الإمام محمد بن عبدالوهاب في مدينة الموصل (مطبوع ضمن بحوث ندوة دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الجزء الأول)

محمود شيت خطاب

الإمام محمد بن عبد الوهاب في مدينة الوصل

الإمام محمد بن عبد الوهاب في مدينة الوصل ... الإمام محمد بن عبد الوهاب في مدينة الموصل للواء الركن: محمود شيت خطاب عضو المجمع العلمي العراقي بسم الله الرحمن الرحيم - 1 - ذكر المؤرخ ياسين بن خير الله الخطيب العمري الموصلي1 في كتابه: (غرائب الأثر) 2 في حوادث سنة ثمان ومائتين وألف الهجرية، "أن الإمام محمد بن عبد الوهاب قدم الموصل، وقرأ العلم على العلامة مولانا ملا حمد الجميلي3 وأخذ عنه الكثير4". وقد ذكر هذا المؤرخ هذا الخبر في معرض الحديث عن وفاة الإمام دون أن يذكر سنة قدومه الموصل ولا مدة مكوثه فيها طالبا للعلم. ومن المعروف أن الإمام توفي سنة ست ومائتين وألف الهجرية لا سنة ثمان ومائتين وألف الهجرية، كما أورد المؤرخ العمري في كتابه: (غرائب الأثر) ، وقد يكون سبب هذا الخطأ هو تأخر وصول نعي الإمام إلى المؤرخ في الموصل؛ لصعوبة المواصلات البريدية في حينه، ولأن الأخبار تنقل بوسائط بدائية بالأشخاص المتنقلين سيرًا على الأقدام أو على الدّواب، كما أن البريد لم يكن منظما يؤمن انتقاله بسرعة ولا كان منتظما بين (نجد) حيث توفي الإمام (والموصل) حيث يقيم المؤلف العمري.

_ 1 ياسين العمري: انظر سيرته في: منهل الأولياء (1/308) ومنية الأدباء (11/28) وزبدة الآثار الجلية في الحوادث الأرضية (16-28) . 2 غرائب الأثر في حوادث ربع القرن الثالث عشر - نشر الدكتور صديق - الموصل 1359هـ. 3 انظر سيرته في شمامة العنبر (335-338) ومنهل الأولياء (1/271) والسيف المهند (مخطوط) والدر المكنون (مخطوط) . 4 غرائب الأثر 34.

-2 – والمؤرخ العمري كان معاصرًا للإمام، فقد ولد في الموصل سنة سبع وخمسين ومائة وألف الهجرية1 (1744م) ، وتوفي بعد سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وألف الهجرية2 (1816م) ، والإمام محمد بن عبد الوهاب ولد سنة خمس عشرة ومائة وألف الهجرية (1703م) ، وتوفي سنة ست ومائتين وألف الهجرية (1792م) 3، فهو شاهد عيان، لأخباره قيمة خاصة، وكان دقيقًا في تسجيل الأحداث الدائرة في مدينة الموصل 4، معنيًا بذلك أشد العناية، ومعروفًا بالصدق والاستقامة في تأريخه للحوادث، وليست له مصلحة مادية ولا معنوية تحمله على إقحام رحلة الإمام إلى الموصل، ودراسته على أحد شيوخها، فالمؤرخ العمري متصوف5 شديد التمسك بالصوفية والدفاع عنهم، يصف نفسه بأنه: "حسن الاعتقاد بالأولياء الكرام، والمشايخ العظام"6 بينما الإمام سلفي ملتزم أشد الالتزام بالسلفية والدفاع عنها، لا يرضى العمري عن مسلك الإمام السلفي7؛ لأنه يناقض مذهبه ومشربه. كما أن المؤرخ العمري كان معاصرًا للشيخ حمد الجميلي الذي توفي سنة سبعين ومائة وألف الهجرية 8 (1756م) ، وترجم له في كتابه المخطوط: (السيف المهند في من اسمه أحمد) مما يدل على أنه كان وثيق الصلة بالشيخ الجميلي، يعرف طلابه وشيوخه وأقرانه من علماء الدين، كما ترجم للشيخ الجميلي أيضا المؤرخ الموصلي محمد أمين بن خير الله

_ 1 منهل الأولياء (1/310) . 2 زبدة الآثار الجلية 22. 3 الأعلام (7/137) وتراجم الأعلام المعاصرين في العالم الإسلامي 493. 4 زبدة الآثار الجلية 20. 5 غاية المرام 373. 6 غرائب الأثر 25. 7 غرائب الأثر 35. 8 منهل الأولياء (1/271) .

الخطيب العمري، أخو المؤرخ ياسين العمري في كتابه: (منهل الأولياء1) ، وقرأ عليه2، مما يدل على أن الشيخ الجميلي وثيق الصلة بالأسرة العمّرية. والذين خبروا الحياة الاجتماعية في (الموصل) يعلمون أن الصلة في الأسرة العلمية طلابًا وشيوخًا، هي أقوى وأمتن من الصلة في الأسرة العائلية، فقرابة العلم في الموصل الحدباء أعمق جذورًا من قرابة النسب، والطالب بالنسبة لشيخه ولد متعلم، والشيخ بالنسبة لتلميذه والد ومعلم. وأهل الموصل مهما تعلو منزلة أحدهم جاها وثراءً ومكانةً وسلطانا يتواضع لأصحاب العمائم من علماء الدين أشد التواضع، ويحترمهم ويوقرهم ويحدب عليهم، وهم يقدمونهم ويسيرون وراءهم ولا يتقدمون عليهم، ويتنازلون لهم عن صدور مجالسهم تطوعا، وينصتون لأقوالهم وينفذون لهم رغباتهم، وقلما تجد موصليا أصيلا يجهل تفاصيل أخبار رجال الدين ونشاطهم العلمي وجهودهم في الدعوة إلى الله. لا عجب في أن يتناقل الطلاب أخبار شيوخهم شفاهًا وتسجيلاً، ويتناقل الشيوخ أخبار طلابهم حديثًا وتدوينًا، ويدون المؤرخ تلك الأخبار بأمانة وصدق. [أهمية هذا البحث] - 3 - ولا يقلل من أهمية رحلة الإمام محمد بن عبد الوهاب العلمية إلى الموصل وأثرها في تكوينه العلمي واتجاهه الفكري إغفال المصادر والمراجع التي ترجمت له وأرخت لدعوته. لهذه الرحلة العلمية إلى هذه المدينة العلمية، ولعل أهم أسباب إغفالها هو نشر كتاب: (غرائب الأثر) متأخرا في سنة (1359هـ-1640م) لمؤرخ غير متهم في صدقه وأمانته، وكان نشر هذا الكتاب بعد صدور معظم تلك المصادر والمراجع، وقد كان هذا الكتاب بعد صدوره مجهولا بالنسبة للذين كتبوا بعد إخراجه للناس والواقع أن كتاب (غرائب

_ 1منهل الأولياء ومشرب الأصفياء من سادات الموصل الحدباء (1/271-272) . 2منهل الأولياء (1/272) .

لأثر) مجهول بالنسبة لأكثر الباحثين العراقيين، فلا عتب على الباحثين من غير العراقيين عربًا وأجانب. وقد اقتصرت تلك المصادر والمراجع على ذكر رحلة الإمام إلى مدينة (البصرة) العراقية، ولم تتطرق إلى رحلاته العلمية الأخرى1، ولكن قسمًا منها ذكر رحلاته إلى أمصار إسلامية أخرى خارج (نجد) ، ومن تلك المراجع كتاب: (حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب) الذي صنعه حسين خلف الشيخ خزعل، فقد جاء فيه "أن رحلات الشيخ محمد بن عبد الوهاب امتدت إلى بغداد وكردستان وإيران وبلاد الترك والشام وبيت المقدس2. وهذا المؤلف وغيره يقصد بتعبير: (كردستان) ، هو ما نطلق عليه اليوم (شمالي العراق) ، وكان تعبير: (كردستان) يطلق على منطقة شمالي العراق قبل الحرب العالمية الأولى، فأصبح بعد تكوين العراق الحديث بحدوده الجغرافية يسمى بشمالي العراق. ويبدو أن مؤلف كتاب: (حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب) نقل المعلومات التي أوردها في كتابه مما دوّنه (مرجيلوث) في دائرة المعارف الإسلامية3، فهو الذي ذكر أن الإمام رحل إلى (كردستان) ، مع أن الناقل ألف كتابه وأخرجه للناس سنة 1968م! وبالإمكان استنباط زمان ومكان قضاء الإمام رحلته العلمية إلى شمالي العراق بالمقارنة بين ما جاء في المصادر والمراجع التي تحدثت عن رحلته إلى (كردستان) دون أن

_ 1 انظر سيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب لأمين سعيد (20) والأعلام للزركلي (7/137) ، ومحمد بن عبد الوهاب لمسعود الندوي. 2 انظر التفاصيل في كتاب: حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (65-68) , ومرجليوث في دائرة المعارف الإسلامية (4/1086-1089) , وبرجس (7) وبالغريف (4/363) , وهيوجس (659) , وزويمر (192) ذكر بعضهم أنه سافر إلى بغداد وبعضهم ذكر سفره إلى دمشق وبعضهم جمع بينهما. انظر الهامش: 4 من كتاب محمد بن عبد الوهاب.. لمسعود الندوي (40-41) . 3 دائرة المعارف الإسلامية (4/1086-1089) وهناك في إيران منطقة كردستان وفي تركيا أيضا.

تذكر البلد الذي استقر فيه. وما جاء في المصدر الجديد: (غرائب الأثر) ، ولعل في هذا الاستنباط ما يضيف جديدًا على سيرة الإمام. كانت رحلة الإمام إلى العراق سنة (1136هـ-1724م) ، فمكث في بغداد ثلاث سنوات، أي أنه كان في بغداد حتى سنة (1139هـ - 1727م) ، ثم رحل إلى شمالي العراق، فجابها بلدًا بلدًا، وقضى في هذه الجولة سنة واحدة1، فقد غادر (نجدا) سنة 1136 هـ. وفي شمالي العراق مراكز علمية مهمة وبخاصة في كركوك والسليمانية وأربيل والعمادية ودهوك وزاخو، ولكن أهم تلك المراكز دون شك ليس على نطاق شمالي العراق بل على نطاق العراق كله والبلاد العربية هو مركز الموصل العلمي، فالموصل هي حاضرة شمالي العراق وأكبر مدنه، وأكبر المدن العراقية بعد بغداد، وكانت تستقطب أبرز شيوخ شمالي العراق بخاصة وقسمًا من علماء البلاد الإسلامية بعامة، وكان يؤمها الطلاب والشيوخ لارتشاف العلم من مناهلها الثرة. "لأن فيها أربعا وأربعين مدرسة علمية"2 في أيام زيارة الإمام لها، عامرة بعلماء الدين الأعلام، غاصة بطلاب العلم الموصليين وغيرهم. ومن المعلوم أن رحلة الإمام العلمية إلى ربوع شمالي العراق لم تكن للاصطياف أو الاطلاع على المعالم السياحية، بل كانت جهادًا في سبيل العلم وحده، فليس من المستغرب أنه جاب المراكز العلمية في شمالي العراق، ولكنه قضى معظم عامه الدراسي في المركز العلمي الرئيسي؛ الموصل، وهو عام 1140هـ-1728م) . وهذا يعني أن الإمام دخل الموصل طالبًا وعمره يومئذ خمسة وعشرون عامًا؛ لأنه ولد سنة (1115هـ-1703م) ، وهو العمر الذي يكون فيه الطالب في أوج نشاطه الذهني لتلقي العلم والإقبال عليه والتأثر به وبالمحيط من الطلاب والشيوخ والأحداث.

_ 1 حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (65-66) وانظر كتاب: الموصل في العهد العثماني (414 وما بعدها) . 2 انظر التفاصيل في: مدارس الموصل في العهد العثماني - سعيد الديوه جي بغداد 1964م.

ولعل من أسباب إيثار الإمام للموصل على غيرها من المراكز العلمية في شمالي العراق هو: أن الموصل عربية بسكانها وتقاليدها ولغتها، وكانت عربية أصيلة قبل الفتح الإسلامي وأيام الفتح الإسلامي سنة ست عشرة الهجرية1 وبعد الفتح حتى اليوم، هذا بالإضافة إلى أنها أكبر مركز علمي في شمال العراق. أما سائر المراكز العلمية الأخرى في شمالي العراق فهي ليست عربية بسكانها ولغتها: كركوك تركية، والسليمانية وأربيل والعمادية ودهوك.. وزاخو كردية، ولكن العربية هي لغة العلم في المراكز العلمية كافة؛ لأن العربية هي لغة الكتاب العزيز. ولكن هل زار الإمام جميع المراكز العلمية في شمالي العراق؟ وكم قضى من وقت في كل مركز علمي زاره؟ ذلك ما يصعب الإجابة عليه ما دمنا ملتزمين بالنصوص التاريخية التي تحدثت عن رحلة الإمام العلمية في شمالي العراق، ولكنه يمكن الاستنتاج أنه قضى معظم عامه الدراسي هذا في الموصل الحدباء. [من شيوخ الإمام: الشيخ حمد الجميلي] - 4 - وكل طالب علم يتأثر بأستاذه الذي يعلمه، والطلبة الذين يتلقون العلم معه. والمحيط الذي يعيش فيه، والأحداث التي تكتنفه. وقد كان الشيخ حمد الجميلي الأستاذ الذي اختاره الإمام من شيوخ الموصل يقرأ عليه، فمن المفيد أن نتذكر شيئًا من سمات الشيخ الجميلي الشخصية والعلمية؛ لنعرف مبلغ تأثيره في تلميذه محمد بن عبد الوهاب الذي كان في ريعان الشباب. كان فقيهًا فاضلاً، جمع بين المعقول والمنقول، وزاحم الفحول، وتصدى للتدريس

_ 1 الطبري (4/35-36) وابن الأثير (2/523-524) .

فانتفع به الناس1، حاز من الحكمة خيرًا كثيرًا2، وكان أوحد عصره علمًا وأجلهم فهمًا3. وفي سنة (1169هـ-1755م) بنى الوزير محمد أمين باشا الجليلي جامع (الباشا) في مدينة الموصل من ماله ومال أبيه الحاج حسين باشا الجليلي4 فاختار الوزير الشيخ الجميلي ليكون أول مدرس في مدرسة جامعه5 وكان للجميلي الحظ الأوفر عند حكام الموصل وولاتها والقبول التام ومن ندماء أعيانهم من أخلص أصدقائهم، ليس بينه وبينهم حجاب6، وهذا يدل على أنه برز في علمه وتفوق على أقرانه من علماء الدين، فأصبح شيخ شيوخ مدينة الموصل. ويبدو أنه لم يتقرب لذوي السلطان في محاولة للتكسب، "أراه مع ما هو عليه من مدارسة العلم، له من كسب يده، والتمسك بعروة الأسباب أو في سهم لا يعتمد بعد الله إلا على معايش اخترع أسبابها، ومصايد للرزق ابتدع اكتسابها، وذلك لئلا يكون كلا على الناس" فعمل بزازًا وحماميًا7، أو عمل في الحرفتين معا في آن واحد. وهذا دليل على أن ذوي السلطان احتاجوا إليه فقربوه، ولم يتقرب إليهم؛ ولم يكن بحاجة إليهم؛ لأنه غني ماديًا بعمله، ومعنويًا بعلمه، وليس لديهم ما يطمع فيه. لقد قدمه عقله وعمله وحرصه على كرامة العلم والعلماء. والذين أرخوا لعلماء الدين في الموصل نصوا على المتصوفة منهم وذكروا لهم طريقتهم في التصوف، وأكثرهم نقشبندية أو قادرية، ولم ينصوا على أن الشيخ الجميلي كان متصوفا.

_ 1 منهل الأولياء (1/271-272) . 2 شمامة العبد (335) . 3 السيف المهند في من اسمه أحمد (مخطوط) . 4 جوامع الموصل (181) . 5 جوامع الموصل (185) . 6 منهل الأولياء (1/272) . 7 شمامة العنبر (335-336) .

ومن الواضح أن الشيخ الجميلي أثر في تلميذه محمد بن عبد الوهاب في رجاحة عقله، وغزارة علمه، وفي التزامه بالكتاب والسنة وكرامة العلم والعلماء باعتباره العلم عبادة من أجل العبادات لا تجارة من أربح التجارات. والشيخ الجميلي نسبة إلى (جميل) مصغرا1، وهو من أعراب البادية، ولكن ما استحضر من العلوم في خزانة محفوظته أجرتها على لسانه جري الماء المسجوم، كما قيل: فلو بدا لشيوخ الحضر قمن له ... مستقبليه وقلن الفضل للبادى2 ولعل من أسباب اختيار الطالب محمد بن عبد الوهاب الدراسة على الشيخ الجميلي بالإضافة إلى أن الشيخ عالم متين، هو أنه من أعراب البادية، والجنس للجنس يميل، وقد وافق شن طبقه، كما يقول المثل العربي المشهور. أما أثر أقران محمد بن عبد الوهاب فيه يوم كان طالبًا في الموصل فهو أثر كل طالب علم بأقرانه، فالحديث عنه حديث معاد. أما أثر أهل الموصل بالطلاب الذين يعكفون على الدراسات الدينية، فإن طالب العلم كما كانوا يطلقون على طلاب المدارس الدينية - كان موضع احترامهم العميق وحفاوتهم البالغة واهتمامهم الكبير، وكان أهل الموصل يرعون فقراء الطلاب حق الرعاية فتنهال عليهم العطايا والهدايا، ويدعون إلى الأفراح والولائم، فلا يشعر الغريب منهم بغربته، ولا الفقير بفقره، وكانت سكنى الغرباء في المدارس الدينية التي كانت تزودهم بالغذاء والكساء والغطاء بالإضافة إلى رعاية شيوخهم وأغنياء البلد وحكامها تلك الرعاية التي لا مثيل لها في المدن الأخرى إلا نادرا. [السلفية في الموصل] - 5 - وأراد الله سبحانه وتعالى أن يتيح للطالب الشاب وهو في الموصل أن يشهد أزمة

_ 1 منهل الأولياء (1/271) . 2 شمامة العنبر (335) والجميليون اليوم سكنوا الرمادى والفلوجه وبغداد وعانة وسامراء والموصل وغيرها من المدن العراقية، وتحضروا ولم يبقوا أعراب بادية كما كانوا قبل مائة وخمسين سنة خلت.

نبوءة النبي جرجيس عليه السلام1 الذي له مرقد معروف في الموصل يزار2، محاط بجامع كبير يطلق عليه (جامع النبي جرجيس) 3. فقد أنكر الشيخ أحمد بن الكوله4 نبوة النبي جرجيس، فأثار موجة عارمة من الإنكار والاحتجاج في الموصل أولا، ثم انتقلت إلى المدن المجاورة، فانبرى الشيخ علي بن الدباغ الحلبي الموقت في (حلب) 5 يرد عليه في كتاب أسماه: (إتحاف الأنام بأخبار سيدنا جرجيس عليه السلام) 6 ثم بعث بكتابه إلى الموصل مع قصيدة نظمها في النبي جرجيس عليه السلام7) ، ظهرت في بعض لسان الأعزة فلتة في حق سيدنا نبي الله جرجيس، فامتطت لها الأراجيف ظهور العيس إلى (حلب) ، فرد هذه الفلتة هذا (الموقت) بتأليف كتاب نفيس، يذكر في هذا الكتاب إثبات نبوة هذا النبي الكامل، ثم بعث مع الكتاب قصيدة في مدح نبي الله جرجيس8. وتصاعدت أزمة ابن الكولة تصاعدًا مخيفًا إلى أن بلغت ذروتها في الموصل، حيث تألب عليه المشايخ وأصحاب الطرق ومعه المريدون والأتباع، فشكوه إلى والي الموصل، وكان يومذاك الحاج حسين باشا الجليلي، فأرسل إليه يأمره بالتوقف عن هذا الإنكار9. وتختلف الروايات في حقيقة موقف الشيخ أحمد بن الكولة بعد ذلك، فمن قائل: (إنه

_ 1 انظر: قصة نبي الله جرجيس عليه السلام في: منهل الأولياء (2/23-32) . 2 انظر ما جاء عن المرقد في: منية الأدباء (94-96) . 3 جوامع الموصل (107-127) . 4 انظر سيرته في: السيف المهند في من اسمه أحمد (22 مخطوط) ومنهل الأولياء (1/284) والروض النضر (2/29-30) . 5 انظر سيرته في: شمامة العنبر (230) وسلك الدرر (3/233) وإعلام النبلاء (7/8-12) . 6 توجد نسخة منه في مكتبة داود الحلبي في الموصل بخط مؤلفها الذي فرغ من كتابتها سنة 1145هـ. 7 انظر: نص القصيدة في شمامة العنبر (232-236) في اثنين وتسعين بيتا. 8 شمامة العنبر (232) . 9 السيف المهند في من اسمه أحمد (22 مخطوط) .

تاب وأناب1) ، ومن قائل: (إنه أصر على موقفه) 2، ومن قائل: (إنه أطاع ظاهرًا وأنكر خفية) 3. ومهما يكن موقف ابن الكولة فليس ثمة دليل على أن هذه الدعوة السلفية قد خمدت، فقد استمر في حملته على المقامات والمشاهد وعلى من يتخذها وسيلة للتكسب4 إلى أن توفي سنة (1173هـ-1759م) 5. وحمل الراية بعد ابن الكولة ابنه الشيخ محمد الذي كان "شديد الإنكار على جميع الأولياء6 ". وبذلك انقسم الموصليون إلى فريقين: فريق محافظ متأثر بالطرق الصوفية، وفريق سلفي يدعو إلى نبذ تقديس الأولياء وإلى مقاومة الصوفية، وجمع كل فريق ما استطاع من حجج للدفاع عن آرائه. لقد كان هدف الدعوة السلفية مقاومة نفوذ المشايخ أصحاب الطرق الصوفية، ومقاومة تقديس مراقد الأولياء، وتنقية الدين من البدع بالعودة إلى التمسك بالكتاب والسنة، وكانت حركة ابن الكولة إحدى الفورات في الموصل من فورات الدعوة السلفية، سبقها فورات كثيرة وأعقبها فورات كثيرة، فالدعوة السلفية في الموصل قائمة في الماضي والحاضر وستبقى قائمة في المستقبل. ولقد شهدنا في أيامنا صراعًا عنيفًا بين دعاة السلفية من علماء الدين والمتصوفة والمقلدين، وكانت ولا تزال مؤلفات السلفية القدامى كالإمام ابن تيمية والجدد كالشيخ محمد رشيد رضا شائعة في الموصل، يقبل عليها الناس إقبالا شديدًا.

_ 1 السيف المهند في من اسمه أحمد (3 مخطوط) . 2 منهل الأولياء (1/285) . 3 الدر المكنون (585 مخطوط) . 4 الموصل في العهد العثماني (409) . 5 ابن الخياط -ترجمة الأولياء في الموصل الحدباء -المقدمة (13) . 6 غرائب الأثر (35) .

وقد شاءت الأقدار أن يعيش الطالب محمد بن عبد الوهاب في الموصل وسط المعركة الفكرية التي أثارها الشيخ أحمد بن الكولة، ولا ريب في أنه تأثر بها؛ للتشابه التام بين آرائه التي دعا إليها فيما بعد، وبين مبادئ سلفيي الموصل، الداعية إلى نبذ زيارة القبور وبناء القباب وتكبير العمائم وتوسيع ثياب علماء الدين، ووضع الأستار والعمائم والثياب على الأضرحة، والاستعانة بجاه أصحابها، والتمسك بالكتاب العزيز والسنة المطهرة1، فقد أكمل الله دينه وأتم نعمته على المؤمنين، وكل بدعة ضلالة، والضلالة وصاحبها في النار. - 6 - تلك لمحات سريعة غير متسرعة عن عام دراسي أو بعض عام لرحلة علمية إلى مدينة الموصل الحدباء من رحلات الإمام محمد بن عبد الوهاب العلمية إلى أمصار العالم الإسلامي في وقت كانت كل أمصار المسلمين مفتوحة الأبواب لكل مسلم يطلب العلم أو الرزق، لا تفصل بينها الحدود والسدود، لا تجتاز إلا بجواز سفر وسمة دخول تؤهله للاجتياز مدة معينة من الزمن، يعتبر فيها (أجنبيًا) تلاحقه الشرطة وتراقبه العيون، وقد أصبحت تلك الأمصار الإسلامية مفتوحة لغير المسلمين مقفلة بوجه المسلم، فيها المسلم من غير أهلها غريب اليد والوجه واللسان، لا يواسيه أحد ولا يعينه على تحمل أعباء الحياة. وقد كان طلاب العلم والعلماء قبل أن تقام الحدود والسدود بين ديار المسلمين يرحلون لطلب العلم والارتشاف من منابعه على زبدة العلماء الأعلام علمًا وعملاً وورعًا، فيحلون أهلاً وينزلون سهلاً. ويتسابق الناس للحفاوة بهم واستضافتهم وتزويدهم بالغذاء والكساء والغطاء والعطاء، فمتى يعود المسلمون إلى ما كانوا عليه؟ ومتى يصبحون كالجسد الواحد إخوة في الله!

_ 1 الموصل في العهد العثماني (414-415) .

لقد أقامت قوانين الأرض بين أمصار المسلمين الحدود والسدود، ومزقت الجسد الواحد الحي، فأصبح أعضاءً وأشلاءً متفرقة بلا حياة، وكانت مساجد المسلمين تخرج الدعاة، فأصبحت معاهد المسلمين تخرج الموظفين، وكان في كل مصر من أمصار المسلمين عدد عديد من العلماء الأعلام، فأصبحت تلك الأمصار تخلو من العلماء، وكان العلماء المسلمون يحكمون أصحاب السلطان، فأصبحوا اليوم يستخذون للحكام، وكان الأمراء على أبواب العلماء، فأصبح العلماء على أبواب الأمراء، وكانوا فقراء بالمال أغنياء بكرامة العلم والعلماء، فأصبحوا أغنياء بالمناصب والمرتبات فقراء بكرامة العلم والعلماء، وأقفلت المدارس الدينية، فخلت المساجد والجوامع من العلماء الدعاة الذين يرجون ما عند الله، وفتحت المدارس المدنية فعمرت بيوت الله بأصحاب الشهادات الموظفين الذين يرجون ما عند الناس، وأقفرت ديار المسلمين من الأئمة المرشدين إلا بقية تعدّ على الأصابع من علماء الدين المعتمدين الذين تعلموا في الجوامع، وأينعت ديار المسلمين بأصحاب الشهادات الموظفين الذين تخرجوا في الجامعات، وآثر خريجو المعاهد المدنية الذين تعلموا العلوم الدينية فيها منابر الجامعة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن منبر الجامعة الذي يشغله المسلم وغير المسلم أدسم من منبر الجامع الذي يشغله المسلم دون غيره، وهكذا غزر الإنتاج بكثرة الخريجين وساء التوزيع بقلة رجال الدين. لقد صنعت الحدود ووضعت السدود في ديار المسلمين تلك القوانين الوضعية، الذي جاء بها نابليون من فرنسا وربط خيوله في فناء الأزهر، وجاء بها المستعمر ليذل المسلمين ويفرق كلمتهم ويستعبدهم ويجعل منهم مسلمين جغرافيين. وسحقت المدارسَ الدينيةَ المبادئُ الوافدةٌ والتعليمُ الغربي المستورد، الذي يسلب المسلم عقيدته ويعمر قلبه بالاتجاه المادي، فيصبح كالحيوان يهمه المسكن المريح والطعام الفاخر والجنس، ولا يهتم بما بعد الحياة، والمرء كما يعيش في الدنيا يرحل إلى الآخرة، فلابد أن يكون لمصيره في الآخرة من تفكيره ونشاطه أوفى نصيب، والمبادئ الوافدة والتعليم الغربي تعمل للدنيا ولا تعمل للآخرة، والحضارات المادية ماتت إلى الأبد بعد موت دعاتها، والحضارات التي بقيت هي الحضارات التي جمعت بين المادة والروح، وقد أكثر الحكام المسلمون من حديثهم عن الإنجازات المادية، ونسوا المتطلبات الروحية، وستفنى

تلك الإنجازات - إن وجدت - ما لم ترتكز على أسس روحية مستمدة من تعاليم الدين الحنيف. يجب أن نتعلم من سيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب والأئمة الأعلام من علماء المسلمين مما يفيدنا في حاضرنا ومستقبلنا، فنعيد الحكم بشريعة الله ونتخلق بخلق القرآن، ونطبق حكم القرآن لغة وعقيدة وشريعة، ومثلاً عليا، ونتمسك بالكتاب العزيز والسنة المطهرة؛ لتزول الحدود والسدود، وتسود رسالة المسجد، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله. والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يهدينا حكاما ومحكومين إلى سواء السبيل.. وصلى الله على سيدنا ومولانا رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين.

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... المصادر والمراجع العربية ابن الأثير (عز الدين، أبو الحسن، علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، المعروف بابن الأثير) : 1) الكامل في التاريخ - بيروت - 1385 هـ. الجندي (أنور الجندي) : 2) تراجم الأعلام المعاصرين في العالم الإسلامي - القاهرة -. حسين خلف الشيخ خزعل: 1970م. 3) حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - بيروت - 1968م. الزركلي (خير الدين الزركلي) : 4) الأعلام - الطبعة الثانية - القاهرة – 1373/1378 هـ. الديوه جي (سعد الديوه جي) : 5) جوامع الموصل في مختلف العصور - بغداد - 1382 هـ. 6) مدارس الموصل في العهد العثماني - مستل من مجلة سومر - بغداد - 1964م. الطبري (أبو جعفر محمد بن جرير الطبري) : 7) تاريخ الرسل والملوك - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - القاهرة- 1960م. عماد عبد السلام رؤوف (الدكتور) : 8) الموصل في العهد العثماني - النجف - 1395هـ. العمّري (عصام الدين عثمان بن علي بن مراد العمّري) : 9) الروض النضر في ترجمة أدباء العصر - تحقيق الدكتور سليم النعيمي - بغداد- 1395هـ. العمري (محمد أمين بن خير الله العمّري) :

10) منهل الأولياء ومشرب الأصفياء من سادات الموصل الحدباء - تحقيق سعيد الديوه جي - الموصل - 1388هـ. العمّري (ياسين بن خير الله العمري) : 11) الدر المكنون في المآثر الماضية من القرون - مخطوط - توجد نسخة منه في المكتبة الوطنية في باريس تحت رقم (4449) . 12) زبدة الآثار الجلية في الحوادث الأرضية - تحقيق: عماد عبد السلام رؤوف (الدكتور) - النجف الأشرف\1974م. 13) غرائب الأثر في حوادث ربع القرن الرابع عشر - عني بطبعه ونشره الدكتور محمد صديق الجليلي - الموصل - 1359هـ. 14) السيف المهند في من اسمه أحمد - مخطوط - في مكتبة سعيد الديوه جي. 15) منية الأدباء في تاريخ الموصل الحدباء - تحقيق سعيد الديوه جي - الموصل – 1374هـ الغلامي (محمد بن مصطفى الغلامي) : 16) شمامة العنبر والزهر المعنبر - تحقيق الدكتور سليم النعيمي - بغداد - 1397هـ. المرادي (محمد خليل المرادي) : 17) سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر - القاهرة - 1291هـ. الندوي (مسعود الندوي) : 18) محمد بن عبد الوهاب - ترجمة وتعليق عبد العليم عبد العظيم البستوي - مراجعة وتقديم محمد تقي الدين الهلالي - الرياض - 1397هـ.

§1/1