛ لأنهم لا يقتلون كل من قدروا عليه، وإلا لأفنوا أعداءهم إفناء، وإنما يقتلون أكفاءهم في الشجاعة والإقدام على المكاره، وذلك قليل في أعدائهم.

الحكم فيها واحدًا، وذلك لا يجوز؛ لأن حمل المدغم على غير المدغم في الامتناع أولى من حمل غير المدغم على المدغم في الجواز، وذلك لأن غير المدغم أعمُّ استعمالًا وأكثر وقوعًا، والمدغم أقل استعمالًا وأندر وقوعًا، فلما وجب أن يحمل أحدهما على الآخر كان حمل الأقل الأندر على الأعمّ الأكثر أولى من حمل الأعمّ الأكثر على الأقلّ الأندر، والله أعلم.

مسألة الحروف التى وضع الاسم عليها في "ذا" و"الذي"

95- مسألة: [الحروف التي وضع الاسم عليها في "ذا" و"الذي"] 1 ذهب الكوفيون إلى أن الاسم في "ذا، والذي" الذال وحدها، وما زيد عليها تكثير لهما. وذهب البصريون إلى أن الذال وحدها ليست هي الاسم فيهما، واختلفوا في "ذا": فذهب الأخفش ومن تابعه من البصريين إلى أن أصله: ذَيُّ -بتشديد الياء- إلا أنهم حذفواالياء الثانية فبقي "ذَيْ" فأبدلوامن الياء ألفًا لئلا يلتحق بكي؛ فإذا الألف منه منقلبة عن ياء، بدليل جواز الإمالة؛ فإنه قد حكي عنهم أنهم قالوا في ذا: "ذا" بالإمالة، فإذا ثبت أنها منقلبة عن ياء لم يجز أن تكون اللام المحذوفة واوًا؛ لأن لهم مثل "حَيِيتُ" وليس لهم مثل "حَيَوْتُ" وذهب بعضهم إلى أن الأصل في ذا "ذَوَي" بفتح الواو؛ لأن باب "شَوَيْت" أكثر من باب "حَيِيتُ" فحذفت اللام تأكيدا للإبهام، وقلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وأما "الذي" فأجمعواعلى أن الأصل فيه "لَذِي" نحو: عَمِي وشَجِي. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن الاسم هو الذال وحدها أن الألف والياء فيهما يحذفان في التثنية نحو "قام ذَانِ، ورأيت ذَيْنِ، ومررت بذَيْنِ، وقام اللَّذَانِ، ورأيت اللَّذَيْنِ، ومررت باللَّذَيْنِ" ولو كان كما زعمتم أنهما أصلان لكانا لا يحذفان، ولوجب أن يقال في التثنية "الذِيَان" كما يقال العَمِيَانِ، والشَّجِيَانِ، و"الَّذِيُونَ" كما يقال: العميين، والشجيين، وأن تقلب الألف في تثنية "ذا" ولا تحذف، فلما حذفت الياء والألف في تثنية "الذي، وذا" دلّ على أنهما زائدان لا أصلان، وأن ما زيد عليهما تكثير لهما كراهية أن يبقى كل وحد منهما على حرف واحد، وحركواالذال لالتقاء الساكنين -وهما الذال والألف في ذا،

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح ابن يعيش على المفصل "ص444 و456" وشرح الأشموني مع حاشية الصبان "1/ 137 و146" وتصريح الشيخ خالد "1/ 150 و156 بولاق" وشرح الرضي على الكافية "2/ 28/ و37" ولسان العرب لابن منظور "20/ 111 و330 و335" وشرحنا المطول على شرح الأشموني "1/ 194" وأسرار العربية للمؤلف "ص150".

والذال والياء في الذي -وفتحواالذال في "ذا" لأن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحًا، وكسروها من "الذي" لأن الكسرة من جنس الياء، فكسرواما قبل الياء توكيدا لها، وزادوااللام الثانية مفتوحة من "الذي" على اللام الأولى ليسلم سكون اللام الأولى؛ لأن الألف واللام لا تدخل على ساكن إلا احتيج إلى تحريك اللام لالتقاء الساكنين، كقولهم: "الانتظار، والانكسار" فلو لم تدخل اللام الثانية لأدّى إلى تحريك اللام الأولى؛ لأنها ساكنة والذال بعدها ساكنة؛ فزادوااللام الثانية لتبقى اللام الأولى على أصلها في السكون ولا تكسر لالتقاء الساكنين. والذي يدل على أن الذال أصلها السكون قول الشاعر: [422] اللَّذْ بأسفله صحراءُ واسعةٌ ... واللَّذْ بأعلاه سيل مدَّه الجرُفُ وقول الآخر: [423] فلم أَرَ بيتًا كان أحسنَ بهجةً ... من اللَّذْ لَهُ من آلِ عَزَّةَ عامرُ وقول الآخر: [424] لن تنفعي ذا حاجة ويَنْفَعَكْ ... وتجعلين اللَّذْ مَعِي في اللَّذْ مَعَك

_ [422] أنشد المؤلف هذا البيت شاهدًا للكوفيين على أن أصل ذال الذي، السكون، ونظيره في "التي" قول الأقيش بن ذهيل العكلي: وأمنحه اللت لا يغيب مثلها ... إذا كان نيران الشتاء نوائما وقول الآخر: وأنشده ابن الشَّجَرِي في أماليه عن الفَرَّاء، وأنشده رضي الدين في شرح الكافية: فقل للت تلومك: إن نفسي ... أراها لا تعوذ بالتميم والتّميم: جمع تميمة، وهي المعاذة، ولكن ما وجه دلالة ذلك على أن الأصل هو السكون، خصوصًا إذا راعيت أنه قد جاء مع هذه الشواهد شواهد أخرى بكسر الذال؟ وسيذكر المؤلف هذا الاعتراض وينشد شواهد أخرى تدل للغات أخر في "الذي" وسنتكلم عليها هناك إن شاء الله. [423] العامر: المقيم في الدار، كأنه سمي بذلك لأنه يعمرها. وقد أنشد المؤلف هذا البيت على لسان الكوفيين يستدلون به على أن أصل ذال "الذي" ساكنة؛ لأنها قد جاءت في قول الشاعر "من اللذ" ساكنة، والقول فيه كالقول في الشاهد السابق فإن أقصى ما يدل عليه مجيئها ساكنة في هذا البيت ونحوه أن يكون سكونها مع حذف الياء لغة من لغات العرب قد جاءت في هذه الكلمة، وسنتكلم على ذلك مع الشواهد الأخرى التي جاءت على لغات أخر في هذه الكلمة. [424] الاستشهاد من هذا البيت في قوله "اللذ معي في اللذ معك" حيث وردت كلمة "اللذ" ساكنة الذال في الموضعين، والكلام فيهما كالكلام في نظائرهما من الشواهد السابقة.

وقوله الآخر: [425] فَظَلْتُ في شَرٍّ من اللَّذْ كِيدَا ... كاللَّذْ تَزَبَّى زُبْيَةً فَاصْطِيدَا وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يجوز أن تكون الذال وحدها فيهما هو الاسم، وذلك لأن "ذا، والذي" كل واحد منهما كلمة منفصلة عن غيرها؛ فلا يجوز أن يُبْنَى على حرف واحد؛ لأنه لا بد من الابتداء بحرف والوقوف على حرف؛ فلو كان الاسم هو الذال وحدها لكان يؤدي إلى أن يكون الحرف الواحد ساكنًا متحركًا، وذلك محال؛ فوجب أن يكون الاسم في "ذا" الذال والألف معًا، والاسم في "الذي" لذي؛ لأن له نظيرًا في كلامهم، نحو شَجِي وعَمِي، وهو أقل الأصول التي تبنى عليها الأسماء، وما نقص عن ذلك من الأسماء التي أَوْغَلَتْ في شبه الحروف فعلى خلاف الأصل، ولا يمكن إلحاق "ذا، والذي" بها، ألا ترى أن "ذا" كاسم مظهر يكون وصفا وموصوفا؟ فكونه وصفا نحو قوله تعالى: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا} [يوسف: 93] وكونه موصوفًا نحو قوله تعالى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} [الكهف: 49] وكذلك لا يمكن إلحاق "الذي" بها بأن يحكم بزيادة اللام الثانية كاللام التي تزاد للتعريف؛ لأن زيادة اللام ليس بقياس مطرد، وإنما يحكم بزيادتها في كلمات يسيرة نحو "زَيْدَلٍ، وعَبْدَلٍ، وأُولالِكَ"؛ [280] لقيام الدليل على ذلك، كقولك في معناها: زيد، وعبد، وأولاك، ولم يوجد ههنا: فبقينا فيه على الأصل. والذي يدل على أن الألف في "ذا" والياء في "الذي" أصليَّتَان قولهم في تصغير ذا "ذَيَّا" وأصله: ذَيَيَّا، بثلاث ياءات: ياءان من أصل الكلمة وياء للتصغير؛ لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها، واستثقلوا اجتماع ثلاث ياءات؛ فحذفوا

_ [425] هذان بيتان من الرجز المشطور، وهما لرجل من هذيل، وقد أنشدهما ابن منظور "20/ 343" عن الفراء من غير عزو، وقد أنشد ثانيهما رضي الدين في باب الموصول من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 497" وأنشد ثانيهما أيضا ابن يعيش في شرح المفصل "ص457" وتزبّى: اتخذ زبية، والزّبية -بضم الزاي وسكون الباء- حفرة بعيدة الغور تصنع لاصطياد السبع، إذا وقع فيها لم يستطع الخروج منها، وفي أمثال العرب: بلغ السيل الزبى، يقولونه إذا بلغ الأمر منتهاه، وإنما تتخذ الزبية في الجبال لأنها موطن الأسود، ويروى "الربا" بالراء مهملة، وهو جمع ربوة، وهي ما ارتفع وعلا من الأرض. وكيد: فعل ماضٍ مبني للمجهول من الكيد يقول: لقد ظللت في شر من الذي كدت في حقه، فكنت كمن حفر حفرة ليصطاد فيها فإذا هو واقع فيها. ومحل الاستشهاد من هذين البيتين قوله "في شر من اللذ" وقوله "كاللذ تزبّى" حيث وردت كلمة "اللذ" في الموضعين محذوفة الياء ساكنة الذال، والكلام فيها كالكلام فيما سبق من الشواهد.

الأولى، وكان حذفها أولى؛ لأن الثانية دخلت لمعنى وهو التصغير، والثالثة لو حذفت لوقعت ياء التصغير قبل الألف، والألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحًا؛ فكانت تتحرك، وياء التصغير لا تكون إلا ساكنة، ووزنه "فَيْلى"؛ لذهاب العين منه؛ وفي تصغير الذي "اللَّذيّا" ولولا أنهما أصليتان، وإلا لما انقلبت الألف في "ذا" ياء وأدغمت في ياء التصغير، ولما ثبتت الياء في "الذي" في التصغير؛ لأن التصغير يردّ الأشياء إلى أصولها. قالوا: ولا يجوز أن يقال: "إن هذا يبطل بما إذا سميتم رجلًا بهل وبل ثم صغرتموه؛ فإنكم تزيدون فيه في التصغير ما لم يكن فيه قبل ذلك" لأنا نقول: إذا سمينا بهل وبل وما أشبه ذلك فقد نقلناه من الحرفية إلى الاسمية، فإذا صغرناه صغرناه على أنه اسم؛ فوجب أن نزيد عليه حرفا توجبه الاسمية، بخلاف تصغير "الذي، وذا" لأنا إنما نصغرهما1 على معناهما الذي وُضِعا له؛ فبان الفرق بينهما. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إن الألف والياء يحذفان في التثنية في نحو ذان واللذان، فدلّ على زيادتهما" قلنا: ذان واللذان ليس ذلك تثنية على حد قولهم: "زيد وزيدان، وعمرو وعمران" وإنما ذلك صيغة مرتَجَلة للتثنية، كما أن "هؤلاء" صيغة مرتجلة للجمع. والذي يدل على ذلك أنه لو كان ذلك تثنية على حدّ قولهم "زيد وزيدان، وعمرو وعمران" لوجب أن يجوز عليه دخول الألف واللام كما يقال: الزيدان، والعمران، فلما لم يجز عليهما دخول الألف واللام فيقال الْذَان واللَّذَان2 دلّ على أنه صيغة مرتجلة للتثنية في أول أحواله بمنزلة "كِلا" وكذلك حكم كل اسم لا يقبل التنكير. وإنما لم يجز تثنيتهما على حد قولهم: "زيد وزيدان، وعمرو وعمران" لأن التثنية ترد الاسم المعرفة إلى التنكير، والأسماء الموصولة وأسماء الإشارة والأسماء المضمرة لا تقبل التنكير، إلا أنهم لما قصدواتثنيتهما عاملوها ببعض ما يكون في التثنية الحقيقية؛ فأدخلواعليها حرف التثنية، فوجود حرف التثنية في اللفظ بمنزلة تاء التأنيث في "غرفة، وقربة" فكما أن التأنيث في "غرفة وقربة" لفظي لا معنوي؛ فكذلك ههنا: التثنية لفظية لا معنوية. وقولهم: "لو كان الأمر كما زعمتم لكان ينبغي أن لا تحذف الألف والياء من ذا والذي كما لا تحذف الياء من عمي وشجي" قلنا: هذا باطل، وذلك من وجهين:

_ 1 في ر "لأنا إنما تصغيرهما على معناهما" تحريف. 2 الأول تثنية "ذا" والثاني تثنية "الذي" مقرونين بأل.

أحدهما: أن تثنية عمي وشجي على حدّ تثنية زيدان وعمران، بخلاف "ذا، والذي" على ما بينّا. والثاني: أن ياء شجي وعمي يدخلها النصب، نحو "رأيت عميًا وشجيًا" بخلاف الياء في "الذي" فإنها لا يدخلها النصب، بل يلزمها السكون أبدًا؛ فبان الفرق بينهما. وأما قولهم: "إن الاسم هو الذال وحدها وما زيد عليها تكثير لهما" قلنا: لو كان كما زعمتم لكان ينبغي أن يقتصر في "الذي" على زيادة حرف واحد، كما زدتم في "ذا" فأما زيادة أربعة أحرف فهذا ما لا نظير له في كلامهم، على أنَّا قد بيّنَّا فساد كونها زائدة. وأما قولهم: "الدليل على أن الأصل فيهما السكون نحو قول الشاعر: [425] فَظَلْتُ في شَرٍّ مِنَ اللَّذْ كِيدَا ... كاللَّذْ تَزَبَّى زُبْيَةً فَاصْطِيدَا قلنا: لو جاز أن يستدل بهذه اللغة على أن الأصل فيها السكون لجاز لآخر أن يستدل على أن الأصل فيها الحركة باللغات الأخر؛ فإن فيها أَرْبَعَ لُغَاتٍ: إحداها "الذي" بياء ساكنة وهي أفصح اللغات، والثانية "الذي" بياء مشددة كما قال الشاعر: [426] وليس المال فاعلمه بمالٍ ... من الأقوام، إلا للَّذِيِّ يريد به العلاءَ ويَمْتَهِنْهُ ... لأقرب أَقْرَبِيهِ وللقَصِيِّ

_ [426] هذان البيتان أنشدهما ابن منظور "ل ذ ي" من غير عزو، وهما من شواهد رضي الدين في باب الموصول من شرح الكافية، وقد شرحهما البغدادي في الخزانة "2/ 497" وقد رواهما ابن الشَّجَرِي في المجلس الرابع والسبعين من أماليه، ويروى "ينال به العلاء" ويروى "ويصطفيه" ومعناه يختاره، ويمتهنه في رواية المؤلف بمعنى يهينه، وهو مجزوم بلام أمر مقدرة -أي وليمتهنه- للضرورة، وقوله "لأقرب" متعلق بيصطفيه أو بيمتهنه، والقصيّ: البعيد، يقول: ليس المال على وجه الحقيقة بمملوك لأحد من الناس إلا لرجل يريد به أن يبلغ أعلى درجات الرفعة وعلو القدر ويختاره ليعطي منه القريب والبعيد من غير تفرقة. ومحل الاستشهاد من البيتين قوله "للذي" حيث وردت هذه الكلمة بذال مكسورة وياء مشددة مكسورة، وكسر هذه الياء كسرة بناء وليست الكسرة التي تقتضيها اللام في الاسم المعرب، وذلك لأن الموصولات كلها مبنية لشبهها بالحرف شبهًا افتقاريًّا، وتشديد الياء في "الذي" وفي "التي" لغة من لغات العرب، وقد مضت لغة أخرى في الشواهد 422-425 وستأتيك لغة أخرى في الشاهد 427 فإذا ضممت هذه اللغات إلى اللغة الأصلية -هي ثبوت الياء ساكنة- كانت أربع لغات، والمؤلف بصدد تعدادها.

والثالثة "اللَّذِ" بكسر الذال من غير ياء، كما قال الشاعر: [427] اللَّذِ لَوْ شَاءَ لَكَانَتْ بَرَّا ... أو جَبَلًا أصمَّ مُشْمَخِرًّا والرابعة "اللذ" بسكون الذال، وبل أولى؛ فإن "اللذ" بسكون الذال أقل في الاستعمال من "الذي" وغيرها من اللغات، فإذا لم يعتبر الأكثر في الاستعمال فأولى أن لا يعتبر الأقل، والله أعلم.

_ [427] هذان بيتان من الرجز المشطور، وهما من شواهد رضي الدين في باب الموصول من شرح الكافية، وقد شرحهما البغدادي في الخزانة "2/ 498" ويروى البيتان هكذا. والذ لو شاء لكنت صخرا ... أو جبلا أشم مشمخرا وقد قال قوم من العلماء: إن الضمير المستتر في "لكانت" في رواية المؤلف عائد على الدنيا، وإن البرّ في هذه الرواية بفتح الباء ضد البحر، والمعنى: هو الذي لو شاء أن تكون الدنيا كلها برًا لكانت برًّا ولو شاء أن تكون كلها جبلا لكانت جبلا، والأصم بالصاد، ويروى "أشم" والأشم: العالي المرتفع، والمشمخر: البالغ في الغاية في الارتفاع، أو الراسخ. ومحل الاستشهاد من هذين البيتين قوله "اللذ" فقد وردت الرواية فيه بكسر الذال مع حذف الياء ووزن البيت لا يستقيم إلا بتحرك الذال، ولم ينقل أنها تحرك بغير الكسر، فدل ذلك على أن من العرب من ينطق بهذه الكلمة على هذا الوجه، ونظير ذلك في "التي" قول الشاعر: شغفت بك اللت تيمتك؛ فمثل ما ... بك ما بها من لوعة وغرام قال ابن منظور في "ل ذ ي": "الذي" اسم مبهم، وهو مبني معرفة، ولا يتم إلا بصلة، وأصله لذي، فأدخل عليه الألف واللام، ولا يجوز أن ينزعا منه، وقال ابن سيده: الذي من الأسماء الموصولة ليتوصل بها إلى وصف المعارف بالجمل، وفيه لغات: الذي، والذ -بكسر الذال- والذ -بإسكان الذال- والذي -بتشديد الياء- ثم أنشد البيتين رقم 426 ا. هـ، وقال كلاما نظير هذا عن التي في "ل ت ي" وقال ابن يعيش: "أما الذي فيقع على كل مذكر من العقلاء وغيرهم، وفيها أربع لغات، قالوا: الذي -بياء ساكنة- وهو الأصل فيها، واللذ -بكسر الذال من غير ياء- كأنهم حذفواالياء تخفيفا إذ كانت الكسرة قبلها تدل عليها، فعلواذلك كما قالوا: يا غلام ويا صاحب -بالكسرة- بالكسرة اجتزاء بها عن الياءِ، الثالثة: الذ -بسكون الذال- ومجازه أنهم لما حذفواالياء اجتزاء بالكسرة منها أسكنواالذال للوقف ثم أجرواالوصل مجرى الوقف، وهو من قبيل الضرورة، وعند الكوفيين قياس لكثرته، الرابعة: الذي -بتشديد الياء، للمبالغة في الصفة، كما قالوا: أحمري، وأصفري، وكما قال: والدهر بالإنسان دواري وليس منسوبا" ا. هـ، وإذا ثبت بالنقل الصحيح أن في هذه الكلمة عدة لغات وأن العرب قد تكلموابها كلها لم تكن إحدى هذه اللغات بأن تكون أصلًا وغيرها فرعًا عنها بأولى مما عداها.

مسألة الحروف التي وضع عليها الاسم في "هو" و"هي"

96- مسألة: [الحروف التي وضع عليها الاسم في "هو" و"هي"] 1 ذهب الكوفيون إلى أن الاسم من "هو، وهي" الهاء وحدها. وذهب البصريون إلى أن الهاء والواو من "هو" والهاء والياء من "هي" هما الاسم بمجموعهما. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن الاسم هو الهاء وحدها دون الواو والياء أن الواو والياء تحذفان في التثنية، نحو "هما" ولو كانتا أصلًا لما حذفتا. والذي يدل على ذلك أنهما تحذفان في حالة الإفراد أيضا وتبقى الهاء وحدها، قال الشاعر، وهو العُجَير السَّلُولِي جاهلي: [333] فَبَيْنَاهُ يَشْرِي رَحْلَهُ قال قائل: ... لمن جَمَلٌ رِخْوُ المِلَاطِ نَجِيبُ أراد "بَيْنَا هو" وقال الآخر: [428] بَيْنَاهُ في دار صدق قد أقام بها ... حينًا يُعَلّلُنَا وما نُعَلِّلُهُ أراد "بَيْنَا هو" وقال الآخر: [429] إِذَاهُ سِيمَ الخَسْفَ آلَى بِقَسَمْ ... بالله لا يأخذ إلا ما احْتَكَمْ

_ [428] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 12" ولم يعزه، ولا عزاه الأعلم، وقد رويناه لك في شرح الشاهد 333 السابق في المسألة "رقم 70" وبينا علته عند سيبويه ومن نحا منحاه، وهو ههنا مرويّ على لسان الكوفيين، يستدلون به على أن أصل "هو" الهاء وحدها، بدليل سقوطها هذا في هذا الشاهد وأمثاله، فإن المعروف أن سقوط الحرف من الكلمة دليل على أنه زائد، وهو كلام غير مستقيم، لأن "هو" ضمير منفصل مستقل بنفسه يجري مجرى الظاهر، فلا يكون على حرف واحد، ولأن لزوم الحرف وسقوطه إنما يستدل به في تصريف الكلمات، وقد عرف أن التصريف لا يدخل الضمائر ونحوها من الأسماء غير المتمكنة. [429] هذان بيتان من مشطور الرجز، وقد أنشدهما ابن منظور عن الكسائي "20/ 366" ولم =

أراد "إذا هو" وقال الآخر: [430] دارٌ لِسُعْدَى إذْهِ مِنْ هَوَاكَا

_ = يعزهما إلى قائل معيّن، والرواية عنده في صدر الأول "إذاه سام الخسف" وتقول: سام فلان فلانا الخسف، إذا أراد إذلاله وظلمه، وقال الأعشى. إذ سامه خطتي خسف فقال له: ... أعرض على كذا أسمعهما حار وآلى: حلف، والقسم: اليمين، ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "إذاه" فإنه أراد أن يقول "إذا هو" فلما لم يتيسر له ذلك حذف الواو، والكوفيون يستدلون بهذا البيت ونحوه على أن أصل "هو" و"هي" الهاء وحدها، وأما الواو في "هو" والياء في "هي" فحرفان زائدان قصد بهما دعم الهاء، والبصريون يقولون: إن الواو والياء حرفان وضع كل واحد منهما مع الهاء ليكون كل من "هو" و"هي" ضميرًا منفصلًا، وإن حذف الواو من "هو" وحذف الياء من "هي" لا يدل على زيادتها، لأن أقصى ما يدل عليه الحذف أن يكون لغة من لغات العرب يلجأ إليها من لا يستطيع أن يأتي بالكلمة على أصلها الذي وضعت عليه عند جمهور العرب، وقد يكون ذلك الذي فعله الشاعر في هذا البيت ضرورة من ضرورات الشعر، والضرورات لا يستدل بها على أحكام العربية ولا تبنى عليها قواعد تجعل أسسًا للكلام المتلئب، قال ابن منظور "قال الكسائي: هو: أصله أن يكون على ثلاثة أحرف مثل أنت، فيقال: هو فعل كذا -أي بتشديد الواو مفتوحة- وقد ورد في قول الشاعر: وإن لساني شهدة يشتفي بها ... وهو على من صبه الله علقم ومن شواهد تشديد الياء من "هي" قول الشاعر: والنفس ما أمرت بالعنف آبية ... وهي إن أمرت باللطف تأتمر قال: ومن العرب من يخففه فيقول: هو فعل كذا، أي بإسكان الواو -قال اللحياني: وحكى الكسائي عن بني أسد وتميم وقيس: هو فعل ذلك، بإسكان الواو، وأنشد لعبيد: وركضك لولا هو لقيت الذي لقوا ... فأصبحت قد جاوزت قومًا أعاديا قال الكسائي: وبعضهم يلقي الواو من هو إذا كان قبلها ألف ساكنة، فيقول: حتاه فعل ذلك، وإنماه فعل ذلك، وأنشد أبو خالد الأسدي: إذاه لم يؤذن له لم ينبس قال: وأنشدني خشاف: إذاه سيم الخسف.... البيتين ثم أنشد الشاهد 333 ثم قال: وقال ابن جني: إنما ذلك لضرورة الشعر، ولتشبيه الضمير المنفصل بالضمير المتصل في عصاه وفتاه" ا. هـ. [430] هذا بيت من مشطور الرجز، وقبله: هل تعرف الدار على تبراكا وهو من شواهد سيبويه "1/ 9" ورضي الدين في باب المصدر وباب الموصول من شرح الكافية، وقد شرحه البغدادي في الخزانة "1/ 277 و2/ 399" وابن يعيش في شرح المفصل "ص417" وابن جني في الخصائص "1/ 89" وتبراك -بكسر التاء وسكون الباء =

أراد "إذ هي" فحذف الياء؛ فدل على أن الاسم هو الهاء وحدها، وإنما زادواالواو والياء تكثيرًا للاسم، كراهية أن يبقى الاسم على حرف واحد، كما زادواالواو في قولهم: "ضربتهُو، وأكرمتهُو" وإن كانت الهاء وحدها هي الاسم، فكذلك ههنا. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن الواو والياء أصل أنه ضمير منفصل، والضمير المنفصل لا يجوز أن يبنى على حرف واحد؛ لأنه لا بد من الابتداء بحرف والوقف على حرف؛ فلو كان الاسم هو الهاء وحدها لكان يؤدِّي إلى أن يكون الحرف الواحد ساكنًا متحركًا، وذلك محال؛ فوجب أن لا تكون الهاء وحدها1 هي الاسم. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إن الواو والياء تحذفان في التثنية نحوهما" قلنا: إن "هما" ليس بتثنية على حدّ قولك في زيدٍ زيدان وعمرو عمران، وإنما هما صيغة مرتجلة للتثنية كأنتما، ألا ترى أنه لو كان تثنية على حدّ قولهم "زيدان، وعمران" لقالوافي تثنية هو "هُوانِ" وفي تثنية أنت "أنتان" ولكان يجوز أن يدخل عليهما الألف واللام فيقال "الهُوَان، والأَنْتَانِ" كما يقال:

_ = الموحدة –اسم موضع بعينه. ومحل الاستشهاد قوله "إذه" فقد ادعى الكوفيون أن مجيء الهاء وحدها مرادًا بها "هي" يدل على أن الياء في "هي" زائدة، وأن أصل الكلمة الهاء وحدها، والبصريون يردون ذلك ويأبونه، وهم في الرد عليهم ينهجون أحد منهجين، الأول أن يقولوا: إن مجيء الهاء وحدها في مكان "هي" و"هو" ضرورة من الضرورات التي تباح للشاعر إذا ألجأه قصد إقامة الوزن أو الرويّ، أما في حال السعة والاختيار فلا يجوز ذلك، وهذا المنحى هو الذي انتحاه شيخ البصريين سيبويه رحمه الله، ومنهم من حكى في "هو" و"هي" لغات يتكلم بكل واحدة منها قبيلة أو أكثر من قبائل العرب، وهذا هو المنحى الذي انتحاه الكسائي فيما نقلناه عن ابن منظور عنه في شرح الشاهد السابق؛ وقد ذهب إلى مثل كلامه ابن يعيش في شرح المفصل "417" قال: وذهب الكوفيون إلى أن الاسم الهاء وحدها؛ واحتجوالذلك بحذف الياء في نحو قوله. دار لسعدى إذه من هواكا وليس في ذلك حجة؛ لأن ذلك من ضرورات الشعر، وفيها ثلاث لغات: هي بتخفيف الياء وفتحها؛ وهي بتشديد الياء مبالغة في تقوية الاسم ولتصير على أبنية الظاهر؛ وهي بالإسكان تخفيفًا؛ وينبغي أن يكون الحذف في قوله: إذه من هواكا على لغة من أسكن لضعفها؛ إذ المفتوحة قد قويت بالحركة" ا. هـ.

الزيدان، والعمران، فلما لم يقولواذلك دلّ على أنها صيغة مرتجلة للتثنية، وعلى أنه لو كان الأمر كما زعمتم فليس لكم فيه حجة؛ لأن الحرف الأصلي قد يحذف لعلة عارضة، ألا ترى أن الياء تحذف في الجمع في نحو قولهم: "قاضُون، ورامُون" والأصل قاضِيُون، ورامِيُون، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت الضمة عنها؛ فبقيت الياء ساكنة وواو الجمع ساكنة، فاجتمع ساكنان، وساكنان لا يجتمعان؛ فحذفت الياء لالتقاء الساكنين وإن كانت أصلية لعلة عارضة، فكذلك ههنا، والعلة ههنا في إسقاطهما أن الواو التي قبل الميم في التثنية والجمع يجب أن تكون مضمومة، والضمة في الواو مستثقلة؛ فلذلك سقطت، وإنما وجب أن تكون مضمومة لأنها لو كسرت لكان ذلك مستثقلًا من وجهين. أحدهما: لأنه خروج من ضم إلى كسر، وذلك مستثقل، ولهذا ليس في الأسماء ما هو على وزن فُعِل إلا "دُئِل" اسم دُوَيْبَّة و"رُئِم" اسم للسَّهِ، وهما في الأصل فعلان نقلا إلى الاسمية، وحكى بعضهم "وُعِلٌ" في الوَعِل. والثاني: أن الكسرة تستثقل على الواو أكثر من استثقال الضمة عليها؛ ولهذا تضم لالتقاء الساكنين في نحو قوله: {اشْتَرَواالضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] ولا تكسر إلا على وجه بعيد، ولو بقيت الواو من "هو" كما كانت مفتوحة وقد زيد عليها الميم والألف لَتُوُهِّمَ أنها حرفان منفصلان؛ فوجب أن تغير الحركة التي كانت مستعملة في الواحد إلى الضم كما غيرت في "أنتما" ووجب أيضا ذلك في "أنتما" لأنها لو فتحت وكسرت لجاز أن يتوهم أنها كلمتان منفصلتان، فاجتلبواحركة لم تكن في الواحد لتدل على أنها كلمة واحدة، وأَجْرُواجميع المضمر في التثنية والجمع هذا المُجْرَى. وقيل: إنما ضُمَّتْ التاء في التثنية حملا على الجمع؛ لأنها في التقدير كأنها وليت الواو في "أنتمو" وإنما حملت التثنية على الجمع ليشتركا في ذلك كما اشتركا في الضمير في "نحن" وزيدت الميم في التثنية لوجهين: أحدهما: أن التثنية أكثر من الواحد، وفي المضمرات ما هو على حرف واحد، فكثر اللفظ كما كثر العدد؛ فلذلك زيد في التثنية حرف، وحمل جميع المضمرات عليه. والثاني: أن القافية فيه إذا كانت مطلقة وحرف الرويّ مفتوح وُصِلَ بالألف، ولهذا يسمى ألف الوصل والصِّلَة، قال الشاعر: [204] يا مُرَّ يا بن واقعٍ يا أَنْتَا ... أنت الذي طَلّقْتَ عَامَ جُعْتَا

وقال الآخر: [431] أخوك أخو مُكَاشَرَةٍ وضِحْكٍ ... حَيَّاكَ الإلهُ وكيف أَنْتَا فلو لم يزيدواالميم لالتبس الواحد بالتثنية؛ فزادواالميم كراهية الالتباس؛ فكانت الميم أولى بالزيادة لأنها من زوائد الأسماء، فلذلك كانت أولى بالزيادات. وأما ما أنشدوه من قول الشاعر: [333] فبيناه يشري رحله.... [428] وبيناه في دار صدق.... [429] وإذاه سيم الخسف.... [430] ودار لسعدى إذه من هَوَاكَا فإنما حذفت الواو والياء لضرورة الشعر، كقول الشاعر: [432] فَلَسْتَ بِآتِيهِ ولا أستطيعه ... ولك اسقِنِي إن كان ماؤك ذا فَضْلِ

_ [431] المكاشرة: الضحك حتى تبدو الأسنان، تقول: كشر الرجل يكشر -مثل جلس يجلس- كشرا، وانكل، وافتر -بتضعيف لامهما- أي تبسم، وقال الشاعر: وإنّ من الإخوان إخوان كشرة ... وإخوان كيف الحال والبال كله الكشرة -بوزن العشرة والهجرة- مثل المكاشرة، نظير الهجرة والمهاجرة والعشرة والمعاشرة. والضحك في بيت الشاهد -بكسر الضاد وسكون الحاء، وقوله "وحياك الإله" يريد لفظ الجملة، يعني أن أخاك رجل حسن الصحبة رفيق في معاملة إخوانه يقبل عليهم بوجه طلق وسن ضاحك يحييهم، وقوله "فكيف أنتا" يريد هل أنت على غرار أخيك؟ وما حالك مع إخوانك؟ ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "كيف أنتا" حيث ألحق الألف للضمير المنفصل الذي لخطاب الواحد المذكر عند الوقف عليه، فلو لم نزد الميم قبل الألف في الضمير المنفصل الذي لخطاب الاثنين واكتفينا بزيادة الألف فقلنا "أنتا" لكان يلتبس خطاب الواحد بخطاب الاثنين، فلما قلنا في خطاب المثنى "أنتما" بزيادة الميم قبل الألف ارتفع اللبس. [432] هذا البيت من كلمة في وصف ذئب، للنجاشي الحارثي، واسمه قيس بن عمرو بن مالك، وقد اختار هذه الكلمة الشريف المرتضى في أماليه "2/ 211" والشريف ابن الشجري في حماسته "ص207 ط الهند" والبيت من شواهد سيبويه "1/ 9" وابن جني في الخصائص "1/ 310" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 485" وفي أوضح المسالك "رقم 100" والأشموني "رقم 257" والرضي في باب الحروف المشبهة بالفعل، وشرحه البغدادي "4/ 367" وقبل البيت المستشهد به قوله: وماء كلون الغسل قد عاد آجنا ... قليل به الأصوات في بلد محل وجدت عليه الذئب يعوي كأنه ... خليع خلا من كل مال ومن أهل =

أراد "ولكِنِ اسقني" فحذف النون لضرورة الشعر، وكقول الآخر: [433] أَصَاحٍ تَرَى برقًا أُرِيكَ وَمِيضَهُ ... كَلَمْعِ اليَدَيْنِ في حَبِيِّ مُكَلَّلِ

_ = فقلت له: يا ذئب، هل لك في فتى ... يواسي بلا من عليك ولا بخل؟ فقال: هداك الله للرشد! إنما ... دعوت لما لم يأته سبع مثلي ومحل الاستشهاد في البيت قوله "ولاك اسقني" وأصل العبارة "ولكن اسقني" فالتقى فيها ساكنان: نون لكن، وسين اسقني، وكان الأصل في التخلص من هذين الساكنين أن يكسر نون لكن، ولكن الشاعر حذفها هنا للتخلص من التقاء الساكنين حين اضطر لإقامة الوزن؛ قال الأعلم "حذف النون من لكن لاجتماع الساكنين ضرورة لإقامة الوزن وكان وجه الكلام أن يكسر لالتقاء الساكنين، شبهها في الحذف بحروف المد واللين إذا سكنت وسكن ما بعدها، وذلك نحو يغز العدو، ويقض الحق، ويخش الله، ولما استعمل محذوفًا نحو لم يك ولا أدر" ا. هـ. [433] هذا البيت هو البيت السبعون من معلقة امرئ القيس بن حجر الكندي "انظر شرح التبريزي ص69" والبيت من شواهد سيبويه "1/ 335" ولكنه روى صدره "أحار ترى برقا" وابن جني في الخصائص "1/ 96" ولكنه روى صدره "أعني على برق أريك وميضه" و"حار" في رواية سيبويه يريد به "حارث" فحذف الثاء، و"صاح" في رواية المؤلف يريد به "صاحبي" فحذف ياء المتكلم وحذف آخر المضاف أيضا، وترى: يريد أترى -بهمزة الاستفهام- إلا أنه لما كان حرف الاستفهام في صورة حرف النداء الذي استعمله وهو الهمزة، وكان حرف النداء يؤدّي من التنبيه وتحريك المخاطب مثل ما يؤديه حرف الاستفهام اكتفى بحرف النداء والوميض -بفتح الواو- اللمع، والحبي -بفتح الحاء وتشديد الياء- وهو السحاب المعترض بالأفق، والمكلل: المتراكب بعضه فوق بعض، وقوله: "في حبي" متعلق بوميضه. ومحل الاستشهاد في رواية المؤلف قوله "أصاح" فإن هذه الكلمة مؤلفة من حرف النداء وهو الهمزة ومنادى مضاف لياء المتكلم وقد رخّمه الشاعر بحذف ياء المتكلم، وحذف حرف من أصل الكلمة، وأصله صاحبي، ونظيره في ذلك قول الشاعر: صاح هل ريت أو سمعت براع ... رد في الضرع ما قرى في العلاب وقول الآخر: صاح شمر، ولا تزال ذاكر المو ... ت؛ فنسيانه ضلال مبين وجاء على هذا الغرار قول أبي العلاء المعرى: صاح هذي قبورنا تملا الرحـ ... ـب فأين القبور من عهد عاد؟ يريد هؤلاء الشعراء "يا صاحبي" فحذفواياء المتكلم، ثم استتبعواذلك الحذف حذف الياء التي هي آخر حروف الكلمة الأصلية، وقد حذفوامع ذلك حرف النداء وهذا الترخيم شاذ، ولا يكون مثله عند البصريين إلا في ضرورة الشعر، لما علمت "في المسألة 48" من أنهم لا يجيزون ترخيم الاسم المضاف، فارجع إلى المسألة التي أحلناك عليها لتعلم حقيقة الأمر.

أراد "صاحبي" فحذف الباء والياء؛ فكذلك ههنا، وبل أولى، وذلك من وجهين: أحدهما: أن الواو والياء حرفا علة، والنون من "لكن" والباء من "صاحب" حرف صحيح، والمعتل أضعف من الصحيح؛ فإذا جاز حذف الأقوى لضرورة الشعر فحذف الأضعف أولى. والثاني: أنه قد حذف حرفين للضرورة -وهما الباء والياء من صاحبي- وإذا جاز حذف حرفين للضرورة فحذف حرف واحد أولى. وأما قولهم: "إنهم زادواالواو والياء تكثيرًا للاسم، كما زادواالواو في ضَرَبْتُهُو" قلنا: هذا فاسد؛ لأن "هو" ضمير المرفوع المنفصل، والهاء في "ضربتهو" ضمير المنصوب المتصل، وقد بينَّا أن ضمير المرفوع المنفصل لا يجوز أن يكون على حرف واحد، بخلاف ضمير المنصوب المتصل؛ لأن ضمير المرفوع المنفصل يقوم بنفسه؛ فلا بد من حرف يبتدأ به وحرفٍ يوقف عليه، بخلاف ضمير المنصوب المتصل؛ لأنه لا يقوم بنفسه، ولا يجب فيه ما وجب في ضمير المرفوع المنفصل. والذي يدل على أنها ليست كالواو في "أكْرَمْتُهُو" أنه لا يلزم تسكنيها كما يلزم تسكينها في "أكرمتهو" ولا يجوز تحريك الواو في "أكرمتهو" كما يجوز في "هو قائم" ولو كانا بمنزلة [واحدة] لوجب أن يُسَوَّى بينهما في الحكم، والله أعلم.

_ = وأما في رواية سيبويه فالاستشهاد به في قوله "أحار" حيث أراد "يا حارث" فرخم بحذف الثاء، وهو عند سيبويه قليل بالنسبة لترك الترخيم، قال "واعلم أن الأسماء التي ليس في أواخرها هاء ألا يحذف منها أكثر؛ لأنهم كرهواأن يخلوابها فيحملواعليها حذف التنوين وحذف حرف لازم للاسم لا يتغير في الوصل ولا يزول، وإن حذفت فحسن، وليس الحذف لشيء من هذه الأسماء ألزم منه لحارث ومالك وعامر، وذلك لأنهم استعملوها كثيرًا في الشعر وأكثرواالتسمية بها للرجال" ا. هـ. ومن ترخيم حارث -غير بيت الشاهد- قول مهلهل بن ربيعة: يا حار لا تجهل على أشياخنا ... إنا ذوو الثورات والأحلام وقول الآخر: يا حار لا أرمين منكم بداهية ... لم يلقها سوقة قبلي ولا ملك

مسألة القول في هل يقال: "لولاي" و"لولاك"؟ وموضع الضمائر

97- مسألة: [القول في هل يقال "لَوْلَايَ" و"لَوْلَاكَ"؟ وموضع الضمائر] 1 ذهب الكوفيون إلى أن الياء والكاف في "لولاي، ولولاك2" في موضع رفع، وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش من البصريين. وذهب البصريون إلى أن الياء والكاف في موضع جرٍّ بلولا. وذهب أبو العباس المُبَرِّد إلى أنه لا يجوز أن يقال "لولاي، ولولاك" ويجب أن يقال "لولا أنا، ولولا أنت" فيؤتى3 بالضمير المنفصل كما جاء به التنزيل في قوله: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31] ولهذا لم يأتِ في التنزيل إلا منفصلًا. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن الياء والكاف في موضع رفع لأن الظاهر الذي قام الياء والكاف مقامه رَفْعٌ بها على مذهبنا، وبالابتداء على مذهبكم؛ فكذلك ما قام مقامه. قالوا: ولا يجوز أن يقال "هذا يبطل بعسى؛ فإن عسى تعمل في المظهر الرفع وفي المكنيِّ النصب" لأنا نقول: الجواب على هذا من ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنا لا نسلم أنها تنصب المكني، وإنما هو في موضع رفع بعسى، فاستعير للرفع لفظ النصب في عسى، كما استعير لفظ الجر في "لولاي، ولولاك" وإليه ذهب الأخفش من أصحابكم. والوجه الثاني: أن الكاف في موضع نصب بعسى، وأن اسمها مضمر فيها، وإليه ذهب أبو العباس المُبَرِّد من أصحابكم. والوجه الثالث: أنا نسلم4 أنه في موضع نصب، ولكن لأنها حملت على "لعلَّ" فجعل لها اسم منصوب وخبر مرفوع، وهو ههنا مقدر، وإنما حملت على "لعلَّ" لأنها في

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح ابن يعيش على المفصل "ص437" وشرح الكافية للرضي "2/ 18" وشرحنا المطول على شرح الأشموني "3/ 192-199" وشرح الأشموني بحاشية الصبان "2/ 181". 2 ومثل الكاف التي للمخاطب والياء التي للمتكلم الهاء التي للغائب في نحو "لولاه". 3 في ر "فيأتي". 4 في مطبوعة أوروبا "والوجه الثالث أنا لا نسلم.... إلخ" وزيادة لا واضحة.

معناها، ألا ترى أن "عسى" فيها معنى الطمع، كما أن لعل فيها معنى الطمع، فأمَّا "لولا" فليس في حروف الخفض ما هو بمعناه فيحمل عليه، فبان الفرق بينهما، ولأنه لو كان المكني في موضع خفض لكنا نجد اسمًا ظاهرًا مخفوضًا بلولا؛ لأنه ليس في كلام العرب حرف يعمل الخفض في المكني دون الظاهر؛ فلو كانت مما يخفض لما كان يخلو أن يجيء ذلك في بعض المواضع أو في الشعر الذي يأتي بالمستجاز، وفي عدم ذلك دليل على أنه لا يجوز أن تخفض اسمًا ظاهرًا ولا مضمرًا؛ فدل على أن الضمير بعد "لولاك" في موضع رفع. يدل عليه أن المكنيّ كما يستوي لفظه في النصب والخفض نحو "أكرمتك، ومررت بك" فقد يستوي لفظه أيضا في الرفع والخفض نحو "قمنا، ومر بنا" فيكون لفظ المكنيّ في الرفع والخفض واحدًا، وإذا كان كذلك جاز أن تكون الكاف في موضع "أنت" رفعًا. قالوا: ولا يجوز أن يقال "لو كان الرفع محمولًا على الجر في لولاك لوجب أن يُفْصَلَ بين المكنيّ المرفوع والمجرور في المتكلم كما فصل بين لفظ المكني المنصوب والمجرور في المتكلم نحو: أكرمني، ومرّ بي: لأنّا نقول: النون في المنصوب لم تدخل لتفصل بين المكني المنصوب والمكني المخفوض، وإنما دخلت النون في المكني المنصوب لاتصاله بالفعل؛ فلو لم يأتوابهذه النون لأدّى ذلك إلى أن يكسر الفعل لمكان الياء؛ لأن ياء المتكلم لا يكون ما قبلها إلا مكسورا؛ والفعل لا يدخله الكسر؛ لأنه إذا لم يدخله الجر -وهو غير لازم؛ استثقالًا له- فلأن لا يدخله الكسر الذي هو لازم استثقالًا له كان ذلك من طريق الأولى. وأما المكني المخفوض فلم تدخله هذه النون لأنه يتصل بالحرف، والحرف لا يلزم أن تدخل عليه هذه النون، و"لولا" حرف؛ فلهذا المعنى لم تدخل عليه هذه النون. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن المكني في "لولاي، ولولاك" في موضع جر لأن الياء والكاف لا تكونان علامة مرفوع، والمصير إلى ما لا نظير له في كلامهم محال؛ ولا يجوز أن يتوهم أنهما في موضع نصب؛ لأن "لولا" حرف، وليس بفعل له فاعل مرفوع فيكون الضمير في موضع نصب، وإذا لم يكن في موضع رفع ولا نصب وجب أن يكون في موضع جر. قالوا: فلا يجوز أن يقال: "إذا زعمتم أن لولا تخفض الياء والكاف فحروف الخفض لا بد أن تتعلق بفعل فبأي فعل تتعلق؟ " لأنا نقول: قد تكون الحروف في موضع مبتدأ لا تتعلق بشيء كقولك "بحسبك زيد" ومعناه حسبك، قال الشاعر: [100] بحسبك في القوم أن يعلموا ... بأنك فيهم غني مضرّ

وكقولهم: "هل من أحد عندك" أي هل أحد عندك؟ قال الله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] أي ما لكم إله غيره، ولهذا كان {غَيْرُهُ} مرفوعًا في قراءة من قرأ بالرفع؛ فموضعها رفع بالابتداء وإن كانت قد عملت الجر، وكذلك "لولا" إذا عملت الجر صارت بمنزلة الباء في "بحسبك" ومن في "هل من أحد عندك" ولا فرق بينهما. والصحيح ما ذهب إليه الكوفيون. وأما الجواب عن كلمات البصريين: أما قولهم: "إن الياء والكاف لا يكونان علامة مرفوع" قلنا: لا نسلم؛ فإنه قد يجوز أن تدخل علامة الرفع على الخفض، ألا ترى أنه يجوز أن يقال "ما أنا كأنت" وأنت: من علامات المرفوع، وهو ههنا في موضع مخفوض، فكذلك ههنا؛ الياء والكاف من علامات المخفوض، وهما في "لولاي، ولولاك" من علامات المرفوع. والذي يدل على أن "لولا" ليس بحرف خفض أنه لو كان حرف خفض لكان يجب أن يتعلق بفعل أو معنى فعل، وليس له ههنا ما يتعلق به. قولهم: "قد يكون الحرف في موضع مبتدأ لا يتعلق بشيء" قلنا: الأصل في حروف الخفض أن لا يجوز الابتداء بها، وأن لا تقع في موضع مبتدأ، وإنما جاز ذلك نادرًا في حرف زائد دخوله كخروجه كقولهم: "بحسبك زيد، وما جاءني من أحد" لأن الحرف في نية الاطِّراح؛ إذ لا فائدة له، ألا ترى أن قولك "بحسبك زيد، وحسبك زيد" في معنى واحد، وكذلك قولك "ما جاءني من أحد، وما جاءني أحد" في المعنى واحد، فأما الحرف إذا جاء لمعنى ولم يكن زائدًا فلا بد أن يتعلق بفعل أو معنى فعل، ولولا: حرف جاء لمعنى، وليس بزائد؛ لأنه ليس دخوله كخروجه، ألا ترى أنك لو حذفتها لبطل ذلك المعنى الذي دخلت من أجله، بخلاف الباء في "بحسبك زيد" ومن في قولك "ما جاءني من أحد" فبان الفرق بينهما. ثم لو سلمنا أن الحرف مطلقا إذا وقع في موضع ابتداء لا يتعلق بشيء فلا نسلم ههنا أن الحرف في موضع ابتداء، وقد بيّنّا فساد ذلك فيما قبل. وأما إنكار أبي العباس المبرد جوازه فلا وَجْهَ له؛ لأنه قد جاء ذلك كثيرا في كلامهم، وأشعارهم، قال الشاعر: [434] وأنت امرؤ لولاي طِحْتُ كما هَوَى ... بِأَجْرَامِهِ من قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي

_ [434] هذا البيت ليزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي صاحب الشاهد رقم 111 السابق في =

...........................................................................

_ = المسألة22 من نفس القصيد التي منها الشاهد المذكور، وهذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 388" وابن يعيش في شرح المفصل "ص437" ورضي الدين في باب الضمير من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 430" والمبرد في الكامل "2/ 209" وابن جني في الخصائص "2/ 259" والأشموني "رقم 525" وابن عقيل "رقم 200" وشرحه العيني "3/ 262 بها مش الخزانة" وطحت: سقطت وهلكت، ويجوز في الطاء الضم والكسر؛ لأن عين هذا الفعل جاء بالواو وبالياء وإن كانت الياء أكثر، تقول: طاح يطوح كقال يقول، وطاح يطيح كباع يبيع، وهوى: سقط من أعلى إلى أسفل، وهو على وِزَان رمى يرمي، فأما هوي يهوى بمعنى عشق يعشق فوزانه رضي يرضى، والأجرام: جمع جرم، وجرم كل شيء جثته، والقلة ومثلا القنة -بضم القاف وتشديد ما بعدها- أعلى الجبل، والنيق -بكسر النون- أرفع موضع في الجبل، والمنهوي: الساقط. ومحل الاستشهاد من هذا البيت هنا قوله "لولاي" حيث وقع الضمير المتصل الذي أصله أن يكون في محل جر أو محل نصب بعد لولا، ولولا عند جمهرة النحاة حرف من حروف الابتداء تطلب اسمًا ظاهرًا مرفوعًا كما في قول الراجز، وهو عامر بن الأكوع رضي الله عنه: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا أو ضميرًا منفصلًا كما في قوله تعالى: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31] وقد اختلف النحاة في مثل "لولاي" أهو جائز أم لا؟ فقال أبو العباس المبرد: هو تعبير غير جائز عربية، فإن وقع في كلما فهو خطأ، وقال غيره من العلماء: هو جائز لوروده في كلام العرب المحتجّ بكلامهم، غير أنه ليس بالمنهج المطرد ولا المهيع المستمر، قال أبوسعيد السيرافي: "ما كان لأبي العباس المبرد أن يسقط الاستشهاد بشعر رجل من العرب قد روى قصيدته النحويون وغيرهم، ولا أن ينكر ما أجمع الجماعة على روايته عن العرب" هـ، ويقول أبو رجاء: وما كان لأبي العباس المبرّد أن ينكر ورود مثل هذا التعبير عن العرب، وهو يروي هذا البيت في الكامل "2/ 209 الخيرية" ويروي قبله بيتًا فيه هذا التعبير، وهو قول رجل من الخوارج لم يعينه، وهو أعشى همدان: ويوم نجي تلافيته ... ولولاي لاصطلم العسكر وقد ورد في رجز لرؤبة، وهو قوله: لولا كما قد خرجت نفساهما ورؤبة عنده أفصح العرب، وهو ممن لا تنكر فصاحته. ثم اختلف القائلون بصحة هذا التعبير، ولهم فيه ثلاث مذاهب: فذهب سيبويه رحمه الله تعالى إلى أن هذه الياء في "لولاي" والكاف في "لولاك" والهاء في "لولاه" في محل جر بلولا، ولولا حينئذ حرف جر، لا حرف ابتداء، ولا تتعلق بشيء وعنده أن لولا على وجهين: الوجه الأول تكون فيه حرف ابتداء وذلك إذا وقع بعدا الاسم الظاهر كما في رجز عامر بن الأكوع، أو وقع بعدها ضمير رفع منفصل كما في الآية الكريمة التي ترونا، والوجه الثاني أن تكون حرف جر لا يتعلق بشيء كما في هذا البيت، قال: "هذا باب ما يكون مضمرا فيه الاسم متحولا عن حاله إذا أظهر بعده الاسم. وذلك =

وقال الآخر: [435] أَتُطْمِعُ فِينَا مَنْ أَرَاقَ دِمَاءَنَا ... ولولاك لم يَعْرِضْ لأحْسَابِنَا حَسَنْ

_ = لولاك ولولاي، إذا أضمرت فيه الاسم جر، وإذا أظهرت رفع، ولو جاءت علامة الإضمار على القياس لقلت: لولا أنت، كما قال سبحانه {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31] ولكنهم جعلوه مضمرا مجرورا، والدليل على ذلك أن الياء والكاف لا تكونان علامة مضمر مرفوع، قال الشاعر: وكم موطن لولاي.. البيت وهذا قول الخليل ويونس" ا. هـ كلامه. والمذهب الثاني: مذهب الأَخْفَش والفَرَّاء، وحاصله أن الياء والكاف والهاء في محل رفع بالابتداء، ولولا حرف ابتداء على حالها، وليس لها إلا حال واحدة، ولكن العرب وضعت ضمير الجر في موضع ضمير الرفع، كما عكسوا فوضعوا ضمير الرفع، في موضع ضمير الجر فقالوا: ما أنا كأنت ولا أنت كأنا. والمذهب الثالث: مذهب الكسائي، وتلخيصه أن الاسم المرتفع بعد "لولا" فاعل بفعل محذوف يدل عليه المقام، وتقدير الكلام: لو لم يكن فعلي، وذلك لأن "لولا" عنده تختص بالفعل، ولم أجد نصًّا صريحًا عنه يمنع وقوع الضمير المتصل بعد لولا أو يجيزه، إلا ما ذكره ابن يعيش استنباطًا في شرح مذهبه حيث يقول "وأما الكسائي فكان يرى ارتفاع الاسم بعد لولا بفعل مضمر، معناه لو لم يكن فعلي، فعلى هذا ينبغي إذا كنى عنه أن تقول: لولا أنا، ولولا أنت، لأن الفعل لم يظهر فتتصل به كنايته، فوجب أن يكون الضمير منفصلا" ا. هـ كلامه بحروفه، وقوله: "فعلى هذا.... إلخ" استنباط من عنده بحسب الأصول والقواعد، ولعل الكسائي يجيز وضع الضمير المتصل في مكان المنفصل المرفوع كالأخفش والفراء، والفرق بينهما هو في العامل في الضمير؛ فالأخفش والفراء يريان أن العامل في الضمير هو الابتداء لأن لولا عندهما لا تكون إلا حرف ابتداء، والكسائي يرى أن العامل في الضمير الفعل المقدر؛ لأن لولا حرف يختص بالفعل فلا يقع بعده إلا الفعل لفظًا أو تقديرًا، وارجع إلى المسألة العاشرة. [435] ينسب هذا البيت إلى عمرو بن العاص يقوله لمعاوية ابن أبي سفيان في شأن الحسن بن علي، رضي الله عنهم أجمعين، وقبل البيت قوله: معاوي إني لم أبايعك فلتة ... وما زال ما أسررت مني كما علن والبيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص438" والأشموني "رقم 524" وابن عقيل "رقم 199" وشرحه العيني "3/ 260 بهامش الخزانة" ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "ولولاك" حيث وقع الضمير المتصل الذي حقه أن يكون في موضع الجر أو موضع النصب بعد لولا؛ ومجيء هذا الاستعمال في كلام العرب المحتج بكلامهم يرد أولا على أبي العبا س المبرد الذي أنكر مثل هذا الاستعمال، وللذين يجيزون هذا الاستعمال ثلاثة تخريجات ذكرناها مفصلة في شرح الشاهد السابق، فارجع إليها إن شئت.

وقال بعض العرب: [436] أَوْمَتْ بعينيها من الهَوْدَج ... لولاك هذا العام لم أَحْجُج وأما مجيء الضمير المنفصل بعده نحو "لولا أنا ولولا أنت" كما قال تعالى: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31] فلا خلاف أنه أكثر في كلامهم وأفصح، وعدم مجيء الضمير المتصل في التنزيل لا يدل على عدم جوازه، ألا ترى أنه لم يأتِ في التنزيل ترك عمل "ما" في المبتدأ والخبر نحو "ما زيد قائم، وما عمرو منطلق" وإن كانت لغة جائزة فصيحة، وهي لغة بني تميم، قال الشاعر: [437] رِكَابُ حُسَيْلٍ أَشْهُرَ الصَّيْفِ بُدَّنٌ ... ونَاقَةُ عمرو ما يُحَلَّ لها رَحْلُ ثم لم يدل عدم مجيئها في التنزيل على أنها غير جائزة ولا فصيحة؛ فكذلك ههنا، والله أعلم.

_ [436] هذا البيت من شواهد الزمخشري في المفصل وابن يعيش في شرحه "ص438" ونسبه إلى عمر بن أبي ربيعة، ولا يوجد البيت في أصل ديوانه، ولكنه موجود في زيادات الديوان أول بيتين "انظر الديوان 487 بتحقيقنا" ومن شواهد رضي الدين في شرح الكافية في باب الضمير: وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 429" ونسب قوم بيت الشاهد للعرجي -واسمه عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان- وهو مثل عمر بن أبي ربيعة أحد شعراء قريش الغزليين، وأومت: معناه أشارت، وأصله أومأت، فسهل الهمزة بقلبها ألفا من جنس حركة ما قبلها، ثم حذف هذه الألف للتخلص من التقاء الساكنين معاملة لها معاملة الألف الأصلية في نحو سعت ونهت وسقت وشفت وأبقت وأفنت وتغاضت وتراضت، وما أشبه ذلك، والهودج: مركب من مراكب النساء ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله: "لولاك" حيث وقع الضمير المتصل الذي يكون في محل الجر أو النصب بعد لولا، والقول فيه كالقول في الشاهدين السابقين فلا نطيل الحديث بعد أن فصلنا لك ذلك فيما سبق. [437] الركاب: الإبل، ولا واحد لها من لفظها، وإنما واحدها راحلة، وأشهر الصيف: مركب إضافي صدره منصوب على الظرفية، والبدن: جمع بادن، وهو الكثير اللحم العظيم البدن، ويقال بادن للمذكر والمؤنث، وربما قيل للمؤنث: بادنة، وكنى بكون ركابه بدنا عن أنها لا تعمل ولا يؤخذ منها شيء من دم أو لبن، وقابله بقوله "ما يحل لها رحل" أي أنها على سفر دائمًا، وحسل: اسم رجل وأصله ولد الثعلب، وحسيل: تصغيره. ومحل الاستشهاد من البيتين قوله: "وما أنت فرع ولا أصل" حيث أهمل "ما" النافية فلم يرفع بها الاسم وينصب الخبر، وإهمالها لغة تميم، وإعمالها لغة أهل الحجاز وهي التي وردت في القرآن الكريم في قوله سبحانه: {مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31] وقوله: جلت كلمته {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] وقد علمنا أن القرآن الكريم نزل على الرسول الكريم بلغة قومه وهم أهل الحجاز، فعدم وجود لغة أخرى فيه لا يدل على ضعف هذه اللغة المتروكة، ولا على أنه لا يجوز التكلم بها، نعم الأفصح في الاستعمال هو ما جاء في الكتاب العزيز.

مسألة الضمير في "إياك" وأخواتها

98- مسألة: [الضمير في "إياك" وأخواتها] 1 ذهب الكوفيون إلى أن الكاف والهاء والياء من "إيَّاك، وإيَّاه، وإياي" هي الضمائر المنصوبة، وأن "إيا" عماد، وإليه ذهب أبو الحسن بن كَيْسَانَ، وذهب بعضهم إلى أن "إياك" بكماله هو الضمير. وذهب البصريون إلى أن "إيا" هي الضمير والكاف والهاء والياء حروف لا موضع لها من الإعراب. وذهب الخليل بن أحمد إلى أن "إيا" اسم مضمر أضيف إلى الكاف والهاء والياء؛ لأنه لا يفيد معنى بانفراده، ولا يقع معرفة، بخلاف غيره من المضمرات؛ فخص بالإضافة عوضًا عما مُنِعَه، ولا يعلم اسم مضمر أضيف غيره. وذهب أبو العباس محمد بن يزيد المبرد إلى أنه اسم مبهم أضيف للتخصيص، ولا يعلم اسم مبهم أضيف غيره. وذهب أبو إسحاق الزجاج إلى أنه اسم مظهر خُصَّ بالإضافة إلى سائر المضمرات، وأنها في موضع جر بالإضافة. وحكي أيضًا عن الخليل بن أحمد -رحمه الله- أنه مظهر ناب مناب المضمر. وحكي عن العرب إضافته إلى المظهر في قولهم في المثل "إذا بلغ الرجل الستين فإيَّاه وإيَّا الشَّوَابُ". والذي عليه الأكثرون من الفريقين ما حكيناه عنهما أولًا. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن هذه الكاف والهاء والياء هي الكاف والهاء والياء التي تكون في حال الاتصال؛ لأنه لا فرق بينهما بوجه ما، إلا أنها لما كانت على حرف واحد وانفصلت عن العامل لم تقم بنفسها فأتى بإيّا لتعتمد الكاف2 والهاء والياء عليها؛ إذ لا تقوم بنفسها، فصارت بمنزلة حرف زائد لا يحول بين العامل والمعمول فيه. والذي يدل على ذلك لحاق التثنية والجمع لما بعد "إيا" ولزومها لفظًا واحدًا.

_ 1 انظر في هذه المسألة: تصريح الشيخ خالد الأزهري "1/ 122" وشرح الأشموني بحاشية الصبان "1/ 119" وشرح ابن يعيش على المفصل "ص418 وما بعدها" وشرح الرضي على الكافية "2/ 12". 2 في ر "لتعتمد الكاف.... إلخ".

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن "إيا" هي الضمير دون الكاف والهاء والياء، وذلك لأنا أجمعنا على أن أحدهما ضمير منفصل، والضمائر المنفصلة لا يجوز أن تكون على حرف واحد؛ لأنه لا نظير له في كلامهم؛ فوجب أن تكون "إيا" هي الضمير؛ لأن لها نظيرا في كلامهم؛ والمصير إلى ما له نظير أولى من المصير إلى ما ليس له نظير؛ ولهذا المعنى قلنا "إن الكاف والهاء والياء حروف لا موضع لها من الإعراب"؛ لأنها لو كانت معربة لكان إعرابها الجر بالإضافة؛ ولا سبيل إلى الإضافة ههنا؛ لأن الأسماء المضمرة لا تضاف إلى ما بعدها؛ لأن الإضافة تُرادُ للتعريف1، والمضمر في أعلى مراتب التعريف؛ فلا يجوز إضافته إلى غيره؛ فوجب أن لا يكون لها موضع من الإعراب. وأما قول من ذهب من البصريين إلى أنه مضمر أضيف لأنه لا يفيد معنى بانفراده، ولم يقع معرفة فجاز أن يخص بالإضافة -فباطل؛ لأن هذا الضمير ما وقع إلا معرفة، ولم يقع قَطٌّ نكرة. والذي يدل على ذلك أن علامات التنكير لا يحسن دخولها عليه، بل فيها إبهام تبينه هذه الحروف كالتاء في "أنت" فإن الضمير هو "أن" وهو مبهم، والتاء تبيّنه؛ فإن كانت مفتوحة دلّت على أنه ضمير المذكر، وإن كانت مكسورة دلّت على أنه ضمير المؤنث، فكذلك ههنا: جُعِلَتْ هذه الأحرف مبينة لذلك الإبهام مع كونه معرفة لا نكرة، وكما لا يجوز أن يقال إن "إيا" مضاف إلى التاء؛ فكذلك لا يجوز أن يقال إنَّ "إيا" مضاف إلى الكاف والهاء والياء وإذا حصلت الفائدة بهذه الأحرف لا على جهة الإضافة -ولها نظير في كلامهم- كان أولى من جعل الضمير مضافًا إليها ولا نظيرَ له في كلامهم. وهذا هو الجواب عن مذهب من ذهب إلى أنه اسم مبهم مضاف؛ لأن المبهم معرفة، والمعرفة لا تضاف؛ لأنه استغنى بتعريفه في نفسه عن تعريف غيره؛ لأن الكَحَلَ يغني عن الكُحْلِ. وأما مَنْ ذهب إلى أنه اسم مظهر فباطل؛ لأنه لو كان الأمر على ما زعم لما كان يقتصر فيه على ضرب واحد من الإعراب وهو النصب، فلما اقتصر فيه على ضرب واحد من الإعراب وهو النصب دلَّ على أنه اسم مضمر، كما أنه لما اقتصر بأَنَا وأَنْتَ وهُوَ وما أشبهها على ضرب واحد من الإعراب وهو الرفع دلَّ على أنها أسماء مضمرة؛ إذ لا يعلم اسم مظهر اقتصر فيه على ضرب واحد من الإعراب،

_ 1 في ر "تزاد للتعريف".

إلا ما اقتصر به من الأسماء على الظرفية نحو "ذاتَ مرة، وبُعَيْدَاتٍ بين" ونوعًا من المصادر نحو "سُبْحَان، ومَعَاذَ". وليس "إيا" ظرفًا ولا مصدرًا فيلحق بهذه الأسماء. وأما ما حكي عن الخليل من قولهم: "إذا بَلَغَ الرجل الستِّين فإياه وإيّا الشَّوَابّ" فالذي ذكره سيبويه في كتابه أنه لم يسمع ذلك من الخليل، وإنما قال: وحدثني مَنْ لا أتهم عن الخليل أنه سمع أعرابيًّا يقول: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وأيّا الشّواب، وهي رواية شاذة لا يعتد بها، وكأنه لما رأى آخره يتغير كتغير المضاف والمضاف إليه أجراه مجراه. ثم هذه الرواية حجّة على من يزعم أنه اسم مظهر خُصّ بالإضافة إلى المضمرات؛ لأنه أضاف "إيّا" إلى "الشواب" وهو اسم مظهر. والذي يدلّ على أنه ليس باسم مُظْهَر أنه لو كان الأمر كذلك لوجب أن يجوز أن يقال: ضربت إياك، كما يقال: ضربت زيدًا؛ فلما لم يجز ذلك دلّ على أنه ليس باسم مظهر. فأما قول الشاعر: [438] بالباعث الوارث الأموات قد ضَمِنَتْ ... إيّاهُمُ الأرض في دَهْرِ الدَّهَارِيرِ

_ [438] هذا البيت للفرزدق همام بن غالب، من قصيدة له يمدح فيها يزيد بن عبد الملك بن مروان "الديوان ص262-267" وليس لأمية بن أبي الصلت كما قال ابن جني، وقبل البيت المستشهد به قوله: يا خير حيّ وقت نعل له قدما ... وميت بعد رسل الله مقبور إني حلفت، ولم أحلف على فند، ... فناء بيت من الساعين معمور في أكبر الحج حاف غير منتعل ... من حالف محرم بالحج مصبور والبيت من شواهد الأشموني "رقم 47" وابن عقيل "رقم 15" وأوضح المسالك "رقم 23" وابن جني في الخصائص "1/ 307 و2/ 195" ورضي الدين في باب الضمير من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 409" وابن الناظم في باب الضمير من شرح الألفية، وشرحه العيني "1/ 274 بهامش الخزانة" ومحل الاستشهاد من البيت قوله: "ضمنت إياهم الأرض" حيث جاء بالضمير منفصلا مع أنه في موضع يمكن الإتيان به متصلا فيقال: "ضمنتهم الأرض" والذي صنعه الشاعر في بيت الشاهد مما لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، ومثل هذا البيت قول الشاعر، وينسبونه إلى طرفة بن العبد البكري، ولكنه غير موجود في ديوانه: أصرمت حبل الوصل؟ بل صرموا ... يا صا ح، بل قطع الوصال هم وبين هذا البيت والبيت المستشهد به فرق من جهتين: الجهة الأولى أن الضمير في هذا =

وقول الآخر: [439] إليك حتى بلغت إيَّاكَا وقول الآخر: [440] كأنَّا يوم قُرَّى إنما نَقْتُلُ إِيَّانَا

_ = البيت ضمير رفع منفصل وفي البيت المستشهد به ضمير نصب منفصل، والجهة الثانية أنه قد فصل بين الضمير وعامله في البيت المنسوب إلى طرفة واتصل الضمير بعامله من البيت المستشهد به، وهذا مما يزيد في قبح الضرورة، فاعرف ذلك. [439] هذا بيت من الرجز المشطور، وقبله قوله: أتتك عنس تقطع الأراكا والبيت من شواهد سيبويه "1/ 383" ونسبه الأعلم إلى حميد الأرقط، ومن شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص424" وتعرض البغدادي لشرحه أثناء شرح الشاهد 385 من شواهد الكافية، وهو الشاهد الآتي، وممن استشهد به ابن جني في الخصائص "1/ 307 و2/ 194" والعنس -بفتح فسكون- الناقة الشديدة القوية على السير، وقوله: "تقطع الأراك" أراد تقطع الأرضين التي هي منابت الأراك، والأراك -بوزن السحاب- العود الذي يساك به. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله: "بلغت إياك" حيث جاء بالضمير المنفصل في المكان الذي يكون فيه الضمير المتصل، وكان من حق العربية عليه أن يقول "حتى بلغتك" وكان الزجاج يذهب إلى أن "إياك" في هذا البيت ليس مفعولا لبلغت، ولكنه توكيد لضمير متصل محذوف يقع مفعولا لبلغت، وأصل الكلام على هذه "بلغتك إياك" وهو تخلص من ضرورة بالوقوع في ضرورة أخرى؛ لأن حذف المؤكد وبقاء التوكيد مما لا يجوز؛ لأنه يفوت الغرض الذي سيق إليه الكلام. [440] قد اختلف العلماء في نسبة هذا البيت، فنسبه سيبويه "1/ 383" إلى بعض اللصوص ولم يعين اسمه، ورواه في "1/ 271" وقال قبل إنشاده "وحدثني أبو الخطاب أنه سمع من يوثق بعربيته من العرب ينشد هذا البيت" ونسبه ابن جني في الخصائص "2/ 194" لأبي بجيلة، ونسبه ابن الشجري في أماليه "1/ 32 ط مصر" إلى ذي الإصبع العدواني، والبيت بعد ذلك من شواهد رضي الدين في باب الضمير من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في خزانة الأدب "2/ 406" والزمخشري في المفصل ونسبه -كما في كتاب سيبويه- إلى بعض اللصوص، وابن يعيش في شرحه "ص423" ونسبه إلى ذي الإصبع العدواني، وقرّى -بضم القاف وتشديد الراء مفتوحة- موضع في بلاد بني الحارث بن كعب، وقوله: "نقتل إيانا" شبه فيه أعداءهم الذين أوقعوا فيهم القتل بأنفسهم في السيادة والحسن، يدلك على هذا قوله بعد بيت الشاهد: قتلنا منهم كل ... فتى أبيض حسانا يرى يرفل في برديـ ... ـن من أبراد نجرانا ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله: "نقتل إيانا" وقد أراد المؤلف بإيراد هذا الشاهد هنا أن يقول: إنه وضع الضمير المنفصل المنصوب في موضع الضمير المتصل المنصوب، =

فهو من ضرورة الشعر التي لا يجوز استعمالها في اختيار الكلام. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إن الكاف والهاء والياء ههنا هي التي تكون في حالة الاتصال" قلنا: لا نسلم؛ فإنها وإن كانت مثلها في اللفظ إلا أنها تخالفها؛ لأن الكاف والهاء والياء ههنا حروف وهناك أسماء، وصار هذا كالتاء في "أنت" فإنها في اللفظ مثل التاء في "قمت" وإن كانت التاء في "أنت" حرفا والتاء في "قمت" اسما، وكما لا يجوز أن يقال إن التاء في "أنت" اسم؛ لأنها مثل التاء في "قمت" فكذلك ههنا [و] كما أن الاسم المضمر في "أنت" أنْ وحدها والتاء لمجرد الخطاب وليست عمادًا للتاء؛ فكذلك "إيّا" هي الاسم المضمر وحدها، وليست عمادًا للكاف والهاء والياء. ثم لو كان الأمر كما زعموا لكان ذلك يؤدي إلى أن يعمد الشيء بما هو أكثر منه، وأن يكون الأكثر عمادا للأقل وتبعا له، وهذا لا نظير له في كلامهم. والذي يدل على أن هذه الكاف والهاء والياء ليست هي التي تكون في حالة الاتصال أن هذه الأحرف ههنا ضمائر منفصله، وتلك ضمائر متصلة، والضمائر المنفصلة ينبغي أن يكون لفظها مخالفا للفظ الضمائر المتصلة، كما أن لفظ المضمرات المرفوعة المنفصلة مخالف للفظ الضمائر المرفوعة المتصلة، وليس شيء منها معمودًا، فكذلك ههنا.

_ = وكان عليه على هذا -أن يقول "إنما نقتلنا" ولكنه لو قال "إنما نقتلنا" لكان خطأ؛ لأنه لا يجوز أن يكون فاعل الفعل ومفعوله ضميرين لشيء واحد، لا تقول "ضربتني" ولا "ضربتك" بتاء المخاطب، ولا "زيد ضربه" على أن يكون في ضرب ضمير مستتر يعود إلى زيد، وتكون الهاء أيضا عائدة إلى زيد، وإذا أريد هذا المعنى جيء بلفظ النفس فجعل مفعولًا به، فيقال "ضربت نفسي" و"أكرمت نفسي" و"ضربت نفسك" و"أكرمت نفسك" و"زيد أكرم نفسه" ويستثنى من هذه القاعدة أفعال القلوب وفعلان آخران -وهما عدم وفقد- تقول "ظننتني، وخلتني، وعدمتني، وفقدتني"، فلو أراد الشاعر أن يأتي بالكلام على الطريق المستعمل في كلام العرب كان يقول: "إنما نقتل أنفسنا" قال الأعلم "وفصل الضمير من الفعل ضرورة، وكان الوجه نقتلنا، والأصل في هذا أن يستغنى فيه بالنفس فيقال: نقتل أنفسنا، فوضع إيّانا، موضع ذلك" ا. هـ. وأحسن مما قال الأعلم قول ابن يعيش "الشاهد فيه وضع إيانا موضع الضمير المتصل، إلا أنه أسهل من قول حميد الأرقط: حتى بلغت إياك وذلك لأنه لا يمكنه أن يأتي بالمتصل فيقول نقتلنا لأنه يتعدى فعله إلى ضميره المتصل، فكان حقه أن يقول: نقتل أنفسنا، لأن المنفصل والنفس يشتركان في الانفصال ويقعان بمعنى، فلما كان المتصل لا يمكن وقوعه هنا لما ذكرناه، وكان النفس والمنفصل مترادفين استعمل أحدهما في موضع الآخر" ا. هـ.

وأما استدلالهم على أن "إيا" عماد بلحاق التثنية والجمع لما بعدها فيبطل بأنت؛ فإنا أجمعنا على أن الضمير منه "أن" والتثنية والجمع يلحقان ما بعده وهو التاء، ولا خلاف أن "أن" ليست عمادا للتاء، وأن التاء ليست هي الضمير، فكذلك ههنا؛ وهذا لأن الحروف إذا زيدت للدلالة على الأشخاص جاز أن تلحقها علامة التثنية والجمع؛ لأنها لما كانت دلالة على المخاطب والغائب والمتكلم لم يكن بُدٌّ من لحاق علامة التثنية والجمع بها. على أنا نقول: إن "إياكما، وإياكم" ليس بتثنية لمفرد ولا جمع على حد التثنية والجمع، وإنما "إياكما" صيغة مرتجلة للتثنية، و"إياكم" صيغة مرتجلة للجمع، وكذلك "أنتما، وأنتم" ليس بتثنية ولا جمع على حد التثنية والجمع، وإنما "أنتما" صيغة مرتجلة للتثنية، و"أنتم" صيغة مرتجلة للجمع، وكذلك حكم كل اسم مضمر واسم إشارة واسم صِلَةٍ. وسنبين هذا في اسم الصلة مستقصى إن شاء الله تعالى. وأما مَنْ ذَهَبَ إلى أنه بكماله المضمر فليس بصحيح، وذلك لأن الكاف في "إياك" بمنزلة التاء في "أنت". والذي يدل على ذلك أن الكاف في إياك" تفيد الخطاب، كما أن التاء في "أنت" تفيد الخطاب، وأن فتحة الكاف تفيد المذكر، كما أن فتحة التاء في "أنت" تفيد خطاب المذكر، وأن كسرة الكاف تفيد خطاب المؤنث، كما أن كسرة التاء تفيد خطاب المؤنث، فكما أن التاء ليست من المضمر الذي هو "أن" في "أنت" وإنما هي لمجرد الخطاب، ولا موضع لها من الإعراب؛ فكذلك الكاف ليست من المضمر الذي هو "إيا" في "إياك" وإنما هي لمجرد الخطاب، ولا موضع لها من الإعراب، وإذا لم تكن الكاف في "إياك" من المضمر كما لم تكن التاء في "أنت" من المضمر، واستحال أن يقال إنَّ "أنت" بكماله هو المضمر؛ فكذلك يستحيل أن يقال إن "إياك" بكماله هو المضمر، والله أعلم.

مسألة المسألة الزنبورية

99- مسألة: [المسألة الزنبورية] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن يقال "كنت أظن أن العقرب أشد لَسْعَةً من الزُّنْبُورِ فإذا هو إياها". وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز أن يقال: "فإذا هو إياها". ويجب أن يقال: "فإذا هو هي". أما الكوفيون فاحتجوا بالحكاية المشهورة بين الكسائي وسيبويه، وذلك أنه لما قدم سيبويه على البرامكة، فطلب أن يجمع بينه وبين الكسائي للمناظرة؛ حضر سيبويه في مجلس يحيى بن خالد وعنده وَلَدَاهُ جعفر والفضل ومن حضر بحضورهم من الأكابر، فأقبل خلف الأحمر على سيبويه قبل حضور الكسائي، فسأله عن مسألة، فأجابه سيبويه، فقال له الأحمر: أخطأت، ثم سأله عن ثانية فأجابه فيها، فقال له: أخطأت، ثم سأله عن ثالثة، فأجابه فيها، فقال له: أخطأت، فقال له سيبويه: هذا سُوءُ أدب، قال الفراء: فأقبلت عليه وقلت: إن في هذا الرجل عجلة وحدّة، ولكن ما تقول في من قال "هؤلاء أبُونَ، ومررت بَأبينَ" كيف تقول على مثال ذلك من "وأيت" و"أويت" فقدَّر فأخطأ، فقلت: أعِدِ النظر، فقدّر فأخطأ، فقلت: أعِدِ النظر، فقدّر فأخطأ، ثلا ث مرات يجيب ولا يصيب. فلما كثر ذلك عليه قال: لا أكلمكما أو يحضر صاحبكما حتى أناظره، قال: فحضر الكسائي فأقبل على سيبويه فقال: تسألني أو أسألك؟ فقال: بل تسألني أنت، فأقبل عليه الكسائي فقال: كيف تقول: كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي، أو فإذا هو إيَّاهَا؛ فقال سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب؟ فقال له الكسائي: لحنت، ثم سأله عن مسألة من هذا النحو نحو "خرجت فإذا عبد الله القائم، والقائم" فقال سيبويه في ذلك بالرفع دون النصب، فقال الكسائي: ليس هذا من كلام العرب، والعرب ترفع ذلك كله وتنصبه، فدفع

_ 1 انظر في هذه المسألة: مغني اللبيب لابن هشام "ص88-92" فقد فصل المسألة وخرج المثال موضع الخلاف تخريجا دقيقا.

ذلك سيبويه، ولم يجز فيه النصب، فقال له يحيى بن خالد: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن ذا يحكم بينكما؟ فقال له الكسائي: هذه العرب ببابك قد اجتمعت من كل أوب؛ ووفدت عليك من كل صُقْع، وهم فصحاء الناس، وقد قنع بهم أهل المِصْرضين، وسمع أهل الكوفة والبصرة منهم؛ فيحضرون ويسألون، فقال له يحيى وجعفر: قد أنصفت، وأمر بإحضارهم، فدخلوا وفيهم أبو فَقْعَس وأبو زياد وأبو الجراح وأبو ثَرْوَان، فسئلوا عن المسائل التي جرت بين الكسائي وسيبويه، فوافقوا الكسائي، وقالوا بقوله، فأقبل يحيى على سيبويه فقال: قد تسمع، وأقبل الكسائي على يحيى: وقال أصلح الله الوزير! إنه وَفَدَ عليك من بلده مؤملًا، فإن رأيت أن لا ترده خائبًا، فأمل له بعشرة آلاف درهم، فخرج وتوجه نحو فارس، وأقام هناك، ولم يعد إلى البصرة. فوجه الدليل من هذه الحكاية أن العرب وافقت الكسائي، وتكلمت بمذهبنا، وقد حكى أبو زيد الأنصارى عن العرب "قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو إياها" مثل مذهبنا؛ فدل على صحة ما ذهبنا إليه. وأما من جهة القياس فقالوا: إنما قلنا ذلك لأن "إذا" إذا كانت للمفاجأة كانت ظرف مكان، والظرف يرفع ما بعده، وتعمل في الخبر عمل وَجَدْتُ؛ لأنها بمعنى وجدت. وقد قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: إن "هو" في قولهم "فإذا هو إياها" عماد، ونصبت "إذا لأنها بمعنى وَجَدْتُ على ما قدمناه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز إلا الرفع لأن "هو" مرفوع بالابتداء، ولا بد للمبتدأ من خبر، وليس ههنا ما يصلح أن يكون خبرا عنه، إلا ما وقع الخلاف فيه، فوجب أن يكون مرفوعا، ولا يجوز أن يكون منصوبا بوجه ما؛ فوجب أن يقال "فإذا هو هي" فهو: راجع إلى الزنبور لأنه مذكر، وهي: راجع إلى العقرب لأنه مؤنث. أما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما ما رووه عن العرب من قولهم: "فإذا هو إياها" فمن الشاذ الذي لا يُعْبَأ به كالجزم بلن والنصب بلم وما أشبه ذلك من الشواذ التي تخرج عن القياس، على أنه قد روي أنهم أُعْطُوا على متابعة الكسائي جُعْلًا؛ فلا يكون في قولهم حجة لتطرق التهمة في الموافقة. وأما قولهم: "إن إذا إذا كانت للمفاجأة كانت بمنزلة وَجَدْتُ" فباطل؛ لأنها إن كانت بمنزلة وجدت في العمل فوجب أن يرفع بها فاعل وينصب بها مفعولان كقولهم "وجدت زيدًا قائمًا" فترفع الفاعل وتنصب المفعولين، وإن قالوا إنها بمعنى

وجدت، ولا تعمل عملها كما أن قولهم: "حَسْبُكَ زيدٌ" بمعنى الأمر وهو اسم وليس بفعل، وكقولهم: "أحسن بزيد" لفظه لفظ الأمر وهو بمعنى التعجب، وكقولهم: "رحم الله فلانا" لفظه لفظ الخبر وهو في المعنى دعاء، وكقوله تعالى في قراءة من قرأ بالرفع: {لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] لفظه لفظ الخبر والمراد به النهي، وكقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] أي: انْتَهُوا، لفظه لفظ الاستفهام والمراد به الأمر، وكقوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75] لفظه لفظ الأمر والمراد به الخبر، وكقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] أي: ليرضعن، لفظه لفظ الخبر والمراد به الأمر، إلى غير ذلك من الأماكن التي لا تحصى كثرة، فكذلك نقول نحن ههنا: "إذا" بمعنى وجدت وهي في اللفظ ظرف مكان، وظرف المكان يجب رفع المعرفتين بعده، فوجب أن يقال "فإذا هو هي". وإن قالوا "إنها تعمل عمل الظرف وعَمَلَ وجدت؛ فترفع الأول لأنها ظرف وتنصب الثاني على أنها فعل ينصب مفعولين" فباطل؛ لأنهم إن أعملوها عمل الظرف بقي المنصوب بلا ناصب، وإن أعملوها عمل الفعل لزمهم وجود فاعل ومفعولين، وليس لهم إلى إيجاد ذلك سبيل. وأما قول أبي العباس ثعلب "إن هو في قولهم فإذا هو إياها عماد" فباطل عند الكوفيين والبصريين؛ لأن العماد عند الكوفيين -الذي يسميه البصريون الفَصْلَ- يجوز حذفه من الكلام، ولا يختلّ معنى الكلام بحذفه، ألا ترى أنك لو حذفت العماد الذي هو الفصل من قولك "كان زيد هو القائم" فقلت "كان زيد القائم" لم يختل معنى الكلام بحذفه؛ وكان الكلام صحيحًا، وكذلك سائر الأماكن التي يقع فيها العماد الذي هو الفصل يجوز إثباته وحذفه، ولو حذفته ههنا من قولهم: "فإذا هو إياها" لاختلَّ معنى الكلام وبطلت فائدته؛ لأنه يصير "فإذا إياها" وهذا لا معنى له ولا فائدة فيه؛ فبطل ما ذهبوا إليه. والله أعلم.

مسألة ضمير الفصل

100- مسألة: [ضمير الفصل] 1 ذهب الكوفيون إلى أن ما يُفْصَلُ به بين النعت والخبر يسمى عمادًا، وله موضع من الإعراب، وذهب بعضهم إلى أن حكمه حكم ما قبله، وذهب بعضهم إلى أن حكمه حكم ما بعده. وذهب البصريون إلى أنه يسمى فصلًا لأنه يَفْصِلُ بين النعت والخبر إذا كان الخبر مضارعًا لنعت الاسم ليخرج من معنى النعت كقولك: "زيد هو العاقل" ولا موضع له من الإعراب. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن حكمه حكم ما قبله لأنه توكيد لما قبله، فتنزل منزلة النفس إذا كان توكيدا، وكما أنك إذا قلت: "جاءني زيد نفسه" كان نفسه تابعًا لزيد في إعرابه، فكذلك العماد، إذا قلت: "زيد هو العاقل" يجب أن يكون تابعًا في إعرابه. وأما من ذهب إلى أن حكمه حكم ما بعده قال: لأنه مع ما بعده كالشيء الواحد؛ فوجب أن يكون حكمه بمثل حكمه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنه لا موضع له من الإعراب؛ لأنه إنما دخل لمعنى وهو الفصل بين النعت والخبر، ولهذا سمّي فَصْلًا، كما تدخل الكاف للخطاب في "ذلك، وتلك" وتثنّى وتجمع ولا حَظَّ لها في الإعراب و"ما" التي للتوكيد ولا حظّ لها في الإعراب؛ فكذلك ههنا. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنه توكيد لما قبله فتنزل منزلة النفس في قولهم جاءني زيد نفسه" قلنا: هذا باطل؛ لأن المكنيَّ لا يكون

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح ابن يعيش على المفصل "ص430" وشرح الرضي على الكافية "2/ 22" وتصريح الشيخ خالد "1/ 270 وما بعدها" وحاشية الصبان على الأشموني "1/ 262 بولا ق".

تأكيد للمظهر في شيء من كلامهم، والمصير إلى ما ليس له نظير في كلامهم لا يجوز أن يُصَار إليه. وأما قولهم: "إنه مع ما بعده كالشيء الواحد" قلنا: هذا باطل أيضا؛ لأنه لا تعلُّق له بما بعده؛ لأنه كناية عما قبله، فكيف يكون مع ما بعده كالشيء الواحد؟ والله أعلم.

مسألة مراتب المعارف

101- مسألة: [مراتب المعارف] 1 ذهب الكوفيون إلى أن الاسم المبهم2 -نحو "هذا، وذاك"- أَعْرَفُ من الاسم العلم -نحو زيد، وعمرو"- وذهب البصريون إلى أن الاسم العلم أعرف من الاسم المبهم، واختلفوا في مراتب المعارف؛ فذهب سيبويه إلى أن أعرف المعارف الاسم المضمر؛ لأنه لا يُضْمَرُ إلا وقد عرف؛ ولهذا لا يفتقر إلى أن يوصف كغيره من المعارف، ثم الاسم العلم؛ لأن الأصل فيه أن يوضع على شيء لا يقع على غيره من أُمَّتِهِ3، ثم الاسم المبهم؛ لأنه يعرف بالعين وبالقلب، ثم ما عرف بالألف واللام؛ لأنه يعرف بالقلب فقط، ثم ما أضيف إلى أحد هذه المعارف؛ لأن تعريفه من غيره، وتعريفه على قدر ما يضاف إليه. وذهب أبو بكر بن السراج إلى أن أعرف المعارف: الاسم المبهم، ثم المضمر، ثم العلم، ثم ما فيه الألف واللام، ثم ما أضيف إلى أحد هذه المعارف، وذهب أبو سعيد السيرافي إلى أن أعرف المعارف: الاسم العلم، ثم المضمر، ثم المبهم، ثم ما عُرِّف بالألف واللام، ثم ما أضيف إلى أحد هذه المعارف. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن الاسم المبهم أعرف من الاسم العلم، وذلك لأن الاسم المبهم يعرف بشيئين: بالعين وبالقلب، وأما الاسم العلم فلا يعرف إلا بالقلب وحده، وما يعرف بشيئين ينبغي أن يكون أعرف مما يعرف بشيء واحد. قالوا: والذي يدل على صحة ذلك أن الاسم العلم يقبل التنكير، ألا ترى

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني بحاشية الصبان "1/ 110 بولاق" وتصريح الشيخ خالد الأزهرى "1/ 112 بولا ق". 2 المراد بالاسم المبهَم ههنا: اسم الإشارة. 3 أمته: المراد به نوعه.

أنك تقول: "مررت بزيد الظريف وزيد آخَرَ، ومررت بعمرو العاقل وعمرو آخر" وكذلك إذا ثنَّيت الاسم العلم أو جمعته نكَّرته نحو "زيدان والزيدان، وعمران والعمران، وزيدون، والزيدون، وعمرون، والعمرون" فتدخل عليه الألف واللام في التثنية والجمع، ولا تدخلان إلا على النكرة؛ فدلَّ على أنه يقبل التنكير، بخلاف الاسم المبهم؛ فإنه لا يقبل التنكير؛ لأنك لا تصفه بنكرة في حال من الأحوال، ولا تنكره في التثنية والجمع فتدخل عليه الألف واللام فتقول: الهَاذَانِ؛ فدلّ على أنه لا يقبل التنكير، وما لا يقبل التنكير أعرف مما يقبل التنكير، فتنزل منزلة المضمر، وكما أن المضمر أعرف من الاسم العلم فكذلك المبهم. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن الاسم العلم أعرف من المبهم لأن الأصل في الاسم العَلَم أن يوضع لشيء بعينه لا يقع على غيره من أمته، وإذا كان الأصل فيه أن لا يكون له مشارك أشبه ضمير المتكلم، وكما أن ضمير المتكلم أعرف من المبهم فكذلك ما أشبهه. والذي أذهب إليه ما ذهب إليه الكوفيون. وأما الجواب عن كلمات البصريين: أما قولهم: "إن الأصل في الاسم العلم أن يوضع لشيء بعينه لا يقع على غيره" قلنا: وكذلك الأصل في جميع المعارف، ولهذا يقال: حدّ المعرفة ما خص الواحد من الجنس، وهذا يشتمل على جميع المعارف، لا على الاسم العلم دون غيره، على أنَّا نسلم أن الأصل في الاسم العلم ما ذكرتموه، إلا أنه قد حصل فيه الاشتراك، وزال عن أصله وَضْعِهِ، ولهذا افتقر إلى الوصف، ولو كان باقيا على الأصل لما افتقر إلى الوصف؛ لأن الأصل في المعارف أن لا توصف؛ لأن الأصل فيها أن يقع لشيء بعينه، فلما جاز فيه الوصف دلّ على زوال الأصل، فلا يجوز أن يحمل على المضمر الذي لا يزول عن الأصل ولا يفتقر إلى الوصف في أنه أعرف من المبهم، والله أعلم.

مسألة "أي" الموصولة معربة دائما أو مبنية أحيانا؟

مسألة "أي" الموصولة معربة دائما أو مبنية أحيانا؟ ... 102- مسألة: ["أي" الموصولة معربة دائما ومبنيّة أحينا؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "أيهم" إذا كان بمعنى الذي وحذف العائد من الصلة معرب، نحو قولهم: "لأضربن أيُّهم أفضل"، وذهب البصريون إلى أنه مبنيّ على الضم، وأجمعوا على أنه إذا ذكر العائد أنه معرب، نحو قولهم: "لأضربنّ أيهم هو أفضل"، وذهب الخليل بن أحمد إلى أن "أيهم" مرفوع بالابتداء، و"أفضل" خبره، ويجعل "أيهم" استفهامًا، ويحمله على الحكاية بعد قول مقدر، والتقدير عنده: لأضربن الذي يقال له أيُّهُم أفضل، قال الشاعر: [441] ولقد أَبِيتُ من الفَتَاةِ بمنزل ... فأَبِيتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُومُ

_ [441] هذا البيت للأخطل التغلبي، وهو من شواهد سيبويه "1/ 259 و398" وابن يعيش في شرح المفصل "ص463" ورضي الدين في باب الموصول من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 533" والحرج -بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين- المضيق عليه، والمحروم: الممنوع مما يريده. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "لا حرج ولا محروم" فإن سيبويه رحمه الله خرج هذه العبارة نقلًا عن شيخه الخليل بن أحمد على أن قوله "لا حرج" خبر مبتدأ محذوف ليس ضمير المتكلم وجملة المبتدأ المحذوف وخبره في محل نصب على الحكاية بقول محذوف أيضًا، وتقدير الكلام على هذا: فأبيت مقولًا في شأني: هو لا حرج ولا محروم، قال سيبويه "1/ 259" "وأما قول الأخطل: ولقد أبيت من الفتاة.... البيت فزعم الخليل أن هذا ليس على إضمار أنا، ولو جاز هذا على إضمار أنا لجاز "كان عبد الله لا سلم ولا صلح" على إضمار هو، ولكنه -فيما زعم الخليل- فأبيت بمنزلة الذي يقال له: لا حرج ولا محروم، ويقويه في ذلك قوله:

أي: فأَبِيتُ لا يقال لي هذا حَرِجٌ ولا محروم، وحَذْف القول في كتاب الله تعالى وكلام العرب أكثر من أن يحصى، وذهب يونس بن حبيب البصري إلى أن "أيهم" مرفوع بالابتداء، و"أفضل" خبره، ويجعل "أيهم" استفهامًا، ويعلق "لأضربن" عن العمل في "أيهم" فينزل الفعل المؤثر منزلة أفعال القلوب نحو "علمت أيهم في الدار". أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه معرب منصوب بالفعل الذي قبله أنه قد جاء ذلك في كتاب الله تعالى وكلام العرب، قال الله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 69] بالنصب، وهي قراءة هارون القارئ ومعاذ الهراء، ورواية عن يعقوب. قالوا: ولا يجوز أن يقال "إن القراءة المشهورة بالضم هي حجة عليكم" لأنا نقول: هذه القراءة لا حجة لكم فيها، لأن الضمة فيها ضمة إعراب، لا ضمة بناء، فإن "أيهم" مرفوع لأنه مبتدأ وذلك من وجهين:

_ = فإنما أراد: كانت كلا ب التي يقال لها: خا مري أم عا مر، وقد زعم بعضهم أن رفعه على النفي، كأنه قال: فأبيت لا حرج ولا محروم بالمكان الذي أنا به، وقول الخليل حكا ية لا كان يتكلم به قبل ذل ك، فكأنه حكى ذلك اللفظ، كما قال: كذبتم وبيت الله لا تنكحونها ... بني شا ب قرنا ها تصر وتحلب أي بني من يقال له ذلك. والتفسير الآخر الذي على النفي كأنه أسهل" ا. هـ كلامه. وقال الأعلم "الشا هد ف يرفع حرج ومحروم، وكان وجه الكلام نصبهما على الحال، ووجه رفعهما عند الخليل الحمل على الحكاية، والمعنى فأبيت كالذي يقال: لا حرج ولا محروم، ولا ي جوز رفعه حملا على مبتدأ مضمر كما لا يجوز كان زيد لا قا ئم ولا قا عد على تقدير لا هو قائم ولا قعد، لأنه ليس موضع تبعيض وقطع، فلذلك حمله على الحكا ية، كما قال بني شا ب قرنا ها، ويجوز رفعه على الابتداء وإضما ر الخبر، على معنى فأبيت لا حرج ولا محروم في المكان الذي أبيت فيه، ثم حذف هذا لعلم السا مع، وإذا نفي أن يكون مبيته حرج أو محروم فهو غير حرج وغير محروم، لأنه في ذلك المكان" ا. هـ كلام بحروفه، وقوله "ولا يجوز رفعه حملا على مبتدأ مضمر" ليس على إطلا قه، بل المرا د أنه لا يجوز رفعه على إضما ر مبتدأ تقديره: لا أنا حرج ولا محروم، من غير تقدير حكا ية كما هو في مطلع كلام سيبويه عن الخليل، وكيف لا يكون على تقدير مبتدأ أصلا والحكا ية إنما تقع في الجمل لا في المفردا ت؟ ولو سلمنا أن الحكا ية بالقول تكن في المفردا ت فما يكون إعراب لا حرج المرفوع؟ وكيف كان يقول من يحكي كلامه؟ وقال الصيرافي عن التخريج الثاني الذي ذكره سيبويه وذكره الأعلم أيضا، وذكر سيبويه أنه أسهل "وهذا التفسير أسهل؛ لأن المحذوف خبر حرج، وهو ظرف، وحذف الخبر في النفي كثير، كقولنا: لا حول ولا قو ة إلا بالله، أي لنا" ا. هـ.

أحدهما: أن قوله: {لَنَنْزِعَنَّ} عمل في: {مِنْ} وما بعدها، واكتفى الفعل بما ذكر معه، كما تقول "قتلت من كل قبيل، وأكلت من كل طعام" فيكتفي الفعل بما ذكر معه، فكذلك ههنا: عمل الفعل في الجار والمجرور واكتفى بذلك، ثم ابتدأ فقال: "أيهم أشد" فرفع "أيهم" بأشد كما رفع "أشد" بأيهم، على ما عرف من مذهبنا. والوجه الثاني: أن الشيعة معناها الأعوان، وتقدير الآية: لننزعن من كل قوم شَايَعُوا فتنظروا أيهم أشد على الرحمن عتيًا، والنظر من دلائل الاستفهام، وهو مُقَدَّر معه، وأنت لو قلت "لأَنْظرنَّ أيهم أشد" لكان النظر معلقًا، لأن النظر والمعرفة والعِلْمَ ونحوهن من أفعال القلوب، وأفعال القلوب يسقط عملهن إذا كان بعدهن استفهام، فدل على أنه مرفوع لأنه مبتدأ. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه ما حكاه أبو عُمَرَ الجَرْمِي أنه قال: خرجت من الخندق -يعني خندق البصرة- حتى صرت إلى مكة، لم أسمع أحدا يقول "اضرب أيهم أفضل" أي: كلهم ينصبون، وكذلك لم يُرْوَ عن أحد من العرب "اضرب أيهم أفضل" بالضم، فدلَّ على صحة ما ذهبنا إليه. والذي يدل على فساد قول مَنْ ذهب إلى أنه مبني على الضم أن المفرد من المبنيات إذا أضيف أعرب، نحو قبل وبعد، فصارت الإضافة توجب إعراب الاسم، وأيّ إذا أفردت أعربت، فلو قلنا "إنها إذ أضيفت بنيت" لكان هذا نقضًا للأصول، وذلك محال.. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنها مبنية ههنا على الضم، وذلك لأن القياس يقتضي أن تكون مبنية في كل حال، لوقوعها موقع حرف الجزاء والاستفهام والاسم الموصول كما بنيت "مَنْ، وما" لذلك في كل حالٍ، إلا أنهم أعربوها حملًا على نظيرها، وهو "بَعْض" وعلى نقيضها وهو "كل"، وذلك على خلاف القياس، فلما دخلها نقص بحذف العائد ضعفت فردّتْ إلى أصلها من البناء على مقتضى القياس، كما أن "ما" في لغة أهل الحجاز لما كان القياس يقتضي أن لا تعمل، إذا تقدم خبرها على اسمها أو دخل حرف الاستثناء بين الاسم والخبر ردّ على ما يقتضيه القياس من بطلان عملها، فكذلك ههنا: لما كان القياس يقتضي أن تكون مبنية، لما حذف منها العائد ردّت إلى ما يقتضيه القياس من البناء، يدل عليه أن "أيهم" استعملت استعمالا لم تستعمل عليه أخواتها من حذف المبتدأ معها، تقول: "اضرب أيهم أفضل" تريد أيهم هو أفضل، ولو قلت: "اضرب من أفضل، وكل ما أطيب" تريد من هو أفضل وما هو أطيب لم يجز، فلما

خالفت "أي" أخواتها فيما ذكرناه زال تمكنها؛ لأن كل شيء خرج عن بابه زال تمكنه، فوجب أن تبنى إذا استعملت على خلاف ما استعمل عليه أخواتها، كما أن "يا ألله" لما خالفت سائر ما فيه الألف واللام لم يحذفوا ألفه، وكذلك "ليس" لما لم تتصرف تصرف الفعل تركت على هذه الحال، ألا ترى أن أصل "ليس" لَيِس، مثل صَيِدَ البعير، وصَيِدَ البعير يجوز فيه التخفيف فيقال "صَيْدَ البعير" ويجب في ليس التخفيف، ولا يجوز أن يؤتى به على الأصل كما جاز أن يؤتى بصيد على الأصل؛ لأن ليس لم تتصرف تصرف الفعل، بخلاف صيد، ويدل عليه أيضا أنك لو قلت "صَيِدْتَ يا بعيرُ" لوجب أن ترد الفعل إلى أصله من الكسر، ولو قلت "لَيِسْتُ" لم يجز ردّه إلى الأصل، كل ذلك لمخالفته الفعل في التصرف وخروجه عن مشابهة نظائره، فكذلك ههنا: لما خالفت [أيّ] سائر أخواتها وخرجت عن مشابهة نظائرها وجب بناؤها، وإنما وجب بناؤها على الضم لأنهم لما حذفوا المبتدأ من صلتها بَنَوْهَا على الضم، لأنه أقوى الحركات. والذي يدل على صحة هذا التعليل وأنهم إنما بنوها لخلاف1 المبتدأ أنا أجمعنا على أنهم إذا لم يحذفوا المبتدأ أعربوها ولم يبنوها فقالوا: "ضربت أيَّهُم هو في الدار" بالنصب، وإنما حسن حذف المبتدأ من صلة "أيّ" ولم يحسن حذفه مع غيرها من أخواتها لأن "أي" لا تنفك عن الإضافة، فيصير المضاف إليه عوضًا عن حذف المبتدأ، بخلاف غيرها من أخواتها؛ فلهذا حَسُنَ الحذف مع "أي" دون سائر أخواتها. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقراءة من قرأ {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} [مريم: 69] بالنصب -فهي قراءة شاذة جاءت على لغة شاذة لبعض العرب، ولم يقع الخلاف في هذه اللغة، ولا في هذه القراءة؛ وإنما وقع الخلاف في اللغة الفصيحة المشهورة، والقراءة المشهورة التي عليها قَرَأَة الأمصار "أيهم" بالضم، وهي حجة عليهم. قولهم: "إن الضمة فيها ضمة إعراب لا الضمة بناء، وإنه مرفوع لأنه مبتدأ لأن قوله: "لننزعن" عمل في من وما بعدها، واكتفى الفعل بما ذكر معه كقولهم: قتلت من كل قبيل" قلنا: هذا خلاف الظاهر؛ لأن قوله: "لننزعن" فعل معتدّ؛ فلا بد أن يكون له مفعول إما مظهر أو مقدر، و"أيّهم" يصلح أن يكون مفعولًا، وهو ملفوظ به مُظْهَر، فكان أولى من تقدير مفعول مقدر.

_ 1 كذا، وأظن أصل العبارة "لحذف المبتدأ".

وأما قولهم: "إن تقدير الآية فتنظروا أيهم أشد" قلنا: وهذا أيضا خلاف الظاهر؛ لأنه ليس في اللفظ ما يدل على تقدير هذا الفعل، وقوله: "لننزعن" فعل يصلح أن يكون "أيهم" مفعولًا له، فكان أولى من تقدير فعل لا دليل يدل عليه ولا حاجة إليه. وأما ما حكي عن أبي عمر الجرمي أنه قال: خرجت من الخندق فلم أسمع أحدا يقول ضَرَبْتُ أيُّهم أفضل، قلنا: هذا يدل على أنه ما سمع "أيهم" بالضم، وقد سمعه غيره. والذي يدل على صحة هذه اللغة ما حكاه أبو عمرو الشيباني عن غسَّان -وهو أحد من تؤخذ عنه اللغة من العرب -أنه أنشد: [442] إذا ما أتيت بني مالك ... فسلّم على أيُّهم أفضل برفع "أيهم" فدل على أنها لغة منقولة صحيحة لا وجه لإنكارها. وأما قولهم: "إن المفرد من المبنيّات إذا أضيف أعرب، وأيُّ إذا أفردت

_ [442] هذا البيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص463 و490" ورضي الدين في باب الموصول من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 522" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 119" وفي أوضح المسالك "رقم 50" والأشموني "رقم 110" وابن عقيل "رقم 33" وشرحه العيني "1/ 346 بهامش الخزانة" والبيت لغسان بن علة بن مرة بن عباد، ويروى "إذا ما لقيت بني مالك" ومحل الاستشهاد به قوله "على أيهم أفضل" فإن الرواية في هذه الكلمة بضم "أيهم" على ما حكاه أبو عمرو الشيباني، ويلزم أن تكون "أي" في هذه العبارة موصولة بمعنى الذي، ويكون "أفضل" خبرا لمبتدأ محذوف، وتقدير الكلام فسلم على الذي هو أفضل؛ ولا يجوز أن تكون "أي" استفهامية مع الضم، لأنه يلزم على هذا محظوران: أحدهما أن يعلق حرف الجر عن العمل في لفظ المجرور لأن أي الاستفهامية غير مبنية، وهذا مما لا يقوله أحد، والثاني أن يخرج اسم الاستفهام عن الصدارة، كما لا يجوز أن تكون أي شرطية، لأن الشرطية لا تبنى على الضم، وهي تستدعي فعل شرط وجوابه، وليس هنا شيء من ذلك، وإذا لم تصلح "أي" أن تكون استفهامية ولا شرطية تعين أن تكون موصولة، ولذلك قال ابن يعيش بعد أن أنشد البيت "وهذا نص في محل النزاع" ا. هـ. وقد تمحل قوم فقالوا: يجوز أن تكون "أي" في هذا البيت استفهامية مبتدأ مرفوعا بالضمة الظاهرة، و"أفضل" خبر المبتدأ، وجملة المبتدأ وخبره في محل نصب مقول لقول محذوف يقع نعتا لمنعوت محذوف، وهذا المنعوت المحذوف هو المجرور بعلى وتقدير الكلام على هذا الوجه: فسلم على شخص مقول فيه: أيهم أفضل، وهذا كلام لا يقضى العجب منه، وهذه المقدرات الكثيرة ما الدليل على حذفها؟ ولو أن ثبوت قواعد اللغة ارتكب في الوصول إليه مثل هذه التمحلات لما ثبتت قاعدة أصلًا.

أعربت، فلو قلنا إنها إذا أضيفت بنيت لكان هذا نقضًا للأصول" قلنا: هذا باطل؛ لأن الإضافة إنما تردّ الاسم إلى حال الإعراب إذا استحق البناء في حال الإفراد، فأما إذا كان الموجب للبناء في حال الإضافة لم تُردَّ الإضافة ذلك الاسم إلى الإعراب، ألا ترى أن "لَدُنْ" في جميع لغاتها لما استحقت البناء في حال الإضافة لم تردّها الإضافة إلى الإعراب؛ فكذلك ههنا، وفي "لدن" ثماني لغات، وهي: "لَدُنْ، ولَدَنْ، ولَدَا، ولَدُ، ولَدْنَ، ولَدْنِ، ولَدْ، ولُدْ" وكلها مبنيّة على ما بيّنّا. وأما ما ذهب إليه الخليل من الحكاية فبعيد في اختيار الكلام، وإنما يجوز مثله في الشعر، ألا ترى أنه لو جاز أن يقال "اضرب الفاسقُ الخبيثُ" بالرفع -أي: اضرب الذي يقال له الفاسق الخبيث، ولا خلاف أن هذا لا يقال بالإجماع. وأما قول يونس فضعيف؛ لأن تعليق "اضرب" ونحوه من الأفعال لا يجوز لأنه فعل مؤثر؛ فلا يجوز إلغاؤه، وإنما يجوز أن تعلق أفعال القلوب عن الاستفهام، وهذا ليس بفعل من أفعال القلوب؛ فكان هذا القول ضعيفًا جدًّا، والله أعلم.

مسألة هل تأتي ألفاظ الإشارة أسماء موصولة

103- مسألة: [هل تأتي ألفاظ الإشارة أسماء موصولة؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "هذا" وما أشبهه من أسماء الإشارة يكون بمعنى الذي والأسماء الموصولة، نحو "هذا قال ذاك زيد" أي: الذي قال ذاك زيد. وذهب البصريون إلى أنه لا يكون بمعنى الذي، وكذلك سائر أسماء الإشارة لا تكون بمعنى الأسماء الموصولة. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء ذلك في كتاب الله تعالى وكلام العرب، قال الله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85] والتقدير فيه: ثم أنتم الذين تقتلون أنفسكم، فأنتم: مبتدأ، وهؤلاء: خبره وتقتلون: صلة هؤلاء، وقال تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: 109] والتقدير فيه: ها أنتم الذين جادلتم عنهم، فأنتم: مبتدأ، وهؤلاء: خبره، وجادلتم: صلة هؤلاء، وقال تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] والتقدير فيه: ما التي بيمينك، فما: مبتدأ، وتلك: خبرة، وبيمينك: صلة تلك، ثم قال ابن مُفَرِّغ: [443] عَدَسْ ما لِعَبَّادٍ عليك إمَارَةٌ ... أَمِنْتِ، وهذا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ

_ [443] هذا البيت ليزيد بن مفرغ الحميري، وهو من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص492" ورضي الدين في باب الموصول من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 514" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 715" وفي أوضح المسالك "رقم 55 في باب الموصول، وفي باب الحال" وفي شرح شذور الذهب "رقم 69" وفي شرح قطر الندى "رقم 33" والأشموني "رقم 104" وابن الناظم في باب الموصول من شرح الألفية، وشرحه العيني "1/ 442" وعدس: اسم زجر للبغل ليسرع، قاله الجوهري =

يريد: والذي تحملين طَلِيق؛ فدلَّ على أن أسماء الإشارة تكون بمعنى الأسماء الموصولة. عَدَسْ: زَجْر البغل، وهو ههنا اسم لبغلة ابن مُفَرِّغ، وعَبَّاد: اسم وَالي سجستان حينئذ، وكان قد حبسه ثم أطلقه، فركب البغلة وجلس ينشد هذا البيت. وكان الخليل يزعم أن "عدسا" كان رجلا عنيفًا بالبغال في أيام سليمان بن داود، فإذا قيل لها "عدس" انْزَعَجَتْ، وهذا ما لا يعرف في اللغة. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن الأصل في "هذا" وما

_ = وغيره، ومنه قول بيهس بن صريم الجرمي: ألا ليت شعري هل أقولن لبغلتي: ... عدس، بعد ما طال السفار وكلت وهو مبني على السكون، وربما أعربه الشاعر إذا اضطر، وكما قال بشر بن سفيان الراسبي: فالله بيني وبين كل أخ ... يقول: أجذم، وقائل: عدسا وربما سموا البغل نفسه عدس، ومنه قول الراجز: إذا حملت بزتي على عدس ... على التي بين الحمار والفرس فلا أبالي من غزا ومن جلس وقوله في بيت الشاهد: "ما لعباد" أراد به عباد بن زياد والي سجستان في عهد معاوية بن أبي سفيان، وكان يزيد قد هجا عبادًا، ثم أخذه عبيد الله بن زياد أخو عباد فحبسه وعذبه وردّه إلى أخيه عباد، فلما بلغ معاوية ذلك أمر بإخلاء سبيله "إمارة" أي حكم وسلطان "طليق" حر لا يد لأحد عليه؛ لأنه قد أطلق سراحه. ومحل الاستشهاد من البيت قوله "وهذا تحملين طليق" فإن الكوفيين والفراء ينشدون هذا البيت للاستدلال به على أن "هذا" اسم موصول بمعنى الذي، وهو مبتدأ، وجملة "تحملين" لا محل لها من الإعراب صلة الموصول؛ وطليق: خبر المبتدأ، وكأنه قد قال: والذي تحملينه طليق، قال الفراء: "العرب قد تذهب بذا وهذا إلى معنى الذي؛ فيقولون: من ذا يقول ذلك، في معنى: من الذي يقول، وقال يزيد بن مفرغ: عدس ما لعباد.... البيت كأنه قال: والذي تحملين طليق" ا. هـ كلامه، ولم يمنعهم من اعتبار ذا موصولة اقتران ها التنبيه بها ولا عدم تقدم ما أو من الاستفهاميتين عليها، مع أن المثال الذي ذكر الفراء أن العرب تقوله قد تقدم فيه على ذا من الاستفهامية ولم يقترن بها فيه حرف التنبيه؛ وأنكر البصريون صحة الاستدلال بهذا البيت على ما ذهب إليه الفراء والكوفيون، ولهم في تخريج البيت ثلاثة تخريجات؛ الأول أن يكون هذا اسم إشارة مبتدأ، وخبره قوله طليق، وجملة تحملين في محل نصب حال من الضمير المستتر في طليق، وكأنه قد قال: وهذا طليق حال كونه محمولا عليك، والثاني: أن يكون هذا اسم إشارة مبتدأ خبره محذوف وجملة تحملين في محل رفع صفة لذلك الخبر المحذوف، وطليق خبر ثان، وكأنه قد قال: وهذا رجل تحملينه طليق، والثالث: أن يكون هذا اسم إشارة مبتدأ، وله نعت هو اسم موصول محذوف وجملة تحملين لا محل لها صلة، وطليق خبر المبتدأ، وكأنه قد قال: وهذا الذي تحملينه طليق.

أشبهه من أسماء الإشارة أن تكون دالًّا على الإشارة، و"الذي" وسائر الأسماء الموصولة ليست في معناها؛ فينبغي أن لا يحمل عليها، وهذا تمسك بالأصل واستصحاب الحال، وهو من جمل الأدلة المذكورة، فمن ادَّعى أمرًا وراء ذلك بقي مُرْتَهَنًا بإقامة الدليل، ولا دليل لهم يدل على ما ادَّعوْهُ. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85] فلا حجة لكم فيه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون "هؤلاء" باقيًا على أصله من كونه اسم إشارة، وليس بمعنى الذي كما زعتم، ويكون في موضع نصب على الاختصاص، والتقدير فيه "أعني هؤلاء" كما قال عليه السلام "سلمان منا أهل البيت" فنصب "أهل" على الاختصاص، والتقدير فيه "أعني أهل البيت" وخبر أنتم: هؤلاء تقتلون1. والوجه الثاني: أن يكون "هؤلاء" تأكيدا لأنتم، والخبر "تقتلون"، ثم هذا لا يستقيم على أصلكم، فإن "تقتلون" عندكم في موضع نصب؛ لأنه خبر التقريب، وخبر التقريب عندكم منصوب، كقولهم: "هذا زيد القائم" بالنصب، و"هذا زيد قائما" ولو كان صلة لما كان له موضع من الإعراب، وعندنا أنه يحتمل أن يكون في موضع نصب على الحال. والوجه الثالث: أن يكون "هؤلاء" منادى مفردا، والتقدير فيه "ثم أنتم يا هؤلاء تقتلون" و"تقتلون" هو الخبر، ثم حذف حرف النداء كما قال تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29] وكما قال تعالى: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف: 46] وحذف حرف النداء كثير في كلامهم. وهذا الذي ذكرناه هو الجواب عن احتجاجهم بقوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ} [النساء: 109] . وأما قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] فلا حجة لهم فيه؛ لأن "تلك" معناها الإشارة وليست بمعنى التي، والتقدير فيه: أي شيء هذه بيمينك و"تلك" بمعنى هذه كما يكون "ذلك" بمعنى هذا، قال الله تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1، 2] أي: هذا [304] الكتاب، ثم قال الشاعر وهو خُفَافُ بن نَدْبَةَ: [444] أقول له والرُّمْحُ يأَطِرُ مَتْنَهُ: ... تأمَّل خُفافًا؛ إنني أنا ذَلِكَا

_ [444] هذا البيت من كلام خفاف بن ندبة السلمي، وخفاف: بزنة غراب، وندبة: بفتح النون أو =

أي: هذا والجار والمجرور في قوله تعالى: {بِيَمِينِكَ} في موضع نصب على الحال كأنه قال: أي شيء هذه كائنة بيمينك. وأما قول الشاعر: [443] .. وهذا تحملين طليق فلا حجة لهم فيه لأن "تحملين" في موضع الحال، كأنه قال: وهذا محمولًا طليق، ويحتمل أيضا أن يكون قد حذف الاسم الموصول للضرورة، ويكون التقدير: وهذا الذي تحملين طليق، وحذف الاسم الموصول يجوز في الضرورة، قال الشاعر: 445- لكم مَسٍْجِدَا اللهِ المَزُورَان والحَصَى ... لكم قِبْصُهُ من بين أَثْرَى وأقتَرَا

_ = ضمها، وهي أمه، وأبوه عمير بن الحارث بن الشريد السلمي، وخفاف ابن عم الخنساء تماضر بنت عمرو بن الشريد، وهو يقول هذا البيت وقد قتل مالك بن حمار سيد بني شمخ بن فزارة، وقبله قوله: فإن تك خيلي قد أصيب عميدها ... فعمدا على عيني تيممت مالكا والبيت من شواهد رضي الدين في باب اسم الإشارة من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 470" وقد أنشده ابن دريد في الاشتقاق "ص309 مصر" وأبو العباس المبرد في الكامل "2/ 285 الخيرية" وابن قتيبة في الشعراء "ص196 أوروبة" وأراد بالعميد الذي أصيب معاوية بن عمرو بن الشريد أخا الخنساء، وتيممت: قصدت، ومالك: هو مالك بن حمار سيد بني شمخ، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "أنا ذلكا" أي هذا، والإشارة فيه قد قصد بها تعظيم المشار إليه، أي أنا ذلك الفارس الذي ملأ سمعك ذكره، نزل بعد درجته ورفعة محله وعظيم منزلته منزلة بعد المسافة، ولهذا استعمل مع اسم الإشارة اللام التي للبعد، ومثل هذا قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} . [445] هذا البيت للكميت بن زيد، وقد أنشده ابن منظور "ق ب ص" ومسجدا الله: أراد بهما مسجد مكة ومسجد المدينة، زادهما الله تعالى شرفًا، وأراد بالحصى العدد العديد من البشر، كما ورد في قول الأعشى: ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر والسر في ذلك أنهم كانوا يعدون بالحصى، والقبص -بكسر القاف وسكون الباء وآخره صاد مهملة- أصله مجتمع النمل الكبير الكثير، ثم أطلق على العدد الكثير من الناس. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "من بين أثرى وأقترا" فإن هذا الكلام على تقدير اسم موصول قبل أثرى واسم موصول آخر قبل أقتر، وأصل الكلام من بين من أثرى ومن أقتر، فحذف الموصولين وأبقى صلتيهما، ولا يكون الكلام على تقدير موصول واحد، لأنه يلزم عليه أن يكون الذي أثرى هو نفس الذي أقتر أي افتقر وهو لا يريد ذلك، إنما يريد من بين جميع الناس مثريهم وفقيرهم، ونظير هذا البيت في حذف الموصول وبقاء صلته قول =

أراد مَنْ أثرى ومن أقتر، فحذف للضرورة، فكذلك ههنا. على أنه يجوز عندكم حذف الاسم الموصول في غير ضرورة الشعر؛ ولهذا ذهبتم إلى أن التقدير في قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ} [النساء: 46] من يحرفون، فحذف "من" وهو الاسم الموصول، وكذلك ذهبتم إلى أن التقدير في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] أي: الذي يحمل أسفارا، وإذا جاز هذا عندكم في القرآن ففي ضرورة الشعر أولى؛ فلا يكون لهم فيه حجة، والله أعلم.

_ = حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه: أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء؟ التقدير: أمن يهجو رسول الله ومن يمدحه وينصره سواء؟ ولا يجوز أن تجعل جملة يمدحه وجملة ينصره معطوفتين على جملة يهجو رسول الله؛ لأنه يلزم عليه أن يكون الذي يهجوه والذي يمدحه واحدا، وهذا غير صحيح، ونظير ذلك قول الآخر: ما الذي دأبه احتياط وحزم ... وهواه أطاع يستويان التقدير: ما الذي دأبه احتياط وحزم والذي أطاع هواه، والقول في لزوم هذا التقدير كالقول الذي ذكرناه في بيت حسان. واعلم أن حذف الموصول وإبقاء صلته قد أجازه الكوفيون والأخفش، واتبعهم ابن مالك في بعض كتبه، واشترط في بعض كتبه لجواز هذا الحذف أن يكون لموصول المحذوف معطوفًا على موصول آخر، وسائر البصريين لا يقرّون ذلك، ويجعلون الحذف من ضرورات الشعر.

مسألة هل يكون للاسم المحلى بأل صلة كصلة الموصول؟

104- مسألة: [هل يكون للاسم المحلّى بأل صلة كصلة الموصول؟] 1 ذهب الكوفيين إلى أن الاسم الظاهر إذا كانت فيه الألف واللام وُصِلَ كما يوصل الذي. وذهب البصريون إلى أنه لا يوصل. وأما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء ذلك في كلامهم واستعمالهم، قال الشاعر: [446] لعَمْرِي لأنت البيتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ ... وأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بالأَصَائل

_ [446] هذا البيت من قصيدة لأبي ذؤيب الهذلي أولها قوله: أساءلت رسم الدار أم لم تسائل ... عن السكن، أم عن عهده بالأوائل؟ "انظر ديوان الهذليين 1/ 139-145" والبيت من شواهد رضي الدين في باب الموصول من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 489" وأنشده المبرد في الكامل "2/ 57 الخيرية" وأكرم: مضارع أكرم، والأفياء: جمع فيء -بفتح فسكون- وهو الظل، وقوله "بالأصائل" الأصائل: جمع أصيل، وهو الوقت الذي قبل غروب الشمس. ومحل الاستشهاد من البيت قوله "لأنت البيت أكرم أهله" فإن الكوفيين يزعمون أن جملة "أكرم أهله" لا محل لها من الإعراب صلة للبيت، وعندهم أن الاسم الجامد المحلّى بأل مثل البيت والدار والفرس مثل الأسماء الموصولة كالتي والذي وفروعهما في الحاجة إلى الصلة. ويقول أبو رجاء عفا الله تعالى عنه: كأنهم أرادوا أن يجعلوا الجمل الواقعة بعد الاسم المحلّى بأل صفة لذلك الاسم، فمنعهم من ذلك أن الجمل نكرات والمحلّى بأل معرفة، فامتنعوا من جعل الجملة صفة لذلك، ورأوا أن هذه الجملة من تمام الاسم المحلّى بأل كما أن الجملة التي تقع صلة من تمام الاسم الموصول، فقالوا: إن هذه الجملة صلة، يريدون أنها من تمام الاسم المتقدم عليها. أما البصريون فينكرون ذلك ولا يرتضونه لعدة وجوه: =

فقوله: "لأنت" مبتدأ، و"البيت" خبرهُ و"أكرم" صلة الخبر الذي هو البيت، وهذا كثير في استعمالهم. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن الاسم الظاهر يدل على معنى مخصوص في نفسه، وليس كالذي؛ لأنه لا يدل على معنى مخصوص إلا بصلة توضِّحُهُ؛ لأنه مبهم، وإذا لم يكن في معناه1 فلا يجوز أن يقام مُقَامه. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله: [446] لعمري لأنت البيت أُكْرِمُ أَهْلَهُ فلا حجة لهم فيه من وجهين: أحدهما: أن يكون "البيت" خير المبتدأ الذي هو "أنت" و"أكرم" خبرا آخر، كما تقول: هذا حلو حامض، فحلو: خبر المبتدأ الذي هو هذا وحامض: خبر

_ = الأول: أن الاسم المحلّى بأل يدل على معنى خاص في نفسه والاسم الموصول لا يدل على معنى خاص في نفسه، وإنما يدل على معنى مبهم، وهذا المعنى المبهم الذي يدل عليه الاسم الموصول يتضح وتظهر حقيقته بواسطة الصلة، وإذا كان الأمر كذلك لم يكن الاسم المحلّى بأل محتاجا إلى الصلة كحاجة الموصول إليها. والثاني: أن هذا المعنى الذي أرادوه من العبارة المذكورة لا ينحصر الطريق إليه في جعل الجملة صلة، بل يمكن الوصول إليه من غير الطريق الذي سلكوه، وقد ذكر العلماء لذلك طريقين: أحدهما أن تجعل "أنت" مبتدأ، و"البيت" خبرا أول، وجملة "أكرم أهله" في محل رفع خبر ثان، وعلى هذا تكون "ال" الداخلة على البيت لاستغراق الصفات، كالتي في قولهم: أنت الرجل، يريدون أنت الجامع لكل صفات الكمال التي في الرجال، وكأن الشاعر قد قال: أنت البيت الجامع لكل الصفات المحببة في البيوت، ثم أخبر عنه مرة أخرى بقوله "أكرم أهله" والطريق الثاني: أن يكون قوله البيت خبرا لأنت، وجملة "أكرم أهله" صفة للبيت، وعلي هذا تكون أل الداخلة على البيت جنسية، وقد علم أن الاسم المحلى بأل الجنسية قريب من النكرة، فيجوز أن تكون الجملة بعده صفات له، وذلك نظير ما قالوه في قول الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فأمر ثم أقول لا يعنيني والوجه الثالث: سلمنا أن الطريق إلى المعنى الذي أرادوه منحصر في جعل جملة "أكرم أهله" صلة، لكن لا نسلم أن هذه الجملة صلة للبيت، ولم لا تكون صلة لموصول محذوف يقع صفة للبيت، وأنتم معشر الكوفيين تجيزون حذف الموصول وبقاء صلته، وكأن الشاعر قد قال: لأنت البيت الذي أكرم أهله.... إلخ. وفي هذا القدر كفاية.

آخر، والمعنى أنه قد جمع الطَّعْمين، ونحوه قول الشاعر: [447] من يَكُ ذا بتٍّ فهذا بتِّي ... مُصَيِّفٌ مُقَيِّظٌ مُشَتِّي تَخِذْتُهُ من نَعَجَاتٍ سِتِّ ... سُودٍ جِعَادٍ من نِعَاجِ الدّشْتِ فَبَتِّي: خبر المبتدأ الذي هو هذا، ومصيف: خبر ثان، ومقيظ: خبر ثالث، ومشتي: خبر رابع، وإذا جاز أن يكون له أَرْبَعَةُ أخبار جاز أن يكون له خَبَران. والوجه الثاني: أن يكون "البيت" مبهمًا لا يدل على معهود، و"أكرم" وصفٌ له؛ فكأنه قال: لأنت بيتٌ أكرم أهله، كما يقال: إني لآمر بالرجل غيرك، ومثلك، وخير منك، فيكون "غيرك، ومثلك، وخير منك" -وهي نكرات- أوصافًا للرجل؛ لأنه لما كان مبهما لا يدل على معهود فكأنه قال "إني لآمر برجل غيرك، ومثلك، وخيرٍ منك" كما قال الشاعر: [201] ولقد جنيتك أَكْمُؤا وعَسَاقِلَا ... ولقد نهيتك عن بنات الأَوْبَرِ

_ [447] هذه أربعة أبيات من الرجز المشطور، وأولها وثانيها من شواهد سيبويه "1/ 258" ولم يعزهما ولا عزاهما الأعلم إلى قائل معين، وأربعتها من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص121" واستشهد بأولها وثانيها أيضا الأشموني "رقم 164" وابن عقيل "رقم 58" وشرحه العيني "1/ 561 بهامش الخزانة" وتنسب أربعة الأبيات لرؤبة بن العجاج، ولكني لم أجدها في ديوان رجزه، ووجدتها في الزيادات المحلقة به والأول والثاني والثالث في اللسان "ب ت ت" من غير عزو، والثالث والرابع فيه "د ش ت" من غير عزو أيضا. والبت -بفتح الباء وتشديد التاء- هو هنا كساء من صوف، ويقال على ضرب من الطيالسة يسمى الساج يكون مربعًا غليظًا أخضر، وقوله "مقيظ مصيف مشتي" يريد أنه يكفيه في الأزمنة الثلاثة، والدشت -بفتح الدال وسكون الشين- الصحراء. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "هذا بتي مقيظ مصيف مشتي" حيث أخبر عن المبتدأ الواحد -وهو اسم الإشارة- بأربعة أخبار، وجعل هذه الأربعة أخبارا لهذا المبتدأ المذكور في الكلام هو مذهب سيبويه، وكان شيخه الخليل لا يرى ذلك، بل كان يرى أنه إذا ورد ما ظاهره تعدد الخبر للمبتدأ الواحد نظر، فإن كانت هذه الأخبار مجتمعة تؤدي ما تؤديه الصفة الواحدة، ولا يجوز حذف بعضها وإبقاء بعضها الآخر نحو أن تقول: فلان أعسر أيسر، وأن تقول: الرمان حلو حامض، كان الاثنان أو الأكثر خبرين أو أخبارًا عن المبتدأ الواحد، وإلا يكن الأمر كذلك كان أحدها خبرا عن المبتدأ المذكور، وقدرت لكل واحد مما عداه مبتدأ آخر، فتقول: هذا بتي، هو مقيظ، هو مصيف، هو مشتي، ومن العلماء من أجاز تعدد الخبر للمبتدأ الواحد بشرط أن تكون الأخبار كلها متحدة في الإفراط أو الجملية، فاعرف هذا، وكن منه على ثبت.

أراد "بنات أوبر" وهي ضَرْبٌ من الكمأة، وقد جاء هذا النحو في كلامهم وأشعارهم. ويحتمل أيضا أن يكون التقدير فيه: لأنت البيت الذي أكرم أهله، فحذف الاسم الموصول للضرورة، على ما بينا قبلُ. وإذا كان يحتمل هذه الوجوه من الاحتمالات بطل الاحتجاج به؛ فلا يكون فيه حجة، والله أعلم.

مسألة همزة بين بين متحركة أو ساكنة؟

105- مسألة: [همزة بَيْنَ بَيْنَ متحركة أو ساكنة؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن همزة بَيْنَ بَيْنَ ساكنة. وذهب البصريون إلى أنها متحركة. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنها ساكنة أن همزة بَيْنَ بَيْنَ لا يجوز أن تقع مبتدأة، ولو كانت متحركة لجاز أن تقع مبتدأة، فلما امتنع الابتداء بها دلّ على أنها ساكنة؛ لأن الساكن لا يُبْتَدَأ به. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنها متحركة أنها تقع مخففة بَيْنَ بَيْنَ في الشعر وبعدها ساكن في الموضع الذي لو اجتمع فيه ساكنان لانكسر البيت كقول الأعشى: [448] أَأَنْ رَأَتْ رجلا أعشى أَضَرَّ بِهِ ... رَيْبُ الزَّمَانِ ودَهْرٌ مُفْسِدٌ خَبِلُ

_ [448] هذا البيت هو البيت العشرون في رواية التبريزي والعاشر في رواية أبي العباس ثعلب من قصيدة الأعشى ميمون التي يعدها بعض العلماء من المعلقات "انظر شرح التبريزي ص278 ط السلفية، وديوان الأعشى ص42 ط فينا" والبيت من شواهد سيبويه "1/ 476 و2/ 167" وشواهد الرضي في باب الوقف من شرح الشافية، وشرحه البغدادي "ص332" والأعشى: الذي لا يبصر بالليل، ويقابله الأجهر، وهو الذي لا يبصر بالنهار، والمنون: المنية أي الموت، وسميت منونا لأنها مقدرة على كل أحد، تقول: منى الله الشيء يمنيه -بوزن رمى يرمي- إذا قدره وهيأ أسبابه؛ وقيل: سميت منونا لأنها تنقص الأشياء: من منى الشيء يمنيه؛ إذا نقصه؛ وفيه لغة منه -بتشديد النون- ومنه قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم: 3] أي غير منقوص، وعلى الأول هي فعول بمعنى مفعول، وعلى الثاني هي فعول بمعنى فاعل، والخبل -بفتح الخاء وكسر الباء- مأخوذ من الخبال وهو الفساد. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "أأن" فقد =

فالنون ساكنة وقبلها همزة مخففة بَيْنَ بَيْنَ، فعلم أنها متحركة؛ لاستحالة التقاء الساكنين في هذا الموضع، وهذا لأن الهمزة إنما جعلت بَيْنَ بَيْنَ كراهية لاجتماع الهمزتين؛ لأنهم يستثقلون ذلك، ولم يأتِ اجتماع الهمزتين في شيء

_ = التقى في هذه الكلمة همزتان أولاهما همزة الاستفهام والثانية همزة أن المصدرية؛ ولك أن تحقق الهمزتين فتأتي بهما على أصلهما فتقول "أأن" ولك أن تخفف الهمزة الثانية، وقد ذهب البصريون إلى أنك إذا خففت الثانية جئت بها متحركة وجعلتها حرفا بين الهمزة وحرف العلة؛ وقال الكوفيون: همزة بَيْنَ بَيْنَ ساكنة، ويرد عليهم مثل هذا البيت، ووجه الرد إلى أن النون بعد الهمزة الثانية ساكنة؛ فلو كانت الهمزة ساكنة أيضا لالتقى ساكنان على غير الحد الجائز، وذلك مما لا يجوز، وقد روي أن ورشًا قرأ في قوله تعالى: {أَأَنْذَرْتَهُمْ} بقلب الهمزة الثانية ألفًا، وقد أنكر هذه القراءة الزمخشري وزعم أن ذلك لحن وخروج عن كلام العرب من وجهين: أحدهما أنه يلزم على هذه القراءة الجمع بين ساكنين على غير الحد الذي يجوز فيه التقاء الساكنين؛ والثاني أن طريق تخفيف همزة بَيْنَ بَيْنَ هو بالتسهيل لا بالقلب ألفًا؛ لأن القلب ألفًا هو طريق تخفيف الهمزة الساكنة، لكن هذا الكلام فيه إلزام الكوفيين بما لم يلتزموه؛ لأن هذا الذي قاله الزمخشري في رد قراءة ورش هو قواعد البصريين التي أصلوها وجعلوها معيارًا لأنفسهم؛ وقد قلنا مرارًا: إنه لا يجوز الردّ على قوم بمذهب غير مذهبهم؛ كما قلنا مرة أخرى: إن القراءة سنة متبعة؛ فليست خاضعة لما يراه فريق من النحاة؛ والكوفيون يجيزون التقاء الساكنين في مثل هذا الموضع، ولعلهم يلتزمون تحقيق الهمزتين في مثل هذا البيت. ونظيره قول الشاعر؛ وهو من شواهد ابن يعيش: أأن زم إجمال وفارق جيرة ... وصاح غراب البيت أنت حزين؟ ونظيره أيضا قول ذي الرمة غيلان: أأن ترسمت من خرقاء منزلة ... ماء الصبابة من عينيك مسجوم؟ ونظيره أيضا قول ابن هرمة: أأن تعنت على ساق مطوقة ... ورقاء تدعو هديلًا فوق أعواد؟ ونظيره قول مجنون بني عامر: أقول لظبي يرتعي وسط روضة: ... أأنت أخو ليلى؟ فقال: يقال ونظيره قول ذي الرمة "كامل المبرد 2/ 168": أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا أأنت أم أم سالم؟ ونظيره قول الشاعر: أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي لا يأتليني؟ ونظيره قول عمر بن أبي ربيعة: أألحق إن دار الرباب تباعدت ... أو انبت حبل أن قلبك طائر؟ ونظيره قول تميم بن أبي بن مقبل: أأم تميم إن تريني عدوكم ... وبيتي فقد أغنى الحبيب المصافيا

من كلامهم إلا في بيت واحد أنشده قُطْرُب: [449] فإنك لا تدري متى الموت جائِيءٌ ... ولكنَّ أقصى مُدَّةِ الموتِ عاجلُ

_ [449] هذا البيت من شواهد الأشموني "رقم 38" وروى صدره "لعمرك ما تدري متى الموت جائي" وحفظي في عجزه "أقصى مدة العمر" و"لعمرك" -بفتح العين هنا وسكون الميم- اللام فيه لتوكيد الابتداء، والخبر محذوف وجوبًا، أي لعمرك قسمي، أو لعمرك ما أقسم به، وإذا لم تدخل عليه اللام نصبته نصب المصادر، كما قال عمر بن أبي ربيعة: أيها المنكح الثريا سهيلًا ... عمرك الله كيف يلتقيان؟ و"تدري" أي تعلم، و"عاجل" قريب. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "جائئ" واعلم أولا أن هذه الكلمة تروى بهمزتين وتروى بهمزة فياء متحركة بحركة الإعراب وهي الضمة، واعلم ثانيًا أن الأصل الأصيل في هذه الكلمة "جايئ" بياء ثم همزة، لأنه اسم الفاعل من جاء يجيء مثل باع يبيع، فانقلبت ياؤه همزة لوقوعها عين اسم فاعل فعل أعلت فيه، أو لكونها بعد ألف زائدة، فصار "جائئ" بهمزتين والقياس في مثل ذلك أن تقلب الهمزة المتطرفة ياء لكونها ثانية همزتين في موقع اللام من الكلمة فيقال "جائي" والنحاة يروونه على هذه الصورة ويحرّكون الياء بالضمة، ويقولون: إن الشاعر عامل حرف العلة معاملة الحرف الصحيح، وبعبارة أخرى: إن الشاعر عاود الأصل المهجور، ورجع إليه، وترك الفرع الذي صار إليه العمل -وهو تقدير الضمة والكسرة على الياء أو الواو لثقل كل من الضمة والكسرة على كل من الواو والياء- وهذا الرجوع ضرورة من ضرورات الشعر، ونظيره قول جرير بن عطية يهجو الفرزدق: وعرق الفرزدق شر العروق ... خبيث الثرى كأبي الأزند فقد جاء بقوله "كأبي" مرفوعًا، وعامل الياء معاملة الحرف الصحيح فلم يقدر عليها الضمة، ونظيره قول الآخر: تراه -وقد بد الرماة- كأنه ... أمام الكلاب عنهم مصغي الخد الرواية برفع "مصغي" بضمة ظاهرة على الياء على أنه خبر "كأن". ونظيره قول القطامي: ما للعذارى؟ ودعن الحياة كما ... ودعنني، واتخذن الشيب ميعادي محل الاستشهاد قوله "ما للعذارى" فقد جاء بكسر الياء، والكسرة أخت الضمة كما قلنا، ونظير ذلك في الفعل قول الشاعر: إذا قلت علّ القلب يسلو قيضت ... هواجس لا تنفك تغريه بالوجد الشاهد فيه قوله "يسلو" فقد جاء الشاعر بهذا الفعل مرفوعا بضمة ظاهرة على الواو، ومثله قول الآخر: فقمت إلى عنز بقية أعنز ... فأذبحها، فعل امرئ غير نادم فعوضني منها غناي ولم تكن ... تساوي عندي غير خمس دراهم الشاهد في قوله "تساوي" حيث جاء الشاعر بهذا الفعل مرفوعا بالضمة الظاهرة ولم يبالِ بأن الضمة ثقيلة على الياء، من قبل أن الأصل الأصيل هو أن تظهر حركات الإعراب على الحروف متى أمكن أن تظهر عليها. =

ولهذا لم يأتِ في كلامهم ما عينُهُ همزة ولامُهُ همزةٌ كما جاء ذلك في الياء والواو نحو "حيَّة، وقوَّة" وكذلك الحروف الصحيحة نحو "طَلَل، وشَرَر" وما أشبه ذلك؛ فلما كانوا يستثقلون اجتماع الهمزتين قربوا هذه الهمزة من حرف العلة، وذلك لا يوجب خروجَهَا عن أصلها من كل وجه، ولا سَلْبَ حركتها عنها بالكلية. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنه لا يجوز أن تقع مبتدأة" قلنا: إنما لم يجز أن تقع مبتدأة لأنها إذا جعلت بَيْنَ بَيْنَ اخْتُلِسَتْ حركتها وقربت من الساكن، والابتداء إنما يكون بما تمكنت فيه حركته، وإذا جعلت بَيْنَ بَيْنَ فقد زال ذلك التمكن وقربت من الساكن، وكما لا يجوز الابتداء بالساكن فكذلك لا يجوز الابتداء بما قرب منه. ألا ترى أنهم لم يخرموا مُتَفَاعلن من الكامل -وهو حذف الحرف الأول- كما خرموا فَعُولُن؛ لأجل أن متفاعلن يسكن ثانيه إذا أضمر، والإضمار إسكان الثاني، فكان يبقى متفاعلن فينقل إلى مستفعلن، فلو خرموه في أول البيت لأدّى ذلك إلى الابتداء بالساكن في حال؛ فجرى خَرْمه مجرى خَرْم مستفعلن؛ فلما كان يفضي إلى الابتداء بالساكن رفضوه، فكذلك ههنا: لما قربت من الساكن بجعلها بَيْنَ بَيْنَ رفضوا الابتداء بها. وحكي عن أبي علي الفارسيّ أنه سئل عن الخرم في متفاعلن في حال شبابه، ولم يكن عنده حينئذ مذهب أهل العروض، فأجاب بهذا الجواب، وقال: لايجوز؛ لأنه يؤدّي إلى الابتداء بالساكن من الوجه الذي بيّنّاه، والله أعلم.

_ = نقول: إن كل النحاة يرون في بيت الشاهد" متى الموت جائي" بالياء مرفوعة بالضمة الظاهرة -على أن الشاعر ارتكب الضرورة، والضرورة هي معاودة الأصول المهجورة رغبة في إقامة وزن أو نحوه، ولكن قطرب بن المستنير روى هذه الكلمة "متى الموت جائئ" بهمزتين؛ ليفرّ من هذه الضرورة، وفاته أنه وقع في ضرورة أخرى وذلك لأن الهمزتين المتطرفتين إذا تحركتا وانكسرت أولاهما وجب قلب الثانية ياء، وذلك لأن آخر الكلمة يعرض التسكين للوقف، فتكون الثانية كأنها متطرفة ساكنة إثر أخرى مكسورة، فبقاء الهمزتين ليس هو المستعمل في العربية، فيكون ضرورة، فيصدق عليه المثل "هرب من المطر فوقف تحت ميزاب".

مسألة هل يوقف بنقل الحركة على المنصوب المحلى بأل الساكن ما قبل آخره

106- مسألة: [هل يُوقَفُ بنقل الحركة على المنصوب المحلَّى بأل الساكن ما قبل آخره؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن يقال في الوقف "رأيت البَكَرْ" بفتح الكاف في حال النصب. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز. وأجمعوا على أنه يجوز أن يقال في حالة الرفع والجر بالضم والكسر؛ فيقال في الرفع "هذا البكُرْ" بالضم، وفي الجر "مرت بالبكِرْ" بالكسر. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: أجمعنا على أنه إنما جاز هذا في المرفوع والمخفوض نحو "هذا البكر، ومررت بالبكر" ليزول اجتماع الساكنين في حال الوقف، وأنهم اختاروا الضمة في المرفوع والكسرة في المخفوض لأنها الحركة التي كانت للكلمة في حالة الوصل؛ فكانت أولى من غيرها، كما قال الشاعر: [450] أنا ابْنُ مَاوِيَّةَ إذ جَدَّ الَّنقُزْ

_ [450] هذا بيت من الرجز المشطور، وبعده: وجاءت الخيل أثافي زمر وهو من شواهد سيبويه "2/ 284" ونسبه لبعض السعديين من غير تعيين. ولم يزد الأعلم في نسبته إلى قائله على ما ذكره سيبويه، وجزم الجوهري بأنه لعبد الله بن ماوية الطائي، وذكر ذلك ابن السيد على سبيل الظن، ونسبه الصاغاني إلى فدكي بن عبد الله المنقري "انظر لسان العرب ن ق ر" وقد استشهد به ابن هشام في أوضح المسالك "رقم 555". والنقر: أصله -بفتح النون وسكون القاف- قال ابن سيده ومعناه أن تلزق طرف لسانك بحنكك وتفتح ثم تصوت، وقيل: هو اضطراب اللسان في الفم إلى فوق وإلى أسفل، وقد نقر بالدابة نقرًا، إذا صوّت، وقال الأعلم: "النقر صويت يسكن به الفرس عند احتمائه وشدة حركته. يقول: أنا الشجاع البطل إذا =

وكما قال الآخر: [451] أنا جريرٌ كُنْيَتِي أَبُو عَمِرْ ... أَضْرِبُ بالسَّيْفِ وسَعْدٌ في القَصِرْ أجُبُنًا وغَيرَة خَلْفَ السِّتِرْ وقال الآخر: [452] أَرَتْنِي حِجْلًا على سَاقِهَا ... فَهَشَّ الفُؤَادُ لِذَاكَ الحِجِلْ فقلت ولم أُخْفِ عن صَاحِبِي: ... ألا بِأبِي أَصْلُ تلك الرِّجِل

_ = احتمت الخيل عند اشتداد الحرب" ا. هـ ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "النقر" فإن أصله ساكن القاف متحرك الراء بحركة الإعراب -وهي الضمة هنا- ولكن الشاعر حين أراد الوقف نقل الضمة من الراء إلى القاف الساكنة قبلها، قال الأعلم "الشاهد فيه إلقاء حركة الراء على القاف للوقف" ا. هـ. تحفزها الأوتار والأيدي الشعر ... والنبل ستون كأنها الجمر الشاهد في قوله "الشعر" وقوله "الجمر" فإن أصل الكلمة الأولى -بضم الشين وسكون العين وضم الراء- فلما أراد الوقف نقل ضمة الراء إلى العين الساكنة قبلها، وأصل الثانية -بفتح الجيم وسكون الميم وضم الراء- فنقل الشاعر عند الوقف ضمة الراء الإعرابية إلى الميم الساكنة قبلها. [451] محل الاستشهاد من هذه الأبيات قوله "عمر" وقوله "القصر" وقوله "الستر" فإن أصل الكلمة الأولى بفتح العين وسكون الميم وكسر الراء، فنقل حركة الراء الإعرابية إلى الميم الساكنة قبلها للوقف، وأصل الثانية بفتح القاف وبسكون الصاد وهاتان حركة وسكون البنية، وبكسر الراء وهذه حركة إعراب، فلما أراد الراجز الوقف نقل حركة الراء إلى الصاد الساكنة قبلها، فصار هذا وما قبله كالكتف ونحوه، وأما الكلمة الثالثة فأصلها بكسر السين وسكون التاء، وهاتان حركة وسكون البنية، وبكسر الراء وهذه حركة الإعراب، فلما أراد الوقف نقل كسرة الراء إلى التاء الساكنة فصار بزنة الإبل والبلز ونحوهما. [452] هذان بيتان من المتقارب، وهما من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل "ص1272" وابن منظور "ر ج ل"، والحجل -بكسر الحاء وسكون الجيم، وحكى قوم فتح الحاء مع سكون الجيم أيضًا- هو الخلخال، وهو حلية تلبسها المرأة في رجليها وقالوا لحلقتي القيد حجلًا، وقالوا: هذا فرس محجل، إذا كان في قوائمه بياض، على التشبيه. ومحل الاستشهاد من البيتين قوله: "الحجل" في البيت الأول، وقوله: "الرجل" في البيت الثاني، فإن أصل الكلمة الأولى بكسر الحاء وسكون الجيم كما قلنا، وهاتان حركة وسكون البنية، وبكسر اللام وهذه حركة الإعراب التي يقتضيها العامل، فلما أراد الشاعر الوقف نقل كسرة اللام إلى الجيم الساكنة قبلها فصارت بزنة الإبل والإبد والبلز ونحوهن، وكذلك الكلمة الثانية، قال ابن منظور "أراد الرجل والحجل فألقى حركة اللام على الجيم، وليس هذا وضعًا؛ لأن فعلًا لم يأت إلا في قولهم إبل وإطل" ا. هـ، يريد أن كسرة الجيم ليست من أصل البنية التي وضعت الكلمتان عليها؛ لأن فعلًا بسكر الفاء والعين جميعًا لم يرد إلا في كلمات قليلة محفوظة، وليس هاتان الكلمتان من بين ما حفظه العلماء منها.

وقال الآخر: [453] عَلَّمَنَا إِخْوَانُنَا بَنُو عِجِلْ ... شُرْبَ النبيذ واصْطِفَافًا بالرِّجِلْ وإذا ثبت هذا في المرفوع والمخفوض، فكذلك أيضا في المنصوب؛ لأن الكاف في قولك "رأيت البكر" في حالة النصب ساكنة كما هي ساكنة في قولك: "هذا البكر، ومررت بالبكر" في حالة الرفع والخفض، فكما حركت الكاف في المرفوع والمخفوض ليزول اجتماع الساكنين، فكذلك ينبغي أيضا في المنصوب ليزول اجتماع الساكنين، وكما أنهم اختاروا الضمة في المرفوع والكسرة في المخفوض لأنها الحركة التي كانت للكلمة في حالة الوصل، فكذلك يجب أيضا أن يختاروا الفتحة في المنصوب؛ لأنها

_ [453] هذان بيتان من الرجز المشطور، وقد أنشدهما ابن منظور "ع ج ل" وأبو زيد في النوادر "ص30" من غير عزو، وعجل: قبيلة من ربيعة، وهم بنو عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وهو في الأصل بكسر العين وسكون الجيم. ومحل الاستشهاد قوله: "عجل" وقوله: "بالرجل" فإن أصل الكلمة الأولى -كما ذكرنا لك- بكسر العين وسكون الجيم، وهاتان حركة وسكون البنية التي وضعت الكلمة عليها، وبكسر اللام، وهذه حركة الإعراب التي يقتضيها العامل. إلا أن الراجز حين أراد الوقف نقل حركة اللام إلى الجيم الساكنة قبلها، وكذلك فعل بالكلمة الثانية، قال ابن منظور "إنما حرك الجيم فيهما ضرورة، لأنه يجوز تحريك الساكن في القافية بحركة ما قبلها، كما قال عبد مناف بن ربيع الهذلي: إذا تجاوب نوح قامتا معه ... ضربا أليما بسبت يلعج الجلدا ا. هـ كلامه بحروفه. قال أبو رجاء، عفا الله عنه: وفي قول ابن منظور الذي سمعته مأخذان ما كان يصح أن يقع فيهما على جلالة قدره، الأول: أنه جعل تحريك الجيم ههنا ضرورة، وكلام النحاة صريح في أن الوقف بنقل حركة الإعراب إلى الساكن قبله مما يقولونه في الكلام عند الوقف، إلا أن تكون حركة الإعراب الفتحة فهذه موضع الخلاف بين البصريين والكوفيين، قال سيبويه "هذا باب الساكن الذي يكون قبل آخر الحروف فيحرك لكراهيتهم التقاء الساكنين، وذلك قول بعض العرب: هذا بكر، ومن بكر، ولم يقولوا رأيت البكر، لأنه في موضع التنوين، وقد يلحق ما يبين حركته، والمجرور والمرفوع لا يلحقهما ذلك في كلامهم، ومن ثم قال الراجز: أنا ابن ماوية إذا جد النقر ا. هـ كلامه. والثاني أنه جعل بيت عبد مناف بن ربع الهذلي نظير بيت الشاهد وهما متغايران، كل واحد منهما عكس صاحبه، ألا ترى أن بيت الشاهد فيه نقل حركة الحرف الآخر إلى الذي قبله، وبيت الهذلي في تحريك الحرف الذي قبل آخر حروف الكلمة حركة إتباع للحرف الذي قبله، ولم تنقل فيه حركة من حرف إلى حرف؟ وقد أنشد أبو زيد بيت عبد مناف المذكور في نوادره "ص30" ثم قال بعد إنشاده "يريد الجلد أي بكسر الجيم وسكون اللام فأتبع الكسرة الكسرة" ا. هـ، وهو كلام دقيق، فتنبه لذلك، والله المسؤول أن يعصمك ويسددك.

الحركة التي كانت للكلمة في حالة الوصل، ولا فرق بينهما. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك؛ لأن أول أحوال الكلمة التنكير، ويجب فيها في حال النصب أن يقال "بَكْرَا" فلا يجوز أن تحرك العين؛ إذ لا يلتقي فيه ساكنان كما يلتقي في حال الرفع والجر، نحو "هذا بَكْرْ، ومررت ببَكْرْ" فلما امتنع في حال النصب تحريك العين في حال التنكير دون حالة الجر والرفع تبعه حال التعريف؛ لأن اللام1 لا تلزم الكلمة في جميع أحوالها؛ فلذلك روعي الحكم الواجب في حال التنكير. والذي أذهب إليه في هذه المسألة ما ذهب إليه الكوفيون. وأما الجواب عن كلمات البصريين: أما قولهم "إن أول أحوال الكلمة التنكير، فلما امتنع معه في حال النصب تحريك العين تبعه حال التعريف بلام التعريف لأنها لا تلزم الكلمة" قلنا: هذا فاسد؛ لأن حمل الاسم في حالة التعريف بلام التعريف على حالة التنكير لا يستقيم؛ لأنه في حال التنكير في النصب يجب تحريك الراء فيه، فلا يجوز تحريك العين لعدم التقاء الساكنين، بخلاف ما إذا كانت فيه لام التعريف؛ فإنه لا يجب تحريك الراء فيه، بل تكون ساكنة فيه كما هي ساكنة في حال الرفع والجر، فكما تحرك الكاف في حالة الرفع بالضم وفي حالة الجر بالكسر؛ فكذلك يجب أن تحرك في حالة النصب بالفتح. وإنما يستقيم ما ذكره البصريون أن لو كان الوقف يوجب فيما دخله لام التعريف أن يكون الوقف عليه بالألف فيقال "رأيت البكرا" كما يقال: "أريت بكرا" فلما لم يقل ذلك لدخول لام التعريف دلَّ على أن الفرق بينهما ظاهر؛ فلا يجوز أن يحمل أحدهما على الآخر. على أن من العرب من يقف عليه مع التنكير في حال النصب بالسكون فيقول: "ضربت بكر، وأكرمت عمرو2" وإن كانت اللغة العالية الفصيحة أن يُوقَفَ عليه بالألف3، غير أن العرب وإن اختلفوا في الجملة في حال التنكير هل يوقف فيه بالألف أو السكون فما اختلفوا البتة في حال التعريف باللام أنه لا يجوز الوقف عليه بالألف. والذي يدل على ذلك أن الألف لا تكاد تقع في هذا النحو في القوافي وصلًا إلا قليلًا؛ فدل على ما بيناه، والله أعلم.

_ 1 المراد باللام حرف التعريف. 2 هذه لغة ربيعة، يقفون على المنصوب المنون بالسكون كما يقف عامة العرب على المرفوع والمخفوض المنونين، وكما يقفون هم وغيرهم على ذي الألف واللام. 3 في ر "أن يقف عليه بالألف".

مسألة القول في أصل حركة همزة الوصل

107- مسألة: [القول في أصل حركة همزة الوصل] 1 ذهب الكوفيون إلى أن الأصل في حركة همزة الوصل أن تتبع حركة عين الفعل؛ فتكسر في "اضْرِبْ" إتباعًا لكسرة العين، وتضم في "ادْخُلْ" إتباعًا لضمة العين، وذهب بعضهم إلى أن الأصل في همزة الوصل أن تكون ساكنةً، وإنما تحرك لالتقاء الساكنين. وذهب البصريون إلى أن الأصل في همزة الوصل أن تكون متحركة مكسورة، وإنما تضم في "ادخل" ونحوه لئلا يُخْرَج من كسر إلى ضم؛ لأن ذلك مستثقل، ولهذا ليس في كلامهم شيء على وزن فِعُلٍ بكسر الفاء وضم العين. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنه لما وجب أن يزيدوا حرفًا لئلا يبتدأ بالساكن ووجب أن يكون الحرف الزائد متحركًا وجب أن تكون حركته تابعة لعين الفعل طلبًا للمجانسة؛ لأنهم يتوخَّون ذلك في كلامهم، ألا ترى أنهم قالوا "مُنْتُن" فضموا التاء إتباعا لضمة الميم، وإن كان الأصل في التاء أن تكون مكسورة؛ لأنه من أَنْتَنَ فهو مُنْتِنٌ، كما تقول: أجمل فهو مجمل، وأحسن فهو محسن، إلا أنهم ضموها للإتباع، وكذلك قالوا فيها أيضا "منتن" فكسروا الميم إتباعا لكسرة التاء، وكذلك قالوا "المغيرة" فكسروا الميم إتباعا لكسرة الغين، وإن كان الأصل أن تكون مضمومة؛ لأنه من أغار على العدو إغارة، وكذلك قالوا "يُسْرُوع" فضموا الياء إتباعا لضمة الراء، واليسروع: دابة حمراء تكون في الرمل، وكذلك قالوا "الأسود بن يُعْفُر" فضموا الياء إتباعا لضمة الفاء، وإن كان الأصل هو الفتح؛ لأنه ليس في الكلام على وزن يُفْعُول بالضم، وكذلك قالوا "هو أخوك لإمك" بكسر الهمزة إتباعا لكسرة اللام، قال

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح المفصل لابن يعيش "ص1332" وشرح الأشموني بحاشية الصبان "4/ 233 وما بعدها" وتصريح الشيخ خالد "2/ 456 وما بعدها".

الله تعالى: {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] في قراءة من قرأ بكسر الهمزة، وهما حمزة الزيات والكسائي، وهما من سادات القَرَأَة السبعة، وعلى ذلك قراءة الحسن: "الْحَمْدِ لِلَّه" [الفاتحة: 2] بكسر الدال، وقراءة ابن أبي عَبْلة: "الْحَمْدُ لِلَّه" [الفاتحة: 2] بضم اللام، وإذا كانوا كسروا ما يجب بالقياس ضمه وضموا ما يجب بالقياس كسره للإتباع طلبًا للمجانسة فلأن يضموا هذه الهمزة أو يكسروها للإتباع ولم يجب لها حركة مخصوصة كان ذلك من طريق الأولى. وأما من ذهب إلى أن الأصل فيها أن تكون ساكنة فقال: أجمعنا على أن همزة الوصل زيادة على بناء الكلمة، وإذا كانت زيادة كان تقديرها ساكنة أولى من تقديرها متحركة، وذلك لأنا إذا قدرناها ساكنة كان زيادة حرف واحد مجرد عن شيء آخر، والزيادة كما كانت أقلَّ كانت أولى، ثم يجب تحريك الهمزة لالتقاء الساكنين؛ فلا يؤدّي إلى الابتداء بالساكن. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن الأصل فيها الحركة وهو الكسر، وذلك لأن المقصود بزيادة الهمزة أن نلفظ بفاء الفعل ساكنة في حال الابتداء؛ لأنه لو لم نزد الهمزة لتحركت فاء الفعل الساكنة في حال الابتداء؛ لأن الابتداء بالساكن محال، فإذا كانوا قد زادوا الهمزة لئلا يبتدأ بالساكن، ولهذا لم يزيدوها فيما تحركت فاؤه؛ فينبغي أن تزاد متحركة لا ساكنة؛ لأنه من المحال أن تقصد إلى حرف ساكن وأنت تقصد التخلص من الساكن. وإنما وجب أن تكون حركتها الكسرة لأنها زيدت على حرف ساكن فكان الكسر أولى بها من غيره؛ لأن مصاحبتها للساكن أكثر من غيره، ألا ترى أنه الأكثر في التقاء الساكنين؟ فحركت بالكسر تشبيها بحركة الساكن إذا لقيه ساكن؛ لأن الهمزة إنما جيء بها توصُّلًا إلى النطق بالساكن، كما أن الساكن إنما حرك توصُّلًا إلى النطق بالساكن الآخر. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنه لما وجب أن يكون الحرف الزائد متحركًا وجب أن تكون حركته تابعة لحركة العين، طلبًا للمجانسة" قلنا: التحريك للإتباع ليس قياسًا مطردًا، وإنما جاء ذلك في بعض المواضع في ألفاظ معدودة قليلة جدا، وذلك الإتباع على طريق الجواز، لا على طريق الوجوب، ألا ترى أنه يجوز أن يقال في منتن بضم التاء "منتن" بالكسر فيؤتى به على الأصل، وأما قولهم "منتن" بكسر الميم فيحتمل أن يكون من نَتُنَ؛ لأنه يقال "نَتُنَ الشيء، وأنتن" لغتان؛ فلا يكون الكسر للإتباع. وكذلك قولهم: "المِغِيرة"

يجوز أن يؤتى به على الأصل فيقال فيه "المغير" بالضم. ويحتمل أن يكون من "غار أهله يغيرهم غيرًا" إذا مَارَهُم، وكذلك يجوز أن يقال في يُسروع بالضم "يَسروع" بالفتح على الأصل، وقد قالوا إنه أسروع1 أيضا، وكذلك يجوز أن يقال في "يُعْفُر" بالضم "يَعْفُر" بالفتح على الأصل، وكذلك يجوز أن يقال في قولهم هو أخوك لأمك بالكسر "هو أخوك لأمك" بالضم على الأصل، وأما قراءة من قرأ: "الْحَمْدِ لِلَّه" [الفاتحة: 2] بكسر الداد وقراءة من قرأ: {الْحَمْدُ لِلَّه} [الفاتحة: 2] بضم اللام فهما قراءتان شاذتان في الاستعمال ضعيفتان في القياس: أما شذوذهما في الاستعمال فظاهر، وأما ضعفهما في القياس فظاهر أيضا: أما كسر الدال فإنما كان ضعيفا لأنه يؤدّي إلى إبطال الإعراب، وذلك لا يجوز، وأما ضم اللام فإنما كان ممتنعا لأن الإتباع لما كان في الكلمة الواحدة قليلًا ضعيفًا كان مع الكلمتين ممتنعا البتة؛ لأن المنفصل لا يلزم لزوم المتصل، فإذا كان في المتصل ضعيفا امتنع في المنفصل البتة، لأنه ليس بعد الضعف إلا امتناع الجواز؛ لأن حركة الإعراب لا تلزم؛ فلا يكون لأجلها إتباع، وإذا كان الإتباع في كلامهم بهذه المثابة دلَّ على أنه ليس الأصل في حركة همزة الوصل أن تتبع حركَةَ العين. والذي يدل على أن حركتها ليست إتباعا لحركة العين في نحو "اضرب، وادخل" أنه لو كان الأمر كذلك لكان ينبغي أن يقال في ذهب يذهب "اذهب" بفتح الهمزة؛ لأن عين الفعل منه مفتوحة، فلما لم يجز ذلك وقيلت بالكسر علم أن أصلها أن تكون متحركة بالكسر، وإنما ضمت في "ادخل" ونحوه لئلا يخرجوا من كسر إلى ضم لأنه مستثقل، ولم يفعلوا ذلك في "اذهب" لأن الخروج من كسر إلى فتح غير مستثقل؛ فجيء بها على الأصل وهو الكسر. وأما قول من قال "إن الأصل فيها أن تكون ساكنة؛ لأن همزة الوصل زائدة، وإذا كانت زائدة كان تقديرها ساكنة أولى من تقديرها متحركة؛ لأن الزيادة كلما كانت أقل كانت أولى" قلنا: الكلام على هذا من وجهين. أحدهما: القاصد للفظ بالساكن إذا قدَّر اجتلاب حرف ساكن -مع علمه بأنه لا يلفظ به- كان تقديره محالا، ولو جاز أن يقال ذلك لجاز أن يقال: إن الاسم يوضع أولا على سكون الأول ثم يتحرك؛ لأن الابتداء بالساكن محال، ثم يلزمه على هذا أن لا يثبت حركة في لفظ إلا لضرورة، وأن يسكن كل حرف

_ 1 وقد جاء جمعه في قول امرئ القيس: وتعطو برخص غير شئن كأنه ... أساريع ضبي أو مساويك إسحل

في أول كل كلمة إذا لم يبتدأ به، ولا خلاف أن مثل هذا لا يرتكبه أحد. والوجه الثاني: أن الهمزة إذا زيدت ساكنة ثم تحركت لالتقاء الساكنين لم تكن جاءت لأجل اللفظ بالساكن؛ فكان حكمها حكم ما يبنى عليه؛ إذ لو زيدت ساكنة لئلا يبتدأ بالساكن لكان تقدير السكون فيها محالًا؛ لما فيه من العَوْد إلى عين ما يُفَر منه، وكان يلزم على مقتضى هذا القول أن لا يجوز حذفها بحالٍ، وأن يقال "يا زيدُ اضرب ويا عمرُو ادخل" بإثبات الهمزة، وذلك لا يجوز، والله أعلم.

مسألة هل يجوز نقل حركة همزة الوصل إلى الساكن قبلها؟

108- مسألة: [هل يجوز نقل حركة همزة الوصل إلى الساكن قبلها؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز نقل حركة همزة الوصل إلى الساكن قبلها. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز. وأجمعوا على أنه يجوز نقل حركة همزة القطع إلى الساكن قبلها كقولهم "مَنْ ابُوكَ، وكم ابِلُكَ". أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على ذلك: النقل، والقياس. أما النقل فقد قال الله تعالى: {الم، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 1-2] فنقل فتحة الهمزة: "اللَّهُ" إلى الميم قبلها، وحكى الكسائي قال: قرأ عليَّ بعض العرب سورة {ق} فقال: "مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبًا الذي" [ق: 25] بفتح التنوين؛ لأنه نقل فتحة همزة "الَّذِي" إلى التنوين قبلها، وحكي أيضا عن بعض العرب "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ" [الفاتحة: 1-2] بفتح الميم؛ لأنه نقل فتحة همزة: "الْحَمْدُ" إلى الميم قبلها، وقرأ أبو جعفر يزيد بن القَعْقَاع المدني وهو من سادات أئمة القراء وهو أحد القَرَأَة العشرة: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا} [البقرة: 34] فنقل ضمة همزة "اسْجُدُوا" إلى التاء قبلها؛ فدلّ على جوازه. وأما القياس فلأنها همزة متحركة؛ فجاز أن تنقل حركتها إلى الساكن قبلها كهمزة القطع في قولهم "من ابُوكَ، وكم ابِلُكَ" وما أشبه ذلك. والذي يدلّ على صحة ما ذكرناه أنهم يقولون "وَاحِدِ اثنانْ" فيكسرون الدال من "وَاحِد" وأجمعنا وإياكم على أن كسرة الدال إنما كانت لإلقاء حركة همزة "اثنانِ" عليها لالتقاء الساكنين، ولا خلاف أن همزة "اثنانِ" همزة وصل، فدلَّ على صحة ما ذكرناه,

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح المفصل لابن يعيش "ص1320 – 1323".

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن الهمزة إنما يجوز أن تنقل حركتها إذا ثبتت في الوصل نحو: "مَنَ ابوك" في "مَنْ ابوك" و"كَمِ ابِلُكَ" في "كَمْ إِبلكَ" فأما همزة الوصل فتسقط في الوصل؛ فلا يصح أن يقال إن حركتها تنقل إلى ما قبلها؛ لأن نقل حركة معدومة لا يتصور، ولو جاز أن يقال إن حركتها تنقل لكان يجب أن يثبتها في الوصل فيقول: قال ألرّجُل، وذهب ألغلام، حتى يجوز له أن يقدر نقل حركتها، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال: "أخذت عن ألرجل" بسكون النون وقطع الهمزة وبفتح النون على نقل الحركة كما يقال: "من أبوكَ، ومن ابوكَ" فلما لم يَقُلْ ذلك بالإجماع دلّ على فساد ما ذهبتم إليه. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقوله تعالى: {الم، اللَّهُ} [آل عمران: 1-2] فلا حجة لهم فيه؛ لأن حركة الميم إنما كانت لالتقاء الساكنين -وهما الميم واللام من "الله" وزعم بعضهم أن الساكنين هما الميم والياء قبلها، وهذا عندي باطل؛ لأنه لو كان التحريك في قوله: {الم، اللَّهُ} لسكونها وسكون الياء قبلها لكان يجب أن تكون متحركة في قوله: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] فلما كانت ساكنة دلّ على أنها حركت ههنا لسكونها وسكون اللام بعدها؛ لا لسكونها وسكون الياء قبلها، وكانت الحركة فتحة على خلاف الأصل في التقاء الساكنين لأن قبلها ياء قبلها كسرة فلو كسر لأدّى ذلك إلى اجتماع كسرة قبلها ياء قبلها كسرة، والياء تعدُّ بكسرتين؛ فيؤدّي في التقدير إلى اجتماع أربع كسرات متواليات، وذلك ثقيل جدا فعدلوا عنه إلى الفتح لأنه أخفُّ الحركات. وهذا هو الجواب عن احتجاجهم بقراءة بعض العرب "مُرِيبِنَ الذي" فإن الفتحة في التنوين ليس عن إلقاء حركة همزة "الَّذِي" وإنما حركت لالتقاء الساكنين -وهما التنوين، واللام من "الَّذِي" وكانت الحركة فتحة على خلاف الأصل في التقاء الساكنين لأن ما قبل التنوين كسرة وقبل الكسرة ياء قبلها كسرة، فالياء تعد بكسرتين على ما بينا؛ فعدل في هذه القراءة عن الكسر لئلا يجمع في التقرير بين خمس كسرات متواليات، وعدل عنه إلى الفتح لأنه أخف الحركات، وإذا كانوا قد فتحوا "أين، وكيف" لئلا يجمعوا بين ياء وكسرة مع كثرة الاستعمال، ولا يوجد فيه من الاستثقال ما يوجد ههنا، فلأن يفتحوا ههنا كان ذلك من طريق الأولى، على أنه لا يجوز لأحد أن يقرأ بهذه القراءة لأنه لا إمام لها، وكذلك ما حكاه عن بعض العرب من فتح الميم من: "الرَّحِيمَ الْحَمْدُ لِلَّهِ" لأنها لا إمام لها، على أنه لا وجه للاحتجاج بها؛ لأن فتح الميم فتحة إعراب؛ لأنه لما

تكرر الوصف عدل به إلى النصب على المدح بتقدير أعني، كما قالت امرأة من العرب1: [295] لا يَبْعَدَنْ قومي الذين هُمُ ... سَمُّ العُدَاةِ وآفةُ الجُزْرِ النازلون بكل مُعْتَرِكٍ ... والطَّيِّبين مَعَاقِدَ الأَزْرِ وهذا كثير في كلامهم، وقد بينا ذلك قبل: وأما قراءة أبي جعفر {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا} [البقرة: 34] فضعيفة في القياس جدا والقُرَّاء على خلافها، على أنها لا حجة لهم فيها. وذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الخلاف إنما وقع في نقل حركة همزة الوصل إلى الساكن قبلها، وههنا ليس ما قبلها ساكنا، وإنما هو متحرك؛ لأن التاء من "الْمَلائِكَةِ" متحركة، فهذا احتجاج على غير محل الخلاف. والثاني: أن هذا لا تقولون به؛ فإنه لا يجوز عندكم نقل حركة همزة الوصل إلى المتحرك قبلها. الثالث: أنا نقول: إنما ضمت هذه التاء إتباعا لضمة الجيم في "اسْجُدُوا" وذلك من وجهين؛ أحدهما: أن يكون قد نَوَى الوقف فسكنت التاء وضمها تشبيهًا بضمة التاء في قراءة من قرأ: {وَقَالَتُ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} [يوسف: 31] بإتباع ضمة التاء ضمة الراء؛ لئلا يخرجوا من كسر إلى ضم كما ضموا الهمزة، ونحو هذا الإتباع قراءة من قرأ أيضا: {جَنَّاتٍ وَعُيُونٌ ادخلوها} [الحجر: 45] بضم التنوين إتباعا لضمة الخاء من: "ادْخُلُوهَا" وهذا كثير في كتاب الله تعالى وكلام العرب. والثاني: أنه أتبع الضم الضم، كما أتبع الكسر في قراءة الحسن البصري: "الْحَمْدِ لِلَّهِ" فكسر الدال إتباعا لكسرة اللام، وكقولهم "منتن" بكسر الميم، والأصل فيه "منتن" بضم الميم، فكسروها إتباعا لكسرة التاء، ومنهم من يقول "منتن" بضم التاء، والأصل فيها الكسر، إتباعا لضم الميم، كقراءة ابن أبي عبلة: "الْحَمْدُ لُلَّهِ" بضم اللام والأصل فيها الكسر إتباعا لضمة الدال. وعلى كل حال فهذه القراءة ضعيفة في القياس، قليلة في الاستعمال. وأما قولهم "إنها همزة متحركة فجاز أن تنقل حركتها إلى الساكن قبلها كهمزة القطع" قلنا: قد بينا الفرق بين همزة الوصل وهمزة القطع بما يغني عن الإعادة؛ فلا يجوز أن تحمل إحداهما على الأخرى.

_ 1 هي الخرنق أخت طرفة بن العبد لأمه كما تقدم ذكره في شرح هذا الشاهد سابقا.

وأما قولهم "أجمعنا على أن كسرة الدال في قولهم واحد اثنان إنما كان لإلقاء حركة همزة اثنان، وهمزة اثنان همزة وصل" قلنا: إنما جاز ذلك ههنا لأن "واحد" في حكم الوقف كنحوه في العدد، و"اثنان" في حكم المستأنف المبتدأ به، وإذا كان في حكم المستأنف المبتدأ به كانت همزته بمنزلة همزة القطع، وإن كانت همزة وصل؛ لأن همزة القطع وهمزة الوصل تستويان في الابتداء؛ ولهذا يقولون "واحد إثنان" فيثبتون فيه الهمزة وإن كانت همزة وصل؛ لأن "واحد" في حكم الوقف، و"إثنان" في حكم المستأنف، ولذلك يقولون "ثلاثة اربعة" فيحذفون الهمزة من "أربعة" ولا يقبلون الهاء من ثلاثة تاء؛ لأن الثلاثة عندهم في حكم الوقف والأربعة في حكم المستأنف، وهم إنما يقلبون الهاء تاء في حالة الوصل، وإذا كانت في تقدير الوقف بقيت هاء، وإن ألقيت عليها حركة ما بعدها، كما تكون هاء إذا لم يكن بعدها شيء والله أعلم.

مسألة هل يجوز مد المقصور في ضرورة الشعر؟

109- مسألة: [هل يجوز مد المقصور في ضرورة الشعر؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز مَدُّ المقصور في ضرورة الشعر، وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش من البصريين، وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز. وأجمعوا على أنه يجوز قصر الممدود في ضرورة الشعر، إلا أن الفراء من الكوفيين اشترط في مد المقصور وقصر الممدود شروطًا لم يشترطها غيره؛ فذهب إلى أنه لا يجوز أن يمد من المقصور ما لا يجيء في بابه ممدود، نحو فَعْلَى تأنيث فَعْلَان نحو سكرى وعطشى؛ فهذا لا يجوز أن يمد؛ لأن مذكره سكران وعطشان، وفَعْلَى تأنيث فعلان لا تجيء إلا مقصورة، وكذلك حكم كل ما يقتضي القياس أن يكون مقصورًا وكذلك لا يجوز أن يُقْصَرَ من الممدود ما لا يجيء في بابه مقصور، نحو تأنيث أفعل نحو بيضاء وسوداء؛ فهذا لا يجوز أن يقصر؛ لأن مذكره أبيض وأسود، وفعلاء تأنيث أفعل لا يكون إلا ممدودًا، وكذلك حكم كل ما يقتضي القياس أن يكون ممدودًا، فأما ما عدا ما يوجب القياس أن يكون مقصورا أو ممدودا من المقصور والممدود فإنه يجوز أن يمد منه المقصور ويقصر منه الممدود إذ كان له نظير من المقصور أو الممدود؛ فيجوز عنده مَدُّ "رحًى، وهدًى، وحِجًى" لأنها إذا مدت صارت إلى مثل سماء ودعاء ورداء، ويجوز عنده قصر "سماء، ودعاء، ورداء" لأنها إذا قصرت صارت إلى مثال رحى وهدى وحجى، فأما ما لا مثال له من المقصور والممدود إذا مُدَّ وقُصِرَ فلا يخرج عن بابه من المد والقصر؛ فهذا تفصيل المذاهب. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على جواز مد المقصور أنه قد جاء ذلك عن العرب في أشعارهم، قال الشاعر: [454] قد علمتْ أمُّ أبي السِّعْلاء ... وعَلِمَتْ ذَاكَ مع الجَرَاء

_ [454] هذه خمسة أبيات من الرجز المشطور، وقد أنشدها -إلا الثاني- ابن منظور "ل هـ ا" =

أنْ نِعْمَ مَأكُولًا على الخَواء ... يا لك من تمر ومن شَيشَاءِ يَنْشَبُ في المَسْعَل واللهَاءِ والسعلاءُ والخواءُ واللهاءُ كله مقصور في الأصل، ومده لضرورة الشعر؛ فدل على جوازه، وقال الآخر: [455] إنما الفقر والغناء من ... الله؛ فهذا يعطي، وهذا يُحَدُّ فمدَّ الغناء وهو مقصور، فدل على جوازه، وقال الآخر: [456] سيغنيني الذي أغناك عنِّي ... فلا فقر يدوم ولا غناء

_ = وأنشد رابعها وخامسها ابن يعيش "ص801" والأشموني "رقم 1157" وابن عقيل "رقم 353" وقد قال الفراء: إن هذا الرجز لأعرابي من أهل البادية، ولم يسمه، وقال أبو عبيد البكري: هو لأبي المقدام الراجز. والسعلاء -بكسر السين وسكون العين- أصله السعلاة، قيل: هي الغول، وقيل: ساحرة الجن، وتجمع على السعالي، والعرب تشبه المرأة العجوز بالسعلاة، قال الراجز: لقد رأيت عجبا مذ أمسا ... عجائزًا مثل السعالي خمسا وقال الأعشى: رب رفد هرقته ذلك اليوم ... وأسرى من معشر أقتال وشيوخ حربي بشطي أريك ... ونساء كأنهن السعالي والجراء -بفتح الجيم أو كسرها- الفتاء، تقول: هذه جارية بينة الجراء، والجراية والجرائية، والجري، أي بينة الصبا والفتاة، والخواء: الخلاء، تقول: خوي الربع يخوى، إذا خلا من أهله، لكن الأصمعي حكى في مصدر هذا الفعل أنه ممدود في الأصل والشيشاء -بشينين معجمتين أولاهما مكسورة وبينهما ياء- هو الشيص، وهو أردأ التمر، وينشب: يعلق، والمسعل: موضع السعال من الحلق، واللهاء -بفتح اللام، وبالمد، وأصله القصر- جمع لهاة، وهي هنة مطبقة في أقصى سقف الفم. ومحل الاستشهاد من هذه الأبيات قوله "السعلاء" وقوله "اللهاء" فإن أصل هاتين الكلمتين القصر فأصل الأولى السعلاة، وأصل الثانية اللهاة، ولكن الراجز قد مدهما حين اضطر، وقد زعم المؤلف أن "الخواء" أصله القصر، ولكن الراجز مدّه أيضا، ولكن الأصمعي كما حدثناك قد حكى أن أصل "الخواء" ممدود، والخطب في ذلك سهل، فإنه يكفي الاستشهاد بالكلمتين السابقتين. [455] يحد -بالبناء للمجهول- أي يمنع ويحرم، والاستشهاد بهذا البيت في قوله "والغناء" فإن هذه الكلمة في الأصل مقصورة، والغنى -بكسر الغين مقصورا- ضد الفقر، وفي الحديث "خير الصدقة ما أبقت غنى" وفي رواية "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" وأصله مصدر "غني يغنى" بوزن رضي يرضى، وقد مدّه الشاعر في هذا البيت حين اضطر لإقامة وزن البيت. [456] هذا البيت من شواهد الأشموني "رقم 1156" وأوضح المسالك "قم 537" وشرحه العيني "4/ 513 بها مش الخزانة" وأنشده ابن منظور "غ ن ي" ومحل الاستشهاد منه قوله "ولا غناء" فإن أصل هذه الكلمة "ولا غنى" بكسر الغين مقصورا، ولكن الشاعر مدّه حين =

وقول الآخر: [457] لم نرحِّبْ بأن شَخَصْتَ، ولكن ... مرحبا بالرِّضَاءِ منك وأَهْلَا فهذه الأبيات كلها تدل على جوازه. وأما من جهة القياس فإنما قلنا إنه يجوز مد المقصور لأنا أجمعنا على أنه يجوز في ضرورة الشعر إشباع الحركات التي هي الضمة والكسرة والفتحة فينشأ عنها الواو والياء والألف؛ فإشباع الضمة كقوله: [8] كأن في أنيابها القَرَنْفُولُ

_ = اضطر لإقامة وزن البيت، وزعم قوم أنه بفتح الغين من قولهم "هذا رجل لا غناء عنده" فيكون ممدودا أصالة، وزعم آخرون أنه بكسر الغين وأنه مصدر "غانيته أغانيه غناء -مثل راميته أراميه رماء" إذا فاخرته وباهيته في الغنى بكسر الغين وبالقصر، قال ابن منظور "وأما قوله: سيغنيني الذي أغناك.... البيت فإنه يروى بالفتح والكسر، فمن رواه بالكسر أراد مصدر غانيت، ومن رواه بالفتح أراد الغني نفسه، قال أبو إسحاق: إنما وجهه ولا غناء -يعني بفتح الغين- لأن الغناء غير خارج من معنى الغنى، وكذلك أنشده من يوثق بعلمه" ا. هـ. وقال ابن هشام "واختلفوا في جواز مد المقصور للضرورة، فأجازه الكوفيون متمسكين بنحو قوله: فلا فقر يدوم ولا غناء ومنعه البصريون، وقدروا الغناء في البيت مصدرا لغانيت لا مصدرا لغنيت، وهو تعسف" ا. هـ. [457] شخص الرجل يشخص -مثل فتح يفتح- شخوصًا، إذا ذهب من بلد إلى بلد، والرضاء: ضد السخط؛ ومحل الاستشهاد في هذا البيت قوله "بالرضاء" فإن أصله الرضا مقصورا، لكن الشاعر لما اضطر لإقامة الوزن مده، وبهذا يستدل الكوفيون على أنه يجوز للشاعر إذا ألجأته الضرورة أن يمد المقصور، كما يجوز له عند الضرورة أن يقصر الممدود، ولكن الأخفش -على ما في اللسان- حكى أن مصدر "رضي" هو الرضا بالقصر، ومنه قول القحيف العقيلي: إذا رضيت على بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها والاسم الرضاء بالمد، فيجوز -إن صح هذا- أن يكون الرضاء في بيت الشاهد اسما لا مصدرا، فيكون ممدودا أصالة، وبهذا يسقط استدلال الكوفيين بهذا البيت وقد أنشد الكوفيون للاستلال على ما ذهبوا إليه قول العجاج: والمرء يبليه بلاء السربال ... كرّ الليالي وانتقال الأحوال وهذا البيت من شواهد الأشموني في المسألة "رقم 1155" وإنما يتم الاستدلال لهم بهذا البيت إذا قرئ "بلاء السربال" بكسر الباء، فإنه يقال: بلي الثوب يبلى بلى مثل رضي يرضى رضى -وأما إذا فتحت الباء فإنه ممدود أصالة، قال ابن منظور "بلي الثوب يبلى بلى، وبلاء، وأبلاه صاحبه.. إذا فتحت الباء مددت، وإذا كسرت قصرت، ومثله القرى والقراء، والصلى والصلاء" ا. هـ.

أراد "القُرُنْفُلَ" وإشباعُ الكسرة كقوله: [16] لا عهد لي بِنِيضَالْ أراد بِنِضالٍ، وإشباع الفتحة كقوله: [10] أقول إِذْ خرَّت على الكَلْكَال أراد الكَلْكَلَ، وقد ذكرنا ذلك مستقصى في غير هذه المسألة1، فإذا كان هذا جائزا في ضرورة الشعر بالإجماع جاز أن يشبع الفتحة قبل الألف المقصورة فتنشأ عنها الألف فيلتحق بالممدود. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز مد المقصور لأن المقصور هو الأصل، والذي يدل على أن المقصور هو الأصل أن الألف تكون فيه أصلية وزائدة، والألف لا تكون في الممدود إلا زائدة، والذي يدل على ذلك أيضا أنه لو لم يعلم الاسم هل هو مقصور أو ممدود لوجب أن يلحق بالمقصور دون الممدود؛ فدلّ على أنه الأصل، وإذا ثبت أن المقصور هو الأصل فلو جوّزنا مدّ المقصور لأدّى ذلك إلى أن نردّه إلى غير أصل، وذلك لا يجوز، وعلى هذا يخرج قصر الممدود؛ فإنه إنما جاز لأنه رَدٌّ إلى أصل، بخلاف مد المقصور؛ لأنه ردٌّ إلى غير أصل، وليس من ضرورة أن يجوز الردّ إلى أصل أنه يجوز الردّ إلى غير أصل، وهذا لا إشكال فيه: وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قول الشاعر: [454] قد علمت أم أبي السَّعْلَاءِ الأبيات إلى آخرها -فلا حجة فيها؛ لأنها لا تعرف، ولا يعرف قائلها، ولا يجوز الاحتجاج بها، ولو كانت صحيحة لتأولناها2 على غير الوجه الذي صاروا إليه. وأما قول الآخر: [455] إنما الفقر والغناء من الله وقول الآخر: [456] فلا فقر يدوم ولا غناء فلا حجة لهم فيه أيضا، وذلك من وجهين؛ أحدهما: أن الإنشاد بفتح

_ 1 انظر المسألة الثانية من مسائل هذا الكتاب. 2 في ر "لتناولناها" وظاهر أن ذلك تحريف عما أثبتناه.

الغين والمدّ، والغناء ممدوح بمعنى الكفاية، قال طرفة: [458] ولا تجعليني كامرئ ليس هَمُّهُ ... كهمِّي، ولا يغني غَنَائِي ومَشْهَدِي والوجه الثاني: أنا نسلم أن الرواية بكسر الغين، ولكن تكون مصدرًا لغانيته: أي فاخرته بالغني، يقال: غانيته أغانيه غناء، كما يقول: والَيْتهُ أُوَالِيهِ ولاء، وعاديته أعاديه عداء بمعنى واليته؛ قال امرؤ القيس: [459] فَعادَى عداء بين ثور ونعجة ... دِرَاكا، ولم يَنْضَخْ بماء فَيُغْسَلِ

_ [458] هذا هو البيت الرابع والتسعون من قصيدة طرفة بن العبد البكري المعلقة "انظر شرح التبريزي ص96" وقبله قوله: إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي على الجيب يا ابنة معبد وانعيني: أي اذكري من أفعالي ما أنا خليق به وأهل له، وليس همه كهمي: يريد ليس عزمه مثل عزمي ولا طلبه للمعالي مثل طلبي، ولا يغني غنائي: أي لا ينفع في المواطن التي أنفع فيها ولا يسد كما أسد، يريد أنه لا يكون مثله في المواطن التي تظهر فيها قيم الرجال كمواطن الحرب ومجالس الخصومات والمفاخرات. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "غنائي" فإنه بفتح الغين، وهو ممدود أصالة، ومعناه النفع والكفاية، والمؤلف يريد بإنشاد هذا البيت أن يقول: إنه يجوز أن يكون "الغناء" في الشاهد رقم 455 و"غناء" في الشاهد رقم 456 مثل "غنائي" في بيت طرفة هذا بفتح الغين وبمعنى الكفاية والنفع، وعلى هذا يكون ممدودا أصالة، ولا يكون فيه شاهد للكوفيين لأن الشاعر أتى به على أصله، وقد ذكرنا لك هناك أن هذا الكلام لا يصح أن يؤخذ به وذكرنا لك كلام ابن هشام في الردّ على هذا الكلام، وقال في آخره: إن تمحلات البصريين في الردّ على الكوفيين تعسف. [459] هذا هو البيت السادس والستون من معلقة امرئ القيس بن حجر الكندي "انظر شرح التبريزي على المعلقات ص46 ط السلفية" وقد أنشده ابن منظور "ع د ي" وعزاه إليه، وعادى: معناه والى بين اثنين في طلق واحد ولم يعرق، تقول: عادى الفارس بين صيدين، وبين رجلين، إذا طعنهما طعنتين متواليتين، والعداء: مصدر هذا الفعل، وهو بكسر العين ممدودًا، ومعناه الموالاة والمتابعة بين الاثنين يصرع أحدهما على إثر الآخر في طلق واحد، ودراكًا: أي مداركة، وهو مصدر في موضع الحال، يصف امرؤ القيس فرسه بالسرعة وأنه يدرك الوحش ويمكن راكبه من صيدها من غير أن يظهر عليه أثر الجهد والتعب حتى إنه لا يعرق مع شدة جريه. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "عداء" فإنه بكسر العين المهملة مصدر عادى، وهو ممدود قياسي، وغرض المؤلف من إنشاد هذا البيت ههنا أن يقول: إنه يجوز أن يكون "الغناء" في البيتين "رقم 455 و456" واللذين أنشدهما الكوفيون بكسر الغين كما قالوا، لكن لا على أنهما مصدر غني كرضي، بل على أنهما مصدر "غانى" أي فاخر في الغنى، ولست في حاجة إلى أن نعيد عليك هنا قول ابن هشام "وهو تعسف" وقد وافق الكوفيين في هذه المسألة ابن ولاد وابن خروف، وقد قرأ طلحة بن مصرف في قوله تعالى: "يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار" بمد السّنا وأصله =

فكذلك ههنا، وهذا هو الجواب عن قول الآخر: [457] .................. ولكن ... مرحبًا بالرِّضَا منك وأَهْلَا لأن "الرضاء" مصدر راضيته مُرَاضاة ورضاء، فلا يكون فيه حجة. وأما قولهم: "إنه يجوز إشباع الحركات فتنشأ عنها الحروف -إلى آخر ما ذكروه" فنقول: الفرق بينهما ظاهر، وذلك أن إشباع الحركات هناك يؤدِّي إلى تغيير واحد، وهو زيادة هذه الحروف فقط، وأما ههنا فإنه يؤدي إلى تغييرين: زيادة الألف الأولى، وقلب الثانية همزة؛ وليس من ضرورة أن يجوز ما يؤدي إلى تغيير واحد أن يجوز ما يؤدي إلى تغييرين وأكثر من ذلك. وأما ما ذهب إليه الفراء -من اشتراطه في قصر الممدود أن يجيء في بابه مقصور- فباطل، لأنه قد جاء القصر فيما لم يجئ في بابه مقصور، قال الشاعر: [460] والقارح العدَّاء وكل طِمِرَّةٍ ... ما إن تنال يد الطويل قَذَالَهَا فقصر "العداء" وهو فَعَّال من العَدْو، وفعَّال لتكثير الفعل، نحو

_ = مقصور، فإذا صحت رواية هذه القراءة دل على جواز مد المقصور في سعة الكلام، ولم يقصر الجواز على الضرورة. [460] هذا هو البيت السادس والعشرون من قصيدة للأعشى ميمون مطلعها قوله "وانظر ديوانه ص22-27": رحلت سمية غدوة أجمالها ... غضبي عليك، فما تقول بدالها؟ وقبل البيت المستشهد به قوله: الواهب المائة الهجا وعبدها ... عوذا تزجي بينها أطفالها وأنشد ابن منظور بيت الشاهد "ع د ا" وعزاه إليه، غير أنه روى عجزه "لا تستطيع يد الطويل قذالها" ورواية الديوان كرواية المؤلف، والعوذ -بضم العين- جمع عائذ، وهي الحديثة النتاج، والقارح: أراد به الفرس الذي اكتمل سنة، والطمرة -بكسر الطاء والميم جميعا مع تشديد الراء- الوثابة، ويقال: هي المشرفة، أي العالية، وهذا هو الذي يتنساب عجز البيت، ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "العداء" فإن أصله "العداء" صيغة مبالغة فعلها عدا يعدو، فأصله ممدود قياسي، ولكن الشاعر قصره حين اضطر لإقامة وزن البيت، قال ابن منظور "أراد العداء، فقصره للضرورة، وأراد لا تستطيع يد الطويل نيل قذالها، فحذف للعلم بذلك" ا. هـ. وأراد المؤلف من الاستشهاد بهذا البيت الردّ على الفرّاء الذي اشترط لجواز قصر الممدود أن يكون قد ورد في بابه مقصور، ووجه الرد من هذا البيت أن الشاعر قد قصر "العداء" وهو صيغة مبالغة كما قلنا فعلها عدا يعدو، ولم يأتِ في صيغ المبالغة مقصور حتى يحمل هذا عليه.

"ضرَّاب وقتَّال"1 ولا يجيء في بابه مقصور، وقال الآخر: [461] ولكنَّما أُهْدِي لِقَيْس هَدِيَّةً ... بِفِيَّ مِنِ اهداها لك الدَّهر إِثْلِبُ فقصر "إهْدَاهَا" وهو مصدر أَهْدَى يُهْدِي إهداء، ولا يجيء في بابه مقصور، ألا ترى أن نظيره من الصحيح أكرم إكراما وأخرج إخراجا، وما أشبه ذلك، وقال الآخر: [245] فلو أنَّ الأطِبَّا كان حَوْلِي ... وكان مع الأطباء الأُسَاةُ فقصر "الأطباء" وهو جمع طبيب، ولا يجيء في بابه مقصور؛ لأن القياس يوجب مده؛ لأن الأصل في طبيب أن يجمع على طُبَبَاء على مثال فعلاء، كشريف وشرفاء وظريف وظرفاء؛ إلا أنه اجتمع فيه حرفان متحركان من جنس واحد فاستثقلوا اجتماعهما، فنقلوه من فعلاء إلى أفعلاء فصار أَطْبِبَاء، فاستثقلوا أيضا اجتماع حرفين متحركين من جنس واحد، فنقلوه كسرة الباء الأولى إلى الطاء، فرارًا من الاستثقال، وأدغموا الباء في الباء، فصار أطِبَّاء، وكذلك حكم ما جاء على هذا المثال في جمع فَعِيل من المضاعف، كقولهم: حبيب وأحبَّاء، وخليل وأخِلَّاء، وجَلِيل وأجِلَّاء، وما أشبه ذلك، ولا يجوز في القياس أن يقع شيء من هذا الجمع إلا ممدودا، فلما قال "الأَطِبَّاء" فقصر ما يوجب القياس مادة دلّ على فساد ما ذهب إليه، والله أعلم.

_ [461] أنشد ابن منظور هذا البيت "ث ل ب" ولم يعزه، وقوله "بفي" أي بفمي، وهو متعلق بقوله أهدي، يريد أنه يهديه كلاما، و"له الدهر إثلب" جملة مستأنفة، يريد: له الدهر إثلب من إهدائي إياها، والإثلب: التراب والحجارة، وقال شمر: الأثلب بلغة أهل الحجاز الحجر، وبلغة تميم التراب، وهمزة الإثلب مكسورة أو مفتوحة، والفتح أكثر. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "اهداها" فإن أصل هذه الكلمة "إهدائها" لأنه مصدر أهدى إليه هدية يهديها إهداء -مثل أكرمه يكرمه إكراما- فهو ممدود قياسي، ولم يجئ في باب مصدر "أفعل يفعل" مقصور حتى يحمل هذا عليه، فأنت تقول: أعطى يعطي إعطاء. وأبقى يبقي إبقاء، وأرضى يرضي إرضاء، وهلم جرا؛ وهذا رد على الفراء الذي اشترط لجواز قصر الممدود أن يكون قد جاء في بابه مقصور، ووجه الردّ ما ذكرنا مثله في شرح الشاهد السابق.

مسألة هل يحذف آخر المقصور والممدود عند التثنية إذا كثرت حروفهما؟

مسألة هل يحذف آخر المقصور والممدود عند التثنية إذا كثرت حروفهما؟ ... 110- مسألة: [هل يحذف آخر المقصود والممدود عند التثنية إذا كثرت حروفها؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن الاسم المقصور إذا كَثُرَتْ حروفه سقطت ألفه في التثنية؛ فقالوا في تثنية "خَوْزَلَى، وقَهْقَرَى": خَوْزَلَانِ، وقَهْقَرَانِ، وذهبوا أيضا فيما طال من الممدود إلى أنه يحذف الحرفان الآخران، فأجازوا في "قَاصعَاء، وحَاثِيَاء": قاصعان، وحاثيان. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز حذف شيء من ذلك في مقصور ولا ممدود. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يجوز ذلك لأنه لما كثرت حروفهما وطال اللفظ بهما، والتثنية توجب زيادة ألف ونون أو ياء ونون عليهما ازدادا كثرة وطولا؛ فا جتمع فيهما ثقلان: ثقل أصليّ، وثقل طارئ؛ فجاز أن يحذف منها لكثرة حروفهما كما يحذفون لكثرة الاستعمال. والذي يدل على أن طول الكلمة وكثرة حروفها له أثر في الحذف قولهم "اشْهَابَّ اشْهِبَابًا، واحْمَارَّ احْمِرَارًا"، وأصله اشهيبابًا واحميرارا، فحذفوا الياء لطول الكلمة وكثرة حروفها، وكذلك زعمتم أن "كينونة" أصلها كيَّنونة بالتشديد، ثم أوجبتم الحذف لطول الكلمة طلبا للتخفيف؛ فدل على أن طول الكلمة وكثرة حروفها له أثر في الحذف؛ فكذلك ههنا، وعلى هذا يخرج ما لم يكثر حروفه منهما؛ فإنه لا يجوز أن يحذف منه شيء لقلة حروفه وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنه لا يحذف منهما شيء؛ لأن التثنية إنما وردت على لفظ الواحد؛ فينبغي أن لا يحذف منه شيء، قَلَّتْ حروفُهُ أو كثرت.

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح ابن يعيش على المفصل "ص598 و600" وشرح الأشموني بحاشية الصبان "4/ 94 بولاق" وتصريح الشيخ خالد "2/ 371".

والذي يدل على ذلك أن العرب لم تحذف فيما كثرت حروفه، كما حُذِفَ في ما قلت حروفه، فقالوا في تثنية جمادى: "جُمَادَيَيْنِ" من غير حذف، قال الشاعر: [462] شَهْرَيْ ربيع وجُمَادَيَيْنَهْ وقال الأخر: [463] جُمَادَيَيْنِ حُسُومًا

_ [462] هذا بيت من الرجز المشطور، وهو من شواهد رضي الدين في باب المثني من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 338" وذكر أنه لا مرأة من فقعس، وأنشد قبله: يا رب خال لك من عرينه ... حج على قليص جوينه فسوته لا تنقضي شهرينه والقليص: تصغير القلوص، وهي الناقة الشابة، وجوينة: تصغير جون، والجون من الإبل ومن الخيل أيضا: الأدهم الشديد السواد، وقوله "فسوته.... إلخ" الفسوة بفتح الفاء وسكون السين- ريح يخرج من البطن من غير صوت، والكلام على حذف مضاف، وكأنه قال: نتن فسوته.... إلخ، وشهرينه: منصوب على الظرفية والعامل فيه تنقضي، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنه مثنى، والهاء في آخره للسكت، وقوله "شهري ربيع" بدل من الشهرين، وجماديينه معطوف على شهري ربيع، والهاء في آخره للسكت أيضا. ومحل الاستشهاد هنا قوله "جماديينه" فإنه مثنى جمادى، والألف فيه خامسة، وقد قلبها الراجز ياء، ولم يحذفها، فيكون ردا على الكوفيين الذين ذهبوا إلى أن الاسم المقصور إذا كثرت حروفه سقطت ألفه في التثنية، ونحب أن ننبهك إلى أن الكوفيين لم يذهبوا إلى أن سقوط الألف في تثنية الاسم الذي كثرت حروفه أمر واجب لا يجوز غيره، بل ذهبوا إلى أنه يجوز أن تسقط ألفه ويجوز أن تذكر وتقلب ياء، فلا يرد عليهم بأن العرب قد أبقت الألف وقلبتها ياء في "جماديينه" وفي ألف كلمة أخرى، وقد قالت العرب في تثنية الخوزلي "الخوزلان" بحذف الألف، ولو أبقوها لقالوا: الخوزليان، وقالوا أيضا: خنفسان، وقرفصان، وعاشوران، في تثنية خنفساء، وقرفصاء، وعاشوراء، فحذفوا في التثنية الهمزة والألف التي قبلها، ولو أبقوا ذلك لقالوا: خنفساوان، وقرفصاوان، وعاشوراوان. وقد استشهد الرضي بالبيت على أن من العرب من يفتح نون المثنى بعد الياء، وبعد الألف كما في قول الراجز: أعرف منها الجيد والعينانا ... ومنخرين أشبها ظبيانا [463] الاستشهاد من هذا الشاهد في قوله "وجماديين" فإنه مثنى جمادى، والألف فيه خامسة، ولم يحذفها الشاعر، بل قلبها ياء على قاعدة أن الألفات إذا كانت رابعة فأكثر قلبت ياء مطلقا، وهذا -فيما زعم المؤلف- يرد على مذهب الكوفيين الذين يقولون: إن المقصور إذا كانت حروفه كثيرة جاز حذف هذه الألف عند التثنية، وإن الممدود إذا كانت همزته بعد حروف كثيرة جاز حذف هذه الهمزة والألف التي قبلها، وقد بينا لك في شرح الشاهد =

وقال الآخر: [464] جماديين حرام فثنوا ذلك على تمام الاسم على الأصل من غير حذف، والعدول عن الأصل والقياس والنقل من غير دليل لا وجه له. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنما قلنا إنه يحذف لكثرة حروفهما وطول ألفاظهما" قلنا: كثرة الحروف لا تكون علة موجبة للحذف، وإنما يوجد ذلك في ألفاظ يسيرة نُقِلَتْ عنهم على خلاف الأصل والقياس، فيجب الاقتصار على تلك المواضع، ولا يقاس عليها غيرها؛ إذ ليس الحذف للكثرة قياسا مطردا؛ فإذا وجب الاقتصار على ما نقل من الحذف للكثرة بَطَلَ أن الحذف ههنا للكثرة؛ لورود النقل بخلافه. وأما استشهادهم باشهباب وكَيْنُونة والأصل فيهما اشهيباب وكَيَّنونة بالتشديد فمخالف لما وقع الخلاف فيه؛ لأن الثقل فيهما لازم في أصل الكلمة غير عارضٍ،

_ = السابق أن هذا الشاهد والكثير من أمثاله لا يرد مذهب الكوفيين من قبل أنهم لا يقولون بوجوب حذف ألف المقصور ولا بوجوب حذف همزة الممدود، وإنما يقولون: يجوز للمتكلم إذا استطال حروف الكلمة أن يحذف الألف أو الهمزة ويجوز له أن يأتي بالكلمة على الأصل ويقلب الألف ياء ويقلب الهمزة واوا أو يبقيها على تفصيل في الممدود معروف لك، وإذا كانوا لا يقولون بوجوب الحذف فمجيء الشواهد العديدة بالإثبات والقلب لا يرد مذهبهم؛ لأن هذه الشواهد جاءت على الوجه الآخر الذي يجوزونه أيضًا. [464] والاستشهاد بهذا الشاهد في قوله "جماديين" أيضا، والكلام فيه كالكلام فيما قبله، وقول المؤلف بعد إنشاد هذه الشواهد "والعدول عن الأصل والقياس والنقل من غير دليل لا وجه له" غير مسلم له، فإنهم لم يقولوا ما قالوه من غير دليل، فقد حكوا أن العرب تثني الخوزلي والقهقري على الخوزلين والقهقرين، بحذف الألف، وتثني القاصعاء والحاثياء على القاصعين والحاثيين، بحذف الهمزة والألف التي قبلها؛ وقد نقلنا لك زيادة على هذه الكلمات في شرح الشاهد 462 أنهم يثنون الخنفساء والقرفصاء وعاشوراء بحذف الألف والهمزة التي قبلها، فكيف يقال: إنهم عدلوا عن الأصل والنقل والقياس من غير دليل؟ وإذا كان القياس يثبت بعدد الكلمات فإن كلام الكوفيين أحرى بالثبوت، لأن الكلمات التي ذكروا أن العرب حذفت منها ألف المقصور وهمزة الممدود مما عددناه هنا سبع كلمات، بينما لم يأتِ هو لمذهب البصريين إلا بكلمة واحدة، وهي جمادى على تعدد ما أتى به من الشواهد لهذه الكلمة، ومع هذا كله نرى لك أن تأخذ بمذهب البصريين، لا لضعف الحجة التي أتى بها الكوفيون ولكن لأن الأصل أن علامة التثنية تزاد على حروف الكلمة كلها، وأن الحذف من الكلمة قد يوقع في اللبس بين الكلمة المراد تثنيتها وكلمة أخرى تشبهها في الحروف التي أبقيت بعد الحذف، فإن أمن اللبس كان لكلامهم وجه.

بخلاف ما وقع الخلاف فيه فإنه غير لازم في أصل الكلمة، بل هو عارض، لأن التثنية عارضة وليست لازمة، ثم أيضا استشهادهم بكينونة وأن أصلها كيَّنونة بالتشديد لا يستقيم؛ لأنه شيء لا يقولون به؛ لأن الأصل عندهم في كينونة كونونة، فأبدلوا من الواو ياء، فكيف يستشهدون على صحة مذهبهم بشيء لا يعتقدون صحته؟ فدل ذلك على صحة ما قلناه، والله أعلم

مسألة القول في المؤنث بغير علامة تأنيث مما على زنة اسم الفاعل

111- مسألة: [القول في المؤنث بغير علامة تأنيث مما على زنة اسم الفاعل] 1 ذهب الكوفيون إلى أن علامة التأنيث إنما حُذِفَتْ من نحو "طالق، وطامث، وحائض، وحامل" لاختصاص المؤنث به. وذهب البصريون إلى أنه إنما حذفت منه علامة التأنيث لأنهم قصدوا به النسب ولم يُجْرُوهُ على الفعل، وذهب بعضهم إلى أنهم إنما حذفوا علامة التأنيث منه لأنهم حملوه على المعنى كأنهم قالوا "شيء حائض". أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن علامة التأنيث إنما دخلت في الأصل للفصل بين المذكر والمؤنث، ولا اشتراك بين المؤنث والمذكر في هذه الأوصاف من الطلاق والطمث والحيض والحمل، وإذا لم يقع الاشتراك لم يفتقر إلى إدخال علامة التأنيث؛ لأن الفصل بين شيئين لا اشتراك بينهما بحال محال. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما حذفت علامة التأنيث من هذا النحو لأن قولهم "طالق، وطامث، وحائص، وحامل" في معنى ذات طلاق وطمث وحيض وحمل، على معنى النسب، أي: قد عرفت بذلك، كما يقال: رجل رامح ونابل، أي ذو رمح ونبل، وليس محمولا على الفعل؛ واسم الفاعل إنما يؤنث على سبيل المتابعة للفعل، نحو ضربت المرأة تضرب فهي ضاربة، فإذا وضع على النسب لم يكن جاريا على الفعل ولا متبعا له، فلم تلحقه علامة التأنيث، وصار بمنزلة قولهم "امرأة مِعْطَار، ومِذْكَار، ومِئْنَاث، ومِئْشِير، ومِعْطِير، وصَبُور، وشكور، وخَوْد، وضَنَاك، وَصَنَاع، وحَصَان، وَرزَان" قال حسان: [465] حصان رَزَانٌ ما تُزَنٌ بِرِيبَةٍ ... وتصبح غَرْثَى من لحوم الغَوَافِلِ

_ [465] هذا البيت لحسان بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه، يقوله في أم المؤمنين صفية =

فإن هذه الأوصاف وما أشبهها لما لم تكن جارية على الفعل لم تلحقها علامة التأنيث، فكذلك ههنا. والذي يدل على صحة ما ذكرناه أنهم لو حملوه على الفعل لدخلته علامة التأنيث؛ فقيل: طَلَقَتْ فهي طالقة، وطمثت فهي طامثة، وحاضت فهي حائضة، وحملت فهي حاملة، وقال الشاعر، وهو الأعشى: [466] أيا جارتا بِينِي فإنك طالقه ... كذاك أمور الناس غادٍ وطارقه وقال: [467] تَمخَّضَتْ المَنُونُ له بيوم ... أَنَّى، ولكل حاملة تمام

_ = رسول الله عائشة بنت الصديق أبي بكر، رضي الله تعالى عنها وعن أبيها وقد أنشد هذا البيت ابن منظور "غ رث - ح ص ن - ر ز ن - ز ن ن" والحصان -بفتح الحاء- العفيفة، والرزان -بفتح الراء- أي ذات ثبات ووقار وعفاف، وهي مع ذلك رزينة في مجلسها، وما تزن -بالبناء للمجهول- أي ما تتهم، والريبة: التهمة وموضع الشك، وغرثي: وصف المؤنث من الغرث -بالتحريك- وهو الجوع، أو أيسره، أو أشده، والغوافل: جمع غافلة، يعني أنها لا تغتاب أحدا. ومحل الاستشهاد مجيء هذه الصفات -وهي حصان، ورزان- من غير تاء التأنيث، مع أنها جارية على مؤنث، وذلك بسبب كونها غير جارية على فعل. [466] هذا البيت مطلع القصيدة الحادية والأربعين من ديوان الأعشى ميمون بن قيس "د183 ط فينا" وقد أنشده ابن منظور "ط ل ق" وعزاه إليه، وأراد بالجارة زوجه، وبيني: أي فارقيني وابتعدي عني، وأصل معنى البين القطع، ومنه أخذ البين للفراق والبعد، لأنه قطع ما كان موصولا بين الأليفين، وقد علل طلبه منها أن تفارقه وتبتعد منه بقوله "فإنك طالقة" وقوله "كذاك أمور الناس غاد وطارقة" أي أن بعض ما يعرض للناس يعرض لهم في وقت الغدو، وبعضه يعرض لهم في وقت الطروق وهو الليل، ومحل الاستشهاد في هذا البيت قوله "طالقة" حيث أتى بهذا الوصف مؤنثا بتاء التأنيث مع أنه لا يوصف به إلا النساء، والسر في أنه أتى بهذا الوصف بتاء التأنيث هنا أنه حمله على معنى الفعل -وهو الحدوث- ألا ترى أن الشاعر يريد أن يقول لامرأته: ابتعدي عني فإنه قد جرى عليك الطلاق وحدث أو يحدث بعد أن لم يكن؟ قال ابن منظور "وكلهم يقول: امرأة طالق -بغير هاء- وأما قول الأعشى: أيا جارتا بيني فإنك طالقة فإن الليث قال: أراد طالقة غدا، وقال غيره: هي طالقة على الفعل، لأنه يقال لها: قد طلقت -بفتح الطاء واللام بعدها- فبنى النعت على الفعل" ا. هـ كلامه. [467] أنشد ابن منظور هذا البيت "ح م ل - أن ا" ونسبه في المرة الأولى إلى عمرو بن حسان، ثم قال: ويروى لخالد بن حق "هكذا" ورواه رابع أربعة أبيات "م خ ض" ونسبها لعمرو بن حسان أحد بني الحارث بن همام بن مرة، وأصل معنى تمخص تحرك، وقالوا: تمخص اللبن، أي تحرك في الممخضة، وقالوا: تمخض الولد، أي تحرك في بطن الحامل، وقالوا: تمخض الدهر بالفتنة، والدنيا تتمخّض بفتنة منكرة وتمخّضت المنون =

ومنهم من تمسك بأن قال: إنما حذفوا علامة التأنيث من "طالق" ونحوه

_ = وغيرها، كل هذا على المجاز، والمنون: المنية وهي الموت، وأني: أي أدرك وبلغ مداه، وقوله: "ولكل حاملة تمام" تذييل، يريد أن لكل حمل مدة ينتهي فيها وتتم مدته. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله: "حاملة" حيث جاء بهذا الوصف متصلا بتاء التأنيث مع أنه خاص بالإناث لا يوصف به غيرهن، وذلك لأنه جعله وصفا جاريا على الفعل، على نحو ما ذكرناه في الشواهد السابقة، قال ابن منظور "وامرأة حامل وحاملة، على النسب وعلى الفعل" يريد أنه يقال حامل على النسب، ويقال حامل على الفعل، فهو على طريق اللف والنشر" الأزهري: امرأة حامل وحاملة؛ إذا كانت حبلى، وفي التهذيب: إذا كان في بطنها ولد، وأنشد لعمرو بن حسان: تمخضت المنون.... البيت فمن قال حامل -بغير هاء- قال: هذا نعت لا يكون إلا للمؤنث، ومن قال حاملة بناه على حملت فهي حاملة؛ فإذا حملت المرأة شيئا على ظهرها أو على رأسها فهي حاملة لا غير، لأن الهاء إنما تلحق للفرق، فأما ما لا يكون للمذكر فقد استغنى فيه عن علامة التأنيث، فإذا أتى بها فإنما هو على الأصل، قال: هذا قول أهل الكوفة، وأما أهل البصرة فإنهم يقولون: هذا غير مستمر؛ لأن العرب قالوا: هذا رجل أيم، وامرأة أيم، ورجل عانس، وامرأة عانس، على الاشتراك وقالوا: امرأة مصبية، وكلبة مجربة، مع غير الاشتراك، قالوا: والصواب أن يقال: قولهم حامل وطالق وحائض وأشباه ذلك من الصفات التي لا علامة فيها للتأنيث، فإنما هي أوصاف مذكرة وصف بها الإناث، كما أن الربعة والرواية والخجأة أوصاف مؤنثة وصف بها الذكران" ا. هـ كلامه، وهو: كلام غير محدود ولا معلل، خلاصته أن الأصل أن يكون وصف المؤنث بعلامة تأنيث، ووصف المذكر بغير علامة، ولكنهم قد يعكسون فيجعلون وصف المذكر مقترنا بعلامة التأنيث ووصف المؤنث خاليا من علامة التأنيث، والكلام الدقيق هو ما قاله أبو البقاء بن يعيش في شرح المفصل "ص695" وذلك قوله "اعلم أنهم قالوا: امرأة طالق وحائض وطامث وقاعد للآيسة من الحيض، وعاصف في وصف الريح من قوله تعالى: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} [يونس: 22] فلم يأتوا فيه بالتاء وإن كان وصفا للمؤنث، وذلك لأنه لم يجر على الفعل، وإنما يلزم الفرق ما كان جاريا على الفعل؛ لأن الفعل لا بد من تأنيثه إذا كان فيه ضمير مؤنثا -حقيقيا- كان أو غير حقيقي -نحو هند ذهبت، وموعظة جاءت، فإذا جرى الاسم على الفعل لزمه الفرق بين المذكر والمؤنث كما كان كذلك في الفعل، وإذا لم يكن جاريا على الفعل كان بمنزلة المنسوب، فحائض بمعنى حائض -أي ذات حيض- على حد قولهم: رجل دارع، أي دارعي -بمعنى صا حب درع- ألا ترى أنك لا تقول درع فتجريه على فعل -كفرح- إنما قولك دارع أي ذو درع، وطالق أي أن الطلاق ثابت فيها، ومثله قولهم: مرضع، أي ذات رضاع، ومنه قوله تعالى: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِه} أي ذات انفطار، وليس ذلك على معنى حاضت وانفطرت، إذ لو أريد ذلك لأتوا بالتاء وقالوا: حائضة غدا، وتطلق غدا، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2] وقوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} [الأنبياء: 81] وقول الشاعر: رأيت جنون العام والعام قبله ... كحائضة يزني بها غير طاهر

لأنهم حملوه على المعنى، كأنهم قالوا: شيء طالق، أو إنسان طالق، كما قالوا: رجل رَبْعَةٌ، فأنثوا والموصوف مذكر على معنى نفس رَبْعة، وكما جاء في الحديث "مذ دَجَتِ الإسلام" لأن الإسلام بمعنى الملة، وكما حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: سمعت أعرابيا يمانيا يقول: فلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها، فقلت له: أتقول "جاءته كتابي"؟ فقال: أليس بصحيفة؟ والحملُ على المعنى كثيرٌ في كلامهم، قال الشاعر: [327] قامت تبكيه على قبره ... من لي من بعدك يا عامر؟ تركتني في الدار ذَا غربة ... قد ذَلَّ من ليس له ناصر فقال "ذا غربة" ولم يقل "ذات غربة"؛ لأن المرأة في المعنى إنسان. وقال الآخر: [468] إن السماحة والمُرُوءَةَ ضُمِّنَا ... قبرًا بمَرْوَ على الطريق الوَاضِحِ

_ = وذلك كله يجري على الفعل على تقدير حاضت وطلقت، هذا مذهب الخليل، وسيبويه يتأوّل على أنه صفة شيء أو إنسان، والشيء مذكر، فكأنهم قالوا: شيء حائض، لأن الشيء عام يقع على المذكر والمؤنث" ا. هـ. وخلاصة هذا الكلام أن ما كان وصفا للمؤنث وليس فيه علامة تأنيث كائض وطالق وطامث لشيوخ البصرة فيه تأويلان: الأول تأويل الخليل، وحاصله أن هذا الوصف لا يراد به الحدوث، وإنما يراد به أنه قائم بصاحبه وأن صاحبه منسوب إليه، فمعنى "امرأة حائض" أنها منسوبة إلى الحيض وإن كانت خالية من دم الحيض حين إطلاق الوصف عليها فعلا، ومعنى "امرأة مرضع" أنها منسوبة إلى الرضاع نعني أن لها ولدًا في زمن الرضاع، ويقال لها مرضع ولو لم تكن ترضع وقت إطلاق الوصف عليها فعلا، فإذا أردت بحائض أن الدم الذي يسمى الحيض يقطر منها أو أردت بمرضع أن ثديها في فم ولدها لم يكن لك بد من أن تلحقهما التاء فتقول حائضة ومرضعة، وهذا هو الذي يسمونه جاريا على الفعل، والتأويل الثاني تأويل سيبويه، وخلاصته أنه تأول الموصوف بهذه الصفات الخالية من علامة التأنيث بمذكر، فجعل المرأة بمعنى شيء وبمعنى إنسان ليصح وصفه بالمذكر، وقد علمت أن مذهب الكوفيين أنه لا يلزم اقتران علامة التأنيث بالوصف الجاري على المؤنث متى كان هذا الوصف مما لا يوصف به المذكر، وفي هذا القدر كفاية ومقنع. [468] هذا البيت من قصيدة لزياد الأعجم يرثي فيها المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة وقد أنشد هذه القصيدة ابن عبد ربه في العقد "3/ 288 اللجنة" وأنشدها أكمل منه أبو علي القالي في ذيل الأمالي "ص8 الدار" وقد أنشده بيت الشاهد ابن هشام في شرح الشذور "رقم 77" والسيد المرتضى في أماليه "1/ 72" والعباسي في معهد التنصيص "261 بولا ق" والبيت كناية عن ثبوت صفتي السماحة والمروءة للمرثى، ونظيره في هذا قول زياد أيضا: إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج =

فقال "ضمنا" ولم يقل "ضمنتا" لأنه ذهب بالسماحة إلى السخاء وبالمروءة إلى الكرم، وقال الآخر: [469] فإن تَعْهَدِينِي وَلِي لِمَّةٌ ... فإنَّ الحَوَادِثَ أَوْدَى بِهَا

_ = ومحل الاستشهاد من البيت قوله "ضمنا" فإن هذا فعل ماضي مبني للمجهول مسند إلى ضمير غائب هو ألف الاثنين يعود إلى مؤنثين وهما المروءة والنجدة، وكان من حق العربية عليه أن يؤنث هذا الفعل، فيلحق به التاء، فيقول "ضمنتا" لأن الفعل المسند إلى ضمير المؤنث يجب إلحاق علامة التأنيث به -سواء أكان هذا المؤنث حقيقي التأنيث أم كان مجازي التأنيث- إلا أن الشاعر ترك التاء بسبب كونه أراد المعنى، وبيان ذلك أن السماحة قد يطلق عليها الكرم أو الجود أو السخاء، وأن المروءة قد يطلق عليها كرم الطباع أو الشرف أو السمو، وكل ذلك مذكر، فذكر الفعل لأنه أراد بالضمير وصفين من هذه الأوصاف المذكورة، ونظير ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الكهف: 98] وقوله سبحانه: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 119] إذا جعلت اسم الإشارة في "ولذلك" عائدًا إلى الرحمة المستفاد من قوله سبحانه "إلا من رحم ربك" وهو رأي لبعض العلماء في الآية ألا ترى أنه قد جيء باسم الإشارة الموضوع للمفرد المذكر مشارا به إلى الرحمة، وذلك لأن معنى الرحمة هو الفضل والإنعام، فكأنه قيل: ولذلك الفضل أو لذلك الإنعام خلقهم، وكأنه قيل في الآية الأخرى هذا فضل من ربي، ونظير ذلك من الشعر مما لم يذكره المؤلف قول الخنساء: فذلك -يا هند- الرزية، فاعلمي ... ونيران حرب حين شب وقودها فقد أشارت باسم الإشارة الموضوع للمفرد المذكر في قولها "فذلك" إلى الرزية وهي مؤنثة لأنها أرادت من الرزية الرزء أو الخطب أو نحو ذلك، ونظيره قول امرئ القيس بن حجر الكندي: برهرهة رؤدة رخصة ... كخرعوبة البانة المنفطر البرهرهة: الرقيقة الجلد، والرؤدة: الناعمة الرخصة، والخرعوبة: القضيب الغضّ والمنفطر: المنشق، فأنت تراه قد قال "كخرعوبة البانة المنفطر" مع أن الخرعوبة مؤنث اللفظ، وكان من حقه أن يقول المنفطرة، إلا أنه لما كان الخرعوبة والغضّ بمعنى واحد أعاد الصفة على الخرعوبة كما يعيدها على الغضّ. [469] هذا البيت من كلام الأعشى ميمون بن قيس، من قصيدة يمدح فيه رهط قيس بن معد يكرب الكندي ويزيد بن عبد المدان الحارثي "الديوان 120-122 فينا" وقد أنشده ابن منظور "ح د ث" والبيت من شواهد سيبويه "1/ 239" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 212" والأشموني "رقم 368" وشرحه العيني "2/ 466 بها مش الخزانة" ورواية سيبويه "فإما ترى لمّتى بدلت" ورواية المتأخرين من النحاة "فإما تريني ولي لمّة" وكذلك هي في اللسان، ورواية المؤلف توافق رواية الديوان. واللمة -بكسر اللام- الشعر يلم بالمنكب، أي يحيط به، وبدلت في رواية سيبويه معناه غيرت من السواد إلى البياض، وأودى بها: ذهب بما كان لها من بهجة وحسن، ومحل الاستشهاد من هذا البيت "أودى بها" فإن =

.............................................................................

_ = الفعل الذي هو أودى مسند إلى ضمير مستتر يعود إلى الحوادث، والحوادث جمع حادثة، فهو جمع تكسير مفرده مؤنث، وقد زعم المؤلف تبعا لسيبويه وشراح كلامه أنه كان على الشاعر أن يقول: فإن الحوادث أودت بها؛ فيؤنث الفعل لكونه مسندا إلى ضمير يعود إلى مؤنث، ولكنه ترك تاء التأنيث لأن الحوادث يطلق عليها الحدثان، والحدثان مذكر، ويسند إليه الفعل بغير تاء كما في قول شاعر الحماسة: رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا فرد شعورهن السود بيضًا ... ورد وجوههن البيض سودا قال ابن منظور "فأما قول الأعشى: فإما تريني ولي لمّة -البيت فإنه حذف التاء للضرورة، وذلك لمكان الحاجة إلى الردف، وأما أبو علي الفارسي فذهب إلى أنه وضع الحوادث موضع الحدثان كما وضع الآخر الحدثان موضع الحوادث في قوله: ألا هلك الشهاب المستنير البيتين الآتيين برقم 470" ا. هـ. ولكن خيرًا من هذا التخريج أن يقال: إن الحوادث جمع تكسير، وإن جمع التكسير لكونه لم يسلم فيه بناء المفرد يصح أن يعود إليه الضمير من الفعل والوصف مذكرا أو مؤنثا -سواء أكان مفرده مذكرا أم كان مفرده مؤنثا- وقد تنبَّه لهذا بعض التنبه الأعلم حيث يقول "الشاهد فيه حذف التاء من أودت ضرورة، ودعا إلى حذفها إن القافية مردفة بالألف، وسوغ له حذفها أن تأنيث الحوادث غير حقيقي، وهي في معنى الحدثان" ا. هـ. وقد قلنا "إنه تنبه بعض التنبه" لأنه تنبه إلى أن تأنيث الحوادث غير حقيقي، ولم يكن تنبهه كاملا لأنه جعل ترك التاء في مثل هذا ضرورة، ولأنه عاد فقال "وهي في معنى الحدثان" والصواب أن التعليل لترك التاء ههنا هو أن مرجع الضمير جمع تكسير، وجمع التكسير يصح أن ينظر إليه على أنه جمع فيكون مذكرا ولو كان مفرده مؤنثا، وأن ينظر إليه على أنه جماعة فيكون مؤنثا ولو كان مفرده مذكرا، والوجهان جائزان في سعة الكلام عند علماء المصرين الكوفة والبصرة فما بالهم قد تركوا هذه القاعدة هنا، ورجعوا إلى أصل الكلام الأصيل، وانظر لذلك بحثا وافيا كتبناه في شرحنا على شذور الذهب "ص171-174". ومما ورد فيه إسناد الفعل إلى جمع التكسير الذي واحده مؤنث من غير أن يلحق بالفعل تاء التأنيث قول الشاعر، وأنشده القالي "الأمالي 2/ 281 ط الدار": فما لك إذ ترمين يا أم مالك ... حشاشة قلبي، شل منك الأصابع ألا تراه قد قال "شل الأصابع" والأصابع جمع إصبع، والإصبع مؤنثة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم "هل أنت إلا إصبع دميت" وقد جاء الفعل المسند إلى الأصابع مؤنثا في بيت الفرزدق المشهور. إذا قيل: أي الناس شر قبيلة ... أشارت كليب بالأكف الأصابع أي أشارت الأصابع إلى كليب مصاحبة الأكف، وقد أثرنا لك في شرح الشاهد 470 كلمة لابن يعيش صريحة في ذلك. وفي هذا القدر كفاية وغناء إن شاء الله تعالى:

فقال: أودى" ولم يقل "أَوْدَتْ"؛ لأن الحوادث في معنى الحَدَثَانِ، وقال الآخر: [470] أَلَا هَلَكَ الشِّهَابُ المُسْتَنِيرُ ... ومِدْرَهُنَا الكَمِيُّ إذا نُغِيرُ

_ [470] أنشد بن منظور هذين البيتين "ح د ث" من غير عزو، والمدره -بسكر الميم وسكون الدال وفتح الراء- السيد الشريف والمقدم في اللسان واليد عند الخصومة والقتال، وقيل: هو رأس القوم والمدافع عنهم، وقيل: زعيم القوم وخطيبهم والمتكلم عنهم والذي يرجعون إلى رأيه، وكل هذه عبارات متقاربة، وقال الشاعر: وأنت في القوم أخو عفة ... ومدره القوم غداة الخطاب والكمي -بفتح الكاف وكسر الميم وتشديد الياء- الشجاع المتكمي في سلاحه، أي المستتر فيه، وكان من عادة الفرسان إذا كان عليهم ثارات أن يتكموا في السلاح مخافة أن يأخذهم أحد من ذوي الثارات غدرا، ونغير: من الغارة وهي الهجوم على العدو وقوله "وحمال المئين.... إلخ" وصفه بالكرم بعد وصفه بالشجاعة واللسن، ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "ألمت بنا الحدثان" حيث ألحق تاء التأنيث بالفعل المسند إلى الحدثان، مع أن الحدثان مذكر، لأن الحدثان يطلق عليه لفظ الحوادث، والحوادث مؤنث لكونه جمع حادثة، فقد راعى الشاعر معنى الحدثان وألحق به التاء بناء على هذا المعنى، والواقع في هذا البيت عكس الواقع في البيت السابق كما سمعت في كلام ابن منظور وهذا ظاهر. ونظيره قول أبي ذؤيب وهو من شواهد سيبويه "1/ 238": بعيد الغزاة فما إن يزال ... مضطمرا طرّتاه طليحا والشاهد فيه قوله "مضطمرا طرتاه" حيث حذف التاء من الوصف الذي هو مضطمر مع أنه مسند إلى مثنى مؤنث -وهو قوله "طرتاه"- وذلك لأن الطرة يطلق عليه الجانب، والجانب مذكر، ونظيره قول الفرزدق، وهو من شواهد سيبويه أيضا: وكنا ورثناه على عهد تبع ... طويلا سواريه شديدا دعائمه ومحل الشاهد منه قوله: "طويلا سواريه" وقوله: "شديدا دعائمه" حيث حذف التاء من الوصفين، مع أن كل واحد من فاعلي الوصفين جمع تكسير مفرده مؤنث فمفرد الدعائم دعامة ومفرد السواري سارية، ويجري في هذا ما ذكرناه لك في شرح الشاهد 469. وقال ابن منظور: "الأزهري: وربما أنثت العرب الحدثان يذهبون به إلى الحوادث وأنشد الفراء هذين البيتين: ألا هلك الشهاب المستنير.... البيتين قال: وقال الفراء: تقول العرب: أهلكتنا الحدثان" ا. هـ. واستمع إلى كلام ابن يعيش فإنه يقرر ما ذكرناه لك من رأينا في هذا التخريج، قال "ص699" واعلم أن الجموع تختلف، فما كان من الجمع مكسرا فأنت مخير في تذكير فعله وتأنيثه، نحو قام الرجال وقامت الرجال، من غير ترجيح، لأن لفظ الواحد قد زال بالتكسير، وصارت المعاملة مع لفظ الجمع؛ فإن قدرته بالجمع ذكرته، وإن قدرته =

وحَمَّالُ المِئِينَ إذا أَلَمَّتْ ... بنا الحدثانُ، والأنف النّصُورُ فقال: "أَلَمَّتْ" لأنه ذهب بالحدثان إلى معنى الحوادث، وقال الآخر: [471] إن الأمور إذا الأحداث دَبَّرَهَا ... دون الشيوخ ترى في بعضها خَلَلَا فقال "دَبَّرَهَا" لأنه ذهب إلى معنى الحدث؛ لأن الحدث ههنا يؤدّي عن الجمع، وقال الآخر: [472] هنيئا لسعد ما اقتضى بعد وقعتي ... بناقة سعد والعَشِيَّةُ بَارِدُ

_ = بالجماعة أنثته، قال الشاعر: أخذ العذارى عقدها فنظمنه وقال الراجز: إذا الرجال ولدت أولادها ... واضطربت من كبر أعضادها وجعلت أوصابها تعتادها ... فهي زروع قد دنا حصادها وما كان منه مجموعا جمع السلامة فما كان منه لمؤنث -نحو المسلمات والهندات- كان الوجه تأنيث الفعل، وإن كان الجمع للمذكرين بالواو والنون فالوجه تذكير الفعل فيه" ا. هـ المقصود منه. [471] الأحداث: جمع حدث -بفتح الحاء والدال جميعا- وهو الشاب الفتي السن، ويجمع أيضا على حدثان -بضم فسكون، أو بكسر فسكون- وعلى حدثان -بضم ففتح- والأنثى حدثه، والشيخ: الرجل الذي استبانت فيه السن وظهر عليه الشيب "وانظر شرح الشاهد 409" وجمعه شيوخ، وأشياخ، وشيخان -بكسر الشين- نظير ضيف وضيفان، ويقال للأنثى: شيخة، قال عبيد: باتت على أرم عذوبا ... كأنها شيخة رقوب وأصل تدبير الأمر أن تنظر إلى ما تئول إليه عاقبته، تقول: دبّر الأمر تدبيرًا، وتدبره تدبرا. والمعنى لو أن الأمور قد وكل تدبيرها إلى الأحداث من الشبان وترك فيه الشيوخ ذوو الرأي والحنكة والتجربة لاختل نظامها وانفرط عقدها، ومحل الاستشهاد من البيت قوله: "إذا الأحداث دبرها" حيث أسند الفعل -الذي هو دبر- إلى ضمير غيبة يعود إلى جمع تكسير مفرده مذكر -وهو الأحداث- وجرد هذا الفعل من تاء التأنيث، وقد بينا لك فيما مضى رأينا في هذه المسألة، ودللناك على أننا لم نبتدع هذا الرأي بما أثرناه لك من أقوال العلماء. [472] أنشد الشريف المرتضى هذا البيت في أماليه "1/ 71 ط الحلبي" من غير عزو، والعشي والعشية -بفتح العين وكسر الشين وتشديد الياء فيهما- يقال: هو الوقت من صلاة المغرب إلى العتمة، وتقول أتيته عشى أمس، وعشية أمس، وقال أبو الهيثم: إذا زالت الشمس دعي ذلك الوقت العشي فتحول الظل شرقيا وتحولت الشمس غربية، وقال الأزهري: يقع العشي على ما بين زوال الشمس إلى غروبها، وقيل العشي من زوال الشمس إلى الصباح. والبرد: ضد الحر، وبرد الشيء يبرد -على مثال قعد يقعد- برودة، وماء برد =

فقال "بارد" لأنه حمل العشية على معنى العَشِيِّ. وقال الآخر: [473] وإنَّ كلابا هذه عَشْرُ أَبْطُنٍ ... وأنت بريء من قبائلها العَشْرِ فقال "عشر أبطن" ولم يقل "عشرة" لأن البطن بمعنى القبيلة، وقال الآخر: [474] وقائع في مضر تسعةٌ ... وفي وائلٍ كانت العاشرة

_ = وبارد وبرود، وقال الجوهري: برد الشيء -بالضم- وبردته أنا فهو مبرود، وبرّدته تبريدا. ومحل الاستشهاد من البيت قوله: "والعشية بارد" حيث أخبر عن العشية وهي مؤنثة ببار، وأسقط تاء التأنيث، وقد علمنا أن لحاق تاء التأنيث في مثل هذا الموضع واجب، سواء أكان المؤنث الذي هو مرجع الضمير المستتر هنا في الوصف حقيقي التأنيث أم كان مجازي التأنيث، ولكن الشاعر استساغ أن يسقط تاء التأنيث لأن العشية يطلق عليها عشي، فلحظ المعنى؛ فعامل الفعل كما لو كان مسندا لضمير العشي. [473] أنشد ابن منظور "ب ط ن" هذا البيت من غير عزو، وهو من شواهد سيبويه "2/ 174" ونسبه إلى رجل من كلاب، ولم يزد الأعلم في التعريف بقائله عن ذلك، وأنشده ابن الناظم في باب العدد من شرح الألفية، وشرحه العيني "4/ 484" وقال: "قائله رجل من بني كلاب، يسمى النواح" وأنشده ابن جني في الخصائص "2/ 417" والأشموني "رقم 1126" وأبو العباس المبرد في الكامل "1/ 388 الخيرية" قال الأعلم "هجا رجلًا ادّعى نسبه في بني كلاب، فذكر أن بطون بني كلاب عشرة، ولا نسب له معلوم في أحدهم" ا. هـ. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله: "عشر أبطن" والأبطن: جمع بطن، والبطن مذكر، فكان ينبغي أن يقول "عشرة أبطن" لأن اسم العدد من ثلاثة إلى عشرة يؤنث مع المذكر ويذكر مع المؤنث، إلا أنه حذف التاء نظرا إلى المعنى، فإنه عنى بالبطن القبيلة، بدليل قوله فيما بعد "من قائلها العشر" والقبيلة مؤنثة، فاسم العدد معها يكون مذكرا، قال ابن جني "وذهب بالبطن إلى القبيلة، وأبان ذلك بقوله: من قبائلها" ا. هـ، وقال الأعلم "الشاهد فيه تأنيث الأبطن وحذف الهاء من العدد المضاف إليها حملًا على معنى القبائل، لأنه أراد بالبطن القبيلة، وقد بيّن ذلك بقوله: من قبائلها العشر" ا. هـ، وقال ابن منظور "فأما قوله: وإن كلابا هذه ... فإنه أنث على معنى القبيلة، وأبان ذلك بقوله من قبائلها العشر" ا. هـ. [474] الوقائع: جمع وقيعة، وهي مثل الموقعة والواقعة والوقعة، كلهن يطلق على المعركة التي تدور بين فئتين من الناس ومحل الاستشهاد من البيت قوله: "تسعة" فإنه أنث اسم العدد، والمعدود به مؤنث، ومن حق العربية عليه أن يأتي باسم العدد مذكرا فيقول: "وقائع في مضر تسع" إلا أن العرب تطلق على الموقعة "اليوم" ويقولون "أيام العرب" وهم يريدون مواقعها، فلذلك أنث اسم العدد لأنه أراد بالوقائع الأيام، والأيام مذكرة. هذا بيان كلام المؤلف وإيضاحه، ولي في هذا الموضوع رأي يصير به كلام الشاعر صحيحا من غير حاجة إلى تأويل ولا حمل على المعنى، وملخص هذا الرأي =

فقال "تِسْعَة" ولم يقل "تِسْعٌ" لأنه حمل الوقائع على الأيام، يقال: فلان عالم بأيام العرب، أي بوقائعها، وقال الآخر: وهو عمر بن أبي ر بيعة: [475] وكان مِجَنِّي دون من كنت أتقي ... ثلاثُ شُخُوصٍ كَاعِبَانِ ومُعْصِرُ

_ = أنك في ذكر العدد ومعدوده إما أن تذكرهما على طريقة العدد فتضيف اسم العدد إلى معدوده فتقول: عندي عشرة رجال أو لي بأس، وعندي عشر نساء ذوات خفر، وفي هذه الحال يجب مراعاة ما قاله النحاة في باب العدد فتذكر اسم العدد مع المعدود المؤنث وتؤنث اسم العدد مع المعدود المذكر كما سمعت في المثالين، وإما أن تأتي بالعدد ومعدوده على طريق الوصف فتقول: هؤلاء رجال عشر، وأولئك نساء عشرة، وفي هذه الحال يتنازعك أصلان: أحدهما أصل العدد ومعدوده الذي بيناه، وثانيهما النعت ومنعوته، وهذا يستلزم تأنيث النعت إذا كان منعوته مؤنثا وتذكير النعت إذا كان منعوته مذكرا، وأنت بالخيار بين أن تستجيب لأي الأصلين، نعني أنه يجوز لك أن تراعي قاعدة العدد والمعدود فتذكر اسم العدد مع المعدود المؤنث فتقول: النساء العشر وتؤنث العدد مع المعدود المذكر فتقول: الرجال العشرة، ويجوز لك أن تراعي قاعدة النعت مع منعوته فتذكر اسم العدد مع المنعوت المذكر فتقول: الرجال العشر، وتؤنث مع المؤنث فتقول: النساء العشرة، وعلى هذا يكون قول الشاعر "وقائع في مضر تسعة" قد جاء على أحد الطريقين الجائزين له، وهو طريق النعت مع منعوته. [475] هذا البيت هو السادس والخمسون من رائيه عمر بن أبي ربيعة الطويلة "انظر الديوان 92-103 بتحقيقنا" ومنها الشاهد 380 الذي سبق في المسألة رقم 81، وهذا البيت من شواهد سيبويه "2/ 175" ورضي الدين في باب العدد من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 312" وابن جني في الخصائص "2/ 417" والأشموني "رقم 1125" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 524" وابن الناظم في باب العدد من شرح الألفية، وشرحه العيني "4/ 483 بهامش الخزانة" والمجنّ بكسر الميم وفتح الجيم وتشديد النون -أصله اسم الآلة من "جنّة يجنّه" إذا ستره وأخفاه، وسموا الترس مجنًّا لأنه يستر بدن المحارب، والكاعب من النساء: هي الجارية حين يبدو ثديها للنهود والاكتناز، والمعصر: الجارية أول ما أدركت زمن البلوغ. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله: "ثلاث شخوص" حيث أتى باسم العدد مذكرا مع أنه مضاف إلى معدود مذكر، ولو أنه أتى به على وفق ما يقتضيه الاستعمال العربي لقال "ثلاثة شخوص" بالتاء، لما ذكرنا لك من العلة في شرح الشواهد السابقة، ولكنه لحظ المعنى، ذلك بأنه أراد بالشخوص هنا نساء بدليل تفصيلهن بقوله: "كاعبان ومعصر" ولو أنه ذكرها بلفظ النساء لكان يقول: "ثلاث نساء" فلما أراد بالشخوص النساء عاملها معاملة ما هو بمعناها، قال ابن جني "أنّث الشخص لأنه أراد به المرأة" ا. هـ. وقال الأعلم "الشاهد في قوله ثلاث شخوص بحذف الهاء حملًا على المعنى؛ لأنه أراد بالشخص المرأة، فأنّث العدد لذلك" ا. هـ.

فقال "ثلاث" ولم يقل "ثلاثة" لأنه عَنَى بالشخوص نِساءً، فحمله على المعنى، وقال الآخر، وهو الحطيئة: [476] ثلاثة أَنْفُسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ ... لقد جَارَ الزَّمَانُ على عِيَالي فقال "ثلاثة أنفس" ولم يقل "ثلاث" حملًا على المعنى، وقال القَتَّالُ الكلابي: [477] قَبَائِلُنَا سَبْعٌ، وأَنْتُم ثلاثةٌ ... وللسَّبْعُ خيرٌ من ثلاثٍ وأكثرُ

_ [476] هذا البيت من كلام الحطيئة، وقبله: أذئب القفر أم ذئب أنيس ... أصاب البكر، أم حدث الليالي؟ وهو من شواهد سيبويه "2/ 175" ورضي الدين في باب العدد من شرح الكافية وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 301" والأشموني "رقم 1127" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 523" وابن الناظم في باب العدد من شرح الألفية، وشرحه العيني "4/ 485 بهاشم الخزانة" والذّود -بفتح الذال المعجمة وسكون الواو وآخره دال مهملة- هو اسم جمع يطلق على ما بين الثلاثة إلى العشرة من الإبل، وليس له واحد من لفظه، وفي مثل من أمثال العرب "الذود إلى الذود إبل" يعنون أن القليل يضم إلى القليل فيصير كثيرًا، يضرب في الحثّ على التدبير، والنحاة يستشهدون من هذا البيت في موضعين: أما الموضع الأول ففي قوله: "ثلاث أنفس" حيث أتى بلفظ العدد مقترنًا بالتاء مع أنه مضاف إلى معدود مؤنث، وهو الأنفس الذي هو جمع نفس، والدليل على أن النفس مؤنثة قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] إلا أن النفس قد يطلق عليها لفظ شخص والشخص مذكر، فلحظ الشاعر ذلك وعبر بالأنفس وهو يريد الأشخاص؛ فلذلك أتى باسم العدد كما يأتي به مع المعدود المذكر، ولو راعى لفظ المعدود الذي ذكره لقال "ثلاث أنفس" قال الأعلم "الشاهد في تذكير الثلاثة وإن كانت النفس مؤنثة لأنه حملها على الشخص وهو مذكر" ا. هـ، وهذا الموضع هو الذي يعينه المؤلف هنا من الاستشهاد بهذا البيت. والموضع الثاني: في قوله: "وثلاث ذود" حيث أضاف لفظ العدد إلى اسم الجمع الذي هو الذود، والأصل أن يضاف اسم العدد إلى جمع تكسير من جموع القلة، فإن لم يكن للمفرد جمع تكسير من جموع القلة انتقل إلى جمع تكسير من جموع الكثرة، وأنت خبير أن اسم الجمع ليس له واحد من لفظه، وبأن الجمع لا بد أن يكون على زنة من أوزان الجمع المعروفة، واسم الجمع لا يكون على إحدى هذه الأوزان غالبًا، وفي الحديث "ليس فيما دون خمس ذود صدقة" ونظيره قوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [النمل: 48] . [477] هذا البيت من شواهد سيبويه "2/ 175" ونسبه إلى القتال الكلابي، وأقر الأعلم هذه النسبة، والقبائل: جمع قبيلة، ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله: "وأنتم ثلاثة" مع أنه يريد أن يقابلهم بنفسه، فهو يريد أن يقول: نحن سبع قبائل وأنتم ثلاث قبائل، فكان ينبغي أن يقول: وأنتم ثلاث، إلا أن القبيلة قد يطلق عليها لفظ البطن كما تطلق القبيلة على

فقال "ثلاثة" ولم يقل "ثلاث" حملًا على المعنى، وقال لبيد: [478] فَمَضَى وقَدَّمَهَا، وكانت عادَةً ... منه إذا هي عرَّدَتْ إقدَامُهَا فقال "كانت" لأن الإقدام في معنى التَّقْدِمة، وقال الآخر: [479] يا أيُّها الراكب المُزْجِي مَطِيَّتَهُ ... سائل بني أسدٍ: ما هذه الصَّوْتُ؟

_ = البطن، وقد ذكرنا ذلك من الشاهد رقم 473، لذلك جاء الشاعر هنا بلفظ ثلاثة مقترنًا بالتاء كما لو كان المعدود مذكرًا، من قبل أنه أراد المعنى فكأنه قال: وأنتم ثلاثة أبطن، قال الأعلم "الشاهد في قوله ثلاثة بإثبات الهاء وهو يريد القبائل، حملا على البطون؛ لأن معنى البطن والقبيلة واحد" ا. هـ. [478] هذا البيت هو البيت الثالث والثلاثون من معلقة لبيد بن ربيعة العامري "انظر شرح التبريزي على القصائد العشر ص142 ط السلفية" والضمير المستتر في "مضى" يعود إلى حمار الوحش الذي يصفه، والضمير البارز المتصل في "قدمها" يعود على الأتان، يريد أنه مضى وقدمها لكيلا تعند عليه، وعردت: تركت الطريق وعدلت عنه، واسم كان هو الإقدام، وخبرها هو قوله "عادة" ومحل الاستشهاد من البيت قوله "وكانت عادة إقدامها" حيث ألحق بالفعل الذي هو كان تاء التأنيث مع أن المسند إليه وهو الإقدام مذكر، قال التبريزي "زعم الكوفيون أنه لما أولى كان خبرها وفرق بينها وبين اسمها توهم التأنيث فأنّث، وكان الكسائي يجيز: كانت عادة حسنة عطاء الله، وكان يقول: إذا كان خبر كان مؤنثا واسمها مذكرا وأوليتها الخبر فمن العرب من يؤنث كأنه يتوهم أن الاسم مؤنث إذا كان الخبر مؤنثًّا، وقال غير الكسائي: إنما بني كلامه على: وكانت عادة تقدمتها، لأن التقدمة مصدر قدمها، إلا أنه انتهى إلى القافية فلم يجد التقدمة تصلح لها فقال إقدامها". [479] هذا البيت لرويشد بن كثير الطائي، وقد أنشده ابن منظور "ص وت" وعزاه إليه، وأنشده ابن يعيش في شرح المفصل "ص690" وابن جني في الخصائص "2/ 416" وهو أول ثلاثة أبيات اختارها أبو تمام حبيب بن أوس الطائي في ديوان الحماسة "انظر شرح التبريزي 1/ 164 بتحقيقنا وشرح المرزوقي 166" والمزجي: اسم الفاعل من أزجى يزجي، ومعناه السائق، والمطية: كل ما يركبه الإنسان، أخذ هذا اللفظ من المطا -بوزن الفتى- وهو الظهر؛ أو من المطو وهو السرعة، وجملة "ما هذه الصوت" في موضع المفعول لسائل، ويروى "بلع بني أسد" ومحل الاستشهاد من هذا البيت هنا قوله "ما هذه الصوت" حيث جاء باسم الإشارة الموضوع للمفردة المؤنثة وأشار به إلى الصوت وهو مفرد مذكر، وإنما فعل ذلك لأن الصوت يطلق عليه لفظ "الجلبة" أو "الضوضاء" أو "الصيحة" وكل واحد من هذه الألفاظ مؤنث، قال ابن جني "ذهب إلى تأنيث الاستغاثة، وحكى الأصمعي عن أبي عمرو أنه سمع رجلا من أهل اليمن يقول: فلان لغوب، جاءته كتابي فاحتقرها، فقلت له: أتقول جاءته كتابي؟ فقال: نعم أليس بصحيفة؟ قلت: فما اللغوب؟ قال: الأحمق، وهذا في النثر كما ترى، وقد علله" ا. هـ. وقال التبريزي "وأراد بالصوت الجلبة أو الصيحة، وهذا الكلام تهكم، ويجوز أن يكون المراد بقوله ما هذه الصوت ما هذه القصة التي تتأدى إلي عنكم؟ يقال ذهب صوت هذا الأمر في الناس، أي انتشر، فكأنه على هذا يوهمهم أنه لم يصح =

فقال "هذه" لأن الصوت في معنى الصيحة، وقال الآخر: [480] وكانت من سَجِيَّتِنَا الغَفْرُ

_ = عنده ما يقال، وأنهم -إن لم يقيموا المعذرة والدلالة على براءة ساحتهم- عاقبهم" ا. هـ. وقال ابن منظور "الصوت: الجرس، معروف مذكر، فأما قول رويشد بن كثير الطائي: يا أيها الراكب المزجي مطيته.... البيت فإنما أنّثه لأنه أراد به الضوضاء والجلبة على معنى الصيحة أو الاستغاثة، قال ابن سيده: وهذا قبيح من الضرورة -أعني تأنيث المذكر- لأنه خروج عن أصل إلى فرع، وإنما المستجاز من ذلك ردّ التأنيث إلى التذكير؛ لأن التذكير هو الأصل، بدلالة أن الشيء مذكر، وهو يقع على المذكر والمؤنث؛ فعلم بهذا عموم التذكير وأنه هو الأصل الذي لا ينكر، ونظير هذا الشذوذ قوله وهو من أبيات الكتاب "كتاب سيبويه 1/ 25": إذا بعض السنين تعرقتنا ... كفى الأيتام فقد أبي اليتيم قال: وهذا أسهل من تأنيث الصوت، لأن بعض السنين سنة، وهي مؤنثة وهي من لفظ السنين، وليس الصوت بعض الاستغاثة ولا من لفظها" ا. هـ. ونظير ذلك قول حاتم الطائي: أماوي قد طال التجنب والهجر ... وقد عذرتني في طلابكم العذر [480] هذه قطعة من بيت، وهو بتمامه: أزيد بن مصبوح، فلو غيركم جنى ... غفرنا، وكانت من سجيتنا الغفر وقد أنشده بتمامه التبريزي في شرح القصائد العشر "ص142 ط السلفية" وأنشده عجزه ابن منظور "غ ف ر" ولم يعزواه والسجية -بفتح السين وكسر الجيم وتشديد الياء المثنّاه- الطبيعة والخليقة والخصلة، والغفر -بفتح فسكون- أحد مصادر "غفر ذنبه يغفره من مثال ضرب يضرب" ومغفرة، وغفرانا، وغفرًا -بضم الغين- وغفورا، وغفيرة، وغفيرا، وقد قال أعرابي يدعو ربه: أسألك الغفيرة، والناقة الغزيرة، والعزّ في العشيرة، فإنها عليك يسيرة. ومحل الاستشهاد من هذا البيت في هذا الموضع قوله "وكانت من سجيتنا الغفر" حيث أحلق تاء التأنيث بكان مع أن اسمها مذكر وهو قوله الغفر، وقد تقدم نظير ذلك في الشاهد رقم 478 وذكرنا هناك أن العلماء يغتفرون مثل ذلك في كان إذا كان اسمها مذكرا وقد فصل بخبرها بينها وبين اسمها، وقد اختلف العلماء في تخريج العبارة التي في بيت الشاهد الذي معنا الآن، فمنهم من يسلك الطريق التي سلكها العلماء في الشواهد السابقة، فيذكر أنه أنّث هنا مراعاة للمعنى لأن الغفر يطلق عليه المغفرة والغفيرة، وكل منهما مؤنث اللفظ، ومنهم من يقول: إن خبر كان محذوف، وهو مؤنث، وأصل الكلام: وكانت الغفر سجية من سجيتنا، فلما كان الغفر مخبرًا عنه بالسجية كان مؤنثًا فلذلك أنّث الفعل، قال ابن منظور "فأما قوله: وكانت من سجيتنا الغفر فإنما أنّث الغفر لأنه في معنى المغفرة" ا. هـ. وقال التبريزي "زعم الكسائي أنه أنّث كانت لأنه أراد: كانت سجية من سجايانا الغفر، وقال الذي خالفه: بل بني على المغفرة، فلما انتهى إلى آخر البيت والمغفرة لا تصلح له، فقال الغفر، لأن الغفر والمغفرة مصدران" ا. هـ. قال الفرّاء: وكل قد ذهب مذهبًا، وقول الكسائي أشبه بمذهب العرب" ا. هـ.

أي: المَغْفِرَة، وقال الآخر، وهو طُفَيْل الغَنَوي: [481] إذ هي أَحْوَى، من الرِّبْعِيِّ، حاجِبُهُ ... والعين بالإِثْمِدِ الحَارِيِّ مَكْحُولُ ولم يقل "مكحولةٌ" لأن العين في المعنى عُضْو، وقال الآخر: [482] أرى رجلا منهم أسيفا كأنما ... يضُمُّ إلى كَشْحَيهِ كفًّا مُخَضَّبَا

_ [481] هذا البيت من كلام طفيل الغنوي، وهو من شواهد سيبويه "1/ 240" وابن يعيش في شرح المفصل "ص1364" والأحوى: الظبي الذي في ظهره وجنبتي أنفه خطوط سود، مأخوذ من الحوّة التي هي السواد، وقوله "من الربعي" أي من الصنف المولود في زمن الربيع، وهو أبكر وأفضل، والحاري: المنسوب إلى الحيرة على غير قياس، والقياس حيري، ومحل الاستشهاد ههنا من هذا البيت قوله "والعين بالإثمد الحاري مكحول" حيث أخبر بمكحول وهو وصف مذكر عن العين وهو مؤنثة، وقد علمنا أنه يجب تطابق المبتدأ وخبره في التذكير والتأنيث، وقد جعله سيبويه من باب مراعاة المعنى، وبيان ذلك أن العين يطلق عليها لفظ طرف، وهو مذكر، فالشاعر لحظ العين على أنها طرف فأخبر عنها كما يخبر عن الطرف، وجعل غير سيبويه قوله "مكحول" خبرا عن قوله "حاجبه" ويكون قوله "والعين" له خبر محذوف يدل عليه خبر حاجبه، وكأنه قد قال: حاجبه مكحول بالإثمد الحاري والعين كذلك، وجملة "والعين كذلك" معطوفة بالواو على جملة "حاجبه مكحول" والذي رآه غير سيبويه خير مما رآه سيبويه الذي تبعه المؤلف لوجهين: الأول أنه لا يلزم على ما رآه غير سيبويه ارتكاب ضرورة ولا إجراء الكلام على غير المنهج المطرد في كلام العرب، والوجه الثاني أنه يجري على قاعدة ارتضاها النحاة جميعا، وهي أنه إذا دار الكلام بين أن يكون الحذف من الأول لدلالة الثاني على المحذوف ومن الثاني لدلالة الأول على المحذوف كان الأفضل اعتبار الحذف من الثاني لدلالة الأول عليه، وانظر شرح الشاهد رقم 46 في المسألة 13، نعم يلزم على الأول أن تجيء بالمعطوف قبل تمام المعطوف عليه. قال الأعلم "الشاهد فيه تذكير مكحول، وهو خبر عن العين وهو مؤنثة، لأنها في معنى الطرف، ويجوز أن يكون خبرا عن الحاجب، فيكون التقدير: حاجبه مكحول بالإثمد والعين كذلك، فلا تكون فيه ضرورة، إلا أن سيبويه حمله على العين لقرب جوارها منه" ا. هـ. [482] هذا هو البيت الثالث والعشرون من قصيدة للأعشى ميمون بن قيس "الديوان ص88-91 فينا" ومطلعها: كفى بالذي تولينه لو تجنبا ... شفاء لسقم بعد ما كان أشيبا وقد أنشد بيت الشاهد ابن منظور "خ ض ب - ك ف ف - ب ك ي" وأبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب في مجالسه "ص47" وأبو العباس المبرد في الكامل "1/ 16 الخيرية" وفي الديوان واللسان "خ ض ب" "أرى رجلًا منكم" وفي اللسان مرتين والكامل "منهم" كما رواه المؤلف، والأسيف: الأسير، قال المبرد: والأسيف يكون الأجير، ويكون الأسير، فقد قيل في بيت الأعشى: أرى رجلا منهم أسيفا.... البيت

فقال: "مخضبا" لأن الكفّ في المعنى عضو. والحمل على المعنى أكثر في كلامهم من أن يُحْصَى، فكذلك ههنا. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إن علامة التأنيث إنما دخلت للفصل بين المذكر والمؤنث، ولا اشتراك بين المذكر والمؤنث في هذه الأوصاف" قلنا: الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه: أحدهما: أن هذا يبطل بقوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2] ولو كانت علامة التأنيث إنما تدخل للفصل بين المذكر والمؤنث لكان ينبغي أن لا تدخل ههنا؛ لأن هذا وصف لا يكون في المذكر، فلما دخلت دلَّ على فساد ما ذهبوا إليه. والوجه الثاني: أنه لو كان سبب حذفه علامة التأنيث من هذا النحو وجود الاختصاص وعدم الاشتراك لوجب أن لا يوجد الحذف مع وجود الاشتراك وعدم الاختصاص في نحو قولهم "رجل عاشق، وامرأة عاشق" و"رجل عانس،

_ = المشهور أنه من التأسف لقطع يده، وقيل: بل هو أسير قد كبلت يده، ويقال: قد جرحها الغلّ، والقول الأول هو المجتمع عليه" ا. هـ. والكشح -بفتح الكاف وسكون الشين وآخره حاء مهملة- من الخاصرة إلى الضلع الخلف، والكف: اليد، وهي مؤنثة بدليل قول بشر بن أبي خازم: له كفان كف كف ضر ... وكف فواضل خضل نداها فأعاد الضمير عليها في قوله "نداها" مؤنثا، ومحل الاستشهاد من هذا البيت في هذا الموضع قوله: "كفا مخضّبا" فإن الظاهر أن قوله: "مخضبا" نعت لقوله: "كفا" ومخضب وصف مذكر، وقد علمت أن من القواعد المقررة التي لا يختلف فيها أحد أن النعت الحقيقي يجب أن يطابق المنعوت في تذكيره وتأنيثه. ولهذا قال العلماء في بيت الشاهد: إنه ذكر النعت حملا على المعنى، وبيان ذلك أن الكف يطلق عليها لفظ "عضو" والعضو مذكر قال ابن منظور "خ ض ب": "ذكر على إرادة العضو، أو على [حد] قوله: فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها ويجوز أن يكون صفة لرجل، أو حالًا من المضمر في يضم، أو من المخفوض في كشحيه" ا. هـ. وقال في "ك ف ف": "فأما قول الأعشى: أرى رجلا منهم أسيفا.... البيت فإنه أراد الساعد فذكر، وقيل: إنما أراد العضو، وقيل: هو حال من ضمير يضم أو من هاء كشحيه" ا. هـ، فذكر ما ذكره في الموضع الأول إلا أن يكون مخضبا وصفا لقوله رجلا، والخطب في ذلك سهل، فإن جعل قوله مخضبا حالا من الضمير المستتر في يضم أو من الضمير البارز المتصل في قوله كشحيه مثل جعله صفة لقوله رجلا، وكل ذلك أضعف من الحمل على المعنى.

وامرأة عانس" إذا طال مكثهما لا يتزوجان، و"رجل عاقر، وامرأة عاقر" إذا لم يولدلهما، و"رأس ناصل من الخضاب، ولحية ناصل" و"جَمَل نازع إلى وطنه، وناقة نازع" و"جمل ضامر، وناقة ضامر" و"جمل بازل، وناقة بازل" في كلمات كثيرة قال زهير: [483] فوقعتُ بين قُتُودِ عَنْسٍ ضامر ... لحَّاظَةٍ طَفَلَ العَشِيِّ سِنَادِ وقال الأعشى: [484] عَهْدِي بها في الحيّ قد سُرْبِلَتْ ... بيضاءَ مثل المُهْرَةِ الضامر

_ [483] هذا هو البيت الخامس من قصيدة لزهير بن أبي سلمى المزني "الديوان 330-332 دار الكتب" والقتود: عيدان الرحل، وواحدها قتد -بفتح القاف والتاء جميعا- والعنس -بفتح العين وسكون النون- الناقة، والضامر: يقال للذكر والأنثى، والضمور: لحوق البطن بالظهر، ولحاظة: صيغة مبالغة من اللحظ، ومعناه أن هذه الناقة تنظر وتتلفت حين اصفرت الشمس للمغيب، وهو الوقت الذي تكل فيه الإبل، وطفل العشي: منصوب على الظرفية، وهو الوقت قبيل الغروب، والسناد -بكسر السين- الشديدة، أو العظيمة، ومحل الاستشهاد من هذا البيت ههنا قوله "ضامر" فإنه وصف للعنس، وقد علمت أن العنس اسم للناقة، والناقة مؤنثة، وقد أتى بهذه الصفة من غير تاء، وذلك لأن هذا اللفظ يقال على المذكر والمؤنث بصيغة واحدة، فيقال: بعير ضامر، وناقة ضامر، ويقال: فرس ضامر، وجواد ضامر، قال ابن منظور "وجمل ضامر، وناقة ضامر -بغير هاء- أيضا، ذهبوا إلى النسب" ا. هـ. وقد مضى قولنا في الوصف الذي يقصد به الدلالة على النسب والذي يقصد به الدلالة على الحدوث، وأنه حين يقصد به الدلالة على النسب يطلق على المؤنث بدون تاء، فإذا أريد معنى الفعل وأن ذلك حدث الآن أو يحدث بعد لحقته التاء، وانظر الشاهد 467 وشرحه. [484] هذا البيت هو البيت العاشر من قصيدة للأعشى ميمون بن قيس "الديوان ص104-108" ومطلعها قوله: شاقتك من قتلة أطلالها ... بالشط فالوتر إلى حاجر وقد أنشد بيت الشاهد ابن يعيش "ص697" والعهد -بفتح العين وسكون الهاء- الالتقاء، والمعرفة، ومن العهد أن تعهد الرجل على حال أو في مكان، تقول: عهدي به في موضع كذا، وفي حال كذا، وعهدته بمكان كذا، وعهدي به قريب. و"عهدي بها" في بيت الشاهد مبتدأ خبره محذوف، أي عهدي بها حاصل، أو عهدي بها قريب أو ما أشبه ذلك، و"قد سربلت" جملة في موضع الحال من الضمير المجرور محلًّا بالباء، وسربلت -بالبناء للمجهول- أي ألبسوها السربال. ومحل الاستشهاد من هذا البيت وقوله "المهرة الضامر" حيث وصف "المهرة" وهي أنثى بالضامر من غير أن يؤنث الصفة بتاء التأنيث، وذلك يدل على أن لفظ الضامر يقال على الذكر والأنثى بصيغة واحدة من غير أن يميز بين الحالين في اللفظ، والغرض بهذا الرد على الكوفيين في قولهم: إن سقوط تاء التأنيث من طالق وحائص وطامث لكون هذه الصفات تختص بالإطلاق على الأنثى، ووجه الردّ أنه قد جاء =

وقال زهير: [485] تُهَوِّنُ بُعْدَ الأرض عَنِّي فَرِيدَةٌ ... كِنَازُ البَضِيعِ سَهْوَةُ المَشْيِ بازلُ قال لبيد: [486] تَرْوِي المَحَاجِرَ بازل عُلْكُومُ

_ = سقوط التاء من الوصف المراد به المؤنث في ألفاظ لا تختص بالمؤنث، بل تطلق على المؤنث وعلى المذكر، ولو أن ما ذكرتموه كان صحيحًا لم يقع ذلك في كلامهم، قال ابن يعيش بعد أن حكى مقالة الكوفيين: "وهو يفسد من وجوه، أحدها: أن ذلك لم يطرد فيما كان مختصا بالمؤنث، بل قد جاء أيضا فيما يشترك فيه الذكر والأنثى، قالوا: جمل بازل، وناقة بازل، وجمل ضامر، وناقة ضامر، قال الأعشى: عهدي بها في الحي قد سربلت.... البيت فإسقاط العلامة مما يشترك فيه القبيلان دليل على فساد ما ذهبوا إليه، وإن كان أكثر الحذف إنما وقع فيما يختص بالمؤنث، الثاني أنه ينتقض ما ذهبوا إليه بقولهم مرضعه بإثبات التاء فيما يختص بالمؤنث، الثالث أن التاء تلحق مع فعل المؤنث نحو حاضت المرأة وطلقت الجارية، ولو كان اختصاصه بالمؤنث يكفي فارقًا لم يفترق الحال بين الصفة والفعل، فاعرفه" ا. هـ كلامه. [485] هذا هو البيت التاسع من قصيدة لزهير بن أبي سلمى المزني يقولها في سنان بن أبي حارثة المري، وكان وهو شيخ كبير ركب بعيرًا ببطن نخل فذهب به فهلك "الديوان 292-300" ومطلعها قوله: لسلمى بشرقي القنان منازل ... ورسم بصحراء اللبيين حائل والفريدة: التي لا مثل لها، والبضيع: أراد لحمها، وهو جمع بضع -بفتح فسكون- ونظيره كلب وكليب، ومعنى "كناز البضيع" كثيرة اللحم صلبة، وسهوة المشي: سهلته، والبازل: التي بلغت أقصى السن، وذلك بعد نهاية السنة الثامنة، وما بعد البزول إلا النقصان، ومحل الاستشهاد من البيت هنا قوله "بازل" حيث وصف به الناقة من غير أن يلحق به تاء التأنيث، وذلك يدل على أن هذا اللفظ يستوي فيه المذكر والمؤنث، على نحو ما بيناه لك في شرح الشواهد السابقة. [486] هذا عجز بيت للبيد بن ربيعة العامري، وهو بتمامه: بكرت بها جرشية مقطورة ... تروي المحاجر بازل علكوم وقد أنشد هذا البيت ابن منظور "ق ط ر - ج ر ش - ع ل ك م" والجرشية بضم الجيم وفتح الراء- المنسوبة إلى جرش، وهو مخلاف من مخاليف اليمن، ومقطورة: أي مطلية بالقطران، قالوا: بعير مقطور، وقالوا: بعير مقطرن، أيضا، وقالوا: قطرت البعير والناقة، أي طليتها بالقطران، وقال امرؤ القيس: أيقتلني وقد شعفت فؤادها ... كما قطر المهنوءة الرجل الطالي؟ والمحاجر: أراد به الحديقة، والعلكوم -بوزن العصفور- الشديدة الصلبة، الناقة علكوم =

وقال آخر: [487] ببازلٍ وَجْنَاءَ أو عَيهَلِّ كيف والأصمعي قد صنف في هذا النحو كتابًا؟!. والوجه الثالث: وهو أنه لو كان الاختصاص سببا لحذف علامة التأنيث من اسم الفاعل لوجب أن يكون ذلك سببا لحذفها من الفعل؛ فيقال: المرأة طَلَقَ، وطَمِثَ، وحَاضَ، وحَمَلَ، كما يقال: طالق، وطامث، وحائص، وحامل؛ فلما

_ = والجمل علكوم، وكل شديد صلب من الإبل وغيرها علكوم، وفي قصيدة كعب بن زهير والتي مدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: غلباء وجناء علكوم مذكرة ... في دفها سعة قدامها ميل ومحل الاستشهاد من هذا البيت ههنا قوله "بازل" حيث وصف الناقة به من غير أن يلحق به تاء التأنيث وذلك يدل على أن هذا اللفظ يطلق على الذكر والأنثى من غير تفرقة، على نحو ما بيناه لك في شرح الشواهد السابقة، وقد سمعت في شرح مفردات هذا البيت أن لفظ "علكوم" توصف به الناقة من غير تاء كما يوصف به الجمل، وسمعت بيت كعب الذي أتى فيه بعدة أوصاف للناقة كلها مؤنث بعلامة تأنيث وبينها "علكوم" بغير علامة تأنيث. [487] هذا بيت من مشطور الرجز لمنظور بن مرثد الأسدي، وربما نسبوا منظورا هذا إلى أمه، فقالوا: منظور ابن حبة، وقبله قوله: إن تبخلي يا هند أو تعتلي ... أو تصبحي في الظاعن المولي نسل وجد الهائم المغتل وقد أنشد ابن منظور هذه الأبيات "ع ي هـ ل" وعزاها إليه، وأنشدها بزيادة ثلا ثة أبيات بعدها أبو زيد في نوادره "ص53" والبيت من شواهد سيبويه "2/ 282" وشواهد ابن جني في الخصائص "2/ 359" ورضي الدين في شرح شافية ابن الحاجب "رقم 127" وتبخلي: تمنعي وصلك، وتعتلي: تتذرعي بالعلل الواهية والأسباب المصنوعة، والظاعن: المفارق، والمولي: الذي يعطينا ظهره سائرا في غير طريقنا، والمغتل: رواه أبو زيد بالغين المعجمة على أنه مأخوذ من الغلة -بضم الغين- وهي في الأصل حرارة العطش، وأراد بها حرارة الشوق، ورواه ابن منظور بالعين المهملة، ومعناه ذو العلة وهي المرض، والبازل: تقدم أنه الناقة إذا اكتملت ثمان سنين ودخلت في التاسعة، والوجناء: الناقة الشديدة، والعيهل: أصله بوزن جعفر، ويقال: ناقة عيهل، وجمل عيهل، وربما قالوا: جمل عيهل، وناقة عيهلة -بالتاء- ومحل الاستشهاد من هذا البيت هنا قوله "ببازل" حيث أطلق هذا اللفظ على الناقة بدليل وصفها بالوجناء المؤنث بألف التأنيث، فيدل ذلك على أن البازل يطلق على المؤنث بغير علامة تأنيث، والكلام فيه كالكلام في الشواهد السابقة، والنحاة يستشهدون بهذا البيت لتشديد اللام في الوصل ضرورة، والأصل أن يكون تشديده عند الوقف ليعلم أنه متحرك في الوصل.

لم يجز أن تحذف علامة التأنيث من الفعل دلّ على أنه تعليل فاسد، ولا يلزم هذا على قول من حمله على المعنى كأنه قال: إنسان حائض؛ لأن الحمل على المعنى اتساع يُقْتَصر فيه على السماع، والتعليل بالاختصاص ليس باتساع، فينبغي أن لا يُقْتَصَر فيه على السماع، ولا يلزم أيضا على قول من حمله على النسب بوجه ما؛ لأنه جعل حائضا بمعنى ذات حيض، والفعل لا يدل على نفس الشيء؛ فيقال: إن هندا حاض، بمعنى هند ذات حيض، وإنما شأن الفعل الدلالة على المصدر والزمان، فبان الفرق بينهما، والله أعلم.

مسألة علة حذف الواو من "يعد" ونحوه

112- مسألة: [عِلَّة حذف الواو من "يعد" ونحوه] 1 ذهب الكوفيون إلى أن الواو من نحو "يَعِدُ، ويَزِنُ" إنما حذفت للفرق بين الفعل اللازم والمتعدي. وذهب البصريون إلى أنها حذفت لوقوعها بين ياء وكسرة. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن الأفعال تنقسم إلى قسمين: إلى فعل لازم، وإلى فعل متعد، وكلا القسمين يقعان فيما فاؤه واو، فلما تغايرا في اللزوم والتعدي واتفقا في وقوع فائهما واوًا وجب أن يفرق بينهما في الحكم، فبقَّوا الواو في مضارع اللازم نحو "وجل يوجل، ووحل يوحل" وحذفوا الواو من المتعدي نحو "وعد يعد، ووزن يزن" وكان المتعدي أولى بالحذف؛ لأن التعدي صار عوضا من حذف الواو. قالوا: ولا يجوز، أن يقال "إنهم إنما حذفوا الواو لوقوعها بين ياء وكسرة" لأنا نقول: هذا يبطل بقولهم "أعد ونعد وتعد" والأصل فيه: أوعد ونوعد وتوعد، ولو كان حذف الواو لوقوعها بين ياء وكسرة لكان ينبغي أن لا تحذف ههنا؛ لأنها لم تقع بين ياء وكسرة، ولكان ينبغي أن تحذف من قولهم "أوعد يوعد" بضم الياء فيقال: "يعد" لوقوعها بين ياء وكسرة، فلما لم تحذف دل على فسا د ما ذكرتموه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن الواو حذفت لوقوعها بين ياء وكسرة، وذلك لأن اجتماع الياء والواو والكسرة مستثقل في كلامهم، فلما اجتمعت هذه الثلاثة الأشياء المستنكرة التي توجب ثقلا وجب أن يحذفوا واحدا منها طلبًا للتخفيف، فحذفوا الواو ليخفّ أمر الاستثقال. والذي يدل على صحة ذلك أن الواو والياء إذا اجتمعتا وكانا على صفة يمكن أن تدغم إحداهما في الأخرى قلبت الواو إلى الياء نحو "سيد، وميت" كراهية

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني بحاشية الصبان "4/ 285 بولا ق" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 493".

لاجتماع المثلين، وإذا اجتمع ههنا ثلاثة أمثال الياء والواو والكسرة ولم يمكن الإدغام لأن الأول متحرك ومن شرط المدغم أن يكون ساكنا، فلما لم يمكن التخفيف بالإدغام وجب التخفيف بالحذف، فقيل: يعد ويزن، وحملوا "أعد ونعد وتعد" على "يعد" لئلا تختلف طرق تصاريف الكلمة، على ما سنبينه في الجواب إن شاء الله تعالى. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنما حذفت الواو من هذا النحو للفرق بين الفعل اللازم والمتعدي، فبقَّوُا الواو في اللازم وحذفوها من المتعدي" قلنا: هذا باطل؛ فإن كثيرا من الأفعال اللازمة قد حذفت منها الواو، وذلك نحو "وكَفَ البيت يَكِفَ، وونمَ الذباب يَنٍمُ، ووجد في الحزن يجد" إلى غير ذلك. والأصل فيها: وكف يَوْكِفُ، وونَمَ يَوْنِمُ، ووجد يَوْجِدُ، وكلها لازمة، ولو كان الأمر على ما زعمتم لكان يجب أن لا تحذف منه الواو، فلما حذفت دلّ على أنه إنما حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، ولا نَظَرَ في ذلك إلى اللازم والمتعدي. وأما "وجل يوجل، ووحل يوحل" فإنما لم تحذف منه الواو لأنه جاء على يَفْعَلُ بفتح العين، كعلم يعلم، فلم تقع الواو فيه بين ياء وكسرة، وإنما وقت بين ياء وفتحة، وذلك لا يوجب حذفها، وأما حذفهم لها من قولهم "ولغ يلغ"، وإن كانت قد وقعت بين ياء وفتحة فلأن الأصل فيه يَفْعِلُ بكسر العين كضرب يضرب، وإنما فتحت العين لوقوع حرف الحلق لامًا؛ فإن حرف الحلق متى وقع لامًا من هذا النحو فإن القياس يقتضي أن يفتح العين منه، نحو: قرأ يقرأ، وجبه يَجْبَهُ، وسَدَحَ يسدح، وشدخ يشدخ، وجمع يجمع، ودمع يدمغ، إلا ما جاء على الأصل نحو: نطح الكبش ينطح؛ ونبح الكلب ينبح، وكذلك أيضا إذا وقع حرف الحلق عينا فإنه يقتضي فتح العين أيضا، نحو: سأل يسأل، وجهد يجهد، ونحر ينحر، وفخر يفخر، ونعب ينعب، وفغر يفغر، إلا ما جاء على الأصل، نحو: نعق ينعق؛ فدل على أن "وجل يوجل" لا حجة لهم فيه. وفي وجل يوجل أربع لغات: أحدها تصحيح الواو، وهي اللغة المشهورة، واللغة الثانية "ياجَلُ" فتقلب الواو ألفا لمكان الفتحة قبلها وفرارًا من اجتماع الياء والواو إلى الألف، واللغة الثالثة قلب الواو ياء نحو "يَيْجَلُ" وذلك على طريقة سيد وميت وإن لم يمكن الإدغام لتحرك الأول، واللغة الرابعة "ييجل" بكسر الياء؛ لأنهم أرادوا أن يقلبوا الواو ياء فكسروا ما قبلها ليجري قلبها على سنن القياس في نحو ميعاد وميزان وميقات، والأصل فيها موعاد، وموزان، وموقات؛ لأنها من الوعد والوزن والوقت، إلا أن الواو لما

سكنت وانكسر ما قبلها قلبوها ياء، فكذلك ههنا: لمَّا لم يمكن الإدغام لما ذكرنا وكانت الواو تقلب في نحو سيد لإمكانه أحبوا أن يقلبوا الواو بسبب يستمر له القلب وهو كسر ما قبلها. وأما قولهم "إنها لو كانت قد حذفت لوقوعها بين ياء وكسرة لكان ينبغي أن لا تحذف من "أعد، وتعد، ونعد"؛ لأنها لم تقع بين ياء وكسرة" قلنا: إنما حذفت ههنا وإن لم تقع بين ياء وكسرة حملا لحروف المضارعة -التي هي الهمزة والنون والتاء- على الياء، لأنها أخوات1، فلما حذفت الواو مع أحدها للعلة التي ذكرناها حذفت مع الآخر لئلا تختلف طُرُقُ تصاريف الكلمة، ليجرى الباب على سَنَن واحد، وصا ر هذا بمنزلة "أكرم" والأصل فيها "أأكرم" إلا أنهم كرهوا اجتماع همزتين، فحذفوا الثانية فرارًا من اجتماع همزتين طلبًا للتخفيف وكان حذف الثانية أولى من الأولى؛ لأن الأولى دخلت لمعنى والثانية ما دخلت لمعنى فلهذا كان حذف الثانية وتبقيه الأولى أولى. ثم قالوا "نكرم، وتكرم، ويكرم". فحذفوا الهمزة حملًا للنون والتاء والياء على الهمزة طلبا للتشاكل على ما بيّنا. وأما قولهم "إنه لو كان الحذف لوقوعها بين ياء وكسرة كان يجب الحذف في قولهم "يوعد" ونحوه" قلنا: الجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن هذا لا يصلح أن يكون نقضا على "يعد" لأن الواو ههنا ما وقعت بين ياء وكسرة؛ لأن الأصل في "يوعد" بضم الياء يُؤَوْعِد. كما أن الأصل في يُكْرِم يُؤَكْرِم، قال الشاعر: [1] فإنه أهل لأن يؤكرما فلما كان الأصل يؤوعد بالهمزة فالهمزة المحذوفة حالت بين الواو والياء لأنها في حكم الثابتة، كما كانت الياء المحذوفة في قول الشاعر: [488] وكَحَّلَ العينين بالعَوَاوِرِ

_ [488] هذا بيت من مشطور الرجز لجندل بن المثنى الطهوي، ويروون قبله قوله: غرك أن تقاربت أباعري ... وأن رأيت الدهر ذا الدوائر حنى عظامي وأراه ثاغري والبيت من شواهد سيبويه "2/ 374" والزمخشري في المفصل، وابن يعيش في شرحه "1431" ورضي الدين في شرح شافية ابن الحاجب "رقم 176" وشرحه البغدادي "ص374 بتحقيقنا" وابن جني في الخصائص "1/ 195 و3/ 164 و326" وعزاه في المرة الأخيرة إلى

في حكم الثابتة، ولولا ذلك لما صحت الواو، وكانت تقلب همزة؛ لوقوعها قبل الطرف بحرف؛ لأنهم يجرون ما قبل الطرف بحرف من هذا النحو مُجْرَى الطرف وهم يقلبون الواو إذا وقعت طرفا وقبلها ألف زائدة1 همزة؛ فههنا لما

_ العجاج، وليس ذلك صحيحًا، وابن منظور "ع ور" والأشموني "رقم 1222" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم 566" وتقاربت أباعري: كنى بذلك عن قلتها، وأراد أنه غير ذي ثراء، والدوائر: جمع دائرة، وأراد بها أحداث الزمان ومصائبه، وثاغري: يريد أنه مذهب أسنانه، والعواور: جمع عوار -بوزن رمان- وهو وجع في العين، وجعله كحلا على سبيل التهكم. ومحل الاستشهاد بالبيت هنا قوله "بالعواور" فإن أصله بالعواوير -بياء بعد الواو منقلبة عن ألف المفرد كما تقول في جمع قرطاس: قراطيس، والواو إذا كانت قريبة من طرف الكلمة بأن تكون قبل آخرها مباشرة تقلب همزة، وكذلك الياء، تقول في جمع أول أوائل، وفي جمع جيد وسيد وصائد: جيائد، وسيائد، وصيائد، وأصلهن: جياود، وسياود، وصوايد، فإن انفصلت الواو أو الياء من الطرف بياء مفاعيل لم تقلب همزة وبقيت على أصلها نحو طواويس ونواويس، وبحسب الظاهر كان يجب قلب الواو من العواور همزة؛ لأنها غير مفصولة من الطرف، إلا أنه لما كان مفرد هذا اللفظ هو عوار، وكان أصل جمعه العواوير -بياء فاصلة بين الواو وطرف الكلمة- إلا أن الراجز حذف هذه الياء للتخفيف، وهو يريدها، فكأنها موجودة، ولذلك لم يقلب الواو همزة، قال ابن جني "وصحة الواو في قوله: وكحل العينين بالعواور إنما جاء لإرادة الياء في العواوير وليعلم أن هذا الحرف ليس بقياس ولا منقاد" ا. هـ. وقال الأعلم "الشاهد فيه تصحيح واو العواور الثانية؛ لأنه ينوي الياء المحذوفة من العواوير، والواو إذا وقت في مثل هذا الموضع لم تهمز، لبعدها من الطرف الذي هو أحق بالتغيير والاعتلال، ولو لم تكن فيه ياء منوية للزم همزها، كما قالوا في جمع أول: أوائل، والأصل أواول" ا. هـ كلامه. وقال ابن منظور "فأما قوله: وكحل العينين بالعواور فإنما حذف الياء للضرورة، ولذلك لم يهمز، لأن الياء في نية الثبات، فكما كان لا يهمزها والياء ثابتة، كذلك لم يهمزها والياء في نية الثبات" ا. هـ. والعوار -بزنة رمان أيضا- الجبان، وجمعوه على عواوير، وربما قالوا فيه: عواور، فلم يهمزوا؛ لأنهم يريدون الياء وينوونها، قال الأعشى في العواوير بثبوت الياء: غير ميل ولا عواوير في الهيـ ... ـجا ولا عزل، ولا أكفال وقال لبيد يعاتب عمه في العواوير بحذف الياء مع نيتها: وفي كل يوم ذي حفاظ بلوتني ... فقمت مقاما لم تقمه العواور

صحت الواو دل على أن الأصل فيه "العواوير" بالياء كطواويس ونواويس، وإنما حذفت للضرورة، وإنما صحت الواو مع تقدير الياء لأنها قبل الطرف بحرفين، فبعدت عما تُقْلَب فيه الواو إذا وقعت طرفا؛ فلم تقلب همزة. والوجه الثاني: أنهم لما حذفوا الهمزة من "يؤوعد" لم يحذفوا الواو؛ لأنه كان يؤدّي إلى الموالاة بين إعلالين، وهم لا يوالون بين إعلالين، ألا ترى أنهم قالوا "هَوَى، وغَوَى" فأبدلوا من الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ولم يبدلوا من الواو ألفا وإن كانت قد تحركت وانفتح ما قبلها، لأنهم لو فعلوا ذلك فأعَلُّوا الواو كما أَعَلُّوا الياء لأدّى ذلك إلى أن يجمعوا بين إعلالين، والجمع بين إعلالين لا يجوز، والله أعلم.

_ = همزة ومثاله أوائل جمع أول وعيائل جمع عيل -بوزن سيد- وأصلهما أواول وعيايل، فإن وقعت الواو أو الياء قبل الطرف بحرفين وقبلهما ألف زائدة لم تقلبا همزة؛ لأنهما بعدتا عن الطرف بعدا حصّنهما من القلب، ومثال ذلك طواويس ونواويس وعواوير، فاعرف ذلك.

مسألة وزن الخماسي المكرر ثانيه وثالثه

113- مسألة: [وزن الخماسي المكرر ثانية وثالثة] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "صَمَحْمَح ودَمَكْمَكَ" على وزن فعلَّل. وذهب البصريون إلى أنه على وزن فَعَلْعَلَ. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه على وزن فعلل، وذلك أن الأصل في "صمحمح ودمكمك صمحَّح ودمكَّك، إلا أنهم استثقلوا جمع ثلاث حاءات وثلاث كافات، فجعلوا الوسطى منها ميما، والإبدال لاجتماع الأمثال كثير في الاستعمال، قال الله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء: 94] والأصل كُبِّبُوا؛ لأنه من "كَبَبْتُ الرجل على وجهه" إلا أنهم استثقلوا اجتماع ثلاث باءات فأبدل من الوسطى كاف، وقال الفرزدق: [489] موانع للأسرار إلا لأهلها ... ويُخْلِفْنَ ما ظنَّ الغَيورُ المُشَفْشَفُ

_ [489] هذا البيت هو التاسع من قصيدة للفرزدق همام بن غالب "الديوان 551 والنقائض 548 ليدن" ومطلعها قوله: عزفت بأعشاش، وما كدت تعزف ... وأنكرت من حدراء ما كنت تعرف وقد أنشده ابن منظور "ش ف ف". وقوله "موانع للأسرار" معناه أنهن لا يتزوجن إلا أكفاءهن، والأسرار: جمع سرّ، وهو الزواج، من قوله تعالى: {وَلَكِنْ لا تُوَا عِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] والمشفشف -بصيغة المفعول- الذي كأن به رعدة واختلاطا، وذلك من شدة الغيرة والإشفاق على حرمه، وقال الأصمعي: هو الذي تشف الغيرة فؤاده، وهو السيء الظن، وذلك من إشفاقه على أهله، قال: وإنما أراد المشفف فكرر الشين، كما قالوا: دمع مكفكف، وقد تجفجف الشيء من الجفوف وأصله تجفف، وهذه ثلاثة أحرف من جنس واحد يكره جمعها، ففرقوا بينها بحرف من الكلمة، وهو فاء الفعل، وربما قرئ المشفشف بزنة اسم

والأصل في المُشَفْشَفِ المشَفَّفُ لأنه من "شفَّتْه الغيرة، وشَفَّه الحُزْنُ" إلا أنه استثقل اجتماع ثلاث فاءات، فأبدل من الوسطى شينًا، وقال الآخر، وهو الأعشى: [490] وتَبْرُدُ بَرْدَ رداء العرو ... س بالصيف رقرقت فيه العبيرا

_ = الفاعل، ومعناه المنقر والمفتش عن المساوي. هذا كلام شارح النقائض بحروفه. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "المشفشف" فإن الكوفيين زعموا في هذه الكلمة ونظائرها أن أصلها المشفف -بثلاث فاءات- فأبدلوا من الفاء الثانية حرفا من جنس فاء الكلمة -وهي الشين- فصار المشفشف، فهذه الشين لام أولى للكلمة لأنها بدل من لامها الأولى، وعلى هذا يكون المشفشف على وزن المفعلل، والذي يدلّ على ذلك الاشتقاق، فإنا رأينا العرب يقولون: شف جسم فلان؛ إذا هزل ونحل من الوجد والهم، وقالوا: شفه الوجد والهم يشفه -من مثال مده يمده- إذا أضعفه وهزله، ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي: فهن عكوف كنوح الكريـ ... ـم قد شف أكبادهن الهوى ثم رأينا هم يقولون في هذا المعنى نفسه: شفشفه الهم والحزن، فعلمنا أنهم أرادوا أن يضعفوا العين على مثال قطع وهذب، فاجتمع عندهم ثلاث فاءات، وهم يكرهون اجتماع ثلاثة أمثال، ففروا من ذلك إلى إبدال الثانية حرفا آخر، ووجدوا أن أحسن ما يفعلون أن يبدلوه حرفا من جنس فاء الكلمة. [490] هذا هو البيت الثامن عشر من قصيدة للأعشى ميمون بن قيس "الديوان 67-72" ومطلعها قوله: غشيت لليلى بليل خدورا ... وطالبتها ونذرت النذورا وقد أنشد البيت ابن منظور "ر ق ق" والزمخشري في أساس البلاغة "ر ق ق" ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "رقرقت" فإن الكوفيين يزعمون أن أصل هذا الفعل رققت بثلاث قافات، لأنه في الأصل رقّ بقافين، ومن قولهم رقّ الثوب يرق، وقالوا: أرقه، كما قالوا: أمده، وقالوا: رققه، كما قالوا: مدده، والرق -بكسر الراء وتشديد القاف- نبات له عود وشوك وورق أبيض، وقالوا: رقرقت الثوب بالطيب، يريدون أجريت الطيب فيه، وأصله رققت بثلاث قافات، فلما استثقلوا اجتماع الأمثال أبدلوا من ثانيها حرفا من جنس فاء الكلمة، على مثال ما ذكرنا في شرح الشاهد السابق، ولو تأملت في هذا البيت وجدت الاشتقاق مستصعبا في هذا البيت أكثر من استصعابه في البيت السابق، فيمكن أن يقال: إن تقارب كلمتين في اللفظ وفي المعنى لا يدل على أن إحداهما أصل للأخرى، حتى إنه لا يكفي أن يتقارب اللفظان ويتحد المعنيان، بل لا بد من أشياء وراء ذلك من الاشتقاق ومن الاستعمال، وكيف يكون تقارب اللفظين وتقارب المعنيين دليلا على أن إحدى الكلمتين أصل للأخرى وفي اللغة العربية المترادف والمشترك؟

والأصل في رقرقت رقَّقْتَ؛ لأنه من "الرِّقَّةِ" فأبدل من القاف الوسطى راء، وقال الآخر: [491] باتَتَ تُكَرْكِرُهُ الجنوب والأصل في تكركره تكرره؛ لأنه من "التكرير" فأبدل من الراء الوسطى كافا، وكذلك أيضا قالوا "تململ على فراشه" والأصل تملل لأنه من "المَلَّة" وهو الرماد الحارُّ، إلا أنهم أبدلوا من اللام الوسطى ميما، وكذلك قالوا "تغلغل في الشيء" والأصل تغلل؛ لأنه من "الغلل" وهو الماء الجارى بين الشجر، فأبدلوا من اللام الوسطى غينا، وكذلك قالوا "تكمكم" والأصل تكمَّم لأنه من "الكُمَّة" وهي القَلَنْسُوَة، فأبدلوا من الميم الوسطى كافا، وكذلك قالوا "حَثْحَث" والأصل حَثَّثَ لأنه من "الحث" إلا أنهم أبدلوا من الثاء الوسطى حاء كراهية لاجتماع الأمثال، فكذلك ههنا: الأصل فيه "صَمَحَّح" إلا أنهم أبدلوا من الحاء الوسطى ميما كراهية لاجتماع الأمثال، وكانت الميم أولى بالزيادة لأنها من حروف الزيادة التي تختص بالأسماء. وقلنا "إنه لا يجوز أن يكون وزنه فعلعل" بتكرير العين؛ لأنه لو جاز أن يقال ذلك لجاز أن يقال صرصر، وسجسج وزنه فعفع لتكرير الفاء فيه؛ فلما بطل أن يكون صرصر على فعفع بطل أيضا أن يكون صمحمح على فعلعل.

_ [491] أنشد الجوهري هذه الجملة في الصحاح "ك ر ر" ولم يتم البيت، ولم ينسبه، ولم يتمّه صاحب اللسان، ولا ابن بري، وقال الزمخشري في الأساس "ك ر ر" "وباتت السحابة تكركرها الجنوب: تصرفها" ا. هـ. قال الجوهري: "والكركرة" تصريف الريح السحاب، إذا جمعته بعد تفرّق، وقال: باتت تكركره الجنوب وأصله تكرره من التكرير" ا. هـ وقال ابن منظور "والكركرة: تصريف الريح السحاب إذا جمعته بعد تفرق، وأنشد: تكركره الجنائب في السداد وفي الصحاح: باتت تكركره الجنوب وأصله تكرره من التكرير، وكركرته: لم تدعه يمضي، قال أبو ذؤيب: تكركره نجدية وتمده ... مسفسفة فوق التراب معوج وتكركر هو: تردى في الهواء، وتكركر الماء: رجع في مسيله" ا. هـ، ومحل الاستشهاد من هذه العبارة قوله "تكركره" فقد ذكر الكوفيون أن أصل هذه الكلمة تكرره -بثلاث راءات- والكلام فيها كالكلام الذي ذكرناه في الشواهد السابقة.

قالوا: ولا يلزم على كلامنا، نحو "احْقَوْقَفَ الظَّبْيُ، واغْدَوْدَنَ الشَّعْرُ" وما أشبه ذلك، فإنه على وزن افْعَوْعَلَ؛ لأنا نقول: إنما قلنا إنه على وزن افعوعل؛ لأنه ليس في الأفعال ما هو على وزن "افْعَلَّل" فقلنا: إن وزنه على افعوعل، بخلاف ما هنا؛ فإن في الأسماء ما هو على وزن فَعَلَّل، نحو "سَفَرْجَلَ، فَرَزْدَقَ" وكذلك لا يلزم على كلامنا نحو "خُلَعْلَعَ" وهو الخُعَل، و"ذُرَحْرَح" وهو دويبة، فإنه على وزن فعلعل؛ لأنا نقول: إنما قلنا إنه على وزن فُعَلْعَل؛ لأنه ليس في الأسماء ما هو على وزن فُعَلَّل -بضم الأول- وإذا خرج لفظ عن أَبْنِيَةِ كلامهم دلَّ ذلك على زيادة الحرف فيه. والذي يدل على ذلك أنهم قالوا في ذرحرح: ذُرَّاح، فأسقطوا أحد المثلين، ولو كان خماسيا لم يأتِ منه ذراح على وزن فُعَّال، نحو: كرَّام، وحسَّان؛ فبان الفرق بينهما. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن وزنه فَعَلْعَلَ؛ لأن الظاهر أن العين واللام قد تكررتا فيه؛ فوجب أن يكون وزنه فَعَلْعَلَ، ألا ترى أنه إذا تكررت العين في نحو "ضرَّب وقتَّل" كان وزنه فَعَّل، أو تكرّرت اللام في نحو "احمرَّ واصفرَّ" كان وزنه افعلَّ؛ فكذلك ههنا: لما تكررت العين واللام في نحو "صمحمح ومكمك" يجب أن يكون وزنه فعلعل لتكرّرهما فيه، هذا حكم الظاهر، فمن ادَّعى قلبًا بقي مرتهنًا بإقامة الدليل. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن الأصل صمحَّح، ودمكَّك" قلنا: هذا مجرد دَعْوَى لا يستند إلى معنًى، بل تكرير عين الفعل ولامه كتكرير فاء الفعل وعينه في مَرْمَرِيسٍ وهي الداهية، ومَرْمَرِيتٍ وهي القَفْر؛ لأنهما من1 المَرَاسَة والمَرْتِ، وأما تلك المواضع التي استشهدوا بها على الإبدال لاجتماع الأمثال؛ فهناك قام الدليل في ردّ الكلمة إلى أصلها، وذلك غير موجود ههنا. وقولهم "لو جاز أن يقال إن وزن فعلعل -بتكرير العين- لجاز أن يقال: صرصر وسجسج، وزنه فَعْفَعَ لتكرير الفاء فيه" قلنا: هذا باطل، وذلك أن الحرف إنما يجعل زائدا في الاسم والفعل إذا كان على ثلاثة أحرف سواه، وهي فاء الفعل وعينه ولامه، وصرصر وسجسج لم يُوجَد فيه ذلك؛ فلو قلنا إن

_ 1 في ر "لأنها في المراسة".

وزنه فعفع لأدَّى ذلك إلى إسقاط لامه، وذلك لا يجوز، بخلاف صمحمح ودمكمك؛ فإنه قد وجد فيه ثلاثة أحرف فاء وعين ولام، فلما لم يؤدِّ ذلك إلى إسقاط لامه كان ذلك جائزا، وصار هذا كما تجعل إحدى الدالين في اسْوَدَّ زائدة، ولا تجعل إحدى الدالين في ردّ ومدّ زائدة؛ لأنا لو جعلنا إحداهما زائدة لأدّى ذلك إلى إسقاط لام الفعل أو عينه، وذلك لا يجوز؛ فكذلك ههنا، والله أعلم.

مسألة هل في كل رباعي وخماسي من الأسماء زيادة؟

114- مسألة: [هل في كل رباعي وخماسي من الأسماء زيادة] 1 ذهب الكوفيون إلى أن كل اسم زادت حروفه على ثلاثة أحرف ففيه زيادة، فإن كان على أربعة أحرف نحو جعفر ففيه زيادة حرف واحد، واختلفوا فذهب أبو الحسن عليّ بن حمزة الكسائي إلى أن الزائد فيما كان على أربعة أحرف الحرف الذي قبل آخره، وذهب أبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء إلى أن الزائد فيما كان على أربعة أحرف هو الحرف الخير، وإن كان على خمسة أحرف -نحو "سَفَرْجَلَ"- ففيه زيادة حرفين. وذهب البصريون إلى أن بنات الأربعة والخمسة ضربان غير بنات الثلاثة، وأنهما من نحو جعفر وسفرجل، لا زائدة فيهما البتة. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأنا أجمعنا على أن وزن جعفر فَعْلَل، ووزن سفرجل فَعَلَّل، وقد علمنا أن أصل فَعْلَل وفَعَلَّل فاء وعين ولام واحدة؛ فقد علمنا أن إحدى اللامين في وزن جعفر زائدة، واللامان في وزن سفرجل زائدتان، فدل على أن في جعفر حرفًا زائدًا من حرفية الأخيرين، وأن في سفرجل حرفين زائدين، على ما بيّنا. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: لا يخلو الزائد في جعفر من أن يكون الراء أو الفاء أو العين أو الجيم: فإن كان الزائد هو الراء فيجب أن يكون وزنه فَعْلَر؛ لأن الزائد يُوزَنُ بلفظه، وإن كان الزائد الفاء فوجب أن يكون وزنه فعفل، وإن كان الزائد العين فوجب أن يكون وزنه فعَّل، وإن كان الزائد الجيم فوجب أن يكون وزنه جَعْفَل، وكذلك يلتزمون في وزن سفرجل، وإذا كان هذا لا يقول به أحد دلَّ على أن حروفه كلها أصول. قالوا: ولا يجوز أن يقول "إن إحدى الدالين من قَرْدَد ومَهْدَد زائدة ووزنه عندكم فَعْلَل؛ فقد وزنتم الدال الزائدة باللام، وكذلك صمحمح ووزنه عندكم.

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح ابن يعيش على المفصل "ص900".

فَعَلْعَل، وإحدى الميمين وإحدى الحاءين زائدتان، ولم تزنوهما بلفظهما فتقولوا: وزنه فعلمح، ووزنتموهما بالعين واللام فقلتم: فعلعل، وكذلك مرمريس ومرمريت، ووزنه عندكم فعفعيل، ولم تزنوا فيه الزائد بلفظه فتقولوا: فعمريل، ووزنتموه بالفاء والعين فقلتم: فعفعيل" لأنا نقول: إنما وزنَّا الزائد بلفظ اللام دون لفظ الدال، وذلك لأن إحدى الدالين لام الفعل والدال الأخرى -وإن كانت زائدة- فهي تكرير لام الفعل بلفظهما، فوَزَنَّا باللفظ الذي وُزِنَ به لام الفعل، وكذلك صمحمح: الميم عين الفعل، والحاء لامه، ثم أُعِيدَتَا تكثيرًا لهما؛ فصار المعاد زائد، غير أنه من جنس الأول، فأعيد بلفظ الأول؛ فجعلت عينا ولاما معادتين، كما جعلت الميم والحاء الأوليان عينا ولاما، وكذلك نقول في مرمريس ومرمريت. والدليل على أن فاء الفعل وعينه في "مرمريس، ومرمريت" زائدة مكررة أنه مأخوذ من المراسة والمرت، ألا ترى أن "مرمريس" اسم الداهية، و"مرمريت" اسم القفر. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنه إذا كانت إحدى اللامين في وزن جعفر زائدة دلّ على أن فيه حرفا زائدا، وكذلك إذا كانت اللامان في وزن سفرجل زائدتين دلّ على أن في سفرجل حرفين زائدين" قلنا: هذا غلط وجهل بموضع وزن الأسماء وتمثيلها بالفعل دون غيره، وذلك أن التمثيل إنما وقع بالفعل دون غيره ليعلم الزائد من الأصلي، وذلك أنا إذا جئنا إلى جعفر فمثّلناه بِفَعْلَل علمنا بالمثال أنه لم يدخله شيء زائد، وإذا جئنا إلى صَيْقَل فمثلناه بفَيْعَل فقد علم بالمثال أن الياء زائدة، واختاروا الفعل؛ لأنه يأتي وهو عبارة عن كل شيء من الألفاظ التي تتصرف، ألا ترى أنك تقول لصاحبك: قد ضربت زيدا، أو خاصمته، أو أكرمته، أو ما أشبه ذلك، فتقول: قد فعلت، وكان الثلاثي أولى بذلك من قِبَلِ أن أقلّ الأسماء والأفعال بُنَاتُ الثلاثة وفيها بنات الأربعة والخمسة؛ فلو وقع التمثيل بشيء على أربعة أحرف أو خمسة لبطل وزن الثلاثي به إلا بحذف شيء منه، ونحن نجد بنات الثلاثة تُبْنَى على أربعة أحرف بزيادة حرف نحو ضيغم، وهو من الضَّغْم وهو العضّ، وعلى خمسة أحرف بزيادة حرفين نحو سَرَنْدَى، وهو من السَّرْدِ، ولم يعلم أنه بني شيء من بنات الأربعة والخمسة على ثلاثة أحرف، فلما كان الأمر على ما ذكرنا ووجب التمثيل بالفعل واحتجنا إلى تمثيل رباعي وخماسي زدنا ما يلحقه بلفظ الرباعي والخماسي؛ فهذا الذي نزيده على الفعل زائد، وإن كان الممثل به أصليًّا؛ لأن الضرورة ألجأت إلى أن نزيد على الفعل ليلحق الممثَّلُ بالممثَّلِ به؛ فدل على صحة ما ذهبنا إليه، والله أعلم.

مسألة وزن "سيد وميت"ونحوهما

115- مسألة: [وزن "سيِّد وميِّت" ونحوهما] 1 ذهب الكوفيون إلى أن وزن "سيِّد، وهيِّن، وميِّت" في الأصل على فَعِيل، نحو سَوِيد وهَوِين ومَوِيت. وذهب البصريون إلى أن وزنه فَيْعِل -بكسر العين- وذهب قوم إلى أن وزنه في الأصل على فَيْعَلٍ بفتح العين. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن أصله فَعِيلٌ نحو: سويد وهوين ومويت لأن له نظيرا في كلام العرب، بخلاف فيعل؛ فإنه ليس له نظير في كلامهم، فلما كان هذا هو الأصل أرادوا أن يعلُّوا عين الفعل كما أعلت في "ساد يسود" وفي "مات يموت" فقدمت الياء الساكنة على الواو فانقلبت الواو ياء؛ لأن الواو والياء إذا اجتمعتا والسابق منهما ساكن قلبوا الواو ياء وجعلوهما ياء مشددة. ومنهم من قال: أصله سويد وهوين ومويت، إلا أنهم لما أرادوا أن يعلّو الواو كما أعلوها في "ساد ومات" قلبوها، فكان يلزمهم أن يقلبوها ألفا، ثم تسقط لسكونها وسكون الياء بعدها، فكرهوا أن يلتبس فَعِيل بِفَعْل، فزادوا ياء على الياء ليكمل بناء الحرف ويقع الفرق بها بين فعيل وفعل ويخرج على هذا نحو سويق وعويل، وإنه إنما صح لأنه غير جارٍ على الفعل. وأما البصريون فقالوا: إنما قلنا إن وزنه فَيْعَل؛ لأن الظاهر من بنائه هذا الوزن، والتمسك بالظاهر واجب مهما أمكن. والذي يدل على ذلك أن المعتل يختص بأبنية ليست للصحيح؛ فمنها فُعَلَة في جمع فاعل نحو قاضٍ وقُضَاة، ومنها فَيْعَلُولة نحو كينونة وقيدودة، والأصل كيَّنونة وقيَّدُوة.

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح ابن يعيش على المفصل "663 و1410 و1432" وشرح الأشموني بحاشية الصبان "4/ 263" وكتاب سيبويه "2/ 371".

والذي يدل على ذلك أن الشاعر يردُّه إلى الأصل في حالة الاضطرار، قال الشاعر: [492] قد فَارَقَت قَرِينَهَا القَرِينَهْ ... وشَحَطَتْ عن دارها الظَّعِينَهْ يا ليتنا قد ضمَّنا سفينهْ ... حتى يعود الوصل كينونهْ

_ [492] هذه أربعة أبيات من الرجز المشطور، وقد أنشدها ابن منظور "ك ون" وقال قبل إنشادها "قال أبو العباس: أنشدني النهشلي" ا. هـ. وشحطت: بعدت، والظعينة: أصلها المرأة ما دامت في الهودج؛ ثم جرد من بعض معناه فصار يطلق على المرأة مطلقا، وقوله "يا ليتنا قد ضمنا" الذي في اللسان "يا ليت أنّا ضمنا" ومحل الاستشهاد من هذه الأبيات قوله "كينونه" فإن البصريين ذهبوا إلى أن الأصل في هذه الكلمة هو ما ورد في هذه الأبيات -بفتح الكاف وتشديد الياء مفتوحة- وأن الأصل الأصيل في هذه الكلمة كيونونة -بفتح الكاف وسكون الياء وفتح الواو- فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما وهي الياء بالسكون فقلبت الواو ياء، ثم أدغمت الياء في الياء، وذلك لأنها أحد مصادر كان يكون كونا، ونظير ذلك هيعوهة وديمومة وقيدودة، لأنها من هاع يهوع هواعًا -بضم ففتح- وهيعوعة، أي قاء، ومن دام يدوم دوامًا -بفتح الدال- وديمومة، ومن قاد الفرس يقوده قودا ومقادة وقيدودة، كل هذا أصله بياء ساكنة فواو مفتوحة، بدليل الاشتقاق، ثم قلبت واو الجميع ياء لما ذكرنا، ثم أدغمت الياء في الياء، وهذا الوزن قليل في واوي العين كثير فيما كانت عينه ياء، نحو طار يطير طيرانا وطيرورة، وحاد يحيد حيودا وحيدة وحيدودة، كل هذا أصله بتشديد الياء مفتوحة، ثم خففوه بحذف إحدى الياءين، فصار بياء ساكنة، وذلك نظير تخفيفهم سيد وميت وطيب وهين، فإن الأصل في هذه الألفاظ تشديد الياء كما في قول الشاعر: وإن بقوم سودوك لحاجة ... إلى سيد لو يظفرون بسيد وكما في قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وكما في قول الراجز: بني إن الجود شيء هين ... المنطق الطيب والطعيم ثم قد يجيئون بها مخففة بياء ساكنة كما في قول الشاعر: ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء وكما في قول الآخر: هينون لينون أيسار ذوو كرم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري قال ابن منظور: "وتقول: كان كونا، وكينونة أيضا، شبهوه بالحيدودة والطيرورة من ذوات الياء، ولم يجئ من الواو على هذا إلا حرف: كينونة، وهيعوعة، وديمومة وقيدودة، وأصله كينونة -بتشديد الياء- فحذفوا كما حذفوا من هين وميت" ا. هـ ثم قال بعد كلام غير ظاهر: "قال ابن بري: أصله كيونونة، ووزنها فيعلولة، ثم قلبت الواو ياء فصار كينونة، ثم حذفت الياء تخفيفا فصار كينونة، وقد جاءت بالتشديد على الأصل، قال أبو العباس: أنشدني النهشليّ، ثم أنشد أربعة الأبيات، قال: والحيدودة أصل وزنها فيعلولة وهو حيدودة، ثم فعل بها ما فعل بكينونة" ا. هـ، وفي الذي ذكره عن ابن بري في وزن حيدودة نظر.

إلا أنهم خففوه كما خففوا ريحان، وأصله رَيَّحَان -بالتشديد- على فَيْعَلَان، وأصل ريحان "رَيْوَحَان" فلما اجتمعت الواو والياء والسابق منهما ساكن قلبوا الواو ياء وجعلوهما ياء مشدودة، وكما خففوا سيد وهين وميت، إلا أن التخفيف في نحو سيد وهين وميت جائز، والتخفيف في نحو كيَّنونة وقيَّدودة واجب، وذلك لأن نهاية الاسم بالزيادة أن يكون على سبعة أحرف وهو مع الياء على سبعة أحرف، فخففوه كما خففوا اشهيباب، فقالوا: اشهباب. وإذا جاز الحذف فيما قلَّت حروفه نحو سيد وهين وميت لزم الحذف فيما كثرت حروفه نحو كينونة وقيدودة، وإذا جاز أن يختص المعتل بأبنية ليست للصحيح كان حمل سيد وهين وميت على الظاهر أولى من العدول عنه إلى غيره. قالوا: ولا يجوز أن يقال "إن الأصل أن يقال في جمع قاض" قُضَّى. كما يقال: غازٍ وغُزَّى، فاستثقلوا التشديد على غير الفعل، فحذفوا، وعوَّضوا من حذف المحذوف هاء، كما قالوا: عِدَة، فعوضوا من الواو المحذوفة هاء، وأما كينونة وقيدوه فالأصل كونونه وقودودة على فعلولة نحو بُهْلُول وصندوق. إلا أنهم فتحوا أوله لأن أكثر ما يجيء من هذه المصادر مصادر ذوات الياء، كقولهم طار طيرورة وصار صيرورة وسار سيرورة وحاد حيدودة، ففتحوه حتى تسلم الياء1؛ لأن الباب للياء، ثم حملوا ذوات الواو على ذوات الياء؛ لأنها جاءت على بنائها، وليس للواو فيه حظ؛ لقربهما في المخرج واشتراكهما في اللين، فقلبوا الواو ياء في نحو كينونة وقيدودة. كما قالوا الشِّكَاية وهي من ذات الواو لقولهم: شكوت أشكو شكوًا؛ لأنها جاءت على مصادر الياء نحو الراية والرواية والسعاية والرماية فكذلك ههنا" لأنا نقول: أما قولكم "إن الأصل أن يقال في جمع قاضٍ قُضَّى كما يقال غاز وغزّى" قلنا: هذا عدول عن الظاهر من غير دليل، ثم لو كان أصله قُضَّى كغاز وغزى لكان ينبغي أن لا يلزمه الحذف لقلة حروفه، وأن يجوز أن يؤتى به على أصله؛ فكان يقال فيه: قضًّى وقضاة كما قالوا: غُزًّى، وغُزَاة؛ لأن فُعَّلًا ليس بمهجور في أبنيتهم، وهو كثير في كلامهم، فلما لزم الحذف، ولم يلزم في نظيره مع قلة حروفه دلّ على أن ما ذكرتموه مجرد دعوى لا يستند إلى معنى. وأما قولهم "إن كينونة فُعْلُولة" قلنا: هذا باطل؛ لأنه لو كان الأمر كما زعمتم

_ 1 إذ لو بقيت الضمة لوجب قلب الياء واوا؛ لسكونها بعد ضمة كما قلبوها في موسر اسم الفاعل من أيسر.

لكان يجب أن يقال "كُونُونة وقُودُودة"؛ لأنه لم يوجد ههنا ما يوجب قلب الواو ياء، وقولهم "إنهم غَلَّبُوا الياء على الواو؛ لأن الباب للياء" فليس بصحيح؛ لان المصادر على هذا الوزن قليلة، وما جاء منها من ذوات الواو نحو ما جاء منها من ذوات الياء، كقولك: كينونة، وقيدودة، وحيلولة، وديمومة، وسيدودة، وهيعوعة -من الهُوَاع وهو القيء- فليس جَعْلُ الباب لذوات الياء أولى من جعله لذوات الواو؛ فحمل أحدهما على الآخر لا وجه له. والذي يدل على صحة ما صرنا إليه أن فَيْعَلُولا بناء يكون في الأسماء والصفات، نحو: خَيْتَعور، وعَيْطَموس، وفَعْلُول لا يكون في شيء من الكلام، ولم يأتِ إلَّا في قولهم "صَعْفُوقٍ" قال الراجز: [493] من آل صعفوق وأتباع أُخَرْ ... الطَّامِعِين لا يُبَالُون الغُمَرْ

_ [493] هذان بيتان من مشطور الرجز، من رجز للعجاج بن رؤبة يمدح فيه عمر بن عبيد الله بن معمر، وكان قد ولي حرب الخوارج الذين كان يقودهم أبو فيديك في عهد عبد الملك بن مروان فنال منهم، وقد أنشده الجاربردي والرضي في شرح الشافية، وشرحه البغدادي "ص4 بتحقيقنا" والجوهري في الصحاح، وابن منظور في اللسان "ص ع ف ق" وقد روى البغدادي مما يتصل بالشاهد: فهو ذا؛ فقد رجا الناس الغير ... من أمرهم على يديك والثؤر من آل صعفوق وأتباع أخر ... الطامعين لا يبالون الغمر وقوله "فهو ذا" أي الأمر هو هذا الذي ذكرته، و"الغير" معناه أن الناس قد رجوا وأملوا أن يتغيّر أمرهم ويتحوّل حالهم على يديك من فساد وفوضى إلى صلاح ونظام، ولك بنظرك في أمرهم وتدبير حالهم ودفع غوائل الخوارج عنهم ورمّ ما أفسدوه ورتق ما فتقوه، والثؤر -بضم الثاء وفتح الهمزة- جمع ثؤرة، وهي الثأر، وآل صعفوق: أصلهم خول -أي خدم وأتباع- باليمامة، وقال ابن الأعرابي: هم قوم من بقايا الأمم الخالية باليمامة ضلت أنسابهم، وقيل: هم الذين يشهدون الأسواق ولا بضائع لهم فيشترون ويبيعون ويأخذون الأرباح، وعلى كل حال فإن العجاج يريد في هذا الموضع أرذال الناس وضعًا فهم الذين لا قديم لهم يردعهم عن إتيان المنكرات. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "صعفوق" فقد رواه نقلة اللغة -بفتح الصاد وسكون العين وضم الفاء، وقالوا: إن وزنه فعلول، وإنه لم يجئ في كلام العرب على وزن فعلول غير هذه الكلمة، وقوم ينكرون هذا الوزن بتة، ومن هؤلاء المنكرين من رووه بضم الفاء ومنهم من قال: هذا لفظ أعجمي، قال الجوهري "بنو صعفوق: خول باليمامة، قال العجاج: من آل صعفوق وأتباع أخر ... من طامعين لا يبالون الغمر وهو اسم أعجمي، لا ينصرف للعجمة والمعرفة، ولم يجئ على فعلول شيء غيره، وأما الخرنوب فإن الفصحاء يضمونه أو يشددونه مع حذف النون، وإنما يفتحه العامة" ا. هـ.

وهم خول باليمامة، ولا ينصرف للتعريف والعجمة؛ فما صرنا إليه له نظير في الأسماء والصفات، وما صاروا إليه لا نظير له في شيء من كلام، ثم ألزموا مع حمله على شيء لا نظير له في كلامهم قلبا لا نظير له في أقيسة كلامهم. وأما من قال: "إن أصله فيعلا بفتح العين" فاحتج بأنه وجد فيعلا بفتح العين له نظير في كلامهم، ولم يجدوا فيعلا بكسر العين فجعله فيعلا بفتح العين ثم كسر الياء كما قالوا في بصري: بصري، وكما قالوا في أموي: أموي، وكما قالوا "أخت" والأصل فيها الفتح، لأن أصلها أخوة، وكما قالوا "دهري" بالضم للرجل المسن الذي قد أتي عليه الدهر، والقياس الفتح، وقد جاء في بعض هذا المعتل فيعل، قال الشاعر: [494] ما بال عيني كالشعيب العين

_ = وقال الأزهري "كل ما جاء على فعلول فهو مضموم الأول مثل زنبور وبهلول وعمروس وما اشبه ذلك، الأحرفا جاء نادرا وهو بنو صعفوق لخول باليمامة، وبعضهم يقول صعفوق بالضم" وقال ابن بري "رأيت بخط أبي سهل الهروي على حاشية كتاب جاء على فعلول بفتح الفاء صعفوق، وصعقول لضرب من الكمأة، وبعكوكة الوادي لجانبه، أما بعكوكة الوادي وبعكوكة الشر فذكرها السيرافي وغيره بالضم لا غير، أي بضم الباء، وأما الصعقول لضرب من الكمأة فليس بمعروف، ولو كان معروفا لذكره أبي حنيفة في كتاب النبات" ا. هـ. [494] هذا بيت من الرجز المشكور، وهو من أرجوزة لرؤبة بن العجاج "انظر أراجيز رؤبة ص160" وقد استشهد به سيبويه "2/ 372" ورضي الدين في شرح الشافية، وشرحه البغدادي "ص61 بتحقيقنا" والجوهري في الصحاح وابن منظور "ع ي ن" وابن جني في الخصائص "2/ 485 , 3/ 214" وبعد بيت الشاهد قوله: وبعض أعراض الشجون الشجن ... دار كرقم الكاتب المرقن بين نقا الملقي وبين الأجون وقوله: "ما بال عيني" أي ما حالها وما شأنها، والشعيب بفتح الشين وكسر العين المزادة الصغيرة، والعين بفتح العين وتشديد الياء مفتحة المتخرقة التي فيها عيون فهي لا تمسك الماء، ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "العين" وللعلماء في هذه الكلمة مذهبان، الأول: وهو رأي سيبويه وأتباعه وخلاصة أن هذه الكلمة على وزن فيعل بفتح الفاء وسكون الياء وفتح العين وأنه من معتل العين وزيدت عليه ياء بين الفاء والعين، وقالوا: إن هذا الوزن جاء كثيرا في صحيح العين نحو حيدر وصيرف وجيأل، ولم يأت منه في معتل العين سوى هذه الكلمة، وذلك لأنهم خصوا المعتل بوزن فيعل بكسر العين نحو سيد وهين ولين صيب وربيع؛ فتكون هذه الكلمة خارجة عن نظرائها وأمثالها، وكان القياس فيها أن تكون بتشديد الياء مكسورة لا مفتوحة، قال الأعلم "الشاهد فيه بناء العين على فيعل بالفتح، وهو شاذ في المعتل، ولم يسمع الأفي هذه الكلمة، وكان

فدل على أنه فيعل بفتح العين، والشعيب: المزادة الضخمة، والعين: المتعينة، وهي التي يصب فيها الماء فيخرج من عيونها: أي خرزها، فينفتح السير فينسد موضع الخرز، ومنه يقال "عين قربتك" أي صب فيها الماء حتى ينسد آثار الخرز. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن وزنه فعيل إلا أنهم أعلوا عين الفعل وقدموا وأخروا وقلبوا" قلنا: هذا باطل؛ لأن هذا التقديم والتأخير لا نظير له في الصحيح، لأن ياء فعيل لا تقدم على عينة في شيئ من الصحيح، وإذا جاز أن يختص المعتل من التقديم والتأخير بما لا يوج مثله في الصحيح جاز أن يختص ببناء لا يوجد مثله الصحيح. وأما قولهم: "إنا حذفنا الألف وعوضنا الياء مكانها لئلا يلتبس فعيل بفعل" قلنا: وهذا أيضا باطل لأنه لو كان الأمر على ما زعمتم لكان ينبغي أن لا يجوز فيه التخفيف فيقال: سيد وميت وهين؛ لأنه يؤدي إلى الالتباس، فلما جاز ذلك فيه بالإجماع دل على فساد ما ذهبتم إليه. وأما قول من قال: "إن أصله فيعل بفتح العين إلا أنه كسر العين كما كسر الباء في بصري" قلنا: هذا باطل، وذلك لأنه لو كان فيعلا لكان ينبغي أن يقال سي وهيت وميت بالفتح ولم يغير إلى الكسر، كما قالوا: عين وتيجان، وهيبان بفتح العين والتيجان: هو الذي يعترض في كل شيئ، والهيبان: إلى يهاب كل شيء، فلما كسر دل على فساد ما ذهبتم إليه. وأما قولهم في النسب إلى البصرة بصرى بكسر الباء وكذلك جميع ما استشهدوا به فعلي خلاف القياس؛ فلا يقاس عليه؛ على أنهم قد قالوا: إنما كسرت الباء لأن البصرة في الأصل الحجارة الرخوة، فإذا حذفت التاء كسرت الباء فقيل بصر، فلما نسبت إلى البصرة حذفت تاء التأنيث لياء النسب فكسرت الباء لحذف التاء، فلذلك قيل: بصري، بكسر الباء.

_ قياسها أن تكسر العين فيقال عين كما قيل سيد وهين ولين ونحو ذلك، وهو بناء يختص به المعتل ولا يكون في الصحيح كما يختص الصحيح بفيعل مفتوحة العين نحو صيرف وحيدر، وهو كثير" ا. هـ، والرأي الثاني: ما ذهب إليه ابن جني، وذلك في قوله" وكذلك ما أنشده من قوله رؤبة: ما بال عيني كالشعيب العين حملوه على فيعل مما اعتلت عينه، وهو شاذ، وأوفق من هذا عندي أن يكون فوعلا أو فعولا حتى لا يرتكب شذوذه، وكأن الذي سوغهم هذا ظاهر الأمر وأنه قد روى العين بكسر العين" ا. هـ.

وقولهم: "إنه لم يوجد فيعل في كلامهم" قلنا: قد بين أن المعتل يختص بأبنية ليست للصحيح؛ فلا حاجة إلى أن تجعل فيعلا مثل عين مع شذوذه وندرة في بابه، وقد وجدنا سبيلا إلى أن تجعل فيعلا على لفظه، ولو جاز أن يعتد بقولهم عين بفتح العين مع شذوره وندوره لجاز أن يعتد بما حكى الأصمعي، قال: حدثني بعض أصحابنا قال: سمعتهم يقولون جاءت الصيقل بكسر القاف وإذا امرأة كأن وجها سيف، فملا رأتنا أرخت البرقع فقلت: يرحمك الله! إنا سفر، وفينا أجرن فلو منحتنا من وجهك، فانصاعت فتضاحكت، وهي تقول: [495] وكنت متى أرسلت طرفك زائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه، ولا عن بعضه أنت صابر

_ [495] هذان البيتان قد أنشدهما ابن قتيبة في عيون الأخبار "224" مع نفس القصة التي حكاها المؤلف ههنا، ولم يعز البيتين إلى قائل معين، ولم ينشد المؤلف البيتين للاستشهاد بهما على قاعدة من قواعد النحو ولا البيان معنى كلمة غريبة، ولكنه أتي بهما لأنهما وردا في القصة التي يحكيها وفيها أن الصيقل سمع من بعض العرب بكسر القاف، وفي ذكر قصة الفتاة وإنشاد البيتين إشارة من الأصمعي إلى أنه متثبت من رواية الصيقل بكسر القاف، ووجه هذه الإشارة أنه يذكر الظروف والملابسات التي أحاطت به وتقول: صقل السيف وغيره سصقله صقلا مثل نصره ينصره نصرا وصقالا، فهو مصقول وصقيل تريد جلاه، والصاقل: الذي يجلوه ويشحذه، وجمعه صقله على مثال فاجر وفجرة وكافر وكفرة، ويقال لشحاذ السيوف وجلائها: صيقل ت بفتح الصاد وسكون الياء وفتح القاف وجمعه صياقل وصياقله، وقد حكى الأصمعي في هذه القصة أنه سمع من بعض أصحابه أن قوما من العرب يقولون صيقل بسكر القاف، وهو شاذ؛ لأن هذا الوزن لم يجيء في صحيح العين كما سمعت في شرح الشاهد 494 وإنما يجيء كسر العين في معتل العين، والخلاصة أن العرب قد خصت معتل العين المزي فيه بعد الفاء بالمجيء على زنة فيعل بكسر اليعن كسيد وميت وهين وبين ولين وصيبت وخصت صحيح العين بالمجيء على وزن فيعل بفتح العين نحو صيرف وحيدر وجيال وبيطر وصيقل ونيرب بمعنى الشر والنميمة وهذا هو الأصل الذي جرى عليه كلامهم، ولكنهم ربما جاءوا بالكلمة من المعتل على الوزن الذي خصوا به الصحيح مثل كلمة "العين" التي وردت في الشاهد 494 وقد بينا لك أمرههناك، وربما جاءوا بكلمة من الصحيح على الوزن الذي خصوا به المعتل مثل كلمة الصيقل التي حكاها الأصمعي في هذه القصة، وهذا وذاك شاذان، فاعرف ذلك.

مسألة وزن "خطايا" ونحوه

116- مسألة: [وزن "خطايا" ونحوه] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "خطايا" جمع خطيئة على وزن فعالي، وإليه ذهب الخليل بن أحمد. وذهب البصريون إلى أن "خطايا" على وزن فعائل. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن وزنه فعالي، وذلك لأن الأصل أن يقال في جمع خطيئة "خطايئ" مثل خطايع، إلا أنه قدمت الهمزة على البناء؛ لئلا يؤدي الإبدال الياء همزة كما تبدل في صحيفة وصحائف وكتيبة وكتائب لوقوعها قبل الطرف بحرف؛ لأنهم يجرون ما قبل الطرف بحرف من هذا النوع مجرى الطرف في الإبدال، وهم يبدلون من الياء إذا وقت طرفا وقبلها الف زائدة همزة، فلو لم تقدم الهمزة على الياء في خطايئ لكان يؤدي إلى اجتماع همزتين، وذلك مرفوض في كلامهم ولم يأت في كلامهم الجمع بين همزتين في كلمة الأفي قول الشاعر: [449] فإنك لا تدري متى الموت جائئ ... ولكن أقصى مادة الموت عاجل ولهذا قال الخليل بن أحمد: جائية مقلوبة، ووزنه فاعلة، فصارت خطائي مثل خطاعي، ثم أبدلوا من الكسرة فتحة ومن الياء الفا، فصارت خطاءا، مثل خطاعا، فحصلت همزة بين الفين، والألف قريبة من الهمزة، فقلبوا من الهمزة ياء فرارا من اجتماع الأمثال، فصار خطايا على وزن فعالي، على ما بينا. ومنهم من قال: إنه على فعالى؛ لأن خطيئة جمعت على ترك الهمز؛ لأن ترك الهمز يكثر فيها، فصارت بمنزلة فعيلة من ذوات الواو والياء، وكل فعيلة من ذوات الواو والياء نحو وصية وحشية فإنه يجمع على فعالى دون فعائل؛ لأنه لو

_ 1 انظر في هذه المسألة: تصريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 463" وما بعدها" وشرح الأشموني بحاشية الصبان "4/ 244-246" وشرح رضي الدين على الشافية "1/ 25 و3/ 59 و62 و181 بتحقيقنا".

جمع على فعائل لاختل الكلام وقل، فجمعت على فعالي، فقالوا: وصايا، وحشايا، وجعلت الواو في حشايا على صورة واحدها؛ لأن الواو صارت ياء في حشية، فدل على أن خطايا على وزن فعالي على ما بينا. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلوا إن وزنه فعائل، وذلك لأن خطايا جمع خطيئة؛ وخطيئة على وزن فعيلة، وفعيلة يجمع على فعائل؛ والأصل فيه ن يقال "خطايئ" مثل خطايع؛ ثم أبدلوا من الياء همزة؛ كما أبدلواها في صيحفة وصحائف؛ فصار خطائي مثل خطاعع؛ وقد حكى أبو الحين على بن حمزة الكسائي عن بعض العرب أنه قال: اللهم اغفر لي خطائئيه؛ مثل خطاععيه؛ فاجتمع فيه همزتان، فقلبت الهمزة الثانية ياء لكسرة قبلها، فصار خطائي مثل خطاعي، ثم أبدلوا من الكسرة فتحة ومن الياء الفا فصرا خطاءا مثل خطاعا، فاستثقلوا الهمزة بين الفين فأبلدوا منها ياء فصار خطايا. وكأن الذي رغبهم في إبدال الفتحة من الكسرة والعود من خطائي إلى خطاءا أن يقلبوا الهمزة ياء فيعودوا بالكلمة إلى أصلها؛ لأن الهمزة الأولى من خطائيي منقلبة عن الياء في خطيئة، ولا يلزما على ذلك أن يقال في جائي "جايا" لأن الهمزة في جاء منقلبة عن عين الفعل، والهمزة في خطايا منقلبة عن ياء زائدة في خطيئة، ففضلوا الأصلي على الزائد؛ فلم يحلقوه من التغيير ما الحقوه الزائد. وكذلك أيضا قالوا فيجمع هراوة "هراوي" وأداوة "أداوي" وكان الأصل هرائو وأدائو مثل هراع ووأداعو على مثل فعائل كرسالة ورسائل؛ لأنهم أبدلوا من الف هراوة وإداوة همزة كما أبدلوا في رسائل من الف رسالة همزة، ثم أبدلوا من الواو في هرائو وأدائو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، فصار هرائي وأدائي مثل هراعي وأداعي، ثم أبدلوا من الكسرة فتحة ومن الياء الأفا فصار هراءا وأداءا مثل هراعا وأداعا، فاستثقلوا الهمزة بين الفين، فأبلدوا من الهمزة واوا ليظهر في الجمع مثل ما كان في الواحد طلبا للتشاكل؛ وذلك لأن الجمع فرع على الواحد؛ فلا بأس بأن يطلب مشاكلته له. والذي يدل على نهم فعلوا لك طلبا لمشاكلة أن ما لا يكون في واحدة واو لا يجيء فيه ذلك، فدل على ما قلناه. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن الأصل أن يقال في ج مع خطيئة خطايئ مثل خطايع وإنما قدمت الهمزة على الياء" قلنا: ولم قلتم بالتقديم وهو على خلاف الأصل والقياس؟

قولهم: "لئلا يؤدي ذلك إلى اجتماع همزتين، وهو مرفوض" قلنا: ولم قلتم إنه موجود ههنا؟ وهذا لأن الهمزة الثانية يجب قلبها ياء لانكسار ما قبلها، فالكسرة توجب قلب الهمزة إلى الياء، كما توجب الفتحة قلبها إلى الألف في نحو أأدم وأأخر، فلم يجتمع فيه همزتان، وإذا كان حمله على الأصل يؤدي إلى أن يجتمع فيه همزتان يزول اجتماعهما على القياس كان حمله عليه أولى من حمله على القلب بالتقديم والتأخير على خلاف القياس الذي هو الفرع. وأما "جائية" فلا نسلم أنها مقلوبة، وأن وزنه فاعله، وإنما هو على أصله، ووزنه فاعلة من جاءت فهي جائية، وأصلها جايئة مثل جايعة، فأبدلوا من الياء همزة فصار جائئة مثل جاععة، فأبدلوا من الهمزة الثانية ياء لانكسار ما قبلها. وأما الخليل فإنما قدر فيه القلب لئلا يجمع في بين إغعلالين؛ لأنه إذا قدم اللام التي هي الهمزة إلى موضع العين التي هي الياء وأخر العين التي هي الياء إلى موضع اللام التي هي الهمزة لم يجب قلب الياء همزة فلا يكون فيه الأإعلال واحد، وإذا أتي بالكلمة على أصلها من غير قلب جمع فيه بين إعلالين، وهما: قلب العين التي هي ياء همزة، وقلب اللام التي هي همزة ياء، وهذا التقدير غير كاف في تقدير القلب؛ لأن الهمزة حرف صحيح؛ فإعلالها لا يعتد به. والذي يدل على ذلك أن الهمزة تصح حيث لا يصح حرف العلة، ألا ترى أن حرف العلة إذا تحرك وانفتح ما قبلها وجب إعلاله نحو عصو ورحي، والهمزة إذا تحركت وانفتح ما قبلها لا يجب إعلالها نحو كلأ ورشأ، وإذا كانت الهمزة كذلك كان قلبها بمنزلة إبدال الحروف الصحيحة ب عضها من بعض كقولهم في أصيلان "أصيلال" فلا يعتد به، وإنما يعتد بإعلال حرف العلة؛ لأنه1 الأصل في الإعلال، وإذا كان قلب الهمزة غير معتد به لم يكن ههنا إجراؤه على الأصل يؤدي إلى الجمع بين إعلالين. وأما قولهم "إنما جمعت على ترك الهمة" قلنا: هذا باطل؛ لأن ترك الهمزة خلاف الأصل، والأصل أن يجمع على الأصل، خصوصا مع أنه الأكثر في الاستعمال. وقولهم "إنه يكثر الهمزة فيها فصارت بمنزلة فعيلة من ذوات الواو والياء وهي تجمع على فعالى" قلنا: لا نسلم، بل الأصل أن يقال في جمع فعيلة "فعائل" إلا أنه يجب قلب الياء همزة لوقوعها قيل الطرف بحرف؛ لأنهم يجرون ما

_ 1 في ر "إلا أنه الأصل" تحريف.

قبل الطرف بحرف من هذا النوع نمجرى الطرف في الإبدال، وهم يبدلون من الياء إذا وقعت طرفا وقبلها الف زائدة همزة، فعلى هذا يكون الأصل في جمع نحو حشية حشائي على فعائل على لفظ المضي إلى نفسه الحاء إذا مد، ثم أبدلوا من الكسرة فتحة، ومن الياء الفا فصار حشاءا، فاستثقلوا الهمزة بين الفين فقلبوا الهمزة ياء على ما بينا في خطايا، والله أعلم.

مسألة وزن "إنسان" وأصل اشتقاقه

117- مسألة: [وزن "إنسان" وأصل اشتقاقه] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "إنسان" وزنه إفعان، وذهب البصريون إلى أن وزنه فعلان، وإليه ذهب بعض الكوفيين. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن الأصل في إنسان إنسيان على إفعلان من النسيان، إلا أنه لما كثر في كلامهم وجرى على أسنتهم حذفوا منه الياء التي هي اللام لكثرته في استعمالهم، والحذف لكثرة الاستعمال كثير في كلامهم، كقولهم "إيش" ي أي شيء، و"عم صباحا" في أنعم صباحا، ""ويلمه" في ويل أمه، قال الهذلي: [496] ويلمة رجلا تأبي به غبنا ... إذا تجرد، لا خال، ولا بخل

_ [496] هذا هو البيت الخامس من قصيدة للمنتخل الهذلي "ديوان الهذليين 2/ 33-37" ومطلعها قوله: ما بال عينك تبكي دمعها خضل ... كما نهي سرب الأخرات منبزل؟ السرب بفتح السين وكسر الراء السائل، يكون ثمه وهي فينسرب الماء منه، والأخرات: مع خرت بفتح فسكون وآخره تاء وهو المثقب، ويروى "الأخراب" بياء موحدة وهو جمع خربة، وهي العروة، وويل أمه رجلا: كلمة يتعجب بها، ولا يراد بها الدعاء، والخال: المخيلة، أي الخيلاء، والبخل بفتح الباء والخاء هنا مثل البخل بضم فسكون. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "ويلمه" فإن أصل هذه الكلمة "ويل أمه" بهمزة قطع من أصول والكلمة، والأصل أن تتوفر حروف الكلمة بحيث لا يحذف شيء الألعلة تقتضي هذا الحذف، لكنهم لما كثر استعمالهم لهذه الكلمة وترددت على أسنتهم كثيرا التمسوا فيها التخفيف فحذفوا الهمزة بقصد التخفيف فيما يكثر استعماله، وهذا خلاف الأصل والقياس الذي أشرنا إليه. ولذلك لا يجوز أن نقيس على هذه العبارة عبارة أخرى مماثلة لها مثل "ويل أبيه" أو "ويل أخته" لأن من شان الخارج عن القياس أن يقتصر عليه ولا يقاس عليه غيره.

وقال الآخر: [497] ويلمه مسعر حرب إذا ... ألقي فيها وعليه الشليل

_ = والخطبب التبريزي يرى أن اصل "ويلمه" ويل لأمه فالمصدر مبتدأ، والجار والمجرور بعده خبر، وقد حذف شيئان: اللام من ويل، والهمزة من أم، قال: "لفظه ويل إذا أضيفت بغير اللا م فالوجه فيها النصب، فتقول "ويل زيد" والمعنى الزم الله زيدا الويل، فإذا أضيفت باللا م فقيل" ويل لزيد" فحكمه أن يرفع فيصير ما بعده جملة ابتدئ بها، وهي نكرة، لأن معنى الدعاء منه مفهوم، والمعنى الويل ثا بت لزيد، كأنه عدة محصلا، كما يقال: رحمة الله زيدا، فتجعل رحمة الله خبرا، وإذا كا ن حكم ويل هذا وقد ارتفع في قوله: ويلم لذات الشباب فحذف من أم الهمزة، واللام من ويل، وقد القى حركة الهمزة على اللام الجارة فصار ويلم بضم اللام وقد قيل: ويلم بكسر اللام كما قيل، الحمد لله، والحمد لله الأولى بضم الدال وضم اللام إتباعا لها، والثانية بكسر الدال إتباعا لكسرة لام الجر بعدها - وقصده المدح الشباب وحمد لذاته، وانتصب معيشة على التمييز" ا. هـ، وهو يتحدث عن بيت الحما سة الذي سنأثره لك مع شرح الشا هد الآتي 497. [497] أصل المسعر بزنة المنبر والمسعار: ما أججت به النار، أو ماتحرك به النار من حديد أو خشب، وقالوا: فلا ن مسعر حرب، إذا كان يؤرثها، وفي حديث أبي بصير "ويلمه مسعر حرب لو كان له أصحا ب" يصفه بالمبالغة في الحرب والنجدة، ومنه حديث خيفان"وأما هذا الحي من همدان فأنجاد بسل، مسا عير غير عزل" والشليل بفتح الشين الغلالة التي تلبس فوق الدرع، وقبل: هي الدرع الصغيرة القصيرة تكون تحت الكبيرة، وقيل: ما يجعل تحت الدرع من ثوب أو غيره، وقيل: هي الدرع ما كا نت، وجمعها أشلة، قال أوس بن حجر: وجئنا بها شهباء ذات أشلة ... لها عا رض فيه المنية تلمع وقد اشتقوا من الشليل فعلا فقالوا: شل الدرع يشلها من مثال مد الحبل يمده إذا لبسها. ومحل الأستشها د من هذا البيت قوله "ويلمه" والكلا م فيه كالكلا م في نظيره من البيت السابق. ومثل هذا البيت والذي قبله قول ذي الرمة، وهو من شوا هد الرضي في با ب التمييز: ويلمها روه والريح معصفة ... والغيث مرتجز، والليل مقترب ومثل ذلك قول علقمة بن عبدة، وهو من شعر الحما سة "التبريزي 3/ 186 بتحقيقنا" ومن شوا هد الرضي في با ب التمييز: ويلم أيام الشباب معيشة ... مع الكثر يعطا هـ الفتي المتلف الندي ومثل ذلك قول امرئ القيس يصف عقا با، وهو من شوا هد سيبويه "1/ 353":. ويلمها في هواء الجو طالبة ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب ومثل ذلك قول الهذلي، وأنشده في اللسا ن "ب ز ز" وفي الأسا س "ع ر ز": فويل بزجر شعل على الحصى ... ووقر بز ما هنالك ضا ئع البز: السلا ح، وشعل: لقب تأبط شرا، ووقر: صدع وفلل.

والذي يدل على أن "إنسان" مأخوذ من النسيان أنهم قالوا في تصغيره "أُنَيْسِيَان" فردوا الياء في حال التصغير؛ لأن الاسم لا يكثر استعماله مصغرا كثرة استعماله مكبرا، والتصغير يرد الأشياء إلى أصولها، فدل على ما قلناه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن وزنه فِعْلَان لأن "إنسان" مأخوذة من الإنس، وسمي الإنسان إنسا لظهورهم، كما سمي الجن جنا لاجتنانهم أي استتارهم، ويقال "آنست الشيء" إذا أبصرته، قال الله تعالى: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارَا} [القصص: 29] أي: أبصر، وكما أن الهمزة في الإنس أصلية ولا ألف ونون فيه موجودتان؛ فكذلك الهمزة أصلية في إنسان، ويجوز أن يكون سمي الإنس إنسا لأن هذا الجنس يستأنس به ويوجد فيه من الأنس وعدم الاستيحاش ما لا يوجد في غيره من سائر الحيوا ن، وعلى كلا الوجهين فالألف والنون فيه زائدتان؛ فلهذا قلنا إن وزنه فِعْلَان. وأما الجواب عن كلما ت الكوفيين: أما قولهم "إن الأصل في إنسا ن إنسيان، إلا أنهم لما كثر في كلامهم حذفوا منه الياء لكثرة الاستعمال، كقولهم أيش في أي شيء وعم صباحا في أنعم صباحا وويلمه في ويل أمه" قلنا: هذا باطل؛ لأنه لو كان الأمر كما زعمتم لكان يجوز أن يؤتى به على الأصل، كما يجوز أن تقول: أي شيء، وانْعَمْ صباحا، وويل أمه على الأصل؛ فلما لم يأت ذلك في شيء من كلامهم في حالة اختيار ولا ضرورة دل على بطلان ما ذهبتم إليه. وأما قولهم "إنهم قالوا في تصغيره أنيسيان" قلنا: إنما زيدت هذه الياء في أنيسيان على خلاف القياس، كما زيدت في قولهم "لييلية" في تصغير ليلة، و"عشيشية" تصغير عشية، وكقولهم على خلا ف القيا س "مغيربان" في تصغير مغرب، و"رويجل" في تصغير رجل، إلى غير ذلك مما جاء على خلا ف القياس؛ فلا يكون فيه حجة، والله أعلم.

مسألة وزن أشياء

118- مسألة: [وزن أشياء] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "أشياء" وزنه أَفْعَاء، والأصل أفعلاء، وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش من البصريين. وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنه أفعال. وذهب البصريون إلى أن وزنه لفعاء، والأصل فعلاء. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن وزنه أفعاء لأنه جمع شيء على الأصل. وأصل شيء شيّئ مثل شيّع؛ فقالوا في جمعه أشيئاء على أفعلاء، كما قالوا في جمع لين: أليناء؛ إلا أنهم حذفوا الهمزة التي هي اللام طلبا للتخفيف، وذلك لأمرين؛ أحدهما تقارب الهمزتين، لأن الألف بينهما حرف خفي زائد ساكن؛ وهو من جنس الهمزة، والحرف الساكن حاجز غير حصين؛ فكأنه قد اجتمع فيه همزتان. وذلك مستثقل في كلامهم. وإذا كانوا قد قالوا في سوائية "سَوَاية" فحذفوا الهمزة مع انفرادها فلأن يحذفوا الهمزة ههنا مع تكراراها كان ذلك من طريق الأولى. والآخر: أن الكلمة جمع، والجمع يستثقل فيه ما لا يستثقل في المفرد، فحذفت منه الهمزة طلبا للتخفيف. والذي يدل على أنه يستثقل في الجمع ما لا يستثقل في المفرد أنهم ألزموا خطايا القلبَ، وأبدلوا في ذوائب من الهمزة الأولى2 واوا، كل ذلك استثقالهم في الجمع ما لا يستثقل في المفرد. وأما أبو الحسن الأخفش فذهب إلى أنه جمع شيء بالتخفيف، وجمع فعل على أفعلاء كما يجمعونه على فعلاء، فيقولون: سمح وسمحاء، وفعلاء نظير أفعلاء، فكما جاز أن يجيء جمع فعل على فعلاء جاز أن يجيء على أفعلاء لأنه نظيره

_ 1 انظر في هذه المسألة: شرح رضي الدين على الشافية "1/ 28-31 بتحقيقنا" ولسان العرب وصحاح الجوهري "ش ي أ". 2 أصل ذوائب "ذآئب" لأن مفرده "ذؤابة".

والذي يدل علي ذلك أنهم قالوا: طَبِيبٌ وأطِبَّاء، وحبيب وأحباء، والأصل فيه طُبَبَاء وحُبَبَاء، نحو: ظريف وظرفاء، وشريف وشرفاء، إلا أنه لما اجتمع فيه حرفان متحركان من جنس واحد واستثقلوا اجتماعهما فنقلوه عن فُعَلاء إلى أفْعِلاء، فصار أطبباء، فاجتمع فيه أيضا حرفان متحركان من جنس واحد، فنقلوا حركة الحرف الأول إلى الساكن قبله فسكن فأدغموه في الحرف الذي بعده، فقالوا: أطِبَّاء، فنقلوه من فُعَلَاء إلى أفْعِلاء، فدل على ما قلناه. وأما من ذهب إلى أن وزنه أفعال فتمسك بأن قال: إنما قلنا أن وزنه أفعال لأنه جمع شيء، وشيء على وزن فعل، وفعل يجمع في المعتل العين على أفعال، نحو: بيت وأبيات وسيف وأسياف، وإنما يمتنع ذلك في الصحيح، على أنهم قد قالوا فيه: زنْد وأزناد، وفَرْخ وأفراخ، وأنف وآناف، وهو قليل شاذ، وأما في المعتل فلا خلاف في مجيئه على أفعال مجيئا مطردا؛ فدل على أنه أفعال؛ إلا أنه منع من الإجراء تشبيها له بما في آخره همزة التأنيث. والذي يدل على أن أشياء جمع وليس بمفرد كطرفاء قولهم: ثلاثة أشياء. والثلاثة وما بعدها من العدد إلى العشرة يضاف إلى الجمع لا إلى المفرد. ألا ترى أنه لو قيل "ثلاثة ثوب وعشرة درهم" لم يجز، فلما جاز ههنا أن يقال "ثلاثة أشياء، وعشرة أشياء" دل على أنها ليست اسما مفردا وأنه جمع. والذي يدل على ذلك أيضا تذكيرهم ثلاثة وعشرة في قولهم: "ثلاثة أشياء، وعشرة أشياء" ولو كانت كَطَرْفاء مؤنثة لما جاز التذكير فيقال "ثلاثة أشياء" وكان يجب أن يقال: ثلاث أشياء؛ كما كنت تقول مثلا: ثلاث غرفة؛ لو جاز أن يقع فيه الواحد موقع الجمع، وفي امتناع ذلك دليل على أنه جمع وليس باسم مفرد. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن أشياء على وزن لفعاء لأن الأصل فيه شَيْئَاء بهمزتين على فعلاء كطرفاء، وحَلْفاء، فاستثقلوا اجتماع همزتين وليس بينهما حاجز قوي؛ لأن الألف حرف زائد خفي ساكن والحرف الساكن حاجز غير حصين؛ فقدموا الهمزة التي هي اللام على الفاء؛ كما غيروا بالقلب في قولهم: قِسِيّ في جمع قوس، والأصل أن يقال في جمعها: قُوُوس؛ إلا أنهم قلبوا كراهية لاجتماع الواوين والضمتين؛ فصار قسوو؛ فأبدلوا من الضمة كسرة1؛ لأنهم ليس في كلامهم اسم متمكن في آخره واو قبلها ضمة؛ فانقلبت الواو الثانية

_ 1 في هذا الكلام تكلف، والواو المتطرفة تقلب ياء بغير هذا التكلف وكيف تبقى الواو الأولى مدة بعد انكسار ما قبلها؟ لقد كانت أولى أن تقلب ياء.

التي هي لام ياء؛ لانكسار ما قبلها؛ لأن الواو الأولى مدة زائدة فلم يعتد بها كما لم يعتد بالألف في كِسَاء ورداء لأنها لما كانت زائدة صار حرف العلة الذي هو اللام في كساء ورداء كأنه قد ولي الفتحة كما وليته في عَصًى ورَحًى؛ فكما وجب قلبه في عصًى ورحًى ألفا لتحركه وانفتاح ما قبله، فكذلك يجب قلب الواو الثانية ههنا ياء لانكسار ما قبلها؛ فصار: قُسُويٌ، وإذا انقلبت الواو الثانية وجب أن تقلب الواو التي قبلها ياء لوقوعها ساكنة قبل الياء؛ لأن الواو والياء متى اجتمعتا والسابق منهما ساكن وجب قلب الواو ياء، وجُعِلت ياء مشددة فصار قُسِيّ، وكسروا أوله لما بعده من الكسرة والياء، فقالوا قِسِيّ كما قالوا عِصِيّ وحِقِيّ، وما أشبه ذلك، وكما غيروا أيضا بالقلب في ذوائب وبالحذف في سَوَاية، وبَلْ أَوْلى؛ لأنهم إذا أزالوا التقارب في ذوائب وأصله ذأائب بأن قلبوا الهمزة واوا فقالوا ذوائب، وحذفوها من سوائية فقالوا سَوَاية؛ فلأن يزيلوا التقارب بأن يقدموا الهمزة إلى أول الكلمة مع بقائها كان ذلك من طريق الأولى، وإذا كانوا قد قلبوا من غير أن يكون فيه خفة فقالوا "أَيِسَ" في يئس، و"بئر مَعِيقة" في عميقة، و"عُقابٌ عَبَنْقَة وبَعَنْقَاة" في عقنباة، و"ما أيطبه" في ما أطيبه، وما أشبه ذلك، مما لا يؤدي إلى التخفيف، فكيف فيما يؤدي إليه؟ فلهذا قلنا وزنها لفعاء. والذي يدل على أنه اسم مفرد أنهم جمعوه على فعالى فقالوا في جمعه "أشاوى" كما قالوا في جمع صحراء "صحارى" والأصل في صحارى صحاريّ بالتشديد، كما قال الشاعر: [498] لقد أغدو على أشـ ... ـر يغتال الصحاريا

_ [498] ينسب هذا البيت للوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، وقد راجعت ديوانه فوجدته فيه "ص56" بيتا مفردا، وهذا البيت من شواهد رضي الدين في باب التأنيث من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 324" وشواهد الرضي أيضا في شرح الشافية "1/ 194 بتحقيقنا" وشرحه البغدادي مرة أخرى "ص95 بتحقيقنا" وشواهد ابن جني في سر الصناعة "1/ 97" وأغدو: أذهب -أو أخرج، أو أسير- في وقت الغدوة، والغدوة -بضم فسكون- الوقت ما بين الصبح وطلوع الشمس، والأشقر: الذي لونه الشقرة وهي في الخيل الحمرة الصافية، وفي الإنسان حمرة يعلوها بياض، وعنى هنا بالأشقر فرسا، ويغتال: أصل معناه يهلك، واستعاره هنا لمعنى يقطع المسافة الطويلة في سرعة فائقة، والصحارى: جمع صحراء، وهي الأرض الواسعة. ومحل الاستشهاد من هذا البيت هنا قوله "الصحاريا" بتشديد الياء وهذا هو الأصل في جمع هذه الكلمة وما أشبهها، وبيان ذلك أن في صحراء وبيداء وبطحاء وأسماء ألف مدّ قبل آخرها كألف قرطاس ومصباح، وآخرها همزة منقلبة عن ألف التأنيث، فإذا أرادوا جمع هذه الكلمات على صيغة منتهى

فالياء الأولى منقلبة عن الألف الأولى التي كانت في المفرد؛ لأنها سكنت وانكسر ما قبلها، والياء الثانية منقلبة عن ألف التأنيث التي قلبت همزة في المفرد لاجتماع ألفين، فلما زال هذا الوصف زالت الهمزة لزوال سببها، فكانت الثانية منقلبة عن ألف في نحو حُبْلى، لا منقلبة عن همزة، ثم حذفت الياء الأولى طلبا للتخفيف؛ فصار صَحَاِري مثل مَدَارِي، ثم أبدلوا من الكسرة فتحة؛ فانقلبت الياء إلفا لتحركها وانفتاح ما قبلها كما فعلوا في مدارى فصارت صحارى، وكذلك "أشاوي" أصلها أشاييُّ بثلاث ياءات الأولى عين الفعل المتأخرة إلى موضع اللام، والأخريان كالياءين في صحاريّ، ثم فعل به ما فعل بصحاري فصار أشايا، وأبدلوا من الياء التي هي عين واوا فصار أشاوى، كما أبدلوا من الياء واوا في قولهم: "جَبَيتُ الخراجَ جِبَاوَة، وأتيته أتْوَة" والأصل فيه جباية وأتْيَة، وليس في إبدال الواو خروج عن الحكمة؛ فإنهم إذا كانوا يبدلون الحروف الصحيحة بعضها عن بعض نحو أصيلال في أصيلان، وإن لم يكن هناك استثقال فلأن يبدلوا الياء واوا لأجل المقاربة وإن لم يكن ما يوجب قلبها مثل أن تكون ساكنة مضموما ما قبلها نحو

_ الجموع قلبوا ألف المد التي قبل آخرها ياء كما قلبوا ألف مصباح وقرطاس فقالوا: مصابيح وقراطيس فإذا انقلبت هذه الألف ياء تبعها أن تنقلب ألف التأنيث التي هي الهمزة ياء أيضا، فتصير صحاري وبيادي وبطاحي وأسامي -بياءات مشددة في أواخرها- ومع أن هذا هو الأصل وما تقتضيه صناعة التصريف الجارية على مقتضى كلام العرب لم يستعمله العرب في كلامهم استثقالا له، بل جرت عادتهم أن يحذفوا إحدى الياءين، ثم لهم بعد حذف إحدى الياءين طريقان؛ أولهما أن يبقوا كسرة الحرف الذي بعد ألف التكسير على حالها فتبقي الياء على حالها ويعاملونها معاملة ياء المنقوص، وثانيهما أن يقلبوا كسرة الحرف الواقع بعد ألف التكسير فتحة، وحينئذ تنقلب الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وبكل واحد من هذين الوجهين جرى استعمالهم، فقال امرؤ القيس بن حجر الكندي في معلقته: ويوم عقرت للعذارى مطيتي ... فياعجبا من كورها المتحمل فظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدمقس المفتل فجاء به بفتح ما قبل الياء، وقال النابغة الذبياني: لجب يظل به الفضاء معضلا ... يدع الإكام كأنهن صحارى فجاء به بكسر ما قبل الياء. والتخفيف بحذف إحدى الياءين فصيح في الاستعمال وإن لم يكن هو القياس، وإثبات الياءين هو القياس، وربما رد بعض الشعراء الكلمة إلى القياس عند الضرورة فيكون قد رجع إلى الأصل المهجور كما في بيت الشاهد، وكما في قول الآخر: إذا حاشت حواليه ترامت ... ومدته البطاحي الرغاب جمع بطحاء على القياس؛ فجاء بالياء المشددة في آخره.

مُوسر ومُوقن كان ذلك من طريق الأولى، فلما جمع على فَعَالَى فقيل أَشَاوَى دل على ما قلناه. والذي يدل على ذلك أيضا أنهم قالوا في جمعه أيضا "أشْيَاوَات" كما قالوا في جمع فعلاء فعلاوات، نحو صحراء وصحراوات، وما أشبه ذلك، فدل على أنه اسم مفرد معناه الجمع، وليس بجمع على ما بيّنا. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنه في الأصل على أفعلاء لأنه جمع شيء على الأصل كقولهم لَيّن وأليناء" قلنا: قولكم: إن أصل شيء شَيِّئ مجرد دعوى لا يقوم عليها دليل، ثم لو كان كما زعمتم لكان يجيء ذلك في شيء من كلامهم؛ ألا ترى أن نحو سيْد وهيْن وميْت لما كان مخففا من سيّد وهيّن وميّت جاء فيه التشديد على الأصل مجيئا شائعا، فلما لم يجئ ههنا على الأصل في شيء من كلامهم -لا في حالة الاختيار، ولافي حالة الضرورة- دل على أن ما صرتم إليه مجرد دعوى. وقولهم: "إن أشياء في الأصل على أفْعِلاء" قلنا: هذا باطل؛ لأنه لو كان كما زعمتم لكان ينبغي أن لا يجوز جمعه على فَعَالَى؛ لأنه ليس في كلام العرب أفْعِلَاء جمع على فعالى، فلما جاز ههنا دل على بطلان ما ذهبتم إليه. وهذا هو الجواب عن قول الأخفش "إنه جمع شيء بالتخفيف وإنهم جمعوه على أفْعِلاء كما جمعوه على فُعَلاء لأن نظيره نحو سَمْح وسُمَحَاء" فإن فَعْلا لا يكسر على أفْعِلاء، وإنما يكسر على فُعُول وفِعَال، نحو فلوس وكعاب. والذي يدل على أنه ليس بأفعلاء أنه قال1 في تصغيرها أشَيَّاء، وأفعلاء لا يجوز تصغيره على لفظه، وإنما كان ينبغي أن يُرَدَّ إلى الواحد ويجمع بالألف والتاء، فيقال "شُيَيْئَاتٌ" وإنما لم يجز تصغير أفْعِلاء على لفظه لأن أفعلاء من أبنية الكثرة، والتصغير علم القِلَّة، فلو صغرت مثالا موضوعا للكثرة لكنت قد جمعت بين ضدين، وذلك لا يجوز. وأما قول من ذهب إلى أنه جمع شَيْء وأنه جمع على أفعال كبَيْت وأبيات فظاهر البطلان؛ لأنه لو كان الأمر على ما زعم لوجب أن يكون منصرفا كأسماء وأبناء. وأما قوله: "إنما منع من الإجراء لشبه همزة التأنيث" قلنا: فكان يجب أن لا تُجْرَى نظائره نحو أسماء وأبناء وما كان من هذا النحو على وزن أفعال؛ لأنه لا

_ 1 كذا، ولعل الأوفق "أنهم قالوافي تصغيرها.... الخ".

فرق بين الهمزة في آخر أشياء وبين الهمزة في آخر أسماء وأبناء. وأما قولهم: "الدليل على أن أشياء جمع وليس بمفرد قولهم: ثلاثة أشياء، والثلاثة وما بعدها من العدد إلى العشرة يضاف إلى الجمع، لا إلى المفرد، فلا يقال: ثلاثة ثوب، ولا عشرة درهم" قلنا: إنما لا يضاف إلى ما كان مفردا لفظا ومعنى، وأما إذا كان مفردا لفظا ومجموعا معنى فإنه يجوز إضافتها إليه، ألا ترى أنه يجوز أن تقول: ثلاثة رَجْلَة -وإن كان مفردا لفظا- لأنه مجموع معنى، وكذلك قالوا: ثلاثة نَفَر، وثلاثة قَوْم، وتسعة رَهْطٍ، قال الله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ} [النمل: 48] وأضيف العدد إلى هذه الأسماء -وإن كانت مفردة لفظا- لأنها مجموعة معنى، فكذلك ههنا: أشياء مفردة لفظا، مجموعة معنى كطَرْفَاء، وحَلْفَاء، وقصباء؛ فجاز أن يضاف اسم العدد إليها. وأما قولهم: "إنها لو كانت كطَرْفَاء لما جاز تذكير ثلاثة1، فيقال ثلاثة أشياء، وكان يجب أن يقال: ثلاثة أشياء" قلنا: إنما جاز تذكير ثلاثة أشياء" -وإن كانت أشياء مؤنثة لوجود علامة التأنيث فيها- لأنها اسم لجمع شيء، فتنزلت منزلة أَفْعَال من حيث إنه جمع شيء في المعنى، لا لأنه مفرد أقيم مقام جمع بمنزلة درهم في قولهم: مائة درهم، ولو كان كذلك لوجب أن يقال "ثلاث أشياء" كما ذكرتم، وإذا كانت أشياء اسما لجمع شيء علمت أن أشياء في المعنى جمع شيء؛ فصارت إضافة العدد إليها بمنزلة إضافته إلى جمع ثوب وبيت في قولهم: "ثلاثة أثواب، وعشرة أبيات" وما أشبه ذلك، والله أعلم. قال أبو البركات كمال الدين الأنباري: فهذا منتهى ما أردنا أن نذكره في كتاب "الإنصاف، في مسائل الخلاف" واقتصرنا فيه على هذا القدر من القول مع تَشَعُّب أنحائه، لتوفر رغبة الطلبة في سرعة إنهائه، وكثرة الشواغل عن استقصائه، فالله تعالى يعصمنا فيه من الزلل، ويحفظنا فيه من الخطأ والخطل، ويوفقنا وإياكم لصالح القول والعمل بمنه ولطفه.

_ 1 المراد بتذكير ثلاثة الإتيان بلفظه كلفظ عدد المذكر، وتأنيثه: الإتيان بلفظه كلفظ عدد المؤنث، وأنت خبير أن لفظ ثلاثة يقرن بالتاء إذا كان معدوده مذكرا، ويجرد منها إن كان معدوده مؤنثا.

زيادة ثلاث مسائل في بعض النسخ

زيادة ثلاث مسائل في بعض النسخ ... وُجِدَ في بعض النسخ زيادة ثلاث مسائِلَ ونحن نذكرها ههنا: 119- مسألة: [علام ينتصب خبر "كان" وثاني مفعولي "ظننت"؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن خبر "كان" والمفعول الثاني لـ "ظننت" نصب على الحال. وذهب البصريون إلى أن نصبهما نصب المفعول، لا على الحال. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن خبر "كان" نصب على الحال أن "كان" فعل غير واقع أي غير متعد والدليل على أنه غير واقع أن فعل الاثنين إذا كان واقعا فإنه يقع على الواحد والجمع نحو: ضَرَبَا رجلا، وضَرَبَا رجالا، ولا يجوز ذلك في "كان"، ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: كانا قائما، وكانا قياما، ويدل على ذلك أيضا أنك تَكْنِي عن الفعل الواقع نحو "ضَرَبْتُ زيدًا" فتقول: فَعَلْتُ بزيد، ولا تقول في كنت أخاك: فعلت بأخيك، وإذا لم يكن متعديا وجب أن يكون منصوبا نصب الحال، لا نصب المفعول؛ فإنا ما وجدنا فعلا ينصب مفعولا هو الفاعل في المعنى، إلا الحال، فكان حمله عليه أولى، ولأنه يحسن أن يقال فيه "كان زيد في حالة كذا" وكذلك يحسن أيضا في ظننت زيدا قائما "ظننت زيدا في حالة كذا" فدل على أنه نصب على الحال. قالوا: ولا يجوز أن يقال "إنه لو كان نصبًا على الحال لما جاز أن يقع معرفة في نحو: كان زيد أخاك، وظننت عمرا غلامك، والحال لا تكون معرفة" لأنا نقول: إنما جاز ذلك لأن "أخاك، وغلامك" وما أشبه ذلك قام مقام الحال كقولك: ضربت زيدا سَوْطًا، فإن "سوطا" ينتصب على المصدر وإن كان آلة لقيامه مقام المصدر الذي هو ضرب2،

_ 1 انظر في هذه المسألة: حاشية الصبان على الأشموني "1/ 218 بولاق" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 220 بولاق". 2 ر "الذي هو ضربه".

وكذلك ههنا. علي أنه قد جاءت الحال معرفة في قولهم: [499] [فـ] أَرْسَلَهَا العِرَاكَ [وَلَمْ يَذُدْهَا ... وَلَمْ يُشْفَقْ عَلَى نَغَصِ الدَّخَالِ] وطلبته جَهْدَك، وطَاقَتَك، ورجع عَوْده على بدئه، إلى غير ذلك فدل على صحة ما ذهبنا إليه. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنَّ نَصْبَهما نَصْبُ المفعول لا على الحال لأنهما يقعان1 ضميرا في نحو قولهم: "كُنَّاهُم، وإذا لم نكنهم فمن ذَا يَكُونُهُمُ؟ " قال الشاعر: [500] دَعِ الْخَمْرَ يَشْرَبُهَا الْغُوَاةُ فإِنَّنِي ... رَأَيْتُ أَخَاهَا مُغْنِيًا بِمَكَانِهَا

_ [499] هذا البيت من كلام لبيد بن ربيعة العامري، وهو من شواهد سيبويه "1/ 187" ورضي الدين في باب الحال من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 524" وابن يعيش في شرح المفصل "ص241" وابن عقيل "رقم 180" وشرحه العيني "3/ 219 بهامش الخزانة" والبيت في وصف حمار وحش وأتنه، وقال الأعلم: وصف إبلًا أوردها الماء مزدحمة. والعراك الازدحام، والنغص -بفتح النون والغين المعجمة جميعا- مصدر نغص -من باب فرح- تقول "نغص الرجل" إذا لم يتم شربه، والدخال -بكسر الدال المهملة- أن يدخل الرجل بعيره الذي شرب مرة مع الإبل التي لم تشرب من قبل ليشرب معها، وذلك إذا كان البعير كريما. ومحل الاستشهاد من هذا البيت هنا قوله "العراك" فإن هذه الكلمة حال من الضمير المنصوب في قوله "أرسلها" وهي معرفة، والأصل في الحال أن تكون نكرة، ومصدرا، والأصل في الحال أن تكون وصفا، وذلك لأن هذا المصر المعرف في تأويل وصف نكرة، فكأنه قال: فأرسلها معتركة. قال سيبويه "وهذا ما جاء منه في الألف واللام، وذلك قولك: أرسلها العراك، قال لبيد بن ربيعة: فأرسلها العراك ولم يذدها- البيت كأنه قال: اعتراكا، وليس كل المصادر في هذا الباب يدخله الألف واللام "ا. هـ، وقال الأعلم "الشاهد فيه نصب العراك وهو مصدر في موضع الحال، والحال لا يكون معرفة وجاز هذا لأنه مصدر، والفعل يعمل في المصدر معرفة ونكرة، فكأنه أظهر فعله ونصبه به ووضع ذلك الفعل موضع الحال فقال: أرسلها تعترك الاعتراك، ولو كان من أسماء الفاعل لم يجز ذلك فيه "يريد لم يجز تعريفه" نحو أرسلها المتركة" ا. هـ. [500] هذان البيتان ينسبان لأبي الأسود الدؤلي، وثانيهما من شواهد سيبويه "2/ 21" ورضي الدين في باب الضمير، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 426" وابن يعيش في شرح المفصل "ص427" والأشموني "رقم 51" وكان لأبي الأسود مولى يحمل تجارته إلى الأهواز، وكان هذا المولى إذا مضى بالتجارة تناول شيئا من الشراب فاضطرب أمره وفسد

فإِنْ لَا يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإِنَّهُ ... أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا أراد بقوله: "أخاها" الزبيب، وجعله أخا الخمر لأنهما من شجرة واحدة. وقال الآخر: [501] تنفك تسمع ما حييت ... بهالك حتى تكونه

_ أمر التجارة، فقال أبو الأسود فيه هذين البيتين، وقوله "فإلا يكنها" أي فإلا يكن أخو الخمر هو الخمر، وقوله "أو تكنه" أي أو تكن الخمر هي أخاها، فاسم "يكن" الأولى ضمير مستتر يعود على الأخ، والضمير البارز المتصل هو خبر يكن، وهو عائد إلى الخمر، واسم "تكن" الثانية ضمير مستتر عائد إلى الخمر، والضمير البارز المنصوب العائد إلى الأخ هو خبرها، ومحل الاستشهاد من هذا الشاهد ههنا قوله "يكنها أو تكنه" حيث جاء بخبر تكن ضميرا متصلا، وأصل القياس أن يكون خبرها ضميرا منفصلا، كما في قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي، وهو من شواهد الرضي وابن يعيش: لئن كان إياه لقد حال بعدنا ... عن العهد والإنسان قد يتغير وكما في قول العرجي في خبر ليس، وهو من شواهد سيبويه: ليت هذا الليل شهر ... لا نرى فيه عريبا ليس إياي وإيا ... ك ولا نخشى رقيبا ولو أن أبا الأسود قد جاء بالكلام على ما يقتضيه القياس لقال: فإلا يكن إيّاها أو تكن إياه فإنه أخوها، قال سيبويه "وتقول: كناهم، كما تقول: ضربناهم، وتقول: إذا لم نكنهم فمن ذا يكونهم؟ كما تقول: إذا لم نضربهم فمن ذا يضربهم؟ قال أبو الأسود الدؤلي: فإن لا يكنها أو تكنه فإنه أخوها ... البيت. ا. هـ كلامه. وقال الأعلم "أراد سيبويه كان لتصرفها تجري مجرى الأفعال الحقيقية في عملها، فيتصل بها ضمير خبرها اتصال ضمير المفعول بالفعل الحقيقي في نحو ضربته وضربني وما أشبهه" ا. هـ. ومن مجيء خبر ليس ضميرا متصلا قول رؤبة بن العجاج، وهو أيضا من شواهد الرضي وابن يعيش: عهدي بقومي كعديد الطيس ... إذ ذهب القوم الكرام ليسي وليس كما تعلم فعل ليس متصرفا، بل هو فعل جامد، ومن النحاة من يذهب إلى أنه حرف. [501] ذا البيت من كلام خليفة بن براز، وهو شاعر جاهلي، وبعده قوله: والمرء قد يرجو الحيا ... ة مؤملا والموت دونه والبيت من شواهد الرضي في باب الأفعال الناقصة، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 47" وابن يعيش في شرح المفصل "ص1011" وابن الناظم في باب كان وأخواتها من شرح الألفية، وشرحه العيني "2/ 75 بهامش الخزانة" والنحاة يستشهدون بهذا البيت في عدة

وكذلك قالوا أيضا "ظَنَنْتُهُ إياه"1 والضمائر لا تقع أحوالا بحال؛ فعدِمَ شروط الحال فيهما؛ فوجب أن ينتصبا نصب المفعول، لا على الحال. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إن الفعل إذا كان واقعا فإن فعل الاثنين يقع منه على الواحد والجمع، نحو: ضربا رجلا، وضربا رجالا ولا يجوز ذلك في كان؛ فإنه لا يقال كانا قائما وكانا قياما" فنقول: إنما لم يجز في "كان" كما جاز في ضرب؛ لأن المفعول في "كان" هو الفاعل في المعنى، ولا يكون الاثنان واحدا ولا جماعة، وإنما كان المفعول في "كان" هو الفاعل في المعنى؛ لأنها تدخل على المبتدأ والخبر فيصير المبتدأ [بمنزلة الفاعل، والخبر] 2 بمنزلة المفعول، وكما يجب أن يكون الخبر هو المبتدأ في المعنى نحو "زيد

_ مواضع، أولها في قوله "تكونه" حيث جاء بخبر كان ضميرا متصلا وهو الذي من أجله جاء المؤلف بهذا البيت هنا، وقد بينا ذلك في شرح الشاهد السابق والثاني في قوله "تنفكّ" ولهم في هذه الكلمة شاهدان: أحدهما أن الشاعر قد استعمل الفعل المضارع من انفك، ولما لم يحفظ النحاة من هذا الفعل غير الماضي والمضارع حكموا بأنه فعل متصرف تصرفا ناقصا، ومن مجيء المضارع قول الشاعر: ليس ينفك ذا غنى واعتزاز ... كل ذي عفة مقل قنوع وقول ذي الرمة: قلائص لا تنفك إلا مناخة ... على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا والشاهد الثاني من هذه الكلمة أنها جاءت في هذا البيت غير مسبوقة بالنفي أو ما يضاهيه، وذلك شاذ، والقياس ذكر نفي أو نهي قبل زال وبرح وفتئ وانفك. ومثل هذا البيت في الإتيان بواحد من هذه الأفعال من غير أن يسبقه نفي أو نهي قول خداش بن زهير: وأبرح ما أدام الله قومي ... بحمد الله منتطقا مجيدا وهم يغتفرون أن يسقط الشاعر حرف النفي إذا كان الفعل مسبوقا بالقسم كقول امرئ القيس: فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي وقول عبيد الله بن قيس الرقيات "د 189": والله أبرح في مقدمة ... أهدي الجيوش على شكيته حتى أفجعهم بإخوتهم ... وأسوق نسوتهم بنسويته وقول الآخر: لعمر أبي دهماء زالت عزيزة ... على قومها ما فتل الزند قادح

قائم"؛ فكذلك يجب أن يكون المفعول في معنى الفاعل؛ فلهذا امتنع في "كان" ما جاز في "ضرب" لا لما ادعيتم، على أنا لا نقول إن كان بمنزلة ضرب، فإن ضرب فعل حقيقي يدل على حدث وزمان، والمرفوع [به] فاعل حقيقي، والمنصوب به مفعول حقيقي، وأما "كان" فليس فعلا حقيقيا؛ بل يدل على الزمان المجرد عن الحدث، ولهذا يسمى فعلَ العبارةِ، فالمرفوع به مشبه بالفاعل والمنصوب به مشبه بالمفعول؛ فلهذا سمي المرفوع اسما، والمنصوب خبرا، ولهذا المعنى من الفرق لما كان ضرب فعلا حقيقيا جاز إذا كني عنه -نحو "ضربت زيدا"- أن يقال: فعلت بزيد، ولما كانت "كان" فعلا غير حقيقي، بل في فعليتها خلاف؛ لم يجز إذا كني عنها نحو "كنت أخاك" أن يقال: فعلت بأخيك. وأما قولهم: "إنه يحسن أن يقال: كان زيد في حالة كذا، وكذلك يحسن أيضا في ظننت زيدا قائما: ظننت زيدا في حالة كذا؛ فدل على أن نصبهما نصب الحال" قلنا: هذا إنما يدل على الحال مع وجود شروط الحال بأسرها، ولم يوجد ذلك؛ لأنه من شروط الحال أن تأتي بعد تمام الكلام، ولم يوجد ذلك في "كان" الناقصة التي وقع فيها الخلاف دون التامة التي بمعنى وَقَعَ، ولم يوجد أيضا في المفعول الثاني لظننت التي بمعنى الظن أو العلم التي وقع فيها الخلاف، لا التي بمعنى التهمة، وكذلك من شروطها ألا تكون إلا نكرة، وكثيرا ما يقع خبر كان والمفعول الثاني لظننت معرفة، ولو كانا حالا لما جاز أن يقعا إلا نكرة؛ فلما جاز أن يقعا معرفة دل على أنهما ليسا بحال. قولهم: "إنما جاز ذلك لأن المعرفة أقيمت مقام الحال، كما أقيمت الآلة مقام المصدر في قولهم: ضربت زيدا سوطا" قلنا: الفرق بينهما ظاهر، وذلك أنه إنما حسن أن ينصب "سوطا" على المصدر؛ لأنه نكرة قام مقام نكرة، فأفاد فائدته، فحسن أن ينصب بما نصب به لقيامه مقامه، وأما ههنا فلا يحسن أن يقوم المعرفة مقام الحال؛ لأن الحال لا تكون إلا نكرة، وهو معرفة؛ فلا يفيد أحدهما ما يفيده الآخر؛ فلا يجوز أن يقام مقامه؛ فلا يجوز أن ينصب بما نصب به. وأما قولهم: "إن الحال قد جاء معرفة في قولهم: أرسلها العراك، وطلبته جهدك، ورجع عوده على بدئه" قلنا: هذه الألفاظ مع شذوذها وقلتها ليست أحوالا، وإنما هي مصادر دلت على أفعال في موضع الحال، فإذا قلت "أرسلها العراك" فالتقدير فيه: أرسلها تعترك العراك، على معنى تعترك الاعتراك، فأقاموا "العراك" مقام الاعتراك، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتا} [نوح: 17] ثم حذفوا "تعترك" وهو جملة في موضع الحال، وأقاموا المصدر دليلا

عليه، كما تقول: "إنما أنت سَيْرًا" أي تسير سيرا، وكذلك قولهم "طلبته جَهْدَك"، وطاقَتَك" كأنهم قالوا: طلبته تجتهد اجتهادك، ثم حذفوا "تجتهد" وهو جملة في موضع الحال، وأقاموا المصدر دليلا عليه، وهكذا التقدير في قولهم "رَجَعَ عودَه على بدئه"، وقد ذهب بعض النحويين إلى أن "عودة" منصوب برجع نصب المفعول لا نصب المصدر؛ لأن "رجع" يكون متعديا كما يكون لازما، قال الله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 83] فعدى رجع [إلى] الكاف؛ فدل على أنه يكون متعديا، والأكثرون على الأول، وإنما أقاموا هذه المصادر مُقَامَ الأفعال في هذه المواضع؛ لأن في ألفاظ المصادر دلالة على الأفعال، على أن هذه الألفاظ شاذة لا يقاس عليها؛ فكذلك كل ما جاء من المصادر والأسماء بالألف واللام في موضع الحال؛ فإنه شاذ نادر لا يقاس عليه، والله أعلم.

120- مسألة [القول في تقديم التمييز إذا كان العامل فعلا متصرفا] 1 اختلف الكوفيون في جواز تقديم التمييز إذا كان العامل فيه فعلا متصفا نحو "تصبب زيد عرقا، وتفقأ الكبش شحما": فذهب بضعهم إلى جوازه ووافقهم على ذلك أبو عثمان المازني وأبو العباس المبرد من البصريين. وذهب أكثر البصريين إلى أنه لا يجوز. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على جواز التقديم النقلُ والقياسُ. أما النقل فقد جاء ذلك في كلامهم، قال الشاعر: [502] أَتَهْجُرُ سَلْمَى بِالْفِرَاقِ حَبِيبَهَا ... وَمَا كَانَ نَفْسًا بِالْفِرَاقِ تَطِيبُ؟!

_ [502] قد اختلف الرواة في نسبة هذا البيت؛ فنسبه قوم إلى المخبل السعدي واسمه ربيع بن ربيعة بن مالك، ونسبه آخرون إلى أعشى همدان، واسمه عبد الرحمن بن عبد الله "انظر الصبح المنير ص312 فينا" ونسبه ابن سيده لقيس بن معاذ المعروف بمجنون ليلى. والبيت من شواهد الأشموني "رقم 514" وابن عقيل "رقم 194" وابن الناظم في باب التمييز من شرح الألفية، وشرحه العيني "3/ 235 بهامش الخزانة" وابن جني في الخصائص "2/ 384" ومحل الأستشهاد من هذا البيت بقوله "وما كان نفسا بالفراق تطيب" فإن اسم كان ضمير شأن محذوف وخبرها جملة تطيب، ونفسا: تمييز نسبة، والعامل فيه هو قوله تطيب، وقد تقدم التمييز على عامله، وهذا غير جائز في سعة الكلام عند البصريين، وقد أجازه الكوفيون واستدلوا بهذا البيت ونحوه مما سنرويه لك بعد على أنه جائز لأنه وارد في كلام العرب المحتج بكلامهم. قال ابن جني في الخصائص "ومما يقبح تقديمه الاسم المميز، وإن كان ناصبه فعلا متصرفا، فلا نجيز شحما تفقأت، ولا عرقا تصببت، فأما ما أنشده أبو عثمان وتلاه فيه أبو العباس من قول المخبل: أتهجر ليلى للفراق حبيبها ... البيت

وَجْهُ الدليل أنه نصب "نفسا" على التمييز، وقدمه على العامل فيه وهو "تطيب" لأن التقدير فيه: وما كان الشأنُ والحديثُ تطيب سلمى نفسا؛ فدل على جوازه. وأما القياس فلأن هذا العامل فعل متصرف؛ فجاز تقديم معموله عليه كسائر الأفعال المتصرفة، ألا ترى أن الفعل لما كان متصرفا -نحو قولك: "ضرب زيد عمرا"- جاز تقدم معموله عليه نحو "عمرا ضرب زيد" ولهذا ذهبتم إلى أنه يجوز تقديم الحال على العامل فيها إذا كان فعلا متصرفا نحو "راكبا جاء زيد". قالوا: ولا يجوز أن يقال: "تقديم الحال على العامل فيها لا يجوز عندكم ولا تقولون به، فكيف يجوز لكم الاستدلال بما لا يجوز عندكم ولا تقولون به؟ " لأنا نقول: كان القياس يقتضي أن يجوز تقديم الحال على العامل فيها إذا كان فعلا متصرفا، إلا أنه لم يجز لدليل دل عليه، وذلك لما يؤدي إليه من تقديم المضمر على المظهر على ما بينا في مسألة الحال، فبقينا فيما عداه على الأصل، وجاز لنا

_ فنقابله برواية الزجاجي وإسماعيل بن نصر وأبي إسحاق: وما كان نفسي بالفراق تطيب فرواية برواية، والقياس من بعد حاكم، وذلك أن المميز هو الفاعل في المعنى، ألا ترى أن أصل الكلام: تصبب عرقي، وتفقأ شحمي، ثم نقل الفعل فصار في اللفظ لي، فخرج الفاعل في الأصل مميزا، فكما لا يجوز تقديم الفاعل على الفعل فكذلك لا يجوز تقديم المميز إذا كان هو الفاعل في المعنى على الفعل" ا. هـ كلامه. ومما جاء فيه تقديم التمييز -سوى هذا البيت الذي وجدوا فيه رواية أخرى يتمسكون بها- قول ربيعة بن مقروم الضبي: رددت بمثل السيد نهد مقلص ... كميش إذا عطفاه ماء تحلبا وقول الآخر: إذا المرء عينا قر بالعيش مثريا ... ولم يعن بالإحسان كان مذمما وقول الآخر: ضيعت حزمي في إبعادي الأملا ... وما ارعويت وشيبا رأسي اشتعلا وقد اقتنع بهذه الشواهد أبو عثمان المازني وأبو العباس المبرّد والكسائي وأبو عمر الجرمي فذهبوا إلى جواز تقديم التمييز على عامله إذا كان هذا العامل فعلا متصرفا. والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم، وأعز وأكرم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اللهم إني أحمدك أحب الحمد إليك، وأطيب الحمد عندك، وأشكرك شكرا يوالي نعمك ويكافئ مزيدك، وأبتهل إليك أن تتقبل عملي، وتجعله لديك في سجل الحسنات، إنك سميع قريب مجيب الدعاء، يا رب العالمين، آمين.

أن نستدل به عليكم وإن كنا لا نقول به، لأنكم تقولون به؛ فصلح أن يكون إلزاما عليكم. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز تقديمه على العام فيه، وذلك لأنه هو الفاعل في المعنى، ألا ترى أنك إذا قلت "تصبب زيد عرقا، وتفقأ الكبش شحما" أن المتصبب هو العرق والمتفقئ هو الشحم، وكذلك لو قلت "حسن زيد غلاما، ودابة" لم يكن له حظ في الفعل من جهة المعنى، بل الفاعل في المعنى هو الغلام والدابة؛ فلما كان هو الفاعل في المعنى لم يجز تقديمه كما لو كان فاعلا لفظا. قالوا: ولا يلزم على كلامنا الحال حيث يجوز تقديمها على العامل فيها نحو "راكبا جاء زيدا" فإن راكبا فاعل في المعنى ومع هذا يجوز تقديمه؛ لأنا نقول: الفرق بينهما ظاهر، وذلك لأنك إذا قلت "جاء زيد راكبا" فزيد هو الفاعل لفظا ومعنى، وإذا استوفى الفعل فاعله من جهة اللفظ والمعنى صار "راكبا" بمنزلة المفعول المختص باستيفاء الفعل فاعله من كل وجه؛ فجاز تقديمه كالمفعول نحو "عمرا ضرب زيد" بخلاف التمييز؛ فإنك إذا قلت "تصبب زيد عرقا، وتفقأ الكبش شحما، وحسن زيد غلاما" لم يكن زيد هو الفاعل في المعنى، بل الفاعل في المعنى هو العرق والشحم [والغلام] ، فلم يكن عرقا وشحما وغلاما بمنزلة المفعول من هذا الوجه؛ لأن [353] الفعل استوفى فاعله لفظا لا معنى، فلم يجز تقديمه كما جاز تقديم الفاعل1، وكذلك قولهم: "امتلأ الإناء ماء" فإنه وإن لم يكن مثل "تصبب زيد عرقا" لأنه لا يمكن أن تقول "امتلأ ماء الإناء" كما يمكن أن تقول "تصبب عرق زيد" إلا أنه لما كان يملأ الإناء كان فاعلا على الحقيقة. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما ما استدلوا به من قول الشاعر: [503] أَتَهْجُرُ سَلْمَى بِالْفِرَاقِ حَبِيبَهَا ... وَمَا كَانَ نَفْسًا بِالْفِرَاقِ تَطِيبُ فإن الرواية الصحيحة: [502] وما كان نفسي بالفراق تطيب وذلك لا حجة فيه، ولئن سلمنا صحة ما رويتموه فنقول: نصب "نفسا" بفعل مقدر، كأنه قال أعني نفسا، لا على التمييز، ولو قدرنا ما ذكرتموه فإنما جاء في الشعر قليلا على طريق الشذوذ؛ فلا يكون فيه حجة. وأما قولهم: "إنه فعل متصرف فجاز تقديم معموله عليه كسائر الأفعال

_ 1 كذا، وهو خطأ وصوابه "كما جاز تقديم الحال".

المتصرفة إلى آخر ما قرروه" قلنا: الفرق بينهما ظاهر، وذلك لأن المنصوب في "ضَرَبَ زيد عمرا" منصوب لفظا ومعنى، وأما المنصوب في نحو "تصبب زيد عرقا" فإنه وإن لم يكن فاعلا لفظا فإنه فاعل معنى، فبان الفرق بينهما. وأما احتجاجهم بتقديم الحال على العامل فيها فلا حجة لهم فيه؛ لأنهم لا يقولون به، ولا يعتقدون صحته، فكيف يجوز أن يستدلوا على الخصم بما لا يعتقدون صحته؟ قولهم: "كان القياس يقتضي أن يجوز تقديم الحال على العامل فيها، إلا أنه لم يجز عندنا لدليل دل عليه، وهو ما يؤدي إليه من تقديم المضمر على المظهر" قلنا: وكذلك نقول ههنا: كان القياس يقتضي أنه يجوز تقديم التمييز على العامل فيه، إلا أنه لم يجز عندنا لدليل دل عليه، وهو أن التمييز في المعنى هو الفاعل، والفاعل لا يجوز تقديمه على الفعل على ما بَيَّنَّا، وإذا جاز لكم أن تتركوا جواز التقديم هناك لدليل جاز لنا أن نتركه ههنا لدليل، على أنَّا قد بَيَّنَّا فساد ما ذهبتم إليه وصحة ما ذهبنا إليه، والله أعلم.

121- مسألة: [القول في "رُبَّ" اسم هو أو حرف؟] 1 ذهب الكوفيون إلى أن "رب" اسم. وذهب البصريون إلى أنه حرف جر. أما الكوفيون فإنهم احتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه اسم حملا على "كم" لأن "كم" للعدد والتكثير، و"رب" للعدد والتقليل، فكما أن كم اسم فكذلك رب. والذي يدل على أن رب ليست بحرف جر أنها تخالف حروف الجر، وذلك في أربعة أشياء؛ أحدها: أنها لا تقع إلا في صدر الكلام، وحروف الجر لا تقع في صدر الكلام، وإنما تقع متوسطة؛ لأنها إنما دخلت رابطة بين الأسماء والأفعال. والثاني: أنها لا تعمل إلا في نكرة وحروف الجر تعمل في النكرة والمعرفة. والثالث: أنها لا تعمل إلا في نكرة موصوفة، وحروف الجر تعمل في نكرة موصوفة وغير موصوفة، والرابع: أنه لا يجوز عندكم إظهار الفعل الذي تتعلق به. وكونه على خلاف الحروف في هذه الأشياء دليل على أنه ليس بحرف. والذي يدل دلالة ظاهرة على أنه ليس بحرف أنه يدخله الحذف فيقال في رب "رب" قال الله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] قرئ بالتخفيف كما قرئ بالتشديد، وفيها أربع لغات: ُربَّ ورُبَ ورَبَّ ورَبَ -بضم الراء وتشديد الباء وتخفيفها، وفتح الراء وتشديد الباء وتخفيفها- فدل على أنها ليست بحرف. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنها حرف أنها لا يحسن فيها علامات الأسماء ولا علامات الأفعال، وأنها قد جاءت لمعنى في غيرها كالحرف، وهو تقليل ما دخلت عليه نحو "رب رجل يفهم" أي ذلك قليل. وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنما قلنا إنها اسم حملا

_ 1 انظر في هذه المسألة: أسرار العربية للمؤلف "ص104 وما بعدها" وشرح الرضي على الكافية "2/ 307" وخزانة الأدب للبغدادي "4/ 184 بولاق".

على كم؛ لأن كم للعدد والتكثير، ورب للعدد والتقليل "قلنا: لا نسلم أنها للعدد، وإنما هي للتقليل فقط، على أن "كم" إنما حكم بأنها اسم لأنه يحسن فيها علامات الأسماء، نحو حروف الجر، نحو: بكم رجل مررت، وما أشبه ذلك. وجواز الإخبار عنه، نحو: كم رجلا لحاك، وهذا غير موجود في "رب" فدل على الفرق بينهما. وأما قولهم: "إنها تخالف حروف الجر في أربعة أشياء: أحدها أنها لا تقع إلا في صدر الكلام: قلنا: إنما لا تقع إلا في صدر الكلام لأن معناها التقليل، وتقليل الشيء يقارب نفيه، فأشبهت حرف النفي، وحرف النفي له صدر الكلام. وقولهم في الثاني "إنها لا تعمل إلا في نكرة" قلنا: لأنها لما كان معناها التقليل والنكرة تدل على الكثرة وجب ألا تدخل إلا على النكرة التي تدل على الكثرة؛ ليصح فيها معنى التقليل. وقولهم في الثالث: "إنها لا تعمل إلا في نكرة موصوفة" قلنا: لأنهم جعلوا ذلك عوضًاعن حذف الفعل الذي تتعلق به، وقد يظهر ذلك الفعل في ضرورة الشعر. وقولهم في الرابع: "إنه لا يجوز إظهار الفعل الذي تعلق به "قلنا: فعلوا ذلك إيجازا واختصارا، ألا ترى أنك إذا قلت: رب رجل يعلم" كان التقدير فيه: رب رجل يعلم أدركت، أو لقيت؛ فحذف لدلالة الحال عليه، كما حذفت في قوله تعالى: {وَأدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [النمل: 12] إلى قوله تعالى: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل: 12] ولم يذكر مرسلا؛ لدلالة الحال عليه. والحذف على سبيل الوجوب والجواز لدلالة الحال عليه، والحذف على سبيل الوجوب والجواز لدلالة الحال كثير في كلامهم. وأما قولهم: "إنه يدخله الحذف، والحذف لا يدخل الحرف" قلنا: لا نسلم؛ فإنه قد جاء الحذف في الحرف؛ فإن "أن" المشددة يجوز تخفيفها، وهي حرف، وكذلك حكى أبو العباس أحمد بن يحيى من أصحابكم في "سوف" [سف أفعل، و1 سو أفعل] فحذفتم الواو والفاء، وإذا جاز عندكم حذف حرفين فكيف يجوز أن تمنعوا جواز حذف حرف واحد؟ والله أعلم. يقول المعتز بالله تعالى وحده، أبو رجاء محمد محيي الدين بن عبد المجيد: الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

_ 1 زيادة يقتضيها الكلام.

وبعد؛ فقد أتممت بحمد الله تعالى ومعونته مراجعة كتاب "الإنصاف، في مسائل الخلاف، بين النحويين الكوفيين والبصريين" الذي صَنَّفَه الإمام كمال الدين أبو البركات عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد الأنباري، النحوي، المولود في عام 513، والمتوفى في عام 577 من الهجرة، وهو كتاب فريد في بابه، لم ينشر للناطقين بالضاد كتاب آخر في موضوعه، وإن يكن لأسلافنا رضي الله عنهم في هذا الموضوع عدة مصنفات كلها حَريٌّ بالإخراج والذيوع. وقد يسر الله تعالى لي -بعد أكثر من خمسة عشر عاما من إخراجه لأول مرة، وبعد أن نشر الكتاب ثلاث مرات- أن أنجز بعض ما وعدت به قراء العربية أن أخرج لهم مع هذا الكتاب شرحا يبين غوامضه، ويجلي فرائده، ويَتَرَصَّد مسالكه ومَسَاربه، ويكون فَيْصَلًا على أحكامه: يقر صحيحها، وينقض ما جانب فيه الجادة، وقد تضخم بذلك حجم الكتاب فصار ضعف الأصل أو يزيد، وإن كان في الأجل بقية وفي القوس مَنْزَع عدت إليه فأضفت ونقحت وهذبت، والله سبحانه المسئول أن يتولانا بفضله، وينفحنا بتأييده وتوفيقه.

فهارس كتاب الإنصاف

فهارس كتاب الإنصاف ... فهارس كتب الإنصاف: فهرس الشواهد: حرف الهمزة رقم الشاهد الشاهد الصفحة 62 طلبوا صُلْحَنَا ولا تأَوَانٍ فأجبنا أن ليس حين بقاء 90 76........... رُجْمَ به الشيطان من هوائه 102 236 وبلد عامية أعماؤه كأنّ لون أرضه سماؤه 430 261 فتجمع أَيْمُنٌ منا ومنكم بمُقْسَمَةٍ تَمُورُ بها الدماء 334 374 فلا والله ما يُلْفَى لما بي ولا لِلِمَا بهم أبدا دَوَاء 465 384 قلت لشيبان: ادْنُ من لقائه كما تُغَدِّي القوم من شوائه 482 415 تذهل الشيخ عن بنيه، وتبدي عن خدام العَقِيلَةُ العَذْرَاء ُ 544 454 قد علمت أمّ أبي السَّعْلَاء وعلمت ذاك مع الجراء 614 أن نِعْمَ مأكولا على الْخَواء يا لك من تمر ومن شَيْشَاءِ يَنْشَبُ في المَسْعَل واللهَاءِ 456 سيغنيني الذي أغناك عني فلا فَقْرٌ يدوم ولا غناء 615 حرف الباء الموحدة 23 وكيف تُوَاصِل من أصبحت خَلَالَتُهُ كأبي مَرْحَبِ؟ 53 41 ولما أن تحمَّل آل ليلى سمعت ببينهم نعب الغرابا 73 43 وكُمْتًا مُدَمَّاة كأن متونها جرى فوقها واستشعرت لون مذهب 74 46 فمن يَكُ أمسى بالمدينة رحله فإني وقيَّار بها لغريب 78 55 ألا يا اسلمي يا تِرْبَ أسماء من ترب ألا يا اسلمي حُيِّيتِ عنّي وعن صحبي 84 58 وقالت: ألا يا اسمع نَعِظْكَ بخُطَّة فقلت: سمعيا فانطقي وأَصِيبي 85 64 والله ما ليلي بنَامَ صاحبُه ولا مخالِطِ اللّيَان جَانِبُهْ 92 73 فإن أَهْجُهُ يضجر كما ضجر بازل من الأُدْمِ دَبْرَتَ صَفْحَتَاهُ وغَارِبُهْ 101

رقم الشاهد الشاهد الصفحة 83 فَمَا قومي بثعلبة بن بكر ولا بفَزَارَة َالشُّعْرِ الرِّقَابَا 109 96 لما تَعَيَّا بالقَلُوص ورَحْلِهَا كَفَى الله كعبًا ما تعيّا به كَعْبُ 133 701 إن من لَامَ في بني بنت حسان أَلُمْهُ وأَعْصِهِ في الخُطُوبِ 147 116 أَجِدَّكَ لست الدهر رائي رامةٍ ولا عاقل إلا وأنت جَنيبُ 155 ولا مُصْعِدٍ في المصعدين لِمَنْعِج ولا هابط ما عشت هَضْبَ شَطِيبِ 156 117 مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا بِبَيْنٍ غُرَابُهَا 158 119 كأن وَرِيدَيْهِ رشاءا خُلْبِ 161 135 لك الخير علَّلْنَا بها، علَّ ساعة تَمُرُّ، وسهواء من الليل يذهب 178 157 بها كل خَوَّار إلى كُلِّ صَعْلَةٍ ضهول ورفض المذرعات القراهب 217 163 فما لي إلا آل أحمد شيعة وما لي إلا مَشْعَبَ الحق مشعب 223 170 ألم تعلمن يا رب أنْ ربّ دَعْوَةٍ دَعَوْتُكَ فيها مخلصا لو أُجَابُهَا 232 177 يمُرُّون بالدَّهْنَا خفافًا عيابُهُم ويخرجن من دَاِرين بُجْرَ الحَقَائِبِ 237 على حين ألهى الناس جل أمورهم فندلا زريق المال ندل الثعالب 238 180 وكل من ظن أن الموت مخطئة معلل بسواء الحق مكذوب 240 197 يا ليت أم العمرو كانت صاحبي مكان من أشتى على الركائب 258 202 وإني حبست اليوم والأمس قبله ببابك حتى كادت الشمس تغرب 261 206 فلست بذي نيرب في الصديق ومناع خير وسَبَّابَهَا 270 219 أبَا عُرْوَ لا تَبْعَدْ فكلُّ ابنِ حُرَّةِ سَيَدْعُوهُ دَاعِي مِيتَهٍ فَيُجِيبُ 285 227 أرِقُّ لأَرْحَامٍ أَرَاهَا قَرِيبَةً لحَارِ بنِ كَعْبٍ لا لَجَرْمِ وَرَاسِبِ 290 256 وما زُرْتُ سَلْمَى أن تكون حَبِيبَةً إِلَيَّ، ولا دَيْنٍ بها أنا طَالِبُه 326 277 كلانا يا يزيد يحب ليلى بِفِيَّ وفِيكَ مِنْ ليلى التُّرَاب 362 282 كلاهما حين جَدَّ الجَرْيُ بينهما قد أَقْلَعَا، وكلا أَنْفَيهِمَا رَابِي 365 284 لكنَّه شَاقَهُ أَنْ قيل ذا رَجَبٌ يا ليت عِدَّةَ حَوْلٍ كلِّهِ رَجَبُ 369 289 حتى إذ قَمِلَتْ بُطُونُكُمُ ورَأَيتُمُ أَبْنَاءَكُمْ شَبُّوا 375 وقَلَبْتًُمُ ظَهْرَ المِجَنِّ لَنَا إنّ اللَّئِيمَ العَاجِزُ الخَبُّ 376

رقم الشاهد الشاهد الصفحة 292 فاليوم قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وتَشْتِمُنَا فاذهب فما بك والأيامِ من عَجَبِ 380 319 وَمُصْعَبُ حِينَ جَدَّ الأَمْـ ـر أكثرُها وأطيبُها 409 331 أنا أبو دهبل وَهْبٌ لِوَهَبْ من جُمَحٍ، والعزُّ فيهم والحَسَبْ 416 333 فَبَيْنَاهُ يَشْرِي رَحْلَهُ قال قَائلٌ: لمن جَمَلٌ رِخْوُ المِلَاطِ نَجِيبُ 417 337 فما له من مجد تلِيدٍ، ومَالَهُ من الريح فضلٌ لا الجنوبُ ولا الصَّبَا 421 385 أنِخْ فاصْطَبِغْ قُرْصًا إذا اعتادك الهَوَى بِزَيْتٍ كما يَكْفِيكَ فَقْدَ الحَبَائِبِ 483 387 وإني امرؤ عن عصبة خِنْدِفِيّةِ أَبَتْ للأَعَادِي أنْ تَدِيخَ رِقَابُها 487 400 وللْخَيْلِ أَيَّامٌ؛ فَمَنْ يَصْطَبِرْ لهَا ويعرف لها أيَّامَهَا الخَيْرَ تُعْقِبِ 509 410 أَقِلِّي اللَّوْمَ عاذلَ والعتابَنْ وقولي: إنْ أَصَبْتُ لقد أَصَابَن 539 461 ولكنَّما أُهْدِي لِقَيْس هَدِيَّةً بِفِيَّ مِنِ اهداها لك الدَّهر إِثْلِبُ 620 469 فإن تَعْهَدِينِي وَلِي لِمَّةٌ فإنَّ الحَوَادِثَ أَوْدَى بِهَا 629 482 أرى رجلا منهم أسيفا كأنما يضُمُّ إلى كَشْحَيهِ كفًّا مُخَضَّبَا 638 491.............. باتَتَ تُكَرْكِرُهُ الجنوب 651 502 أَتَهْجُرُ سَلْمَى بالفِرَاقِ حبيبَهَا وما كان نفسًا بالفراقِ تَطِيبُ؟! 682 حرف التاء المثناة 19 رحم الله أَعْظُمًا دَفَنُوها بِسِجِسْتَان طَلْحَةَ الطّلَحَات 35 21 يرى أَرْبَاقَهُم مُتَقَلِّدِيهَا كما صَدِئَ الحديد على الكُمَاة 51 70 يا لعنَ الله بني السِّعْلَاتِ عمرو بن مَيْمُونٍ شِرَارِ النَّاتِ 97 136136 عل صروف الدهر أو دولاتها تدلنا اللمة من لماتها 178 191 كُلِّفَ من عَنَائِهِ وشِقْوَتِهْ بِنْتَ ثَمَانِي عَشْرَةٍ مِنْ حِجَّتِهْ 252 يا مُرَّ يا ابْنَ واقعٍ يا أَنْتَا أنت الذي طَلّقْتَ عامَ جُعْتَا 560 204 حتى إذا اصْطَبَحْتَ واغْتَبَقْتَا أقبلت معتادًا لما تَرَكْتَا قد أحسن الله وقد أَسَأْتَا 226 239 بَلْ جَوْزِ تَيْهَاءَ كَظَهْرِ الحَجَفَتْ [قطعتها إذا المها تجوفت] 313 244 فإنَّ المَاءَ ماءُ أبي وجَدِّي وبئري ذُو حفرت وذُو طَوَيْتُ 318

رقم الشاهد الشاهد الصفحة 245 فلو أنَّ الأَطِبَّا كانُ حَوْلِي وكان مع الأَطِبَّاءِ الشُّفَاةُ 443 إذا ما أذهبوا أَلَمًا بقلبي وإن قيل الشُّقَاةُ هُمُ الأسَاةُ 443 291 وقلت له: يا عَزَّ كُلّ مُلِمَّةٍ إذا وُطِّنَتْ يومًا لها النفسُ ذَلَّتِ 378 421 بِأَيْدِي رِجَالٍ لم يَشِيمُوا سُيُوفَهُمْ ولم تَكْثُرِ القَتْلَى بِهَا حين سُلّتِ 548 431 أخوك أخو مُكَاشَرَةٍ وضِحْكٍ حَيَّاكَ الإلهُ وكيف أَنْتَا 561 من يَكُ ذا بتٍّ فهذا بتِّي مُصَيِّفٌ مُقَيِّظٌ مُشَتِّي 596 447 تَخِذْتُهُ من نَعَجَاتٍ سِتِّ سُودٍ جِعَادٍ من نِعَاجِ الدّشْتِ 596 479 يا أيُّها الراكب المُزْجِي مَطِيَّتَهُ سائل بني أسدٍ: ما هذه الصَّوْتُ؟ 636 حرف الثاء المثلثة 305........ ...... ألا فَالبَثَا شَهْرَيْنِ أَوْ نِصْفَ ثَالِثِ 395 حرف الجيم 168 [نحن بني ضبة أصحاب الفلج] نضرب بالسيف ونرجو بالفَرَجْ 230 271 كَأَنَّ أصواتَ من إِيغَالِهِنَّ بنا أَوَاخِرَ المَيْسِ أَصْوَاتُ الفَرَارِيج 354 377 متى تأتنا تُلْمِمْ بنا في ديارنا تجد حطبًا جزلًا ونارًا تَأَجَّجَا 476 390 كأنَّمَا ضَرَبَتْ قُدَّامَ أعيُنِهَا قُطْنًا بِمُسْتَحْصِدِ الأوتار مَحْلُوجِ 495 436 [أَوْمَتْ بعينيها من الهَوْدَج] لولاك هذا العام لم أَحْجُج 569 حرف الحاء المهملة 9 وأنتِ من الغوائل حين تُرْمَى ومِنْ ذَمِّ الرجال بِمُنْتَزَاح 23 28 فتًى ما ابنُ الأغَرِّ إذا شَتَوْنَا وحبُّ الزَّاد في شَهْرَيْ قُمَاح 57 145 دأبت إلى أن ينبت الظل بعدما تقاصر حتى كاد في الآل يمصح وجيف المطايا، ثم قلت لصحبتي ولم ينزلوا: أبردتم فتروحوا 187 330 من صَدَّ عن نِيرَانِهَا أنا ابنُ قَيْسٍ لا بَرَاحُ 303 281 فكلتاهما قد خُطَّ لي في صَحِيفَةٍ فلا العيش أهواهُ ولا الموتُ أَرْوَحُ 364 301 بَدَتْ مثل قَرْنِ الشمس في رَوْنَقِ الضُّحَى وصُورَتِهَا أو أَنْتِ في العَيْنِ أَمْلَحُ 391

رقم الشاهد الشاهد الصفحة 365 وطِرْتُ بِمُنْصُلِي في يَعْمَلَاتِ دوامي الأيدِ يَخْبِطْنَ السَّرِيحَا 443 371 [ربع عفاة الدهر طولا فامحى] قد كاد من طول البِلَى أن يَمْصَحَا 460 394 ياليت بَعْلَكِ في الوَغَى متقلّدًا سيفًا ورُمْحًا 500 416 تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مُغْبَرٌّ قبيحُ 544 تغير كل ذي طعم ولون وقلَّ بشاشة الوجه المليح 545 468 إن السماحة والمُرُوءَةَ ضُمِّنَا قبرًا بمَرْوَ على الطريق الوَاضِحِ 628 حرف الخاء المعجمة 89 موانع للأسرار إلا لأهلها ويُخْلِفْنَ ما ظنَّ الغَيورُ المُشَفْشَفُ 120 ألا يا غرابَ البَيْنِ قد هِجْتَ لَوْعَةً فَوَيْحَكَ خَبِّرْنِي بما أنت تَصْرُخُ 207 أبالبَيْنِ من لُبْنَى؟ فإن كنت صَادِقًا فلا زال عظم من جناحك يفضخ 208 154 ولا زِلتَ من عَذْبِ المياه منفّرًا وَوَكْرُكَ مهدوم وبيضك مُشْدَخُ 208 ولا زال رامٍ قد أصابك سهمُهُ فلا أنت في أَمْن ولا أنت تُفْرِخ ُ 208 وأبصرتُ قبل الموت لحمك مُنْضَجًا على حَرِّ جَمْرِ النار يُشْوَى ويُطْبَخُ 208 231 واللهِ لولا أن تَحُسَّ الطُّبَّخُ بِي الجحيمَ حين لا مُسْتَصْرَخُ 304 حرف الدال المهملة 17 ألم يأتِيكَ والأنباء تَنْمِي بما لَاقَتْ لَبُونُ بني زِيَاد 26 27 بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وبَنَاتُنَا بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الأَبَاعِدِ 56 34 قالت أمامة لما جئتُ زائِرَها: هلَّا رمَيْتَ بِبَعْضِ الأَسْهُم السُّودِ 62 لا دَرَّ دَرُّكِ؛ إنِّي قد رميتُهُمُ لولا حُدِدْتُ ولا عُذْرَى لمَحْدُود 62 49 على مثلها أَمْضِي إذا قال صاحبي: ألا لَيْتَنِي أَفْدِيكَ منها وأَفْتَدِي 80 82 قدني من نصر الخبيبين قدي ليس الإمام بالشحيح الملحد 107 101 وقفت فيها أصيلانا أسائلها أعيت جوابا، وما بالربع من أحد 218 129 يلومونني في حب ليلى عواذلي ولكنني من حبها لكميد 169 156 شَدَخَتْ غُرَّةُ السَّوَابِقِ فيهم في وجوه إلى اللّمَام الجِعَاد 216 159 وَقَفَتُ فيها أُصَيْلَالًا أُسَائِلُهَا أَعَيَتْ جَوَابًا، وما بالرَّبْعِ مِن أَحَدِ 218

رقم الشاهد الشاهد الصفحة إلا الأَََوَارِيَّ لأيًا ما أُبَيِّنُهَا والنُّؤْيُ كالحوض بالمظلومة الجَلدِ 219 165 ولا أَرَى فاعلًا في الناس يُشْبِهُهُ وما أُحَاشِي مِنَ الأقوامِ من أحدٍ 226 173 أَزَمَانَ من يُرِدِ الصَّنِيعَةَ يُصْطَنَعْ فينا، ومن يرد الزَّهَادَةَ يُزْهَدِ 236 194 رَعَيْتُهَا أَكْرَمَ عُودٍ عُودًا الصِّلَّ والصِّفْصِلَّ واليَعْضِيدَا 256 والخَازِبَازِ السَّنِمَ المَجُودَا حيث يدعو عامرٌ مسعودَا 257 207 مُعَاوِيَ إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ فَلَسْنَا بَالجِبَالِ ولا الحَدِيدا 271 أَدبرُوهَا بني حربٍ عليكم ولا تَرْمُوا بِهَا الغَرَضَ البَعِيدَا 271 210 أَلَا حَيَّ نَدْمَانِي عُمَيْرَ بْنَ عَامِرٍ إذا ما تَلَاقَيْنَا مِنَ اليَوْمِ أو غَدَا 310 222 هُذَيْلِيَةٌ تَدْعُو إذا هي فَاخَرَتْ أبًا هُذَلِيًّا من غَطَارِفَةٍ نُجْدِ 287 223 أَوْدَى ابْنُ جُلْهُمَ عَبَّادٌ بِصِرْمَتِهِ إنَّ ابْنَ جُلْهُمَ أَمْسَى حَيَّةَ الوَادِي 288 247 وأَخُو الغَوَان متى يَشَأْ يَضْرِمْنَهُ ويَكُنَّ أعداءَ بُعَيْدَ وِدَادِ 442 265 فَزَجَجْتُهَا بِمَزَجَّةٍ زَجَّ القَلُوصَ أَبِي مَزَادَهْ 349 274 في كِلْتَ رجليها سُلَامَى وَاحِدَهْ كِلْتَاهُمَا مَقْرُونَةٌ بِزَائِدَهْ 359 285 إذا القَعُودُ كَرَّ فِيهَا حَفَدَا يومًا جديدًا كلّهُ مُطَرَّدا 370 290 حتى إذا أَسْلَكُوهُم في قُتَائِدَةٍ شَلَّا كما تَطْرُدُ الجَمَّالَةُ الشَّرُدَا 377 302 قالت: ألا لَيْتَمَا هذَ الحَمَامُ لَنَا إِلَى حَمَامَتِنَا، أو نِصْفُهُ فَقَدِ 392 318 وقَائِلَةٍ ما بَالُ دَوْسَرَ بَعْدَنَا صَحَا قَلْبُهُ عن آلِ ليلى وعن هِنْدِ 408 323 لو شَهْدَ عاد من زمان عَادِ لَابْتزَّهَا مَبَارِكَ الجِلَادِ 411 326 غَلَبَ المَسَامِيحَ الوَلِيدُ سَمَاحَةً وكَفَى قريش المُعْضِلَاتِ وسَادَهَا 413 328 لقوم فكانوا هُمُ المُنْفِدِينَ شرابهمُ قبلَ إنفادِهَا 414 368 أَلَا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الوَغَى وأن أشهد اللَّذَّات هل أنت مُخْلِدِي 456 يا صاحبي فَدَتْ نفسي نفوسكما وحيثما كنتما لَاقَيْتُمَا رَشَدَا 459 370 أن تَحْمِلَا حاجةً لِي خَفّ مَحْمِلُهَا تصنعا نعمةً عندي بها وَيَدَا 460 أن تَقْرَآنِ على أسماء ويَحْكُمَا منِّي السلام، وأن لا تُشْعِرا أحدا 460 379 جاءت كبيرٌ كما أخفِّرَهَا والقوم صيدٌ كأنهم رَمِدُوا 478

رقم الشاهد الشاهد الصفحة 408 شلَّت يمينُك إن قَتَلْت لمُسْلِمَا كُتِبَتْ عليك عُقُوَبةُ المُتَعَمِّدِ 526 413 [وإيَّاكَ والمَيْتَاتِ لا تَقْرَبَنَّهَا] ولا تَعْبُدِ الشيطان، واللهَ فاعبدا 541 425 فَظَلْتُ في شَرٍّ من اللَّذْ كِيدَا كاللَّذْ تَزَبَّى زُبْيَةً فَاصْطِيدَا 553 455 إنما الفقر والغناء من الله؛ فهذا يعطي، وهذا يُحَد 615 458 ولا تجعليني كامرئ ليس هَمُّهُ كهمِّي، ولا يغني غَنَائِي ومَشْهَدِي 618 472 هنيئا لسعد ما اقتضى بعد وقعتي بناقة سعد والعَشِيَّةُ بَارِدُ 632 483 فوقعتُ بين قُتُودِ عَنْسٍ ضامر لحَّاظَةٍ طَفَلَ العَشِيِّ سِنَادِ 640 حرف الراء المهملة 6 الله يعلم أنَّا في تَلَفُّتِنَا يوم الفِرَاقِ إلى إخواننا صُوَرُ 21 وأنني حيثما يَثْنِي الهوى بصري من حيثما سلكوا أدنو فَأَنْظُورُ 22 22 وشرُّ المنايا ميِّت وَسْطَ أهْلِهِ كَهُلْكِ الفَتَى قد أسلم الحَيَّ حَاضِرُهْ 52 25 كأن عَذِيرَهُم بجنوب سِلَّى نَعَامٌ قَاقَ في بلد قِفَارِ 54 26 قليلٌ عيبُهُ، والعيبُ جمٌّ ولكنَّ الغِنَى ربٌّ غَفُورٌ 54 48 إني ضَمِنْتُ لِمَنْ أَتَانِي ما جَنَى وأَبَى، فكنتُ وكان غَيْرَ غَدُورِ 80 51 ألَا يا اسْلَمِي يا هندُ هندَ بنِي بَدْرِ وإنْ كَانَ حيَّانَا عِدًى آخر الدَّهْرِ 83 52 ألا يا اسلمِي يا دار ميَّ على البِلَى ولا زال مُنْهَلًّا بِجَرْعَائِكِ القَطْرُ 83 65 ما لك عندي غيرُ سهم وحَجَر، وغير كبدَاءَ شديدة الوَتَر جادت بِكَفَّيْ كان من أَرْمَى البشر 94 68 يا لعَنْةَ ُالله والأقوام كلهمُ والصالحين على سِمْعَانَ من جَارِ 97 71 يا قَاتَلَ الله صِبْيَانًا تجيء بهم أم الهُنَيْبِر من زَنْدٍ لها وَارِي 98 72 ما أَقَلَّت قَدَم نَاعِلَهَا نَعِمَ السَّاعُونَ في الأمر المُبِرّ 100 74 إذا هدرت شقاشقه ونشبت له الأظافر ترك له المدار 101 75 هيجها نضح من الطل سحر وهزت الريح الندي حين قطر لو عصر منها البن والمسك انعصر 102 77 ألم يخز التفرق جند كسرى ونفخوا في مدائنهم فطاروا 102

رقم الشاهد الشاهد الصفحة 78 يا ما أميلح غزلانا شدنَّ لنا من هَاؤُليَّائكُنَّ الضال والسمر 104 92 وأبيض من ماء الحديد كأنه شهاب بدا والليل داج عساكره 123 94 حراجيج ما تنفك إلا مناخة على الخسف أو نرمي بها بلد اقفرا 127 100 بحسبك في القوم أن يعلموا بأنك فيهم غني مضر 137 102 ألا هل أتاها والحوادث جمة بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا 138 103 إن امرأ غره منكن واحدة بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور 142 105 لا تتركني فيهم شطيرا إني إذن أهلك أو أطيرا 144 109 فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ولكني زنجي عظيم المشافر 148 112 غداة أحلت لابن أصرم طعنة حصين عبيطات السدائف والخمر 152 131 يا أبا الأسود لم أسلمتني لهموم طارقات وذكر 171 132 فهياك والأمر الذي إن توسعت موارده ضاقت عليك المصادر 174 139 تربص بها الأيام عل صروفها سترمي بها في جاحم متسعر 180 149: تفاقد قومي إذ يبيعون مهجتي بجارية، بهرا لهم بعدها بهرا 194 151 ولما رأيت الخيل تتري أثائجا علمت بأن اليوم أمس فاجر 196 152 وإني لَتَعْرُونِي لذكراك نُفْضَةٌ كما انْتَفَضَ العُصْفُورُ بَلَّلَهُ القَطْرُ 205 الناس أَلْبٌ علينا فيكَ ليس لنا إلا السُّيُوفَ وأَطْرَافَ القَنَا وَزَر 224 174 على حين من تَلْبَثْ عليه ذنُوبُه يجد فَقْدَهَا وفي المقام تَدَابُرُ 236 189 تَؤُمُ سِنَانًا وكم دُونَهُ من الأرض مَحْدُودِبًا غارُهَا 249 198 باعد أَمَّ العَمْرِو من أسِيرِهَا حُرَّاسُ أَبْوَابٍ عَلَى قُصُورِهَا 258 201 ولقد جنيتك أَكْمُؤا وعَسَاقِلَا ولقد نهيتك عن بنات الأَوْبَر 260 208 كشحًا طَوَى من بَلَدٍ مُخْتَارًا مِنْ يَأْسِهِ اليَائِسِ أو حِذَارَا 271 211 فَيَا الغُلَامَان اللّذَانِ فَرَّا إيَّاكُمَا أن تَكْسِبَانِي شَرًّا 274 218 خُذُوا حَظَّكُمْ يا آل عِكْرِمَ واحْفَظُوا أَوَاصِرَنَا والرِّحْمُ بالغَيْبِ تُذْكَرُ 284 232 لِمَنِ الدِّيَارُ بِقُنَّةِ الحِجْرِ أَقْوَيْنَ مِنْ حِجَجٍ ومِنْ دَهْرِ 306 238 مِثْلِكِ أو خَيْرٍ تَرَكْتُ رَذِيَّةً تُقَلِّبُ عينيها إذا طَارَ طَائِرُ 312 246 إذا ما شاء ضَرُّوا من أرادوا ولا يَأْلُوهُمُ أحدٌ ضِرَارًا 319

رقم الشاهد الشاهد الصفحة 249 ليس تخفى يَسَارَتِي قَدْرَ يوم ولقد يُخْفِ شِيمَتِي إِعْسَارِي 320 257 إن الذي أغناك يغنيني جَيْر واللهُ نَفَّاحُ اليَدَينِ بالخير 331 260 إنَّ امْرَأَ خَصَّنِي عمدًا مودَّتَهُ على التَّنَائِي لَعِنْدِي غَيْرُ مَكْفُورِ 333 264 وقد ذَكَرَتْ لِي بِالكثيب مُؤَالفًا قِلَاصَ سُلَيْمٍ أو قِلَاصَ بني بكر 336 فَقَالَ فريقُ القومِ لما نَشَدْتُهُمْ: نعم، وفريق: ليْمُنُ اللهِ ما ندري 337 266 تمرُّ على ما تستمرُّ، وقد شَفَتْ غَلَائِلَ عبدُ القَيْسِ منها صُدُورِهَا 350 273 وقَرَّبَ جانب الغربي يَأْدُو مَدَبَّ السَّيلِ، واجتنب الشِّعَارَا 356 278 كِلَانا ثَقَلَيْنَا وَاثِقٌ بِغَنِيمَةٍ وقد قَدَرَ الرَّحمن ما هو قادر 361 295 لا يَبْعَدَنْ قومي الذين هُمُ سَمُّ العُدَاةِ وآفةُ الجُزْرِ 383 النازلون بكل مُعْتَرَكٍ والطيبين مَعَاقِدَ الأَزْرِ 384 298 أَكُلَّ امْرِئٍ تَحْسَبِينَ امْرَأً ونارٍ تَوَقَّدُ بالليل نَارَا 386 304 بالله يا ظَبَيَاتِ القَاعِ قُلْنَ لَنَا: ليلاي منكنّ أَمْ ليلى من البَشَرِ؟ 394 309 فلتأتينك قصائد، وليدفعن جيشا إليك قوادم الأكوار 400 310 طَلَبَ الأَزَارِقَ بِالكَتَائِبِ إذ هَوَتْ بِشَبِيبِ غَائِلَةِ الثُّغُورِ غَدُورُ 403 312 إذا قال غَاوٍ من تَنْوخَ قصيدةً بها جَرَبٌ عُدَّتْ على بِزَوْبَرَا 404 314 أُؤَمِّلُ أَنْ أَعِيشَ وأَنَّ يَوْمِي بأَوَّلَ أَوْ بَأَهْوَنَ أَوْ جُبَارِ 406 أَوِ التَّالي دُبَارَ؛ فإن أَفُتْهُ فَمُؤْنِسَ أو عَرُوبةً أو شِيَارِ 406 315 فَأَوْفَضْنَ عنها وهي تَرْعُو حُشَاشَةً بِذِي نَفْسِهَا والسَّيْفُ عُرْيَانُ أَحْمَرُ 406 316 قالت أميمة ما لِثَابِتَ شاخصًا عَارِي الأَشَاجِعِ نَاحِلًا كالمُنْصُلِ 407 327 قامت تُبَكِّيهِ على قبره من لي من بعدك يا عَامِرُ 413 تَرَكَتْنِي في الدَّار ذَا غُرْبَةٍ قد ذلَّ من ليس له ناصرُ 414 332 أخشى على دَيْسَمَ من بُعْدِ الثَّرَى أبى قضاءُ اللهِ إلا ما ترى 417 334 تراه كأن الله يَجْدَعُ أنفه وعينيه إن مولاه ثاب له وفر 419 335 له زجل كأنه صوتٌ حادٍ إذا طلب الوسيقة أو زَمِيرُ 420 336 أو مُعْبَرُ الظَّهْرِ يَنْأَى عن وَلِيَّتِهِ ما حجَّ ربُّهُ في الدنيَا ولا اعْتَمَرَا 420 339 وأيقن أن الخيل إن تَلْتَبِسْ به يكن لفَسِيل النخل بعده آبِرُ 421

رقم الشاهد الشاهد الصفحة 341 لأَعْلِطَنَّهُ وسمًا لا يُفَارِقُهُ كما يُحَز بحمَّى المَيسَمِ البَحِرُ 422 353 من كان لا يزعم أني شاعر فيدن مني تَنْهَهُ المَزَاجِرُ 434 354 ولأنت أشجع من أسامة إذ دُعِيَتْ نَزَالِ وَلَجَّ في الذُّعْر 435 362.............. حَذَارِ من أرماحنا حَذَارِ 438 363.............. "نَظَارِ كي أركبها نَظَارِ" 439 367 فَأُبْتُ إلى فهمٍ وما كدت آئِبًا وكم مثلها فارقْتُها وهي تَصْفِرُ 450 380 وطَرْفَكَ إما جئتنا فاصْرِفَنَّهُ كما يحسبوا أن الهوى حيث تنظر 479 389 لَعِبَ الرِّيَاحُ بها وغَيَّرَهَا بَعْدِي سَوَافِي المُورِ والقَطْرِ 493 403 فَلَمَ أَرْقِهِ إِنْ يَنْجُ مِنْهَا، وإِنْ يَمُتْ فطعنةُ لا غُسٍّ ولا بِمُغَمَّرِ 513 406 وسمعتَ حَلْفَتَهَا التي حَلَفَتْ وإنْ كانَ سَمْعُكَ غير ذِي وَقْرِ 519 420 لَتَجِدَنِّي بالأمير بَرًّا وبالقَنَاة مِدْعَسًا مِكَرَّا 547 "إذا غُطَيْفُ السُّلَمِيُّ فَرَّا" 547 423 فلم أَرَ بيتًا كان أحسنَ بهجةً من اللَّذْ لَهُ من آلِ عَزَّةَ عامرُ 552 427 اللَّذِ لَوْ شَاءَ لَكَانَتْ بَرَّا أو جَبَلًا أصمَّ مُشْمَخِرًّا 556 438 بالباعث الوارث الأموات قد ضَمِنَتْ إيّاهُمُ الأرض في دَهْرِ الدَّهَارِيرِ 572 445 لكم مَسٍْجِدَا اللهِ المَزُورَان والحَصَى لكم قِبْصُهُ من بين أَثْرَى وأقتَرَا 592 450 "أنا ابْنُ مَاوِيَّةَ إذ جَدَّ الَّنقُزْ" "وجاءت الخيل أثافي زمر" 602 451 أنا جريرٌ كُنْيَتِي أَبُو عَمِرْأَضْرِبُ بالسَّيْفِ وسَعْدٌ في القَصِرْ 603 "أجُبُنًا وغَيرَة خَلْفَ السِّتِرْ" 603 470 أَلَا هَلَكَ الشِّهَابُ المُسْتَنِيرُ ومِدْرَهُنَا الكَمِيُّ إذا نُغِيرُ 631 وحَمَّالُ المِئِينَ إذا أَلَمَّتْ بنا الحدثانُ، والأنف النّصُورُ 632 473 وإنَّ كلابا هذه عَشْرُ أَبْطُنٍ وأنت بريء من قبائلها العَشْرِ 633 474 وقائع في مضر تسعةٌ وفي وائلٍ كانت العاشرة 633 475 وكان مِجَنِّي دون من كنت أتقي ثلاثُ شُخُوصٍ كَاعِبَانِ ومُعْصِرُ 634 477 قَبَائِلُنَا سَبْعٌ، وأَنْتُم ثلاثةٌ وللسَّبْعُ خيرٌ من ثلاثٍ وأكثرُ 635

رقم الشاهد الشاهد الصفحة 480 [أزيد بن مصبوح، فلو غيركم جني غفرنا] وكانت من سجيتنا الغفر 637 484 عهدي بها في الحي قد سُرْبِلَتْ بيضاء مثل المهرة الضامر 640 488 حتى عظامي وأراه ثاغري وكحل العينين بالعواور 646 490 وتبرد برد رداء العروس بالصيف رقرقت فيه العبيرا 650 493 من آل صَعْفُوقٍ وأتباع أخر الطامعين لا يبالون الغمر 659 495 وكنت متى أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر 662 رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه، ولا عن بعضه أنت صابر 662 حرف الزاي 196 مثل الكلاب تهر عند درابها ورمت لهازمها من الخزباز 257 220 إما تريني اليوم أم حمز قاربت بين عنقي وجمزي 285 حرف السين المهملة 67 بئس مقام الشيخ أمرس أمرس إما على قعو، وإما اقْعَنْسِسِ 95 160 وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس 219 161 خلا أن العتاق من المطايا حَسِيَنَ به فهن إليه شوس 222 373 اضرب عنك الهموم طارقها ضربك بالسوط قونس الفرس 463 حرف الصاد المهملة 122 أكاشره وأعلم أن كلانا على ما ساء صاحبه حريص 362 276 كلا أخويكم كان فرعا دعامة ولكنهم زادوا وأصبحت ناقصا 362 حرف الضاد المعجمة 57 أَمَسْلَمَ يا اسمع يا بن كل خليفة ويا سائس الدنيا ويا جبل الأرض 85 90 جارية في درعها الفضفاض تقطع الحديث بالإيماض 121 أبيض من أخت بني أباض 241 قولا لهذا المرء ذو جاء ساعيا هلم فإن المشرفي الفرائض 317 242 أظنك دون المال ذو جئت تبتغي ستلقاك بيض للنفوس قوابض 317

رقم الشاهد الشاهد الصفحة 243 يغادر محض الماء ذُوهُوَ مَحْضُهُ على إثره إن كان للماء من محض 317 يروِّي العروق الباليات من البلى من العَرْفَجِ النجدي ذو باد والحمض 318 253 ولا أرَ من ألقى عليه رداءه على أنه قد سُلّ عن ماجد محض 322 320 وممن ولدوا عامر ذو الطول وذو العرض 409 حرف الطاء المهملة 66 حتى إذا جن الظلام واختلط جاءوا بضيح هل رأيت الذئب قط 95 240 فحور قد لهوت بهن عين نواعم في المروط وفي الرباط 314 396............. شرَّاب ألبان وتمر وأقط 502 حرف العين المهملة 7 هجوتَ زبان ثم جئت معتذرا من هجو زبان لم تهجو ولم تدعِ 22 32 أبا خراشة أما أنت ذا نفر فإن قومي لم تأكلهم الضبع 60 91 يقول الخَنَاوَ أبغض العجم ناطقا إلى ربنا صوت الحمار اليجدع 122 ويستخرج اليربوع من نافقائه ومن جحره بالشيحة اليتقصع 123 106 فلو أن حُقَّ اليوم منكم إقامه وإن كان سرح قد مضى فتسرعا 146 124 عبأت له رمحا طويلا وأنه كأن قبس يعلى بها حين تشرع 165 137 ولا تهين الفقير؛ علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه 179 147 فلا تكثروا لومي؛ فإن أخاكما بذكراه ليلى العامرية مولع 188 175 على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت: ألما تصحُ والشيب وازع؟ 236 186 كم بجود مقرف نال العُلى وشريف بخله قد وضعه 247 187 كم في بني بكر بن سعد سيد ضخم الدسيعة ماجد نفاع 248 287............... قد صَرَّتِ البكرة يوما أجمعا 373 306 ليت شعري عن خليلي ما الذي غاله في الحب حتى وَدَعَهْ؟ 397 307 فَسَعَى مَسْعَاتَهُ في قَوْمِهِ ثُمَّ لم يَبْلُغْ ولا عَجْزَا وَدَعْ 397 317 فما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع 407 322 تمد عليهم من يمين وأَشْمُلِ بحور له من عهد عاد وتبعا 411

رقم الشاهد الشاهد الصفحة 338 فإن يك غثا أو سمينا فإنني سأجعل عينيه لنفسه مَقْنَعَا 421 358 مناعها من إبل مناعها أما ترى الموت لدى أرباعها 437 375 أردت لكيما أن تطير بقربتي فتتركها شنا ببيداء بلقع 473 386 لقد عذلتني أم عمرو، ولم أكن مقالتها ما كنت حيا لأسمعا 485 399 فمن نحن نؤمنه يَبِتْ وهو آمن ومن لا نُجِرْهُ يُمْسِ منا مفزَّعا 506 401 يا أقرع بن حابس يا أقرع إنك إن يصرع أخوك تصرع 511 419 حميد الذي أمجٌ دارُهُ أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع 546 حرف الغين المعجمة 252 ولكن ببدر سائلوا عن بلائنا على الناد، والأنباء بالغيب تبلغ 322 حرف الفاء 13 تنفي يداها الحصى في كل هاجرة نفي الدراهيم تنقاد الصياريف 24 47 نحن بما عندنا، وأنت بما عندك راضٍ، والرأي مختلف 79 87 إذا نُهِيَ السفيه جرى إليه وخالف، والسفيه إلى خلاف 114 113 وعضُّ زمان يابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلَّفِ 153 280 فكلتاهما خرَّت وأسجد رأسها كما سجدت نصرانة لم تحنَّفِ 364 293 تُعَلَّقُ في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب غُوطٌ نفانفُ 380 313 إلى ابن أم أناس أرحل ناقتي عمرو فتُبْلِغُ حاجتي أو تُزْحِفُ 405 372 فإني قد رأيت بدار قومي نوائب كنت في لخم أخافه 462 376 قد يكسب المال الهدانُ الجافي بغير لا عصف ولا اصطراف 474 418 عمرو الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مُسْنِتُونَ عِجَافُ 545 422 اللذ بأسفله صحراء واسعة واللّذ بأعلاه سيل مده الجُرُف 552 489 موانع للأسرار إلا لأهلها ويخلفن ما ظن الغيور المشفشف 649 حرف القاف 11 إذا العجوز غضبت فطلِّق ولا ترضَّاها ولا تمَلَّقِ 23

رقم الشاهد الشاهد الصفحة 20 وإن امرأ أسرى إليك ودونه من الأرض موماة وبيداء سملق 50 لمحقوقة أن تستجيبي دعاءه وأن تعلمي أن المعان موفق 51 30 من يلقَ يومًا على علَّاتِهِ هرما يلقَ السماحة منه والنَّدى خُلُقَا 58 35 فما الدنيا بباقاة لحي ولا حيّ على الدنيا بباق 63 114 وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة، ما بقينا في شقاق 154 121 أما والله أن لو كنت حرا وما بالحر أنت ولا العتيق 162 127 فلو أنك في يوم الرَّخاء سألتني فراقك لم أبخل وأنت صديق 166 133 يا خال هلا قلت إذ أعطيتني هيّاك هياك وحنواء العنق 174 140 حتى يقول الجاهل المنطَّق لَعَنَّ هذا معه معلَّق 181 148 أفنى تلادي وما جمَّعت من نشب قرع القواقيز أفواه الأباريق 188 184................ لواحق الأقراب فيها كالمَقَقْ 246 233 حبت بغام راحلتي عناقًا وما هي -ويب غيرك- بالعناق 307 250 سيفي، وما كنا بنجد، وما قرقر قمر الواد بالشاهق 321 258 رضيعي لبان ثدي أمٍّ تحالفا بأسحم داجٍ عوض لا نتفرق 331 286 زحرت به ليلة كلها فجئت به مؤيدًا خَنْفَقِيقَا 370 294 هلا سألت بذي الجَمَاجِمِ عنهم وأبي نعيم ذي اللواء المحرق 381 347 فلتكن أبعد العداة من الصلح من النجم جارُهُ العَيُّوقُ 429 397 فمتى واغل يَنْبُهُمْ يُحَيُّوهُ وتعطف عليه كأس الساقي 505 443 عدس ما لعباد عليك إمارة أمِنْتِ، وهذا تحملين طليق 589 466 أيا جارتا بِينِي فإنك طالقه كذاك أمور الناس غادٍ وطارقه 626 حرف الكاف 2 والله أسماك سُمّى مباركا آثرك الله به إيثَارَكَا 14 138 [تقول بنتي: قد أني أناكا] يا أبتا علك أو عساكا 180 143 يا أيها المائح دلوي دونكما إني رأيت الناس يحمدونكا يثنون خيرا ويمجدونكا 184

رقم الشاهد الشاهد الصفحة 179 تَجَانَفُ عن جو اليمامة ناقتي وما قَصَدَتْ من أهلها لسوائكا 240 185 يا عاذلي دعني من عذلكا مثليَ لا يقبل من مثلكا 245 352 على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي لك الويل حرّ الوجه أو يبكِ من بكى 433 357 تََرَاكِهَا من إبل تَرَاكِهَا أما ترى الموت لدى أوراكها 437 404 يا حكم الوارث عن عبد الملك أوديت إن لم تحبُ حبو المُعْتَنِكْ 515 424 لن تنفعي ذا حاجة وينفعك وتجعلين اللذ معي في اللذ معك 552 430 [هل تعرف الدار على تبراكا] أتتك عنس تقطع الأراكا 558 439 [أتتك عنس تقطع الأراكا] إليك حتى بلغت إيَّاكا 573 444 أقول له والرمح يأطر مَتْنَهُ: تأمَّلْ خفافا؛ إنني أنا ذلكا 591 حرف اللام 8 خود أناة كالمهاة عطبول كأن في أنيابها القرنفول 22 10 أقول إذا خرت على الكلكال يا ناقتا ما جُلْتِ من مجال 23 14 كأني بفتخاء الجناحين لقوة على عجل مني أطأطئ شيمالي 25 15 لما نزلنا نصبنا ظل أخْبِيَةٍ وفار للقوم باللحم المراجيل 25 16 لا عهد لي بنيضال أصبحت كالشن البال 26 36 وما الدنيا بباقية بحزن أجل، لا، لا، ولا برخاء بال 63 38.............. وأي أمر سيء لا فَعَلَهْ 65 39 فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني، ولم أطلب، قليل من المال 71 ولكنما أسعى لمجد مؤثل وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي 78 40 فردَّ على الفؤاد هوًى عميدًا وسُوئِلَ لو يُبِينُ لنا السؤالا 72 وقد نَغْنَى بها ونرى عصورا بها يَقْتَدْنَنَا الخُرُدَ الخِدَالَا 73 60 ثُمَّتْ قمنا إلى جرد مسومة أعرافهن لأيدينا مناديل 88 79 ما أقدر الله أن يدني على شحط مَنْ دَارُهُ الحزن من دَارُهُ صُولُ 105 80 ألا فتى من بني ذبيان يحملني وليس حاملني إلا ابن حمَّالِ 106 85 ولقد أغتدي وما صقَعَ الديك على أدهم أجشَّ الصَّهِيلَا 110

رقم الشاهد الشاهد الصفحة 86 وكل أناس سوف تدخل بينهم دُوَيْهِيَةٌ تصفر منها الأنامل 113 93 لما دعاني السَّمهريُّ أجبته بأبيض من ماء الحديد صقيل 125 95 حتى لحقنا بهم تعدى فوارسنا كأننا رَعْنُ قُفٍّ يرفع الآلا 128 108 ولكن من لا يَلْقَ أمرًا ينوبه بعدَّته ينزل به وهو أعزل 148 110 فليت دفعتَ الهمَّ عني ساعة فبتنا على ما خيَّلت ناعمي بال 149 120 في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يَحْفَى وينتعلُ 162 وقد عَلِمَ الصِّبْيَة المُرْمِلُونَ إذا اغبَرَّ أفْقٌ وهبَّت شمالا 167 128 وخلَّت عن أولادها المرضعات ولم ترَ عينٌ لمزن بلالا بأنك الربيع وغيث مريع وقدما هناك تكون الثمالا 168 130 لهنَّك من عبسية لوسيمة على هنوات كاذب من يقولها 170 142 دعيني أطوِّف في البلاد لعلني أفيد غنى فيه لذي الحق محمل 183 144 ما إن يمسّ الأرض إلا منكب منه، وحرف الساق، طيَّ المحمل 186 155 إن كان ما بلغت عني فلامني صديقي، وشلت من يديّ الأنامل 208 وكفنت وحدي منذرا في ردائه وصادف حوطا من أعادي قاتل 208 169 أزهير أن يشب القَذَالُ فإنه رب هيضلٍ لجبٍ لففت بِهَيضَلٍ 231 171 لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت حمامة في غصون ذات أوقال 233 172 رددنا لشعثاء الرسول، ولا أرى كيومئذ شيئا تُردّ رسائله 235 188 كم نالني منهم فضلا على عدم إذ لا أكاد من الإقتار أحتمل 249 190 على أنني بعد ما قد مضى ثلاثون للهجر حولًا كميلا 250 يذكِّرنيك حنين العَجُول ونوح الحمامة تدعو هديلا 251 199 وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا شديدا بأعباء الخلافة كاهله 259 209 فإن لم تجد من دون عدنان والدا ودون معد فلتزعك العواذل 272 226 أبو حنش يؤرّقني، وطلق وعمار، وآونة أُثَالا 290 234 لقد خفت حتى لا تزيد مخافتي على وَعِلٍ في ذي المطارة عاقل 308 237 رسم دار وقفت في طلله كدت أقضي الحياة من جلله 312 259 أليس قليلا نظرة إن نظرتُهَا إليك؟ وكلا ليس منك قليل 332

رقم الشاهد الشاهد الصفحة 262 طرن انقطاعة أوتار مُحَظْرَبَةٍ في أقوس نازعتها أيمن شُمُلَا 335 263.............. يأتي لها من أيمن وأشمل 341 270 كما خُطّ الكتاب بكف يوما يهودي يقارب أو يزيل 353 288 فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن حِقْفٍ ذي قفاف عقنقل 374 299 قلت إذا أقبلت وزهر تهادى كنعاج الملا تعسفن رملا 388 300 ورجا الأخيطل من سفاهة رأيه ما لم يكن وأب له لينالا 389 308 ممن حملن به وهن عواقد حبك النطاق فشب غير مهبَّل 399 311 نصروا نبيهم وشدوا أزره بحنين يوم تواكل الأبطال 404 316 قالت أميمة ما لثابت شاخصا عاري الأشاجع ناحلا كالمُنْصُلِ 407 325 ولسنا إذا عُدّ الحصى بأقلة وإن معدَّ اليوم مُودٍ ذليلها 412 340 أنا ابن كلاب وابن أوس؛ فمنيكن قناعه مَغْطِيا فإني مجتلى 422 342 لي والد شيخ تهضه غيبتي وأظن أن نفاد عمره عاجل 422 344 ما أنت بالحكم التُّرْضَى حكومته ولا البليغ ولا ذي الرأي والجدل 424 348 لتبعد إذ نأى جدواك عني فلا أشقى عليك ولا أبالي 429 350 محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من أمر تبالا 432 356 فدعوا نزال فكنت أول نازل وعلام أركبه إذا لم أنزل 436 359 نعاء أبا ليلى لكل طِمِرَّةٍ وجرداء مثل القوس سمح حُجُولُهَا 437 360 نعاء ابن ليلى للسماحة والندى وأيدي شمال باردات الأنامل 438 361 نعاء جذاما غير موت ولا قتل ولكن فراقا للدَّعائم والأصل 438 364 فما وجد النَّهدي وجدا وجدتُهُ ولا وجد العذريُّ قبل جميل 442 369 فلم أرَ مثلها خُبَاسَةَ واجد ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله 457 378 إن يغدروا أو يجبنوا أو يبخلوا لا يحفلوا 476 يغدوا عليك مُرَجَّلين كأنهم لم يفعلوا 477 382 اسمع حديثا كما يوما تحدثه عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا 480 383 يقلب عينيه كما لأخَافَهُ تَشَاوَسْ رويدا إنني من تأمل 481 391.............. كأن نسج العنكبوت المرمل 495

رقم الشاهد الشاهد الصفحة 398 صعدة ثابتة في حائر أينما تُمَيِّلْهَا تَمِلْ 505 411 وقد كنت من سلمى سِنِينَ ثَمَانِيًا على صير أم ما يُمِرّ وما يَحْلُنْ 540 412 قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخل فحومل 540 414 فألفيته غير مستعتب ولا ذاكر الله إلا قليلا 543 428 بيناه في دار صدق قد أقام بها حينا يعللنا وما نعلله 557 432 فلست بآتيه ولا أستطيعه ولك اسقني إن كان مَاؤُك ذا فضل 561 433 أصاح ترى برقًا أريك وميضه كَلَمْعِ اليدين في حَبِيِّ مُكَلَّلِ 562 437 ركاب حُسَيْل أشهر الصيف بُدَّنُ وناقة عمرو ما يحلَّ لها رحل 569 ويزعم حسل أنه فرع قومه وما أنت فرع يا حسيل ولا أصل 569 442 إذا ما أتيت بني مالك فسلم على أيهم أفضل 587 446 لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصائل 594 448 أأن رأت رجلا أعشى أضرَّ به ريب الزمان ودهر مفسد خبل 598 449 فإنّك لا تدري متى الموت جائئٌ ولكن أقصى مدة الموت عاجل 600 452 أرتني حجلا على ساقها فهش الفؤاد لذاك الحجل 603 فقلت ولم أخف عن صاحبي: ألا بأبي أصل تلك الرجل 603 453 علمنا إخواننا بنو عجل شرب النبيذ واصطفافا بالرجل 604 457 لم نرحب بأن شخصت، ولكن مرحبا بالرضاء منك وأهلا 616 459 فعادى عِدَاء بين ثور ونعجة دراكا، ولم ينضخ بماء فيغسل 618 460 والقارح العدَّا وكل طمرة ما إن تنال يد الطويل قذالها 619 465 حصان رزان ما تُزَنّ بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل 625 471 إن الأمور إذا الأحداث دَبَّرَها دون الشيوخ ترى في بعضها خللا 632 476 ثلاثة أنفس وثلاث ذود لقد جار الزمان على عيالي 635 481 إذ هي أحوى، من الربعي، حاجبه والعين بالإثمد الحاري مكحول 638 485 تهون بعد الأرض عني فريدة كناز البضيع سهوة المشي بازل 641 487 [نسل وجد الهائم المغتل] ببازل وجناء أو عيهلِّ 642 496 ويلمه رجلا تأبى به غبنًا إذا تجرَّد، لا خالٌ، ولا بخلُ 667

رقم الشاهد الشاهد الصفحة 497 ويلمه مسعر حرب إذا ألقي فيها وعليه الشَّلِيلْ 668 499 [ف] أرسلا العراك [ولم يذدها ولم يشفق على نغص الدخال] 677 حرف الميم 1............. فإنه أهل لأن يؤكرما 12 3 وعامنا أعجبنا مقدمه يدعى أبا السمح وقرضاب سُمُهْ مبتركا لكل عظم يلحُمُهْ 4 باسم الذي في كل سورة سمه قد وردت على طريق تعلمه 15 12 ينباع من دفرى غضوب جسرة زيافة مثل الفنيق المكدم 24 18.............. وعقبة الأعقاب في الشهر الأصم 34 33 فطلقها فلست لها بند وإلا يعلُ مفرقك الحسام 61 37 إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما 64 42 ولكن نصفا لو سببت وسبني بنو عبد شمس من مناف وهاشم 74 45 قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزة ممطول معنى غريمها 76 50 ألست بنعم الجار يؤلف بيته أخا قلة أو معدم المال مصرما 81 53 ألا يا اسلمي لا صرم لي اليوم فاطما ولا أبدا ما دام وصلك دائما 84 56 يا دار سلمى يا اسلمي ثم اسلمي بسمسم وعن يمين سمسم 85 59 ماويَّ بل رُبَّتما غارة شعواء كاللذعة بالميسم 87 61 العاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان أين المطعم 89 69 يا لعنة الله على أهل الرَّقَمْ أهل الحمير والوقير والخزم 97 84 ونأخذ بعده بذناب عيش أجب الظهر ليس له سنام 109 88 صددت وأطولت الصدود، وقلما وصال على طول الصدود يدوم 117 99 بحسبك أن قد سدت أخزم كلها لكل أناس سادة ودعائم 137 104 لقد ولد الأخيطل ام سوء على قمع استها صلب وشام 142 ويوما تلاقينا بوجه مقسم كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم 164 125 وخيفاء ألقى الليث فيها ذراعه فَسَرَّت وسَاءَتْ كل ماشٍ ومُضْرِمِ 165

رقم الشاهد الشاهد الصفحة تمشي بها الدرماء تسحب قصبها كأن بطن حبلى ذات أونين مُتْئمِ 166 126 فتعلمي أن قد كلفت بكم ثم افعلي ما شئت عن علم 166 134 ولست بلوَّام على الأمر بعد ما يفوت، ولكن علّ أن أتقدما 178 141 ألا يا صاحبي قفا لغَنَّا نرى العرصات أو أثر الخيام 182 146 حتى تهجَّر في الرَّوَاح وهاجها طلب المعقب حقه المظلومُ 187 150 لقد لمتنا يا أم غيلان في السُّرَى ونمت، وما ليلُ المطيّ بنائم 196 153 ألا يا سيالات الدحائل بالضحى عليكن من بين السَّيَال سلام 207 ولا زال منهل الربيع إذا جرى عليكن منه وابل ورهام 207 166 حاشى أبي ثوبان؛ إن به ضنا على الملحاة والشتم 228 183 يا أسدي لم أكلته لمه؟ لو خافك الله عليه حرمه فما قربت لحمه ولا دمه 243 192 سلام الله يا مطرا عليها وليس عليك يا مطر السلام 253 195 يا خازباز أرسل اللَّهَازِمَا إني أخاف أن تكون لازما 257 200 أما ودماء مائرات تخالها على قنة العُزّى وبالنسر عندما وما سبح الرهبان في كل بيعة أبيل الأبيلين المسيح ابن مريما لقد ذاق منا عامر يوم لعلع حسامًا إذا ما هُزَّ بالكف صمَّمَا 259 203.............. فإن الأولاء يعلمونك منهم 261 205 قالت بنو عامر: خالوا بني أسد، يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام 269 214 إني إذا ما حدث ألما أقول يا اللهم يا اللهما 280 215 وما عليك أن تقولي كلما سبحت أو صليت يا اللهم ما" 282 أردد علينا شيخنا مسلّما 280 216.............. غفرت أو عذَّبت يا اللهما 280 217 هما نفثا في فيّ من فمويهما على النابح العاوي أشدّ رجام 282 221 بكل قريشي على مهابة سريع إلى داعي الندى والتكرُّم 286 224 ألا أضحت حبالكم رماما وأضحت منك شاسعة أماما 288 225 إن ابن حارث إن أشتق لرؤيته أو أمتدحه فإن الناس قد علموا 289

رقم الشاهد الشاهد الصفحة 229 أقول وما قولي عليك بسبَّة إليك ابن سلمى أنت حافر زمزم 299 حفيرة إبراهيم يوم ابن هاجر وركضة جبريل على عهد آدم 299 235 كانت فريضة ما تقول كما أن الزناء فريضة الرجم 308 248 كفاك كف لا تليق درهما جودا، وأخرى تعطِ بالسيف الدَّمَا 320 268 فأصبحت بعد خط بهجتها كأن قفرا رسومها قلما 352 269 لما رأت ساتيدما استعبرت لله در اليوم من لامها 352 272 هما أخوا في الحرب من لا أخا له إذا خاف يوما نبوة فدعاهما 354 275 كلا أخوينا ذو رجال، كأنهم أسود الشرى من كل أغلب ضيغم 361 279 كلا يومي أمامه يوم صد وإن لم نأتها إلا لماما 363 296 إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم 384 وذا الرأي حين تغم الأمور بذات الصليل وذات اللُّجُم 384 303 فيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النَّقَا آأنت أم أم سالم؟ 394 321 من سبأ الحاضرين مأرب إذ يبنون من دون سيله العرما 410 330 إن تميما خلقت ملموما قوما ترى واحدهم صِهْميما 416 343 [القاطنات البيت غير الريم] قواطنا مكة من ورق الحمي 423 349 بل بلد ملءُ الفجاج قَتَمُهْ لا يُشْتَرَى كَتّانُهُ وجَهْرَمُهْ 431 355 عرضنا نزال فلم ينزلوا وكانت نزال عليهم أطم 436 381.............. لا تظلم الناس كما لا تظلم 482 393 فعلا فروع الأيهُقَانِ وأَطْفَلَتْ بالجلهتين ظباؤها ونعامها 500 402 وإن أتاه خليل يوم مسألة يقول لا غائب ما لي ولا حرم 512 407 أولئك قومي إن هجوني هجوتهم وأعبد أن تهجى تميم بدارم 523 409 يحسبه الجاهل ما لم يعلما شيخا على كرسيه معمما 538 429 إذاه سِيمَ الخسف آلي بقسم بالله لا يأخذ إلا ما احتكم 557 441 ولقد أبيت من الفتاة بمنزل فأبيت لا حرج ولا محروم 583 463.............. ......... جُمَادَيَيْنِ حُسُومًا 622 464.............. ......... جماديين حرام 623

رقم الشاهد الشاهد الصفحة 467 تمخضت المنون له بيوم أَنَى، ولكل حاملة تمام 626 478 فمضى وقدمها، وكانت عادة منه إذا هي عرَّدَتْ إقدامها 636 486 بكرت بهاجر شية مقطورة تروي المحاجر بازل علكوم 641 حرف النون 24 أكل عام نعم تحوُونه يلحقه قوم وتنتجونه؟ 53 29 كلا يومي طوالة وصل أروى ظنون، آن مطرح الظنون 57 31 أصاب الملوك فأفناهم وأخرج من بيته ذا جدن 59 54 ألا يا اسلمي قبل الفراق ظعينا تحية من أمسى إليك حزينا 84 63 نولي قبل يوم نأيي جمانا وصلينا كما زعمت تلانا 91 81 امتلأ الحوض وقال: قطني مهلا، رويدا، قد ملأت بطني 107 118 وصدر مشرق النحر كأن ثدييه حقان 160 158 وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان 217 176 على حين انحنيت وشاب رأسي فأي فتى دعوت وأي حين؟ 237 178 ولا ينطق المكروه من كان منهم إذا جلسوا منا ولا من سوائنا 239 182 وابذل سوام المال إنْ نَ سواءها دهما وجونا 341 193 تفقأ فوقه القلع السواري وجن الخازباز به جنونا 256 212 فديتك يا التي تيّمت قلبي وأنت بخيلة بالود عني 275 228 فلو أنا على حجر ذبحنا جرى الدميان بالخبر اليقين 292 254 فلست بمدرك ما فات مني بلهف، ولا بليتَ، ولا لوانّي 322 255 لاه ابن عمك لا أفضلت في حَسَب عني، ولا أنت ديَّاني فتخروني 325 267 يُطِفْنَ بحوزي المراتع لم تُرَعْ بواديه من قرع القسي الكنائن 351 283.............. وصاني العجاج فيما وصني 367 346 لقتم أنت يا بن خير قريش فتقضَّى حوائج المسلمينا 427 351 فقلت ادعي وأدعُ؛ فإن أندى لصوت أن يُنَادِيَ دَاعِيَانِ 432 388 داويت عين أبي الدَّهيق بمطلِهِ حتى المصيف ويغلو القعدانُ 490

رقم الشاهد الشاهد الصفحة 392 إذا ما الغانيات برزن يوما وزججن الحواجب والعيونا 499 435 أتطمع فينا من أراق دماءنا ولولاك لم يعرض لأحسابنا حسن 568 440 كأنا يوم قُرَّى إنما نقتُلُ إيَّانا 573 462 [فسوته لا تنقضي شهرينه] شَهْرَي ربيع وجماديينه 622 492 قد فارقت قرينها القرينه وشحطت عن دارها الظعينه 657 يا ليتنا قد ضمنا سفينه حتى يعود الوصل كينونه 657 494 ما بال عيني كالشعيب العيَّن [وبعض أعراض الشجون الشجن دار كرقم الكاتب المرقن بين نقا الملقي وبين الأجون] 660 500 دعِ الخمر يشربها الغواة؛ فإنني رأيت أخاها مغنيا بمكانها 677 فإنْ لا يكنها أو تكنه فإنه أخوها غذته أمه بلبانها 678 501 تنفك تسمع ما حييت بهالك حتى تكونه 678 حرف الهاء1 5 إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها 18 44 ولقد أرى تَغُنَى به سيفانةٌ تصبي الحليم ومثلها أصباه 75 64 والله ما ليلي بنام صاحبه ولا مخالط الليان جانبه 92 73 فإن أهجه يضجر كما ضجر بازل من الأدم دَبْرَت صفحتاه وغاربه 101 117 مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا ببين غرابها 157 181 أَكُرُّ على الكتيبة لا أبالي أفيها كان حتفي أم سواها 240 213 مبارك هو ومن سماه على اسمك اللهم يا ألله 277 236 وبلد عامية أعماؤه كأن لون أرضه سماؤه 311 251 ما بال هَمّ عميد بات يطرقني بالواد من هند إذ نعدو عواديها؟ 321 269 لما رأت ساتيدما استعبرت لله در اليوم من لامها 352 297 وكل قوم أطاعوا أمر مرشدهم إلا نُمَيرًا أطاعت أمر غاويها 384

_ 1 وضعنا في هذه القافية الأبيات التي آخرها هاء -وإن لم تكن الهاء حرف الروي الذي بنيت عليه الكلمة- تيسير على من لا إلمام لهم بعلم القافية، ووضعناها مرة أخرى في موضعها اللائق بها.

رقم الشاهد الشاهد الصفحة الظاعنين ولما يُظْعِنُوا أحدا والقائلون: لمن دار نُخَلِّيهَا 385 319 [207] ومصعب حين جدَّ الأمر أكثرها وأطيبها 409 325 ولسنا إذا عُدّ الحصى بأقلَّةٍ وإن معدَّ اليوم مود ذليلُهَا 412 326 غلب المساميح الوليد سماحة وكَفَى قريش المعضلات وَسَادَهَا 413 328 لقوم فكانوا هم المنفدين شرابهم قبل إنفادها 414 349 بل بلد ملء الفجاج قَتَمُهْ لا يشترى كَتّانُهُ وجَهْرَمُهْ 431 357 تَرَاكِها من إبل تَرَاكِهَا أما ترى الموت لدى أوراكها 437 358 مناعها من إبل مناعها أما ترى الموت لدى أرباعها 437 359 نعاء أبا ليلى لكل طمرة وجرداء مثل القوس سمح حجولها 437 349 فلم أرَ مثلها خُبَاسةَ واجدٍ ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله 457 372 فإني قد رأيت بدار قومي نوائب كنت في لخم أخافه 462 384 قلت لشيبان: ادْنُ من لقائه كما تغدِّي القوم من شوائه 482 387 وإني امرؤ من عصبة خِنْدِفِيّةٍ أبت للأعادي أن تديخ رقابها 487 393 فعلا فروع الأيهقان وأطفلت بالجهلتين ظباؤها ونعامها 500 395 علفتها تبنا وماء باردا حتى شتت همَّالة عيناها 501 405 إذا رضيت عليَّ بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها 516 428 بيناه في دار صدق قد قام بها حينا يعلّلنا وما نعلّله 557 460 والقارحَ العَدَّا وكل طِمِرَّةٍ ما إن تنال يد الطويل قَذَالَهَا 619 462 [فسوته لا تنقضي شهرينه] شهري ربيع وجماديينه 622 466 أيا جارتا بيني فإنك طالقه ذاك أمور الناس غادٍ وطارقهْ 626 469 فإن تعهديني ولي لمَّةٌ إن الحوادث أودى بها 629 474 وقائع في مضر تسعة في وائل كانت العاشرة 633 500 دع الخمر يشربها الغواة؛ فإنني رأيت أخاها مغنيا بمكانها 677 فإن لا يكنها أو تكنه فإنه خوها غذته أمه بلبانها 678 501 تنفك تسمع ما حييت هالك حتى تكونه 678

رقم الشاهد الشاهد الصفحة حرف الواو 111 فليت كَفَافًا كان خَيْرُكَ كُلّهُ وشَرُّكَ عَنِّي ما ارتوى الماء مرتوي 150 434 وأنت امرؤ لولاي طحت كما هوى بأجرامه من قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي 566 حرف الألف اللينة 352 على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي لك الويل حر الوجه أو يبكِ من بكى 433 حرف الياء 97 عميرة ودِّعْ إن تجهَّزت غاديا كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا 136 98 أعان علي الدهر إذ حلّ بَرْكُهُ كفى الدهر لو وكّلته بي كافيا 137 115 بدا لي أني لست مدرك ما مضى ولا سابق شيئا إذا كان جائيا 155 162 وبلدة ليس بها طُورِي ولا خلا الجن بها إنسيّ 223 305 ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث إلى ذاكما ما غيبتني غيابيا 395 329 يا بئر يا بئر بني عدي لأنزحن قعرك بالدُّليِّ 415 حتى تعودي أقطع الوَلِيّ 415 345 بل القوم الرسول الله فيهم هم أهل الحكومة من قُصَيِّ 425 417 حيدة خالي ولقيط وعلي وحاتم الطائي وهَّابَ المِئِي 545 426 وليس المال فاعلمه بمال من الأقوام، إلا للذيِّ 555 يريد به العلاء ويمتهنه لأقربِ أقربيه وللقَصِيِّ 555 498 لقد أغدو على أشقر يغتال الصَّحَارِيَا 672

فهرس المحتويات: 60- مسألة: القول في الفصل بين المضاف والمضاف إليه 349 61- مسألة: هل تجوز إضافة الاسم إلى اسم يوافقه في المعنى؟ 356 62- مسألة: "كلا" و"كلتا" مثنيان لفظا ومعنى، أو معنى فقط؟ 359 63- مسألة: هل يجوز توكيد النكرة توكيدا معنويا؟ 369 64- مسألة: هل يجوز أن تجيء واو العطف زائدة؟ 374 65- مسألة: هل يجوز العطف على الضمير المخفوض؟ 379 66- مسألة: العطف على الضمير المرفوع المتصل في اختيار الكلام 388 67- مسألة: هل تأتي "أو" بمعني الواو، وبمعنى "بل"؟ 391 68- مسألة: هل يجوز أن يعطف بلكن بعد الإيجاب؟ 396 69- مسألة: هل يجوز صرف أفعل التفضيل في ضرورة الشعر؟ 399 70- مسألة: منع صرف ما ينصرف في ضرورة الشعر 403 71- مسألة: القول في علة بناء "الآن"؟ 424 72- مسألة: فعل الأمر معرب أو مبني؟ 427 73- مسألة: القول في علة إعراب الفعل المضارع 446 74- مسألة: القول في رفع الفعل المضارع 448 75- مسألة: عامل النصب في الفعل المضارع بعد واو المعية 452 76- مسألة: عامل النصب في الفعل المضارع بعد فاء السببية 454 77- مسألة: هل تعمل "أن" المصدرية محذوفة من غير بدل؟ 456 78- مسألة: هل يجوز أن تأتي "كي" حرف جر؟ 465 79- مسألة: القول في ناصب المضارع بعد لام التعليل 469 80- مسألة: هل يجوز إظهار "أن" المصدرية بعد "لكي" وبعد حتى؟ 473 81- مسألة: هل يجوز مجيء "كما" بمعنى "كيما" وينصب بعدها المضارع؟ 478 82- مسألة: هل تنصب لام الجحود بنفسها؟ وهل يتقدم معمول منصوبها عليها؟ 485 83- مسألة: هل تنصب "حتى" الفعل المضارع بنفسها؟ 489 84- مسألة: عامل الجزم في جواب الشرط 493 85- مسألة: عامل الرفع في الاسم المرفوع بعد "إن" الشرطية 504

86- مسألة: هل يجوز تقديم اسم مرفوع أو منصوب في جملة جواب الشرط؟ وما يترتب عليه؟ 508 87- مسألة: القول في تقديم المفعول بالجزاء على حرف الشرط 511 88- مسألة: القول في "إن" الشرطية، هل تقع بمعنى إذا؟ 518 89- مسألة: القول في "إن" الواقعة بعد "ما" أنافية مؤكدة أم زائدة 522 90- مسألة: القول في معنى "إن" ومعنى اللام بعدها 526 91- مسألة: هل يجازى بكيف؟ 529 92- مسألة: السين مقتطعة من سوف أو أصل برأسه 532 93- مسألة: المحذوف من التاءين المبدوء بهما المضارع 534 94- مسألة: هل تدخل نون التوكيد الخفيفة على فعل الاثنين وفعل جماعة النسوة؟ 536 95- مسألة: الحروف التي وضع الاسم عليها في "ذا" و"الذي 551 96- مسألة: الحروف التي وضع عليها الاسم في "هو" و"هي 557 97- مسألة: القول في هل يقال "لولاي" و"لولاك"؟ وموضع الضمائر 564 98- مسألة: الضمير في "إياك" وأخواتها 570 99- مسألة: المسألة الزنبورية 576 100- مسألة: ضمير الفصل 579 101- مسألة: مراتب المعارف 581 102- مسألة: "أي" الموصولة معربة دائما أو مبنية أحيانا؟ 583 103- مسألة: هل تأتي ألفاظ الإشارة أسماء موصولة؟ 589 104- مسألة: هل يكون للاسم المحلى بأل صلة كصلة الموصول؟ 594 105- مسألة: همزة بَيْنَ بَيْنَ متحركة أو ساكنة؟ 598 106- مسألة: هل يوقف بنقل الحركة على المنصوب المحلى بأل الساكن ما قبل آخره؟ 602 107- مسألة: القول في أصل حركة همزة الوصل 606 108- مسألة: هل يجوز نقل حركة همزة الوصل إلى الساكن قبلها؟ 610 109- مسألة: هل يجوز مد المقصور في ضرورة الشعر؟ 614 110- مسألة: هل يحذف آخر المقصور والممدود عند التثنية إذا كثرت حروفهما؟ 621 111- مسألة: القول في المؤنث بغير علامة تأنيث مما على زنة اسم الفاعل 625 112- مسألة: القول عِلَّةُ حذف الواو من "يعد" ونحوه 644

رقم الشاهد الشاهد الصفحة 113- مسألة: وزن الخماسي المكرر ثانيه وثالثه 649 114- مسألة: هل في كل رباعي وخماسي من الأسماء زيادة؟ 654 115- مسألة: وزن "سيد وميت" ونحوهما 656 116- مسألة: وزن "خطايا" ونحوه 663 117- مسألة: وزن "إنسان" وأصل اشتقاقه 667 118- مسألة: وزن أشياء 670 119- مسألة: علام ينتصب خبر "كان" وثاني مفعولي "ظننت"؟ 676 120- مسألة: القول في تقديم التمييز إذا كان العامل فعلا متصرفا 682 121- مسألة: القول في "ربَّ" اسم هو أو حرف 686

§1/1