الإمام المازري

حسن حسني عبد الوهاب

نوابغ المغرب العربي (1) حسن حسني عبد الوهاب الإمام المازري (*) منشورات لجنة البعث الثقافي الإفريقي ملتزم الطبع والتوزيع دار الكتب الشرقية - تونس. - عدد الأجزاء: 1. - عدد الصفحات: 99. أعده للمكتبة الشاملة / توفيق بن محمد القريشي، - غفر الله له ولوالديه -. [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]. ¬

_ (*) ترجمة حياته بمناسبة مرور ثمانمائة عام على وفاته يتقدمها بحث تاريخي عن تسلسل السند العلمي بإفريقية من لدن الفتح العربي إلى القرن الثامن للهجرة.

نوابغ المغرب العربي (1) حسن حسني عبد الوهاب الإمام المازري (*) منشورات لجنة البعث الثقافي الإفريقي ملتزم الطبع والتوزيع دار الكتب الشرقية - تونس. ¬

_ (*) ترجمة حياته بمناسبة مرور ثمانمائة عام على وفاته يتقدمها بحث تاريخي عن تسلسل السند العلمي بإفريقية من لدن الفتح العربي إلى القرن الثامن للهجرة.

الإهداء

الإهداء: إلى الحبيب الأديب، الوطني الصميم، من ملأ الله قلبه إيمانًا وإخلاصًا ووفاء، ورزقه من الأخلاق العالية ما أكثر محبيه والمعجبين بكمالاته محمد الهادي المدني أهدي هذا البحث، راجيًا أن يثير من عاطفته الكريمة ما يزيده تعلقًا بأولئك الأعلام الأفريقيين، قدوة القطر، وفخر المصر. عبد الوهاب.

كلمة للقارئ

كلمة للقارئ: صدور هذه الدراسة القيمة - أيها القارئ العزيز - هو بداية مشروع للنشر يتجه أولاً إلى خدمة الثقافة التونسية في نواحيها الشتى، في نشر مخطوطات تونسية تمثل الفكر التونسي، وفي بحوث مركزة حول موضوعات إفريقية، وفي التعريف الكاشف بـ «نوابغ المغرب العربي» وهذه الدراسة عن الإمام المازري، والسند العلمي التونسي هي الحلقة الأولى في هذه السلسلة التي سنوافيك بكل حلقة منها في أقرب وقت ممكن إن شاء الله. ويسرنا أن تكون الحلقة الأولى في هذه السلسلة دراسة مستفيضة عن شخصية إسلامية مجتهدة لعبت دورًا هامًا في تاريخ السند العلمي الإفريقي الذي أسهب المؤلف في الحديث عنه إسهابًا ممتعًا، كشف لنا فيه ناحية مجهولة وهامة، هذه الشخصية هي شخصية الإمام المازري - طَيَّبَ اللهُ ثَرَاهُ - .. ويسرنا أن تكون هذه الدراسة - وهي بداية عملنا

التونسي - بقلم باحث فاضل قصر حياته المثمرة الطويلة على خدمة تايخنا التونسي، والثقافة الإسلامية في هذه الربوع. ومن عسى أن يكون هذا الرجل إن لم يكن مؤرخنا التونسي المجدد، ومعيننا في هذا المشروع صاحب المعالي الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب الذي يدين له كثير من الباحثين في المغرب والمشرق بالإعانة والإرشاد. هذه كلمة تعريف - أيها القارئ الكريم - بعثنا بها إليك بمناسبة تحقيق الخطوة الأولى من خطوات متعددة، وسنلتقي دائمًا حين نعمل، لا حين نقول. 7/ 6 / 1955 م لجنة البعث الثقافي الإفريقي.

توطئة

توطئة: فيما بين المائة الثانية وأواسط المائة الخامسة من الهجرة كانت «إفريقية» - وهي البلاد التونسية اليوم - ترفل في حلل الرفاهية، وتحيط بها هالات المجد، فتفيض عليها البهاء والرواء. تعاقبت عليها أجيال من الخلائق والدول، باذلة لها ما في الوسع من جسام المساعي وجلائل الأعمال، فانتظم فيها مجتمع إفريقي ناهض ينظر إلى المستقبل بعين التفاؤل والاستبشار. وطدت تلك الأجيال والدول في إفريقية التونسي دعائم الحياة الاجتماعية السعيدة، فعملت على ترقية الفلاحة، وتنمية الصناعة، وتنشيط التجارة، وتعميم العلوم والآداب، وبذلك طار صيت البلاد في استكمالها أسباب الحضارة والتمدن وضرب بها المثل في ربوع العالمين. بينما تمضي إفريقية التونسية إلى أوج العزة والازدهار إذ رماها الزمن بداهية دهياء، زعزعت منها القواعد وردتها على الأعقاب، وأقامت فيها مأتمًا بعد عرس.

كانت تلك الكارثة التي حلت بالبلاد، ولم يكن لها بمثلها عهد منذ تاريخها الأقدم، أنها فقدت وحدتها السياسية وأضاعت سلطانها المركزي، فاختل توازنها، وانهارت حضارتها في أقل من عام. هجم على إفريقية التونسية بَنُو هِلاَلٍ وَبَنُو سُلَيْمٍ، ولا كهجوم التتر على بغداد - وذلك في سنة 449 هـ - (¬1) كأنهم السيل العرم يتدافع على البطاح، أو كأنهم الجراد المنتشر يحط على الحقول النامية، وما هي إلا أن هدمت القصور والأبنية، وخربت المسالك والميادين، وعاثت في عمران البلاد يد الدمار. وأصابت النكبة - أول ما أصابت - مدينة القيروان، أم القرى المغربية، وعاصمة الحضارة العربية، فأصحبت خاوية على عروشها، يهيم أهلوها على وجهوههم في أرجاء الأرض العريضة ما بين أصقاع المغرب والأندلس، إلى العراق، إلى ما وراء النهر. فارق العلم والأدب والفن ربوع القيروان، ومضى يلم شتاته، ويجمع بقاياه، ملتمسًا له ملاذًا في المهدية وسوسة وبعض القرى الساحلية الأخرى. ¬

_ (¬1) ضبط التاريخ: هدمت.

وكذلك انهوى ركن العلوم الشرعية الذي تواصل قيامه منذ الفتح العربي، وكاد يندثر لولا بقية صالحة من أولي العزم، حفظوا تعاليم الشريعة، واحتضنوا تراث الرواية، وصانوا سبيل التلقي عن الأسلاف، وبذلك سلم لهم السند العلمي، فعكفوا عليه يحوطونه وينفون عنه الزيف، حتى أسلموه إل الأخلاف؛ لكي يتابعوا نشره إعلاءً لكلمة الله!. في طليعة هؤلاء الأفذاذ البررة، ذلك الحبر الذي خصصنا ترجمته بتلك الأوراق، وهو (الإمام المَازَرِي) ... وكأن الأقدار ناطب به جمع ما تبدد من منهج السند العلمي القديم القويم، واستنقاذه من العبث الذي جَرَّ إليه الطغيان والجهالة والهمجية في تلك الحقبة من تاريخ إفريقية التونسية. ويحق لتاريخ العلم في هذا البلد الطيب أن يعد الإمام المازري العروة الوثقى بين الماضي الزاهر لتعاليم الحنيفية السمحة، وبين العصور الوسطى في تاريخ الإسلام. ولكي تتجلى مزية المازري في هذا الصدد نقدم بين يدي ترجمته إلمامة نتعرف بها كيف تواصل السند العلمي في الشريعة

نشأة العلم الإسلامي

منذ بزوغ نجمه إلى زمن إمامنا الفذ، وما وليه من العصور إلى قريب من يومنا المشهود. نَشْأَةُ العِلْمِ الإِسْلاَمِيِّ: ظهر علم الشريعة أول ما ظهر في إفريقية - وخاصة في القيروان - على يد الصحابة فالتابعين الوافدين على المغرب إبان الفتوح، عن هؤلاء وهؤلاء كان تسلسل السند، فتلقاه منهم ناشئة العرب المولدون، وأبناء الأفارقة والبربر ممن دخلوا في الإسلام، فما يكاد هذا النشء يحفظ القرآن حتى يروي عن أولئك الفاتحين ومن إليهم سنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي المنبع الثاني للشريعة، والأصل التالي للقرآن العظيم في استخلاص أحكام الدين. وقبل أن نسرد لك أشهر من حملوا العلم، وَرَوَوْا الحديث في إفريقية، وهم الذين يتسق بهم السند العلمي الإفريقي، نستهل البحث بذكر بعض من وفدوا على البلاد وأقاموا بها بعد الفتوح. وقد روى عنهم الحديث والآثار رجال من التابعين

البعثة الدينية

الأولين الذين اتخذوا تلك البلاد وطنًا لهم، بعد أن مهدت بها سبل الاقامة بتأسيس مدينة القيروان وغيرها من المدائن العربية. البِعْثَةُ الدِّينِيَّةُ: كان في مقدمة هؤلاء «العشرة التابعون» الذين عينهم الخليفة عمر بن عبد العزيز سنة مائة من الهجرة، لتفقيه الأفارقة في الدين، وإرشادهم إلى هديه، وإشرابهم مُثُلَهُ العُلْيَا، ونحن نخص بالذكر منهم: - إسماعيل بن أبي المهاجر المخزومي، عامل عمر بن عبد العزيز على المغرب "ورأس البعثة الدينية، فقيه صالح، يروي عن عبد الله بن عمر، وفُضالة بن عبيد، وروى عنه الأوزاعي بالشرق، وعبد الرحمن بن زياد وغيره بالقيروان، وعلى يده أسلم العدد الغالب من البربر، وكان على إسلامهم حريصًا، مات بالقيروان سنة 133 هـ. - عبد الله بن يزيد المعافري المعروف بِالحُبُلِيِّ، يروي عن جماعة من الصحابة، منهم: أبو أيوب الأنصاري، وعبد الله بن

عمرو بن العاص، وعقبة بن عامر الجُهَنِيِّ، وغيرهم، شهد فتح الأندلس مع موسى بن نصير، ثم استوطن القيروان، واختط بها دَارًا ومسجدا وَكُتَّابًا في ناحية باب تونس، وانتفع به جماعة من الأفارقة، وبث فيهم علمًا كثيرًا، مات سنة 100 هـ وقبره بالقيروان معروف. - عبد الرحمن بن رافع التنوخي، من فضلاء التابعين، يروي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعن جماعة من الصحابة، وعنه يروي عبد الرحمن بن زياد وغيره، وهو أول من تولى القضاء بالقيروان بعد بنائها، وَلاَّهُ إياه الأمير موسى بن نصير سنة 80 هـ وكان عدلاً في أحكامه، وهو الذي يروي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ العَاصِ: (*) " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِمَجْلِسَيْنِ فِي مَسْجِدٍ: أَحَدُ الْمَجْلِسَيْنِ يدْعُونَ اللَّهَ وَيَرْغَبُونَ إِلَيْهِ، وَالْآخَرُ يَتَعَلَّمُونَ الْفِقْهَ وَيُعَلِّمُونَهُ، فَقَالَ: «كِلاَ الْمَجْلِسَيْنِ عَلَى خَيْرٍ، وَأَحَدُهُمَا أَفْضَلُ مِنْ صَاحِبِهِ، أَمَا هَؤُلاَءِ فَيَدْعَوْنَ اللهَ وَيَرْغَبُونَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا هَؤُلاَءِ فَيَتَعَلَّمُونَ الْفِقْهَ، وَيُعَلَّمُونَ الْجَاهِلَ، فَهُمْ أَفْضَلُ وَإِنَّمَا بُعِثْتُ ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) انظر " سنن الدارمي "، تحقيق حسين سليم أسد الداراني، 1/ 365، حديث رقم 361، الطبعة: الأولى: 1412 هـ - 2000 م، دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية.

مُعَلِّمًا، فَجَلَسَ مَعَهُمْ». أخرجه الترمذي (*) عن عبد الله بن عمرو؛ وتوفى ابن رافع بالقيروان سنة 113 هـ. - ومنهم إسماعيل بن عبيد الأنصاري، كان من العلماء الفضلاء، يروي عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم، ويروي عنه من أهل إفريقية بكر بن سوادة الجذامي، وعبد الرحمن بن زياد وسواهما، ومن مواليه عبد الملك بن أبي كريمة الآتي ذكره، وانتفع به خلق كثير من الأفارقة، وهو الذي بنى المسجد الكبير المعروف " بمسجد الزيتونة " في القيروان، كما أنشأ بها سوقًا للتجارة غربي مسجده، كانت تسمي " سوق إسماعيل "، وقد خرج مجاهدًا على سبيل التطوع في إحدى غزوات صقلية، ففرق في البحر سنة 107 هـ. وما من واحد من بقية " العشرة التابعين " إلاكان يروي الحديث عن الصحابة، ويتقن التفسير والفقه، وإلا اتخذ دارًا لسكناه، ومسجدًا لصلاته، وكتابًا لتعليم الناشئة، وقد تفقه ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) لم أجده في " سنن الترمذي ". انظر " المدخل إلى السنن الكبرى "، للبيهقي، تحقيق الدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي، ص 306، حديث رقم 462، نشر دار الخلفاء للكتاب الإسلامي - الكويت

التابعون الداخلون إفريقية والرواية عنهم

على أيديهم جمع كبير، هم المربون الأولون لأبناء البلاد، وهم الذين لقنوهم علوم الشريعة. التَّابِعُونَ الدَّاخِلُونَ إِفْرِيقِيَّةَ وَالرِّوَايَةُ عَنْهُمْ: ومن التابعين الذين دخلوا إفريقية كثرت عنهم الرواية: - يحي بن سعيد بن فهد الأنصاري، وجده فهد من الصحابة، وكانت ابنته خولة زوج حمزة بن عبد المطلب عم النبيء - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولد يحيى بالمدينة، وروى الحديث عن جماعة من الصحابة، منهم: أنس بن مالك، ومعاذ، والسائب بن زيد، وعمرة بنت عبد الرحمن، وقد روى عنه أغلب أيمة الاجتهاد، مثل أبي حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، والزهري، والاوزاعي، وغيرهم، وكان يحيى فقيهًا مُحَدِّثًا ثقة مأمونًا، قيل إن جملة ما كان يحمله من الحديث: ثلاثمائة يسندها إلى وجوه من الصحابة والصحابيات، ودخل يحيى إفريقية على رأس القرن الثاني للهجرة أرسله إليها الخليفة عمر بن عبد العزيز عاملاً على الصدقات خاصة، ونزل يحيى مدينة تونس، وجالس بها خالد

مشاركة الإفريقيين في العلم

ابن أبي عمران التُّجِيبِي، وأخذ كل منهما عن صاحبه كما سمع منه خلق كثير من أبناء تونس والقيروان، ومما هو جدير بالملاحظة أن رواية الأفارقة للحديث كانت أكثر ما كانت بطريق المدنيين وسندهم، ويلوح لي أن ذلك هو السبب الأصيل في ميل الأفارقة من بعد إلى الأخذ بآراء أهل المدينة في الفقه، وإيثار الكثير منهم لمذهب مالك بن أنس وصحبه وقد قال الإمام الشافعي: «إذَا جَاوَزَ الحَديثُ الحَرَمَيْنِ (المَدِينَةِ وَمَكَّةَ) فَقَدْ ضَعُفَ نُخَاعُهُ» (¬1). ومهما يكن من أمر فقد سار يحيى في إفريقية سيرة الأخيار البررة الساعين لنشر تعاليم الملة السمحة، السالكين سبيل العفة والنزاهة في القول والعمل، وأقام يحيى في تونس نحو عشرين سنة بث في أثنائها علمًا كثيرًا، وأخلاقا مرضية، وتوفي سنة 143هـ (720 م). مُشَارَكَةُ الإِفْرِيقِيِّينَ فِي العِلْمِ: وبين الرعيل الأول من الأفارقة الذين حملوا العلم الاسلامي: ¬

_ (¬1) كتاب " آداب الشافعي ومناقبه "، طبع القاهرة 1372 هـ، ص 200.

- خالد بن أبي عمران التجيبي، وهو تابعي ابن تابعي، كان أبوه ممن صحب قديمًا عبد الله بن سلام الصحابي، ثم قدم مع جيش حسان بن النعمان سنة 74 هـ. واستقر في مدينة تونس، وولد له خالد، فقرأ على أبيه وعلى غيره من حفظة القرآن ورواة الحديث، ثم رحل إلى المشرق وسمع من أعلامه، وروى عنه غير واحد من كبار الأيمة، مثل الليث بن سعد، وعبد الله بن لهيعه وغيرهما، وروى له مسلم في " صحيحه "، وكذا أبو داود والترمذي والنسائي، كما روى له مالك بن أنس في " الموطأ " بسند يحيى بن سعيد الأنصاري، وعاد خالد إلى إفريقية مُزَوَّدًا برواية زاخرة نقيًا عنه جماعة من أبناء البلاد، مثل عبد الملك بن أبي كر يمة، وعبد الرحمن بن زياد وسواهما، وتولى خالد قضاء إفريقية في ولاية عبد الله بن الحبحاب، وتوفي سنة 123هـ، وقد ترك ديوانًا كبيرًا في الحديث فيه مروياته عن تابعي المدينة. - عبد الرحمن بن زياد بن أنعم المعافري، كان أبوه من وجوه التابعين، وقد ولد له عبد الرحمن سنة 74 هـ وجند حسان بن النعمان في دخوله إلى إفريقية. روى جانبًا كبيرًا من الحديث

على من كان في زمانه من التابعين المقيمين في إفريقية مثل خالد بن أبي عمران، وروى على الفقهاء الذين أرسلهم الخليفة عمر بن عبد العزيز مدة خلافته؛ لتفقيه أبناء المغرب، ثم رحل في طلب العلم إلى المشرق: مصر والشام والحجاز والعراق وصحب أبا جعفر المنصور العباسي قبل أن يلي الخلافة في مزاولة العلم بالكوفة، ورجع إلى القيروان وتولى القضاء بها مرتين، وأخذ عنه خلق لا يحصون من أبناء بلده وتوفي سنة 161هـ. - علي بن زياد التونسي من أبناء مدينة تونس قرأ بها على خالد بن أبي عمران وغيره، وبالمشرق عن سفيان الثوري والليث بن سعد وابن لهيعة وغيرهم، وهو أول من أدخل "موطأ " مالك بن أنس و" جامع " سفيان الثوري الى المغرب " وروايته لـ " الموطأ " (*) مشهورة بين " الموطآت " يوجد منها قطعة صالحة في مكتبة القيروان العتيقة، وممن أخذ عنه من الأفارقة: أسد بن الفرات وسحنون "وقد قال سحنون في شأنه: «كَانَ أَهْلُ العِلْمِ بِالقَيْرَوَانِ إِذَا اِخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ كَتَبُوا بِهَا إِلَى عَلِيٍّ بْنِ زِيَادٍ، لِيُخْبِرُهُمْ مَنْ عَلَى صَوَابٍ فِيهَا»، وتوفي ابن زياد سنة 183هـ وقبره في حضرة ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) قطعة من الكتاب المطبوع، " الموطأ " برواية علي بن زياد، بتحقيق الشيخ محمد الشاذلي النيفر - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، الطبعة: محرم 1399 هـ / ديسمبر 1978 م، الدار التونسية للنشر. (عدد الصفحات: 107) , كما طبع في دار الغرب الإسلامي. بيروت - لبنان.

تتابع الطبقات

تونس معروف في أعلى الشارع الذي يحمله اسمه في ناحية القصبة. تَتَابُعُ الطَّبَقَاتِ: ثم تبتدئ طبقة ثانية يوافق ظهورها قيام الدولة الأغلبية في البلاد، ويمتاز رجال هذه الطبقة بالعكوف على أقوال الأئمة المجتهدين في التشريع يجمعون شتاتها، ويؤلفون بين موضوعاتها وَيُبَوِّبُونَ مَسَائِلَ الفِقْهِ وَيُنَسِّقُونَ أَحْكَامَهَا، وبعد أن وقفوا على تفسير القرآن وعرفوا رواية الحديث والسنن، وفي طليعة هذه الطبقة: - أسد بن الفرات بن سنان من أبناء جند خراسان، قدم به أبوه صغيرًا - ابن عامين - مع جيش محمد بن الأشعث الداخل إلى إفريقية سنة 144 هـ، فأقام بتونس، ثم توجه إلى الحجاز، وأخذ عن مالك بن أنس، ثم انحدر إلى الكوفة وبغداد، فقرأ على أصحاب أبي حنيفة النعمان، ولا سيما محمد بن الحسن الشيباني، وفيما هو عائد إلى بلده عَرَّجَ على مصر، فأخذ

عن عبد الرحمن بن القاسم، وعبد الله بن وهب وغيرهما، واعتمد على ابن القاسم في إنشاء مدونته المعروفة بـ " الأسدية "، وقد تلقى عنه أبناء إفريقية، مثل سحنون، وسليمان بن عمران وسواهما، ويمكن أن نعد أسد بن الفرات أول مؤسس للمدرسة الفقهية القيروانية، بيد أن هذه المدرسة لم تكن تنتسب إلى مذهب معين، بل كانت تروي أقوال كبار المجتهدين مع إيضاح ما بينها من فروق، وإنما كان ذلك؛ لأن المَذَاهِبَ السُّنِّيَّةِ لم تكن قد تعينت بعد، واستقل كل منها بنفسه، فان ذلك لم يتسق إلا في القرن الثالث للهجرة، وعلى أية حال فقد كان أسد بن الفرات يُقْرِئُ بالقيروان آراء مذهب أهل المدينة، ومذهب أهل العراق بالسوية، حينما أخذت كل طائفة تنحاز إلى مذهب بعينه. قال المالكي: «وَالمَشْهُورُ عَنْ أَسَدٍ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - أَنَّهُ كَانَ يَلْتَزِمُ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَأهْلِ العِرَاقِ مَا وَافَقَ الحَقَّ عِنْدَهُ، وَيَحِقُّ لَهُ ذَلِكَ لاسْتِبْحَارِهِ فِي العُلُومِ وَبَحْثِهِ

كيف دخلت الحنفية إفريقية؟

عَنْهَا، وَكَثْرَةِ مَنْ لَقِيَ مِنَ العُلَمَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ» (¬1) وقال معاصره أبو سنان زيد بن سنان الأزدي: «وَكَانَ أَسَدُ إِذَا سَرَدَ قَوْلَ العِرَاقِيِّينَ يَقُولُ لَهُ مَشَايِخٌ كَانُوا يُجَالِسُونَهُ مِمَّنْ يَذْهَبُ إِلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ المَدِينَةِ: " أَوْقِدْ لَنَا القِنْدِيلَ الثَّانِي يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ " فَيَسْرُدُ أَقْوَالَ المَدَنِيِّينَ». ويجدر بنا هنا أن نلفت النظر إلى أن أشياع أهل العراق - أبي حنيفة وأصحابه - كانوا أوفر عددًا يومئذٍ من الذين يتابعون أهل الحجاز - مالك وأصحاب السنن - وما ذلك إلا لأن الأمراء من بني الأغلب رجال دولتهم كانوا يقلدون ساداتهم خلفاء بني العباس. وقد تولى أسد قضاء إفريقية لزيادة الله بن الأغلب، ثم خرج مجاهدًا إلى صقلية زعيمًا للجيش العربي، فاستشهد في فتحها سنة 213 هـ. كَيْفَ دَخَلَتْ الحَنَفِيَّةُ إِفْرِيقِيَّةَ؟: حكى المقدسي في " رحلته " - وقد زار المغرب آخر القرن ¬

_ (¬1) ج 1 ص 181 من " رياض النفوس "، طبعة مصر 1951 م.

الرابع للهجرة - رواية أخرى عن أخذ أسد بن الفرات لآراء أهل العراق، قال: «وَسَأَلْتُ علماء القيروان كيف وقع مذهب أبي حنيفة إليكم، ولم يكن على سابلتكم؟ - فقالوا: لما قدم عبد الله بن وهب من عند مالك - رَحِمَهُ اللهُ - من المدينة إلى مصر، وقد حاز من الفقه والعلوم ما حاز، فاستنكف أسد بن الفرات أن يدرس عليه لجلالته وكبر نفسه، فرحل أسد إلى المدينة ليدرس على مالك، فوجده عليلاً، فلما طال مقامه عنده قال له مالك: " ارجع إلى ابن وهب فقد أودعته علمي، وكفيتكم به الرحلة، فصعب ذلك على أسد وسأل القوم: هل يعرف لمالك نظير؟ - فقيل له: فتى في الكوفة يقال له محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، فرحل أسد إليه، وأقبل عليه محمد بن الحسن إقبالاً لم يقبله على أحد، ورأى فهمًا وحرصًا، فزقه الفقه زقًا فلما علم محمد أنه قد استقل، وبلغ مراده فيه سيبه إلى المغرب، فلما دخل اختلف إليه فتيان القيروان، ورأوا فروعًا حَيَّرَتْهُمْ وَدَقَائِقَ أَعْجَبَتْهُمْ، وَمَسَائِلَ مَا طَنَّتْ عَلَى أُذُنِ ابْنِ وَهْبٍ، وَتَخَرَّجَ

على أسد الخلق، "وفشا مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ - بالمغرب» (¬1). ويبدو أن الحقيقة تجانب ما روى القدسي، فإن أسد بن الفرات لم يكن أول من أظهر آراء أهل العراق - أبي حنيفة وصحبه - بإفريقية، بل سبقه إلى ذلك بنصف قرن فقيه مُحَدِّثٌ جَلِيلُ القَدْرِ، هُوَ: - عبد الله بن عمر بن فروخ، أبو محمد الفارسي، أصله من خراسان، وقدم أبوه إفريقية فولد له بها ابنه عبد الله سنة 115 هـ، وقرأ على محدثيها، ثم قصد الشرق واتصل في العراق بالأعمش (سليمان بن مهران) التابعي، وحمل عنه كثيرًا من الحديث، ثم اجتمع في الكوفة بالإمام أبي حنيفة النعمان وصحبه مدة طويلة، وكتب عنه مسائل كثيرة، يقال إنها عشرة آلاف مسألة، وكان ابن فروخ يميل إلى مذهب النظر والاستدلال، فغلب عليه القياس على طريقة أهل العراق فيما يتبين له أنه الصواب، ويروى أنه ناظر يومًا زُفَرَ في مجلس أبي حنيفة، فازدراه زُفَرُ لهيئته الإفريقية ولباسه المغربي، فلم يزل يناظره ¬

_ (¬1) " أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم "، للمقدسي طبعة ليدن سنة 1877 م.

حتى علا ابن فروخ عليه، وقطعه بالحجة والدليل، فأنكر أبو حنيفة على زفر ازدارءه بابن فروخ وعاتبه، ثم تحول ابن فروخ من العراق إلى الحجاز، ولقي الإمام مالك بن أنس، وسمع منه وتفقه عليه، وكتب عنه مسائل كثيرة معروفة، ثم عاد آخرًا إلى بلده القيروان، وانتدب لتعليم الناس، وانتفع به خلق كثير من أبناء البلاد، فعن فروخ، وعن تلاميذه انتشرت آراء أهل العراق في إفريقية، وكان هو أول من أظهرها بها. وكانت وفاته سنة 172 هـ. من ذلك الحين انتشرت أقوال الإمام أبي حنيفة وأصحابه في إفريقية أيما انتشار، ولبثت تزدهر من أواخر القرن الثاني إلى أواسط القرن الرابع. وقد نَبَّهَ المقدسي في " رحلته "إلى الوفاق بين الحنفيين والمالكيين بقوله: « ... وَمَا رَأَّيْتُ فَرِيقَيْنِ أَحَسَنَ اِتِّفَاقًا وَأَقَلَّ تَعَصُّبًا مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ القَيْرَوَانِ، وَسَمِعْتُهُمْ يَحْكُونَ عَنْ قُدَمَائِهِمْ فِي ذَلِكَ حِكَايَاتٍ عَجِيبَةٍ حَتَّى قَالُوا: إِنَّهُ كَانَ [الحَاكِمُ] أَي القَاضي - سَنَةً حَنَفِيًّا، وَسَنَةً مَالِكِيًّا»

المدرسة المالكية

وقد حدث مثل ذلك بالفعل في مدة بني الأغلب، فلما سقطت دولتهم، وقامت الدولة الفاطمية الشيعية النحلة تضاءل عدد المستمسكين بالمذهب الحنفي حتى انقطع تمامًا في آخر عهد المعز لدين الله قبل انتقاله إلى ملك مصر سنة 361 هـ. ولم يبق بإفريقية من أهل السنة غير المالكيين، أو بعض المقلدين لمذهب الإمام الشافعي. وقد وفقني الله تعالى إلى جمع شطر جليل من تراجم علماء الحنفية الأفارقة، فخصصتهم ببحث مستقل عَرَّفْتُ فيه بهم، وجلوت سيرتهم ومآثرهم، وسينشر فيما بعد إن شاء الله. المَدْرَسَةُ المَالِكِيَّةُ: - سحنون بن سعيد التنوخي، من أبناء الجند العربي، ولد في القيروان سنة 160 هـ، وأخذ في إفريقية عن علي بن زياد، وأسد بن الفرات وغيرهما، ورحل إلى الحجاز، ولم يدرك مالكًا، ورجع إلى مصر فسمع من عبد الرحمن بن قاسم، وعليه غالب اعتماده، وأخذ عن غيره من كبار تلاميذ مالك،

وعلي بن القاسم راجع " مدونة " شيخه أسد بن الفرات وقد ظهر لابن القاسم العدول عن بعض آرائه الأولى واتخاذ آراء غيرها، وعاد سحنون إلى بلاده، وأراد أن يحمل أَسَدًا على إصلاح " الأسدية " على ما تلقاه من ابن القاسم، فلم يوافقه أسد. واستمر سحنون بما أوتي من براعة ومقدرة يبث فقه أهل المدينة خاصة - مالك وأصحابه - ولا سيما بعد استشهاد أسد بن الفرات في صقلية، وَلِذَا عُدَّ سحنون أول من أظهر الفقه المدني ورجحه، وأرسخ كلمته في إفريقية والمغرب، وقد امتاز سحنون بخصال نادرة، منها: جمعه بين الاستقامة التامة والدين، ورجحان العقل والعفة، مع استقلال الفكر وقوة الشكيمة؛ وتوارد عليه عدد لا يحصى من المتعلمين من أنحاء المغرب، ولا سيما الأندلس، وصارت حلقة تدريسه أكبر حلقة عرفت لأستاذ، قيل إنه كان يجلس فيها أربعمائة طالب علم؛ ولما ناله سحنون من الشهرة والصيت البعيد أولاه الأمير الأغلبي قضاء إفريقية سنة 234هـ فأظهر مقدرة منقطعة النظير في تنظيم مهمة القضاء، بل إنه وضع الكثير من أصول المؤسسات الشرعية في

إفريقية، مثل دستور «أحكام السوق» وهي وظيفة الحسبة، ونظإم قضاة الآفاق، وكشف الشهود، وسنن التعليم الابتدائي، وتعيين أيمة المساجد إلى غير ذلك من الأوضاع التي جرى بها العمل مئات السنين، وما زال بعضها سنة متبعة إلى يوم الناس هذا. وفي مدة قضائه اجتهد سحنون في تعطيل الدروس التي كان يلقيها أصحاب الأهواء، والنحل الخارجة عن السنة في الجامع الكبير، مسجد عقبة بالقيروان، مثل الصُّفْرِيَّةِ، وَالمُرْجِئَةِ، وَالمُشَبِّهَةِ، وَالمُعْتَزِلَةِ وغيرهم، حتى ألزمهم إخلاء الجامع من حلقهم، ولم تعد إليه بعد. وقصارى القول أن سحنون بن سعيد يعد بحق المؤسس الأول لمدرسة الفقه المالكي في إفريقية، بل في المغرب عامة كما كان الأسوة الحسنة لمن جاء بعده من علماء السنة في دراسة العلوم الفقهية، وشرح أصول السنة، وتوفي سنة 240 هـ. وتمتاز الطبقة التي تلي هذه بتفسير أقوال من تقدمهم وإيضاح آرائهم، وتطبيق الفروع على الأصول، وفي طليعتها:

محمد بن سحنون، أخرجه والده متخلقًا بالكثير من هديه وخصاله، وجلس يدرس أقوال أبيه. وعني بالتأليف فوضع أكثر من مائتي جُزْءٍ في فنون العلم، ولا سيما شرح المجمل من " مدونة " أبيه، ومن كتبه " آداب المعلمين " الذي بين أيدينا، وهو أول من فتح هذا الباب، وتوفي سنة 256 هـ. محمد بن عبدوس، تلميذ سحنون، وأحد البارزين من صحبه، كان بارعًا في الفقه المالكي، قوي الاستنباط، هو رابع المحمدين الذين اجتمعوا في عصر واحد من أيمة مذهب مالك، والثلاثة هم: محمد بن سحنون، وهو قيرواني مثله، ومحمد بن عبد الحكم، ومحمد بن المواز، وكلاهما مصري، وعن محمد بن عبدون أخذ جماعة لا يحصون من أبناء إفريقية والأندلس، وألف كُتُبًا كثيرة منها كتاب " التفاسير " فَسَّرَ فيه أصول الفقه وشرح مسائل " المدونة " وغيرها، وتوفي سنة 260 هـ. - يحيى بن عمر الكناني، ولد بالأندلس، ثم استوطن إفريقية بعد أن جال في عواصم الشرق، وروى عن كبار علمائه، واستقر أخيرًا في مدينة سوسة، وأكثر اعتماده على شيخه

سحنون، وتفقه به خلق كثير، منهم: ابن اللباد، وأبو العرب التميمي، وأبو العباس الأبياني، وصنف نحو أربعين مؤلفًا في الحديث والفقه، والرد على أهل البدع، وفي فضائل المرابطة، ومنها كتاب فريد في بابه، وهو " أحكام السوق " (¬1) أبان فيه نظام المدائن في الإسلام، ومهمة الحسبة، وهو - فيما عرفنا - أقدم من ضبط أصولها وأحكامها، وتوفي في سوسة سنة 289 هـ، ومكان قبره بها مشهور. ثم كانت بإفريقية طبقة أخرى من حملة علوم الشريعة على مذهب مالك، وقد شهدت هذه الطبقة سقوط الدولة الأغلبية - سنة 296 هـ - وقيام الدولة الفاطمية الشيعية مكانها، وقد حاول ملوك العبيديين القضاء على مذهب أهل السنة، وتسويد النحلة الشيعية، وقاسى علماء القيروان من جراء ذلك ألوان الاضطهاد والمناواة، فأخفت صوتهم، ومنع نشر تعاليمهم مدة ستين عَامًا أو أكثر، كما لقي القائمون بالدعوة الشيعية من مقاومة علماء ¬

_ (¬1) لدينا منه نسخة كاملة حققناها وشرحناها، وعلقنا عليها بما يناسب، ونزمع نشرها في القريب، إن شاء الله تعالى.

السنة، واستنكار الأمة الإفريقية ما أدى إلى وقوع أحداث دموية عنيفة في شوارع القيروان، وكان ذلك من أكبر أسباب يأس الفاطميين من نجاح دعوتهم في البلاد، وتمكينها من معتقد الأفارقة، حتى اضطر العبيديون إلى نقل عاصمتهم من القيروان إلى المهدية بعض حين، ثُمَّ وَلَّوْا وُجُوهَهُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ، ساعين إلى امتلاك مصر، حتى استولوا عليها وسكنوها - سنة 362 هـ - وكان على رأس المقاومين للشيعة في نشر دعوتهم بين الأفارقة: - أبو عثمان سعيد بن الحداد الغساني، تلميذ سحنون وغيره عني منذ صغره بعلم الكلام والجدل، والقول بالنظر والحجة، وكان مفرط الذكاء وقاد القريحة مُتَفَنِّنًا في سائر العلوم، لا يخلد إلى مذهب من المذاهب، بل كان يذم التقليد ويقول: «هُوَ مِنْ نَقْصِ العُقُولِ، وَتَقَاعُسِ الهِمَمِ»، وهو أكبر مناضل عن السُّنَّةِ أنبتته التربة الإفريقية، وله مواقف حاسمة مع دعاة الشيعة في " رَقَّادَةَ " منذ بزغت دولتهم، وقد سجل لنا التاريخ بعض مجالس الجدل بينه وبين الشيعيين، حتى شبهه معاصروه بأحمد بن حنبل

تفرد المالكية بإفريقية

أيام المحنة بخلق القرآن، وتوفي سعيد سنة 302 هـ. - أبوبكر محمد بن اللباد، وجده الأعلى أحد موالي موسى بن نصير، أخذ عن تلاميذ سحنون كيحيى بن عمر، وسعيد الحداد وغيرهما، وبرع في الفقه إلى أن حاز رياسة المالكية في إفريقية، ولذا امتحنه دعاة الشيعة ومنعوه من إلقاء دروسه بالمسجد الجامع، ثم سجن مع المجرمين في المهدية، ثم أطلق وألزم الاعتكاف في بيته، فكان تلاميذه - ومنهم عبد الله بن أبي زيد - يقصدونه خفية، ويجعلون كتبهم في أوساطهم حتى تبتل بالعرق، وداوم على الإقراء، وقد استفاد منه جيل كامل حافظوا على سند الشيوخ المتوارث، وتوفي سنة 333 هـ. تَفَرُّدُ المَالِكِيَّةُ بِإِفْرِيقِيَّةَ: ثم كانت طبقة أخرى شهدت جلاء الشيعة إلى مصر، وقيام الأمراء من بني زيري الصنهاجيين مكان بني عبيد الله الفاطميين، وقد خفت وطأة التضييق على المالكية إذ أصبح جمعهم بمأمن من المقاومة والتنكيل، وفي ذلك الحين نبغ فقهاء أعلام، في مقدمتهم:

- عبد الله بن أبي زيد القيرواني، أبو محمد، تلميذ ابن اللباد وغيره، وبرع في علوم الشريعة، حتى انتهت إليه إمامة المالكية ورياستها في عصره، وإليه كانت الرحلة من آفاق المغرب، حتى قيل فيه «مالك الأصغر»، وعني بالتأليف، وملأت مصنفاته البلاد، وهو الذي لخص المذهب المالكي، وَرَجَّحَ أَقْوَالَهُ، وجمع بين آراء المتقدمين، ولا سيما في كتابه " النوادر والزيادات " على " المدونة "، إذ استوعب فيه فروع المذهب، فصار بمثابة، " مسند أحمد بن حنبل " عند المحدثين، وهو يخرج في أكثر من عشرين جُزْءًا كبيرًا (¬1)، وقال ابن خلدون فيه: «وَجَمَعَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ جَمِيعَ مَا فِي الأُمَّهَاتِ مِنَ المَسَائِلِ وَالخِلاَفِ وَالأَقْوَالِ فِي كِتَابِ " النَّوَادِرِ " فَاشْتَمَلَ عَلَى جَمِيعِ أَقْوَالِ المَذَاهِبِ، وَفَرْعِ الأَمَّهَاتِ كُلِّهَا فِي هَذَا الكِتَابِ ... وَزَخَرَتْ بِحَارُ المَذْهَبِ المَالِكِيِّ فِي الأُفُقَيْنِ - المَغْرِبِيِّ وَالأَنْدَلُسِيِّ - إِلَى انْقِرَاضِ دَوْلَةِ قُرْطُبَةَ وَالقَيْرَوَانِ» (¬2). وقد ألف ابن أبي زيد " الرسالة المشهورة " التي جمعت في أوراق قليلة عقيدة أهل السنة (¬3) والفروض في أسلوب بديع، وتناولها المفسرون بأكثر من مائة شرح، ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (¬1) الكتاب: " النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات "، طبع الكتاب بتحقيق عبد الفتاح الحلو ومحمد الأمين بو خبزة، سنة 1999 م، 15 مجلدًا، نشر دار الغرب الإسلامي. بيروت - لبنان. (¬2) انظر " تاريخ ابن خلدون " تحقيق خليل شحادة، الطبعة: الثانية، 1408 هـ - 1988 م: 1/ 569، 570، نشر دار الفكر. بيروت - لبنان. (¬3) انظر في ذلك: " ابن أبي زيد القيرواني وعقيدته في " الجامع " و" الرسالة "، دراسة في المنهج والمضمون، إعداد الشيخ الحبيب بن طاهر.، الطبعة الأولى: 2008 م مؤسسة المعارف للطباعة والنشر. بيروت- لبنان، (184 صفحة).

وترجم أصلها إلى غير لغة أجنبية، وله أيضًا ردود على أهل البدع والاهواء المخالفة للسنة، وعلى الجملة كان ابن أبي زيد - بعد حركة التشيع الظاهرة في البلاد - كالمجدد للسنة ولمذهب مالك خاصة " ويعد رأسًا للمدرسة المغربية التي محت ما قبلها، وكانت بَدْءًا للحركة الفقهية المنشورة في عهد الدولة الصنهاجية إلى إبان الزحف الهلالي، وتوفي ابن أبي زيد سنة 386 هـ. وقد تلقى عنه جماعة كثيرة من أشهرها: - علي بن خلف المعافري المعروف بأبي الحسن القابسي، من كبار الفقهاء المحدثين، قرأ في القيروان، ثم رحل إلى المشرق، وسمع من علية رواة الحديث، وهو أول من أدخل " صحيح البخاري " إلى إفريقية، وألف كثيرًا في الفقه والحديث مثل " ملخصه لكتاب الموطأ " وغيره، أما أصحابه وتلاميذه فيعدون بالمئات من أفارقة ومغاربة وأندلسيين. ولا ننسى أنه كان في أوائل من أظهروا آراء أبي الحسن الأشعري ومذهبه في العقائد، ولقد سعى إلى نشر هذه الآراء في البلاد الإفريقية، وأيدها برسالة في مناصرة الأشعرية، وتوفي القابسي في سنة 403 هـ.

ثم كانت طبقة أخرى عاصرت الدولة الصنهاجية بالقيروان في عنفوانها وازدهار حضارتها، أعني في دولة باديس وابنه المعز، وقد أسهمت في قمع بقايا المنتسبين إلى مذهب الشيعة في إفريقية، وحرضت على قطع الصلة بالملوك الفاطميين المقيمين بمصر، وشاركت الأمراء في النداء بتوحيد المذهب في المغرب عامة، وفي حمل أهلية على استنان مذهب مالك دون سواه سنة 430 هـ. ومن أبرز هذه الطبقة: - أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن الخولاني، من تلاميذ ابن أبي زيد والقابسي، وحاز الذكر ورياسة الدين بالقيروان في وقته. مع أبي عمران القابسي، وتخرج عليه أصحاب يزيدون عن مائة وعشرين، وكلهم مقتدى بهم في المذهب، وتوفي سنة 432 هـ. - أبو الطيب عبد المنعم الكندي، من أجلاء الفقهاء، وأصحاب النظر في علوم الحساب والهندسة، وبه تفقه جماعة منهم: أبو الحسن اللخمي وعبد الحميد الصائغ وغيرهما، وتوفي سنة 435هـ.

انفصال إفريقية عن الشرق

- أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد اللبيدي، من صغار أصحاب ابن أبي زيد والقابسي، ألف كتابًا جامعًا في المذهب المالكي أزيد من مائتي جزء في عامة مسائل الفقه وبسطها وتفريعها، وزيادات على الأمهات ونوادر الروايات، توفي سنة 440هـ. اِنْفِصَالُ إِفْرِيقِيَّةَ عَنْ الشَّرْقِ: وفي تلك الحقبة كانت الكارثة العظمى بزحف بني هلال وبني سليم وإليك بيانها: كان المعز بن باديس الصنهاجي الذي تولى إمارة إفريقية في السادسة من عمره، قد تولى تربيته رجال مستمسكون بالسنة المالكية، فكبر وترعرع في بيئة علم وأدب لم ترق البلاد رقيها من قبل، والحضارة يومئذ في الأوج، فاطمأنت نفسه إلى إمكان التحرر من سيادة الفاطميين بمصر، مُجَارِيًا في ذلك ميول الأمة الإفريقية، فما فتىء يتخذ الوسائل للانفصال عن سلطان الفاطميين البعيد المتضائل على الأيام، تؤازره على ذلك صفوة العلماء، ويؤيده الشعب، وضل يقاوم شيئًا فشيئًا خطة ملوك

الشيعة في العقيدة، وفي السياسة، ماضيًا في حركة الاستقلال بالبلاد، حتى جاهر بلعن بني عبيد على المنابر، وأنكر سيادتهم، وجحد ولاءهم وقاطعهم وكانت باكورة أعماله أن حمل الأهليين على الاستمساك بمذهب مالك دون سواه، ولم يكن قد صنع ذلك وحده، بل سبقه إليه بزمان طويل ملوك بني أمية بالأندلس، فانتهجوا هذا المسلك في حمل الأمة على إيثار مذهب مالك، وما كان المعز بن باديس ليخشى غائلة الفاطميين، وبينهم وبين المغرب مفازة من الإسكندرية إلى قابس يتعذر اقتحامها على جيوش دولة دَبَّ فِيهَا الوَهَنُ وَالإِخْلاَلُ، فأقبل المعز على أمره يحرر من سلطان العبيديين، ويقطع الأسباب بينه وبين المشرق الشيعي. وبلغ المعز في ذلك مناه، مستجيبًا لرغبة شعبه، فتمتعت البلاد بالاستقلال نحو عشرين سنة، ولكن دهاة رجال الفاطميين دبروا المكر بالمعز وبقومه الأفارقة، ورموهم بجنود من أعراب بني هلال وبني سليم كانوا يقيمون على الشاطئ الشرقي للنيل، فأباحوا لهم أن يجوزوا المغرب، فانحدروا

كالسيل الجارف لاَ يُبْقِي وَلاَ يَذَرُ، ولا بلغوا تخوم إفريقية تصدى لهم المعز يحاول صدهم عن البلاد، فانصبوا عليه وعلى عساكره، وألحقوا بهم هزيمة كانت القضاء المبرم على حضارة إفريقية العربية، واضطر المعز أن يلتجىء إلى حصن المهدية. فملك الأعراب القيروان دونه، ورحل منها أمامهم ساكنوها متفرقين أيدي سبأ، ولم يبق بها إلا قلة مستضعفة استكانت لغلبة المهاجمين، وانقادت لسلطانهم سنة 449هـ. وهكذا تقلص ظلال العلم من رحاب القيروان، وفارقها العلماء إلى خارج البلاد، وإلى بعض مدائن الساحل التونسي، إلا ما يذكر عن أحد الحفاظ، آثر المقام بالقيروان بعد خرابها المشؤوم، ذلك هو الإمام بقية السلف الصالح، وخاتمة الأيمة النظار: عبد الخالق التميمي المعروف بالسيوري، فإنه لم يغادر العاصمة، وبقي بها إلى آخر أيامه، وكان من وجوه أصحاب أبي بكر بن عبد الرحمن وأبي عمران القابسي، ومن في طبقتهما، وانتفع به خلق كثير، لانفراده برواية الحديث والفقه، ومن

مشهوري تلاميذه الناقلين عنه: عبد الحميد بن الصائغ، وأبو الحسن اللخمي، ويقول الدباغ في شأنه: «السُّيُورِيُّ آخِرُ طَبَقَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَخَاتِمَةُ أَيِمَّةِ القَيْرَوَانِ». توفي سنة 460 هـ أو بعدها بقليل. وهنا تبتدئ طبقة أخرى من علماء الشريعة الذين انتقلوا من القيروان إلى الساحل التونسي واستوطنوه وأقرأوا به، وعلى رأسهم فقيهان جليلان، هما: - علي بن محمد الربعي المعروف بأبي الحسن اللخمي من أبناء القيروان، قرأ بها على جماعة منهم أبو الطيب عبد المنعم، وبخاصة الإمام السيوري، فلما جلا السكان عن القيروان قصد مدينة صفاقس واتخذها مقرًا له، فطار له فيها صيت، وكانت له رياسة، يقصده طلاب العلم يروون عنه، منهم الإمام محمد المازري، وقد وضع اللخمي مصنفات أجلها " التبصرة "، أخرج فيه الخلاف في مذهب مالك، واستقرار الاقوال، وربما اتبع في بعض المسائل نظره الخاص، وخالف مشهور المذهب فيما يرجح عنده، فخرجت مختاراته عن القواعد المالكية

المقررة، وتوفي سنة 478 هـ، وقبره في صفاقس مشهور. - عبد الحميد بن محمد الصائغ، من أبناء القيروان أيضًا، أخذ عن أبي بكر بن عبد الرحمن وأبي الطيب الكندي، والسيوري وغيرهم، وتحول إلى سكنى المهدية وتولى بها الفتيا، وسمع منه خلق لا يحصون، في مقدمتهم محمد المازري، ثم دارت عليه محنة من السلطان، فانتقل الى مدينة سوسة، وبها قضى بقية عمره بين التدريس والتأليف وتوفي سنة 486 هـ وقبره معروف على مقربة من البحر، خارج المدينة. هذان الإمامان هما، شيخا المازري، وعليهما اعتماده في الرواية والسند العلمي القيرواني. والآن وقد جلونا كيف انتهت الطريقة العلمية إلى المازري، نبحث كيف انتقلت هذه الطريقة منه إلى إصحابه وتلاميذه، لكي نرى كيف تحول سند العلم من مبحثه الأصيل - وهو القيروان - إلى المهدية - ثانية العواصم الإسلامية في إفريقية - ثم إلى مدينة تونس، قاعدة الملك الأخيرة، وكيف ظل السند موصولاً إلى أن بلغ عصرنا القريب.

ونمهد لذلك بكلمة نجمل فيها مزية المازري، فإنه لما توفي الشيخان «اللخمي» و «ابن الصائغ»، وتعين على كبير تلاميذهما: محمد المازري - أن يخلفهما في حمل لواء العلوم الشرعية في الساحل التونسي، بل في إفريقية كلها، ولم يتقلد المازري هذه الزعامة بأمر سلطاني، بل بإجماع الكلمة من أهل البلاد، فتصدر لنشر التعاليم الدينية وتدوينها، وقد أقبل على التدريس بالمهدية، والتف حوله طلاب ممتازون تلقوا عنه سند المالكية بالرواية المتوارثة الصحيحة، وحملوا عنه مصنفاته الفقهية، وأماليه في شرح الحديث والسنن، وهو يمتاز عن غيره من متقدمي الفقهاء الأعلام بأسلوبه الواضح في التعبير والتقرير، وما كتب في مسالة فقهية، أو أصدر فتوى شرعية إلا دعمها بتطبيق أقواله على قواعد الأصول، متبعًا في ذلك المنهج المنطقي، وما انتهى إلى قول من الأقوال إلا بعد أن مهد له بالحجة، وأقام عليه البرهان، وتلك طريقة مستحدثة في التأليف والتدوين العلمي الإسلامي في أثناء القرن السادس الهجري وما تلاه، وإنها لطريقة حكيمة في إثبات الحقائق، ولا سيما في الأحكام

والمبادئ، ومتى كانت هذه الطريقة معززه بإنشاء متين كانت أوقع في النفس، وأقوى على الإقناع. ومن تعداد تلاميذ المازري والآخذين عنه سواء بالتلقي، أو بالإجازة، يستبين لنا ما بلغه صيته العلمي مدة حياته، ونجتزئ هنا بالإشارة إلى من لازم درسه واستفاد بالنقل عنه، إلى أن خلفه بعد وفاته في نشر ما كان يحمل من السند والرواية. فمن أشهر تلاميذه الأفارقة: - أبو يحيى زكرياء بن الحداد المهدوي، عني به المازري عناية خاصة، ورشحه للمناصب الشرعية التي اعتذر عن قبولها لنفسه، وقد تحقق عنده دينه وعلمه وفضله، فأشار على الأمير الصنهاحي يحيى بن تميم بن المعز باختياره لمنصب القضاء بالمهدية فسار فيها سيرة أهل العدل والصلاح، وقد خلف شيخه المازري في الرياسة الدينية، إلى أن توفي في حدود سنة 570 هـ، وتخرج عليه كثير من الفقهاء، منهم: - عبد السلام البُرْجِينِيُّ، نسبة إلى البرجين، إحدى

قرى الساحل، أقام في فترة صغيرة بالمهدية في صحبة ابن الحداد وروى عنه ما يحمل من علوم الشريعة، وانتفع به كثيرًا، ثم تحول إلى سكنى مدينة تونس بعد استيلاء الأمراء الموحدين عليها، واتصل بأعيان الدولة، ولا سيما الشيخ أبو محمد عبد الواحد بن أبي حفص ممهد المملكة الحفصية، وتولى القضاء والإفتاء في مدة ولايته، وتصدى مع ذلك لنشر التعاليم الدينية بين شباب الطلاب التونسيين، إذ لم يكن في عصره من هو قائم بها مثله، وكانت العاصمة الجديدة - مدينة تونس - في أشد الحاجة إلى معلمين مرشدين لخلو البلاد من حملة العلم بعد خراب القيروان واستيلاء نصارى النُّرْمَانِ على ساحل البلاد، فظهر البرجيني كالعلم المفرد في الاستمساك بالرواية الفقهية والسند العلمي المأثور من لدن الفتح في طبقة بعد طبقة. وقد وهم المؤرخون وأصحاب الطبقات الذين تحدثوا عن ذلك العصر، إذ جعلوا البرجيني من تلاميذ المازري، وأنه روى عنه أصالة، على حين أن المازري مات سنة 536 هـ والبرجيني ولد بعد ذلك، وَعَمَّرَ حتى مات سنة 630 هـ، فلا

يصح في العقل أن يكون قد أخذ عنه، والذي تحقق لنا بعد المراجعة والتمحيص أن البرجيني قرأ على الشيخ أبي يحيى بن الحداد المهدوي، فبذلك تصح الرواية ويتسق التاريخ. وكان البرجيني على جانب من التقوى، وهو الذي لحد صديقه الشيخ خلف بن يحيى التميمي المشهور بأبي سعيد الباجي دفين جبل المنار المتسمى اليوم باسمه، وذلك سنة 628 هـ. ولا بد من التنبيه إلى أنه في العهد الذي انتقلت فيه دراسة العلوم الشرعية من القيروان إلى المهدية، ومنها إلى تونس، كانت كتب الدراسة للعقائد وللفقه المالكي إنما هي أمهات من المؤلفات وضعها علماء القيروان، مثل " الرسالة " لابن أبي زيد - وهي للمبتدئين - و" تهذيب المدونة " للبراذعي القيرواني، و" التعليقة " وهي شرح " المدونة " لأبي إسحاق إبراهيم التونسي القيرواني، و" التبصرة " لأبي الحسن اللخمي، إلى كثير من المؤلفات يعيى بها صاحبها الحصر والإحصاء. -عبد العزيز القرشي المعروف بِابْنِ بَزِيزَةَ، مولده في سنة 606 هـ، وهو من كبار الحفاظ المجتهدين المعترف لهم

بالتقوى في علوم الشرع، وفي الأدب الرفيع، كما تشهد بذلك مؤلفاته المتعددة، وعليه تخرجت طبقة من المشتغلين بالعلوم الدينية من طلبة الحضرة التونسية، ممن أحيوا سنن البحث، وتدريس الفقه أصوله وفروعه، وتوفي سنة 662 هـ. ومن أشهر تلاميذه: - أبو القاسم بن أبي بكر اليمني المعروف بابن زيتون، مفتي إفريقية وقاضيها في مدة الأمير أبي زكرياء الأول، وابنه محمد المستنصر. مولده سنة 621 هـ، وقد تخرج عن ابن بزيزة وغيره، ثم رحل إلى المشرق وروى بمصر عن العز بن عبد السلام، والحافظ المنذري، وعاد إلى تونس يحمل تعاليم المشرق وأصوله في التدريس، وله رواية واسعة، وأخذ عنه من أبناء البلاد من لا يعد كثرة، وهو الذي تولى تحرير عقد الصلح المنبرم بين المستنصر بالله وجيش الفرنسيس بعد موت لويس التاسع ملك فرنسا في قرطاجنة (المحرم سنة 669 هـ / 1270 م). وتوفي ابن زيتون سنة 691 هـ.

قال العلامة ابن خلدون: «وَبَعْدَ انْقِرَاضِ الدَّوْلَةِ بِمَرَّاكُشَ اِرْتَحَلَ إِلَى المَشْرِقِ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ القَاضِي أَبُو القَاسِمِ بْنُ زَيْتُونَ لِعَهْدِ أَوَاسِطِ المِائَةِ السَّابِعَةِ فَأَدْرَكَ تِلْمِيذُ الإِمَامِ ابْنِ الخَطِيبِ فَأَخَذَ عَنْهُمْ وَلَقَّنَ تَعْلِيمَهُمْ. وَحَذِقَ فِي العَقْلِيَّاتِ وَالنَّقْلِيَّاتِ وَرَجَعَ إِلَى تُونِسَ بِعِلْمٍ كَثِيرٍ وَتَعْلِيمٍ حَسَنٍ. وَجَاءَ عَلَى أَثَرِهِ مِنَ المَشْرِقِ أَبُو عَبْدِ اللهِ بْنُ شُعَيْبٍ الدُّكَّالِيُّ. كَانَ اِرْتَحَلَ إِلَيْهِ مِنَ المَغْرِبِ فَأَخَذَ عَنْ مَشْيَخَةِ مِصْرَ وَرَجَعَ إِلَى تُونِسَ وَاسْتَقَرَّ بِهَا وَكَانَ تَعْلِيمُهُ مُفِيدًا فَأَخَذَ عَنْهُمَا أَهْلُ تُونِسَ. وَاتَّصَلَ سَنَدُ تَعْلِيمِهِمَا فِي تَلاَمِيذِهِمَا جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ حَتَّى انْتَهَى إِلَى القَاضِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ. شَارِحِ " ابن الحاجب " وَ [تِلْمِيذِهِ] ... » (*). وقد يناسب هنا أن نورد ما قاله العلامة المقري في كتابه " أزهار الرياض " (**) في سياقة الحديث عن طريقة التعليم بفاس عاصمة المغرب الأقصى، وأنها أقل درجة مما كانت في تونس ولا ريب أن العلامة المقري تفطن إلى أن السر في تفوق الطريقة التونسية يرجع إلى عوامل أكبرها تواصل السند العلمي في الرواية، وإليك مقالته: « ... وَالعِلَّةُ فِي ذَلِكَ كَوْنُ ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) انظر " تاريخ ابن خلدون"، تحقيق خليل شحادة: 1/ 544، 545، الطبعة الثانية 1408 هـ - 1988 م نشر دار الفكر، بيروت - لبنان. (**) انظر: " أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض "، لشهاب الدين المقري التلمساني (ت 1041 هـ)، تحقيق مصطفى السقا (المدرس بجامعة فؤاد الأول) - إبراهيم الإبياري (المدرس بالمدارس الأميرية) - عبد العظيم شلبي (المدرس بالمدارس الأميرية): 3/ 24، طبعة سنة 1358 هـ - 1939 م، نشر لجنة التأليف والترجمة والنشر - القاهرة - مصر.

صِنَاعَةَ التَّعْلِيمِ، وَمَلَكَةَ التَّلَقِّي، لَمْ تَبْلَغْ فَاسًا، كَمَا هِيَ بِمَدِينَةِ تُونِسَ، اتَّصَلَتْ إِلَيْهِمْ مِنَ الإِمَامِ المَازَرِيِّ، كَمَا تَلَقَّاهَا عَنْ الشَّيْخِ اللَّخْمِّيِّ، وَتَلَقَّاهَا اللَّخْمِّيُّ عَنْ حُذَّاقِ القَرَوِيِّينَ (*)، وَاِنْتَقَلَتْ مُلْكَةُ هَذَا التَّعْلِيمِ إِلَى الشَّيْخِ اِبْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ - مُفْتِي البِلادِ الإِفْرِيقِيَّةِ [وأصقاعها]-، المَشْهُودِ لَهُ بِرُتَبِ التَّبْرِيزِ وَالإِمَامَةِ، وَاسْتَقَرَّتْ تِلْكَ المُلْكَةُ فِي تِلْميذِهِ اِبْنِ عَرَفَةَ [رَحِمَهُ اللهُ] ... ». يضاف إلى ذلك أنه في أثناء تلك المدة وفد إلى حضرة تونس نخبة كبيرة من وجوه العلماء، نزحوا إليها من بلاد الأندلس بعد سقوط مدينتي «بلنسية» و «إشبيلية» في يد الإسبان نذكر منهم الحافظ محمد بن الأبار، وأبا المطرف بن عُميرة، وأبا بكر بن سيد الناس، وعبد الحق بن برطلة، وعلي بن عصفور، وحازم القرطاجني، وأحمد بن عجلان، وأبا جعفر البلي، والقاضي أحمد بن الغماز الخزرجي، وبني خلدون الإشبيليين، وسواهم ممن لا يحصون عَدًّا، وقد أثار مقدم هؤلاء المهاجرين نشطة كانت نواة حية للنهضة العلمية في تونس. ولا سيما نهضة علوم الشريعة، وكان اللاجئون جميعًا ممن يذهبون مذهب مالك ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) في المطبوع من هذا الكتاب (القَيْرَوَانِيِّينَ) وفي " أزهار الرياض " ورد كما أثبته (القَرَوِيِّينَ). انظر: " أزهار الرياض ": 3/ 24.

ابن أنس كسائر سكان الأندلس، مما زاد السند العلمي الفقهي المنتقل من القيروان إلى الساحل إلى تونس ثباتًا وقوة، وانتشارًا وسعة. وقد نبغ من تلاميذ ابن زيتون وغيره جيل جديد من الفقهاء الأعلام، وقفوا حياتهم على التدريس والتأليف في مختلف فروع العلوم الشرعية، من آخر القرن السابع إلى آخر القرن الثامن، نذكر من بينهم: - محمد بن عبد الجبار الرُعيني السوسي، المتوفى سنة 662 هـ. - أبو القاسم بن علي بن البراء التنوخي المهدوي، قاضي الجماعة بتونس، المتوفى سنة 655 هـ. - أحمد الأنصاري المعروف بِالبَطْرَانِي التونسي، المتوفى سنة 710 هـ. - أبو بكر بن جماعة الهواري، المتوفى سنة 712 هـ. - محمد بن عبد النور التونسي، المتوفى سنة 726 هـ. - إبراهيم بن عبد الرفيع الربعي، قاضي الجماعة، المتوفى سنة 733 هـ.

- محمد بن راشد القفصي، المتوفى سنة 736 هـ. - قاضي الجماعة الشيخ المتبحر محمد بن عبد السلام الهواري التونسي، مجدد الحركة الفقهية، وشيخ الجيل الآتي بعده، توفي سنة 749 هـ، ومن أشهر تلاميذه: - محمد بن عرفة الورغمي، شيخ شيوخ عصره، وجامع قواعد الفقه وحدوده، توفي سنة 803 هـ. - عبد الرحمن بن خلدون، نابغة الفلسفة التاريخية، توفي على خطة قضاء المالكية بمصر سنة 808 هـ. وتتوارد بعد ذلك طبقات الفقهاء المالكيين في القطر التونسي وكل طبقة تعول على التي قبلها في روايتها، وتستمد منها تعاليمها محافظة على موروث تقاليدها، وهكذا يتواصل السند العلمي الإسلامي، لا ينقطع ولا يفتر، إلى أن يبلغ إلى القرن الهجري الأخير الذي شاهد بعض الشيوخ المعاصرين أفذاذًا من حفظة الشريعة الأعلام، أساتذة «الزيتونة» وورثة مجدها العلمي، ومفخرة تونس مدى الأيام! ... * * *

بعد أن عرضنا هذه البسطة المستعجلة في سير السنة المحمدية بالبلاد التونسية، فلننتقل الآن إلى التعريف بِعَلاَّمَتِنَا «المَازَرِيِّ» بقدر ما أمكننا التوصل إليه من أخباره وآثاره. فنقول:

الإمام المازري، نشأته وتعلمه

الإِمَامُ المَازَرِيُّ، نَشْأَتُهُ وُتَعَلُّمُهُ: أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر بن محمد التميمي المشهور بالمازري، نسبة إلى مازرة بصقلية (¬1) ولا نعلم شيئًا عن ولادة هذا العلم الفرد ولا عن نشأته الأولى، هل كانت بصقلية، أو بالقطر الأفريقي، ولم ينص على ذلك أحد من المؤرخين، ولا من مؤلفي التراجم وأصحاب الطبقات. وبعد البحث الطويل غلب على ظننا أنه ولد بإفريقية، سواء أكان ذلك بالمهدية، أو ¬

_ (¬1) مَازَرَةَ أَوْ مَازَرْ Mazzara مدينة على الساحل الجنوبي من جزيرة صقلية تقابل شمال البلاد التونسية، وهي أول بلدة امتلكها الجيش الأغلبي الفاتح على يد قائده القاضي أسد بن الفرات (ربيع الأول سنة 212 هـ) وكذلك كانت آخر معقل للإسلام بالجزيرة. وقد افتكها روجر ملك النرمان من يد عبد الله بن الحواس آخر ملوك الطوائف بصقلية (خلال سنة 464 هـ) وبذلك انقطعت السيادة الإسلامية من تلك الجزيرة، فهاجر من سكانها المسلمين من هاجر، وبقي منهم من بقي تحت ذمة الإفرنج إلى أوائل القرن السابع للهجرة، واللهُ غالب على أمره، وينتسب إلى مازرة هذه جماعة من العلماء الأعلام، والأدباء المجيدين.

بالقيروان، أو بغيرهما من مدن الساحل التونسي في حدود سنة 443 هـ، والمظنون أن والده محمد بن علي هو المهاجر من صقلية عند اختلال الأحوال وقبيل استيلاء النرمان عليها، ولهذا السبب نفسه فارق كثير من مسلمي صقلية جزيرتهم، والتجأوا إلى الأصقاع الإسلامية، ولا سيما إلى إفريقية التونسية لقرب ما بين العدوتين. ومما يؤيد ولادة المازري بالجهة الساحلية هو مزاولته التعليم صغيرًا بها، ولم يرو التاريخ أنه أخذ عن شيوخ بلاد نسبته مع توفرهم حينئذٍ هنالك. وفي نظرنا أن المازري نشأ بإفريقية، وبها قرأ وترعرع، وتلقى الدراسة العليا عن سندي المغرب في وقتهما بلا مدافع، أعني أبا الحسن اللخمي (¬1) ¬

_ (¬1) أبو الحسن علي بن محمد الربعي شهر اللخمي رئيس فقهاء القيروان في عصره من تلاميذ السيوري وابن محرز، وأبي إسحاق التونسي. وللخمي تعليق على " المدونة " مُهِمٌّ جِدًّا يعرف بـ " التبصرة ". توفي سنة 478 هـ، ودفن بصفاقس، وضريحه مشهور هنالك.

وعبد الحميد الصائغ (¬1) وغيرهما من جلة العلماء الأعلام. واستقر بالسكنى في مدينة المهدية - وهي إذ ذاك شريكة القيروان في تخت الملك - وتصدر للتدريس بجامعها الكبير: جامع عبيد الله المهدي، وبه بث ما وسعه صدره من العلم الغزير والمادة الواسعة، فنشر العلوم الدينية والفنون على اختلاف أنواعها ومراميها، ومن ذلك الحين ذاع صيته في الآفاق، وطبقت شهرته المشرق والمغرب، فكانت حلقة دروسه تشمل المئين من التلامذة المجتهدين، سواء أكانوا إفريقيين أم وافدين من أقطار المغرب والأندلس، وصار كعبة أنظار الطلاب، يقصده الداني والقاصي. ناهيك بتلاميذ من ضمنهم أعلام: كابن الحداد المهدوي (¬2) ¬

_ (¬1) أبو محمد عبد الحميد بن محمد المعروف بابن الصائغ، من كبار أيمة القيروان وعلمائها المعدودين، تصدر للفتيا بالمهدية في عهد المعز بن باديس الصنهاجي، ثم لحقه محنة أيام الأمير تميم بن المعز، فانقطع عن الفتوى، واستوطن مدينة سوسة، وبها كانت وفاته سنة 486 هـ وقبره بها على شاطئ البحر مشهور يتبرك به. (¬2) أبو يحيى زكرياء بن الحداد المهدوي قاضيها وعالمها بعد المازري، مؤلف مشهور، مات في حدود سنة 570 هـ.

ومنهم: أبو القاسم محمد بن خلف الله المعروف بابن مشكان الذي تولى قضاء مدينة قابس ومنهم: أبو عبد الله محمد بن زيادة الله القابسي وغيره وغيره وقد لا يكاد المؤرخ يقدر أن يحصر الآخذين عنه من بين أبناء إفريقية، أما غيرهم من مشاهير الوافدين، فمنهم رجل المغرب على الإطلاق عِلْمًا وَسِيَاسَةً: محمد بن تومرت (¬1) والإمام المتبحر الجليل أبو بكر بن العربي (¬2) ¬

_ (¬1) محمد بن عبد الله بن تومرت، مؤسس الدولة الموحدية، مولده سنة 485 هـ بالمغرب الأقصى، وقرأ بقرطبة، ثم قصد المشرق في طلب العلم ودخل المهدية مجتازًا وتلقى بها على إمامها الكبير المازري، ثم ارتحل إلى مصر والشام والعراق، وأخذ عن الإمام الغزالي ببغداد، وحج ثم عاد إلى المغرب وقام بالدعوة سالكًا تغيير المنكر والرجوع إلى أصول الشريعة المطهرة سنة 515 هـ إلى أن تمهدت له السبل وتمكن من تأسيس أكبر دولة مغربية عرفها التاريخ (الدولة الموحدية)، وتوفي سنة 525 هـ، وكان من العلم على الجانب الأوفى مع تقشف وورع. (¬2) أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المشهور بابن العربي الإشبيلي حافظ الأندلس ومؤلفه الكبير، مولده سنة 468 هـ، رحل مع أبيه في طلب العلم إلى المشرق، سنة 485 هـ، ولقي بالمهدية عالمها الإمام المازري، وأخذ عنه كثيرًا وأثنى عليه في رحلته الثناء العطر، ثم طاف بلاد المشرق وصحب الإمام الغزالي وانتفع به وعاد إلى الأندلس، وأقرأ وألف كثيرًا وأفاد، وتوفي عام 543 هـ.

وعلى ابن صائد (¬1) وغيرهم من لا يعد كثرة. وهناك فريق كبير من علية علماء الآفاق الإسلامية المعاصرين للإمام المازري رغبوا في الأخذ عنه بطريق المراسلة - طريقة الإجازة - فكاتبوه يرجون ذلك منه - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَعَنْهُ - أذكر من بينهم على سبيل التذكير: ابن رشد الحفيد فيلسوف الإسلام الكبير، والقاضي عياض السبتي وابن فرس، والمحدث ابن أبي جمرة، وأبا بكر بن أبي العيش، وابن الحاج، وسواهم كثير جِدًّا. وهنا أورد حكاية تدلك دلالة صريحة على مكانة الإمام المازري من قلوب الآخذين عنه وتقديرهم لجلالة علمه وعلو كعبه: ذكر ابن القاضي (¬2) والمقري (¬3): ¬

_ (¬1) أبو الحسن محمد بن خلف بن صاعد اللبلي، إمام القراءات بالأندلس، حج واجتاز بالمهدية فأخذ عن الإمام المازري وأجاز له ما رواه وألفه، ثم رجع إلى بلاده فتولى قضاء شلب ومات سنة 547 هـ. (¬2) كتاب " درة الحجال في غرة أسماء الرجال " لأحمد بن القاضي: ج 1 ص 135، طبعة الرباط. (¬3) " أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض "، لأبي العباس أحمد المقري مؤلف " نفح الطيب " (خط بمكتبتي).

«أَنَّ بَعْضَ طَلَبَةِ الأَنْدَلُسِ وَرَدَ عَلَى المَهْدِيَّةِ لِمُزَاوَلَةِ العُلُومِ عَلَى المَازَرِيِّ، فَحَضَرَ يَوْمًا مَجْلِسَهُ بِالجَامِعِ كَالعَادَةِ إِذْ دَخَلَ شُعَاعُ الشَّمْسِ مِنْ كُوَّةٍ وَوَقَعَ عَلَى رِجْلِ الشَّيْخِ فَقَالَ المَازَرِيُّ: " هَذَا مُنْعَكِسٌ ". فَلَمَّا سَمِعَ الطَّالِبُ ذَلِكَ وَرَأَى القَوْلَ مُتَّزِنًا، ذَيَّلَهُ بِقَوْلِهِ: هَذَا شُعَاعٌ مُنْعَكِسٌ ... لِعِلَّةٍ لاَ تُلْبَسُ لَمَّا رَآكَ عُنْصُرًا ... مِنْ كُلِّ عِلْمٍ يَنْبَجِسُ أَتَى يَمُدُّ سَاعِدًا ... مِنْ نُورِ عِلْمٍ يُقْتَبَسُ! وحكى الصفدي - في " الغيث المسجم " (*) - أن بعض أدباء الأندلس كتب إلى أبي عبد [الله] المازري بالمهدية: رُبَّمَا عَالَجَ القَوَافِي رِجَالٌ ... تَلْتَوِي تَارَةً لَهُمْ وَتَلِينُ طَاوَعَتْهُمْ عَيْنٌ وَعَيْنٌ وَعَيْنُ ... وَعَصَتْهُمْ نُونٌ وَنُونٌ وَنُونُ فَأَبِنْ لَنَا مَا طَاوَعَهُمْ وَمَا عَصَاهُمْ». فكان من ضمن جواب الإمام عن هذا السؤال: «طاوعهم العجمة، والعي، والعجز، وعصاهم اللسان، والجنان، والبيان». ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) ورد في الكتاب المطبوع " الغيث المنسجم "، والصواب " الغيث المسجم شرح لامية العجم " للشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي. طبع بهامشه " سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون " لمحمد بن نباتة المصري، المطبعة الأزهرية المصرية 1305 هـ.

ثناء العلماء عليه

فأنت ترى أن شهرة المازري العلمية طبقت الآفاق، واخترقت تخوم إفريقية والمغرب، واجتازت إلى الأندلس من ناحية الشمال، إلى أقصى البلاد العربية من ناحية المشرق، فلا غرو حينئذٍ أن يشتهر عَلاَّمَتُنَا الفَذُّ بلقب «الإِمَامِ» حتى يصير ذلك لقبًا لا يفارق اسمه ولا يعرف إلا به. على أن هناك رواية نقلها أصحاب التراجم في سبب هذه التسمية؛ قال ابن فرحون المدني (¬1): «وَيُحْكَى عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى فِي ذَلِكَ رُؤْيَا: رَأَى رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: " يَا رَسُولَ اللهِ أَحَقٌّ مَا يَدْعُونَنِي بِرَأْيِهِمْ، يَدْعُونَنِي بِالإِمَامِ؟ " فَقَالَ: " أَوْسَعَ اللهُ صَدْرَكَ لِلْفُتْيَا "». على أن هذه الرواية تثبت ما كان اشتهر به بين معاصريه من العلم الواسع ورسوخ القدم في الفتيا. ثَنَاءُ العُلَمَاءِ عَلَيْهِ: اتفقت كلمة المؤرخين ورواة الأخبار على أن الإمام ¬

_ (¬1) " الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب "، لابن فرحون، طبعة مصر سنة 1329 هـ، ص 279 وما بعدها.

المازري كان خاتمة المحققين وآخر المشتغلين من شيوخ إفريقية بتحقيق العلوم الدينية، وممن بلغ بلا ريب درجة الاجتهاد المطلق. في تواضع خليق بالأعلام أمثاله مع من تقدمه من أصحاب المذاهب؛ ننقل إليك هنا عبارة ذكرها الونشريسي في " المعيار ": (¬1) «وَقَدْ قَالَ الإِمَامُ المَازَرِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - بَعْدَ أَنْ شَهِدَ لَهُ [بَعْضُ] أَهْلُ زَمَانِهِ بِوُصُولِهِ إِلَى دَرَجَةِ الاِجْتِهَادِ أَوْ مَا قَرُبَ رُتْبَتَهُ: " وَمَا أَفْتَيْتُ قَطُّ بِغَيْرِ المَشْهُورِ وَلاَ أُفْتِي بِهِ"». وذلك ورعًا منه - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وَسَدًّا لِبَابِ الذَّرَائِعِ، وخوفًا من تجاسر الجهلة على الإفتاء بغير المشهور من أمور الدين. ومما نقل عنه الونشريسي أيضًا في " المعيار " قوله في هذا المعنى: «وَلَسْتُ أَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى غَيْرِ المَشْهُورِ مِنْ قَوْلِ العُلَمَاءِ، لأَنَّ الوَرَعَ قَلَّ بَلْ كَادَ يُعْدَمُ، وَالتَّحَفُّظُ عَلَى الدِّيَانَاتِ كَذَلِكَ، وَكَثُرَتْ الشَّهَوَاتُ وَكَثُرَ مَنْ يَدَّعِي العِلْمَ وَالتَّجَاسُرَ عَلَى الفَتْوَى، ¬

_ (¬1) " المعيار " للونشريسي، طبعة فاس على الحجر وخط بمكتبتي: ج 6 ص 121.

آراء العلماء فيه

وَلَوْ فُتِحَ لِهَؤُلاَءِ بَابُ مُخَالَفَةَالمَشْهُورِ مِنَ المَذْهَبِ لاتَّسَعَ الخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ، وَهَتَكُوا حِجَابَ هَيْبَةِ الدِّينِ، وَهَذَا مِنَ المُفْسِدَاتِ التِي لاَ خَفَاءَ فِيهَا». آرَاءُ العُلَمَاءِ فِيهِ: قال القاضي أبو الفضل عياض السبتي عند التعريف به وقد أجازه المازري بتآليفه من المهدية (¬1): «هُوَ إِمَامُ بِلاَدِ إِفْرِيقِيَّةَ وَمَا وَرَاءَهَا مِنَ المَغْرِبِ، وآخِرُ المُشْتَغِلِينَ مِنْ شُيُوخِ إِفْرِيقِيَّةَ بِتَحْقِيقِ الفِقْهِ وَمِمَّنْ بَلَغَ فِيهِ رُتْبَةَ الاجْتِهَادِ وَدِقَّةِ النَّظَرِ، لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِهِ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي أَقْطَارِ الأَرْضِ أَفْقَهَ مِنْهُ وَلاَ أَقْوَى لِمَذْهَبِهِمْ، وَسَمِعَ الحَدِيثَ وَطَالَعَ مَعَانِيهِ، وَاطَّلَعَ عَلَى عُلُومٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الطِّبِّ وَالحِسَابِ وَالآدَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكَانَ أَحَدَ رِجَالٍ الكَمَالِ فِي العِلْمِ فِي وَقْتِهِ، وَكَانَ حَسَنَ الخُلُقِ، مَلِيحَ المَجْلِسِ، أَنِيسُهُ، كَثِيرُ الحِكَايَةِ وَإِنْشَادِ قِطَعِ الشِّعْرِ، وَكَانَ قَلَمُهُ فِي العِلْمِ أَبْلَغَ مِنْ لِسَانِهِ. كَتَبَ إِلَيَّ مِنَ ¬

_ (¬1) كتاب " الغنية " للقاضي عياض في ذكر مشيخته (خط بمكتبة المرحوم الصادق النيفر بتونس).

المَهْدِيَّةِ يُجِيزُنِي كِتَابَهُ المُسَمَّى بـ " المُعْلِمِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ " وَغَيْرُهُ مِنْ تَوَلِيفِهِ ... الخ». وزاد ابن فرحون على كلام القاضي عياض بقوله (¬1): «كَانَ أَحَدَ رِجَالِ الكَمَالِ فِي وَقْتِهِ فِي العِلْمِ، وَإِلَيْهِ كَانَ يُفْزَعُ فِي الفَتْوَى، وَكَانَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - حَسَنَ الخُلُقِ، مَلِيحَ المَجْلِسِ، أَنِيسَهُ، كَثِيرُ الحِكَايَاتِ وَإِنْشَادِ قِطَعِ الشِّعْرِ، وَكَانَ قَلَمُهُ فِي العِلْمِ أَبْلَغَ مِنْ لِسَانِهِ، لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِهِ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي أَقْطَارِ الأَرْضِ أَفْقَهَ مِنْهُ، وَلاَ أَقْوَمَ لِمَذْهَبِهِمْ». وقال قاضي القضاة ابن خلكان (¬2): «هُوَ أَحَدُ الأَعْلاَمِ المُشَارِ إِلَيْهِمْ فِي حِفْظِ الحَدِيثِ وَالكَلاَمِ عَلَيْهِ ... وَكَانَ فَاضِلاً مُتَفَنِّنًا». وقال أبو العباس المقري (¬3): «الإِمَامُ المُجْتَهِدُ أَبُو عَبْدِ اللهِ المَازَرِيُّ، عُمْدَةُ النُّظَّارِ، وَمِحْوَرُ الأَمْصَارِ، المَشْهُورِ فِي الآفَاقِ ¬

_ (¬1) " الديباج " المذكور: ص 280. (¬2) " وفيات الأعيان ": ج 1 ص 486. (¬3) " أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض "، لأبي العباس أحمد المقري صاحب " نفح الطيب "، خط بمكتبتي.

آثاره العلمية

وَالأَقْطَارِ، حَتَّى عُدَّ فِي المَذْهَبِ إِمَامًا، إِذْ مَلَكَ فِي مَسَائِلِهِ زِمَامًا ... الخ». وقال الورتلاني في " رحلته " (¬1): «الإِمَامُ النُّظَّارُ المُجْتَهِدُ، القَوِيُّ البَاعِ فِي تَحْقِيقِ النَّظَرِ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ المَازَرِيُّ ... الخ». وفي الحقيقة أننا لسنا في حاجة إلى إثبات مرتبة هذا الإمام الجهبذ وَالعَلَمِ الفَرْدِ بإيراد شهادات المؤرخين فيه، أو ثناء العلماء عليه، ما دامت مؤلفاته القيمة بين أيدينا، وهي - بلا مراء - الحجة القوية على علو مقامه العلمي، ونيله بحق الصيت العالمي الذي حاز به رياسة عصره بلا منازع. آثَارُهُ العِلْمِيَّةُ: وإليك أسماء بعض ما وصل إلينا من مصنفاته بعد بحثنا الطويل عنها والتنقيب على محتوياتها: 1 - " المُعْلِمِ بِفَوَائِدِ مُسْلِمٍ " وهو أول شرح وُضِعَ على " صحيح الإمام مسلم القشيري "، قال في شأنه العلامة ابن خلدون ¬

_ (¬1) " نزهة الأنظار " ويعرف بـ " رحلة " الورتلاني (الحسين بن محمد): ص 429 طبعة الجزائر 1326 هـ بعناية صديقنا المرحوم محمد بن أبي شنب.

في مقدمته الخالدة (¬1): «وَأَمَّا " صَحِيحُ مُسْلِمٍ " فَكَثُرَتْ عِنَايَةُ عُلَمَاءِ المَغْرِبِ بِهِ، وَأَكَبُّوا عَلَيْهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى تَفْضِيلِهِ .. وَأَمْلَى الإِمَامُ المَازَرِيُّ مِنْ كِبَارِ فُقَهَاءِ المَالِكِيَّةِ عَلَيْهِ شَرْحًا وَسَمَّاهُ " المُعْلِمَ بِفَوَائِدِ مُسْلِمٍ " اشْتَمَلَ عَلَى عُيُونٍ مِنْ عِلْمِ الحَدِيثِ وَفُنُونٍ مِنَ الفِقْهِ، ثُمَّ أَكْمَلَهُ القَاضِي عِيَاضٌ بَعْدَهُ وَتَمَّمَهُ وَسَمَّاهُ " إِكْمَالَ المُعْلِمِ "». وغفل ابن خلدون في تعريفه بشرح المازري عن أنه اشتمل أيضًا على مسائل كثيرة في أصول الكلام، وأبحاث قيمة في الأنظمة الإسلامية، ومسائل الخلاف، كمسألة الاجتهاد والإمامة وشروط البيعة والمفاضلة بين الصحابة وجواز الجوسسة في الحرب وغيره مما يطول تعداده. ويظهر أن الإمام - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لم يقصد بادئ بدء وضع هذا الشرح بالذات، وإنما كان - على عادة كبار العلماء المتقدمين - يملي إملاءات خلال دروسه، فتجمع من تلك الأمالي ما كَوَّنَ شَرْحًا مُسْتَقِلاًّ. يؤيد هذا ما حكاه عبيد الله بن عيشون المعافري الأندلسي - وهو من كبار تلاميذ الإمام - ¬

_ (¬1) " مقدمة ابن خلدون ": ص 419 طبعة مصر سنة 1320 هـ.

قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ المَازَرِيَّ يَقُولُ - وَقَدْ جَرَى ذِكْرُ كِتَابِهِ " المُعْلِمَ ": " إِنِّي لَمْ أَقْصِدُ تَأْلِيفَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ السَّبَبُ أَنَّهُ قُرِئَ عَلَيَّ " صَحِيحُ مُسْلِمٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَتَكَلَّمْتُ عَلَى نُقَطٍ مِنْهُ، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ القِرَاءَةِ عَرَضَ عَلَيَّ الأَصْحَابُ مَا أَمْلَيْتُهُ عَلَيْهِمْ فَنَظَرْتُ فِيهِ وَهَذَّبْتُهُ، فَهَذَا كَانَ سَبَبُ جَمْعِهِ "» (¬1). ومن هنا يتضح لك أن طريقة القدماء الأعلام هي عين الطريقة التي يسلكها اليوم كبار الطلبة المترشحين في كليات العلم الجامعة في البلاد الغربية المتمدنة، فإنهم يتلقون الدروس العالية إملاءً، وينقلون تلك الأمالي إلى تآليف مستقلة تصدر بأسماء أساتذتهم، ولا جديد تحت السماء. وانظر- يا رعاك الله - إلى لطف الإمام وتواضعه العلمي، حيث يعبر عن تلاميذه والآخذين عنه بلفظ «الأَصْحَابِ». ومهما يكن فإن كتاب " المعلم " موجود منه نسخ كاملة، ¬

_ (¬1) يستفاد من مقدمة " المعلم " أن إقراءه وإملاءه وقع من الإمام المازري في المسجد المعروف الآن بمسجد سيدي مطير الكائن برحبة النعمة في مدينة المهدية، وذلك في خلال شهر رمضان من سنة 499 هـ. راجع " تكملة الصلة " لابن الأبار: ج 2 ص 358 من طبعة مجريط سنة 1887 م.

أو متفرقة في كثير من المكتبات الخصوصية والعمومية، مثل جامع الزيتونة رقم 1099، والمكتبة المصرية، وجامع القرويين بفاس، ومكتبة الشعب بباريس، وفي تونس، وغير ذلك. 2 - " إيضاح المحصول من برهان الأصول "، وهو شرح ممتع في أجزاء عديدة على برهان إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك الجويني الشافعي، المتوفى سنة 438 هـ، في أصول الديانة، وهو من أهم ما صنف في علم الاصول، وأقدم ما شرح به هو تأليف المازري هذا، ومنه أجزاء متفرقة في مكتبات تونس وغيرها. 3 - " المعين على التلقين "، و" التلقين " تأليف أبي محمد عبد الوهاب بن علي الثعلبي المالكي قاضي بغداد، المتوفى سنة 422 هـ. قال ابن فرحون: «لَيْسَ لِلْمَالِكِيَّةِ كِتَابٌ مِثْلُهُ». وهذا الشرح يخرج في عدة أجزاء - قيل هي ثلاثون جزءًا - منه تسعة بمكتبة القرويين بفاس، ومنه بالزيتونة، وكذا بالمكتبة العاشورية وغيرها. 4 - " نظم الفرائد في علم العقائد "، وهو كتاب من أجل

مصنفات الإمام، إذ أنه أفرغ فيه ما آتاه الله تعالى من العلم الغزير الواسع، والنظر الدقيق في المعتقدات وأصولها. ولم نقف على ذكر وجود نسخة منه في المكتبات التي نعرفها. 5 - " أمالي على الأحاديث " التي جمعها أبو بكر محمد بن عبد الله الجوزقي المتوفى سنة 388 هـ من مسند الإمام مسلم القشيري، وهي كالشرح لما كان مغمضًا منها. 6 - " تعليق على مدونة سحنون " ولا يخفى أن " المدونة الكبرى " هي أم الكتب المالكية، وأساس فقههم، وأول مَا دُوِّنَ في فروع مذهبهم، ولذا كانت عناية علماء إفريقية والأندلس بها كبيرة جدًا. ويوجد من هذا التعليق جزء مفرد بمكتبة جامع القرويين. وأنت ترى مِمَّا مَرَّ بك من تآليف الإمام - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في أصول الدين والحديث والفقه اشتغاله المثمر واجتهاده بالعلم واتساع نظره فيه، على أن مأثرته لم تكن محصورة فيما تقدم، بل إنه اعتنى - وأي اعتناء - بالعلوم الفلسفية والفنون الأدبية والرياضية. ومما سنذكر لك من تصانيفه في شتى الفنون يتضح

لك مكانته الجليلة، ورسوخ قدمه فيها فمن ذلك: 7 - " الكشف والإنباء على المترجم بالإحياء " وهو نقد وإصلاح لما ورد في كتاب " إحياء علوم الدين " للغزالي من الأحاديث الموضوعة، وكلنا يعلم أن حجة الإسلام الغزالي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بالرغم عن علو مقامه في العلوم الدينية وتفرده بالآراء الصائبة في فلسفة الإسلام والأخلاق، لم يكن متحريًا غاية التحري في الأحاديث التي أوردها في تأليفه المتقدم ومن هنا انتقد عليه المازري - وهو المحدث الثقة - تلك الأنقال فأثبت منها ما أثبت، وأسقط ما سواه. ولا يظن ظان - رَجْمًا بِالغَيْبِ - أن المازري ممن يتحامل على الغزالي، أو يقصد التنقيص من جلالة قدره وعلو كعبه بالانتقاد عليه، وحاشى إمام عالم عادل كالمازري أن يزري بأحد أعلام المسلمين المشار إليهم بالبنان، في العلم والفضل والبيان، أو يمت الى الحط من عظمته، بدليل شهادة المازري نفسه في فضيلة الغزالي، وغزارة علمه، وقوة عارضته في

أصول الشريعة السمحة، فقد قال في حقه (¬1): «وَأَبُو حَامِدٍ الغَزَّالِيُّ لاَ يَشُقُّ أَحَدٌ غُبَارَهُ فِي العِلْمِ وَأُصُولِ الدِّينِ»،. وإنما انتقاده الخالص من دنيئ الأغراض موجه إلى ماورد في " الإحياء " من الأحاديث الموضوعة المنسوبة كذبًا وافتراءً على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي من الضعف والوهن الثابت بمكان لا ينكره إلا معانت جاهل بالحديث الصحيح، ولا يتسنى لِمُحَدِّثٍ ثَبْتٍ قد نهضت به فضائله واجتمع فيه العقل الراجح والفهم الدقيق وممارسة العلوم طول عمره كالإمام المازري السكوت على مثل ذلك أو التغافل عنه لما يعلم من إقبال المتعلمين على " الإحياء "، وانكباب المعلمين على مطالعته. فكأنما نقده الصحيح المجرد من شوائب الطعن والحسد ينكر وجود مثل تلك الروايات الضعيفة المعزوة إلى صاحب الشريعة العظيم، ويرى أنها لا تليق أن تكون مثبتة في مأثرة جليلة ومفخرة من مفاخر التآليف الإسلامية كـ " الإحياء " حتى ينسب إليها الضعف والوهن ¬

_ (¬1) نقل هذه العبارة الإمام القباب في الانتصار إلى الغزالي - راجع " المعيار المعرب " للونشريسي: ج 6 ص 157 (قلم).

وبذلك تنعدم فائدتها الأخلاقية العظيمة، وينقص أثرها الكبير في نفوس المطالعين من أبناء المسلمين. ومثل هذا الانتقاد هو مما يرغب فيه، ويشكر عليه لما فيه من تنبيه المؤلفين - لا سيما إذا كانوا من الأيمة الأعلام - إلى اتقاء تلك الهفوات واجتناب الموضوعات، والتحاشي عنها، والإعراض عنها وتعويضها بالروايات الصحيحة السالمة من الطعن، وفيها ما يغني الغناء الكبير عن الموضوعات. 8 - " أمالي على رسائل إخوان الصفا "، حررها في إيضاح بعض مشكلات وردت ضمن فصول تلك الرسائل الهامة في مسائل من العلوم الرياضية والآراء الفلسفية، وكان إملاؤها لها بطلب من أمير عصره الأمير العالم الأديب تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي صاحب إفريقية (¬1) وللأسف الكبير أن هذا ¬

_ (¬1) الأمير تميم بن المعز بن باديس مفخرة من مفاخر القطر الإفريقي. تولى الإمارة سنة 454 هـ، وكانت قاعدة ملكه المهدية، وتوفي سنة 501 هـ، وكان من فحول الشعراء الذين ازدانت بهم دوحة البلاد، والموجود من شعره كله عيون وغرر. راجع تأليفنا " المنتخبات التونسية ": ص 101 طبعة تونس 1336 هـ.

التعليق أو الانتقاد على " رسائل إخوان الصفا " لم يبلغ إلينا فيما نعلم، ولم نقف منه إلا على ذكره من بين مؤلفات المازري. 9 - " النقط القطعية في الرد على الحشوية ". فرقة تقول بقدم الأصوات والحروف، لها ذكر طويل في كتب الملل والنحل، فليراجع مذهبها هنالك. وهذا تأليف أيضًا لم نقف له على أثر، ولا على السبب الأصلي في تحريره. 10 - " الواضح في قطع لسان النابح ": لا نعرف من هذا التأليف إلا ما أفادنا به المازري نفسه حيث قال: «هُوَ كِتَابٌ تَقَصَّيْنَا فِيهِ كَلاَمَ رَجُلٍ - وَأَظُنُّهُ مِنْ صِقِلِّيَّةَ - وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ، ثُمَّ ارْتَدَّ وَأَخَذَ يُلَفِّقُ القَوَادِحَ فِي الإِسْلاَمِ، وَيَطْعَنُ فِي زَعْمِهِ عَلَى القُرْآنِ وَطُرُقِ جَمْعِهِ، تَقَصَّيْنَا قَوْلَهُ فِي هَذَا الكِتَابِ وَأَشْبَعْنَا القَوْلَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ» (¬1). وقد أشار المازري في محل آخر من " المعلم " أنه نقض قول هذا الملحد بالأدلة التاريخية الصحيحة، وأقام البراهين والحجج المنطقية على دحض أقواله وتفنيدها. ¬

_ (¬1) كتاب " المعلم " و" الإكمال " للأُبِّي: ج 6 ص 295.

ولا يخفى أن القرن السادس - الذي كان يعيش فيه الإمام - قد كثر فيه ظهور أهل الأهواء والمخارق والمذاهب الزائغة عن الشريعة الإسلامية، فكان من واجب العلماء المبرزين في ذلك العهد الذب عما أجمع عليه المسلمون آراءهم من لدن عصر الصحابة الكرام، وتأييد السنة المحمدية بدفع الأطعان المموهة، ودحض الشبهات الملفقة، تنبيهًا للأمة إلى مقاصد هؤلاء النازغين. 11 - " كشف الغطا عن لمس الخطا ": هي رسالة في مسألة فقهية دقيقة استفتي فيها فأجاب عنها بإيضاح وعلم وتحقيق، وقد وقفتُ عليها، ومنها نسخة بالزيتونة. 12 - " كتاب في الطب " - (كذا) والمشهور أن المازري وضع تأليفًا في علم الطب عقب حادثة حدثت له يذكرها أصحاب الطبقات في ترجمته فيحكي أن سبب طلبه لهذا العلم ونظره فيها أنه مرض مرة فكان يعالجه طبيب يهودي بالمهدية وفي أثناء المعالجة قال له الطبيب: «يَا سَيِّدِي! مِثْلِي يُطِبُّ مِثْلَكُمْ! وَأَيُّ قُرْبَةٍ أَجِدُهَا أَتَقَرَّبُ بِهَا مِنْ دِينِي وَأَهْلِهِ مِثْلَ أَنْ أَفْقِدَكُمْ

لِلْمُسْلِمِينَ!». فلم يجبه الشيخ بشيء، ثم لما عوفي أفرغ جده في دراسة الطب حتى أتقنه وملك زمامه وألف فيه، حتى قيل إِنَّهُ كَانَ يُفْزَعُ إِلَيْهِ فِي الطِّبِّ، كَمَا يُفْزَعُ إِلَيْهِ فِي الفَتْوَى فِي الدِّينِ. وإنا لنستبعد - كل استبعاد - حصول مثل هذه الحكاية، إذ يصعب علينا اعتقاد أن طبيبًا - مهما كان دينة وجنسه ودرجة علمه - يتفوه بمثل هذا الحديث الخارج عن أدب الصناعة وأدب المعاشرة، ومع ذلك فإنا لا ننكر أن الإمام - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - درس الطب وألف فيه، لا سيما وقد نقل مترجموه أنه كان «دَرَسَ فُنُونًا كَثِيرَةً مِنْ أَدَبٍ وَحِسَابٍ وَطِبٍّ وَغَيْرَ ذَلِكَ» (¬1). فلا يستغرب حينئذٍ من تدوينه في الطب وإن لم يصل إلينا تأليفه المشار إليه. يؤيد هذا الرأي ما نسوقه إليك بعد من كلا المازري في مسألة طبية أوردها عَرَضًا ضمن كتابه " المعلم " بمناسبة حديث التداوي بالعسل من " صحيح مسلم "، وقد أنكر بعض جهلة الأطباء المعاصرين ذلك قائلاً: «قَدْ أَجْمَعَ الأَطِبَّاءُ عَلَى أَنَّ العَسَلَ مُسَهِّلٌ، فَكَيْفَ يُوصَفُ لِمَنْ بِهِ إِسْهَالٌ؟». ¬

_ (¬1) " الديباج " لابن فرحون، و" أزهار الرياض " وغيرهما.

فأجاب المازري عن هذا الاعتراض البارد بقوله: «الأَشْيَاءُ التِي تَفْتَقِرُ فِيهَا إِلَى تَفْصِيلٍ قَلَّمَا يُوجَدُ فِيهَا مِثْلُ مَا يُوجَدُ فِي صِنَاعَةِ الطُّبِّ؛ فَإِنَّ المَرِيضَ المُعَيَّنَ يَجِدُ الشَّيْءَ دَوَاءً لَهُ فِي سَاعَةٍ، ثَمَّ يُصِيرُ دَاءً لَهُ فِي السَّاعَةِ التِي تَلِيهَا لِعَارَضٍ يَعْرِضُ لَهُ، فَيَنْتَقِلُ عِلاَجُهُ إِلَى شَيْءٍ آخر بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِمَّا لاَ يُحْصَى كَثْرَةً؛ وَقَدْ يُكُونُ الشَّيْءُ شِفَاءً فِي حالَةٍ وَفِي شَخْصٍ فَلاَ يُطْلَبُ الشِّفَاءُ بِهِ فِي سَائِرِ الأَحْوَالِ وَلاَ فِي كُلِّ الأَشْخَاصِ، وَأَهْلُ الرَّأْيِ مِنَ الأَطِبَّاءِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ العِلَّةَ المُعَيَّنَةَ يَخْتَلِفُ عِلاَجُهَا بِاِخْتِلاَفِ السِّنِّ وَالزَّمَانِ وَالعَادَةِ وَالهَوَاءِ وَتَدْبِيرِ المَأْلُوفِ؛ فَإِذَا عَلِمَتْ هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الإِسْهَالَ يَعْرِضُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَلَوْ كَانَ كِتَابُنَا هَذَا كِتَابَ طِبٍّ لاسْتَوْفَيْنَا ذِكْرَهَا، فَمِنْهَا الإِسْهَالُ الحادِثُ عَنْ التُّخَمِ وَالهَيْضَاتِ، وَالأَطِبَّاءُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ عِلاَجَهُ بتَرْكِ الطَّبِيعَةِ وَفِعْلِهَا، وَإِنْ اِحْتَاجَتْ إِلَى مُعِينٍ عَلَى الإِسْهَالِ أُعِينَتْ مَا دَامَتْ القُوَّةُ بَاقِيَةً، وَحَسْبُهُ ضَرَرَ وَاِسْتِعْجالَ مَرَضٍ؛ فَهَذَا الرَّجُلُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِسْهَالُهُ مِنْ اِمْتِلاءٍ وَهَيْضَةٍ، فَدَوَاؤُهُ تَرْكَهُ وَالإِسْهَالَ، أَوْ تَقْوِيَتَهُ. وَيَجِبُ حِينَئِذٍ الإِشَارَةُ عَلَيْهِ

بِشُرْبِ العَسَلِ، وَرُبَّمَا الزِّيَادَةَ مِنْهُ إِلَى أَنْ تَفْنَى المَادَّةُ فَيَقِفُ الإِسْهَالُ وَيَكُونُ الخَلْطُ الذِي بِالرَّجُلِ يُوَافِقُ فِيهِ شُرْبَ العَسَلِ ... الخ». وأنت ترى في هذه الفقرة كلام متفنن في الصناعة الطبية عارف بقواعدها الكلية والجزئية، ومنها يتضح لك أن المازري كانت عنده أكثر من المشاركة في علم الطب، فلا يستغرب أَنْ أَلَّفَ فِيهِ تَأْلِيفًا خًاصًّا. 13 - " تثقيف مقالة أولي الفتوى وتعنيف أهل الجهالة والدعوى ": رسالة من تأليفه ذكرها له (البُرْزُلِيُّ) في باب القضاء والشهادات من " مجموعته الكبيرة للفتاوى الإفريقية " (¬1)، ونقل عبارة الإمام عن سبب وضعه لهذا الجزء، حيث يقول: «وَقَدْ نَزَلَ بِالمَهْدِيَّةِ - وَفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الفَتْوَى - مَسْأَلَةٌ مِنَ الشُّفْعَةِ فِي بَعْضِ وُجُوهِهَا، وَأَنْفَذَ إِلَيَّ القَاضِي ابْنُ شَعْلاَنَ - رَحِمَهُ اللهُ - السُّؤَالَ، فَأَفْتَيْتُهُ أَنَّ الإِثْبَاتَ لَيْسَ كَحُكْمٍ نُفِّذَ، ثُمَّ اسْتُفْتِيَ مَنْ كَانَ يُفْتِي، فَأَفْتَوْا كَمَا أَفْتَيْتُ، وَهَذَا مُنْذُ خَمْسِينَ عَامًا، وَوَرَدَ بَعْدَ ¬

_ (¬1) وتسمى المجموعة " جامع مسائل الأحكام مما نزل بالمفتين والحكام " (*)، خط بمكتبتي. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) " جامع مسائل الأحكام لما نزل من القضايا بالمفتين والحكام " (" فتاوى البرزلي ")، للإمام الفقيه أبي القاسم بن أحمد البلوي التونسي المعروف بالبرزلي (توفي سنة 841 هـ / 1438 م)، تقديم وتحقيق الدكتور محمد الحبيب الهيلة، الطبعة الأولى، سنة 2002 م، نشر دار الغرب الإسلامي، بيروت - لبنان، (7 مج).

ذَلِكَ مِنَ القَيْرَوَانِ جَوَابٌ مِمَّنْ كَانَ يَدَّعِي عِلْمَ الأُصُولِ، أَشَارَ فِيهِ إِلَى المُخَالَفَةِ، فَأَمْلَيْتُ فِيهِ إِمْلاَءً طَوِيلاً تَرْجَمْتُهُ بِـ " تَثْقِيفِ مَقَالَةِ أُولِي الفَتْوَى، وَتَعْنِيفِ أَهْلِ الجَهَالَةِ وَالدَّعْوَى " وَأَشَرْتُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ إِلَى وُجُوهٍ خَالَفَ فِيهَا مَنْ أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَأَوْضَحْتُ فَسَادَ مَا عَوَّلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الآنَ مَوْجُودٌ بِالمَهْدِيَّةِ ... ». ولا مراء أن المازري عُرِفَ طيلة حياته بصراحة القول، والإصداع بالحق في كل المواطن، كما اشتهر بمجانبة حُكَّامِ الجَوْرِ، التعرض للولاة المستبدين في زمان كان السلطان فيه لحكم الإطلاق في سائر الممالك الإسلامية، وكان ذلك من أكبر الأسباب في تراجع سياسة المسلمين إلى الوراء حتى ساقها إلى التدهور والسقوط في الشرق والغرب. وفي نظرنا أن الذي حمل المازري على مجاهرة الظالمين، وتجرده لأنصار الحق، وعدم مبالاته بالسلطة المطلقة هو ما جُبِلَتْ عَلَيْهِ طَبِيعَتُهُ من التقوى وتمسكه بالمبادئ الإسلامية العالية ومن ناحية أخرى إعراضه عن الوظائف الرسمية كولاية القضاء وغيرها، مما حمل جمهور الشعب على إجلاله والالتفاف حوله

واتباع أقواله وآرائه، لذلك خافه ولاة الاستبداد واتقوا سلطانه الروحي وأمسكوا عن مسه بسوء. وكأنه أحس بتأييد الشعب لسلوكه فلم يتأخر عن مقاومة المظالم والتشهير بها ولم يراع في ذلك غير تقواه، والخوف من الله تعالى، فزاده موقفه إكبارًا وتعظيمًا في أعين معاصريه، وَأَحَلَّهُ مَرْتَبَةً عَلِيَّةً في نفوس عارفيه. يؤيد ما قدمنا آنفًا ما جاء في بعض وصاياه: « ... وَيَنْبَغِي لِلْمَلِكِ أَنْ يَكُونَ حَرِيصًا عَلَى أَخْبَارِ عُمَّالِهِ، وَيَسْتَكْشِفَ عَنْ بَوَاطِنِهِمْ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ، فَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ بِعَمَلِهِ. وَلاَ يَزَالُ أَمْرُ ذِي السُّلْطَانِ رفيعًا مُعَظَّمًا مُهَابًا، مَا لَمْ يَأْخُذْ فِي نَقْضِ عُرَى الشَّرِيعَةِ، وَرُبَّمَا تَجَرَّأَ بَعْضُ المُلُوكِ وَسَمَحُوا لِعُمَّالِهِمْ وَأَصْحَابِ أَشْغَالِهِمْ وَكُتَّابِهِمْ وَأَعْوَانِهِمْ وَأَوْلاَدِهِمْ بِهَتْكِ الحُرُمِ، وَالاعْتِدَاءِ عَلِى الرَّعِيَّةِ، وَالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِمْ بِأَخْذِ

أَمْوَالَهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْلِبُهُمْ الحَقُّ تَعَالَى العِزَّ وُيُجَرِّدُهُمْ مِنَ النِّعْمَةِ (¬1) ... الخ». وانظر أيضًا إلى ما كتب في طالعة إحدى " فتاويه " مُعَرِّضًا بتساهل معاصريه على الإفتاء بغير علم ولا تقوى: (¬2) «الحَمْدُ للهِ الذِي لاَ يُحْمَدُ سِوَاهُ، وَلاَ يُسْتَخَارُ فِي جَمِيعِ الأُمُورِ إِلاَّ إِيَّاهُ، وَنَسْتَعِيذُهُ أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَوَاهُ، فَجَعَلَ الجَهْلَ مُنْقَلَبَهُ وَمَثْوَاهُ، وَإِلَى اللهِ أَرْغَبُ أَنْ لاَ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ ظَنَّ أَنَّ العِلْمَ مَعْنَاهُ الدَّعْوَى، وَأَرَادَ أَنْ يُمَوِّهَ عَلَى العَامَّةِ بِالفَتْوَى، وَهَيْهَاتَ مَا العِلْمُ إِلاَّ مَا شَهِدَ بِهِ أَهْلَهُ، وَمَا الفَضْلُ إِلاَّ مَا عُرِفَ عَنْهُ فَضْلُهُ، وَلَيْسَ الفِقْهُ عِنْدَ مَنْ قَالَ: أَنَا وَقَنَعَ بِالمَدْحَةِ وَالثَّنَا ... ». ومثل هذا كثير جِدًّا في تحريرات المازري، ولو تكلفنا استقصاء كل ما كتب في معنى معارضة المتفقهين الجاهلين ¬

_ (¬1) نَبَّهَنَا مُحِبُّنَا العالم العامل الأستاذ محمد العربي الماجري - أحد شيوخ الزيتونة - إلى وجود اختصار هذه الوصية في أحد المجاميع الخطية التي بمكتبته الخصوصية - فله الشكر على ذلك. (¬2) كـ " جامع مسائل الحكام " للبرزلي المتقدم.

نماذج من تحاريره

أو الموالين لذوي السلطان الجائر لما أخرجنا عن حدود بحثنا وتحدينا قاصديه. وزبدة القول: إن ما وضعه الإمام المازري من المؤلفات في مختلف العلوم والفنون من حديث وفقه وأصول وجدل وأدب وطب وغير ذلك، لدليل واضح على طول باعه في العلوم وتبحره في العرفان، حتى صار المشار إليه بالبنان في ذلك الزمان. ثم إنا لا ندري هل كان له مصنفات أخر عَدَا ما ذكرنا لم تبلغنا أسماؤها الأمر الذي نشاهده في كثير من علمائنا الأعلام، وما ذلك إلا لإهمال وغفلة كثير من مؤرخينا عن إيراد تراجم مستوفاة لعظماء رجالنا، حتى يضطر الباحث الآن إلى مراجعة الكتب العديد بقصد التقاط نتف مبعثرة هنا وهناك لا تسمن ولا تشفي غليلاً. نَمَاذِجُ مِنْ تَحَارِيرِهِ: وَأَيًّا كَانَ السَّبَبُ فإنا نقتنع بأن نسوق إليك هنا نموذجًا من تحرير عَلَمِنَا الجَهْبَذَ، ليتبين لك مقدار رسوخه في الفتوى،

ورجحان فكره الثاقب في المسائل التي كانت تعرض على اجتهاده فيبدي فيها وجهة نظره. فمن ذلك: (*) أنه سئل عن قوم يجتمعون بالليل بعد صلاة العشاء الأخيرة (في مدينة سوسة والمنستير) ومعهم قناديل يمشون فوق السور يذكرون أنهم يريدون العسكر، ويقولون بإجماع أصواتهم: «سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ» بتطريب وتحزين، وينصرفون على تلك الصفة يمشون في الأزقة، ويجوزون على المجازر والمزابل، وهم على تلك الحال من الاجتماع والتطريب، إلى أن يبلغوا السور، وَقَدْ نُهُوا عَنْ فِعْلِ ذَلِكَ فِي الطُّرُقَاتِ وَأَمَامَ المَزَابِلِ، وَنُهُوا عن التطريب والاجتماع، وَأُمِرُوا أن يكونوا على السور ويتركوا التطريب، وأن سُنَّةَ الحَرَسِ في الرباط التكبير والتهليل، فهل ينهون عن هذا - وهو بدعة - ولا يذكرون الله إلا في المواضع الشريفة من غير اجتماع ولا تطريب؟ فكان جوابه: «الاجْتِمَاعُ بِالذِّكْرِ وَالتَّطْرِيبِ وَالتَّحْزِينِ، وَرَفْعٍ الصَّوْتِ ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) انظر " فتاوى المازري "، تقديم وجمع وتحقيق الدكتور الطاهر المعموري، ص 335، طبعة سنة 1994 م، - مركز الدراسات الإسلامية بالقيروان - الدار التونسية للنشر.

قَدْ نَهَى عَنْهُ العُلَمَاءُ وَأَنْكَرُوهُ وَعَدُّوهُ بِدْعَةً، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ ". وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا الفِعْلَ لَمْ يَكُنْ مِمَّا سَبَقَ فِي الزَّمَنِ الأَوَّلِ، وَلاَ فَعَلَهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ، لِقَوْلِهِ: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ " (*) مَعَ العِلْمِ بِأَنَّهُمْ أَعْبَدُ مِمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ، وَنُقِلَ عَنْهُمْ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُمْ شَدِيدُو الحَزْمِ فِي الاِزْدِيَادِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالحَمْلِ عَلَى النَّفْسِ مِنْ مُقَاسَاةِ القُرُبَاتِ، حَتَّى لَيَخِفُّ عَلَيْهِمْ إِرَاقَةُ دِمَائِهِمْ، وَقَتْلُ أَوْلاَدِهِمْ وَآبَائِهِمْ فِي الجِهَادِ فِي ذَاتِ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَلَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبِقَ هَؤُلاَءِ إِلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وَقَالَ تَعَالَى: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29]، الآيَةُ، وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ، ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلاَ نَصِيفَهُ". فَمَنْ عَرَفَ هَذَا وَجَبَ وُقُوفُهُ عَمَّا وَقَفُوا عِنْدَهُ وَيَفْعَلُ مَا فَعَلُوهُ، وَهُمْ كَانُوا لاَ يَفْعَلُونَ هَذَا. وَلاَ يَعْتَقِدُ عَاقِلٌ أَنْ يَقُولَ: مَا فَعَلُوهُ تَخْفِيفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ المَشَقَّةِ ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) هذا الحديث ضعيف جدًّا، انظر " التلخيص الحبير "، لابن حجر: 4/ 462، الطبعة الأولى: 1419 هـ - 1989 م، دار الكتب العلمية. بيروت - لبنان.

بل هو أخف شيء عليهم لو أرادوه، وكذا من بعدهم من السلف لم يرد عنهم الأمر بهذا ولا الحض عليه، وما ذاك إلا لاتباعهم من مضى ولو لم يكن إلا أن العلماء سكتوا عنه ولم يفعلوه لكان من حق العاقل ألا يفعله، فكيف وهم أنكروه ونهوا عنه؟ قال مالك فيمن يقرأ القرآن بالألحان ويعلم ذلك الجواري كالغناء: " ما هكذا كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ القرآن». فجعل حجته أنه لم يفعله من مضى بعده بدعة، وأيضًا فإظهار هذه المعاني من نوافل الخير، ولا تخلص النية فيها ويقصد المباهاة والرياء وابتغاء عرض الدنيا، وهو خلاف الشرع: وقد أمر الشرع بإظهار صلوات الفرض وإخفاء النوافل، لأن قوادح النوافل في النيات تطرق أكثر منها في الفرائض لاجتماع الناس عليها. وكذا تكلم العلماء في إظهار الزكاة - وهي فرض - وإخفائها، لقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271] الآية. وفي الصحيح ما يقتضي منع الصوت بمثل هذا: «إِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ» الحديث. وإنما أبيح في حضور الرباط حين العسس من رفع

التكبير أو غيره من الذكر لما فيه من المصلحة لإشعار من يريد اغتيال الحُصن أنهم حذرون مستعدون لدفاعه، وأما الاجتماع والتلحين في الأسواق والمجازر فلا مصلحة فيه ولا ضرورة تدعو إليه مع ما فيه من استهجان ذكر الله في المواضع المحتقرة الخسيسة، ولهذا نهى عن قراءة القرآن والإكثار منه في الأسواق احترامًا له، ولذلك قيل لابن القاسم في الباعة إذا أخذت شيئًا صَلَّتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «لَيْسَ هُوَ مَوْضِعُ صَلاَةٍ. وَيَكْفِيكَ بِرَدِّهِمْ الاِتِّبَاعَ لِمَنْ سَبَقَ مِنَ النَّاسِ» (¬1). وعن الشيخ أبي بكر المالكي (¬2) وقد شاهدنا من ¬

_ (¬1) " المعيار " للونشريسي، طبعة فاس: ج 12 ص 244. (¬2) أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الله المعروف بالمالكي - هو وأبوه من قبله من كبار رواة العلم والتاريخ بإفريقية، وكان أبو بكر هذا ممن بقي من العلماء بعد خراب القيروان على يد الأعراب الهلاليين - سنة 447 هـ - وهو من شيوخ الإمام المازري - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، وتوفي سنة 474 هـ، وله كتاب حافل في تراجم علماء إفريقية وصلحائها معنون باسم " رياض النفوس " منه نسخة كاملة بمكتبة الشعب بباريس، واختصاره في دار الكتب المصرية وبمكتبة شيخ الإسلام عارف أفندي بالمدينة المنورة وبمكتبتي الخصوصية (وترجمة المالكي بـ " المدارك " لعياض - خط - وبـ " معالم الإيمان ": ج 3 ص 217) وطبع منه الجزء الأول بعناية الأستاذ حسين مؤنس في مصر سنة 1951 م.

فضله ودينه وجلاله وعلمه بالأخبار ما يحصل الثقة في أنفسنا بما يحكيه - أن يحيى بن عمر (¬1) كان سَمِعَ بزقاق الروم - وهو طريقه إلى الجامع بسوسة - فريقًا يكبرون أيام العشر، ويرفعون أصواتهم بالتكبير، فنهاهم عن ذلك وقال: هذه بدعة فلم ينتهوا، فدعا عليهم، ودعاؤه عليهم يقتضي شدة إنكاره لما ابتدع على أمثال هذا؛ وكذا إنكاره حضور مجلس السبت (¬2) ¬

_ (¬1) أبو زكرياء يحيى بن عمر بن يوسف بن عامر الكناني، أحد أيمة المالكية الأعلام، مولده بالأندلس وانتقل في صغره إلى سكنى القيروان واستوطن آخرًا سوسة وهو من كبار تلاميذ سحنون وعليه اعتماده، وتفقه عليه خلق لا يحصون، وكان ثقة مأمونًا ذا منزلة شريفة عند الخاصة والعامة، وتوفي سنة 289 هـ وقبره خارج باب البحر بسوسة مشهور وله تآليف في مواضيع شتى غاية في التحقيق والإفادة (راجع ترجمته بـ " طبقات أبي العرب والخُشني ": ص 124 وبـ المدارك " لعياض - خط - و" الديباج ": ص 351 وغير ذلك). وقد أفردت له ترجمة مستوفاة في تعليق على كتابه " أحكام السوق " الذي سأطبعه قريبًا إن شاء اللهُ. (¬2) كان يوجد بالقيروان - خلال القرون الثالث والرابع والخامس - مسجد يعرف بـ «مسجد السبت» يعقد فيه لفيف من العامة وبعض من ينتسب إلى التزهد مجلسًا للذكر والرقائق وإنشاد الأشعار في معنى الزهد يوم السبت من كل أسبوع، وقد نهى عن هذه الاجتماعات كبار علماء القيروان المصلحين مثل يحيى بن عمر المتقدم وشيخ المالكية عبد الله بن أبي زيد وغيرهم وَعَدُّوهَا بدعة سيئة وَأَلَّفُوا كُتُبًا ورسائل في النهي عن مثل هذه المجالس لمخالفتها للسنة الصحيحة (راجع جامع السبت بـ " معالم الإيمان ": ج 2 ص 73، وج 3 ص 27 وما بعدها).

وألف فيه تأليفًا فأمر من عانده في ذلك رجلاً أندلسيًا حسن الصوت أن يصلي معه الظهر فلما فرغ من صلاته رفع الأندلسي صوته فقرأ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] إلى آخر الآيتين، فبكى يحيى بن عمر حتى سالت دموعه على لحيته، ثم قال: «اللَّهُمَّ! إِنَّ هَذَا القَارِئَ مَا أَرَادَ بِقِرَاءَتِهِ رِضَاكَ وَلاَ مَا عِنْدَكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَنْقِيصِي وَعَيْبِي فَلاَ تُهْمِلْهُ!». فينبغي أن يقال لهؤلاء: أنتم وإن سبق إلى أنفسكم أن الازدياد من الخير مطلوب فيجب أن تعلموا أن هذه الأمور لم تكن خيرًا من جهة العقول ولا من جهة الشهوات ولا أحكام الإرادات، وإنما هي أدبار من جهة الشريعة وما رسمه من آياتها عن الله تعالى ووعده من الثواب عليها، فإذا رسمها على صفة من الصفات وحد من الحدود، ونهى عن مجاوزته صارت الزيادة شَرًّا، فإن يكونوا من أهل الاجتهاد فهلموا إلى المناظرة، وإن كانوا من أهل التقليد فيسألون أهل العلم لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] و [الأنبياء: 7].

وقد أخبرناك بما تقدم لمالك وأصحابه وغيرهم من العلماء فلا ينبغي التساهل في هذه المعاني وَلاَ يُغْفَلُ عَنْ تَفقُّدِهَا ولا عما وقع منها، فصغار الأمر تجر كبارها، وربما كانت هذه حِيَلاً لاسْتِمَالَةْ قُلُوبِ النَّاسِ وَصَيْدِ دَرَاهِمِهِمْ، فإن قال هؤلاء المُسْتَفْتَى فِيهِمْ: لسنا نريد إلا وجه الله؛ قيل لهم: أصل امال حماية الذارئع، ففي بعض مسائل " المدونة ": أخاف إن صح من هؤلاء أن لا يصح من غيرهم، وقد سئلت عن بعض لباس هؤلاء المتهمين للخز والمسوح والصوف الخشن الأسود فأنكرت ذلك. وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ لِبَاسِ الصُّوفِ لِلرِّجَالِ فَقَالَ: «لاَ خَيْرَ فِي الشُّهْرَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُخْفي الإِنْسَانُ مِنْ عَمَلِهِ». فقيل له: «إِنَّمَا يَقْصِدُ بِهَذَا التَّوَاضُعُ». [قَالَ]: «يَجِدُ بِثَمَنِهِ مِنْ غَلِيظِ القُطْنِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ!» (*). فأنت ترى كيف أنكر هذه، فكيف به لو سئل عن لباس المسوح والثياب السود من الصوف؟ هذا، وقد قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البَسُوا البَيَاضَ [فَإِنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ]، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» (**) «فَإِنَّهَا [خَيْرُ ثِيَابِكُمُ]» ( ... ). الحديث، فهذه الصفة مخالفة للحديث. ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) انظر " المدخل " لابن الحاج: 2/ 141، مكتبة دار التراث. القاهرة - مصر. (**) انظر الترمذي، " السنن ": (44) كتاب الأدب (46) باب ما جاء في لبس البياض، حديث رقم 2810، 5/ 117 (تحقيق الشيخ أحمد شاكر). وكذلك الحديث رقم 2810، 4/ 502 (تحقيق الدكتور بشار عواد معروف). (( ... ) ما أورده حسن حسني عبد الوهاب - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - «فَإِنَّهُ أَفْضَلُ لِبَاسِكُمْ» لم ترد بهذه الصيغة، وإنما ورد كما أثبته «فَإِنَّهَا خَيْرُ ثِيَابِكُمُ». انظر " تحفة الأشراف " للمزي، تحقيق الدكتور بشار عواد معروف، 4/ 333، حديث رقم 5534، الطبعة الأولى 1999 م، دار الغرب الإسلامي. بيروت - لبنان.

ولما روي عن مالك، فإن رأوا مخالفة من تقدم برأي وتأويل لم يتركوا لرأيهم ويبين لهم فساد رأيهم. وعن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «أُحِبُّ لِلْقَارِئِ أَنْ تُرَى عَلَيْهِ الثِّيَابُ البِيضُ». وقد رأيت الأيمة الذين أخذت عنهم علم الشريعة - وهم أيمة عصرهم - استثقال هذه المعاني وإنكارها، ولو لم يكن في هذه إلا التشبه برهبان النصارى، فقد اشتهروا بهذا الزي حتى قال الشاعر: أَصْوَاتُ رُهْبَانِ دِيرٍ فِي صَلاَتِهِمْ ... سُودُ المَدَارِعِ نَقَّارِينَ فِي السَّحَرِ وقد ختم القاضي ابن الطيب كتاب " الهداية " له بكتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذكر من بعض فصول الأمر التشبه بزي لا يجوز التشبه به، وهذه الخيالات يستمال بها قلوب العوام ويريهم الإنسان أن سواد قلبه من الحزن كسواد لباسه، وهي مساخر وملاعب. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أُعُوذُ بِاللهِ مِنْ خُشُوعِ النِّفَاقِ وَالمَسْكَنَةِ». وهو أن يرى الجسد خاشعًا والقلب ليس بخاشع، وقيل في رجل أظهر الخشوع والمسكنة فوق ما هو عليه: «أَتَرَى

هَذَا أَخْشَعَ مِنْ عُمَرَ الذِي كَانَ يَنْزُو على الفَرَسِ مِنَ الأَرْضِ». وهؤلاء الخلفاء الراشدون ولم ينقل عنهم أن هذا المقدار هو كان لباسهم وزيهم، فإن ظن أخرق أن يفعل في اللباس وغيره ما هو أولى عند الله وأنه اجتهد فيما فرطوا فيه أو عرف ما لم يعرفوه فقد خلع ربقة العقل والمسكنة في هذا الدين من ربقته. وهذا الإفراط في التقشف قد نهى عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنكر على قوم من أصحابه ما أرادوه من التبتل، وأخبرهم أنه أخشاهم للهِ لما طلبوا منه التبتل، فأعلمهم أن التقرب إنما هو بين رؤوسهم والوقوف عندما به حكم، فقال: «لاَ رَهْبَانِيَّةَ فِي الإِسْلامِ». فينبغي أن يشنع على من ظن به جهل بما ذكرناه ولم يتعلمه أن ينفر العامة منه، فإن قصد بهذا غير وجه اللهِ أو تحيل على جاه أو مال أو صيت فقد تعرض لسخط الله تعالى. وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِنْ سَخَطِ اللهِ عَلَى العَالِمِ أَنْ يُمِيتَ قَلْبَهُ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ: قَالَ: يَطْلُبُ بِعِلْمِهِ الدُّنْيَا» (*). وتوعد أيضًا أنه يلقى في النار حيث تنقلب أقتابه ويقال له ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) لم يرد حديث بهذه الصيغة، انظر: الترمذي، " السنن ": كتاب العلم، باب فيمن يطلب بعلمه الدنيا، برقم (2654)، وابن ماجه في: كتاب الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، برقم (253).

كنت تقرأ ليقال وقد قيل. وقال سحنون: «طَلَبُ الدُّنْيَا بِالدُفِّ وَالمِزْمَارِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ طَلَبِهَا بِالدِّينِ». وهذه أمور قد كثر التحيل فيها على إراحة النفس من طلب العيش أن يكون الإنسان عالة على غيره أو مسموع القول أَوْ مُبَجَّلاً أَوْ مُكَرَّمًا. ومن صدق بما في كتاب الله من قوله سبحانه: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9]، وقوله: {يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235]، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] فلا يكون كهذا. ولسنا نشير في جوابنا هذا إلى أحد من الناس بل ربما أمكن أن يتخذ هذه الأمور من لا يقصد بها أمرًا مذمومًا مما ذكرناه، ولكن حقه إذا نصح الله ورسوله والمسلمين أن لا يفتح بَابًا يجر غيره مما لا يقصد به وجه الله تعالى إلى ركوب ما نهى الله ورسوله، فقد كثر في هذا الزمان هجران الحقائق، وربما اتخذت هذه المعاني حيلاً وشباكًا لتحصيل جاه أو مال. وليس شيء ننهى عن فعله على الإطلاق ولكن على التفصيل الذي ذكرناه. ونأمر بتبجيل المنقطعين إلى الله وإكرامهم وخدمتهم، فمن خدم الله تعالى

كان حقيقًا أن يخدم ولكن بعد صحة القصد والنيات في اتباع حدود الشريعة، ونأمر بالتنكير عمن لَجَّ في ذلك واتخذه معاشًا، كما قيل لبعض الصوفية: «أَتَبِعُنِي مُرَقَّعَتَكَ؟ فَقَالَ: " هَلْ رَأَيْتُمْ صَيَّادًا يَبِيعُ شَبَكَتَهُ!!». فأصحاب هذه الشباك ينبغي أن يتحفظ منهم، وينفر الناس عنهم وحسب العاقل أن يسلك مسالك من قد مضى «وَمَنْ مَضَى أَعْلَمُ مِمَّنْ بَقِيَ» كما قال مالك - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. والله سبحانه ولي التوفيق (¬1). فانظر - يا رعاك اللهُ - إلى حصافة آراء إمامنا الفذ وإلى أسلوبه الحكيم في التقرير والاستنتاج المرتكز على فهم مقاصد الشريعة وأصول السنة السمحة، وانظر أيضًا إلى غيرته على سلامة المعتقد من غوائل البدع وشوائب التدجيل، حتى إنه ليخيل إليك بعد الاطلاع على جوابه أنه حرره وهو يشاهد العصر الحاضر الذي كثرت فيه المخارق والألاعيب بمبادئ الدين ¬

_ (¬1) من ك " المعيار " للونشريسي - خط بمكتبتي وص 243 من طبعة فاس الحجرية، جزء 12.

العالية - والله يرزقنا الهداية ويرشدنا إلى الحق. ولنطرح أمامك جوابًا ثانيًا للإمام - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في مسألة مهمة تخص أصلاً من الأصول العامة لقانون العلائق بين الأمم، وهي مسألة الاعتراف بالقضاة المتولين من قبل أمير غير مسلم والعمل بأحكامهم وتنفيذها في بلاد الإسلام. وهذا السؤال ورد على الإمام - وهو بالمهدية - من جماعة من المسلمين المقيمين تحت ذمة النصارى بصقلية بعد انجلاء حكم الإسلام من تلك الجزيرة، ونصه: وسئل الإمام المازري عن أحكام قاضي صقلية وشهادة عدولها، ولا يدري إقامة المسلمين هنالك تحت أهل الكفر اختيارية أو ضرورية؟ فكان جوابه - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «القَادِحُ فِي هَذَا مِنْ نَاحِيَةِ العَدَالَةِ حَيْثُ أَقَامَ بِبَلَدِ الحَرْبِ فِي قِيَادَةِ أَهْلِ الكُفْرِ وَذَلِكَ لاَ يُبَاحُ، وَالثَّانِي مِنْ نَاحِيَةِ الوِلاَيَةِ إِذْ هُوَ مَوْلَى مِنْ قِبَلِ أَهْلِ الكُفْرِ. فَالأَوَّلُ لَهُ قَاعِدَةٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا شَرْعًا،

وَهِي تَحْسِينُ الظَّنِّ بِالمُسْلِمِينَ وَمُبَاعَدَةُ المَعَاصِي عَنْهُمْ، فَلاَ يَعْدِلُ عَنْ هَذَا الأَصْلِ لِظُنُونٍ قَدْ تَكُونُ كَاذِبَةً، وَمِثَالُهُ حُكْمُنَا بِظاهِرِ العَدَالَةِ وَقَدْ يَجُوزُ فِي الخَفَاءِ وَفِي نَفْسِ الأَمْرِ أَنْ يَكُونَ اِرْتَكَبَ كَبِيرَةً إلاَّ مِنْ قَامَ الدَّليلُ عَلَى عِصْمَتِهِ، وَهَذَا التَّجْوِيزُ مَطْرُوحٌ، وَالحُكْمُ لِلْظَّاهِرِ إِذْ هُوَ الأَصْلُ، إلاَّ أَنْ يَظْهَرَ مِنَ المَخَائِلِ مَا يَخْرُجُ عَنْ الأَصْلِ، فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ حِينَئِذٍ حَتَّى يَظْهَرَ مَا يَوَضِّحُ. وَهَذَا المُقِيمُ بِبَلَدِ الحَرْبِ إِنْ كَانَ اِضْطِرارًا فَلاَ شَكَّ أَنَّهُ لاَ يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ اِخْتِيَارًا جَاهَلاً بِالحُكْمِ أَوْ مُعْتَقِدًا لِلْجَوَازِ، إِذْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ هَذَا الظَّرْفَ مِنَ العِلْمِ وُجُوبًا يَقْدَحُ تَرْكُهُ فِي عَدَالَتِهِ. وَكَذَا إِنْ كَانَ مُتَأَوِّلاً وَتَأْوِيلُهُ صَحِيحًا كَإِقَامَتِهِ بِدَارِ الحَرْبِ لِرَجاءِ افْتِكَاكِهَا وَإِرْجَاعِهَا لِلإِسْلاَمِ أَوْ لِهِدَاِيَتِهِ أَهْلَ الكُفْرِ أَوْ نقْلِهُمْ عَنْ ضَلاَلَةٍ مَا، وَأَشَارَ إِلَيْهِ البَاقِلاَّنِيُّ، وَكَمَا أَشَارَ أَصْحَابُ مَالِكَ - رَحْمَةُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِي جَوَازِ الوُصُولِ لِفِكَاكِ أَسِيرٍ؛ وَكَذَا إِنْ كَانَ تَأَوَّلَهُ خَطَأً وَوُجُوهُهُ لاَ تَنْحَصِرُ كَمَا أَنْ الشُّبَهَ عِنْدَ

الأُصُولِيِّينَ لاَ تَنْحَصِرُ؛ وَرُبَّمَا كَانَ خَطَأً عِنْدَ عَالِمٍ وَصَوَابًا عِنْدَ آخَرَ، عَلَى القَوْلِ بِأَنَّ المُصِيبَ وَاحِدًا بِالآخَرِ مَعْذُورٌ، أَمَّا لَوْ أَقَامَ بِحُكْمِ الجَهَالَةِ وَالإِعْرَاضِ عَنْ التَّأْوِيلِ اِخْتِيَارًا؟ فَهَذَا يَقْدِحُ فِي عَدَالَتِهِ. فَمَنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ مِنْهُمْ وَشَكَّ فِي وَجْهِ إِقَامَتِهِ فَالأَصْلُ عُذْرَهُ، لأَنْ جُلَّ الاِحْتِمَالاَتِ السَّابِقَةِ تَشْهَدُ لِعُذْرِهِ، فَلاَ تُرَدُّ لاِحْتِمَالٍ وَاحِدٍ. إلاَّ أَنْ تَشْهَدَ قَرَائِنُ أَنَّ إِقَامَتَهُ كَانَتْ اِخْتِيَارًا لاَ لِوَجْهٍ. أَمَّا الوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ تَوْلِيَةُ الكَافِرِ لِلْقُضَاةِ وَالعُدُولِ، وَالأُمَنَاءِ وَغَيْرِهُمْ، فَحَجْزُ النَّاسِ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَاجِبٌ حَتَّى اِدَّعَى بَعْضُ أَهْلِ المَذَاهِبِ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَقْلاً. وَقَدْ أَقَامَ فِي " المُدَوَّنَةِ " شُيُوخَ المَوْضِعِ مَقَامَ السُّلْطَانِ عِنْدَ فَقْدِهِ خَوْفَ فَوَاتِ القَضِيَّةِ. فَتَوْلِيَةُ الكَافِرِ لِهَذَا القَاضِي العَدْلِ إِمَّا لِضَرُورَةٍ إِلَى ذَلِكَ أَوْ لِطَلَبٍ مِنَ الرِّعِيَّةِ لاَ يَقْدِحُ فِي حُكْمِهُ وَتُنَفَّذُ أَحْكَامُهُ كَمَا لَوْ وَلاَّهُ سُلْطَانٌ مُسْلِمٌ، وَاللهُ الهَادِي لِسَوَاءِ السَّبِيلِ» (¬1). ¬

_ (¬1) مقتطف من كتاب " الدكانة " للشيخ عظوم القيرواني - خط.

هجرة الصقليين إلى إفريقية

هِجْرَةُ الصِّقِلِّيِّينَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ: إذا كانت نصوص التاريخ التفصيلية عن نزوح بقايا مسلمي الأندلس إلى المغرب الأقصى وتونس تعوزنا، مع قرب عهد هذا النزوح من عصرنا الحاضر، فإن الأخبار الواصلة إلينا عن هجرة مسلمي صقلية إلى إفريقية التونسية بعد استيلاء النرمان على الجزيرة - سنة 486 هـ - تكاد أن تكون معدومة بالمرة. وغاية ما يقال أن عدد اللاجئين من أهالي صقلية إلى المدائن التونسية - في مدة خمسين سنة - كان لا محالة وافرًا جِدًّا ولا يقل عن خمسين ألف شخص على أقل تقدير، من بينهم فلاحين عارفين أثرياء، وتجار مياسير، وعلماء مبرزين مثل الإمام المحدث اللغوي الكاتب البليغ (عمر بن خلف بن مكي الصقلي) الذي تولى القضاء بمدينة تونس على عهد بني خراسان، ومنهم أدباء مجودون مثل الشاعر الطائر الصيت (عبد الجبار بن حمديس) الذي مدح أواخر ملوك صنهاجة بالمهدية، وغيره وغيره مما لا يكاد يحصى عددًا.

والذي يهمنا من هذا كله هو ما يؤثر عن الإمام المازري من أنه كان - في تلك الأثناء - يكرم من يفد على إفريقية من مهاجري صقلية، فيوسع على فقيرهم، ويساعد بالنصيحة الميسور منهم، عطفًا على أولئك اللاجئين المصابين بفقدان الوطن، وقد استقر منهم كثير من أحواز المهدية، والمنستير، وسوسة، فاشتروا الأرضين لا ثمارها بالفلح، فكان المازري أكبر معين لهؤلاء على استقرارهم في الوطن الجديد، وتأنيس غربتهم، وفي الواقع إن هذه العاطفة كانت تخالج ضمير سائر سكان الساحل إلا أنها ربما كانت أظهر عند المازري لما تربطه بهم من أواصر الاغتراب، نظير ما حصل - خمس قرون بعد ذلك - لجالية الأندلس النازحة إلى التراب التونسي عقب الجلاء الأخير. ولا غرابة أن تصدر عن المازري تلك الفتوى الفريدة من نوعها لإعذار أهل صقلية عن مهاجرة بلادهم، وأن يُظْهِرَ من الرأفة والشفقة لمن بقي منهم فيها، وهو أعلم الناس بحالهم، وبما كانت تكنه نفوسهم من الحسرة على مبارحة أوطانهم، واللهُ يفعل ما يريد!.

رفع التباس

رَفْعُ الْتِبَاسٍ: طالما يعرض للباحثين عن تراجم علماء صقلية الوقوف على اسم: أبي عبد الله محمد المازري؛ فربما يتبادر للفكر بادي بدء أنه الإمام المازري المخصص بهذه الترجمة، والحقيقة أنه وجد أكثر من عالم عرف بهذا الاسم وهذه الكنية وهذا النسب، ومن أجل ذلك تسرب إلى غير واحد من الباحثين في القديم والحديث التباس بين أفراد متغائرين، مما أدى إلى الخلط بين علماء واعتبارهم شخصًا واحدًا. ومن الأسباب التي حملت على هذا التخليط هو أن هؤلاء الأعلام كان يجمعهم - زيادة على الاسم واللقب والنسبة - الاشتغال بعلوم الدين والمعاصرة في الزمان. ولرفع هذا اللبس أردت أن أعرف بكلمة وجيزة كل واحد منهم. تقدم في طليعة هذه العجالة أن المازري ينسب إلى (مَازَرَةَ - أَوْ - مَازَرْ) بلدة من جزيرة صقلية (¬1)، وهي ¬

_ (¬1) مَازَرَةَ: بميم مفتوحة بعدها ألف وفتح الزاي والراء.

المازريون

أقرب مدائنها إلى القطر التونسي، فلا عجب حينئذٍ أن امتازت مازرة - في عصر الفيض الإسلامي - بمسائرة بر العدوة الإفريقية في تقاليده ومشاركته بالنصيب الوافر في العلوم والآداب العربية، وكانت مازرة آخر معاقل الإسلام بالجزيرة: وقد أنبتت عشرات من العلماء ما بين فقهاء ومحدثين وأدباء وشعراء فصحاء ومن يرجع إلى تاريخ صقلية العربية يجد ما فيه إقناع وإمتاع. المَازَرِيُّونَ: أولهم - أبو عبد الله محمد بن أبي الفرج ويعرف بـ (الذكي) المازري، فقيه حافظ مقدم في المذهب المالكي، مشهور بالعربية وسائر العلوم، مولده بمازرة وتحول إلى القيروان بعد استيلاء الإفرنج على بلده فأخذ عن الإمام السيوري وغيره، ومن تلاميذه الإفريقيين الرجل الصالح أبو الفضل ابن النحوي التوزري ورحل إلى المغرب الأقصى ثم عاد إلى إفريقية ومنها قصد المشرق وأقام بمصر والشام والعراق، وعلم في بغداد العربية وفنون اللغة، واستقر آخرًا في إصبهان في بلاد فارس وبها توفي

سنة 516 هـ (1122 م) وألف كُتُبًا كثيرة في القراءات والتفسير واللغة والنحو. - الثاني: أبو عبد الله محمد بن مسلم بن محمد بن أبي بكر القرشي المازري، قرأ أولاً ببلده ثم نزح إلى إفريقية فأخذ بالقيروان على جماعة من أفاضل علمائها، درس الأصول على أبي الطيب عبد المنعم وغيره، ثم رحل إلى الحجاز ومصر واستقر أخيرًا بالإسكندرية وأقرأ بجامعها، وكان من كبار علماء الأصول والكلام ومال في آخرته حياته إلى التصوف كما فعل الغزالي، ومن أشهر تآليفه: كتاب " البيان في شرح البرهان " لأبي المعالي الجويني - وله " المهاد في شرح الإرشاد إلى تبيين قواعد الاعتقاد " للجويني أيضًا، وهو من أحسن ما شُرِحَ بِهِ، منه نسخة قيمة قديمة بمكتبتي الخصوصية. وكان وفاته بالإسكندرية سنة 530 هـ (1136 م).

وفاته

الثالث: أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المشهور بالإمام المازري، وهو المخصص بهذه الترجمة. وَفَاتُهُ: عاش المازري حياة طويلة هنيئة مملوءة عِلْمًا وَعَمَلاً وتقوى ونصيحة للقريب والبعيد، وقد عمر حتى بلغ الثالثة والثمانين، وأدركته المنية في مدينة المهدية التي اتخذها مقرًا ومسكنًا من زمن دراسته إلى أن توفي بها يوم السبت الثامن من ربيع الأول سنة ست وثلاثين وخمسمائة (12 أكتوبر 1141 م) في مدة آخر الأمراء الصنهاجيين الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز، وكان لموت الإمام المازري رنة عظيمة في أنحاء البلاد الإفريقية، وتوجع لفقدانه سائر السكان من حاضر وباد. ضَرِيحُهُ: ونقل جثمانه من الغد فِي زَوْرَقٍ على طريق البحر من المهدية إلى المنستير، حيث مدفن الصالحين والعلماء والزهاد والمرابطين النساك، حول ذلك الرباط المبارك الشامخ الذي

كان يفزع إليه سكان الساحل الإفريقي عند الشدائد، وهرع الناس زرافات ووحدانًا من سائر الساحل وقراه لحضور الجنازة، ودفن بعد الظهر في حفل رهيب قَلَّمَا تَأَتَّى لعالم في عصره، وأقيم بعد قليل على قبره ضريح بسيط مسامت للبحر، ودام هذا البناء إلى أواخر القرن الثاني عشر للهجرة. وفي تلك الأثناء كانت أمواج البحر تغور باستمرار على الشاطئ إلى أن اقتربت جِدًّا من الضريح، وخشي [أولو] الفضل من العلماء على القبر من غمرات الموج فاتفقوا على نقله - مع غيره - إلى مكان ليس بالبعيد من الأول، فنقل رفاته - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ليلة الأحد الثالث والعشرين من ذي القعدة سنة 1176 هـ (9 يونية 1763 م) إلى المقام المشهور به الآن في مقبرة المنستير تحت ظل المحرس الكبير. وكان الآمر بهذه النقلة وببناء الضريح الحالي هو أمير عصره علي باي الثاني بن حسين بن علي مؤسس الأسرة الحسينية وقد نقشت العبارة التالية على حجر رخامي نصب في مدخل التربة فوق باب المقام:

«يَرْفَعِ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ، أُسِّسَ هَذَا المَقَامُ عَلَى ضَرِيحَيْ الشَّيْخَيْنِ الإِمَامَيْنِ العَالِمَيْنِ أَبَوَيْ عَبْدِ اللهِ مُحَمًّدٍ المَازِرِيِّ، وَمُحَمَّدٍ المَوَّازِ ... ». وظل هذا الضريح إلى يومنا المشهود من أبرك المزارات وأجمل المقامات، يزيده ريعان الموقع بهجة وجلالاً ولا غرو فإنه يواجه البحر من ناحية، وحصن الرباط الشامخ الذري من أخرى. أمطر الله هذا القبر شبائب الرحمة والرضوان، وجازى ساكنه الرضي - عن تونس الإسلامية وأهلها - جزاء الفضل الإحسان. آمين. تحريرًا بالمهدية ربيع الأنور 1348 هـ.

إصلاح غلط

إِصْلاَحُ غَلَطٍ: [[جدول بمواطن الخطأ وتصويبه]] (*) ¬

_ [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) قمت بإصلاح الأخطاء في الكتاب بنسق المكتبة الشاملة التي ذكرها المؤلف - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في الكتاب المطبوع.

خريطة جزيرة صقلية على عهد العرب (عمل حسن حسني عبد الوهاب).

§1/1