الإفصاح عن معاني الصحاح

ابن هُبَيْرَة

المجلد الأول

مقدمة ابن هبيرة لكتابه "الإفصاح" بسم الله الرحمن الرحيم (صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه): الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد، وعلى آل محمد الطاهرين؛ ورضي الله عنه الصحابة والتابعين. أما بعد: فإني كنت شديد العزم إلى رواية كتاب يشتمل على أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشهود لها بالصحة من علماء الأحاديث، وأن نذكر فقه الحديث أيضا في ذلك الكتاب ولاسيما [ما عدا] ما قد فرغ العلماء منه: كالطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والبيوع، والرهن، والإجازة؛ وغير ذلك من أبواب الفقه التي يشير الناس إليها، مما استقرت فيه المذاهب، وانتهت إليه الأمور؛ بل فيما عدا ذلك؛ لأنه قد تشتمل الأحاديث على الأمور المهمة والشؤون اللازمة في الدين، وفيما يرجع إلى العبادات والإخلاص فيها والآداب لها، وغير ذلك من أعمال الآخرة وتزكية النفوس؛ فجعلت أتتبع الكتاب المسطورة في هذا، وأرى كلا من العلماء قد أتى بغرض قصده وأوفض إليه، إلا أنه لم أجد في ذلك كتابا حاويا لما كانت تتطلع إليه نفسي حتى أتيت بكتاب

(التمهيد) لابن عبد البر الأندلسي رحمه الله؛ فرأيت كتابا نفيسا، إلا أنه اقتصر فيه على الأحاديث المروية في الموطأ عن مالك رضي الله عنه، على أنه في بعض الأماكن لم يستقص كل ما في نفسي، وفي بعض الأماكن أفرط شيئا وأكثر على شرح خلاف الفقهاء المفروغ منه. ثم إني رأيت إجماع المسلمين على الكتابين الصحيحين اللذين انتدب لتخريجهما الإمامان الكبيران: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري، وأن الأمة تلقت ذلك بالقبول، وأنه لا كتاب في الحديث على الإطلاق يفضل عليهما، فرأيت أن أجعلهما مستندا لما أقصده مما ذكرته. وكان قد انتدب (2/ ب) أبو عبد الله محمد بن أبي نصر

الحميدي رحمه الله، للجمع بين هذين الكتابين في كتاب سماه (الجمع بين الصحيحين) أحسن في تألفه، وربته على أسماء الرجال. وكنت قد سمعته على الشيخ أبي الحسن علي بن محمد الهروي في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة بالدور عن الحميدي المصنف رحمه الله، سماعا له منه في سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وقد ذكر الحميدي إسناده في هذين الصحيحين في آخر الكتاب، فقال: (فأما إسنادنا في هذين الكتابين، فقد روينا كتاب الإمام أبي عبد الله البخاري بالمغرب عن غير واحد من شيوخنا بأسانيد مختلفة تتصل بأبي عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربري عن البخاري، ثم قرأته بمكة- أعزها الله تعالى- على المرأة الصالحة كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المروزي غير

مرة لعلو إسنادها فيه؛ كما قرأناه على أبي ذر عبد بن أحمد الهروي عن أبي الهيثم محمد بن المكي بن محمد بن زراع الكشميهني عن أبي عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر بن إبراهيم الفربري عن البخاري رحمة الله عليه. وأما كتاب مسلم فسمعناه بالفسطاط قراءة على الشيخ الصالح أبي عبد الله بن الفرج بن عبد الولي الأنصاري، وهو روايته عن أبي العباس أحمد بن الحسن الحافظ الرازي، سمعه منه بمكة سنة ست وأربعمائة، قال: حدثنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه بن منصور الجلودي، قال: حدثنا الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوري، قال:

سمعته من الإمام مسلم بن الحجاج. على أننا لم نغفل النظر في كتاب كريمة لروايتنا ذلك عنها، ولا في كتاب أبي ذر الهروي لسماعنا ذلك عنه من أبي مروان عبد الملك بن سليمان الخولاني، وأبي الفتح أصبغ بن راشد بن أصبغ اللخمي عنه، وفيما أخبرونا به عن البرقاني، وفي (3/ أ) نسخة مسلم المقروءة على شيخنا أبي عبد الله بن الفرج الأنصاري، وأمعنا النظر في ذلك في كل نسخة وجدناها من النسخ في ذلك كله، وأثبتنا منها ما رأينا أنه ينتفع الناظر فيه، ولا توفيق إلا بالله عز وجل!! هذا آخر ما ذكره الحميدي من الإسناد. قال يحيى بن محمد: وقد حدثنا الصالح أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي الهروي رحمه الله بجميع كتاب الجامع الصحيح للإمام أبي عبد الله البخاري رضي الله عنه من أوله إلى خاتمته؛ قراءة عليه. ونحن نسمع ببغداد في مجالس آخرها يوم السبت التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة.

قيل له: أخبركم الشيخ أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود بن أحمد بن معاذ بن سهيل بن الحكم الداودي قراءة عليه، وأنت تسمع في شوال وذي القعدة من سنة خمس وستين وأربعمائة؟ فأقر به. وقال: نعم، مرارا. قال حدثنا الإمام أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه بن أحمد بن يوسف بن أعين السرخسي قراءة عليه، وأنا أسمع في صفر، سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربري قراءة عليه وأنا أسمع بفربر سنة ست عشرة وثلاثمائة، قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي البخاري رضي الله عنه، فذكر الكتاب. وسماع الفربري لهذا الكتاب من البخاري مرتين: مرة بفربر في سنة ثمان وأربعين ومائتين، ومرة ببخاري في سنة اثنتين وخمسين ومائتين. وهذا الكتاب رزقناه بحمد الله سبحانه من هذا الطريق عاليا، وهو من أحسن الطرق مع علوه؛ فإن الحميدي قد قرأه على كريمة مغتنما لعلوها فيه، وكأننا سمعنا من الحميدي وممن قبله من الأشياخ: كأبي بكر الخطيب،

والشريف أبي الحسين (3/ ب) بن المهتدي وتشافهنا به، وقد توفيا، أعني الخطيب وابن المهتدي، بعد الستين والأربعمائة جميعا، الخطيب سنة ثلاث وستين، وابن المهتدي سنة خمس وستين، إذ شيخنا مساوٍ لهما في الرواية. وأما كتاب مسلم فأنبأ الشريف الزاهد: أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد العزيز العباسي المكي قراءة عليه، ونحن نسمع في مجالس آخرها في شعبان من سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة من أوله إلى أثناء كتاب الصلاة إلى الحديث الذي هو عن سهل بن سعد الساعدي أنه كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجدار ممر الشاة: إلى هنا انتهى السماع منه. وأخبرنا بباقي الكتاب إجازة، قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن علي الطبري قراءة عليه، وأنا أسمع بمكة سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة قال حدثنا أبو الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي قراءة عليه وأنا أسمع قال حدثنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه بن منصور الجلودي قراءة عليه وأنا أسمع قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان قال: سمعت مسلم بن الحجاج أبا الحسين الإمام، فذكر الكتاب.

وأخبرنا بكتاب مسلم الصحيح أيضا، الشيخ الفقيه أبو الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل الأنصاري رحمه الله مناولة لي من يده إلى يدي سنة خمس وعشرين وخمسمائة مجيزا لي بإسناده، قال:؛ حدثنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن محمد صباغ الأصبهاني ثم النيسابوري بقراءاتي عليه بأصبهان في شهر ربيع الأول من سنة ثمان وتسعين وأربعمائة من أول الكتاب إلى آخر الجزء الخامس والعشرين من أجزاء الأصل إلى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: (اللهم إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض) آخر باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول يوم أحد: (كذا في الأصل يوم أحد). قال شيخنا سعد الخير الأنصاري ومن هنا إلى آخر الكتاب حدثنا به (4/ أ) أبو الحسن المذكورة إجازة، قال: حدثنا أبو الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي بقراءة حسين بن أحمد السمرقندي في سنة تسع وثلاثين وأربعمائة. قال: حدثنا أبو أحمد الجلودي، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، قال: سمعت الإمام أبا الحسين مسلم بن الحجاج يقول، فذكر الكتاب. وقد أخبرتنا الشيخة فاطمة أم الخير بنت علي بن الحسين العجلانية في كتابها من نيسابور قالت: إن أبا الحسين عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر

الفارسي أخبرها قراءة عليه وهي تسمع في سنة كذا فرأيت أن استقرئ الأحاديث من كتاب الحميدي إذ أراحني رحمه الله بتعبه وفرغني بدأبه، وبالله التوفيق.

صفحة فارغة

مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه

1 مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه واسمه عبد الله بن عثمان. أخرج له في الصحيحين ثمانية عشر حديثا. المتفق عليه منها ستة، وانفرد البخاري بأحد عشر، ومسلم بواحد. - 1 - الحديث الأول: (مما اتفق البخاري ومسلم عليه): [عن عبد الله بن عمر بن العاص أن أبا بكر قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: (قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم)].

في هذا الحديث من الفقه: * أن الدعاء في الصلاة جائز؛ لقول أبي بكر رضي الله عنه: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي؛ ولم ينكر عليه. * وفيه أيضا أنه لا يدعى في الصلاة إلا بما ورد في الأخبار، لأن أبا بكر رضي الله عنه لم يستجز أن يدعو في الصلاة إلا بما يتلقنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما غير الصلاة فيدعو فيها بما يشاء. * وفيه من الفقه أيضا أن الدعاء على الإطلاق ينبغي أن (4/ ب) يتوخى به النطق المأثور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن لا تواجه عظمة الرب سبحانه إلا بالآداب النبوية المؤيدة بالعصمة. * وفيه أيضا من الفقه أنه قال: (قل اللهم) وهذا الاسم، هو الاسم الأعظم من حيث إنه الأشهر والأظهر، ولذلك يقال: السواد الأعظم، أي الأشهر والأظهر، ولهذا الاسم خصائص منها لحوق هذه الميم في النداء به، وليس في الأسماء كلها ما تلحقه هذه الميم في النداء غيره. * وفي العربية أنه عوض من حرف النداء، إلا أنه قد جاء في الشعر الجمع بينها وبين حرف النداء للضرورة. ومن خصائصه أيضا لحوق ياء القسم به، وأنه المراد بقوله {الله نور السموات والأرض} أي هذا الاسم هو قولنا (الله نور السموات والأرض)، فله يتراحم المتراحمون، وبخوفه يكف الظالمون، ويهدد المسرفون، ويأمل الخلف المتصدقون. وقوله: (إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا) فيه من الفقه: * أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصل له هذا الحديث تأصيلا عاما شاملا لكل دعاء، وبيان

ذلك أن الطلب من الله سبحانه وتعالى يناسبه ويلائمة الافتقار إليه، والحاجة والمسكنة، كما يباينه وينافيه الإدلال والتغاني في الركون إلى نوع عبادة أو طاعة؛ فإذا اعترف الطالب لله عز وجل بأنه قد أتى ما مقتضاه الفقر والحاجة إلى فضله وعفوه، استهدف لعطائه ونزول شابيب رحمته. وقال له: قل (اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم). يعني - صلى الله عليه وسلم -: أنك إذا تطهرت من ظلم نفسك، وغفر لك ورحمك، كانت هذه مقدمات بين يدي طلبك، فحسن حينئذ منك الطلب، ولم يصادف العطاء حاجزا من ظلم يمنع نيل العهد الذي ذكره سبحانه في قوله (5/ أ): {لا ينال عهدي الظالمين} ولا ذنب لم يمح بعد فيكون الاشتغال بمحوه عند المؤمن أهم من الطلب لغيره، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول له: فإذا دعوت بهذا الدعاء انتحت الحواجز بينك وبين العطاء، فاطلب حينئذ ما شئت، وادع بما أردت. * ثم فيه أيضا أنه قال: (قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا) فجاء بذكر الظلم على نطق النكرة، ولم يعرفه بالألف واللام، فكان ينصرف إلى الظلم الذي هو الشرك، فلما أسند المغفرة إلى الله عز وجل قال: (ولا يغفر الذنوب إلا أنت) فجمعها بالألف واللام فقال: (الذنوب) والمراد بها الذنوب المعروفة المشهورة. ثم قوله: (فاغفر لي مغفرة من عندك) المعنى أنها لا تكون بسبب من عندي فتفنى وتنقضي؛ لأنه كل ما يكون مطلعه من فان فإنه يفنى ويضمحل، إنما المراد أن تكون المغفرة من الله الباقي فتبقى. ثم قال بعد ذلك (وارحمني) إذ الغفر في وضع اللغة: الستر والتغطية، فقد يغطى الشيء ولا تعقبه الرحمة، وقد يستر الأمر ولا يمحوه الصفح. فلما قال: فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، كان طلبا لمحو السيئة وتطييب أثرها.

* ثم قال: (إنك أنت الغفور الرحيم) فقوله (إنك) الكاف في خطاب الله تعالى والتاء أيضا في أماكن إسناد النعم إليه: {صراط الذين أنعمت عليهم}، فلما جاء إلى ذكر الغضب قال: (غير المغضوب عليهم) وإلى الضلالة قال: (ولا الضالين). وقال: (إنك) بالكاف ثم ألحقها بقوله: (أنت)، وهو عماد عند الكوفيين. * وفيه فائدة فوق قولنا: (إنك أنت الغفور الرحيم) لأن المعنى بقوله: إنك أنت الغفور الرحيم، أنه تعيين لهذا المعنى، أنه ليس لغيرك، فكأنه قال: لا غفور ولا رحيم على الحقيقة غيرك. - 2 - الحديث الثاني: من المتفق على إخراجه: [رواه أنس بن مالك، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: (5/ ب- الصحيفة اليسرى من المخطوطة) نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار، وهم على رؤوسنا فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه. فقال: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟]. في هذا الحديث من الفقه: * إثبات الصحبة لأبي بكر رضي الله عنه في حال شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه ليس لهما ثالث إلا الله. * وفيه أيضا أن أبا بكر رضي الله عنه لما أقلقه الحذر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو

أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا) فلم يكن جواب النبي صلى الله عليه وسلم راجعا إلى الاعتضاد بمخلوق ولا الاستغناء ببشر؛ ولكن قال له: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما) فرده من التعلق بالأسباب المخلوقة إلى خالق الأسباب.# * وفي هذا الحديث من الفقه أيضا ما يدل على فضيلة أبي بكر رضي الله عنه، فإنه لم يقل له إن الله تعالى ثالثنا في هذه الحالة خاصة ولا في الغار خاصة؛ ولكن قال له: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) أبدا. * وفيه أيضا أن الهرب من المخوف مشروع، ولا يكون ذلك نقصا في إيمان المؤمن، وعلى هذا يحمل هرب موسى عليه السلام من العصا حين انقلبت حية، وتوليه منها هاربا، وليس كما يقول بعض الناس إن ذلك من البشرية، ولكن موسى عليه السلام لم ير أن يترك الشرع في ذلك المقام بين يدي الله عز وجل فهرب من المخوف شرعا. والدليل على ذلك أنه لما قال له سبحانه: {خذها ولا تخف} انقلب الشرع في حقه حينئذ إلى أن لا تخاف منها. ولذلك جاء في الحديث أنه أدخل يده في فيها، فتواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر رضي الله عنه في الغار دليل على أن الهرب من المخوف مشروع، وأن فعله - صلى الله عليه وسلم - سنة وشريعة. * وفيه أيضا (6/ أ) تذكير بنعمة الله عز وجل لأنه بقي بما يشاء إذ جعل في ذلك الوقت السد بين نبيه - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه نعال المشركين بتشبيث أقدامهم فقال له: (لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا) فجعل السد الحائل منع أحدهم أن ينظر إلى قدمه. وذكر ابن جرير في هذا الحديث أن قوله: (لوأن أحدهم نظر إلى قدميه

أبصرنا) قال: فيه إباحة قول الرجل: (لو كان كذا لكن كذا) إن لم يرد به أن يكون قطعا شاء الله ذلك أو لم يشأ. كقولهم: لو أمطرت السماء لأعشبت الأرض. ويؤكد قول ابن جرير: قوله تعالى: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا}، وقوله: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة}. - 3 - الحديث الثالث: (حديث الرحل): (عن البراء بن عازب قال: جاء أبو بكر رضي الله عنه إلى أبي في منزلة فاشترى منه رحلا، فقال لعازب: ابعث معي ابنك يحمله معي إلى منزلي، فقال أبي: احمله، فحملته. وخرج أبي معه ينتقد ثمنه فقال له أبي: يا أبا بكر! كيف صنعتما ليلة سريت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم؛ أسرينا ليلتنا كلها، حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق

فلا يمر فيه أحد، حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل، لم تأت عليه الشمس بعد، فنزلنا عندها، فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا، ينام فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ظلها. ثم بسطت عليه فروة، ثم قلت: نم يا رسول الله! وأنا أنفضلك ما حولك، فنام، وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي أردنا، فلقيته، فقلت: لمن أنت يا غلام؟ قال: لرجل من أهل المدينة. فقلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم. قلت: أفتحلب لي؟ قال: نعم، فأخذ شاة، فقلت له: انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى. قال: (فرأيت البراء يضرب بيده على الأخرى ينفض)، فحلب لي في فعب معه (6/ ب) كثبة من لبن. قال: ومعي إداوة أرتوي فيها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليشرب منها ويتوضأ. قال: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فكرهت أن أوقظه من نومه؛ فوقفت حتى استيقظ. (وفي رواية: فوافقته حين استيقظ). فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله. فقلت: يا رسول الله: اشرب اللبن. فشرب حتى رضيت. ثم قال لي: (ألم يأن للرحيل؟). قلت: بلى. قال: فارتحلنا بعدما زالت الشمس، واتبعنا سراقة بن مالك، ونحن في جلد من الأرض. فقلت: يا رسول الله، أتينا .. فقال {لا تحزن إن الله معنا}، فدعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فارتطمت فرسه إلى بطنها- أرى-.

فقال: إني علمت أنكما دعوتما علي، فادعوا لي، فالله لكما أن أراد عنكما الطلب. فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الله فنجا. فرجع لا يلقى أحدا إلا أن يقول: قد كفيتم ما ههنا .. ولا يلقى أحدا إلى رده، ووفى لنا. وفي رواية: أن سراقة قال: وهذه كنانتي، فخذ سهما منها، فإنك ستمر على إبلي وغلماني بمكان كذا وكذا، فخذ منها حاجتك. فقال: (لا حاجة لي في إبلك). فقدمنا المدينة ليلا، فتنازعوا؛ أيهم ينزل عليه؟! فقال: (أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب؛ أكرمهم بذلك). فصعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق الغلمان والخدم في الطرق. ينادون: يا محمد، يا رسول الله، يا محمد، يا رسول الله. وفي رواية: جاء محمد، جاء رسول الله. وفي رواية قال البراء: فدخلت مع أبي بكر على أهله، فإذا عائشة ابنته مضطجعة قد أصابتها حمى، فرأيت أباها يقبل خدها .. وقال: كيف أنت يا بنية؟ وفي رواية البراء: قال أبو بكر لما خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة: (مررنا براع، وقد عطش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (7/ ب)، قال أبو بكر الصديق: فأخذت قدحا فحلبت فيه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثبة من لبن فأتيته بها فشرب حتى رضيت]. رواية البراء بن عازب- والبراء: آخر ليلة في الشهر، ويسمى البراء من ذلك، وعازب: هو المسافر عن وطنه، وأكثر ما يستعمل في الدعاء.

وقوله: (ابعث معي ابنك يحمله معي إلى منزلي) فيه من الفقه: * أنه قد يكلف الإنسان صديقه وصاحبه أن يحمل رحله ومتاعه. * وفيه جواز استخدام الأطفال. وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تبعث إلى المكاتب، فتؤتى منها بالصبيان فترسلهم في حوائجها. وقوله: (وخرج أبي معه ينتقد ثمنه) فيه من الفقه: * أن المؤمن يحمله إيمانه أن لا يأخذ في ثمن مبيع إلا ما يعرفه ويتحققه من النقود، لأنه لو أخذ في النقد ما لا يعرفه أو يتسامح هو بأخذه لكان بالضرورة يحتاج إلى أن يصرفه على مسلم آخر، وإذا لم يأخذ إلا الطيب لم يكن مضطرا أن يصرف على مسلم إلا الطيب. ويجوز أن يكون معنى ينتقده يتعجله. وأيضا فقد يخلط الرديء من المال في ماله فربما قال له الشيطان: (إن ذلك من مال أبي بكر فانتقده) ليزيل مثل هذا الشك. وقوله: (فقال: كيف صنعتما ليلة سريت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: نعم، أسرينا ليلتنا). * ففي هذا الكلام من الفائدة: أن سريت وأسريت لغتان، فلما نطق عازب بإحداهما أجابه أبو بكر رضي الله عنه باللغة الأخرى ليكون هذا الحديث مفيدا لتعليم هاتين اللغتين ما بلغ. وفي هذا من التنبيه للعالم من كل نوع من العلم إذا عرض له مثله أن يتوخى ما توخى أبو بكر الصديق رضي الله عنه. * والسرى: هو السير ليلا. وقول الله عز وجل: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} مع أن (7/ ب) السرى لا يكون إلا بالليل؛ فيه تنبيه على أنه

أسري به في بعض ليلة، لأنه لو قال: أسرى بعبده، ولم يقل ليلا، انصرف إلى الليل كله ويوضح هذا قوله: أسرينا ليلتنا يعني كلها. ثم قال: (حتى إذا قام قائم الظهيرة)؛ وقائم الظهيرة: شدة الحر- (وخلا الطريق)؛ والطريق يذكر ويؤنث- ومثلها السبيل. وقوله: (رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس بعد): * فقوله: رفعت لنا، أي نظرناها من بعيد، وكذا كل سائر في الأرض يرفع له الأشخاص كلما دنا منها. وقوله: لم تأت عليه الشمس بعد، فهذا احتراز في النطق؛ لأنه صديق فلا يقول إلا ما يخرج عن الاحتمال، إذ لو قال لم تأت عليه الشمس وأمسك، لكان يفترض أن تقول: قد أتت الشمس أمس. وفي هذا من الفقه: * أن الجلوس في الظل خير من الجلوس في الشمس إلا لمن يريد الدفء فيكون ذلك كقوله: {فسقى لهما ثم تولى إلى الظل}؛ وذلك أن الظل يستدعي الراحة والنوم، والنوم قد يكون في وقت عبادة لله عز وجل إذا أراد به العبد أن ترد قواه التي يعبد بها ربه سبحانه وتعالى، وليتعرض للرؤيا الصالحة التي هي بشرى من الله تعالى في النوم، ولقاء إخوانه المؤمنين. وقوله: (فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا)، فيه من الفقه: * أن المؤمن قد يسوي تحته ليعدل ما يماس جلده؛ لئلا يزعجه الحصى ويمنعه من النوم. * وقوله (ثم بسطت عليه فروة)، وهذا يدل على أن تليين المضجع وتوثيره غير

مكروه ولا قادح في فضيلة الراقد عليه. وقوله: (نم يا رسول الله، وأنا أنفض ما حولك) يريد بقوله أنفض: أتطلع وأفتش؛ ونفض الأرض: أن تنظر هل فيها ما يخاف؟ يقال: نفضت ثوبي، وأراد (8/ أ) مطمئنا متودعا في نومه غير منزعج لما حوله. وقوله: (فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) هذا يدل على ثقته بأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأنه آمنه على نفسه لكونه نام - صلى الله عليه وسلم - وهو ناطوره وطليته. وقوله: (فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردنا، فقلت: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من أهل المدينة)، وهذا يدل على فقه أبي بكر رضي الله عنه وتحرجه، وأنه إنما سأل تحرجا من أن يكون لأحد من أهل المدينة؛ لكونهم قد فشا فيهم الإسلام فلا يجوز التعرض له إلى بإذن كما فعل، فحينئذ قال له: أفي غنمك لبن؟ وهذا من حسن الأدب أن تكون المسألة درجات، إذ لو قال له: ما في غنمي لبن لأمسك، ولم يقل له: أفتحلب لي؟ ولو قال له: أفتحلب لي؟ - قبل سؤاله أفي غنمك لبن؟ - لم يأمن أن يقول: ما في غنمي لبن، وهذا الكلام فيه إشارة إلى أنه استعمله حاله، وهل هو مأذون له في الحلب، لأن قوله: (أفتحلب لي؟) يفهم منه: أفلك أن تحلب لي؟ وقوله: (فقلت: انفض الضرع من الشعر والتراب) فيه من الفقه: * أن النظافة- ولاسيما لضيف الإنسان وأخيه وصاحبه المؤمن- عبادة لله عز وجل، ولذلك قال: (انفض الضرع من الشعر والقذى). قال: (فرأيت البراء يضرب بيده على الأخرى) يصف النفض، وليس لجاهل أن يقول هذا نبي وصديق فماذا يضرهما أن لو وقع في الإناء تراب أو قذى؟

فإن إخراج مثل ذلك تنعم في الدنيا وترف، وليس كما زعم. وقوله: (فحلب لي كثبة من لبن) - والكثبة: القليل من اللبن وغيره، يعني مقدارا يسيرا. ومعي (إداوة أرتوي فيها للنبي - صلى الله عليه وسلم -) - (8/ ب) الإداوة: كالدلوة، ويرتوي فيها، أي يحمل الماء ليشرب منها ويتوضأ. وفي هذا من الفقه: * أنه ليس لأحد أن يسافر بغير إداوة يشرب منها ويتوضأ. ولا يقل: أنا أمضي على ما يدعيه التوكل، فلا أحتاج إلى إداوة؛ إذ لو كان ذلك مما يجوز لكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصديق رضي الله عنه، قد سبقا إليه الخلق؛ ولكن الذي فعلاه هو الحق. وحكى عن بعض الناس أنه قال: إذا رأيت المسافر يسافر بلا إداوة فاعلم أنه عزم على ترك الصلاة. وقوله: (فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فكرهت أن أوقظه فوقفت حتى استيقظ) وفي لفظ (فوافيته حين استيقظ) ففي هذا الحديث من الفقه: * أن أبا بكر تأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يهجم على إيقاظه من نومه ولكنه وفق حتى استيقظ، أو وافاه حين استيقاظه، لأنه ربما يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوحي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوحى إليه في المنام. وقوله: (فصبت على اللبن من الماء حتى برد أسفله) وكان معه الماء منذ حلب الراعي اللبن؛ ولكنه لفطنته وتأنيه لم يصب عليه الماء حينئذ، فكان إلى أن يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحمي في الزمان الذي ذكره إذ قال: حتى قام قائم الظهيرة، ولكنه ترك الماء بحالة في الإداوة حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صبه على اللبن حينئذ ليبقى برده عليه.

* وفيه أيضا ما يدل على التداوي من العطش في شدة الحر باللبن المشوب بالماء البارد يكون .... * وفيه أيضا من فطنة أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لم يضع يده في ليعرف برده، ولا شرب منه قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل تركه بحاله فلم يعرف ذلك إلا ببرد أسفله. * (9/ أ) وفيه أيضا أنه وضعه على راحته ولم يمسكه بشفته لأن جوانبه كلها معرضة لأن يشرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها فترك لك احتراما لما يمس شفته - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: (فشرب حتى رضيت) ولم يقل حتى شبع، ولا حتى امتلأ، ولكنه أشار إلى أنه بلغ الحد الذي أرضى المشفق عليه الذي صحبه في سراه وسيره، وعلم من ذلك ما لقيه. وهذا مما يدل على أن أبا بكر الصديق إنما برد اللبن بالماء ليلتذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببرده، ولم يكن كما يقول الجهال نوع ترف؛ ولكن عبادة. وقوله: (ثم قلت: اشرب يا رسول الله فشرب حتى رضيت) فيه من الفقه: * أنا أبا بكر رضي الله عنه كان واثقا بوثوق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به، فإنه قد تحقق منه تحققه لأمانته رضي الله عنه، فلم يبادر بأن يشرب هو منه كما يفعل الأعجام مع ملوكها، خوفا من أن يكونوا جعلوا لهم في الطعام ما يسوء. وفيه أيضا ما يعلم كل ضيف حسن الأدب، بأن لا يقول لصاحب الطعام لا آكل حتى تأكل أنت منه، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المقام كان كالضيف لأبي بكر؛ لأن أبا بكر قال للراعي: (أفتحلب لي؟). وقوله: (أفتحلب لي؟) ولم يقل: (أفتحلب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟)، ولا: (أفتحلب لنا؟)؛ من أجل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأكل صدقة، وهذا مما حصل بلسان طلب فهو يشبه الصدقة

فكان على معنى الهدية من أبي بكر رضي الله عنه للنبي - صلى الله عليه وسلم - مثل اللحم الذي تصدق به على بريرة. وقوله: (فاتبعنا سراقة بن مالك ونحن في جلد من الأرض). يعنى بالجلد: الأرض الصلبة الغليظة غير متهيلة ولا متخسفة. (9/ ب). وقوله: (في جلد من الأرض) فإن ارتطام فرس سراقة في جلد من الأرض آية من آيات الله عز وجل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: (ألم يأن للرحيل؟) يعني الوقت للرحيل، وهذا مما يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في تلك الحال على ما مضى فيه من تشريع الهرب من المخوف، ثابت الجنان قوي القلب بربه سبحانه وتعالى، فلم يهب من النوم هبوب المنزعج ولا الخائف ولذلك قال: (ألم يأن للرحيل؟)، قال: (بلى). وقوله: (فقلت يا رسول الله: أتينا، فقال: لا تحزن إن الله معنا). * وهذا مما يدلك على أن أول سابق سبق إلى قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند شدة الصدمة والفزع إلى الله سبحانه لا إلى مخلوق، فلم يقل: سنتوارى في هذا الشجر، ولا: سنرقى هذا الجبل، ولكنه قال: (لا تحزن إن الله معنا) وهاهنا يتبين الإيمان لا بالنوم في الشمس ولا بشرب اللبن الذي فيه القذى التراب. وقوله: (فدعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارتطمت فرسه): * ارتطمت الفرس إلى تشبثت ولم تكد تتخلص. وقوله: (إلى بطنها). أرى هذا يدل على أن الصديق كان شديد التحرج في نطقه لأنه قال: (أرى) أي أحسب.

* وفيه ما يدل على أن الصادق يخبر على غلبة ظنه وما يراه. وقوله: (فالله لكما أن أراد عنكما الطلب، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنجا). * وهذا يدل على شدة جنان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحالة لأنه دعا له ولم يشترط عليه ويقل: لا أدعو لك حتى ترد عنا الطلب. وقوله: (هذه كنانتي فخذ سهما منها فإنك ستمر بإبلي) فلم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاحتفال به (10/ ب)، ولا طلب دوام المودة معه، بل قال (لا حاجة لي في إبلك) وقوله: (لا حاجة لي في إبلك، ولم يقل: (في غلمانك)؛ مع أنه عرضها جميعا عليه، إذ له حاجة في غلمانه أن يهديهم الله للإسلام. وقوله: (أيهم ينزل عليه) فيه حسن أدب الصديق، حيث لم يقل: ننزل لأن من كان صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يذكر نفسه بحرف يقتضي المشاركة، إذ هو تبع. * وفيه أيضا ما يدل على أن الرجل قد يكرم الرجل بنزوله عليه فيكون الفضل له في إكرامه من ينزل عليه بنفسه لأنه يسوق إليه ثوابه وحسن الذكر فيه، ويدخل بذلك تحت أوق منته ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - (أكرمهم بذلك). * وفيه أيضا ما يدل على أن الفرح والسرور في الحق إذا بلغ من المسلم فقال الكلمة الدالة على سروره والمشعرة بفرحه من غير أن يخرج به قوله إلى ما لا يصلح فإن ذلك يكون من خير ما يستحب، لا مما يكره؛ لقوله: (فتفرق الغلمان في الطرق، وصعد النساء والرجال فوق البيوت ينادون: يا محمد يا رسول الله، جاء محمد، جاء رسول الله)؛ وإنما كان قولهم قد أخرجوه مخرجا يغيطون به الكفار، إذا بلغهم من أجل سلامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المشركين، ووصلوه إلى مقصده آمنا سالما - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: (فتفرق الغلمان والخدم في الطريق .. يا محمد، يا رسول الله!). معناه يا قوم جاء محمد، وكذلك قوله جاء رسول الله، فمعناه جاء محمد يا قوم،

فالمحذوف من الكلام (قوم) مرة من أوله، ومرة (يا قوم) من آخره. ومنه قول الناس: (يا قاتل الله الكافر)، معناه: (يا قوم قاتل الله الكافر). وقوله: (فرأيت أبا بكر يقبل خد عائشة) فيه: جواز تقبيل الرجل خد ابنته. وقوله: (كيف أنت يا بنية؟): فيه استحباب سؤال المريض عن حاله، وهذا خلاف عادة الجبارين (10/ ب) فإنهم لا يرون السؤال عن مريضهم ولا الرحمة بضعيفهم، ولا أن يقبل الرجل ابنه ولا ابنته ولا يدينه. - 4 - الحديث الرابع: [عن أبي هريرة: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل حجة الوداع، في رهط يؤذن في الناس يوم النحر، أن: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ثم أردف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فأمره أن يؤذن بـ (براءة). قال أبو هريرة: فأذن معنا في أهل منى بـ (براءة)، أن: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. ويوم الحج الأكبر يوم النحر، والحج الأكبر: الحج. وقيل له: الحج الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر.

قال فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج من العام القابل الذي حج فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع مشرك. وأنزل الله تعالى في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا، وإن خفتم عليه فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء} الآية. وكان المشركون يوافون بالتجارة، فينتفع بها المسلمون، فلما حرم الله تعالى على المشركين أن يقربوا المسجد الحرام، وجد المسلمون في أنفسهم مما قطع عليهم من التجارة التي كان المشركون يوافون بها، فقال الله تعالى: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء} ثم أحل في الآية التي تتبعها الجزية، ولم تؤخذ قبل ذلك، فجعلها عوضا مما منعهم من موافاة المشركين بتجاراتهم، فقال عز وجل: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} الآية. فلما أحل الله ذلك للمسلمين: عرفوا أنه قد عاضهم أفضل مما خافوا ووجدوا عليه، مما كان المشركون به يوافون به من التجارة]. هذا الحديث هو من كلام أبي هريرة على ما اشتمل (11/ أ) من حكاية الحال بمجموع ما اشتملت عليه الروايات عنه، إلا أنه يشير من الفقه المستند إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: * أن العهود لا يباح نقضها إلا بعد نبذها والإعلان بالخروج منها؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كان بينه وبين المشركين عهد، أعلن نبذ عهدهم إليهم في موسم يجمع

الناس، وتنتشر أخباره، ومن مدة يبلغون فيها إلى مأمنهم، مشعرا - صلى الله عليه وسلم - بذلك أن الغيلة والفتك بمن له عهد لا يجوز في المشركين، فكيف بالمسلمين؟! ثم إردافه بعلي عليه السلام أبا بكر رضي الله يدل على شدة احتفال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذا الأمر بحسب عظم الرسول في نفسه، أعني عليا إلى أبي بكر، فإنه قد دل في هذا الحديث أن عليا كرم الله وجهه كان رسولا إلى أبي بكر بقوله فبعث عليا فأمره، يعني فأمر أبا بكر على لسان علي ولو كان المأمور (عليا) لكان قال (وأمره) بالواو. وقول أبي هريرة: (فأذن معنا ببراءة) يدل على ذلك، ويدل عليه أيضا قوله فأردف بعلي أبا بكر، وهذا اللفظ يشعر بتقرير؛ لأن لفظ الرديف يؤذن تقرير المردف وتثبيته، ويدل أيضا عليه قول أبي هريرة: (فنبذ أبو بكر إليهم عهدهم). * وفي هذا الحديث أيضا التنبيه على عظم شأن هذا النبذ بإيفاد أبي بكر فيه، وإرداف علي رسولا إليه لأجله، وإنه لكذلك من حيث إن هذا النبذ هو الفارق بين الحق والباطل، ومن أول مقامات الإعلان وإظهار الإسلام والثقة بوعد الله في استمرار ذلك من غير تلوم ولا تردد. * وفي هذا الحديث أيضا من الفقه تقديم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا النبذ بين يدي حجته (حجة الوداع)، ليكون أهل وصاياه في الحج والناقلون عنه العدول من المسلمين مع تطهير تلك الأرض من أنجاس المشركين. * وفيه أيضا من الفقه أن يوم النحر يسمى (11/ ب) يوم الحج الأكبر. * وفيه من الفقه أيضا أن المؤمن قد يعتريه الهم في انقطاع ما يكون له من مادة معيشة أو كسب لقول أبي هريرة: (وجد المسلمون في أنفسهم مما قطع عليهم من التجارة). * وفيه أيضا من الفقه جواز مبايعة المسلم للمشرك. * وفيه أيضا من الفقه أن المؤمن إذا فرح بما يبيحه الله له ويعوضه به من رزق في

هذه الدنيا أنه غير ضار له في دينه ولا قادح في إيمانه، لقول أبي هريرة: (فعاضهم أفضل مما خافوا). * وفيه أيضا من الفقه في قول الله عز وجل: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله} ولم يقل فسوف يخلف الله عليكم، وكان يقف الخلف على قدر المخلف فقط، وذكر الغنى عام وشامل، والعيلة الفقر. * وفي الحديث أيضا من حسن التنبيه أنهم لما احتسبوا بما انقطع عنهم من ربح تجار المشركين، عاضهم الله عز وجل بما يأخذونه من أموالهم بعينها من الجزية، قهرا جهرا بغير عوض ولا ثمن، حلالا طيبا. * وفي هذا من الفقه رفع ما كان في الجاهلية من طواف الرجل والمرأة حول البيت عراة، وكان ذلك سيرة لهم؛ فأزاله الله بالإسلام مع ما أزال الله سبحانه من مقابح الجاهلية. * وقد يجوز أن يكون في هذا الحديث من نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخفي إلى خلافة أبي بكر بعده حتى أمره على الحاج قبل حجة الوداع فارقا بين الحق والباطل. - 5 - الحديث الخامس: [عن أبي هريرة أيضا قال: لما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر- بعده- من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله)؟؛ فقال أبو بكر: لأقاتلن من فرق بين الصلاة

والزكاة، فإن الزكاة حق المال (12/ أ)، والله! لو منعوني عناقا- وفي رواية: عقالا- كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله! ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق). * وفي هذا الحديث من الفقه أن الإمام إذا أدى اجتهاده عن نص من كتاب أو سنة مما يخفى على غيره من أماثل مأموميه، فإن الواجب هو متابعة الإمام على ما يريه الله إياه، فإن عمر رضي الله عنه ذهب اجتهاده إلى أن لا يقاتل من منع الزكاة وظن أن قول: لا إله إلا الله مع منع الزكاة يعتصم الدم حتى اشتد أبو بكر رضي الله عنه وأبان له بزيادة فقهه في قوله: (لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) لأنه قاس الأصل المختلف فيه على أصل مجمع عليه، لأنه لم يكن في الصحابة من ينازع في أنه لو أن طائفة من الناس قالوا: (لا إله إلا الله) ثم لم يصلوا، أنهم يقاتلون. * وفي هذا الحديث من الفقه أيضا أن المؤمن قد يستدل بانشراح صدر المؤمن للقتال على ما لا يستدل به عند انشراحه للسلم لقوله: (فما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق) لأن في القتال من المؤن والأخطار ما ليس في السلم، ولا يحتملها العاقل المؤمن مثل أبي بكر إلا على يقين من أمره. * وفي هذا الحديث من الفقه أيضا أن الحق قد يخفى على الجماعة الكثيرة ويظهر الله عليه الواحد إذا كان في موضع ذلك من المقام في الإسلام.

* وفي هذا الحديث من الفقه أيضا أن الإفصاح عن المعنى قد يكون أحيانا بالغضب في الأمر كما جرى لأبي بكر في ذلك. * وفي هذا الحديث من الفقه أيضا أن الغضب قد يكون في بعض المواطن عبادة لله عز وجل ولاسيما إذا كان مشعرا بشدة احتفال الغاضب بالأمر كهذا المقام الذي قام فيه أبو بكر رضي الله عنه، وعلى هذا يرجع هذا إلى قوله (12/ ب) سبحانه: {فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا} وقوله عز وجل: {وأخذ برأس أخيه يجره إليه}، {قال ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي}. * وفيه من الفقه أيضا أنه يجوز مراجعة الإمام في بعض الأحداث المجتهد فيها بتذكيره أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسنة وما عساه أن يكون قد شده عنه كمراجعة عمر لأبي بكر ولم ينكر عليه. * وفيه أيضا من الفقه أن أبا هريرة سمى منع الزكاة كفرا لاستحلالهم ذلك، فقد انتشر في الإسلام تسميتهم بأهل الردة. - 6 - الحديث السادس: (قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا نورث، ما تركناه: صدقة). [هذا الحديث ذكره الحميدي عن عائشة وذكر فيه: أن فاطمة سألت أبا بكر أن يقسم لها ميراثها. وفي رواية: أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك، وسهمه من خيبر. فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا نورث، ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال). وإني، والله، لا أدع أمرا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنعه فيه إلا صنعته، إني أخشى إن تركت

شيئا من أمره أن أزيغ. قال: فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس فغلبه عليها علي، وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر وقال: هما صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرهما إلى من ولي الأمر. قال: فهما على ذلك اليوم. وفي رواية: فهجرته فاطمة فلم تكلمه في ذلك حتى ماتت، فدفنها علي ليلا، ولم يؤذن بها أبا بكر. قالت: وكان لعلي وجه من الناس حياة فاطمة، فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي، ومكثت فاطمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة أشهر ثم توفيت. فقال رجل للزهري: فلم يبايعه علي ستة أشهر؟ .. فقال: لا والله، ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي. وفي حديث عروة: فلما رأى علي انصراف (13/ أ) وجوه الناس عنه ضرع إلى مصالحة أبي بكر، فأرسل إلى أبي بكر ائتنا، ولا تأتنا معك بأحد، (وكره أن يأتيه عمر، لما علم من شدة عمر) فقال عمر: لا تأتيهم وحدك. فقال أبو بكر: والله، لآتينهم وحدي، ما عسى أن يصنعوا بي، فانطلق أبو بكر فدخل على علي وقد جمع بني هاشم عنده، فقام علي فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد، فلم يمنعنا أن نبايعك يا أبا بكر إنكار لفضيلتك، ولا نفاسة عليك بخير ساقه الله إليك، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقا، فاستبددتهم علينا، ثم ذكر قرابتهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحقهم، فلم يزل علي يذكر حتى بكى أبو بكر رضي الله عنه، وصمت علي، فتشهد أبو بكر، وحمد الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد، فوالله لقرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إلي أن أصل من قرابتي، وإني والله ما ألوت في هذه الأموال التي كانت بيني وبينكم عن الخير، ولكني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا نورث، ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال) وإني، والله لا أدع أمرا صنعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا صنعته إن شاء الله، فقال علي: موعدك للبيعة العشية، فلما

صلى أبو بكر الظهر، أقبل على الناس يعذر عليا ببعض ما اعتذر به، ثم قال علي، فعظم من حق أبي بكر، وذكر فضله وسابقته ثم قام إلى أبي بكر فبايعه، فأقبل الناس على علي فقالوا: أصبت وأحسنت، وكان المسلمون إلى علي قريبا، حين راجع الأمر المعروف]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا نورث) ولهذا الحديث عمل أبو بكر؛ وأما عثمان فروى ابن جرير عنه أنه كان يرى أن مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده للقيم (13/ ب) بأمر المسلمين، وأما دفعه فقد دفعه عمر إلى علي والعباس رضي الله عنهما ولاية، ومن هنا يتأول ما في هذا الحديث من قوله: (فغلبه علي عليها) أي على الولاية. وقال المفسرون في قوله تعالى: {وورث سليمان داود} أي ورث العلم والحكمة. وقال ابن جرير: في هذا الحديث ما يدل على جواز اقتناء الأموال الفاضلة عن الكفاية، وليس الفقر أفضل من الغنى بدليل هذا الحديث لأنه روي من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يقتسم ورثتي دينارا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة).

وقال: إن حديث ابن مسعود (لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا)، يريد أن ذلك فيمن يخاف على نفسه من الرغبة في الدنيا بذلك. قال الوزير رحمه الله: والذي أراه في ذلك أن في هذا إباحة ذلك، إلا أنه لا يكون مانعا من رجحان الفقر في الفضيلة أحيانا من حيث إن الفقر سبب قوي في رضا الخلق عن ربهم، والغنى سبب قوي في تسخط الناس على ربهم لأن الناس إذا رأوا الغني تسخطوا وإذا رأوا الفقير رضوا عن الله في أحوالهم، وقد قال تعالى: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم}، فقدمهم بذلك ثم عقبهم بذكر الأنصار فقال: {ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا}، إلا أن الصحيح أن الفقر والغنى حالان يشرف الآدمي في أحدهما بقدر عمله إذا عمل به فيه، فكل منهما طريق واضحة إلى معاملة الله عز وجل. وذكر ابن جرير أن في هذا الحديث حجة على وجوب قبول خبر الواحد العدل؛ لأن فاطمة والعباس لم يسأل أحدا بعد إخبار أبي بكر رضي الله عنه لهما، من قوله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا نورث). قال الوزير- تغمده الله برحمته (14/ أ) -: وقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: (لا نورث) هذه نون الجمع، لأنه أراد بذلك نفسه وجميع الأنبياء؛ ولا يجوز أن تكون نون جمع لأهله، لأن أهله قد ورثوا. * وفي هذا الحديث حجة على جواز إحباس العقار الموقوف، وأن تكون غلته جارية

في الصدقات أبدا، لأنهم لم يقسموا الأرض على الفقراء وإنما قسموا غلتها. * وفي هذا الحديث من الفقه أن من شرف الأنبياء أن لا يورثوا مالا، فإن تركهم المال مع كونهم بعثوا داعين إلى الزهد في المال لا يليق بشرف منازلهم، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة: (لا يقتسم ورثتي دينارا) وقول عائشة: (جاءت فاطمة والعباس يلتمسان ميراثهما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، وقول أبي بكر لهما: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا نورث، ما تركناه صدقة) فإني استدللت بهذا من فعل أبي بكر رضي الله عنه على متانة دينه وشدة ورعه، وأنه لو كان مسامحا أحدا من خلق الله في حق من حقوق الله لكان قد سامح فاطمة ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا قال في آخر الحديث: (والله لقرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إلي أن أصل من قرابتي) لكنه خاف من الله عز وجل أن يراه أو يراه العباس وفاطمة بعين من سامحهما في ذات الله عز وجل. * وفي هذا الحديث أيضا من الفقه أن الإنسان إذا كان عنده قول حق أو تحمل شهادة في موطن يشبه التهمة فإنه يصدع بالحق فيه، ولا يلتفت إلى ما يظن الجاهلون به، وأن أبا بكر رضي الله عنه، هو راوي هذا الحديث، وهو الخصم في الأمر من حيث إن الولاية له، وهو مع ذلك كله صدع بالأمر (14/ ب) وشهد بالحق، فلا جرم أنهما رضي الله عنهما صدقا خبره، وقبلا قوله. * وقوله: (إني أخاف إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ) فيه أنه لا ينبغي للعالم، ولا لذي الخطر الكبير أن يتجاوز عن شيء في معصية الله في أمر زهيد ولا شيء يسير؛ فإن أبا بكر رضي الله عنه على ارتفاع مقامه وعلو شأنه يقول: (إني أخاف إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ) أي أميل. * وأما قول عائشة رضي الله عنها: (هجرته فاطمة رضي الله عنها فلم تكلمه حتى

ماتت) قال الوزير- رحمه الله-: (الذي روي أن أبا بكر رضي الله عنه دخل على فاطمة بإذن علي عليه السلام فقال لها: والله لئن تفتقر بناتي أحب إلي من أن تفتقري، لكني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا نورث، ما تركناه صدقة، فقالت له: أنت وما سمعت). ولشأن فاطمة رضي الله عنها من الزهد في الدنيا فوق أن يظن بها إلا ما يناسب ذلك. ولهذا المعنى قال في الحديث الذي نحن في تفسيره: (فهجرته فاطمة فلم تكلمه في ذلك) أي لم تكلمه في الميراث؛ لأنها هجرته فلم تكلمه في غير ذلك. * وأما ما ذكرته عائشة من أن عليا دفن فاطمة ليلا، ولم يؤذن بها أبا بكر فقد روي أن أبا بكر هو الذي صلى عليها، وإن كان دفنها ليلا فلعله بوصية منها إيثارا للخفر. * وأما قول عائشة: فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي، فإن ذلك قد يجوز أن يكون لاستناد علي إلى رأي فاطمة في حياتها؛ لأنها بضعة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد طال مرضها، وقد كان يرجى برؤها لتشاور وتصلح، فلما ماتت استوحش (15/ أ) من انفراده، فمال إلى صلح أبي بكر، فأرسل إلى أبي بكر (أن تأتينا)، ولا يبعد من علي رضي الله عنه أنه أراد أن يجعل لأبي بكر رضي الله عنه فضيلة القصد إليه لأنه الراعي للكل، والراعي يتبع الشاذة. وقوله: (ولا تأتينا معك بأحد) فإن الذي يظن به أن يأتي معه بعمر، وفي عمر شدة؛ فإذا سمع بعض ما يجري من العتاب لم يؤمن أن يغلظ في الجواب، وكانت إرادة علي من حضور أبي بكر الإصلاح فخاف علي من شدة عمر وغيرته على الحق. فقال له عمر: (لا تأتهم وحدك) فقال: (والله لآتينهم وما عسى أن يصنعوا بي؟) وهذا يدلك على ما ذكرنا. * وقول علي رضي الله عنه: (ما منعنا أن نبايعك إنكار لفضيلتك ولا نفاسة عليك بخير ساقه الله إليك) اعتراف بفضيلته التي تناسب هذا المقام- مقام مثوبة وعبادة

لله- وليس كما هو يظنه الجهال أنه مراد للرفعة في الدنيا من غير إرادة للآخرة؛ لأنه لو كان كذلك لكان لم يسمه علي رضي الله عنه خيرا. وقوله: (ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقا فاستبددتم علينا)، يجوز أن يكون هذا الحق أرادبه الشورى منه، فلما عقدت البيعة لأبي بكر من غير مشاورة لعلي أثر ذلك عنده، وقوله: (فاستبددتم علينا) فإن حال أبي بكر رضي الله عنه مشهورة بحيث تجيب عن هذا؛ وإنما كانت بيعته في حال سرعة وانتهاز فرصة، ومقام إطفاء فتنة وخوف فرقة؛ فلذلك لم يكن في الحال من الطمأنينة ما يشاور فيها غير من حضرها، وكانت منهم كفاية وغنية. وقول علي: (موعدك للبيعة العشية) ولم يبايعه وهو عنده، وهذا حسن أدب من علي رضي الله عنه لأنه أراد أن يقصده في مجلسه ثم يبايعه ولتكون بيعة رغبة، ولذلك تابعه بنو هاشم، ولم يكن امتناع بني هاشم من ذلك إلا على علم منهم أن امتناعهم لا يؤثر خللا في بيعة أبي بكر فإن الإمام إذا (15/ ب) بايعه الواحد أو الاثنان من أهل الحل والعقد ثبتت له البيعة، ووجبت له الطاعة ولذلك استجاز من بني هاشم التخلف عن أبي بكر رضي الله عنه، لعلمهم أن تخلفهم ليس بقادح في بيعته ولا مؤثر في إقامته لأن المسلمين كلهم كالجسد الواحد فكانت لهم أسوة باقي الناس من أهل المشارق والمغارب. وقوله: (وموعدك للبيعة العشية) يريد به توكيد عقد وإعطاء يد. وقول المسلمين في آخر الحديث: (أصبت وأحسنت بذلك) على ما ذكرناه. وكذلك قول عائشة: (حين راجع الأمر المعروف) يعني منه رضي الله عنه ومن شيمه.

من أفراد البخاري - 7 - الحديث الأول: [من رواية عبد الله بن عمر حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قد شهد بدرا، توفي بالمدينة، قال عمر: فلقيت عثمان بن عفان، فعرضت عليه حفصة فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، قال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا. قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئا؛ فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ فقلت: نعم. قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبلتها]. هذا الحديث هو عن عمر رضي الله عنه (16/ أ)، وإنما ذكره الحميدي في مسند أبي بكر رضي الله عنه لقول أبي بكر: علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

* وفيه من الفقه أن الرجل يستحب له إذا تأيمت وليته أن يسعى لها في النكاح ولا يهملها. * وفيه أيضا أنه يستحب له أن يختار لها الأكفأ ممن لا يعرفها إذا نكحها. * وفيه أيضا من الفقه أنه لا بأس بأن يخطب الرجل الرجل لابنته، ولا يقف حتى يبدأه الرجل بالخطبة كما فعل شعيب النبي عليه السلام إذ قال لموسى عليه السلام: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين}. * وفيه أن عثمان لما قال: (قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا) علمنا أنه احترز لكلامه وتحرى الصدق فيقوله: (يومي هذا)، ولو لم يقله كان امتناعا من التزويج على الإطلاق. وقوله: (فعرضتها على أبي بكر، فلم يرجع إلي شيئا فكنت عليه أوجد مني على عثمان)، وهذا لأن عثمان أفصح له فأراحه، وأبو بكر لما لم يرد عليه شيئا تركه على الانتظار والترقب لما يكون منه، ولذلك بادر رضي الله عنه إلى الاعتذار إليه عن هذا الإمساك؛ لأن رد جواب كل سائل عن قوله متعين، وإنما أمسك أبو بكر لمكان سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويدل هذا على أنه إذا روعي المهم من الأمر كحفظ سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اغتفر له الشيء اليسير من بعض الأمر كالتعرض لموجدة عمر، وكان ذلك سهلا فيما بين الإخوان مع رجاء الإنابة في مستقبل الحال. * وفي هذا الحديث ما يدل أيضا على أن على الصاحب أن يكتم من سر صاحبه ما لم يستكتمه إياه، فإن أبا بكر رضي الله عنه قال: (علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرها) ولم يقل أسر إلي ولا استكتمني. * وفيه أيضا أن أمر النكاح يستعان على نجحه بالكتمان. وقد ذكر الحميدي أن هذا (16/ ب) الحديث يذكر في مسند عمر لقوله فيه ثم خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنكحتها إياه.

الحديث الثاني: [من رواية عمر عن أبي بكر موقوفا أنه قال: ارقبوا محمد صلى الله عليه وسلم في أهل بيته]. المعنى: احفظوه. * وفيه من الفقه أنه يجب على كل مسلم أن يعتقد حب أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وولاءهم فرضا واجبا، وهم: آل العباس، وآل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وكان أقرب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين مات- العباس لأنه عم، والعم يحجب ابن العم، فلذلك رد الله عز وجل الخلافة إلى ذريته إلى يوم القيامة إلى شاء الله تعالى. * وهذا الحديث يدل على حفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أهل بيته، ومن حفظه فيهم أن لا يرى أحد من أهل بيته- ومعاذ الله- على بعض ما يخالف فيه أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا بعين حفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نهي ذلك الرجل الذي هو من أهل بيته لقوله (ارقبوا محمد في أهل بيته) أي احفظوا شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا ترقبوا إلا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وليس هذا مما يدل على أن يتسامح لأحد من أهل بيته في ترك شيء من شريعته - صلى الله عليه وسلم - لأنه لو أراد مراعاتهم دون مراعاة شرعه لقال: ارقبوا أهل بيت محمد - صلى الله عليه وسلم -. من ذلك قول الشاعر: مودتي لك تأبى أن تسامحني .... بأن أراك على شيء من الزلل

- 9 - الحديث الثالث: (في جمع القرآن) [عن زيد بن ثابت قال: أرسل إلي أبو بكر رضي الله عنه مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر جالس عنده فقال أبو بكر: إن عمر جاءني، فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن؛ فيذهب من القرآن كثير، وإني أرى أن تجمع القرآن، قال: قلت لعمر: وكيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله (17/ أ) صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. وفي رواية: فقال لي أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا تتهمك؛ قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، قال زيد: فوالله، لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قال: قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير، قال: فلم يزل أبو بكر يراجعني، وفي رواية: فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، قال: فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة- أو إلى خزيمة- الأنصاري أجدها مع أحد غيره: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم} خاتمة براءة، قال: فكانت الصحف عند أبي بكر، حتى توفاه الله، ثم عند عمر، حتى توفاه الله تعالى، ثم عند حفصة بنت عمر. قال بعض الرواة:

اللخاف، حجارة بيض رقاق واحدتها لخفة. زاد ابن شهاب عن أنس: أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان- وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق- فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها إليه، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام؛ فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين: إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء من القرآن فاكتبوه (17/ ب) بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا؛ حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. قال ابن شهاب: وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت: أنه سمع زيد بن ثابت يقول: فقدت آية من سورة الأحزاب حين نسخت الصحف، قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها، فوجدنها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه}، فألحقناها في سورتها في المصحف. وفي رواية: مع خزيمة بن ثابت الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين.

وفي رواية: قال ابن شهاب: اختلفوا يومئذ في (التابوت) فقال زيد: (التابوه). وقال ابن الزبير وسعيد بن العاص: (التابوت) فرفع اختلافهم إلى عثمان فقال: اكتبوه (التابوت) فإنه بلسان قريش]. * في هذا الحديث من الفقه اعتماد المصلحة، وأن لا يجبن المؤمن عنها؛ وإن لم يكن ورد فيها نص، فإن رأي أبي بكر رضي الله عنه سبق الخلق إلى كتابة القرآن، ثم تبعه في ذلك عمر، ثم ثلثهما زيد؛ ثم لا نعلم أن أحدا من المسلمين عرف ذلك إلا واستصوبه إلى يوم القيامة. وهذا يدل على أن القرآن قد كان محفوظا في قلوب الرجال، وإنما كان ما رآه أبو بكر رضي الله عنه من نسخه في الصحف زيادة حفظ له، ليؤمن عليه من نسيان شيء أو تغيير حرف أو غير ذلك، وإلا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج من الدنيا إلا وقد أدى كتاب الله عز وجل، وحفظه عنه العدد الكثير حفظا متفرقا، فأما حفظه كله فقد روي أنه حفظه كله قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة وهم: (أبي بن كعب، ومعاذ، وزيد بن ثابت،

وأبو زيد الأنصاري). وأقام عثمان بن عفان رضي الله عنه لنساخته أربعة: (18/ أ) (عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن الحارث بن هشام؛ وزيد بن ثابت). والأربعة هم الغاية في الشهادة في الشريعة، فاختار واحدا من الأنصار- وهو زيد- وجعل ثلاثة من المهاجرين. * وفي هذا الحديث من الفقه أن عثمان رضي الله عنه لما بعث إلى الأمصار ما بعث ثم

أحرق الباقي فإنه لم يرد بذلك إلا الإشعار بشدة عزمه فيه وصلابته في العمل بمقتضاه لئلا يجري بين الأمة اختلاف في شيء منه. * وقوله: (مع خزيمة الأنصاري قد كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها)، وهذا يدل على أنه أضاف قول خزيمة إلى علمه بذلك. * وفيه من الفقه أنهم- رضي الله عنهم- لم يكونوا مهملين لشيء من القرآن، حتى إنهم اختلفوا في (التابوت- والتابوه) حتى أثبتوه (التابوت)، بلسان قريش. * وفي هذا الحديث من الفقه أيضا ما قد يدل على شرف قريش، وأنهم أفصح العرب، لقول عثمان رضي الله عنه: (فإن القرآن نزل بلغة قريش) وقد صدقه في ذلك القرآن بقوله عز وجل: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه}. * وفيه أيضا من الفقه أن المؤمن قد يتخوف من الإقدام على الأمر إلى أن يتيقن جوازه، ألا ترى قول زيد بن ثابت: (فلو كلفاني نقل جبل ... إلى آخر حديثه)، إلا أن هذا قد يعرض للإنسان فيما الصواب ضده، فينبغي للإنسان أن لا يقف مع خواطره. * وفي هذا الحديث من الفقه أن المؤمن قد يستدل بانشراح صدره في الأمر على كونه رضا لله عز وجل إذا كان قد عرف منه وعرف من نفسه معاصاة الهوى، وإباء الميل إلى الدنيا. - 10 - الحديث الرابع: (في ذكر الصدقات) [من حديث أنس: أن أبا بكر الصديق لما استخلف، كتب له حين وجهه إلى البحرين، هذا الكتاب؛ وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر: (محمد) سطر،

و (رسول) سطر، و (الله) سطر: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن سئلها (18/ ب) من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط: في أربع وعشرين من الإبل فما دونها، من الغنم في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإن لم يكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها ابنة لبون أنثى، فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستة ففيها حقة طروقة الجمل؛ فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة، ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليست فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة. وصدقة الغنم: في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة؛ فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة شاة واحدة، فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة؛ وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يخرج في الصدقة هرمة،

ولا ذات عوار، ولا تيس إلا أن يشاء المصدق. وفي الرقة ربع العشر، فإن لم يكن إلا تسعون ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها. ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهما. ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة، فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق (19/ أ) عشرين درهما أو شاتين. ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده إلا ابنة لبون فإنها تقبل منه ابنة لبون، ويعطي معها شاتين أو عشرين درهما. ومن بلغت عنده صدقة بنت لبون، وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين. ومن بلغت صدقته بنت لبون، وليست عنده، وعنده بنت مخاض، فإنها تقبل منه بنت مخاض، ويعطي معها عشرين درهما أو شاتين. ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده، وعنده بنت لبون، فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين، فمن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها وعنده ابن لبون، فإنه يقبل منه، وليس معه شيء). قال البخاري: وزادنا أحمد- يعني ابن حنبل- عن الأنصاري، وذكر

الإسناد عن أنس، قال: كان خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - في يده، وفي يد أبي بكر، وفي يد عمر بعد أبي بكر. قال: فلما كان عثمان جلس على بئر أريس، وأخرج الخاتم، فجعل يعبث به فسقط، قال: فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان ننزح البئر فلم نجده]. * في هذا الحديث من الفقه قوله: (هذه فريضة الصدقة) ومعنى الفرض هاهنا بيان التقدير كقوله تعالى: {أو تفرضوا لهن فريضة} أي تقدروا مبلغ كميتها. وأما بنت مخاض: فهي التي أتى عليها حول ودخلت في السنة الثانية وحملت أمها فصارت من المخاض، وهي الحوامل. وأما بنت اللبون: فهي التي أتى عليها حولان ودخلت في الثالث فصارت أمها لبونا بوضع الحمل. والحقة: هي التي أتى عليها ثلاث سنين، ودخلت في الرابعة، فاستحق عليها الحمل والضراب. وقوله: (فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين طروقة الجمل) أي قد طرقها الفحل. والجذعة: هي التي لها أربع سنين ودخلت في الخامس. وقوله: (فإذا زادت على عشرين ومائة، ففي كل أربعين ابنة لبون)

(19/ ب) فيه دليل على أن الفريضة لا تستأنف بعد العشرين ومائة، وهو قول الشافعي وأحمد رضي الله عنهما، خلافا لأبي حنيفة إذا زادت على عشرين ومائة واستؤنفت الفريضة، ففي خمس شاة وفي عشر شاتان. وقوله: (في صدقة الغنم في سائمتها)، قد دل التقييد بالسوم على أنه لا تجب الزكاة في العوامل والمعلوفة، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد خلافا لمالك. وقوله: (لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة). قال الشافعي رضي الله عنه: الخشية خشيتان، خشية الساعي أن يقبل الصدقة، وخشية رب المال أن يكثر الصدقة، فأمر كل واحد منهما أن لا يحدث في المال شيئا من الجمع والتفريق؛ وشرح هذا: أن يكون لرجلين ثمانون شاة لكل واحد أربعون فيجمعا بينهما عند مجيء الساعي ليأخذ شاة، أو يكون لرجل واحد أربعون فيفرقها في موضعين لتسقط الصدقة. وقوله: (وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان)، وهذا إذا أخذ المصدق من نصيب أحدهما شاة، فإنه يرجع بقيمة نصفها على خليطه، وهذا صريح في صحة الخلطة وتأثيرها خلافا لأبي حنيفة في قوله: (لا تأثير للخلطة). وقوله: (لا يؤخذ في الصدقة هرمة) وهي الكبيرة، (ولا ذات عوار) وهي المعيبة، (ولا تيس) وهو فحل الغنم؛ وإنما لا يؤخذ لنقصه أو لرداءة لحمه. وقوله: (إلا أن يشاء المصدق) يعني الساعي لأنه له ولاية النظر، ويده كيد الفقراء؛ إذ هو وكيلهم؛ ولهذا يأخذ أجرته من مالهم. والرقة: الفضة دراهم كانت أو غيرها. وقوله: (ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة؛ وليست عنده؛ وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهما)؛ فيه من الفقه:

أن كل (20/ أ) واحدٍ من الشاتين أو الدراهم أصل في نفسه، وليس ببدل لأنه خير بينهما بحرف (أو)، وقد لا يتساوى ذلك في كل الأمكنة، ولا في جميع الأزمنة، فدل على أنه تقويم شرعي، والسر فيه أن الصدقة قد تؤخذ على المياه، وفي البرية حيث لا يوجد سوق ولا مقوم، فحسن من الشرع أن يقدر شيئا يقطع التشاجر، إلا أن من سر هذا الحديث فيما أعلمه مما يستدل به على ترتيب أمور الشرع على الأصول المحفوظة والأسباب الصادقة أن النصاب لما كان في أول الإبل خمسا، وكان الواجب فيها شاة من غير جنسها وعلى ذلك إلى أن انتهت إلى خمس وعشرين. فالذي أرى- والله تعالى الموفق- أن الخمسة ثمن العدد عند الحساب تسمى شيئا فإذا ضربت في نفسها كان المرتفع من ذلك خمسة وعشرين فيسمونه حينئذ مالا، وهو غاية ما يرتفع من ضرب الشيء في نفسه، فلما انتقل النصاب من الشيء إلى المال، انتقلت بإزائه الفريضة من الشاء إلى الإبل، ولما كان النصاب الأول خمسا من الإبل، والواجب الشاة فعندئذ كان انتقال الفريضة إلى الإبل؛ انتقلت الدرجة من الخمس إلى العشر فصارت من خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين، ثم جاءت هكذا مرتين فلما زادت الإبل زيد عليها خمس فصارت كلما زادت عشرا فرض فيها، فلما زادت بعد المرتين سهل على أرباب الأموال بأن رخص لهم في خمس أخر، وتوالت هكذا إلى تسعين، ثم حينئذ سهل عليهم بأن جعلت الدرجة في ذلك ثلاثين من الإبل ثم لما زادت فوق ذلك جعل في كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة رعاية لقلوب أرباب الأموال، ويعلم الله سبحانه وتعالى بشح عبده. وما ذكر من الواحدة (20/ ب) الزائدة فالمراد بها أن يخلص النصاب لرب المال، وتكون هذه الواحدة كالشيء الفاضل. * وفيه أن ضياع الخاتم من يد عثمان رضي الله عنه كان عقيب العبث به، وهذا يدل على التحذير من العبث في جميع الأشياء.

من أفراد البخاري - 11 - الحديث الخامس: [عن عقبة بن الحارث بن عامر قال: صلى أبو بكر العصر، ثم خرج يمشي، يعني ومعه علي، فرأى الحسن يلعب مع الصبيان فحمله على عاتقه، وقال: بأبي، شبيه بالنبي .... ليس شبيه بعلي وعلي يضحك]. * في هذا الحديث من الفقه: استحباب التصابي للصبي ومسرة قلبي أبيه فيه. * وفيه أيضا من الفقه أنه إذا نزع الولد بالشبه إلى قبل أمه وجده من أمه، فإن ذلك لا يقدح في صليبة انتسابه إلى أبيه، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا حديث معروف في الشبيه سيذكر في موضعه. * وفيه أيضا أن ما كانت العرب ترقص به أولادها من الشعر والرجز جائز، وهو أدعى إلى فطنة الصبي ومداراته. فأما ضحك علي رضي الله عنه له فلا أراه إلا سرورا بذلك، وكذلك أرى حمل أبي بكر رضي الله عنه له فإنه أراد إصابة السنة بذلك في حمل الولد، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان يحمل الحسن والحسين، كذلك حمل أمامة بنت ابنته

زينب في الصلاة، وهذه حالة يأباها الجبارون، ويأنف منها المتكبرون؛ لا يحملون أولادهم ولا يعطفون على صغارهم. - 12 - الحديث السادس: [عن عائشة قالت: لما استخلف أبو بكر قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وشغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، ويحترف للمسلمين فيه]. * (21/ أ) في هذا الحديث من الفقه أن أبا بكر رضي الله عنه أراد إعلام الناس بأنه إنما يأكل من مال المسلمين ما يأكل عوضا عن حرفته التي كانت- كما قال- لا تعجز عن مؤنة أهله، وأنه جعل حرفته النظر في أمور المسلمين. * وفيه أيضا من الفقه أنه لم يؤجر نفسه بأجرة معلومة؛ ولذلك قال: (سيأكل آل أبي بكر من هذا المال) أي بقدر كفاية ما يحتاجون إليه. وقوله: (ويحترف للمسلمين فيه) أي بتثميره وجلبه من وجوهه. * وفيه أيضا من الفقه أن المؤمن تكون له الحرفة ليمون بها أهله، وأنها لا تنافي التوكل على الله عز وجل بل تلائمه. * وفيه أيضا من الفقه جواز الأكل من بيت المال على ما كان فيه من جزية أهل

الكتاب الذين يستحلون بيع الخمور والخنازير وما فيه من غنائم المشركين، وأنه لا يسوغ لأحد أن يتورع فيقول لا آكل من بيت مال المسلمين، فإن ذلك بدعة، اللهم إلا أن يبلى بزمان لا يوجد فيه حقوق بيت المال بموجب الشرع فحينئذ لا ألومه. - 13 - الحديث السابع: [عن عائشة موقوفا قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه]. * في هذا الحديث من الفقه ما يدل على ورع أبي بكر رضي الله عنه ولا سيما في هذه الصورة، فإن أخذ الأجر على الكهانة محرم، ثم الخديعة في ذلك محرمة، فتغلظ الأمر بأنه خدع في الحرام، فبادر أبو بكر رضي الله عنه إلى بذل جهده من (21/ ب) كونه أخرج ما حصل في بطنه من ذلك، على أنه لم يمكنه من أن يستوعب كل ما كان في بطنه فقد جاء في الحديث عنه أنه قال: (اللهم إني أعتذر إليك مما خالط العروق والمعاء) إلا أن هذا الحديث إن بلي بمثله مؤمن على مثل صورته، فخاف- إن هو جاء على نفسه- التلف، فلا يتعرض للقيء بل يستغفر الله تعالى إذ لا يجوز له التعرض لإتلاف نفسه. * وفي هذا الحديث جواز أكل السيد من غلة المملوك وخراجه، وعلى أن أبا بكر رضي الله عنه لم يسأل عبده هذا الوجه الذي جاء به حتى ابتدأ العبد فذكر ذلك،

فيدل على جواز أكل الرجل من غلة عبده من غير أن يسأله، وعلى ذلك فإن العبد إذا ذكر لسيده الوجه الذي جاءه بذلك منه في المقام المشتبه عليه كهذه الحالة كان العبد بذلك مثابا عند الله عز وجل. - 14 - الحديث الثامن: (في ذكر وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -) [عن عائشة وعن ابن عباس من رواية أبي سلمة عنهما قالت عائشة في حديثها: (أقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مسجى ببرده، فكشف عن وجهه فقبله، ثم بكى، وقال: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك، فقد متها. قال أبو سلمة: فأخبرني ابن عباس: أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس، فأبى، فتشهد أبو بكر، فمال الناس إليه، وتركوا عمر، فقال: أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله سبحانه وتعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} إلى {الشاكرين}، قال: والله (22/ أ) لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس، فما أسمع بشرًا إلا يتولها)].

* في هذا الحديث من الفقه جواز تقبيل الميت، وظاهر الحال أن أبا بكر إنما فعل ذلك لما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله، وهو لما قبل عثمان بن مظعون فإنه قبله وهو ميت بعد كشف الثوب عنه. * وفيه أيضا ما يدل على فضيلة أبي بكر أنه لم يستكن للمصيبة على عظمها، بل أحسن التسلية بقوله: (ما كان الله ليذيقك موتتين) وبخروجه إلى الناس. * وفيه أيضا من الفقه أن الرجل إذا كان في أمر مهم وأراد الإفصاح به، فتكلم إنسان بحضرته، فسكته فلم يسكت، أنه لا يشغل الوقت بالاشتغال بمجادلته وتسكينه بل يعدل هو إلى ذكر ما يعلمه كما فعل أبو بكر. * وفيه من التنبيه على فضيلة أبي بكر بما قاله في البديهة وما استشهد به من كتاب الله تعالى، وهذه الآية الكريمة منذ نزلت أشارت بالإشارة اللطيفة إلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يموت موتا ولا يقتل قتلا لقوله عز وجل: {أفإن مات أو قتل} فبدأ بذكر الموت ثم عقبه بعد القتل بذكر (أو) التي تقع أحيانا للشك، وإنما ذكر سبحانه القتل في هذه الآية لتجويز القتل على الأنبياء، وإن كان قد ذهب قوم إلى أنه لم يقتل نبي قط في معركة، وهو قول له وجه من حيث إن قتل النبي في المعركة حيث يشتد الوهن بمصابة يوهم أنه ضعيف يخالفه كتاب الله عز وجل في أماكن منها الآية التي تلي هذه الآية، وهي قوله: {وكأين من نبي قتل، معه ربيون كثير} في قراءة من قرأ

بالوقف على قتل، وهو (22/ ب) الأقيس في ذلك لأجل ضمير الجمع في (وهنوا) أي الربيون. * وقوله تعالى في هذه الآية: {وسيجزي الله الشاكرين} لأنه لما ذكر انقلاب من ينقلب على عقبيه ثم عقبه بذكر من ثبت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم على دينه، فإنها نعمة تامة تستوجب الشكر عليها فقال سبحانه وتعالى: {وسيجزي الله الشاكرين}. - 15 - الحديث التاسع: [أورده أبو بكر البرقاني ههنا، وأخرجه غيره في مسند عائشة من رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن أبا بكر لم يكن يحنث قط في يمين، حتى أنزل الله تعالى كفارة اليمين، فقال: لا أحلف على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها، إلا أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني]. * في هذا الحديث من الفقه ذكر شدة عزيمة أبي بكر والثبات على يمينه إذا حلف. * وفيه أيضا دليل على أن اشتداده كان لله عز وجل لا لنفسه ولا من طبعه، فلما أنزل الله عز وجل كفارة اليمين، ترك ما كان عليه من العزم، وعدل إلى ذلك، وإنما سر بما أنزل الله عز وجل من الكفارة لأن اليمين ربما كانت تصده عن أفضل، وترده عن أجود، وتمنعه عن خير، فلذلك قال: (ولا أحلف على يمين وأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني)، وعلى هذا فلا أرى أن يحنث الإنسان في يمينه للعدول إلى ما ليس بخير.

- 16 - الحديث العاشر: [عن قيس بن أبي حازم قال: (دخل أبو بكر رضي الله عنه على امرأة من أحمس، يقال لها: زينب، فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ قالوا: حجت مصمتة، فقال لها: تكلمي، فإن هذا لا يحل؛ هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت، فقالت: من أنت؟ قال: امرؤ من المهاجرين، قالت: أي المهاجرين؟ قال: من قريش، قالت: من أي قريش؟ قال: إنك لسؤول، أنا أبو بكر، قالت: ما بقاؤنا على (23/ أ) هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم. قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى. قال فهم أولئك على الناس)]. * في هذا الحديث من الفقه أنه إذا رأى المؤمن أحدا على بدعة- وهو يظن أنه على سنة- فإنه ينكر عليه، وإن كان ما يأتي به يخرج في شبه العبادة، فإن أبا بكر لما رآها لا تتكلم، وقالوا: (إنها حجت مصمتة) فقال: (تكلمي فإن ذلك من عمل الجاهلية) وإنما قالت من أنت؟ لتستدل على مقامه في العلم، وتنظر هل هو ممن يرجع إلى قوله، فلما قال لها رجل من قريش، امرؤ من المهاجرين، اتصف لها بصفة جميلة كافية، وقدم في الإسلام، فلما استزادت هي وقالت: (من المهاجرين؟) فقال لها: (من قريش) فاتصف بصفة أخرى خصته بالقرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: (من أي قريش)؟ فقال لها: (إنك لسؤول) أي لكثيرة السؤال كما يقال في صفة الرجال: شكور، وذكور، وعجول لزيادة

معنى. ثم إن أبا بكر لما عرف ما تريد من سؤالها قال: (أنا أبو بكر)، فلما عرفها نفسه اقتنعت بفتياه الأولى، وعملت بها ثم بادرت إلى انتهاز الفرصة في حضوره فسألته مسألة أخرى، قالت: (ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به؟)، وإنما سألت سؤال مسرورة بالإسلام وأجابها أبو بكر جوابا فيه الحصة الأولى والسهم الأعلى، فقال: (ما استقامت بكم أئمتكم) وإنما قال ذلك رضي الله عنه من عظم فقهه، وكرم فهمه، وأنه نظر إلى أن استقامته في زمانه هي التي يترتب عليها استقامة الناس كلهم .. وفي هذا الكلام إشارة إلى أنه لو قد فسد أحد من الناس كانت الملامة حقيقة من حيث (23/ ب) التعلق بالقدوة. وقولها: (ما الأئمة؟) فأحسن لها الجواب والتلطف إلى إفهامها بقوله: (ألم يكن لقومك أشراف ورؤوس يأمرونهم فيطيعونهم؟) فقالت: (بلى) فقال: (هم أولئك). - 17 - الحديث الحادي عشر: [عن طارق بن شهاب قال: جاء وفد بزاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر رضي الله عنه، يسألونه الصلح، فخيرهم بين الحرب المجلية، وبين السلم المخزية فقالوا: هذه المجلية قد عرفناها، فما المخزية؟ قال: تنزع منكم الحلقة والكراع، ونغنم ما أصبنا منكم، وتردون علينا ما أصبتم منا، وتدون لنا قتلانا، وتكون قتلاكم في النار، وتتركون أقواما يبتغون أذناب الإبل، حتى يرى الله خليفة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين أمرا يعذرونكم به، فعرض أبو بكر ما قال على القوم، فقام عمر بن الخطاب فقال: قد رأيت رأيا وسنشير عليك، أما ما ذكرت من الحرب المجلية، والسلم المخزية، فنعم ما ذكرت، وأما ما ذكرت من: أن نغنم ما أصبنا منك وتردون علينا ما أصبتم

منا: فنعم ما ذكرت، وأما ما ذكرت: تدون قتلانا، ويكون قتلاكم في النار، فإن قتلانا قاتلت فقلت على أمر الله، أجورها على الله، ليست لها ديات، فتتابع القوم على ما قال عمر) - اختصره البخاري]. * في هذا الحديث من الفقه صلابة أبي بكر في دينه، وشدة وثوقة بظهور أمر الله، كما وعد بتخييره إياهم بين الحرب المجلية وبين السلم المخزية وهذا يدل على تأنيث السلم. * وفيه أيضا أنه يستحب للإنسان أن يعرض ما وقع له على ذوي الفطنة لقوله: (فعرض أبو بكر ما قال على القوم) فإن من الرأي استشارة ذوي الرأي. * وفيه أيضا من الفقه أن المؤمنين لهم أن يشيروا على الإمام في بعض الأمر، وإن خالف شيئا من قوله، ولكن (24/ أ) بحسن أدب. كما قال عمر: (رأيت رأيا وسنشير عليك)، وإنما قال ذلك أي إنما قلت هذا عن رأي رأيته فأشرنا، ولو أنه عن نص وسنة لم يجز أن يشير أحد عليك بخلافه. * وفيه أيضا من الفقه أن من يذكر للإمام ما عنده من الرأي فإنه يذكره على سبيل المشورة لا على سبيل الحتم والقطع؛ فإن عمر قال: وسنشير عليك. * وفيه أيضا من الفقه أن الإمام إذا كان قد رأى رأيا ونطق به، ثم إن بعض

أصحابه رأى ما يخالف ذلك، ترك ما كان قد رآه، ورجع إلى قول صاحبه سيما إذا كان الصاحب مثل عمر. * وفي هذا الحديث من الفقه أيضا أن عمر آنف للشهداء من أن يأخذ ورثتهم عوض نفوسهم الكريمة عرضا من الدنيا بعد مماتهم، كما أنفوا هم من ذلك في حال حياتهم، ومن أجل أن المبايعة سبقت وأخذوا العوض من الله عز وجل بقوله: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} فقد سبق بيعهم وقد اشترى الله عز وجل منهم، فكيف كان يجوز أخذ العوض من شيء أخذ ثمنه من قبل، فرضي الله عن عمر وعن أبي بكر. آخر أفراد البخاري من مسند أبي بكر رضي الله عنه من أفراد مسلم وانفرد مسلم بحديث: [عن أنس قال: قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، انطلق بنا إلى أم أيمن، نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهيا إليها بكت. فقالا لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: إني لا أبكي، إن لأعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن

أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها]. * في هذا الحديث من الفقه أنه يستحب للمؤمن أن لا يغفل (24/ ب) عن حسن العهد، ولا يلهو عن ذكر الصحبة فإنهما كانا يزوران أم أيمن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه من الفقه أيضا أن بكاء أم أيمن كان لانقطاع الوحي النازل من السماء، وهذا مهم يشملها ويشمل سائر الناس، ولذلك أثار بكاء أبي بكر وعمر. * وفيه أيضا أن الإنسان قد يهيج له البكاء ببكاء أخيه، ولا يكون ذلك ناقصا من إخلاصه. آخر مسند أبي بكر رضي الله عنه.

مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه

2 مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخرج له في الصحيحين أحذ وثمانون حديثًا. المتفق عليه منها ستة وعشرون حديثًا، وانفرد البخاري بأربعة وثلاثين حديثًا، وانفرد مسلم بأحد وعشرين حديثًا. - 19 - الحديث الأول: (مما اتفقا عليه) [أن عمر بينما هو يخطب الناس يوم الجمعة، إذ دخل رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين الأولين: وفي رواية: إذ دخل عثمان بن عفان، فناداه عمر: أية ساعة هذه؟! قال: إني شغلت اليوم، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد على أن توضأت، فقال عمر: والوضوء أيضا، وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل!

وفي رواية أنه قال: ألم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل؟] * في هذا الحديث من الفقه جواز الكلام للإمام وهو يخطب. * وفيه من الفقه جواز التأنيب للرجل الرفيع القدر، عند إخلاله بفعل الأفضل وتأخره عن الأولى، فإن عمر رضي الله عنه لم يقل لغير عثمان أية ساعة هذه؟ يعني أنه ليس مقامك في الإسلام ومنزلتك من الإيمان بحيث يسبقك الكل إلى الفضيلة في التبكير إلى الجمعة حتى يفوتك البدنة والبقرة والشاة والدجاجة (25/ أ) والبيضة، وينال ذلك غيرك ممن هو دونك، ولاسيما وأنت مقتدى بك، ومشار إلى علمك، فلم يكن يرى عمر إلا تقديم هذا التأنيب على فوت الفضيلة لمثل عثمان رضي الله عنه، وإن كان لا خلاف بين المسلمين في أن إتيان عثمان في ذلك الوقت مجز عنه. ولما قال له معتذرا: (إني شغلت اليوم فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد على أن توضأت) فقال عمر: (والوضوء أيضا) وهذا من عمر معناه: وإفراد التوضؤ أيضا أو الاقتصار على الوضوء؟ وكيف أخللت بالاغتسال وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل؟ وفي حديث أبي هريرة: ألم تسمعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل)؟ وإنما قال عمر ما قاله في معنى الاغتسال لما ذكر عثمان ما استدل به أنه لم يغتسل للجمعة، ولو كان عثمان سكت ولم يذكر ذلك لم يقل عمر شيئا لأنه كان يحمل أمره على الأجمل ويظن به الأحسن. * وفي هذا الحديث من الفقه تأكيد الغسل في يوم الجمعة، وذلك لأنه مجتمع

الناس، وإذا اغتسل الإنسان أطاب ريح نفسه، فلم يشم أخوه المسلم منه ما يكرهه، ثم يوطئ شعر الثائر، ويشمل الغسل جميع البدن والمغابن. * وفي هذا الحديث من الفقه أيضا أن غسل الجمعة على كونه سنة مؤكدة، فإنه ليس بواجب، ولا تأثير له في بطلان الجمعة، ألا ترى أن عثمان حين اقتصر على الواجب أجزأه؟ - 2 - الحديث الثاني: [عن ابن عمر لمسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي عمر العطاء. وعن ابن عبد الله السعدي لهما أن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء، فأقول: أعطه (25/ ب) من هو أفقر إليه مني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خذه، فما جاءك من هذا المال، وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، ومالا فلا تتبعه نفسك). وفي رواية: (خذه فتموله وتصدق به. وفي لفظ: أو تصدق به. وفي رواية: فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحدا شيئا ولا يرد شيئا أعطيه. وفي حديث يسر بن سعد: أن ابن السعدي قال: استعملني عمر على الصدقة، فلما فرغت منها وأديتها إليه، أمر لي بعمالة فقلت: إنما عملت لله، وأجري على الله، فقال: خذ ما أعطيت، فإني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: فعملني، فقلت مثل قولك، فقال لي رسول الله صلى

الله عليه وسلم: (إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأل فكل، وتصدق)]. * في هذا الحديث من الفقه أنه لم يكن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متهافتين على الدنيا، ولا كانوا يريدون بأعمالهم فيها إلا وجه الله عز وجل ألا ترى إلى عمر رضي الله عنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ادفعه إلى من هو أفقر مني؟ وأفقر في لغة العرب من باب أفعل، يعني أنه فقير؛ ولكن تقديم من هو أشد فقرا مني في ذلك علي أولى، وذلك يدل على أنه إنما رد عمر مع كونه فقيرا لا غنيا طلبا للإيثار بذلك لمن هو أشد منه حاجة. * وفيه أيضا من الفقه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف) أي متطلع، (ولا سائل) أي طالب (فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك) يعني - صلى الله عليه وسلم - ما لا يكون بهذه الصفة وهو أن يأتي عن إشراف نفس منك فلا تتبعه نفسك. * وفي هذا الحديث من الفقه أن ذلك من طريق الأفضل والأشرف لأنه لم يقل له: (وما لا فلا تأخذه) (26/ أ)، وإنما قال: (فلا تتبعه نفسك) أي لا تجعل نفسك تتحسر على فوته، وعلى أنه ليس في هذا النطق ما يدل على تحريمه. * وفي هذا الحديث من الفقه أيضا أنه قال له: (فتموله وتصدق به)، ولم يقل فتصدق به من غير ذكر تقديم قوله: (فتموله)، لأنه إذا تموله وصار له مالا وملكا دخل حينئذ في جملة من قال الله عز وجل فيهم: {ينفقون أموالهم} على ما يملكونه من حلالهم الطيب، إذ لو أنفق الإنسان من شيء في يده على سبيل الغصب لم يكن منفقا لماله بل منفقا مال غيره، ولو تصدق به من قبل أن يتموله

كان فيه كالوكيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان لا يخطئ هو بكمال ثوابه، وينقص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عشرة أضعاف إلى ضعف واحد، وذلك أن المتصدق الأول يكتب له الدرهم بعشرة، فإذا تصدق الثاني انتقلت رتبة العشرة إلى الثاني، وانتقلت العشرة مضروبة في نفسها فصارت للمتصدق الأول، لأن الأصل منه وفرع العشرة انتقل إلى غيره، ولو تصدق بها الذي تصدق عليه عمر لكان لذلك الإنسان العشرة ولعمر مائة، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف، وعلى ذلك ما زاد، وهذا من قوله سبحانه وتعالى: {فيضاعفه له أضعافا كثيرة}، وكثيرة ههنا نكرة، والنكرة في هذا الموضع أعم من المعرفة. * وفي هذا الحديث من الفقه قوله في الرواية الأخرى: (فتموله وتصدق به) وذلك دليل على أنه لم يعزم عليه في الصدقة به؛ لأنه ربما يكون في نفسه محتاجا إليه. * وفي هذا الحديث من الفقه أن العبد المؤمن كما ينبغي أن لا يكون مشرفا، ولا متطلعا إلى شيء من الدنيا، كذلك ينبغي أن لا يكون مزاحما لله تعالى في تدبيره، ولا رادا على (26/ ب) الله شيئا من عطائه، ولا مظهرا للتغاني عن الله عز وجل بمال ولا بحال، كما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان لا يسأل أحدا شيئا، وإذا أعطي شيئا أخذه. * وفي هذا الحديث من الفقه أيضا أن ابن السعدي لما استعمله عمر وأعطاه العمالة، فرد ذلك فأخبره عمر أنه رد كما رد، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال له؛ أن ذلك في العمالة على الصدقة؛ فيه زيادة توكيد لتبعد عنه التهمة، وليكون مستعينا به على نفسه كي لا يضجر في وقت ما إذا استمر لها العمل بغير أجرة، لأنه قد لا يستمر الصفاء للإنسان في الأحوال كلها، فالحازم يتخذ في أوقات الصفا عدة لمرافعة الكدر، ثم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فكل وتصدق) دليل على إباحة

أن يأكل العامل من أجرة ما يعمل عليه في الصدقات، وأن يتصدق بعد ذلك إن فضل عنده لأنه قدم الأكل على الصدقة، فيكون إذا أكل أكل طيبا، وإذا تصدق تصدق طيبا من العفو أي الفضل. - 21 - الحديث الثالث: [عن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم). وفي رواية: قال عمر: (فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنها ذاكرا ولا آثرا)]. * فيه من الفقه كراهية الحلف بغير الله، وقول عمر رضي الله عنه: (ما حلفت بها ذاكرا) أي للنهي (ولا آثرا) أي ولا راويا ذلك عن أحد، وهو من قول الله عز وجل: {أو أثارة من علم} أي رواية، ومآثر العرب أي مناقبها المأثورة عنها. والسر في ذلك أن الحالف إنما يحلف لغيره على قول يقوله له ليصدقه، أو ليعزم هو على نفسه باليمين ليثبت عليها، وذلك إنما يتم له المقصود فيه إذا حلف بأعز الأشياء عنده، فإذا حلف بغير الله فقد قال بلسان حاله: إن هذا الذي حلفت به أعز عندي من ربي عز وجل، والمؤمن (27/ أ) أعز الأشياء في قلبه ربه عز وجل، فكيف يحلف بغيره لمن يريد أن يصدقه في يمينه؟!.

- 22 - الحديث الرابع: [عن ابن عمر، قال: دخلت على حفصة ونوساتها تنطف فقالت: أعلمت أن أباك غير مستخلف؟ قلت: ما كان ليفعل. قالت: إنه فاعل. قال: فحلفت أني أكلمه في ذلك. فسكت حتى غدوت ولم أكلمه، فكنت كأنما أحمل بيميني جبلا. حتى رجعت، فدخلت عليه، فسألني عن حال الناس، وأنا أخبره. قال: ثم قلت له: إني سمعت الناس يقولون مقالة، فآليت أن أقولها لك؛ زعموا: أنك غير مستخلف، وأنه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم ثم جاءك وتركها؛ لرأيت أنه قد ضيع؛ فرعاية الناس أشد، قال: فوافقه قولي، فوضع رأسه ساعة ثم رفعه إلي فقال: إن الله تعالى يحفظ دينه، وإن لا أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، وإن استخلف فإن أبا بكر قد استخلف. قال: فوالله! ما هو إلا أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، فعلمت أنه لم يكن ليعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا، وأنه غير مستخلف. وفي رواية: أنه لما طعن عمر قيل له: لو استخلفت؟ قال: أتحمل أمركم حيا وميتا؟ إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني؛ أبو بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وددت أن حظي منها الكفاف؛ لا علي ولا لي. قال عبد الله: فعلمت أنه غير مستخلف، فقالوا: جزاك الله خيرا، فقال: راغب وراهب].

* فيه من الفقه أن عمر رضي الله عنه رأي أن الخليفة بعده إذا كان باستخلاف منه، أنه يكون عليه إصره، وذلك إنما يكون إذا علم منه ما يكره، فاستخلفه على علم منه لذلك. * وفيه أيضا أنهم لما أثنوا عليه بالخير أشار لهم أنه لا اعتبار بما يثنون به؛ فإنهم ما بين راغب وراهب؛ راغب يرغب فيما عندي، وراهب (27/ ب) يرهب من سطوتي، وهذا إنما يقوله رضي الله عنه على سبيل الاستقصاء في المناقشة، وإلا فإنه كان أهلا للثناء عليه، وكان الصحابة رضي الله عنهم أشرف مقاما من أن يثنوا على أحد رغبة أو رهبة؛ إنما هو رضي الله عنه قال ذلك ليصدم به نفسه عن أن يركن إلى ما زكوها به، وهو كلام له مخرج حق من حيث إنه لم يكن يخلو واحد منهم من أن يرغب إليه أو يرهب منه؛ لكن لم تكن رغبتهم ولا رهبتم تمنعهم عن الحق. * وفيه من الفقه أيضا أنه لما تصورت الصورة وقد كان فعل منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلا، وفعل منها أبو بكر رضي الله عنه فعلا لم ير الأولى إلا ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المؤيد بالعصمة، مع كونه أجاز الفعل الآخر. * وفيه من الفقه أنه قد صرح عمر بأن أبا بكر رضي الله عنه خير منه لقوله: (وإن أستخلف فقد استخلف من خير مني؛ أبو بكر رضي الله عنه). - 23 - الحديث الخامس: [عن عمر قال: قلت يا رسول الله، إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة.

وفي رواية: يوما في المسجد الحرام. قال: فأوف بنذرك]. * ذكر ابن جرير في هذا الحديث من الفقه أن على الرجل أن يفي في الإسلام بما كان نذر في الجاهلية. قال الوزير يحيى بن محمد عفا الله عنه: والذي أراه أن النذر بالإسلام يتأكد؛ لأنه نذر لله عز وجل في الجاهلية وهو لا يعرفه؛ فلأن يفي له إذا عرفه وأمر به، أولى وآكد. - 24 - الحديث السادس: [عن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الميت يعذب في قبره بما نيح عليه). وفي رواية (ما نيح عليه). وفي رواية: أن عائشة قالت: (لا والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قط: إن الميت يعذب ببكاء أحد، ولكنه قال: إن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذابا، وإن الله لهو أضحك وأبكى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} لكن السمع يخطئ). وفي رواية: أن حفصة بكت على عمر. وفي رواية: أن (28/ أ) عمر قال نحو ذلك لما عولت حفصة وصهيب عليه. وفي رواية: إن الميت ليعذب ببكاء الحي عليه].

* هذا الحديث قد رواه الثقات، وهو صريح في تعذيب الميت ببكاء الحي عليه، وقد عمل به عمر رضي الله عنه، ونهى حفصة عن البكاء لمقتضاه. وقد ذكرت عائشة فيما رواه ابن عباس من القول ما لا يدفع، إلا أن الجمع بين الحالين والتأليف بين الأمرين عندي- والله أعلم- أن عذاب الميت ببكاء الحي عليه إنما يكون فيما قد كان الميت أوصى به، وخرج فيه على ما كانت عادة العرب من أن يوصوا به، ويؤكدوا القول على مخلفيهم فيه كما قال طرفة: فإن مت فانعيني بما أنا أهله .... وشقي علي الجيب يا ابنة معبد ولا تجعليني كآمرئ ليس همه .... كهمي ولا يغني غنائي ومشهدي وكما قال صخر: والله لا أمنحها شرارها .... ولو هلكت مزقت خمارها وهي حصان قد كفتني عارها .... واتخذت من شعرها صدارها والعرب: قد تسمي النوح بكاء، ولفظ الحديث (بما نيح عليه)، فالنياحة من عمل الجاهلية، وقد يخاف على المسلم إذا أخل بالوصية لأهله أن يتجنبوا النياحة عليه- إن كان لا يركن من أهله ونسائه إلى متانة دين، وأهمل الوصية حتى

نيح عليه يخاف عليه- أن يلحقه من ذلك أذى من العذاب من حيث إهمال الوصية بالواجب، ولا أرى عمر ذكر هذا الحديث لابنته حفصة قبل موته إلا مخرجا له إخراج تأديب وتعليم. فأما من وصي أهله بأن لا يتجاوزوا في أمره بعد موته ما شرع الله عز وجل- قبلوا ذلك أم لم يقبلوا- فإنه لا حرج عليه بعد ذلك، وعلى أن البكاء على الميت من غير نوح، ولا خمش حد، ولا تخريق ثوب مباح، وقد بكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنه إبراهيم (28/ ب) وقال: هذه رحمة، وقد بكى الصحابة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وحديث عائشة في أن الكافر يعذب ببكاء أهله، فإنها صادقة، وكذلك لو لم يبك أهله عليه لعذب أيضا. وقولها: (إن السمع يخطئ)، فقد يخطئ السمع كما قالت. إلا أن الذي أراه في ذلك أن يجمع بين الحديثين ما ذكرته. - 25 - الحديث السابع: [أن عمر رضي الله عنه قال على منبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أما بعد، أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير. والخمر ما خامر العقل). ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ينتهي إليه: الجد؛ والكلالة؛ وأبواب من أبواب الربا].

* هذا الحديث صريح في تحريم النبيذ المتخذ من التمر وسائر الأجناس التي عددها، ثم قوله رضي الله عنه: (والخمر ما خامر العقل) تعليق للحكم بالعلة، وينبغي أن يكون كل شيء فيه معنى الخمر من مخامرة العقل أن يسمى خمرا. * ثم قوله على أثر هذا: ثلاث وددت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه ثم ذكر الجد والكلالة وأبوابا من الربا، ويعني أن هذه الأبواب لما لم يعهد إلينا فيها عهدًا تجاذبتها المسائل، وجرى فيها الخلاف، أما الخمر فإنها مما عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه، وإنما من الأجناس التي عددها؛ فلا يقع فيها خلاف ولا يسوغ فيها تنازع، وهذا من مفهوم الخطاب الواضح؛ أي: إني وددت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عهد إلينا في واحدة من هذه المسائل كما عهد إلينا في الخمر من هذا القول الصريح فلم يبق في شيء منهن خلاف. - 26 - الحديث الثامن: (حديث السقيفة) [عن ابن عباس من رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: كنت أقرئ رجالا من المهاجرين؛ منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزلة (29/ أ) بمنى، وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها إذ رجع إلي عبد الرحمن فقال: لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم؛ فقال: هل لك يا أمير المؤمنين في فلان؟ يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة، فغضب عمر، ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العيشة في الناس، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم. قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس

وغوغاءهم، فإنهم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطير بها أولئك عنك كل مطير، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعوها على مواضعها، قال: فقال عمر: أما والله- إن شاء الله- لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة. قال ابن عباس: فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة، فلما كان يوم الجمعة عجلت بالرواح حين زاغت الشمس، حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المبنر، فجلست حذوه، تمس ركبتي ركبته، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب، فلما رأيته مقبلا، قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ليقولن العشية على هذا المنبر مقالة لم يقلها منذ استخلف، فأنكر علي؛ وقال، ما عسى أن يقول ما لم يقله قبل؛ فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذن قام: فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإني قائل لكم مقالة قدر أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي: إن الله عز وجل بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله (29/ ب) تعالى عليه آية الرجم، فقرأناها، وعقلناها، ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله؛ فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى، فالرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال

والنساء؛ إذا قامت البينة؛ أو كان الحبل أو الاعتراف، ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله عز وجل: (أن لا ترغبوا عن آبائكم. فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم)، ألا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تطروني كما أطرى عيسى بن مريم، وقولوا: عبد الله ورسوله)، ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول: والله لو مات عمر بايعت فلانا، فلا يغتر امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت؛ ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها، وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، وإنه كان من خبرنا حين توفي نبي الله صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنا علي والزبير ومن معها، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر، انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء الأنصار؛ فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم، لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالأ عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم، لا تقربوهم، اقضوا أمركم. فقلت: والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا سعدة بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا: يوعك، فلما جلسنا قليلا، تشهد خطيبهم، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط منا، وقد دفت دافة من قومكم،

فإذا هم (30/ أ) أن يختزلونا من أصلنا وأن يخضونا من الأمر، فلما سكت أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت مقالة أجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم، قال أبو بكر: على رسلك، فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر فكان أحلم مني وأوقر، ووالله ما ترك من كلمة أجبتني في تزويري، إلا قال في بديهته مثلها، أو أفضل منها، حتى سكت، فقال: ما ذكرت فيكم من خير، فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا، فقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وهو جالس بيننا، فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي- لا يقربني ذلك من إثم- أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر؛ اللهم إلا أن تسول لي نفسي عند الموت شيئا لا أجده الآن، فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف، فقتل: ابسط يدك يا أبا بكر فبايعته، وباعيه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار، ونزولنا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة، فقلت: قتل الله سعد بن عبادة، قال عمر: وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمرنا أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا، فإما تابعناهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه، تغرة أن يقتلا.

زاد في رواية البرقاني بالإسناد الذي أخرجه البخاري، قال ابن شهاب: فأخبرني عروة (30/ ب): أن الرجلين اللذين لقوهما: عويم بن ساعدة ومعن بن عدي، فأما عويم بن ساعدة فهو الذي بلغنا أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من الذين قال الله لهم: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين}؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم المرء منهم عويم بن ساعدة). ولم يبلغنا أنه ذكر منهم غير عويم بن ساعدة، وأما معن بن عدي فبلغنا أن الناس بكوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفاه الله تعالى، وقالوا: لوددنا أنا متنا قبله، نخشى أن نفتن بعده، فقال معن: لكني والله ما أحب أني مت قبله حتى أصدقه ميتا، كما صدقته حيا، فقتل باليمامة يوم مسيلمة الكذاب].

* في هذا الحديث من الفقه إقراء الحدث للشيوخ؛ لقول ابن عباس: (كنت أقرئ رجالا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف). * وفيه دخول الرجل إلى دار صديقه؛ فإنه قال: فبينا أنا في منزلة، ولم يذكر فيه الإذن ولا ما يدل على الإذن، وقد قال عز وجل: {أو صديقكم}. * وفيه أن عبد الرحمن لما عاد من عند عمر، وقد ظهر على سر من سره له تعلق بالعلم العام أظهر عليه عبد الله عباس لأنه كان من أهله. * وفيه أن العلم يصان عن غير أهله، ولا يحدث منه الناس إلا بما يرجى ضبطهم له، ألا تراه قال له: (إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغائهم)، فوافق عمر عبد الرحمن في صونه نشر العلم عن غير أهله. * وفيه جواز أن يرد على الإمام بعض أصحابه إذا لاح الأصوب والأولى. * وفيه جواز رجوع الإمام إلى الصواب وترك ما كان من قوله هو لقول الناصح من مأموميه. * وفيه أيضا أن علم الفقه والدقيق من الأحكام ينبغي أن يتوخى بنشره خواص الناس ووجوههم وأشرافهم، ممن تقدمت منه الدرجة، فيضع كل شيء منه على موضعه. * وفيه أيضا من حرص ابن عباس رضي الله عنه على طلب العلم وتحصيله (31/ أ) ما كان نصب عينه منذ كان بمكة إلى أن عاد إلى المدينة في قوله: (إنني رحت عند الزوال) ما يدل على أن ما بعد الزوال يسمى رواحا. * وفيه أنه ينبغي للداخل إلى الجامع أولا أن يجلس في الصف الأول الأقرب إلى

المنبر، وإن كان قد اعتاد الجلوس في موضع غيره، ألا تراه حيث قال: (حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المبنر)؟ * وفيه أيضا أن الجلوس في المسجد إنما يكون على هيئة الصفوف، ألا تراه قال: (فجلست حذوه)؟ * وفيه أيضا أن الجالس في المسجد لا ينبغي له أن يتباعد عن أخيه المسلم، فيأخذ من عرصة الجامع أكثر من حقه، ألا تراه قال: (تمس ركبتي ركبته)؟؛ وذلك لأن الجامع مشترك بين المسلمين؛ فإذا أخذ الإنسان منه أكثر مما يكفيه فقد أضر بالمصلين، وعلى هذا فإني لا أرى للمصلي أن يبسط تحته الغطاء الواسع، الذي يفضل عما يحتاج إليه، فإنه إن منع الناس من أن يبسطوا عليه أو بسطه هو على أوطئه الناس لم يكن له ذلك، بل ليكن وطاؤه بحسب ما يكفيه. * وفيه أيضا جواز التهيئة في الأسماع لقبول القول المهم؛ لأن ابن عباس رضي الله عنه لم يقل لسعيد: (ليقولن اليوم أمير المؤمنين مقالة لم يقلها) إلا إيثارا منه لأن يوقظ قلبه لأن فيه معنى زيادة الإيقاظ لقلبه. * وفيه أيضا جواز إنكار المستغرب من القول تنزيها للصادق عن الغرائب والنوادر التي لا يقوم عليها شاهد كما قال: (فأنكر علي سعيد وقال: ماذا عساه أن يقول ما لم يقله)؟، وقوله: (فلم أنشب أن طلع عمر فرقي المنبر فسلم على الناس ثم جلس فأخذ المؤذنون في الأذان، فلما سكتوا، قام فأثنى على الله تعالى بما هو أهله)، يدل على أن كل كلام لم يبدأ فيه بذكر الله عز وجل فهو أبتر، وهو في الخطبة لازم وفي غيرها معتبر. * وفيه أنه قال: (إني قائل مقالة قدر لي أن أقولها، ولا أدري لعلها بين يدي أجلي) يريد بهذا أنه (31/ ب) عند قرب الأجل يزداد الخوف من كل أحد؛ فيكون التحري للصدق من كل قائل، ألا ترى إلى أبي بكر الصديق رضي الله

عنه حين يقول عند وفاته: (في حالة يؤمن فيها الكافر ويعترف فيها الفاجر). * وقوله: (إن الله عز وجل بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل عليه الكتاب، وكان فيما أنزل الله تعالى عليه آية الرجم، فرجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده)، وما ذكرنا في آية الرجم فإنه أشعرهم بذلك وبما ذكره بعده من التخويف من أن يدعي الرجل إلى غير أبيه. ومن وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن لا يطرى كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإن هذا كله من المهمات التي خاف على الناس أن يستهينوا بشيء منها، وكل منها باب من الأبواب الكبيرة الشأن، ثم أتبعها ما يرجع إلى الخلافة، ومن فقهه وتأنيه لم يفرد ذكر الخلافة فكان ربما لا يرى أنه من الفرضية والوجوب بمقام هذه المسائل، بل جعلهم وإياه في أسلوب واحد وحيز مفرد، وكل منهم واجب فرض يخاف من تجاوزه عذاب النار، من ترك الرجم، وأن يدعي الإنسان إلى غير أبيه فتسقط بذلك وشائج الإنسان فيخرج من قوم ويدخل في آخرين، فيضع المواريث على خلاف ما وضعها الله تعالى، وكذلك ما خوف منه من إطراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنهم ادعوا على عيسى بن مريم أنه ولد الله، وأرادوا بجهلهم التقرب إلى عيسى، فكفروا، ثم أتبع هذا بما يرجع إلى الخلافة بما ذكره دالا بذلك على أنها من هذا الخير، ومن جملة هذا الأسلوب. وقوله: (إن فلانا قال: لو قد مات عمر، بايعت فلانا، وإن بيعة أبي بكر كانت فلتة)، إنما خاف عمر من أن يغتر بعض الناس بما جرى في نوبة أبي بكر الصديق من البيعة له في عجلة على غير طمأنينة ثم استتب الأمر بعد ذلك، فيظن الظان أن كل بيعة تجري كذلك تكون مثل بيعة أبي بكر ولذلك (32/ أ) قال: (وتمت) ثم عاد فقال: (ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر)، أي أن أبا بكر من شرف المنزلة والعلو ما تنقطع الأعناق في الامتداد إليه أو تقطع إليه أعناق الإبل بالسير إليه في القصد نحوه؛ فإنه كان فيه من

الأهلية لذلك ما لم يشنه من إيقاع البيعة له على سبيل الفلتة، ثم ذكر ما جرى له يوم السقيفة. قوله: (اعتزلنا الزبير وعلي في آخرين، وخرجت أنا وأبو بكر ومن معنا من المهاجرين نريد الأنصار). ولعمر الله إنهما لم يخرجا ليعقدا البيعة؛ وإنما خرجا لقصد الإصلاح وتسكين النفرة، وقمع طلائع الفتنة، فلما تجوذبت الأحاديث وخيف من فتنة، اقتضى الصواب حينئذ عقد البيعة من غير مهلة. وقوله: (فلقينا رجلان صالحان)، ثم ذكر أنهما قالا: (لا عليكم أن تقضوا أمرا دون الأنصار)، يدل على أنه لو كان المهاجرون قد أجمعوا وبايعوا أبا بكر صحت البيعة؛ ولكن أراد الله أن يجمع على ذلك المسلمون كافة من المهاجرين والأنصار. وقوله: (كنت زورت في نفسي كلاما)، يعني زينته وهيأته. وقوله: (كنت أداري من أبي بكر بعض الحد)، مع قوله: (وكان أحكم مني عقلا وأوقر)؛ إنما خاف في ذلك المقام أن يعرض لأبي بكر في شيء من حدة فربما يشوشه عن قصده الذي شرع فيه. وقوله: (أحكم مني) قول صدق فيه؛ وذلك أنه قال للأنصار قولا أثنى عليهم فيه، وأبقى مودتهم مع تسكينهم على خروج الأمر عنهم وهو قوله: (إن العرب لم تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش) يعني أن نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - خصصت الشرف لقومه فمن بعدهم. وقول أبي بكر: (أي هذين الرجلين شئتم فبايعوا)، يعني عمر وأبا عبيدة. وقوله: (إن كل واحد منهما كان لذلك أهلا) يعني مع نزول أبي بكر

عنه. الا تسمع إلى قول عمر: (وكنت أن اقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن (32/ ب) أتقدم على أبي بكر)، يعني أن الفاضل لا ينبغي أن يتقدم عليه، فإن الله تعالى أشار بحال الفاضل إلى أنه الأولى بالتقديم. وفي هذا المعنى يقول أبو الطيب: فدعاك حسدك الرئيس وأمسكوا .... ودعاك خالقك الرئيس الأكبرا خلفت صفاتك في العيون كلامه .... كالخط يملأ مسمعي من أبصرا * وفيه أيضا أن الإنسان إذا قال القول على ما يجده من عزمه ويذوقه من نفسه؛ وأنه لو عرض له عند الموت عارض نقضه فيه، لم يكن ذلك دالا على أن وقت قوله له في حال العافية لم يكن صادقا في عزمه عليه. وقول من قال من الأنصار: (أن جذيلها المحك) يعني به أنا الذي يستشفى برأيي، وهو مأخوذ من الجذل الذي ينصب فتحكك بالدواب ذرات الأدواء. وقوله: (وعذيقها المرجب)؛ لعذيق الكباسة يعني أن هذا العذق في نفسه كان أكبر الأعذاق فلم يحمله عرجونه حتى رجب ودعم، فهو أفضل الأعذاق، وأراد: إني في قومي عزيز عليهم.

وقوله: (قتلتم سعدا. فقلت: قتل الله سعدًا) ليس هو كما يقع للناس أنه دعاء على سعد، وإنما هو على سبيل الإخبار؛ لأنهم أرادوا: قتلتم سعدًا بالوطء والدوس. فقال عمر: (قتل الله سعدًا) أي: إن كان قد قتل فالله قد قتله، أي فلو مات كان دمه هدرًا في مصلحة المسلمين. وقوله: (فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا). المعنى لا ترون تغريره بنفسه واحتقاره أن يقتل أن حمله على ذلك حق. وقول ابن شهاب: (إن عويم بن ساعدة من الرجال الذين قال الله تعالى فيهم: {فيه رجال يحبون أن يطهروا والله يحب المطهرين} فإنما أخبر أنهم أحبوا ما أحب الله منهم. * وفيه أيضا: أنهم أحبوا أن يتطهروا، والله يحب المتطهرين أي الكاملي الطهارة. * وقول معن بن عدي: (لكني والله أحب أني مت قبله حتى أصدقه ميتا كما صدقته حيا) فإن هذا من متانة فقهه (33/ أ)، وإن موت الرسول - صلى الله عليه وسلم - زلزلة قوية لإيمان الخلق، وما أحسه معن أن يكتب له ثبات وسلامة من هذه الزلزلة مقصودة حسن وغرض صالح، رضي الله عنهم أجمعين. - 27 - الحديث التاسع: (في اعتزال النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه). [عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أنه قال: لم أزل حريصًا أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم

وسلم اللتين قال الله تعالى فيهما: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة، فتبرز، ثم أتاني فسكبت على يديه، فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله عز وجل فيهما: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما}؟ فقال عمر: واعجبًا لك يا ابن عباس! (قال الزهري: كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه). قال: هما عائشة وحفصة، ثم أخذ يسوق الحديث قال: (كنا معشر قريش قومًا نغلب النساء؛ فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، قال: وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي، فتغضبت يوما على امرأتي، فإذ هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، فانطلقت، فدخلت على حفصة، فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: نعم. فقلت: أتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم، قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسرت، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هي قد هلكت؟ لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تسأليه شيئًا، وسليني ما بدا لك؛ ولا يغرنك أن كانت (33/ ب) جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك- يريد عائشة-. وكان لي جار من الأنصار، فكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله

عليه وسلم، فينزل يومًا وأنزل يومًا، فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك، وكنا نحدث: أن غسان تنعل الخيل لتغزونا، فنزل يومًا صحابي ثم أتاني عشاء، فضرب بابي، ثم ناداني فخرجت إليه. فقال: حدث أمر عظيم!. فقلت: ماذا؟ أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم من ذلك وأهول، طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، قلت: قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن ذلك يوشك أن يكون، حتى إذا صليت الصبح شددت على ثيابي، ثم نزلت، فدخلت على حفصة وهي تبكي. فقلت: أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري، هو هذا معتزل في المشربة، فأتيت غلاما له أسود، فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إلي، قال: قد ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى أتيت المنبر، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست قليلا، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام، فقلت، استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إلي، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فخرجت فجلست إلى المنبر، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام، فقلت: استأذن لعمر، فدخل، ثم خرج. فقال: قد ذكرتك له فصمت، فوليت مدبرا؛ فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخل، فقد أذن لك، فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو متكئ على رمال حصير، فقد أثر في جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إلي فقال: لا، فقلت: الله أكبر، لو رأيتنا يا رسول الله، وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فتغضبت على امرأتي يومًا، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك، فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن (34/ أ) اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هي قد هلكت؟ فتبسم رسول الله صلى الله

عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله فدخلت على حفصة، فقتل: لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، فتبسم أخرى، فقلت: أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم، فجلست، فرفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت شيئًا يرد البصر إلا أهبة ثلاثة، فقلت: ادع الله أن يوسع على أمتك؛ فقد وسع على فارس والروم، وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسا، ثم قال: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا) فقلت: استغفر لي، يا رسول الله. وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهرًا من أجل ذلك الحديث الذي أفشته حفصة إلى عائشة- من شدة موجدته عليهن- حتى عاتبه الله تعالى. قال الزهري: فأخبرني عروة عن عائشة قالت: لما مضت تسع وعشرون ليلة، دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بدأ بي، فقلت: يا رسول الله: إنك أقسمت أنك لا تدخل علينا شهرًا، وإنك دخلت من تسع وعشرين أعدهن، فقال: إن الشهر تسع وعشرون. زاد في رواية: وكان ذلك الشهر تسعًا وعشرين ليلة، ثم قال: يا عائشة، إن ذاكر لك أمرًا، فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك، ثم قرأ: {يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها}، حتى بلغ إلى قوله: {أجرا عظيمًا}. قالت عائشة: قد علم- والله- أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه، فقلت: أوفي هذا أستأمر أبوي؟، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. وفيه عن معمر أن أيوب قال: إن عائشة قالت: لا تخبر نساءك أنني

اخترتك (34/ ب)، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أرسلني مبلغًا ولم يرسلني متعنتا). قال قتادة: صغت قلوبكما: مالت. وفي رواية سماك: وذلك قبل أن يؤمروا بالحجاب، وفيه: دخول عمر على عائشة وحفصة ولومه لهما، وقوله لحفصة: والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبك، ولولا أنا لطلقك. وفيه: قول عمر عند الاستئذان في إحدى المرات: يا رباح استأذن لي، فإني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن أني جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني أن أضرب عنقها لأضربن عنقها، قال ورفعت صوتي، وأنه أذن له عند ذلك، وأنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يخبر الناس أنه لم يطلق نساءه، فأذن له، وأنه قام على باب المسجد، فنادى بأعلى صوته: لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه؛ وأنه قال له- وهو يرى الغضب في وجهه- يا رسول الله، ما يشق عليك من شأن النساء؟! فإن طلقتهن، فإن الله معك، وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. قال: وقلما تكلمت- وأحمد الله- بكلام إلا رجوت أن يكون الله تعالى يصدق قولي الذي قلت، ورأيت هذه الآية، آية التخيير: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا ...} ... الآية. وفيه أنه قال: فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه، وحتى كشر فضحك- وكان من أحسن الناس ثغرًا-.

وفيه: أنه قال: ونزلت أتشبث بالجذع، وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وينحدر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض، ما يمسه بيده. فقلت: يا رسول الله، إنما كنت في الغرفة تسعا وعشرين. قال: إن الشهر يكون تسعًا وعشرين. قال: ونزلت هذه الآية: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}، قال: فكنت أنا الذي استنبطت ذلك الأمر، وأنزل الله آية التخيير. وفي رواية: أن عمر دخل على أم سلمة لقرابته منها فكلمها، وأنها قالت له: عجبًا لك يابن الخطاب! قد دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه! وأن ذلك كسره عن بعض ما كان يجد، وأنه لما قص على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث أم سلمة تبسم]. * في هذا الحديث من الفقه أدب المتعلم مع من يأخذ العلم عنه، وأن لا يتهجم عليه بالسؤال، فقد يكون من العلم ما يقتضي البسط، ولا يحتمل مثله أن يسأل عنه في الأوقات الضيقة، ولا في وقت ازدحام السائلين؛ لأن عبد الله بن عباس يقول: ما زلت حريصًا على أن أسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين اللتين قال الله عز وجل فيهما: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} حتى حج وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة فتبرز ثم أتاني فسكبت على يديه فتوضأ. * وفيه من الفقه أن المتعلم إذا أراد أن يسأل العالم عن ما للمسؤول فيه مماسة أو حصة لسبب له، أن لا يهجم عليه بالسؤال عنها في مشهد من الناس، وكذلك

إذا كانت من المسائل الراجعة إلى أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونسائه في مثل هذه؛ ألا ترى إلى ابن عباس توخى أن يسأل عمر في خلوة؟! فصبر عليه الزمان الطويل، وسافر معه حتى ناب مناب الأتباع في حمل الإداوة وصب الماء (35/ ب) على يدي عمر في طلب العلم، فلما سأله في موضع السؤال أجابه من غير تراخ. * وفيه من الفقه أن ابن عباس سأل عمر بالطيب من النطق الذي ورد في حق المرأتين، وهو الذي ذكر فيه صغوهما للتوبة، ولم يذكر النطق الأول في قوله تعالى: {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا} ولا قوله: {وإن تظاهرا عليه} ولا غير ذلك، ومع ذلك فقد أشار الزهري عند قول عمر: (واعجبًا لك يا ابن العباس؛ فقال: كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه)، وهذه السورة الكريمة قد نزل فيها من التهديد والوعيد، وذكر امرأة نوح وضربها مثلا للذين كفروا، وذكر امرأة فرعون وضربها مثلا للذين آمنوا، فإنه كله مما يدل على شرف منزلة المرأتين، لأنه كله تهديد دال على الإرادة لئلا يكون أبدًا ما عابتهما إلا في مقام استزادة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما نزل في هذه السورة عاد حاجزًا بينهما وبين المكروه أبدًا، ألا ترى أنه لما قال سبحانه وتعالى: {يأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحًا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} وفي قوله سبحانه: {يوم لا يخزي الله النبي} دليل على أنه قد أمن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سخطه ومن ناره، وأن الواحد منا لو قضي عليه أن يستباح حريمه أو يفضح أهله لكان ذلك خزيًا له، وحاشا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، فقوله: {يوم لا يخزي الله النبي} يدل على أنه لا يسوؤه في أحد من أزواجه خاصة أبدًا، وكيف لا وعائشة وحفصة من أفضل نساء العالمين؟

* وفيه من الفقه أن المؤمن قد يداري زوجته ويصبر على أذاها؛ لقولها: (إن إحدانا كانت تهجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الليل). * وفي هذا الحديث دليل على أن المؤمن يستعين بأخيه المؤمن في التعلم والمعاش؛ ألا (36/ أ) تراه يقول: وكان لي جار من الأنصار، وكنت أنا وهو نتناوب النزول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأتيني بخبر الوحي وغيره، وآتيه بمثل ذلك؟ وإنما فعل ذلك لأنهما كانا يقضيان من الكسب فرضا واجبًا، ويتعلمان من العلم فروضًا لازمة، ففعلًا بحسن تدبيرهما أن يقضي هذا وقتًا في كسبه، ويخلفه هذا في تعلم العلم والإتيان بخبر الوحي، ويفعل الآخر مثل فعل صاحبه، فيقضيان الفرضين ويدركان الأمرين. * وفيه أيضًا من الفقه أن الحق قد ينال منه ثم تكون العاقبة لأهله، ألا تسمع إلى قول عمر: (كنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لتغزونا)، ثم إن الله سبحانه أظهر بعد ذلك حقه وأعلى أمر نبيه. * وفيه أن عمر رضي الله عنه لما قال له الأنصاري: طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه؛ بدأ بأن قال: (خابت حفصة وخسرت)؛ ابتدأ بالأهم عنده. * وفيه ما يدل على أن المؤمن إذا حزبه أمر فلا ينبغي أن يستخفه حتى يزور في غير وقت الزيادة، ألا تراه يقول: (جاءني عشاء، حتى إذا كان الصبح وشددت علي ثيابي فدخلت على حفصة وهي تبكي)؟ * وفي هذا من الفقه: أن العاقل لا يهجم على السؤال عن أمر حتى يفهمه؛ ألا ترى عمر رضي الله عنه بدأ بالدخول على حفصة، وسألها عن الأمر، فقال لها: (أطلقكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: لا أدري، هو هذا معتزل في المشربة). * وفي هذا جواز اتخاذ المشربة وهي الغرفة، وأن الغرفة، وأن يكون للإنسان في منزله موضع يعتزل فيه، فلا يدخل عليه في إلا بإذنه.

* وفي هذا الحديث من الفقه أن الرجل إذا استأذن فلم يؤذن له فعليه أن يرجع. * وفيه من الفقه أنه إذا لم يؤذن له فانصرف فأقام هنيهة أن يعاود الاستئذان؛ فربما يكون الامتناع الأول لعارض عرض. * وفي هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان (36/ ب) تحته رمال حصير، والرمال: ما نسج من حصير وغيره، وهذا يدل على أن الجلوس على الحصير أفضل من الجلوس على الأرض، لأن الجلوس على الأرض يوسخ الثوب ويبليه. * وفيه أيضًا دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن متنعمًا ولا مترفًا حتى أثر في جنبه الحصير. * وفي هذا من الفقه أن عمر رضي الله عنه ذكر صورة حاله مع امرأته على نوع انبساط وطيب كلام ممزوج بيسير من المزح في حق نفسه مستجلبًا بذلك تبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا جرم أنه أصاب مقصده وتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وكذلك عن حديثه عن حفصة حتى تبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثانية. * وفي هذا الحديث من الفقه أنه ليس التوسع من الدنيا دليلا على رضا الله عز وجل إلا في المؤمنين خاصة، لقول عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله، ادع الله تعالى أن يوسع على أمتك؛ فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله). * وفي هذا الحديث أنه إذا خطر على قلب المؤمن أن ما في يد مثل كسرى وفارس والروم من الدنيا دليل خير لهم أن ينكر عليه ذلك، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استوى جالسًا وقال: (أفي شك أنت ياابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا)؟! حتى فزع عمر على الاستغفار بقوله: (يا رسول الله استغفر لي). * وفي هذا الحديث من الفقه جواز أن يهجر الرجل امرأته وأهله أكثر من ثلاث

تأديبا؛ فإنه قال: (كان أقسم أن لا يدخل علهين شهرًا من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة من شدة موجدته عليهن). * وفي هذا الحديث من الفقه أن الشهر قد يكون تسعًا وعشرين. * وفي هذا الحديث من الفقه أنه لا يستتب للرجل المريد للآخرة استدامة صحة امرأة لا تريد الآخرة، ألا ترى كيف تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة الآية في التخيير حتى أقررن كلهن أنهن لا يردن الحياة الديا (37/ أ) وزينتها، بل يردن الله ورسوله والدار الآخرة حتى أقرن على صحبته؟ * وفيه أيضًا ما يدل على فضيلة عائشة ببدايته بها وقوله لها لما خيرها: (لا عليك أن تعجلي حتى تستأمري أبويك) لأنها حدثة، وربما يكون بلغ منها الغيظ إلى أن تقول كلمة تندم عليها فردها إلى مراجعة أبويها، إلا أنها وفقت بقولها: (أفي هذا أشاور أبوي؟ بل أريد الله ورسوله والدار الآخرة). * وفي هذا من الفقه جواز تسمية العبد رباحًا ونجاحًا وفلاحًا وغير ذلك. * وفيه أيضًا استحباب أن لا يتشبث النازل في درجة أو جذع إذا أمكنه ذلك لأنه لا يأمن أن تقع يده على ذنيب أو غيره مما يؤذي. * وفيه أيضًا من فضيلة عمر أنه لما قال له: (ما يشق عليك من شأن النساء إن كنت طلقتهن فإن الله وملائكته معك، وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر وعمر والمؤمنون)، فنزلت الآية إلى قوله: {وجبريل وصالح المؤمنين}. * وفي هذا من فضيلة عمر قوله تعالى: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم} ولقوله: (وكنت أنا الذي استنبطت هذا الأمر).

الحديث العاشر: [عن ابن عباس: شهد عندي رجال مرضيون؛ وأرضاهم عندي عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب]. * في هذا الحديث من الفقه أنه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها لئلا تشتبه بصلاة الذين كانوا يعبدون الشمس، فلما كانت الصلاة قبل طلوعها وبعد غروبها تميزت الحال في ذلك، وكانت الصلاة لخالق الشمس. - 29 - الحديث الحادي عشر: [عن ابن عباس: بلغ عمر أن فلانًا باع خمرًا، فقال: قاتل الله فلانًا، ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فجملوها، فباعوها)؟]. * في (37/ ب) هذا الحديث من الفقه أن ثمن الحرام حرام، وأنه لا يسوغ التأويل فيه توصلًا إلى الانتفاع بما حرم الله تعالى منه، فإن اليهود لما رأوا أن الشحوم إذا جملوها- وهو إذابتها- ثم باعوها، وأكلوا ثمنها، أن هذا انتقل عن حالة إلى حالة أخرى وخرج عن تسمية الشحم، فرخصوا متأولين في ذلك؛ فلعنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

- 30 - [عن ابن الزبير خطب فقال: لا تلبسوا نساءكم الحرير، فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا الحرير، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة). وفي رواية ابن عمر عن عمر مسندًا: (إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة)]. * وهذا الحديث أراه مفسرًا بالحديث الآخر الذي تلقته الأمة بالقبول في تحريم الحرير على الرجال دون النساء، فيكون ذلك الحديث مفسرًا لهذا الإجمال، وما قاله ابن الزبير في أول الحديث فإنه مدرج من كلام ابن الزبير نفسه على ظن منه أن كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتناول الرجال والنساء، والحديث الآخر الذي فسر هذا الإجمال قد أزال اللبس في ذلك وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (هذا حرام على ذكور أمتي حل لإناثها).

- 31 - الحديث الثالث عشر: [عن عمر قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان، في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فتربصت حتى سلم، فلببته بردائه، فقلت: من أقرك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، (38/ أ) فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرسله؛ اقرأ يا هشام) فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هكذا أنزلت) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ يا عمر) فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هكذا أنزلت؛ إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسر منه)]. * في هذا الحديث من الفقه ما يدل على شرف القرآن وكثرة وجوهه، وأنه ليس ككلام الآدميين الذي لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا؛ فإن اختلاف القراءة دليل دال على كثرة معاني القرآن في مثل قوله تعالى: {فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} وفي القراءة الأخرى: (اعلم) (بفتح اللام وتسكين الميم)، وفي القراءة الثالثة: (أعلم) (بكسر اللام).

* وقوله: إن القرآن نزل على سبعة أحرف على اختلاف الناس في ذلك، لا أرى تأويله إلا ما انتهت إليه القراءات السبع في سائر الأمصار. فأما الحديث الذي روي في تفسير الأحرف السبعة من أنها حلال وحرام، ومتشابه وقصص وأمثال (.. الخ)، فإنما ذكر في هذا تفسير جملة القرآن التي اجتمعت عليها القراءات السبع. - 23 - الحديث الرابع عشر: [عن عمر رضي الله عنه أنه قال: وافقت ربي في ثلاث، فقلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: {واتخذوا من مقام إبراهيم مثلى}. وقلت: يا رسول الله: يدخل على نسائك البر والفاجر؛ فلو أمرتهن يحتجبن! فنزلت آية الحجاب. واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن. فنزلت كذلك. وفي رواية: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر]. * في هذا الحديث من الفقه أن عمر رضي الله عنه كان جدًا كله (38/ ب) ليس بذي هزل؛ فلذلك أجرى الله على لسانه من الحق الذي لا ينزل القرآن إلا به، وكل ذلك ليس له في شيء منه هوى بل توخى الأصوب فالأصوب، والأحوط

فالأحوط والأحسن فالأحسن كقوله: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)، وقوله: (إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن)، وقوله في الغيرة على أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونصحه له: (عسى ربه إن طلقكن)، وهذه المعاني إنما ذكرها عمر عن نفسه قاصدًا بذلك- والعلم عند الله- لمعنيين: أحدهما، ليحسن ظن السامعين به لقوله: (فلا ينازعوه في حق يقوله)؛ والآخرة أن يقتدي به المؤمنون لإيثاره الحق وقوله الصواب، فإن الله تعالى يقضي بالحق ويقوله، فمن أراد أن يوافق ربه دائمًا فليكن قوله الحق وعمله الحق فإن الله سبحانه ويقول الحق، ومن ذلك قوله تعالى عن الملائكة: {ماذا قال ربكم، قالو: الحق}، وكذلك في إشارته إلى ما أشار إليه في أسارى بدر؛ فإن الوقت كان وقت إثخان وشدة وقوة عزم في ذات الله سبحانه وتعالى فلذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلا عمر بن الخطاب). - 33 - الحديث الخامس عشر: [عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغابت الشمس، فقد أفطر الصائم)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الصوم هو حكم مؤقت بأول وآخر، فإذا انتهى إلى وقته زال حكمه، فإن أخر أحد إفطاره فقد أعلمه هذا الحديث أن الله غير معتد له بصيام بعد غروب الشمس؛ لأن وقت حكم الصيام قد زال، وهذا مما يكون داعيًا إلى تعجيل الفطر.

* وفي هذا الحديث من الفقه أيضًا دليل على أن الليل والنهار ليسا عن الشمس وطلوعها وغروبها بل هي على النهار دليل؛ كما قال عز وجل: {ثم جعلنا الشمس عليه دليلًا} ألا ترى إلى قوله (39/ أ) عليه السلام: (إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغابت الشمس)؟ - 34 - الحديث السادس عشر: [عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما الأعمال بالنية- وفي رواية: بالنيات- وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى الدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه)]. * الفقه في هذا الحديث كثير، وقد روي عن الشافعي أنه قال: يدخل هذا الحديث في سبعين بابا من الفقه. والذي أراه: أنه يدخل في كل الفقه؛ إذ لا يقبل الله عملًا إلا بنية، حتى إن المسلم يضاعف له الثواب على أكله وشربه وقيامه وقعوده ونومه ويقظته على حسب نيته في ذلك، وربما يجمع الشيء الواحد عدة وجوه من العبادات بالنية كما قال موسى عليه السلام: {هي عصاي أتوكؤ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآب أخرى}. وعلى هذا تبتنى أبواب العبادات والمباحات، وتعلم العلم وتعليمه، ومصاحبة الخلق وهجرانهم، وغير ذلك؛ إلا أن المسلم ينبغي

أن يصفي موارد نيته؛ بأن يبني أمره على أسس محرزة ناظرًا إلى قلبه بعينه؛ فإنه سريع التقلب، وإنه غير مستغن عن تكرير الحق عليه، وتأنيه به، واعتبار إيمانه، وأن ينوي في كل حركة وسكون إرادة وجه الله عز وجل، وأن ينوي حياته لله ومماته لله، كما قال سبحانه: {إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمي} فالأمر ظاهر، وأما المحيا والممات فإني أضرب فيهما مثلًا جرى لي في مرضة كنت مرضتها، فنمت، فدفعت إلى أرض ذات ظل ممدود وما يشبه دجلة إلا أنه لا جرف له، ونسيم ذي روح، والوقت على نحو بوح ما قبل طلوع الشمس (39/ ب) في الضياء، فخوطبت وأنا لا أدري من يخاطبني بما معناه: إنك مع الحق- أو نحو هذا- فباكرت على ذلك، وأعدم الخلق؛ فما رأيت أحدًا بحيث لم يبق في ظني إلا أن ليس في الأرض كلها من مشرقها إلى مغربها سواي؛ لا آدمي يقبل ولا دابة ولا طائر يطير ولا غير ذلك، فبرمت حينئذ من الحياة، وجعلت أتمنى الموت حتى كنت أقول في المنام: لو كان الشرع يجيز أن يقتل الإنسان نفسه لكنت أجد ذلك الآن غنيمة، وعرضت علي الأعمال فكانت تخف حتى عرض علي مختصر كنت قد صنعته في النحو، وقد كررت نساخته بخطي مرارا كثيرة، فلم أبش به، فحينئذ فهمت المعنى؛ أي قد ثبت عندك أنك كنت تريد حياتك لأجل الخلق، وأنك تريد الآن الموت استيحاشًا لهم، وكأني فهمت ذلك معنى قوله: {محياي ومماتي لله رب العالمين}. - 35 - الحديث السابع عشر: [عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الذهب بالورق ربًا، إلا

هاء وهاء، والبر بالبر ربًا؛ إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا، إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا، إلا هاء وهاء). وفي لفظ: (الورق بالورق ربًا، إلا هاء وهاء، والذهب بالذهب ربًا، إلا هاء وهاء)]. * في هذا الحديث من الفقه تحريم النساء فيما يجري فيه الربا، وذلك محرم في فتوى الفقه؛ إلا أن من سر تحريم الربا في أصله أنه ليس في القروض؛ إذ المؤمن عند حجة أخيه كان يتوقع منه بمقتضى أخوته في الدين، وكرمه في الإسلام، ووعد الله سبحانه له بالخلف أنه كان يرفد أخاه بالقدر الذي أعوزه واحتاج إليه هبة ونحلة من غير أخذ عوض، وناظرًا أن ذلك من القرض الذي ينتهز والخيرات التي تغتنم، وأن يحمد الله تعالى كيف لم يكن هو السائل، وأن يشكره كيف لم يجعله هو المحتاج، فإذا لم تسم همته إلى هذا المقام؛ وهو إرفاد أخيه المسلم بما قد أعوزه ببعض ما قد أفضله (40/ أ) الله في يده هو فجعله فاضلا عن حاجته، ورضي الله بأن يقرضه ذلك قرضًا يستعيد عوضه، ويسترد بدله في وقت يسار أخيه فلم يقف على هذا حتى تاجر أخاه الضعيف الفقير، وأراد أن يربح عليه ربحًا مكشوفًا ظاهرًا لا يخفى، ولا يخرجه على سبيل مبايعة في شيء كان؛ فأخذ ذلك الربح فيه سرًا، ولا يجاهر بهذا اللؤم، ولا يعلن بهذا البخل، فلذلك اشتد غضب الله فيه، ونهى عن الربا وحرم فعله على الأخذ والمعطي، وكأن لسان الحال يقول لهذا الآخذ: لا تقرب هذا اللئيم ولا تتعرض للإقراض من هذا البخيل، فإن خالفت فحالك في السوء مثل حاله، وهلا انتهزت أنت الفرصة التي فاتت، وقبلت الغنيمة التي أخطأته بأن تتوكل أنت على الله سبحانه

وتعالى، وتثق بما في يده سبحانه، وتعرض عن هذا اللئيم وعما تأخذه منه فإن أبيت فأنت شريكه في اللعنة؛ فهذا الأصل عندي- والله أعلم- فيما يرجع إلى الربا، وأنه إنما حرم لأنه لؤم محض وبخل صرف؛ إذ المبايعات في السلم وغيره- وإن كانت في المنافع تجري بفائدة- إنما جازت لأنها ليست هكذا مكشوفة؛ مثل أن تأخذ الدينار بدينار وقيراط، فإن الإنسان قد يبتاع الكر بدينار ونصف، وقد يجوز أن يباع الكر في وقت آخر بدينار بخلاف أخذ دينار بدينار وقيراط، فإنه لا يجوز أن يساوي الدينار دينارًا وقيراطًا من جنسه في وقت قط، وأما هذه الأجناس وهي قوله: الذهب بالورق، فإنما حرم النساء فيها لأنه كان يتوصل به إلى الربا. وصورته: أنه لو اشترى رجل من رجل عشرين درهمًا فضة بدينار إلى شهر لكان يرى أنه قد أخذ الدينار منه بعشرين درهمًا، فحسبت الزيادة عليه لأجل تعجيله هو الانتفاع (40/ ب) بالدينار، فحرم الشرع ذلك، ولم يجز فيه النساء ليكون قاطعًا للربا؛ فأما الحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر نسيئة فلأن هذه الأشياء تختلف، فإذا اختلفت ولم يشاهد كل واحد منهما متاع صاحبه وقت البيع كانت معرضة لتنشأ الخصومات فيها. - 36 - الحديث الثامن عشر: [عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: أرسل إلي عمر، فجئته حين تعالى النهار، فوجدته في بيته جالسًا على سرير، مفضيًا إلى رماله، متكئًا على وسادة من أدم، قال لي: يا مالك، إنه قد دف أهل أبيات من قومك، وقد

أمرت فيهم برضخ، فخذه فاقسمه بينهم. قال: قلت: لو أمرت بهذا غيري؟ قال: خذه يا مالك. قال: فجاء يرفأ فقال: هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد؟ فقال عمر: نعم، فأذن لهم فدخلوا، ثم جاء، فقال: هل لك في عباس وعلي؟ قال: نعم، فأذن لهما. فقال العباس: يا أمير المؤمنين، اقض بيني وبين هذا، فقال القوم: أجل يا أمير المؤمنين، فاقض بينهم وأرحهم. قال مالك بين أوس: فخيل إلي أنهم قد كانوا قدموهم لذلك، فقال عمر: اتئدوا، أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تورث، ما تركنا صدقة)؟ قالا: نعم، ثم أقبل على العباس وعلي، فقال: أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم الساء والأرض، أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث، ما تركنا صدقة)؟. قالا: نعم. قال عمر: إن الله كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم بخاصة لم يخصص بها أحدًا غيره، فقال: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول}. وقال: {ما أفاء الله على رسوله منهم فماء أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب}. قال: فقسم رسول الله (41/ أ) صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير، فوالله ما استأثرها عليكم، ولا أخذها دونكم حتى بقي هذا المال، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه نفقته سنة ثم يجعل ما بقي أسوة المال- وفي رواية: ثم يجعل ما بقي مجعل مال الله- ثم قال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمون ذلك؟ قالوا: نعم، ثم نشد عباسًا وعليا بمثل ما نشد به القوم؛ أتعلمان ذلك؟ قالا: نعم. فلما توفي رسول الله

صلى الله عليه سلم قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: فجئتما؛ تطلب ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها؟ فقال أبو بكر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نورث، ما تركناه صدقة)، ثم توفي أبو بكر، وأنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولي أبو بكر، فوليتها، ثم جئتني أنت وهذا، وأنتما جميع، وأمركما واحد، فقلتم: ادفعها إلينا، فقلت: إن شئتم دفعتها إليكم، على أن عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذتماها بذلك. أكذلك؟ قالا: نعم، قال: ثم جئتماني لأقضي بينكما! ولا والله، لا أقضي بينكما بغير ذلك، حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنها فرداها علي. زاد البرقاني في رواية من طريق معمر: فغلب علي عليها، فكانت بيد علي، ثم بيد حسن بن علي، ثم بيد حسين بن علي، ثم بيد الحسن بن الحسن، ثم بيد زيد بن الحسن، ثم بيد عبد الله بن الحسن، ثم وليها بنو العباس. وفي رواية عن عمر قال: كانت أموال بني النضر مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي صلى الله

عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة؛ وفي رواية: ويحبس لأهله قوت سنتهم (41/ ب)، وما بقي جعله في الكراع والسلاح، عدة في سبيل الله عز وجل]. * في هذا الحديث من الفقه أن ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصل إلى يد العباس وعلي رضي الله عنهما كان على سبيل الولاية، وليس على سبيل الوراثة، ولذلك قال عمر: (لا أقضي بينكما بغير ذلك إلى يوم القيامة). * وفي هذا الحديث أيضًا جواز الجلوس على السرير؛ لأن الجلوس على السرير لمقدم القوم أمكن من حيث إشرافه عليهم ونظرهم له، فيمكن من كل واحد منهم؛ ولأنه قد يكون في البلاد الحارة أقرب إلى الروح وأبعد من وهج الأرض وكرتها، ولأنه أيضًا قد يحترز بها من الدبيب. * وفيه أيضًا جواز الاتكاء على الوسادة. * وفيه أيضًا جواز أن يكون الرجل في بيته وعليه حجاب ولا يدخل عليه أحد إلا بإذن. * وفيه جواز إعداد النفقة لسنة لأنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذ من نفقته سنة. وقول الراوي- وهو مالك بن أوس- (يخيل إلي أنهم كانوا قدموهم لذلك)؛ يعني للتوجه إلى قضاء ما قصدا له. * وفيه أيضًا ما يدل على أنه لما دخل عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد فرأوا جد عمر لم يفاتحوه؛ وهكذا ينبغي لمن أراد أن يخاطب في أمر إذا رأى من مقدمات الحال ما يستدل به على أن ليس لخطابه وجه، أن يمسك.

- 37 - الحديث التاسع عشر: [من رواية أبي عثمان عبد الرحمن بن مل قال: (كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ونحن بأذربيجان مع عتبة بن فرقد: يا عتبة، إنه ليس من كدك، ولا كد أبيك، ولا كد أمك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياكم والتنعم وزي أهل الشرك، ولبوس الحرير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير، قال: إلا هكذا، ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعيه الوسطى والسبابة، وضمهما. وفي رواية (42/ أ): جاءنا كتاب عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يلبس الحرير إلا من ليس له منه شيء في الآخرة؛ إلا هكذا- قال أبو عثمان-: بإصبعيه اللتين تليان الإبهام. وفي رواية: أن عمر خطب بالجابية، فقال: نهى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاثة أو أربعة]. * في هذا الحديث من الفقه أن يستحب للإمام أن يديم التعهد لعماله بالتخويف من التنعم واحتجان مال المسلمين، وأن يغلط لهم في القول إشعارًا لهم بأن ما في أيديهم ليس ملكًا لهم، إنما هو للمسلمين وفي أيديهم. وإن المناسبة بين ذكر الحرير وهذا الكلام أن الذين يخاف من لبسهم الحرير والأجدر والأخلق أن يكونوا الأمراء وأتباعهم.

* وفيه أيضًا ما يدل على أنه لا يجوز أن يستعمل من الحرير إلا من أصبعين إلى أربع. * وفيه أنه يستحب للوالي أن يترك من المباح ما لا يتركه غيره كما ذكر من التنعم فإنه في مال هو فيه أجير وأمين، فلو تنعم من ماله وتوسع من حلاله لكان بعرضة أن يسيء الظن بنفسه فيظن أنه إنما فعل ذلك من مال المسلمين. - 38 - الحديث العشرون: [عن عمر قال: حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، وظننت أنه يبيعه برخص، فسألت النبي صلى الله علي وسلم؛ فقال: (لا تشتره، ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه). وفي رواية: فإن الذي يعود في صدقته كالكلب يعود في قيئه]. * في هذا الحديث من الفقه أنه ملكه الفرس بحمله إياه عليها، وإذا حمل الإنسان على فرس في سبيل الله هكذا مطلقًا، ولم يعينه لغزوة بعينها، فإنه يملكه من يحمل عليه، ولا ينبغي أن يستعمله إلا في سبيل الله. * وفيه أيضًا من الفقه أنه إذا تصدق الإنسان بصدقة على فقير فاحتاج الفقير إلى

أن يبيعها (42/ ب) فلا ينبغي للمتصدق أن يشتريها، والسر في ذلك أن وضع الصدقة للطهرة لقول الله عز وجل: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} فهي تطهير للمتصدق في المعنى كالماء المزال به النجاسة في الصورة، فإذا أعاد ما أزال به النجاسة إلى نفسه صار كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (كالكلب يعود في قيئه) لأن القيء نجس فإذا ألقى نجاسة عنه ولكن لشره الكلب يعود ويأكل فيء نفسه، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المؤمن أن يحمله الشره إلى أن يستعيد ما قد كان طهره وأزال عنه نجاسات ذنوبه؛ أي يعود إلى التلوث به. - 39 - الحديث الحادي والعشرون: [عن عمر رضي الله عنه: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسعى، إذ وجدت صبيًا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا؛ وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها)]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصف رحمة الله تعالى لعباده كما هي؛ إذ لا خلاف في أن الله سبحانه وتعالى أرحم بعباده من كل والدة بولدها. * وقوله - صلى الله عليه وسلم -: أترون هذه طرحة ولدها في النار؟! يعني أن من رحمة الله عز وجل لعباده إرساله الرسل، وإنزاله الكتب وتخويفه عباده بما خوفهم به؛ أنه كذلك إذا طرح في النار من يستحق ذلك في سخطه فإن رحمته على ما وصف، فينبغي

للعبد أن لا يستعظم في كرم الله وسعة رحمته ذنب مذنب، كما ينبغي له أن لا يأمن سطوة الله عند أيسر مخالفة. ويتفسر هذا بأنه إذا ذكر لك بعض المسرفين على أنفسهم فرأيت استحقاقهم للنار، فإن خطر لك في ذلك الوقت هذا الحديث من سعة رحمة الله تعالى التي تحظر عليك أن توجب لأحد (43/ أ) من المسلمين النار فذلك في موضعه، كما أنه إذا بلغك عن بعض المجتهدين شدة عبادة فرجوت له رجاء قطعت به مع كونه لا يؤمن عليه زلة قدم في بعض مقاماته من سوء أدب أو نوع إدلال أو خاطر عجب فتهدم أعماله، فعلمت حينئذ أن الرجاء والخوف لا يزايلان أحدًا على الإطلاق حتى يزايل الدنيا. - 40 - الحديث الثاني والعشرون: [من رواية طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرأونها، لو علينا نزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا. قال: فأي آية؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا}. فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فهي، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات، في يوم الجمعة]. * في هذا الحديث من الفقه التنبيه على ما أنعم الله سبحانه في هذه الآية على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من قوله سبحانه وتعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا}.

* وفيه أيضًا أن قول الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} دليل على أن الدين أكمله الله في زمان محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو غير محتاج إلى أن يتم أو يحدث فيه شيء لم يكن، أو يذكر فيه شيء لم يعرف؛ {وأتممت عليكم نعمتي} وهذا يستدل منه أن إتمام النعمة إنما تستتب بدخول الجنة إن شاء الله لأنه لم يقل: اليوم أنعمت عليكم، فكان يكون توقع لتمام فيما بعد؛ ولكن إنما قال: (أتممت)، فدل بهذا القول على أنه قد كانت نعمة موجودة فأتمها التمام الذي لا يحتمل أن يزاد فوقه شيء آخر، وهذا لا يتم إلا بدخول الجنة، فإنها لبشرى عظيمة، وهذا اليهود وإن كان عدوًا فلقد نبه على كنز عظيم إلا أنه من حسده عليه انتبه له (43/ ب). وقوله سبحانه: {ورضيت لكم الإسلام دينًا} فإن الرضا بمنزلة فوق الاختيار، وهذا موسى عليه السلام يقول له الله عز وجل: {وما أعجلك عن قومك يا موسى} فقال: {وعجلت إليك رب لترضى} وهذه الآية فسرت في أول قدم من رضى الله عز وجل بما تعجل موسى لأجله. ومن شرف هذه الآية خصت بأن نزلت في يوم جمعة ونزلت بعرفات، وذلك اليوم يوم الجمعة وهو يوم عرفة. - 41 - الحديث الثالث والعشرون: [من رواية أبي عبيد سعد بن عبيد عن عمر وعلي مسندًا، أو عن عثمان موقوفًا: (أنه شهد العيد مع عمر بن الخطاب، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب الناس، فقال: يأيها الناس، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهاكم عن صيام هذين العيدين. وقال بعضهم: اليومين، الفطر والأضحى. أما أحدهما: فيوم فطركم

من صيامكم. وأما الآخر: فيوم تأكلون فيه من نسككم. قال أبو عبيد: ثم شهدته مع عثمان بن عفان، فصلى قبل أن يخطب، فكان ذلك يوم جمعة، فقال لأهل العوالي: من أحب أن ينتظر الجمعة فليفعل، ومن أحب أن يرجع إلى أهله فقد أذنا له. ثم شهدته مع علي: فصلى قبل الخطبة، ثم خطب فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهاكم أن تأكلوا من لحوم نسككم فوق ثلاث]. * فيه من الفقه بعد الذي انتدب لذكره الفقهاء أنه إنما لا يدخر من الأضاحي فوق ثلاث لما في ذلك من التوفير على الفقراء. * وفيه أيضًا من الفقه أنه إذا اتفقت الجمعة في يوم عيد كان مخيرًا بين حضور الجمعة أو صلاته ظهرًا في بيته. وهذه المسألة تفرد بها أحمد بن حنبل رضي الله عنه عملًا بهذا الحديث. - 42 - الحديث الرابع والعشرون: [من رواية عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر يقبل الحجر ويقول: إني لأعلم أنك حجر ما تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك (44/ أ) ماقبلتك). وفي رواية: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفيًا)].

* في هذا الحديث من الفقه إظهار عمر رضي الله عنه أن تقبيله الحجر بموجب الشرع واتباعه السنة، لا على ما كانت الجاهلية يعظمون الأحجار ويتخذونها أوثانًا، فأراد أن ينبه بهذا أنه إنما يقبل الحجر؛ لأنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله، أو رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به حفيًا لا لغير ذلك. - 43 - الحديث الخامس والعشرون: [عن عدي بن حاتم قال: (أتيت عمر بن الخطاب في أناس من قومي، فجعل يفرض للرجل من طيء في ألفين، ويعرض عني، قال: فاستقبلته فأعرض عني، ثم أتيته من حيال وجهه، فأعرض عني، فقلت: يا أمير المؤمنين، أتعرفني؟ فضحك، ثم قال: نعم والله إني لأعرفك؛ آمنت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وإن أول صدقة بيضت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه أصحابه صدقة طيئ، جئت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ يعتذر، ثم قال: إنما فرضت لقوم أجحفت بهم الفاقة، وهم سادة عشائرهم، لما ينويهم من الحقوق؛ فقال عدي: فلا أبالي إذا))]. * في هذا الحديث من الفقه جواز أن يعرض الإمام زيادة في الرزق لسيد العشيرة إذا كان ممن ينوبه الحقوق ويفد عليه الوافدون. * وفيه أيضًا جواز أن يفرض للفقير ما لا يفرض للغني؛ وإن كان الغني أفضل منه في نفسه؛ ألا ترى عمر رضي الله عنه كيف يقول لعدي: (إني لأعرفك؛

آمنت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وأول صدقة بيضت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووجوه أصحابه، صدقة طيئ جئت بها، وإنما فرضت لقوم أجحفت بهم الفاقة، وهم سادة عشائرهم)؟! وإن عديًا لما عرف أن هذا هو (44/ ب) الموجب للانصراف عنه طابت نفسه حتى قال: (فلا أبالي إذًا). - 44 - الحديث السادس والعشرون: (للبخاري مختصرًا؛ ولمسلم بطوله) [أن عمر خطب يوم جمعة، فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أبا بكر؛ ثم قال: إني رأيت كأن ديكًا نقرني ثلاث نقرات، وإني لا أراه إلا لحضور أجلي، وإن أقوامًا يأمرونني أن أستخلف، وإن الله عز وجل لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته، ولا الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء السنة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وإني قد علمت أن أقوامًا يطعنون في هذا الأمر أنا ضربتهم بيدي هذه على الإسلام، فإن فعلوا ذلك فأولئك أعداء الله الكفرة الضلال. ثم إني لا أدع بعدي شيئًا عندي من الكلالة؛ ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلاة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ فيه، حتى طعن بإصبعه في صدري، وقال: (يا عمر، ألا تكفيك آية الصيف، التي في آخر سورة النساء؟)، وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضى بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن. ثم قال: اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار، وأني إنما بعثتهم عليهم ليعدلوا، وليعلموا الناس دينهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويقسموا فيهم فيئهم ويرفعوا إلي ما أشكل عليهم من أمرهم. ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل والثوم؛ ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما

فليمتهما طبخًا. وفي رواية: فما كانت الجمعة الأخرى حتى طعن عمر، (45/ أ) قال: فأذن للمهاجرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأذن للأنصار ثم أذن لأهل الشام، ثم أذن لأهل العراق، فكنا آخر من دخل عليه، قال: فإذا هو قد عصب جرحه ببرد أسود، والدم يسيل عليه. قال: فقلنا: أوصنا- ولم يسأله الوصية أحد غيرنا- قال: أوصيكم بكتاب الله؛ فإنكم لن تضلوا ما اتبعتموه. قال: وأوصيكم بالمهاجرين؛ فإن الناس يكثرون ويقلون، وأوصيكم بالأنصار، فإنهم شعب الإسلام الذي لجأ إليه، وأوصيكم بالأعراب فإنهم أصلكم ومادتكم. وفي رواية: فإنه إخوانكم وعدو عدوكم، وأوصيكم بأهل الذمة، فإنهم ذمة نبيكم ورزق عيالكم، قوموا عني. وبعض هذا المعنى في حديث مقتل عمر]. * في هذا الحديث من الفقه إخبار الرجل بما يراه من رؤيا يكرهها؛ على أن الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا رأى الرجل رويا يكرهها فلا يتحدثن بها وليستعذ من شرها ويقرأ القرآن)، وفي رواية: (أو يقوم إلى الصلاة فإنها

لا تضره)، ولكن عمر استشف من الرؤيا أنها شهادة، وقوى ذلك عنده ما حدثه به حذيفة في حديث الفتنة، وقوله: بينك وبينها باب من حديد، فقال له: أيفتح أم يكسر؟ فقال: بل يكسر. فقال: إذن لا يغلق أبدًا، فأحس بالشهادة، فلذلك أرى أنه ذكرها لتصح له الشهادة. * وفيه جواز أن يفوض الإمام إلى عدد معروف من غير تعين على واحد منهم، وفي هذا دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات وهو راض عن: عمر، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف. * وفيه أن من طعن على ما جرى من خلافة الأربعة فإن عمر قد شهد أنهم ضلال، وأنهم جهلة غير علماء. * وفيه أيضًا اهتمامه بالعلم، وكيف يخرج من (45/ ب) الدنيا ومسألة الكلالة لم يحرر فيها ما لا يختلف بعده معه. * وقوله: (ما أغلظ لي في شيء ما أغلظ في الكلالة) فيه جواز أن ينهر العالم المتعلم، وأن نكيره طلبًا لفطنته لقول عمر (حتى طعنني بإصبعه في صدري). * وفيه أن الأمراء في الإسلام ينبغي أن يكونوا عدولًا علماء؛ ألا ترى عمر رضي الله عنه يقول: (أشهدكم على أمراء الأمصار، وأني إنما بعثتهم عليهم ليعدلوا، ويرفعوا إلي ما أشكل عليهم من أمرهم)؟

* وفيه أيضًا كراهية أن يتعرض الإنسان لأكل الثوم والبصل، وكل ما يجري مجراها في نتن لئلا يتأذى به جلساؤه وإخوانه إلا أن يميته بالطبخ. * وفيه أيضًا استحسان ترتيب الدخول على الإمام بمقتضى منازل الناس في أقدارهم، ألا تراه كيف أذن أولا للمهاجرين ثم للأنصار ثم أذن لأهل المدينة ثم لأهل الشام ثم لأهل العراق، وإنما أذن لأهل الشام قبل أهل العراق من أجل أهم أهل ثغور ومتاخمة للأعداء، وأهل العراق في راحة من ذلك. * وفيه أيضًا الإشارة إلى وجوب عصب الجرح، وأن لا يترك إذا كان يخشى منه التلف. * ومن ذلك أنه أوصى المهاجرين مشيرًا إلى زمانهم وبقائهم، بقوله: (إن الناس يكثرون ويقلون)، يعني: والمهاجرون يقلون، لأنهم عدد معروف، ومن يلده المهاجرون من الأولاد فليسوا بمهاجرين. * وفيه دليل على حسن الثناء على الأنصار، بقوله: (فإنهم شعب الإسلام الذي لجأ إليه)؛ يشبههم بشعب بين جبلين فيه المرعى مع الامتناع من الأعداء. * وفيه أيضًا وصية بالأعراب ولقد أحسن في وصف الأعراب بأنهم (مادتكم) أي أصلكم الذي يمدكم. وفي الرواية الأخرى: (فإنهم إخوانكم وعدو عدوكم). * وكذلك أوصى بأهل الذمة فقال: (إنهم ذمة نبيكم)؛ يعني إنما أقاموا (46/ أ) بينكم ثقة بوفائكم، وركونًا إلى صدق قولكم، وإنكم تمتثلون فيهم أمر نبيكم ثم عقب ذلك بما فيهم من النفع فقال: وهم رزق عيالكم؛ يعني الجزية وما تنالون فيها من ذلك. * * *

من أفراد البخاري - 45 - الحديث الأول: [عن سالم عن ابن عمر قال: ما سمعت عمر يقول لشيء قط. إني لأظنه كذا كان كما يظن؛ بينما عمر جالس إذ مر به رجل جميل، فقال: لقد أخطأ ظني، أو: إن هذا على دينه في الجاهلية، أو: لقد كان كاهنهم، علي بالرجل، فدعى له، فقال له عمر: لقد أخطأ ظني، أو: إنك على دينك في الجاهلية، أو: لقد كنت كاهنهم، فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم، فقال: إني أعزم عليك إلا ما أخبرتني، قال: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينما أنا يومًا في السوق، جاءتني أعرف فيها الفزع، قالت: ألم تر الجن وإبلاسها .... ويأسها من بعد إنكاسها ولحوقها بالقلاص وأحلاسها؟ قال عمر: صدق، بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه فصرخ به صارخ لم أسمع صارخًا قط أشد صوتًا منه يقول: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله؛ فوثب القوم. قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمر نجيح، ورجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله، فقمت، فما نشبنا أن قيل: هذا نبي].

* في هذا الحديث ما يدل على فطنة عمر وذكائه في كونه لم يقل قط لشيء أظنه هكذا إلا كان كما يقول. * وفيه كراهية أن يذكر الرجل بعد إسلامه ما كان عليه في حالة كفره إلا أن يكون راجعًا إلى مصلحة. * وفيه دلالة واضحة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ففيما جاءت به الجنية إلى الرجل وفيما سمعه عمر بأذنيه، ما يشهد بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. - 46 - الحديث الثاني: [عن ابن عمر أنه (46/ ب) لما فدع أهل خيبر عبد الله بن عمر، قام عمر خطيبا، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامل يهود خيبر على أموالهم، وقال: (نقركم ما أقركم الله تعالى)، وإن عبد الله بن عمر خرج على ماله هناك، فعدي عليه من الليل، ففدعت يداه ورجلاه، وليس له هناك عدو غيرهم، هم عدونا وتهمتنا، وقد رأيت إجلاءهم، فلما أجمع عمر على ذلك أتاه أحد بني أبي الحقيق، فقال: يا أمير المؤمنين، أتخرجنا وقد أقرنا محمد، وعاملنا على الأموال، وشرط ذلك لنا؟ فقال عمر: أظننت أني نسيت

قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لك: (كيف بك إذا أخرجت من خيبر، تعدو بك قلوصك، ليلة بعد ليلة؟)، فقال: كانت هذه هزيلة من أبي القاسم، قال: كذبت، يا عدو الله. قال: فأجلاهم عمر، وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالا وإبلا وعروضًا من أقتاب وحبال وغير ذلك. قال البخاري: ورواه حماد بن سلمة عن عبد الله بن عمر قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر فقاتلهم حتى ألجأهم إلى حصنهم، وغلبهم على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يجلوا منها؛ ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصفراء والبيضاء والحلقة، وهي السلاح، ويخرجون منها، واشتراط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئًا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد، فغيبوا مسكًا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب، كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعم حيي واسمه سعية: ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير؟ قال: أذهبته النفقات والحروب، فقال: العهد القريب، والمال أكثر من ذلك، وقد كان حيي قتل قبل ذلك، فدفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعية إلى الزبير، فمسه بعذاب، فقال: قد رأيت حييًا يطوف في خربة ههنا، فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة، فقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابني أبي الحقيق (47/ أ)، وأحدهما زوج صفية بنة حيي بن أخطب، وسبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا وأراد أن يجليهم منها، فقالوا: يا محمد، دعنا نكن في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها، ولم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، وكانوا لا يفرغون أن يقوموا عليها، فأعطاهم خيبر، على أن لهم الشطر من كل زرع وشيء ما بدا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان عبد الله بن رواحة يأتيهم في كل

عام فيخرصها عليهم، ثم يضمنهم الشطر، فشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شدة خرصة، وأرادوا أن يرشوه، فقال عبد الله: أتطعموني السحت؟، والله جئتكم من عند أحب الناس إلي، ولأنتم أبغض إلي م عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي لكل امرأة من نسائه ثمانين وسقًا من تمر كل عام، وعشرين وسقًا من شعير، فلما كان زمن عمر غشوا المسلمين، فألقوا ابن عمر من فوق بيت، ففدعوا يديه، فقال عمر بن الخطاب: من كان له سهم بخيبر فليحضر حتى نقسمها بينهم، فقسهما عمر بينهم، فقال رئيسهم: لا تخرجنا؛ دعنا نكن فيها كما أقرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، فقال عمر لرئيسهم: أتراه سقط علي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف بك إذا ركضت بك راحلتك نحو الشام يومًا ثم يومًا ثم يومًا؟ وقسمها عمر بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية)]. * في هذا الحديث من الغريب: ذكر الفدع؛ والفدع: تغيير شكل اليدين والرجلين. * وفيه من الفقه أن لوث العداوة معمول به، لأن عمر رضي الله عنه قال: (ليس لنا عدو (47/ ب) غيرهم، وقد رأيت إجلاءهم)، يعني اليهود.

* وفيه دليل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لقول عمر رضي الله عنه لابن أبي الحقيق: (أتظن أني نسيت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك: (كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة)؟ * وفيه هذا الحديث الحجة في إجلاء اليهود من أرض العرب. * وفيه أيضًا بيان جهل ابن أبي الحقيق إذ يقول: (هزيلة من أبي القاسم)، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا حقًا في كل أحواله. * وفيه أيضًا أنه لا يجوز بعد عقد الذمة لأهل الكتاب أن تؤخذ أموالهم؛ ألا ترى أن عمر رضي الله عنه أعطاهم قيمة ما كان من التمر؛ مالًا وعروضًا وأقتابًا وحبالا وغير ذلك؟ * وفي هذا الحديث من الفقه أن المسلمين لما فتحوا خيبر عنوة ملكوا أرضها وغراسها؛ وإلا فلو كان باقيًا على ملك يهود لكان أعطاهم ثمنه كما أعطاهم ثمن التمر. في رواية البخاري الأخرى التي شك فيها أبو سلمة عن نافع ما يفسر هذا المعنى، وأنه شرط لهم من التمر ما تحمل رواحلهم، وأنه صالحهم على الجلاء، وأنه اشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئًا فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد. * وفي هذا الحديث من الفقه جواز أن ينال المتهم بالعذاب ليقر به عنده إذا كان كافرًا معاهدًا، وإذا كان قد عرف له مال ولم تمض مدة تستنفق فيها مثله. * وفيه من الفقه أنه إذا كان قد عقد الذمة لجماعة على أن لا يخونه منهم أحد، فخانه من الجماعة واحد، فله أن ينقض العهد في الجميع، لأنه قال: (فقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابني أبي الحقيق، وسبى ذراريهم بالنكث الذي نكثوا). * وفيه من الفقه جواز تسليم الرجل أرضه إلى غيره بشطر ما يخرج.

* وفيه أيضًا تحريم الرشوة، لقول عبد الله بن رواحة: (تطعموني السحت؟). * وفيه أيضًا أنه يتعين على المسلم (48/ أ) أن يبغض اليهود والنصارى ولا يكون لأحد منهم في قلبه مودة؛ ألا ترى قول عبد الله بن رواحة: (إنكم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير)؟ * وفيه أيضًا من الفقه أن هذا البغض إذ اشتد فلا ينبغي أن يزلزل المسلم عن إتباع الحق شعرة. وفي هذا يبين الإيمان؛ فإن الله عز وجل يقول: {ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}. * وفيه جواز أن يعد الإنسان قوته لعام، ولا يكون ذلك قادحًا في إيمانه ولا ناقصًا من تولكه؛ لقوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي كل واحدة من أزواجه ثمانين وسقًا من تمر وعشرين وسقًا من شعير). * وفيه أيضًا دليل تام على التوسعة على العيال، فإن بهذا الحساب يكون لكل امرأة من نسائه في كل يوم تمرًا وشعيرًا تسعون رطلًا تقريبًا. - 47 - الحديث الثالث: [عن ابن عمر أن غلامًا قتل غيلة، فقال عمر: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم. موقوف.

قال البخاري: وقال مغيرة بن حكيم، عن أبيه: إن أربعة قتلوا صبيًا، فقال عمر مثله]. * في هذا الحديث من الفقه أن يقتل الجماعة بالواحد. - 48 - الحديث الرابع: [عن ابن عمر قال: لما فتح هذان المصران، أتوا عمر بن الخطاب، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنًا، وإنه جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا أن نأتي قرنًا شق علينا! قال فانظروا حذوها من طريقكم، قال: فحد لهم ذات عرق]. * في هذا الحديث من الفقه أن كل طريق لم يوقت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميقاتًا لإحرام الحج فإنه يحاذى الميقات القريب إليه، ويهل منه فذلك ميقاته. - 49 - الحديث الخامس: [من حديث ريبعة بن عبد الله أنه حضر عمر وقد قرأ (48/ ب) يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى جاء (السجدة)، فنزل فسجد،

وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاء السجدة قال: يأيها الناس، إنما نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد. وفي رواية: إن الله تعالى لم يفرض علينا السجود، إلا أن نشاء]. * في هذا الحديث من الفقه أن سجود التلاوة سنة وليس فريضة. * وفيه أيضًا أنه يستحب للعالم أن يترك الأفضل في وقت ليعلم الناس أن ذلك ليس بواجب. - 50 - الحديث السادس: [عن ابن عمر في إسلام عمر، قال: بينما هو- يعني عمر- في الدار خائفًا، إذا جاءه العاصي بن وائل السهمي أبو عمرو، عليه حلة حبرة وقميص مكفوف بحرير، وهو من بني سهم، وهم حلفاؤنا في الجاهلية، فقال له: ما بالك؟ قال له عمر: زعم قومك أنهم سيقتلونني إن أسلمت، قال: لا سبيل إليك، بعد أن قالها أمنت، فخرج العاصي فلقي الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريديون؟ فقالوا: نريد هذا ابن الخطاب الذي صبأ، قال: لا سبيل إليه، فكر الناس]. * في هذا الحديث من الفقه أن الله سبحانه وتعالى يمنع عبده المسلم بما شاء، ويجعل صونه بيد عدوه، ويرد عنه الأذى بمكان خصمه. * وفيه أيضًا أن المؤمن إذا كان في شدة وقد اضطره الأمر أن يستدفع الشر بمشرك، فإن ذلك جائز بمثل حال عمر رضي الله عنه.

- 51 - الحديث السابع: [عن أبي موسى الأشعري قال: قال لي عبد الله بن عمر، هل تدري ما قال أبي لأبيك؟ قال: قلت: لا، قال: قال أبي لأبيك: يا أبا موسى، هل يسرك أن إسلامنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهجرتنا معه، وجهادنا معه، وعملنا كله معه، (49/ أ) برد لنا، وأن كل عمل عملناه بعده نجونا منه كفافا؛ رأسا برأس؟ فقال أبوك لأبي: لا والله، قد جاهدنا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصلينا وصمنا، وعملنا خيرا كثيرا، وأسلم على أيدينا بشر كثير، وإنا لنرجو ذلك. قال أبي: لكني والذي نفس عمر بيده، لوددت أن ذلك برد لنا، وأن كل شيء عملناه بعده نجونا منه كفافا رأسا برأس. فقلت: إن أباك والله خير من أبي]. * في هذا الحديث من الفقه أن المؤمن كلما قلت ذنوبه ازداد خوفه، وكلما غزر عقله استبد قلقه، وما ذكره أبو موسى من اعتداده بحجه وجهاده فإنه إيمان بكون ذلك كله حسنات، إلا أن الذي نظر رضي الله عنه من أنه انتهت ودادته إلى أن يبرد له عمله، أي يثبت عمله مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويهدر الباقي، يدل على أنه قد خاف أن يكون ما أتى به بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بعض ما فعله بالاجتهاد أو غير ذلك مزلزلا لعمله الأول مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا إذا كان يقوله عمر وهو المعروف الخلال في زهده في الدنيا، وعدله في المسلمين، وفتحه الفتوح، وإنصافه في القسمة بين الغانمين، وجده في أمر الله، فكيف بنا وأمثالنا إذا اتبعنا النفوس أهواءها وتمنينا على الله سبحانه، نسأل الله أن يوفقنا لما يرضاه من القول والعمل، وأن يحمينا من الغرور، إنه ولي الإجابة.

- 52 - الحديث الثامن: [عن عمر قال: لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثبت إليه، فقلت: يا رسول الله، أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ أعدد عليه قوله، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: (أخر عني يا عمر). فلما أكثرت عليه، قال: (إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني (49/ ب) إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها)، قال: فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم انصرف، فلم يمكث إلا سيرا حتى نزلت الآية من براءة: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون}، قال: فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، والله ورسوله أعلم]. * في هذا الحديث من الفقه ما يدل على أن الإمام إذا وادع من يسر له السوء وينافقه في الدين، إلا أنه لا يظاهره؛ من أجل أن لا يحدث ما يثير الفرقة، فإن ذلك جائز. * وفيه أيضًا ما يدل على أن يذكر الإمام ببعض ما يقتضيه رأي بعض أصحابه وهو أيضًا جائز. * وفيه أيضًا ما يدل على حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يشمل بمغفرة الله تعالى سائر خلقه لقوله: (لو علمت أنه إن زدت على السبعين يغفر له لزدت).

* وفيه ما يدل على فضيلة الشدة في الدين، وعداوة المنافقين، حتى نزل القرآن بما كان قد ذكره عمر. * وفيه أيضًا أن عمر لما سكن عنه ما وجد به على المنافقين عجب من جرأته على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. - 53 - الحديث التاسع: [من رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: لما قدم عيينة بن حصن بن حذيفة نزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاروته، كهولا كانا أو شبانًا، فقال عيينة: يابن أخي، هل لك وجه عند الأمير؟ فاستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه. قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا بن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فقال الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافًا عند كتاب (50/ أ) الله عز وجل]. * في هذا الحديث من الفقه استحباب مجالسة الإمام للقراء وإن كانوا أحداثًا. * وفيه أيضًا جواز الإيقاع بمن يسيء أدبه على الإمام لأن عمر هم بذلك. * وفيه أيضًا جواز العفو عمن يسيء أدبه إذا خرج مخرج العفو عن قدرة؛ فإن الحر

استعطف عمر بأن دعاه إلى أدب الله والأخذ بمكارم الأخلاق التي فيها الإعراض عن الجاهلين. * وفيه أيضًا أن عمر كان وقافًا عند كتاب الله؛ أي أنه لا يتجاوزه إلى غيره قناعة به ورضى بحكمه. - 54 - الحديث العاشر: [أن عمر قال يومًا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيم ترون هذه الآية نزلت: {أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل}؟. قالوا: الله أعلم. فغضب عمر، وقال: قولوا نعلم، أو لا نعلم، قال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال: يا ابن أخ، قل، ولا تحقر نفسك. قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعلم. قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله]. * فيه من الفقه أن قول الرجل: الله أعلم؛ في مثل هذا المقام لا يصلح؛ لأن الله أعلم أبدًا؛ ولأنه إذا سئل الرجل عما يعلمه فواجب عليه أن يذكره، وإن كان لا يعمله فواجب عليه أن يقول: لا أعلمه. فلو قال فيه ما يعلمه ثم أتبع ذلك بقوله: الله يعلم لكان حسنًا. * وفيه من الفقه أنه إذا كان الرجل ذا لب وفقه فإنه لا ينبغي له أن يحقر نفسه أن يقول فيما قد عجز عنه الشيوخ.

* وفيه أيضًا دليل على أن يفتح الرجل طريقا في المسألة فيدل بذلك الفتح على باقي المسألة؛ ألا ترى أن ابن عباس قال: في نفسي منها شيء، ثم قال: ضربت مثلا لعمل، فقال عمر: أي عمل؟ فقال ابن عباس: لعمل رجل غني يعمل بطاعة الله تعالى ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى (50/ ب) أغرق أعماله؛ وإنما أعاد ابن عباس ذكر العمل ليستنهض فطنة عمر فيسبق عمر إلى فهم مقصوده، وكذلك كان؛ فإن عمر شرح المسألة فأقر ابن عباس على ذلك، وهو الذي أراد ابن عباس أن يذكره. وقول عمر: ثم بعث الله له الشيطان؛ من نحو قوله تعالى: {وقيضنا لهم قرناء}. وهذه الآية جاءت مثلا، فالبسط فيها مما أشار إليه ابن عباس وعمر رضي الله عنهما، وهو أن الله سبحانه وتعالى قد ذكر في الآيتين اللتين قبل هذه الآية حال المنفق رياء مع عدم الإيمان بالله عز وجل واليوم الآخر، وقال: {فمثله كمثل صفوان عليه تراب}، وذكر أن مثل من ينفق ماله ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من نفسه: {كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين}، فارقًا سبحانه في ذلك الفرق والبين بين الذي ينفق رياء وبين الذي ينفق ابتغاء مرضاة الله، ثم أشار سبحانه إلى أن الإنفاق في سبيل الله إنما ثمرته على شبيه ثمرة صاحب جنة فيها نخيل وأعناب، وأنه لما أصابه الكبر وكانت له ذرية ضعفاء ليس فيهم من يقوم مقامه، ولا يغني عنه أبدًا، كلهم كل عليه- على كونهم زيادة ثقل وتضاعف هم- وكانت حاجته إلى بقاء تلك الجنة في ذلك الوقت أشد ما كانت حين أصابه الكبر، وذهب الزمان الذي يمكنه أن يغرس فيه غرسا يجتنبه، فأصابها إعصار في ذلك الوقت فاحترقت، فكذلك الذي أنفق ماله رياء الناس فإنه في القيامة حين تنقطع أعماله، وتشتد حاجته إلى ما قد أسلفه وقدمه فتجدها حينئذ قد أصابها الإعصار فاحترقت.

- 55 - الحديث الحادي عشر: [عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وهو بوادي العقيق: (أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة). وفي رواية سعيد بن الربيع: وقال: (عمرة وحجة)]. * في هذا الحديث من الفقه ما يدل على أن منام رسول الله (51/ أ) - صلى الله عليه وسلم - حق وصدق، وما يدل على بركة وادي العقيق، وعلى اشتباك العمرة مع الحج. - 56 - الحديث الثاني عشر: في مقتل عمر والشورى (من رواية المسور بن مخرمة مختصرًا في الشورى. ومن رواية عمرو بن ميمون بطوله؛ وهذا حديث عمرو، لأن حديث المسور طرف منه). [قال عمرو: رأيت عمر بن الخطاب قبل أن يصاب بأيام بالمدينة وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف، فقال: كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: حملناها أمرًا هي له مطيقة، وما فيها كبير فضل، فقال: انظر أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق! فقالا: لا. فقال عمر: لئن سلمني الله عز وجل لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى أحد بعدي أبدًا، قال: فما أتت عليه إلا رابعة حتى أصيب- رضي الله عنه-.

قال عمرو بن ميمون: وإني لقائم، ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب، وكامن إذا مر بين الصفين قام بينهما، فإذا رأى خللا قال: استووا، حتى إذا لم ير فيهم خللا تقدم فكبر، وقال: وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى، حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني- أو أكلني- الكلب، حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين، لا يمر على أحد يمينًا أو شمالا إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلا، فمات منهم تسعة. وفي رواية: سبعة. فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا، فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فأما من كان يلي عمر فقد رأى الذي رأيت، وأما نواحي المسجد، فإنهم لا يدرون ما الأمر؛ غير أنهم فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله! سبحان الله! فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس، انظر: من قتلني؟ قال: فجال ساعة ثم جاء، فقال: غلام المغيرة بن شعبة، فقال: الصنع؟ قال: نعم، قال: (51/ ب) قاتله الله، لقد كنت أمرت به معروفا، ثم قال: الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل مسلم، قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة،- وكان العباس أكثرهم رقيقًا- فقال بن عباس: إن شئت فعلت، أي إن شئت قتلنا. قال: بعد ما تكلموا بلسانكم، وصلوا قبلتكم، وحجوا حجكم؟ فاحتمل إلى بيته، فانطلقا معه، قال: وكان الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقال قائل: أخاف عليه، وقائل يقول: لا بأس، فأتى بنبيذ، فشرب منه فخرج من جوفه، ثم أتى بلبن فشرب منه، فخرج من جرحه، فعرفوا أنه ميت، قال: فدخلنا عليه، وجاء الناس يثنون عليه، وجاء رجل شاب، فقال: أبشر

يا أمير المؤمنين ببشرى الله عز وجل، قد كان لك صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، فقال: وددت أن ذلك كان كفافا، لا علي ولا لي، فلما أدبر الرجل إذا إزاره يمس الأرض، فقال: ردوا علي الغلام، فقال: يا ابن أخ، ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك، يا عبد الله انظر ما علي من الدين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفًا، أو نحوه، فقال: إن وفى به مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن لم تف أموالهم فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم، وأد عني هذا المال، انطلق إلى أم المؤمنين عائشة فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، قال: فسلم واستأذن، ثم دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، قال: فقالت: قد كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه اليوم على نفسي، فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، فقال: ارفعوني فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت، قال: الحمد لله، ما كان شيء أهم إلي من ذلك، فإذا أنا قبضت (52/ أ) فاحملوني، ثم سلم، وقل: يستأذن عمر، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين، وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء يسترنها، فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه، فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال، فولجت داخلا، فسمعنا بكاءها من الداخل، فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين؛ استخلف، فقال: ما أرى أحد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر- أو الرهط- الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض، فسمى: عليًا، وعثمان، والزبير، وسعدًا، وطلحة، وعبد الرحمن، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء- كهيئة التعزية له- فإن أصابت الإمارة سعدًا فذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما

أمر، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة، وقال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيرا- {الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم} - أن يقبل من محسنهم، وأن يعفى عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا؛ فإنه ردء الإسلام، وجبال المال، وغيظ العدو، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضى منهم، وأوصيه بالأعراب خيرا، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام؛ أن يؤخذ من حواشي أموالهم، ويرد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم -: أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم، قال: فلما قبض خرجنا به، فانطلقنا نمشي فسلم عبد الله بن عمر، وقال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت: أدخلوه، فأدخل فوضع هناك مع صاحبيه، فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: قد (52/ ب) جعلت أمري إلى علي، وقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال عبد الرحمن: أيكما يبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه! فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إلي، والله عليه أن لا آلو عن أفضلكم؟ قالا: نعم. فأخذ بيد أحدهما فقال: لك من قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن. ثم خلا بالآخر، فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان فبايعه، وبايع له علي، وولج أهل الدار فبايعوه. وفي حديث المسور: أن الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا فقال لهم عبد الرحمن بن عوف: لست بالذي أنافسكم في هذا الأمر، ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم، فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن، فلما ولوه أمرهم انثال

الناس على عبد الرحمن ومالوا إليه، حتى ما رأى أحدا من الناس يتبع أحدًا من أولئك الرهط، ولا يطأ عقبيه، ومال الناس إلى عبد الرحمن يشاورونه ويناجونه تلك الليالي، حتى إذا كان الليلة التي أصبحنا فيها، فبايعنا عثمان. قال المسور: طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل، فضرب الباب حتى استيقظ فقال: ألا أراك نائما؟ فوالله ما اكتحلت هذه الثلاث بكثير نوم، فادع لي الزبير وسعدًا، فدعوتهما له، فشاورهما، ثم دعاني، فقال: ادع لي عليًا، فدعوته فناجاه حتى إبهار الليل، ثم قام علي من عنده وهو على طمع، وكان عبد الرحمن يخشى من علي شيئًا ثم قال: ادع لي عثمان، فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن للصبح، فلما صلى الناس الصبح، اجتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل عبد الرحمن (53/ أ) إلى ما كان خارجًا من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد، وكانوا قد وافوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن وقال: أما بعد، يا علي فإني نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلا، وأخذ بيد عثمان فقال: أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن، وبايعه الناس والمهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون)]. * في هذا الحديث من الفقه استظهار الإمام على عماله، وتخويفهم من أن يحيفوا على الرعية أو يحملوا الأرض ما لا يطيقه، مع جواز تفويضه ذلك إلى الأمناء عنده.

* وفي هذا الحديث أيضًا أنه قد يستظهر العامل بالشيء اليسير مما لا يمكنه أنه يقف فيه عن نص التحقيق؛ لقوله: وما فيها كبير فضل. * وفيه من الفقه أن عمر رضي الله عنه رأى أن لأرامل العراق حقًا، وأمل أن يوصله إليهن. * وفيه من الفقه أنه يتعين على الإمام في الصلاة أن يسد الخلل في الصفوف، وأنه لا يتقدم فيكبر حتى يرتب الصفوف. * وفيه أيضًا استحباب تطويل الإمام في الركعة الأولى نحو يوسف أو النحل في التلاوة ليجتمع فيها الناس فيدركوا الركعة الأولى، ومما يدل على إشفاقه على المسلمين استنباته عبد الرحمن مع ما حدث له، وكون المسلمين لم يشغلهم عن الصلاة شيء. * وفيه جواز تخفيف الإمام صلاته لما ذكره عن عبد الرحمن. * وفيه جواز التداوي بالنبيذ، فإن عمر رضي الله عنه قد ثبت عنه أنه قال: (الخمر من خمسة) وعد فيها التمر؛ إلا أنه ليس في هذا الحديث أن ذلك النبيذ كان مما يسكر كثيره. * وفيه أيضًا أن من شدة إيمانه لم يمنعه ذلك الذي هو فيه من الإنكار على من أسبل إزاره. * وفيه دليل على جواز كثرة الدين (53/ ب) على المؤمن لما ينوبه من الحقوق اعتمادًا على الله تعالى أن يسهل قضاءه. * وفيه أيضًا دليل على أنه مر ولده أن يقضي دينه من مال أهله ثقة بكرمهم وسماحتهم له، لأنه قال: إن لم يبق في مال آل عمر فاسأل في بني عدي وفي قريش، ثم أوصاه أن لا يعدو قريشًا التي هي قبيلته وقومه.

* وفيه أيضًا دليل على فقه عمر؛ من أن الجرح لما كان قد بلغ به إلى حد اليأس من الحياة أزال عنه سمة الإمامة. * وفيه جواز البكاء لما أخبر عن بكاء عائشة وحفصة وانتحابهما. * وفيه أن عائشة آثرته بما كانت تريده لنفسها لاستحقاقه له. * وفيه دليل أن الأمة الصالحة إذا دهمها الأمر الشديد خرجت من غير كمال السترة؛ ألا تسمع إلى قوله: (والنساء يسترنها)؟ * وفيه أنه جعل الأمر في ستة: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن، وسعد. * وفيه أنه يجوز للرجل أن يرفأ قلب ولده بما لا يضر لقوله: (وليشهدها عبد الله وليس له من الأمر شيء). * وفيه من الفقه أن الاختيار انتهى إلى عثمان وعلي رضي الله عنهما كما آل الأمر إليهما. * وفيه أيضًا قوله: (وكان عبد الرحمن يخاف من علي شيئا)، ولا أراه إلا شيئًا يكون من نحو دعابة وما يشبهها، إذ لا يجوز أن يكون عبد الرحمن دفع الأمر عن علي رضي الله عنه لشيء خافه على نفسه منه. * وفيه جواز سهر الليل كله لمثل ذلك الأمر الجسيم. - 57 - الحديث الثالث عشر: [من رواية عبد الرحمن بن عبد القاري قال: (خرجت مع عمر ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون؛ يصلي الرجل لنفسه،

ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارثهم. فقال عمر بن الخطاب (54/ أ): نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله]. * فيه من الفقه أن عمر رضي الله عنه أحدث الاجتماع لصلاة التراويح، وكان هذا من أحسن ما أحدث، وليس كل محدث على الإطلاق يهجر ويكره. * وفيه أيضًا أن ناشئة الليل أفضل. - 58 - الحديث الرابع عشر: [عن جابر بن عبد الله قال: قال عمر، كان أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا؛ يعني بلالا. قال لأبي بكر: إن كنت اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت اشتريتني لله عز وجل، فدعني وعملي لله تعالى]. * فيه هذا الحديث من الفقه إثبات السؤدد لأبي بكر رضي الله عنه، فإن كانت الرواية قد ضبطت عن عمر في قوله: وأعتق سيدنا (بنصب الدال من سيدنا)

فيكون لمقام بلال في كونه مؤذنًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومراعيًا لأوقات الصلوات مع ما له من الفضائل، وإن كانت الدال مضمومة، رجعت السيادة إلى أبي بكر رضي الله عنه. * قوله: (إن كنت اشتريتني لنفسك) ليس معناه أن يشك في أن أبا بكر إنما اشتراه لله تعالى، وإنما يعني: إن كنت اشتريتني لتجعلني في خدمة نفسك وترى أني لا أصلح إلا لخدمتك، ولا أصلح أن أكون في خدمة الله تعالى من الغزو والعبادة فخذني لنفسك، وإن كنت تراني أهلا للمعاملة لله وطلب الدرجات والقربات فخلني وذلك، ويقال: العالم من عرف منك ما تصلح له، فكأنه رجع إلى رأي أبي بكر في ذلك، وكأنه قال: إن كنت رأيتني بنظرك الصحيح لا أصلح إلا لخدمتك فاشغلني بذلك، وإن كنت رأيتني صالحًا للانقطاع إلى الله عز وجل فدعني وذلك، وفي هذا دليل على أن الإنسان لا يعرف من نفسه ما يعرفه صاحبه، وكأنه بهذا القول استطلع علم أبي بكر الذي هو فهمه من بلال وتوسمه منه، فلما أعتقه أبان بذلك أنه قد فهم أنه يصلح للمقام الأعلى. - 59 - الحديث الخامس عشر: [(54/ ب) عن أنس بن مالك: (أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا - صلى الله عليه وسلم - فتسقينا، وإنا نتسول إليك بعم نبينا فاسقنا؛ قال: فيسقون)].

* في هذا الحديث من الفقه دليل على أن عمر رضي الله عنه هداه الله تعالى لأن يأتي للأمر من بابه، وأنه لم يكن يوم مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجه الأرض ذكر أقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العباس، فلذلك لما فقد عمر عين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توسل بأقرب الناس إليه من جميع الخلق؛ وعلى هذا فإنه لا أقرب من العباس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من جميع هذه الأمة. * وفيه من الفقه أن عمر رضي الله عنه أحب أن يكون ما يمن الله تعالى به على الخلق من السقيا عن توسل بآل النبي - صلى الله عليه وسلم - ليكون أوقر في اعتداد الأمة بالسقيا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يدلي بنسبه إليه في أقرب نسب من عصبته. - 60 - الحديث السادس عشر: [عن أنس: أنه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك الغد من يوم توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتشهد وأبو بكر صامت لا يتكلم، ثم قال عمر: أما بعد، فإني قلت لكم أمس مقالة، وإنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله تعالى، ولا في عهد عهده إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يدبرنا- يريد أن يكون آخرهم-، فإن يك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مات، فإن الله قد جعل بين أظهركم نورًا تهتدون به، به هدى الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فاعتصموا به تهتدوا بما هدى الله به محمد - صلى الله عليه وسلم -. وإن أبا بكر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وثاني اثنين، وإنه أولى (الناس بأموركم)، فقوموا إليه وبايعوه، وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامة عند المنبر.

وفي رواية قال الزهري: قال لي أنس بن مالك: (إنه رأى عمر يزعج أبا بكر إلى المنبر إزعاجًا). قال الزهري: وأخبرني سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب قال: (والله ما هو إلا أن تلاها أبو بكر؛ يعني قوله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل}، عقرت وأنا قائم حتى خررت إلى الأرض، وأيقنت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مات)]. * فيه من الفقه أن قول عمر: إني كنت قلت لكم أمس مقالة ولم تكن كما قلت، يعني أنه كان قد قال أمس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يمت، ومن قال إن محمدًا قد مات علوته بسيفي هذا، إنما ذهب إلى ربه كما ذهب موسى؛ فقال عمر ذلك اعتذارا من القول الأول، ولذلك قال: إنما كنت أرجو أن يعيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يدبرنا، ولهذا يقول: إن يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مات فإن الله عز وجل قد جعل بين أظهركم نورًا تهتدون به، يعني القرآن، وهذا من عمر صدق وقول حق، إلا أن الفضل منه لم يسبق بالنطق به، وسبقه به غيره؛ وهو أبو بكر رضي الله عنه. * وفي هذا الحديث من الفقه أن البيعة العامة كانت من غد يوم السقيفة تأكيدًا للأول وتثبيتًا منه. * وفيه من الفقه أن المؤمن قد ينبغي أن يكون ناهضًا جلدًا حريصًا على استتباب

الحق حتى يحمل عليه صاحب الحق؛ ألا تراه يقول: رأيت عمر يزعج أبا بكر إلى المنبر؟ *وفيه من الفقه أن القرآن وحي مجدد كلما سمع، ألا ترى إلى عمر رضي الله عنه كيف يقول: والله ما هو إلا أن تلاها أبو بكر؛ يعني قوله: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل}، فعقرت أي دهشت وأنا قائم حتى خررت إلى الأرض، وأيقنت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد (55/ ب) مات؟ * وفيه من الفقه أن الرجل قد يدركه الدهش عند سماع القرآن إلى أن يخر، وهذا إذا جرى على الإنسان كان إيمانًا، وأما افتعاله فأخشى أن يكون شركًا بالله عز وجل. - 61 - الحديث السابع عشر: [عن أنس قال: كنا عند عمر فقال: نهينا عن التكلف. وفي رواية عن ثابت عن أنس: أن عمر قرأ: {وفاكهة وأبا}، قال: فما الأب؟ ثم قال: ما كلفنا؛ أو قال: ما أمرنا بهذا]. * في هذا الحديث من الفقه أنه إنما كره عمر التكلف؛ وهو التتبع لكتاب الله بمشقة لا ترجع إلى التماس فائدة على سبيل التعنت والاعتراض، ولذلك ضرب ضبيعا إذ كان يتتبع من القرآن ما يظنه إشكالا، وإلا فلا خلاف بين المسلمين أن السؤال عن غريب القرآن من الأب وغيره طلبًا للفائدة وعلم ما يعرفه العرب منه أن ذلك

قربة إلى الله عز وجل، وإنما المكروه التكلف والتتبع لما لا فائدة ولا نفع فيه، وقد قال الله تعالى: {وما أنا من المتكلفين}. - 62 - الحديث الثامن عشر: [عن السائب بن يزيد قال: كنت نائمًا في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، فقال: من أنتما؟ أو: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، أترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]؟ * فيه من الفقه أن الغريب الذي لا يعرف مقدار شرف المسجد معذور حتى يعرف. * وفيه أيضًا من الفقه أن رفع الصوت في المسجد في غير ذكر الله هو الذي نهى عه عمر؛ لأن المساجد إنما بنيت ليذكر فيها اسم الله عز وجل، ولأن أحد ملوك الدنيا إذا رفع الصوت في داره بغير حمده والثناء عليه عد ذلك من سوء الأدب. * وفيه أيضًا من الفقه أن أرسل إليهما ولم يذهب بنفسه، وفي ذلك دليل على جواز الاستنابة في إنكار المنكر. * وفيه أيضًا أن عمر أحس بأنهما غريبان فأراد أن (56/ أ) يستدعيا إليه، فيعلما أنه سيد وآمر فيصيرا إلى قوله. - 63 - الحديث التاسع عشر: [عن حفصة وعن أسلم مولى عمر قالا: قال عمر: اللهم ارزقني شهادة

في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك. وفي رواية عن حفصة فقلت: أنى يكون هذا؟ فقال: يأتيني به الله إذا شاء]. * في هذا الحديث من الفقه أن العبد إذا دعا الله عز وجل بالشيء الممتنع على غير الله فإنه مستحب وأولى من الدعاء الشيء المعهود المألوف، وأجدر بالإجابة من غيره إذا دعا به الداعي وهو موقن بالإجابة، ألا ترى أن حفصة لما قالت له: أني يكون هذا؟ قال: يأتي به الله إذا شاء!؟ فلا جرم أجابه الله إلى ما سأل وبلغه ما طلب؛ وإنما أحب عمر رضي الله عنه- فيما أرى- فضيلة الشهادة وشرف الدفن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليكون ضجيع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر رضي الله عنه. - 64 - الحديث العشرون: [عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: استعمل عمر قدامة بن مظعون على البحرين، وكان شهد بدرًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو خال ابن عمر وحفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -. لم يزد، وهو طرف من حديث طويل في قصة لقدامة بن مظعون اقتصر البخاري على هذا القدر منه لحاجته إليه في من شهد بدرًا.

قال الحميدي: وقد وقع لنا بتهامه بهذا الإسناد متصلا بقوله: وكان خال ابن عمر وحفصة، قال: وقدم الجارود من البحرين فقال: يا أمير المؤمنين، إن قدامة بن مظعون قد شرب مسكرًا، وإني إذا رأيت حدًا من حدود الله حق علي أن أرفعه إليك، فقال له عمر: من يشهد على ما تقول؟ فقال: أبو هريرة، فدعا عمر أبا هريرة؛ فقال عمر: ما تشهد يا أبا هريرة؟ قال: لم أره حين شرب وقد رأيته سكران يقيء. فقال عمر: لقد تنطعت يا أبا هريرة في الشهادة، ثم كتب إلى قدامة وهو بالبحرين يأمره بالقدوم (56/ ب) عليه، فلما قدم قدامة والجارود بالمدينة، كلم الجارود عمر فقال: أقم على هذا كتاب الله. فقال عمر للجارود: أشهيد أنت أم خصيم؟ فقال الجارود: أنا شهيد. فقال: قد كنت أديت شهادتك، فسكت الجارود ثم قال: لتعلمن أني أنشدك الله. فقال عمر: أما والله لتملكن لسانك أو لأسوأنك. فقال الجارود. أما والله ما ذاك بالحق أن يشرب ابن عمك وتسوأني، فأوعده عمر، فقال أبو هريرة- وهو جالس-: يا أمير المؤمنين؛ إن كنت تشك في شهادتنا فسل بنت الوليد امرأة ابن مظعون، فأرسل عمر إلى هند زوجة قدامة ينشدها بالله فأقامت هند على زوجها قدامة الشهادة. فقال عمر: يا قدامة، إني جالدك، فقال قدامة: والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني يا عمر! قال: ولم يا قدامة؟ قال إن الله عز وجل قال: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين}. فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة؛ إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله. ثم أقبل عمر على القوم، فقال: ماذا ترون في جلد قدامة؟ فقال القوم: لا نرى أن يجلد ما دام وجعا، فسكت عمر عن جلده أيامًا ثم أصبح يومًا قد عزم على جلده فقال لأصحابه: ماذا ترون في جلد قدامة؟ فقالوا: لا نرى أن يجلد ما دام وجعًا؟

فقال عمر: إنه والله لئن يلقى الله تحت السياط أحب إلي أن ألقى الله وهو في عنقي، إي والله لأجلدنه، ائتوني بسوط. فجاءه مولاه أسلم بسوط رقيق صغير، فأخذه، فمسحه بيده ثم قال لأسلم: قد أخذتك دقرارة أهلك! ائتوني بسوط غير هذا، قال: فجاءه أسلم بسوط، فأمر عمر بقدامة فجلد؛ فغاضب قدامة عمر وهجره، فحجا، وقدامة مهاجر لعمر حتى قفولا من حجهم، ونزل عمر بالسقيا، ونام بها، فلما استيقظ قال: عجلوا علي بقدامة، انطلقوا فأتوني به، فوالله إني (57/ أ) لأرى في النوم أنه جاءني آت فقال لي: سالم قدامة فإنه أخوك، فلما جاؤوا قدامة أبى أن يأتيه، فأمر عمر بقدامة فجر إليه جرًا حتى كلمه عمر واستغفر له فكان أول صلحهما]. * في هذا الحديث من الفقه أن العبد المؤمن قد يقارف المعصية، فإن قدامة بن مظعون مع كونه قد شهد بدرًا قارف ما أوجب حدًا. * وفيه من الفقه أن الإنسان إذا رأى ما يوجب حدًا قد أظهره فاعله، وجب عليه رفعه إلى الإمام لقول الجارود: (إذا رأيت حدًا من حدود الله وجب علي أن أرفعه إليك)، فلم ينكره عمر. * وفيه أنه لم يقبل في البينة على شرب الخمر شهادة واحدة حتى استشهد أبا هريرة. * وفيه أيضًا أنه لما لم يشهد أبو هريرة بأنه رآه قد شرب الخمر، أخر العمل بالشهادة، لأن الشهادة بالسكر والقيء لا توجب الحد. * ثم قوله: (لقد تنطعت في الشهادة يا أبا هريرة)، أي قد تعمقت في ذلك توصلا إلى أن يشهد عليه، ويدل على أنه إذا كان لم يعاين الشرب كان من شأنه أن لا يشهد. * وفي هذا الحديث كراهية الحرص على إقامة الشهادة في الحدود لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

قال: (ادرأوا الحدود بالشبهات) لأنه عورة للمسلم، ولا يحسن بأخيه المسلم أن يكون حريصًا على هتك عورة أخيه؛ ولهذا قال عمر للجارود: (أشهيد أنت أم خصيم؟) لما قال (أقم على هذا كتاب الله) ثم لما قال: (أنا شهيد)، قال: (فقد كنت أديت شهادتك). * وفي هذا الحديث من الفقه أنه يكره معاودة الإمام في الحرص على إقامة الحد، ألا ترى أن عمر قال للجارود لما عاوده: (لتملكن لسانك أو لأسوءنك)؟ * وفيه أيضًا ما يدل على حلم عمر حيث قال له الجارود: (أيشرب ابن عمك الحمر وتسوءني؟)، لأنه اقتصر على الإيعاد. * وفيه أيضًا من الدليل على أنه لما كانت شهادة أبي هريرة فيها بعض الإعواز، استفاد عمر بقول المرأة غلبة الظن على صدق ما أخبر به لأنها زوجته. * وفيه أيضًا أنه ليس لكل (57/ ب) أحد أن يستدل بآيات القرآن، وإنما ذلك لأهل العلم والفقه؛ ألا ترى أن عمر قال لقدامة: (أخطأت التأويل)؛ لما احتج عليه بقول الله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا} (فقال): (لو اتقيت لاجتنبت ما حرم الله عليك)؟ * وفيه أيضًا من الفقه أنه إذا شرب الخمر فشهد عليه بذلك شاهدان، ورفعا ذلك إلى الإمام أو نائبه الحاكم، فإن الجلد يجب عليه وإن تاب، ألا ترى أن عمر جلد قدامة بعد المدة الطويلة، بل لو تاب فيما بينه وبين الله عز وجل من قبل أن تقوم البينة لم يكن عليه حدً إلا أن يقر؟ * وفيه من الفقه أن المسلم إذا وجب عليه حد وكان مريضًا أنه لا يؤخذ منه الحد

حتى يبرأ من مرضه. * وفيه أيضًا أن استيفاء الحد يكون بسوط بين سوطين. * وفيه أن الإمام والحاكم يتعين عليه أن يشاور أهل مجلسه من أهل العلم في الحوادث التي تحدث له. * وفيه من الفقه أن الحد إذا وجب لم يجز للإمام أن يعفو عنه؛ ألا ترى إلى قول عمر: (والله لأن يلقى الله تحت السياط أحب إلي من أن ألقى الله وهو في عنقي)؟ - والدقرارة في لغة العرب على نحو الشيمة أو السخيمة في المخالفة، فكان عمر رضي الله عنه قال له لما جاءه بسوط ناقص: (أخذتك دقرارة أهلك)؛ يريد به ذلك. * وفيه أيضًا أن عمر حين استوفى من قدامة رفق به وصبر على هجره، وأعين قدامة من قبل الله عز وجل رفقًا من الله بقدامة أيضًا لما رآه عمر في منامه وقيل له: (سالم قدامة؛ فإنه أخوك)؛ ومعنى قوله: (أخوك) أي هو مؤمن، فإن الله تعالى يقول: {إنما المؤمنون إخوة}، ولذلك جره عمر إلى صلحه جرًا. وهذا قد كان مما جره حرص الجارود فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم).

- 65 - الحديث الحادي والعشرون: [عن ثعلبة بن أبي مالك أن عمر قسم مروطًا بين نساء أهل المدينة، فبقي منها (58/ أ) مرط جيد، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين أعط هذا ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي عندك، يريدون أم كلثوم بنت علي. فقال: أم سليط أحق به، فإنها ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تزفر لنا القرب يوم أحد]. * فيه من الفقه أن عمر قسم ما يصلح للنساء في النساء. * وفيه أن عمر آثر أم سليط على أم كلثوم، وما ذاك لأجل نسب أم سليط ولكن لأنها بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت تزفر القرب يوم أحد؛ وتزفر أي تحمل. - 66 - الحديث الثاني والعشرون: [عن أسلم قال: قال عمر: أما والذي نفسي بيده، لولا أن أرك آخر الناس بيانًا ليس لهم من شيء، ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر، ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها]. * فيه من الفقه أن عمر أدى اجتهاده إلى حبس أرض العراق لأجل أواخر الناس من المسلمين، وأن لا يكونوا بيانًا أي مستوين في الغنى والفقر. وهذا يدل على

أن اجتهاد الإمام إذا أدى إلى صورة تخالف ظاهر فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما لم ينص رسول الله على المنع منه، فإن ذلك جائز مع كونه اجتهادًا فيما يسوغ، وذلك فيه جائز؛ ألا تسمعه يقول: (لما تركت شبرًا إلا قسمته بين الغانمين؛ كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر)؟ - 67 - الحديث الثالث والعشرون: [عن أسلم: أن عمر كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ليلا، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر: ثكلتك أمك يا عمر، نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار، كل ذلك لا يجيب. قال عمر: فحركت بعيري حتى تقدمت أمام الناس، وخشيت أن ينزل في قرآن، فما نشبت أن سمعت صارخًا يصرخ بي، فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت (58/ أ) عليه، فقال: لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ: {إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا}]. * في هذا الحديث من الفقه جواز مراجعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرارا ثلاثًا إذا لم يجب. * وقوله: (نزرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)؛ أي أكثرت عليه في السؤال وألححت فأضجرته.

* وفيه أيضًا شدة سرور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسورة الفتح؛ وإنما سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظهور الحق وعلو الإسلام وكون الفتح، فإن الله عز وجل غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وإن الله سبحانه وتعالى ينصره نصرًا عزيزًا، وليس هذا النصر مقصورا على زمانه وحده بل هو إلى يوم القيامة، كلما نصر الله الحق الذي جاء به كان ذلك نصرا له. * وقوله عز وجل (عزيزًا) أي ينصرك في كل مأزق، فمن النصر العزيز ما من الله به يوم القادسية واليروموك، والمشاهد التي شهدها المسلمون، فلم يكن فيها انتصار من وراء جدرا ولا اعتضاد بجيش ملك من الملوك ولا غير ذلك، بل كان نصرًا عزيزًا من عند الله عز وجل. - 68 - الحديث الرابع والعشرون: [عن أسلم قال: خرجت مع عمر بن الخطاب إلى السوق، فلحقت عمر امرأة شابة، فقالت: يا أمير المؤمنين، هلك زوجي، وترك صبية صغارًا، والله ما ينضجون كراعًا، ولا لهم زرع ولا ضرع، وخشيت أن يأكلهم الضبع، وأنا ابنة خفاف بن إيماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف معها عمر ولم يمض، وقال: مرحبا بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطًا في الدار، فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاما، وجعل بينهما نفقة وثيابًا، ثم ناولها بخطامه فقال: اقتاديه، فلن يفنى هذا حتى يأتيكم الله بخير، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أكثرت لها؟ فقال عمر: ثكلتك أمك، والله إني لأرى أبا هذه (59/ أ) وأخاها، قد حاصرا حصنًا زمانًا فافتتحاه، وأصبحنا نستفيء سهمانهما فيه].

* فيه من الفقه جواز أن تكلم المرأة الشابة الإمام في حاجتها؛ إلا أني أستحب أن يكون ذلك في السوق ونحوه لا في خلوة. * وفيه أيضًا أني يفصح السائل عن حاله ونسبه؛ كما سألت هذه المرأة، وأخبرت أن أباها خفاف بن إيماء الغفاري. * وفيه أيضًا جواز أن يذكر السائل حاله على سبيل التقرير لا على سبيل الشكوى، إذ لم ينكر عليها؛ إذ لو كان ذلك شكوى لأنكره. * وفيه أيضًا استحباب لقاء السائل بانطلاق وانشراح لقول عمر: (مرحبا بنسب قريب). * وفيه أيضًا استحباب إغناء السائل في دفعة واحدة. * وفيه أيضًا اعتراف عمر بما كان لأبيها وأخيها من غنائهما في محاصرة الحصن حتى قال: (فأصبحنا نستفيء سهمانهما)، أي نتخذها فيئًا. - 69 - الحديث الخامس والعشرون: [عن أسلم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل مولى له يدعى هينًا على الحمى، فقال: يا هني اضمم جناحك عن المسلمين، واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل رب الصريمة، ورب الغنيمة، وإياي ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعا إلى نخل وزرع، وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتني ببنيه، فيقول: يا أمير المؤمنين؟ أفتاركه أنا لا أبالك؟ فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق، ويم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم، إنها لبلادهم، قاتلوا عليها في الجاهلية،

وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله، ما حميت عليهم من بلادهم شبرًا]. * في هذا الحديث من الفقه استحباب إيصاء الإمام عامله إذا أرسله على الصدقات وإيساع حواشي الوصية. * وفيه أيضًا التخويف من دعوة المظلوم، ومعنى المظلوم في (59/ ب) الصدقة أن يخاف من الاستيفاء منه. * وفيه من الفقه أن لا يتخصص بالكلأ والمرعى الغني دون الفقير لقوله: (أدخل رب الصريمة والغنمية، وإياي ونعم ابن عفان وابن عوف) يعني لا تجعلهما في ذلك سواء. * وفيه أيضًا أن الإمام ينظر الأصلح والأوفر فيتوخاه، ألا تراه يقول: (فالماء والذهب أيسر من الذهب والفضة). * وفيه أيضًا دليل على جواز أن يحمي الإمام حمى للدواب التي يحمل عليها في سبيل الله لقول عمر: (لولا الدواب التي أحمل عليها في سبيل الله ما حميت شبرًا). - 70 - الحديث السادس والعشرون: [عن عمر: أن رجلًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، يلقب حمارًا، وكان يضحك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشرب، فأتى به يومًا، فأمر به فجلد، فقال

رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه، فوالله ما علمت: إنه يحب الله ورسوله]. * في هذا الحديث من الفقه أنه قد يلقب الإنسان بلقب فيغلب عليه فيصير علمًا له، فإذا ذكر باسمه لم يعرف حتى يؤتى باللقب؛ إلا أنه يكره. * وفيه أيضًا دليل على جواز استجلاب الضحك؛ إذ لو كان ذلك حرامًا لنهاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه، ويقوي هذا الحديث الذي تقدم تفسيره في اعتزال النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه، فإن عمر استجلب ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما حدثه به. * وفيه أيضًا ما يدل على أن الإنسان بمقارفة الذنب لا يخرج من الإيمان، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ناهيًا اللاعن من أجل كثرة ما أتى حمار في شرب الخمر: (فوالله ما علمت: إنه يحب الله ورسوله). (وما) هاهنا بمعنى (الذي). - 71 - الحديث السابع والعشرون: [عن عمر قال: (قام رسول (60/ أ) الله صلى الله عليه وسلم فينا مقامًا فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغ وأدى ما أرسل به، وأوضح للناس الأمور، منذ بدأ الخلق إلى قيام الساعة ووصول الناس إلى منازلهم من الجنة والنار، وإنما دخل ذلك من قبل الحفظ والنسيان.

- 72 - الحديث الثامن والعشرون: [عن عمر قال: (كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأفاض قبل طلوع الشمس)]. * فيه من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى الجاهلية على مسيرتهم التي كانت يجعلون فيها إشراق ثبير هو المستدعي للإفاضة، وأن ذلك تعلق منهم بمخلوق يؤدي إلى شرك، وقد كان من سجود الكفار للشمس ما كان، أفاض كما أمره الله تعالى بالإفاضة قبل طلوع الشمس في وقت يخلص فيه العمل لله من شبهة وقت يكون لعباد الشمس فيه إقبال على الشمس؛ فتمحض العمل لله عز وجل. - 73 - الحديث التاسع والعشرون: [عن أبي الأسود قال: (أتيت المدينة وقد وقع بها مرض، والناس يموتون موتًا ذريعًا، فجلست إلى عمر، فمروا بجنازة، فأثنوا عليها خيرًا، فقال عمر: وجبت، قال: ومروا بأخرى فأثنوا عليها، فقال: وجبت، ثم مروا بثالثة فأثنى على صاحبها شر، فقال: وجبت. قال أبو الأسود: فقلت يا أمير المؤمنين، ما وجبت؟ قال: قلت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما مسلم شهد له أربعة نفر بخير أدخله

الله الجنة، قال: فقلنا: واثنان؟ قال: واثنان)، قال: ثم لم نسأله عن الواحد]. * في هذا الحديث من الفقه أن المسلمين إذا شهدوا بالخير، فقد بدأوا في إثبات الحق لأن المسلمين حينئذ في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا يستجيزون الثناء إلا على (60/ ب) أهل ذلك، كما لم يكونوا يستجيزون الطعن إلا على أهل ذلك. * والأربعة من الشهود هم الغاية في البينات ثم قوله: (واثنان) هي الطبعة الدنيا في البينة. - 74 - الحديث الثلاثون: [عن قيس بن أبي حازم قال: كان عطاء البدريين: (خمسة آلاف، خمسة آلاف)، وقال عمر: لأفضلنهم على من بعدهم)]. * في هذا الحديث من الفقه تفضيل أهل بدر على غيرهم. وفي تفضيلهم في العطاء مع كونهم أهل زهد في الدنيا وتفان عن الأموال معنيان: أحدهما، أنهم أهل أمن على ما يكون في أيديهم فلا يستجف لهم حصاة ولا يدخرون من فوق كفاف. والثاني، أنهم بعرضة أن يخرجوه صدقة وفي سبيل البر عن كثب فيصير بإخراجهم له فيما يخرجونه فيه مضاعفًا إن شاء الله تعالى.

- 75 - الحديث الحادي والثلاثون: [عن عمر: إن أناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، والله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة]. * في هذا الحديث من الفقه أن العمل على الظواهر، والله تعالى يتولى السرائر، فمن أظهر خيرًا فأمنه المسلم فلا جناح على الآمن، كما أن من أظهر شرًا فحذره المسلم فلا جناح على الحاذر. وكذلك يكون الآمن لو أظهر كل منهما ضد ذلك، فكانت الحال محمولة على ما أظهر دون ما أسر. - 76 - الحديث الثاني والثلاثون: [عن نافع أن عمر كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف، وفرض لابن عمر: ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرين الأولين، فلم نقصته من أربعة آلاف؟ قال: إنما هاجر به أوباه، يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه]. * في هذا الحديث ما يدل على ورع عمر رضي الله عنه (61/ أ) وشدة محاسبته

لنفسه في أمر الله عز وجل، فإنه نظر في ذلك إلى من هاجر بنفسه فإن له فضلا على من هاجر مع أبيه من حيث إنه قد كانت لهجرة أبيه مماسة أو حصة في هجرته فقد قدرها بسهم من ثمانية، فإن كان المفروض من عين فأراه أنه لما رأى إعوازه في تمام الهجرة لشيء من حاله في تقدمه قاسه بما لو أعوزه شيء من جوارحه كيد، أو رجل، أو عين فإن قيمة ذلك خمسمائة. - 77 - الحديث الثالث والثلاثون: [أن عمر أذن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها، يعني: من الحج، وبعث معهن عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان)]. * في هذا الحديث من الفقه إذن عمر لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج، وإنقاذه في صحبتهم عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وهما الصالحان الكريمان، وإن كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهات للمؤمنين كلهم. - 78 - الحديث الرابع والثلاثون: [عن صفية بنت أبي عبيد أن عبدًا من رقيق الإمارة وقع على وليدة من الخمس، فاستكرهها حتى افتضها، فجلده عمر الحد ونفاه، ولم يجلد الوليدة من أجل أنه استكرهها]. * فيه من الفقه سقوط الحد عن المستكرهة ووجوبه على المكره.

من أفراد مسلم - 79 - الحديث الأول: [عن عمر أنه رأى حلة سيراء تباع عند باب المسجد، قال: فقلت: يا رسول الله لو اشتريتها ليوم الجمعة والوفود إذا قدموا عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة) قال: فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدها حلل، فكساني حلة؛ فقلت يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت فيها ما قلت؟ قال: إني لم أكسكها لتلبسها، إنما كسوتكها لتكسوها (للنساء) أو لتبيعها)]. * في هذا الحديث نم الفقه جواز أن يعطي الإمام الثوب الحرير للرجل لا على أن يلبسه ولكن على أن ينتفع بثمنه. والسيراء: جنس من الحرير. - 80 - الحديث الثاني: [(61/ ب) عن عمر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: (نعم، إذا توضأ)].

* في هذا الحديث من الفقه أن وضوء الجنب تخفيف من حدثه، وإذا نام وقد أماط عنه الأذى كان آمنًا في تقلبه أن ينال بيده شيئًا من الأذى، ويكون في منامه متعرضًا للرؤيا في خفة الحدث. * وليكون أيضًا إن كان ممن له زوجتان فأراد أن يطأ زوجته الأخرى كان فرجه طاهرًا، فلا يلقي في فرج المرأة بنجاسة؛ إلا أن الغسل أولى، ولو اقتصر على غسل فرجه من غير وضوء جاز، ولو رقد من غير أن يمس ماء كان ذلك مباحًا

إلا أنه يفوته الأفضل والأحوط على مقتضى ما تقدم ذكرنا له من الدرجات في الغسل والوضوء. - 81 - الحديث الثالث: [عن عمر أنه قال: (أصبت أرضًا؛ لم أصب مالا أحب إلي ولا أنفس عندي منها، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن شئت (حبست أصلها) وتصدقت بها)، فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب؛ في الفقراء، وذوي القربى، والرقاب، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على وليها أن يأكل بالمعروف، غير متمول مالا، ويطعم]. * فيه من الفقه جواز إحباس الأرض، وإدرار التصدق لغلتها. * وفيه أيضًا ما يدل على فقه عمر ورغبته في إصابة رضى الله عز وجل؛ أنه لما أصاب مالا لم يصب مالا أحب إليه منه بادر إلى إخراجه في سبيل الله لينال البر الذي شرطه الله عز وجل في الإنفاق مما يحب العبد، فقال: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}. * وفيه أيضًا جواز أن يأكل والي الوقف منه إذا شرط ذلك واقفه؛ كما شرط عمر؛ ما لم يتمول، وكان أكله بالمعروف. - 82 - الحديث الرابع: (حديث الإيمان) [قال يحيى بن يعمر: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني،

فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين، أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه (62/ أ) عما يقول هؤلاء في القدر؟ فوافق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلًا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا أناس يقرؤون القرآن، ويتقفرون العلم، وذكرت من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف. قال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبًا فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم (ذات يوم) إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا)، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، قال: صدقت. قال: أخبرني عن الإحسان؟ قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك)، قال: فأخبرني عن الساعة! قال: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل). قال: فأخبرني عن أمارتها! قال: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان).

قال: ثم انطلق، فلبثت مليًا، ثم قال: يا عمر، أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم). زاد البرقاني: (62/ ب) فيه عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: التقى آدم وموسى فقال موسى: أنت آدم الذي أشقيت الناس، وأخرجتهم من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وكلامه، وأنزل عليك التوراة؟ قال: نعم. قال: فوجدته قدره لي قبل أن يخلقني؟ قال: نعم. قال: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى]. * في هذا الحديث من الفقه أن من الناس من يقرأ القرآن ويتقفر العلم إلا أنه إذا كان ذا خلل في عقيدته أو ذاهبًا في بدعة في الدين فإنه لا يصعد له عمل، وإن نفقتهم غير مقبولة، والذي منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم سواء عقائدهم؛ لأن العقائد هي الأس، ولا يرفع بناء ليس أسه على تقوى من الله ورضوان. وفي قوله: (تقوى من الله ورضوان)، دليل على أن التقوى رهن على أن تقبل فيضم إليها الرضوان. * وفيه أيضًا من الفقه أن كل قائل (إن الأمر أنف وأن لا قدر)، أي لم يسبق قدر الله وعلمه؛ فإنه ضال. * وفيه أيضًا أنه ينبغي للعالم أن يبسط السائل ويدينه ليتمكن من السؤال غير هائب ولا متقبض؛ ألا تراه يقول: (فأسند ركبتيه إلى ركبتيه). * وفيه أيضًا أن من توفيق السائل إذا سأل في ملأ أن يسأل عن مسألة تعمه وتعم الحاضرين، كما سأل جبريل فقال: ما الإسلام؟ فلما أخبره بأركانه قال:

صدقت، وقد كان ذلك من الله سبحانه وتعالى في تثبيت قلوب المسلمين حتى استنفذ المسائل وإلا فتصديقه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد سؤاله إياه دليل واضح في أنه لم يسأله عن جهل وإنما سأله ليعلم. * وفي هذا أيضًا من الفقه أن من طرق التعليم أن يسأل العالم من مسألة وهو يعرفها ليجاب عنها بمشهد غيره فيتعلم تلك المسألة من لم يعلمها. * وفيه أيضًا من الفقه أن الإيمان درجة ومقام في الإسلام، وأنه لا يوصف بالألف واللام اللتين للتعريف إلا أن يكون إيمانًا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر (63/ أ) والقدر كله خيره وشره. * وفيه أيضًا من الفقه أن الإسلام والإيمان إذا حصل لعبد اقتضيا درجة الإحسان، وهو استشعار قرب الله تعالى من عبده وأن يعبده كأنه يراه، وإن لم يقو على تلك الرتبة فليعبده، معتقدًا أن الله تعالى يراه. * وفيه أيضًا جواز أن يسأل الإنسان العالم عما يعلم أنه لا يعلمه ليرد عليه جوابًا يسكت الناس عن التعرض للسؤال عن ذلك، لقوله: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل). * وفيه أيضًا أن أشراط الساعة إذا علمها الإنسان كانت مما يزيد حذره. والذي أراه في حكمة الله عز وجل في إخفاء علم الساعة أنها مقام إنصاف لكل مظلوم، وارتجاع لكل مغصوب، وإيتاء كل ذي فضل فضله، وإيصال كل ذي حق حقه، ولقاء كل مشوق لمن يشتاقه، فهي من حيث اقتضاء وعد الله وعدله كالمخوف هجومها صباح مساء من حيث حكمة الله في خلقه، وإنها هي الواحدة القاضية ليس بعدها غيرها، وإن الخلائق محبوس أولهم ليلحق آخرهم، وإن

عظمة الله سبحانه وتعالى، وما أوسع في خلقه علمها لابد أن تكون وتوجد، فإنه لابد من كون ذلك ووجوده؛ ليتكامل الخلائق، ليجتمع الآخرون بالأولين، ويشمل الحشر من عدد الخلائق لما لا يتعرض فكر مخلوق للطمع في حصره إظهارًا لملك الله عز وجل وقوة سلطانه بحيث إن حال يوم القيامة في العظمة يكون كل لحظة منه مضاهية كل عظمة كانت في الدنيا، ويثبت من عظمة الرب سبحانه وتعالى في قلوب خلقه إذا شاهدوا يوم القيامة، ورأوا إحياء الموتى والتقاء الأولين والآخرين، وأحيي كل عظم رفات، وكل دابة، وكل ذي جناح، وأخبر الله عز وجل كل واحد من خلقه بكل حركة تحركها وسكنة سكنها (63/ ب) في مدة حياته، وأنه سبحانه وتعالى لم يعزب عن علمه مثقال ذرة، ولا عن قدرته صغيرة ولا كبيرة، وقامت سوق الحق وجيء بالنبيين والشهداء وأشرقت الأرض بنور ربها، ورأى المؤمنون انتصار حزب الحق يومئذ، وبان صدق ما آمنوا به في دنياهم وخسر هنالك الكافرون، وخزي المبطلون، وفاز المتقون فذلك يقتضي زيادة التوقع. وأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - قد انتهى إليهم الأمر واستتب الشرع ولم يبق إلا العمل به، ولقد كان من أحسن ما حافظت به القلوب على عبادة الله تعالى، وأن لا يطول عليها الانتظار إخفاء وقت علم الساعة، فكل وقت لا يؤمن أن تقوم فيه الساعة، وكل زمان بين يديها فقد أعطيناه للعمل، ولذلك قال الله تعالى: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها، والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد}، وأي يوم يوم القيامة؟ * وقوله: (أن تلد الأمة ربتها) يعني بها أن يكثر في الملوك التسري لكثرة الفتوح. * وقوله: (أن ترى الحفاة العراة يتطاولون في البنيان) فالمعنى أن الدنيا تفتح عليهم، وهذا من أمارات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث أخبر بفتح الدنيا على أمته؛

وصدق - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبرنا به من ظهور العرب وملكهم. * وأما حديث موسى وآدم فله موضع سيأتي إن شاء الله تعالى. [أي في الأجزاء القادمة من كتاب (الإفصاح)]. - 83 - الحديث الخامس: [عن عمر قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءه)، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا ابن الخطاب، اذهب فناد في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون). قال: فخرجت (64/ أ) فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون]. * في هذا الحديث من الفقه أن الغلول يجانب الإيمان، ويكذب دعوى من يدعي أن الإيمان يكون مع الغلول لأن الغال يكون خائنًا خيانة لم يجاهر فيها سوى الله عز وجل، فلو كان مؤمنًا به لم يكن ليخفي من الناس ما يجاهر الله عز وجل به، فاستدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن من يخرج إلى الجهاد في سبيل الله مخاطر بنفسه معرضًا لها للشهادة ثم يغل شمله أو غير شملة فإن غلوله ذلك مكذب لما ادعاه من إيمانه؛ ولذلك قال: (إني رأيته في النار في بردة غلها)، ولذلك أمر عمر فنادى: (إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون). - 84 - الحديث السادس: [عن سماك عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان

يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه يقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام، لا تعبد في الأرض؟! فما زال يهتف بربه مادًا يديه، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه فأخذ من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين}، فأمده الله بالملائكة. قال سماك: فحدثني ابن عباس فقال: (بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، إذ نظر إلى المشرك أمامه خر مستلقيًا، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق (64/ ب) وجهه؛ كضربة السوط، فاخضر ذلك اجمع، فجاء الأنصاري، فحدث بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة، فقتلوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين). قال ابن عباس: (فلما أسروا الأسارى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر: ما تريان في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنا، فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل، وتمكني من فلان- نسيبًا

لعمر- فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها؛ فهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت. فلما كان من الغد جئت، فإذا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر قاعدين يبكيان، فقلت يا رسول الله، أخبرني: من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبائكما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة- لشجرة قريبة من نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله سبحانه: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} .. إلى قوله: {فكلوا مما غنمتم حلالا}، فأحل الله الغنيمة لهم]. * في هذا الحديث من الفقه أن آداب الدعاء استقبال القبلة ورفع اليدين في الدعاء. * فأما قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (اللهم أنجز لي ما وعدتني) قال ابن جرير الطبري، معناه أنه وعده بوعد غير محين في وقت معلوم، فطلب من الله تعالى أن ينجز له الوعد في هذا المقام (65/ أ). قال ابن هبيرة الوزير: ولا أرى الجواب ما ذكره؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبق الوحي إليه بأنه المنصور في غزوة بدر بقوله تعالى: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم}. (وإذ) هي اسم معلق بالماضي من الزمان؛ وقول الله

تعالى لرسوله: {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين * وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله}، وهذا كله بصريح نطقه يدل على أنه كان نزوله قبل وقعة بدر، فكيف يظن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يرتاب أو يشك فيما وعده الله به من النصر يوم بدر بعد نزول هذه الآية، وقد بعث معه نجدة هي خمسة آلاف ملك، وواحد منهم بأمر الله يكفي جيوش الأرض كلها، فلم يدع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما دعا إلا وهو على يقين من أنه هو المنصور في ذلك اليوم؛ وإنما كان دعاؤه عليه الصلاة والسلام لفائدة سنذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى. [أي فيما يلي أدناه بهذه الصفحة]. وأما حكمة الله عز وجل في عدد الملائكة؛ مع كونه سبحانه قد كان قادرًا على أن يهزم المشركين بكلمته التامة، وهي قوله: (كن)، لكن في ذلك من الحكمة إشهاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نفسه، وتوكيده الحجة على قوله إن معه خمسة آلاف ملك حتى رهن في النفوس وأثبت في القلوب كلها أنه إن غلب- ومعاذ الله- في هذه المرة فليس بنبي ولا يكون له بعد ذلك كلمة أبدًا، وذلك كله من قبل الوقعة. * وفيه منه على الملائكة بتشريفهم بالجهاد يوم بدر. * وأما ما دعا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله: (أنجز لي ما وعدتني) ففي الحديث أنه كان يهتف (65/ ب) بربه، ومعنى يهتف: يدعو دعاء رافعًا به صوته؛ وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يجدد ذكر أن وعده الله بحيث يسمع المسلمين فيكونون شهودًا له؛ بأنه قال لله عز وجل: (أنجز لي ما وعدتني)؛ فيكون تصديقًا لما أخبرهم به من وعد الله عز وجل بالنصر، حتى إذا نصره الله عز وجل ثبت عنده الكل أنه هو الذي وعده أولا، وهو الذي أنجز له الموعد الأول ثانيًا، فيكون على شبيه

الكتاب إذا ثبت من ديوان الحكم ثم سجل به. * فأما قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن تهلك هذه العصابة، لا تعبد في الأرض؟!)، فإنه بلغني عن علي بن عقيل كلام خفت عليه منه، وخفت من الله عز وجل أن لا أبين فساد قوله فيه، وهو أنه قال كلامًا انتهى فيه إلى أن قال: (هذه زلة من عالم)، فنظرت فإذا علي بن عقيل المسكين هو العالم الزال، قد زل لكونه لم يفهم المقصود وكان كما قال الشاعر: وكم من عائب قولا صحيحا .... وآفته: من الفهم السقيم وإنما أتي من كونه لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزارة العلم ومعرفته باللسان العربي بحيث كان، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أنا أفصح العرب)، وذلك أن (إن الخفيفة) تأتي في كلام العرب بمعنى (ما) النافية، كقوله عز وجل: {إن يريدون إلا فرارا} ومعناه: ما يريدون. وقوله: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} أي ما من أمة إلا خلا فيها نذير، واستعمال (إن) بمعنى (ما) في كلام العرب لا يحصى كثرته إلا الله تعالى. ومعناه عندي- والله أعلم- أن قوله (إن تهلك هذه العصابة) معناه: ما تهلك هذه العصابة؛ لأنه قد علم بوعود الله تعالى أن النصر له، وأنهم هم الغالبون، وأن إحدى الطائفتين لهم، ولم يبق في قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شك أنه هو الغالب في ذلك اليوم، فكيف يقول: (إن تهلك هذه العصابة)، ويعني في هذا اليوم؟ وإنما معناه: ما تهلك هذه العصابة (66/ أ) في هذا اليوم، وإنما استعمل في هذا

الموضع (إن) مكان (ما) لئلا يصرح بذكر (ما) فيسمعها المسلمون كلهم فيعرفون في ذلك اليوم أن النصر لهم؛ فلا يبقى في قلب أحد منهم خوف للموت فينقص من أجورهم، ولا تكون شهادته كاملة لو استشهد، فاستعمل (إن) في مكان (ما) ليعرفها أولو الألباب منهم. * وقوله: (لا تعبد في الأرض؟!) على معنى الاستفهام الواقع في باب التعجب، ولا تكون الدال ساكنة، ونبين هذا بضر مثال، وهو أن نرى ما لا يعرف وأحق الناس به جالس فنقول: لا نعطي هذا المستحق من هذا شيئًا، وهذا لأن الكفر كان قد شمل الأرض ولم يكن فيها من يعبد الله غير تلك العصابة، فمعنى قوله: (إن تهلك هذه العصابة): أي ما تهلك هذه العصابة؛ ألا تعبد في أرضك؟! وقد قال ابن جرير في هذا: إن معناه أن هلاك تلك العصابة بطؤ للدين لأنه أعلم أن هلاكهم بطؤ له. * وفي هذا الحديث من الفقه أن الصاحب إذا رأى مصحوبه مشغولا بالدعاء، وقد سقط رداؤه أن يرد رداءه عليه، وعلى أن الرداء من شيمة العرب لبسه، وهو ثوب مطروح فوق المقيص غير متصل بالثياب، ولا أرى العرب اتخذته إلا عدة لإجابة منادي الجود عند مشاهدة البائس والفقير بسرعة، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألقى رداءه على كعب بن زهير، وأرسل إزاره إلى ابنته فقال (لنسوة): (أشعرنها إياه)، وألقى رداءه لجرير بن عبد الله ليجلس عليه؛ ومن عادة

العرب إلقاء الرداء بسرعة، كما قال الشاعر: ولم أدر من ألقى عليه رداءه .... سوى أنه قد نيل عن ماجد محض وهذا لأن جزيرة العرب تعز فيها الكسوة فيقع ذلك في وقته موقعًا يعرف به الجود. * وفي هذا الحديث من الفقه أن أبا بكر رضي الله عنه فهم ما ناشد به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربه بقوله: (يا نبي الله (66/ ب) كفاك مناشدتك ربك) مشيرًا إلى سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إبداله (إن) مكان (ما) في قوله: (إن تهلك هذه العصابة)، وإشارته إلى قوله: (لا تعبد في الأرض؟!)، معناه الأنفة ممن لا يريد أن يعبد الله في الأرض من المشركين. وقوله (كذاك): (ذاك) لا يستعمل إلا للغائب غيبة يسيرة؛ لأن الحاضر يقال له: (ذا)، والبعيد أو الغائب أو من تقدم ذكره يقال له (ذلك) باللام، والغائب غيبة يسيرة يقال له (ذاك)، فقوله: (كفاك مناشدتك ربك)، ثم قال له: (فإنه سينجز لك ما وعدك)، وربما ظن من لا علم له بلسان العرب أن هذا القول من أبي بكر كالإنكار لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وليس كذلك، وإنما معناه ما تقدم من الإشارة إلى سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وفي هذا الحديث نزول الملائكة، وأنهم قاتلوا مع المسلمين، وأن ضربة أحدهم أثرت في وجه المضروب حتى اخضر، وإنما أراد الله سبحانه ببقاء أثر ضربة هذا الملك أن يعلم أن الباقين وإن لم تكن قد ظهرت آثار ضرباتهم، فإنهم ضربوا فوق الأعناق، وضربوا كل بنان.

* وقوله: (إنه من مدد السماء الثالثة)، إنما كان ذلك لأن القوم أمدوا بالملائكة من جميع السموات، وكأن الملائكة تشاحوا في النصرة لهم، فأنزل الله من كل سماء ملائكة، فكان ذلك الملك من السماء الثالثة. * وفيه من الفقه شدة عمر في ذات الله تعالى، وأنه كان رأى أن قتل أئمة الكفر وصناديدهم في أول الأمر أحزم، وبقوة الإيمان أعلن، فإن وضع السيف ورفع الصوت من القليل في الجم الكثير مشعر أن القليل واثق وغير جانح إلى السلم، ولا مبال بما يكون من قتله الأعداء. وما رآه أبو بكر رضي الله عنه من الفداء فهو الذي أدى إليه حينئذ احتقاده لا رفقًا بالكفار ولا إشفاقًا عليهم وإنما رأى أن قوة (67/ أ) الإسلام بأخذ ما يؤخذ من أموالهم، وأنه لا يفوت قتل من لا يؤمن منهم بعد أخذ ماله، فكان كل من القولين خارجًا مخرجه، فنزل القرآن بالإشارة في إهلاك المشركين مع إمضاء ما جرى ليعمل بالقولين في إمضاء رأي أبي بكر وتصويب رأي عمر. * وفيه أيضًا أن المنعم عليه إذا سر فاعترض له في وقت مسرته بعض ما ينافي السرور لم يملك عينه، فإن أرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر كان متابعة لإصابة رضى الله عز وجل في كل ذلك، فلما كان من الأمر في قبول الفداء ما كان، ثم إن الله عز وجل أمضاه فلم يكن الرجوع عنه إلى القتل، فكان البكاء كيف لم يسبق القتل. * وفيه أيضًا أن البكاء قد يهيج البكاء، وأن التباكي جائز أيضًا من مثل عمر وكل مخلص، فإنه إنما يبكي بالإخلاص لله وإن تباكى، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما أشاء أن أبكي إلا بكيت). * وفي الحديث ذكر الهوى، والهوى إذا ذكر مطلقا من غير تقييد كره ذكره، وأما إذا قيد؛ كقوله في هذا الحديث: (فهوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال)؛ جاز، لأنه لو قال: (فهوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ولم يقل ما قال كان مكروهًا، لن ابن عباس لما قال له رجل: (الحمد لله أن وافق هوانا هواكم)، قال ابن عباس: (هذه

الأهواء لا تأتي بشيء من الخير). * وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة) يعني قرب، فلولا أن اله تعالى أمضى ما رأوه من أخذ الفداء لوقع العذاب بهم لكنه لم يصبهم لإمضاء الله تعالى ما رأوه. * وقوله عز وجل: {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبًا} (وذكل) صير المتناول من الفداء طيبًا. * وفي هذا الحديث ما يدل على أن الرحمة للمخلوق من المخلوق في وقت اقتضاء الجرم (67/ ب) الغلظة في الله عز وجل مخاطرة مع الله سبحانه، وإن كانت الرحمة مندوبًا إليها إلا في ذلك المقام؛ كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المتبخترين بين الصفين: (إنها لمشية يبغضها الله تعالى إلا في هذا الموضع). - 85 - الحديث السابع: [عن عمر قال: كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبعث عليًا والزبير في أثر الكتاب فأدركا المرأة على بعير، فاستخرجاه من قرونها، فأتيا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل إلى حاطب، فقال: يا حاطب، أنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: نعم يا رسول الله. قال: فما حملك على ذلك؟ قال: يا رسول الله، أما والله إني لناصح لله ولرسوله، ولكني كنت غريبا في أهل مكة، وكان أهلي بين ظهرانيهم، وخشيت عليهم، فكتب كتابا لا يضر الله ورسوله شيئًا، وعسى أن يكون منفعة لأهلي، قال عمر: فاخترطت سيفي ثم قلت يا رسول الله، أمكني من حاطب- فإنه قد كفر- فأضرب عنقه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا بن الخطاب،

ما يدريك؟ لعل الله قد اطلع على هذه العصابة من أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم]. * في هذا الحديث من الفقه أن العبد الصالح الولي لله عز وجل المشهود له بالجنة قد يقارف الذنب ولا يخرجه ذلك من إيمانه، وأن المستحب أن يرفق به ليفيء إلى الحق، وأن عمر لما اخترط سيفه لقتل حاطب قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا بن الخطاب، وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر ....)؛ وماذا كان يكون بين أهل بدر وغيرهم لو أنهم كانوا إذا قارفوا ذنبًا لم يغفر لهم عنه، وإنما شرفهم تبين في ذلك؟ * وفيه أن المؤمن يستحب له إذا أخطأ واستبان له الخطأ، أن لا يتبع خطأه بأن يجحده ويناكر عليه بل يعترف بذلك، ولا يجمع بين معصيتين: في الخطأ (68/ أ) والجحد، كما أن يتعين على كل مخطئ إذا تيقن خطأه في شيء أن يقلع عنه حالة تيقنه ذلك، فإن الله عز وجل يغفر له خطأه إذا رجع إلى الصواب إن شاء الله تعالى. * وفيه من الفقه جواز التشدد في استخراج الحق؛ فإن عليا والزبير قالا لها: (لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب)، ولعمر الله ما كانت تجرد إلا وتبدو عورتها، إلا أنه لما كان المهم من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتوصل إلى المأمور به إلا بكشف عورتها قالا ذلك؛ فلما رأت هي الجد منها أخرجت الكتاب من عقاصها.

- 86 - الحديث الثامن: [عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من نام عن حزبه من الليل، أو عن شيء منه، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل)]. * في هذا الحديث من الفقه أن ما بين الفجر والظهر يعطى حكم الليل، من أجل أن العرب تقول من بعد الصبح إلى الظهر: أين كنت ... الليلة؟ ويقولون: فعلنا الليلة، فإذا زالت الشمس قالوا: أين كنت البارحة؟ وقد بنى على هذا أبو حنيفة فقال: إذا نوى صوم الفرض قبل الزواج صح صومه، كأنه نوى في آخر الليل. وقوله: (من نام عن حزبه من الليل)، من لطف الله بعبده أنه إذا استمر في الأمور في الغالب فبدر منه ما يخالف تلك الحال الغالبة عليه سومح؛ فإن الله تعالى قد فسح لهذا النائم في الاستدراك ولم ينقصه من ميزان أجر ذلك الوقت الشريف شيئًا. * وفيه من الفقه الحض على قضاء الفوائت من النوافل على سبيل التدارك؛ لئلا يعتاد إسقاط النوافل عند فواتها؛ فإن استدامة العمل عمل فوق العمل. - 87 - الحديث التاسع: [عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لأخرجن اليهود والنصارى من

جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما)]. * في هذا الحديث من الفقه أن إجلاء اليهود ما قد تقدم ذكره، إلا أنه الحجة لما فعله عمر من إجلائهم في الحديث المتقدم الذي فيه فدع يد عبد الله بن عمر. وإنما خص جزيرة العرب دون ما في الأرض؛ لأن بيت الله عز وجل يقصد من سائر الأرض فيها، وفيها المسجدان: المسجد الحرام، ومسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيها قبره - صلى الله عليه وسلم - وفيها الحجاج والمعتمرون، وقد لا يؤمن على فرطهم وشذاذهم قلة أمانة أهل الكتاب، وعلى هذا وضع الغيار؛ لئلا يغتر المسلم بواحد منهم فيظنه مسلمًا فيصحب اثنين منهم في طريق فلا يأمن أن يحدث به حدث سوء. - 88 - الحديث العاشر: [عن عمر: أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ارجع فأحسن وضوءك)، قال: فرجع فتوضأ ثم صلى]. * في هذا الحديث من الفقه الحث على إسباغ الضوء، ويحتج به في وجوب الموالاة في الوضوء، وأن لا يفرق فيه بين عضو وعضو حتى يجف الأول، لأنه قد قال: (فرجع فتوضأ)، وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بإعادة الوضوء ولكنه أمره بإحسانه إلا أنه فهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - الإعادة.

- 89 - الحديث الحادي عشر: [عن جابر أن عمر قال في الضب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرمه، وإن عمر قال: إن الله ينفع به غير واحد، وإنما طعام عامة الرعاء منه، ولو كان عندي طعمته. وفي رواية أبي سعيد الخدري: أن عمر قال: إنما عافه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]. * فيه من الفقه أن أكل الضب ليس بحرام. * وفيه أن النفوس الشريفة قد تعاف بعض ما يتناوله غيرها، وأن ذلك لا ينسب إلى ترف ولا إلى كبر. * وفيه أيضًا من الفقه أن الرجل إذا عافت نفسه شيئًا استحب له أن لا يأكله، لقوله عليه السلام في حديث آخر: (أجدني (69/ أ) أعافه) فجعل علة الامتناع أنه يعافه.

- 90 - الحديث الثاني عشر: [قال أبو نضرة: كان ابن عباس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها، قال: فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله فقال: على يدي دار الحديث: تمتعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قام عمر قال: إن الله تعالى يحل لرسوله ما شاء بما شاء، وإن القرآن قد نزل منازله، فأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم الله، وأبتوا نكاح هذه النساء، فلن أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة. وفي رواية: أن عمر قال فيه: فافصلوا حجكم من عمرتكم، فإنه أتم لحجكم، وأتم لعمرتكم]. * في هذا الحديث دليل على تحريم المتعة، وأن ما رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه منها منسوخ بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا وقع الإجماع إلا من الشيعة؛ ولا أرى الاعتداد بخلافهم. - 91 - الحديث الثالث عشر: [عن أنس قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة، فتراءينا الهلال، وكنت رجلا حديد البصر، فرأيته، وليس أحد يزعم أنه يراه غيري، فجلت أقول

لعمر: أما تراه؟ فجعل لا يراه. قال: يقول عمر: سأراه وأنا مستلق على فراشي، ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس؛ يقول: (هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان إن شاء الله؛ قال عمر: فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا الحدود التي حدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فجعلوا في بئر بعضهم على بعض، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهى إليهم فقال: (يا فلان بن فلان، يا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقًا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا)، فقال عمر: يا رسول الله، كيف تكلم أجسادًا لا أرواح فيها؟ فقال: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئًا)]. * فيه من الفقه أن الهلال إذا رآه واحد (69/ ب) كفى في أول الشهر إذا كان عدلا؛ ألا ترى إلى عمر رضي الله عنه لما كرر له القول أن انظر قال: إني سأراه وأنا مستلق على فراشي. * وفيه أيضًا جواز اتخاذ الفراش. * وفيه دليل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لإخباره بمصارع المشركين الذين قتلوا في يوم بدر من قبل ذلك، وعلمه بمصر كل واحد وبقعته من الأرض. وهذا مما يدل أيضًا على ما ذهبت إليه في تأويل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنجز لي ما وعدتني). وقوله: (إن تهلك هذه العصابة .. لا تعبد في الأرض؟!). * وفيه من الفقه أن الموتى يسمعون كلام الأحياء؛ ولكن لا يقدرون على الإجابة.

- 92 - الحديث الرابع عشر: [عن النعمان بن بشير قال: ذكر عمر ما أصاب الناس من الدنيا. فقال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي، ما يجد دقلا يملأ به بطنه]. * فيه من الفقه ما يستدل به على شدة عيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه أيضًا جواز ملء البطن من الطعام. * وفيه أيضًا ما يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يمتنع من ذلك إلا إعوازًا ولم يكن يقصد التجوع. - 93 - الحديث الخامس عشر: [عن أبي الطفيل أن نافع بن الحرث لقى عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، فقال: ومن ابن أبزى؟ فقال: مولى من موالينا، فقال: استخلفت عليهم مولى؟ فقال: إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، فقال عمر: أما إن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - قد قال: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين].

* فيه من الفقه جواز أن يولى المولى على الأحرار إذا كان ممن قرأ القرآن وعرف الفرائض. * وفيه من الفقه أن القرآن كما يرفع الله عز وجل بحفظه والعمل به أقوامًا فكذلك يخفض به آخرين أضاعوه ولم يعملوا به بما أمروا به فيه. - 94 - الحديث السادس عشر: [عن عقبة بن عامر الجهني قال: كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي أرعاها، فروحتها بعشي، فأدركت رسول الله (70/ أ) - صلى الله عليه وسلم - قائما يحدث الناس، وأدركت من قوله: (ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنة)؛ فقلت: ما أجود هذا؟ فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: إني رأيتك فجئت آنفًا؛ قال: ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ الوضوء (أو فيسبغ الوضوء) ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيهما شاء)]. * في هذا الحديث من الفقه: إسباغ الوضوء، والكمال فيه ثلاث مرار في كل عضو ما عدا الرأس فإن فيه الخلاف. والإسباغ في اللغة: أن يشتمل العضو الغسل ويستوعبه، والثوب السابغ: الفاضل عن مقدار طول صاحبه. وقوله: {وأسبغ عليكم نعمه} أي عمكم بها.

* وفيه أيضًا من الفقه أن الصلاة التي يقبل عليها العبد بوجهه وقلبه إذا صح له منها ركعتان فصاعدًا وجبت له الجنة، وإنما يوفق لذلك من لا يؤدي شيئًا من أركان الصلاة إلا وهو مفكر فيما يقوله منه، إذ ليس جزء من أجزاء الصلاة إلا وقد عين له ذكر من الأذكار بحسبه؛ حتى إنه إذا خر ساجدًا فيستحب له أن يمد الألف من اسم الله، ليكون بمقدار زمن هويه حتى يكون عند الأرض فيقول: (أكبر)، فيأخذ في التسبيح؛ لئلا يخلو جزء من أجزائه صلاته من ذكر يشغله به. وينبغي للمسلم أن يكرر اعتماد هذا على نفسه، وإن غفل في بعض صلاته عاد إلى التفهم بقي، فإنه إذا فكر في نفسه ومثل روحه كأنه يشاهد صورة قلبه وهو بين يدي الله عز وجل، وهو يرى صورة قلبه يلتفت يمينًا وشمالا بين يدي الله عز وجل استحيى وخجل من ذلك؛ لاسيما وقلبه إلى أشياء غير لازمة ولا مهمة، وقد يكون منها أشياء يقبح أن تخطر بقلب المؤمن في (70/ ب) ذلك المقام، وعلى هذا فإن رحمة الله سبحانه اتسعت في الاحتساب لعبده بالصلاة التي هي صورة الصلاة. وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إني لأجهز الجيش وأنا في الصلاة، فمن وفقه الله للطبقة العليا دائمًا فناهيك به، وإلا فليجتهد في أن تخلص له الفرائض على ذلك الوجه، فإن لم ينل ذلك فلا أقل من أن لا ينزل عن مقدار الركعتين اللتين قدرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوجب عليهما الجنة، ومع ذلك فالفقهاء مجمعون على أن من خطر في قلبه وهو يصلي في فرض أو نفل خاطر من أمور الدنيا: المعاش أو غيره؛ فإن صلاته مجزئة عنه. * وفيه من الفقه: أن الاستحباب للعبد أنه كلما جدد وضوءًا لصلاته فكذلك يجدد الشهادتين لله عز وجل بأنه: لا إله إلا هو؛ ولرسوله لصدقه في رسالته؛ احترازًا من غفلة قد كانت طرقت عليه أمرًا، أو شكًا أو ريبة أو غير ذلك مما يبطل

الصلاة. فإذا جدد الشهادة كان مجددًا لإسلامه قبل دخوله في الصلاة، فتصح صلاته ظاهرًا وباطنًا بيقين. * وفيه من الفقه أن أبواب الجنة ثمانية يدخل من أيها شاء؛ أي أن كل باب منها له أهل، فإن باب الصدقة يدخل منه المتصدقون، وباب الجهاد يدخل منه المجاهدون، والريان يدخل من الصائمون؛ فبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تلك الأعمال فرو على هذا الأصل من إقامة الشهادتين؛ فإذا أتى بهما كان مخيرًا في الفروع من أي أبواب الجنة شاء أن يدخل؛ من باب الصدقة أو من باب الجهاد أو غير ذلك. - 59 - الحديث السابع عشر: [عن يعلي بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب {ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فقد أمن الناس! فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم (71/ أ) عن ذلك فقال: (صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته)]. * في هذا الحديث من الفقه أن القصر في الصلاة في السفر عزيمة وليس برخصة؛ لأنه قال: (صدقة تصدق الله بها) فلا ينبغي أن ترد صدقة الله عليه، وللفقهاء في ذلك خلاف. - 96 - الحديث الثامن عشر: [عن جبير بن نفير قال: خرجت مع شرحبيل إلى قرية، على رأس

سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلا، فصلى ركعتين، فقلت له، فقال: رأيت عمر بن الخطاب يصل بذي الحليفة ركعتين، فقلت له. فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل]. * في هذا الحديث من الفقه ما يؤكد ما مضى من قصر الصلاة في السفر، وأنه الثابت من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه- رضي الله عنهم- بعده. - 97 - الحديث التاسع عشر: [عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قال المؤذن: (الله أكبر، الله أكبر). فقال أحدكم: (الله أكبر، الله أكبر)؛ قم قال: (أشهد أن لا إله إلا الله)، فقال: (أشهد أن لا إله إلا الله)؛ ثم قال: (أشهد أن محمدًا رسول الله)، قال: (أشهد أن محمدًا رسول الله)؛ ثم قال: (حي على الصلاة)، قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله)؛ ثم قال: (حي على الفلاح)، قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله)؛ ثم قال: (الله أكبر الله أكبر)، قال: (الله أكبر الله أكبر)؛ ثم قال: (لا إله إلا الله)، قال: (لا إله إلا الله) من قبله، دخل الجنة)]. * في هذا الحديث من الفقه: الحض على تكرار لفظ الشهادة والتهليل؛ فإن المؤذن إذا قل معلنًا به فإن من مقاصده فيه إعلام الناس بدخول وقت الصلاة

وليتأهبوا لها. * وفيه أيضا تذكيرهم بما عساهم أن يكونوا غفلوا عنه من الشهادتين. * وفيه أيضًا الإشعار بأن أمر الله تعالى قد أمكن إعلامه وإظهاره من غير خوف ولا مبالاة بأحمد بحمد الله ومنه، فإذا قال من يسمع المؤذن مثل ما يقول فقد شاركه في الثواب بحسب قصده، فإذا قال: حي على الصلاة، حي على الفلاح لم يحسن من غير (71/ ب) المؤذن أن يرفع صوته كما يعمل المؤذن؛ لأنه هو المدعو، فإذا قال مثل قوله فمن يدعو؟ لأن المراد أن يجيب الداعي فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، أي: إني مجيب لهذا الدعاء الكريم والنداء الشريف إلى عبادة ربي، ولا حول لي في ذلك ولا قوة إلا بتوفيق ربي سبحانه وتعالى؛ احترازًا من نوابض العجب وخطرات الجهل، وأن يكون في ذلك كله يفهم قلبه ما ينطق به لسانه فيدخل الجنة كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويكفي منها أن لا يكون قلبه مخالفًا للسانه أو غافلًا عما ينطق به، فلله الحمد على ما أنعم به على عباده المسلمين. - 98 - الحديث العشرون: [عن عمر قال: قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسمًا، فقلت: يا رسول الله، والله لغير هؤلاء كان أحق به منهم، قال: (إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني، فلست بباخل)]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقى عرضه بعطائه خوفًا من أن يكذب عليه؛ لأنه قال: (أو يبخلوني، ولست بباخل).

* وفي هذا الحديث إباحة أن يقي الرجل عرضه ممن يستجيز أن يكذب عليه بماله، فإن الله تعالى يكتبه له صدقة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما وقى به المرء عرضه فهو له صدقة). وقوله: (خيروني بين أن يسألوني بالفحش- يعني الفحش من القول- أو يبخلوني)، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس ببخيل. - 99 - الحديث الحادي والعشرون: [عن أسير بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب، إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن، سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم؛ قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم؛ قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ فقال: نعم؛ قال: لك والدة؟ قال: نعم. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي عليكم أويس (72/ أ) بن عامر مع أمداد أهل اليمن، من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)، فاستغفر لي، فاستغفر له. فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي، قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم، فوافق عمر، فسأله عن أويس؟ قال: تركته رث البيت قليل المتاع، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد من أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه، إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل) فأتى أويسًا فقال: استغفر لي، فقال: أنت أحدث عهدًا بسفر صالح، فاستغفر لي؛ قال: أتيت عمر؟ قال: نعم. فاستغفر له، ففطن الناس له، فانطلق على وجهه؛ قال أسير: وكسوته بردة.

فكان كلما رآه إنسان قال: من أين لك هذه البردة؟]. * في هذا الحديث دليل على بركة الصالحين، وأن العبد المؤمن قد يبلغ إلى أن يتبرك به عمر، ويسأله الاستغفار، فيكون من فقه هذا أن يتبع الأخيار وإن كانوا في الأطمار الرثة، وأن يتطلبوا وإن كانوا لا ذكر لهم في المحافل رجاء بركتهم. * وفيه أيضًا أن أويسًا على كرم حاله أصابه البرص، وأن ذلك مما أصابه الله به ووفقه أن يسأل الله تعالى إبراءه منه، وأنه أبرأه منه إلا موضع درهم منه، يذكر به نعمته عليه، إذ من عادة الآدمي نسيان النعم إلا من وفقه الله. * وفيه أيضًا ما يدل على أن من جملة وسائل أويس بره بوالدته، وأنها كانت من (72/ ب) العلامات التي عرفه بها عمر. * وفيه أيضًا أن أويسًا لما استغفر لعمر خلى سبيله وتركه وشأنه، ولعله قد آنس منه علمًا يكفيه في معاملته ربه. * وفيه أيضًا من الفقه أنه كان يسأل عنه بعد ذلك من يأتي من العراق تعرفًا لخبره، وتعهدًا لأحواله لأنه كان صديقًا له في الله عز وجل؛ إذ مرادهما واحد ومطلوبهما سواء. * وفيه أيضًا من الفقه جواز حب الخمول لمن يصلح في ذلك لأنه لما انتشر خبره بالكوفة خرج عنها إلى حيث لا يعرف. * وفيه أيضًا أنه بلغ به الزهد إلى الحال التي استنكر عليه فيها وجود بردة لبسها؛ ومع ذلك كله فلا خلاف أن عمر أفضل منه ومن أمثاله، ولكن هذه الطريقة من

المرابطة على عبادة الله باب من أبواب العبادات، وقد كان أويس رحمه الله أصلا فيها، فكم ممن اقتدى به في زمانه وبعد موته رحمه الله، ورضي عنه، وهذا إنما يباح لمن عرف من العلم قدر ما فرض الله سبحانه عليه.

مسند عثمان بن عفان رضي الله عنه

3 مسند عثمان بن عفان رضي الله عنه المخرج له في الصحيحين: ستة عشر حديثًا. المتفق عليه منها: ثلاثة. انفراد البخاري بثمانية، ومسلم بخمسة. - 100 - الحديث الأول: (من المتفق عليه) [عن زيد بن خالد الجهني: أنه سأل عثمان بن عفان فقال: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته ولم يمن؟ فقال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره. قال عثمان: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

زاد في رواية البخاري قال: فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب والزبير، وطلحة بن عبيد الله، وأبي بن كعب، فأمروه بذلك]. * هذا الحديث منسوخ بالحديث الآخر عن عائشة: إذا التقى الختانان وجب الغسل، وتقول عائشة فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واغتسلنا، والإجماع منعقد على أن هذا الحديث منسوخ بذلك. - 101 - الحديث الثاني: عن (74/ أ) عطاء: أن عثمان دعاء بإناء، فأخرج على كفيه ثلاث مرات، فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض، واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرات، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: (من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه). وفي رواية عروة: (أن عثمان قال لما توضأ: والله لأحدثنكم حديثًا لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه؛ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا يتوضأ رجل

فيحسن وضوءه، ثم يصلي الصلاة، إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها). وفي رواية معاذ بن عبد الرحمن: أن عثمان توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: (من توضأ نحو هذا الوضوء، ثم أتى المسجد فركع ركعتين ثم جلس، غفر له ما تقدم من ذنبه). وعند مسلم في هذه الرواية: أن عثمان قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس أو مع الجماعة أو في المسجد، غفر الله له ذنوبه). وفي رواية ابن المنكدر: أن عثمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره). وفي رواية زيد بن أسلم: أن عثمان توضأ ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مثل وضوئي هذا، ثم قال: (من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه، وكانت صالته ومشيته إلى المسجد نافلة). (74/ ب) وفي رواية بكير: أن عثمان توضأ يومًا وضوءًا حسنًا ثم

قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: (من توضأ هكذا ثم خرج إلى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة إلا غفر له ما كان من ذنبه). وفي رواية جامع بن شداد عن حمران؛ قال: كنت أضع لعثمان طهوره، فما أتى عليه يوم إلا وهو يفيض عليه فيه نطفة- يعني ماء- قال: وقال عثمان: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند انصرافنا من صلاتنا- أراه قال: العصر- فقال: (ما أدري، أحدثكم أو أسكت؟ قال: فقلنا يا رسول الله، إن كان خيرًا فحدثناه، وإن كان غير لك فالله ورسوله أعلم، قال: ما من مسلم يتطهر فيتم الطهارة التي كتب الله عليه، فيصلي هذه الصلوات الخمس، إلا كانت كفارات لما بينها). وفي أفراد مسلم عن مالك بن أبي عامر الأصبحي عن عثمان أنه قال: (ألا أريكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فتوضأ ثلاثًا ثلاثًا). زاد البرقاني في روايته عن عثمان قال: أليس هكذا رأيتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فقالوا: نعم. وفي أفراد مسلم عن عمرو بن سعيد بن العاص: أن عثمان دعا بطهور فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله)].

* في هذا الحديث من الفقه أن الإنسان أول ما يبدأ به من أفعال صلاته (الوضوء) فإذا حسنه وأسبغه وجوده كان كمن أحكم أساس عمله. * وفيه من الفقه ترتيب الوضوء. * وفيه دليل على أن ذلك الوضوء الذي يحسنه ويسبغه إذا أتبعه صلاة مقدارها ركعتان؛ أقل ما يكون من الصلاة، فحسنها (74/ أ) وأخلص فيها، ولم يحدث فيها نفسه؛ فإنه يغفر له ما تقدم له من ذنبه، وذلك أنه يكون قد أحسن العمل أصلًا وفرعًا، وهذا معنى حديث عمر. وما أخبر في ذلك الحديث من فكر المصلي في الأذكار التي ينطق بها، ما بين تكبير لله سبحانه، وحمد وثناء وإفراد بعبادة، واستعانة وسؤال هداية لصراط مستقيم مع استاذة من حالة غضب وضلال؛ وتدبر تلاوة مرتلة يسمعها نفسه، وركوع وسجود، وقيام وقعود، وحفظ لأطرافه عن العبث وعقله عن الطموح، ولأعضائه عن الاضطراب وجملته عن الالتفات ولقلبه عن الوسوسة، فإذا تمت له هذه الصلاة في مدة ساعة هدم الله بها الذنوب المتقدمة في عمره ما كان، وذلك لأن هذه الصلاة خلصت فثقلت في الموازين ومحت كل ذنب بإزائها في كفة ميزان لأنها اشتملت على إنابة وفيئة وأوبة وإخلاص في إيمان، وانقطاع عن الخلق واستعانة بالخالق مع امتثال أمره على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتلاوة كلامه وتوجيه الوجه إليه والتذلل له، ووضع أشرف ما في الإنسان على الأرض بين يدي ربه. * وفيه من الفقه أيضًا أن الإنسان إذا علم علمًا لم يحل له أن يكتمه. * وفيه أيضًا أن الأحاديث المتعلقة بالرجاء فإنه ينبغي أن تذكر على وجهها، ولا يبخل العبد على عباد الله بما جاد به ربهم.

* وفيه أيضًا من التذلل أن المصلي إذا صلى الصلاة فإن ما بين الصلاة إلى الصلاة الأخرى في حماية ما قد سبق له من الصلاة المتقدمة فكأنما صلاة تسلمه (74/ ب) إلى صلاة، وتتناوله صلاة من صلاة، وكأنما يكون دهره بأسره قد حفظ إذا حفظ الصلوات الخمس. * وفيه أيضًا أن من توضأ فجاء إلى المسجد فصادف وقتًا لا يمكنه الصلاة فيه- كما بعد العصر أو وقت طلوع الشمس- فجلس في المسجد على ذلك الوضوء أنه يلحقه الله تعالى بدرجة من صلى. * وفيه أيضًا ما يدل على فضل الجماعة. * وفيه أيضًا أن الوضوء يرفع الحدث عن الجسم ويرفع الوزر عن العبد، وأن الخطايا تخرج من الجسد حتى من تحت الأظفار، والذي أراه في ذلك أن تحت الأظفار قل ما يباشر به عمل، وإنما نصال الأجسام الظفر؛ فذكر ذلك للمبالغة في خروج الإثم من جسم لم يعمل به خطيئة. * وفيه أيضًا من الفقه أن الله تعالى يغفر بالوضوء خاصة ما تقدم من الذنوب كلها حتى يعود العبد مطلق الحال لا يكون ما يعمله من العبادات مقابلًا لشيء من الخطايا بل يكون ما يصليه نافلة؛ على معنى أنه يكون فاضلًا له؛ وليس يريد بالنافلة (التي هي) غير الفرض. * وفيه استحباب الاغتسال لقوله: (ما أتى على عثمان يوم إلا وهو يفيض عليه نطفة). * وفيه من الفقه أنه قال: (ما أدري أحدثكم أو أسكت؟)، والمعنى: لا أدري أبلغتم إلى مقام لا يفسدكم فيه قوة الرجاء أم لا؟ * وفي الحديث تنبيه على تجديد الوضوء لأنه قال: (يتوضأ ثم يصلي).

- 102 - الحديث الثالث: [عن عثمان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من بنى لله مسجدًا- قال الراوي: حسبت أنه قال: يبتغي به وجه الله- بنى الله له مثله في الجنة)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الباني للمسجد قد أثر أثرًا يعبد لله فيه؛ فكأنه قد شهد بفعله ذلك لربه سبحانه وتعالى أنه لا إله إلا هو قائمًا بالقسط، وبأنه مستحق للعبادة، فلذلك بنى الله له بيتًا في الجنة. من أفراد البخاري - 103 - الحديث الأول: (75/ أ) [عن أبي الزبير قال: قلت لعثمان: هذه الآية التي في البقرة: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا} إلى قوله: {غير إخراج} قد نسختها الأخرى؛ فلم تكتبها؟ فقال: تدعها يا بن أخي، لا تغير شيئًا منه من مكانه]. * في هذا الحديث من الفقه معرفة أن ما في المصاحف من القرآن هو على ما انتهى

إلينا لم يجر في شيء منه تبديل ولا تغيير؛ لأن الله عز وجل تولى حفظه كما وعد سبحانه. * وفيه أيضًا أن السنة في كتابته وقراءته على ما انتهى إلينا من ترتيبه. - 104 - الحديث الثاني: [عن أنس بن مالك في جمع القرآن: أن حذيفة قدم على عثمان. وقد تقدم في مسند أبي بكر متصلًا لحديث زيد بن ثابت]. * وقد سبق تفسيره. - 105 - الحديث الثالث: [عن السائب بن يزيد: (أنه سمع عثمان بن عفان على منبر النبي صلى الله عليه وسلم)؛ لم يزد]. * يدل على أن اتخاذ المنبر سنة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صنعه ورقى عليه، ولا يتعدى في معناه الكراسي التي يجلس عليها من يذكر الناس ليمتد صوته ويبلغ كلامه، وكذلك المحدث إذا عظمت حلقته وخاف أن لا يصل صوته.

- 106 - الحديث الرابع: [عن عبيد الله بن عدي بن الخيار: أن المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود قالا له: (ما يمنعك أن تكلم أمير المؤمنين عثمان في شأن أخيه الوليد بن عقبة؟ فقد أكثر الناس فيه، فقصدت لعثمان حين خرج إلى الصلاة، فقلت: إن لي حاجة إليك، وهي نصيحة، فقال: يأيها المرء، أعوذ بالله منك، فانصرفت، إذ جاء رسول عثمان فأتيته (75/ ب) فقال: ما نصيحتك؟ فقلت: إن الله تعالى بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، وكنت ممن استجاب لله ورسوله، فهاجرت الهجرتين، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت هدية، وقد أكثر الناس في شأن الوليد. قال: أدركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فقلت: لا، ولكن خلص إلي من علمه ما يخلص إلى العذراء في سترها، قال: فقال: أما بعد، فإن الله تعالى بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فكنت ممن استجاب لله ورسوله، وآمنت بما بعث به، ثم هاجرت الهجرتين كما قلت، وصحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية: ونلت صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبايعته، فوالله، ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله عز وجل، ثم أبو بكر مثله، ثم عمر مثله، ثم استخلفت، أفليس لي من الحق مثل الذي لهم؟ قلت: بلى. قال: فما هذه الأحاديث التي بلغتني عنكم؟ أما ما ذكرت من شأن الوليد، فسآخذ فيه بالحق إن شاء الله، ثم دعا عليًا، فأمره أن يجلده، فجلده ثمانين. وفي أفراد مسلم في مسند علي: أن الوليد لما جلد أربعين. قال علي:

أمسك، جلد النبي أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي)]. * في هذا الحديث من الفقه استحباب التأدب في نصح الإمام. * وفيه أيضًا من الفقه أن شارب الخمر إذا أعلن بذلك وثبت عليه تعين استيفاء الحد منه. * وفيه أيضًا جواز الأربعين في الحد والثمانين، وأن كل ذلك سنة. * وفيه ما يدل على تقوى عثمان؛ إذ جلد ابن عمه الوليد، واستوفى حد الله منه. - 107 - الحديث الخامس: [عن عبد الله بن عدي أنه دخل على عثمان بن عفان وهو محصور فقال له: إنك إمام العامة، وقد نزل بك ما ترى، ويصلي (76/ أ) لنا إمام فتنة، وأنا أتحرج من الصلاة معه، فقال له عثمان: (إن الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أسأوا فاجتنب إساءتهم)]. * في هذا الحديث من الفقه جواز الصلاة خلف كل بر وفاجر، إذا كانت صلاة جمعة أو عيد أو نحو ذلك. * وفيه أنه لا نبغي أن ينهى أحد عن الصلاة.

- 108 - الحديث السادس: [عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)]. * في هذا الحديث من الفقه بيان شرف القرآن وفضل تعلمه وتعليمه، لأن الإنسان ينال بتلقنه درجة المتعلمين وبتلقينه درجة العالمين؛ إلا أني أرى أن الأولى للفطن اليقظ أنه لو تعلم منه آية واحدة علمها في وقته، ولا يصبر حتى إذا تعلم القرآن كله علم حينئذ، بل ليتلقن ما استطاع حفظه ثم ليلقنه لغيره إن قدر من يومه فيكون انتشار ذلك عنه- ما بلغ- نورًا يسعى بين يديه، وليكون إلى أن يختم الكتاب العزيز قد ختم غيره. - 109 - الحديث السابع: [عن عثمان حين حوصر، أشرف عليهم، فقال: أنشدكم بالله،- ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من جهز جيش العسرة فله الجنة، فجهزتهم؟ ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله ليه وسلم قال: من حفر بئر رومة فله الجنة؛ فحفرتها؟ قال: فصدقوه بما قال].

* في هذا الحديث ما يدل على فضل عثمان رضي الله عنه بتجهيز جيش العسرة، وحفر بئر رومة، وتصديق المسلمين له على ذلك وعلى ما وعده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثواب فعله ذلك. * وفيه أيضًا جواز أن يستدفع الرجل شر الجاهلين عنه بذكر أعماله التي يوضح بها (76/ ب) مقامه من الدين إذا كان يدفع به الأذى عنه. - 110 - الحديث الثامن: [عن مروان بن الحكم قال: أصاب عثمان رعاف شديد سنة الرعاف حتى حبسه عن الحج، وأوصى، فدخل عليه رجل من قريش فقال: استخلف يا أمير المؤمنين. قال: أو قالوه؟ قال: نعم. قال: ومن؟ فسكت، قال: ثم دخل عليه رجل آخر، فقال: استخلف يا أمير المؤمنين. فقال عثمان: أوقالوه؟ قال: نعم. قال: ومن هو؟ قال: فسكت. قال: فلعلهم قالوا الزبير؛ قال: نعم، قال: أما والذي نفسي بيده، إنه لخيرهم ما علمت، وإن لأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم]. * في هذا الحديث من الفقه ما يدل على أن الرعاف إذا اشتد من الأشياء الخطرة التي يستحب معها الوصية، وهذا ينبني عليه من الفقه أن لا تنفذ الوصية فيما عدا الثلث إذا مات من ذلك المرض. * وفيه أيضًا من الفقه أن الزبير رضي الله عنه كان من الشرف والمقام في الإسلام بحيث تسبق الظنون إلى أنه هو المستخلف بعد عثمان.

* وفيه أيضًا تحرز عثمان في قوله: ما علمت؛ أي الذي بلغه علمي. * وفيه أيضًا أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالنجوم فكلهم يهتدى به. من أفراد مسلم - 111 - الحديث الأول: [عن عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا ينكح المحرم، ولا ينكح، ولا يخطب]. * في هذا الحديث من الفقه تحريم النكاح على المحرم، والإنكاح، وأن يكون خاطبًا للنكاح، وسر ذلك أن المحرم قد تلبس بعبادة تستغرق وقته فلا يشتغل بعبادة أخرى تنافي حالة تلك العبادة، كما أنه لو دخل في الصلاة لم يجز له أن يلابس الصدقة بنفسه، ولو دخل في صيام الفرض أو النذر لم يجز له أن يؤاكل الضيف لأنها ليست من جنس العبادة التي شرع فيها بخلاف ما لو كانت العبادة (77/ أ) ن جنس عبادته كذكر الله، وقراءة القرآن فإنه لا يكون ممنوعًا من ذلك وإلا فالنكاح عبادة، والخطبة له عبادة، لكن لكل عبادة موطن، ولكل مقام حال. - 112 - الحديث الثاني: [أن عمر بن عبيد الله بن معمر اشتكى عينه وهو محرم، فأراد أن يكحلها، فنهاه أبان بن عثمان، وأمره أن يضمدهما بالصبر، وحدثه عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يفعله].

* في هذا الحديث دليل على كراهية الكحل للمحرم. * وفيه دليل على أن الصبر يقوم في ذلك مقام الكحل، وذلك أن الصبر فيه من القبض والجلاء- على تنافيهما- ما يزعم الأطباء أنه من الأشياء المنفردة بذلك، وهو موصوف في الأكحال، واكتحلت به أنا مرارًا فيما أظن. * وفي الحديث ما يدل على إباحة التداوي، وأن التضميد في موضعه باب من أبواب التداوي. - 113 - الحديث الثالث: [عن عثمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين)]. * فيه من الفقه تحريم الربا، والفقهاء يرون في هذه المسألة أن الربا حقيقة في وضع اللغة أنه الفضل، ولا أراه كذلك من كل وجه، وإن كان الربا في الصورة كما ذكروا إلا أن نطق القرآن ورد بذكر الربا، ولم يرد بذكر تحريم الفضل، وإنما ينصرف منطق الربا إلى كل شيء يربو، وإن لم يترك عليه غيره؛ كالطعام إذا ربا فإنه يزيد في العين من حيث انتفاخه. وقد قال تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} ولم يزد فيها شيء من الخارج، وإنما كان فيها الربا من نفسها، وكذلك إذا أكل الطعام ربا فإنه لا يزيد فيه شيء من غيره، فصار المعنى أن الربا وإن رأيتموه في صورة التزايد فهو من حيث الإيمان (77/ ب) محق؛ لأن الله تعالى قال: {يمحق الله الربا} فأما الصدقات فإنها من حيث مشاهدة

الآدميين لها أنها تنقص، وهي من حيث الإيمان تربو، لقوله تعالى: {ويربي الصدقات} وقد تقدم من بيان السر في تحريم الربا في أول هذا الباب ما يكفي إن شاء الله تعالى. - 114 - الحديث الرابع: [عن سعيد بن العاص، أن عثمان وعائشة رضي الله عنهما حدثاه: (أن أبا بكر الصديق استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراشه، لابس مرط عائشة، فأذن لأبي بكر وهو كذلك، فقضى إليه حاجته ثم انصرف، قال: ثم استأذن عمر، فأذن له وهو على تلك الحال، فقضى إليه حاجته ثم انصرف، قال عثمان: ثم استأذنت عليه، فجلس وقال لعائشة: اجمعي عليك ثيابك، قال: فقضيت إليه حاجتي ثم انصرفت. قال: فقالت عائشة: يا رسول الله، ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر، كما فزعت لعثمان؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلي في حاجته)]. * فيه من الفقه جواز الاضطجاع على الفراش ولبس مرط المرأة من غير تنزه عنه. * وفيه أيضًا من دلائل الزهد أنه لم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرط إلا مرط عائشة. * وهو يدل على فضيلة أبي بكر وعمر وشدة أنسه - صلى الله عليه وسلم - بهما.

* وهو يدل على فضيلة عثمان من حيث احتفاله به، وتعليله ذلك بأنه إنما جلس لئلا يراه على حالة انبساط فيستحيي أن يذكر حاجته؛ من حيث إن المنبسط في أهله وبيته ليس متهيئًا لذكر الحوائج، فإذا ذكر له إنسان حاجته في تلك الحال فقد كدر عليه انبساطه، فأراد - صلى الله عليه وسلم - أن يتأهب (78/ أ) للجلوس له لئلا يظن به أنه قد كدر وقته بحضوره، ولا ينطلق في ذكر حاجته. - 115 - الحديث الخامس: [عن عثمان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله)]. * في هذا الحديث من الفقه ما يدل على فضل الجماعة. * فأما تفاوت ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر فإن صلاة العشاء يدركها النوم، وصلاة الفجر تدرك النوم، فالاستعداد لها بالهبوب من النوم أشق لأن الله عز وجل: {إن ناشئة الليل هي أشد طئًا وأقوم قيلا}.

مسند علي رضي الله عنه

4 مسند علي رضي الله عنه المخرج له في الصحيحين: أربعة وأربعون حديثًا المتفق عليه منها: عشرون حديثًا وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر - 116 - الحديث الأول: (مما اتفق عليه) [عن الحسين بن علي عليهما السلام أن عليًا أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلًا فقال: ألا تصليان؟ قال علي: فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا؛ فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

حين قلت له ذلك ولم يرجع إلي شيئًا، ثم سمعته وهو منصرف يضرب فخذه ويقول: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا}]. * في هذا الحديث من الفقه جواز طروق البنت مع جواز أن يكون زوجها ضجيعها ولاسيما إذا كان الزوج في حكم الولد كعلي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان دخوله إليهما في وقت صلاة الفجر، وإنما أحب لهما إدراك الفضيلة في أول الوقت ولذلك قال: (ألا تصليان؟) على معنى العرض؛ إذ لو تضايق الوقت لما قال هكذا، وإنما كان يقول: (قوما إلى الصلاة). * وفيه من الفقه أيضًا أن المتعلم لا ينبغي أن يجادل العالم إذا حضه على الأفضل والأرفع بالحجاج الذي يطول البسط بشرحه؛ فإنه لما قال له: (إنما أنفسنا بيد الله؛ إذا (78/ ب) شاء أن يبعثنا بعثنا) لم يتسع الوقت أن يقول له ما يحل هذا الإشكال من قلبه كما ينبغي، ولكن اكتفى بقوله عز وجل: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا}، أي هذا الذي ذكره هو من باب الجدل وإن كان حقًا، ولكنه لا يستعمل مثله جوابًا عن قوله: (ألا تصليان؟) لأنه لو استعمل هذا الجواب في ذلك لأدى إلى إبطال الصلاة وتضييع أوقاتها. * وفي الحديث دليل على جواز ضرب الرجل فخذه للأمر الذي يشير إليه من إيقاظ فهم السامع.

- 117 - الحديث الثاني: [عن الحسين بن علي أن عليًا رضي الله عنه قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعطاني شارفصا من الخمس يومئذ، فلما أردت أن أبتني بفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدت رجلا صواغًا من بني قينقعا يرتحل معي، فنأتي بإذخر أردت أن أبيعه من الصواغين، فأستعين به في وليمة عرسي، فبينما أنا أجمع لشارفي متاعًا من الأقتاب والغرائر والحبال، وشارفاي مناخان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار، أقبلت حين جمعت ما جمعت، فإذا شارفاي قد اجتبت أسنمتهما، وبقرت خواصرهما وأخذ من أكبادهما، فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر، فقلت: من فعل هذا؟ قالوا: فعله حمزة، وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار، غنته قينة وأصحابه؛ فقالت في غنائها: (ألا يا حمز للشرف النواء ..)، فوثب حمزة إلى السيف، فاجتنب أسنمتهما، وبقر خواصرهما، وأخذ من أكبادهما. قال علي: فانطلقت حتى أدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده زيد بن حارثة، قال: فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجهي الذي لقيت، فقال: (79/ أ) (مالك)؟ فقتل: يا رسول الله ما رأيت كاليوم، عدا حمزة على ناقتي فاجتب أسنمتهما، وبقر خواصرهما، وها هو في بيت معه شرب، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بردائه، فارتداه ثم انطلق يمشي، واتبعته أنا وزيد بن حارثة، حتى جاء البيت الذي فيه حمزة، فاستأذن فأذن له، فإذا هم شرب، فطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة ثمل محمرة عيناه، فنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصعد النظر إلى ركبتيه، ثم صعد النظر فنظر إلى سرته، ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه، ثم قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟ فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ثمل، فنكص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عقبيه

القهقري، وخرج وخرجنا معه. وفي رواية: وذلك قبل تحريم الخمر]. * في هذا الحديث من الفقه أن عليًا عليه السلام كان ساعيًًا لدخوله بأهله، مما يجمع من الإذخر يبيعه من الصواغين. * وفيه أن الأسف والأسى على المصيبة في المال قد يبلغ من الرجل الصالح إلى أن يبكي؛ لقول علي رضي الله عنه: (فلم أملك عيني). * وقد نسخ الله عز وجل ما ورد في هذا الحديث من شرب الخمر بتحريمها. * وفيه أيضًا جواز نزع الرداء للقاعد في البيت؛ ألا تراه يقول: (فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بردائه)؟ * وفيه أن لا يخرج الإنسان إلى الناس على حالته في بذلته في بيته حتى يأخذ رداءه ويتأهب للخروج. * وفيه أن العاقل الصاحي لا يتعرض لخطاب السكران والثمل. * وفيه أن الذاهب بين يدي السكران والثمل ينبغي أن لا يوليه ظهره لأنه لا يأمن منه (79/ ب) أدى، ألا ترى إلى قوله: فنكص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عقبيه القهقري).

- 118 - الحديث الثالث: [عن ابن عباس قال: وضع عمر على سريره، فتكنفه الناس يدعون ويصلون قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يرعني إلا رجل قد أخذ بمنكبي، فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب، فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحدًا أحب إلي ألقى الله بمثل عمله منك، ويم الله! إن كنت لأظن ليجعلنك الله مع صاحبيك، وذلك أني كنت كثيرًا أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر)، فإن كنت لأرجو- أو لأظن- أن يجعلك الله معهما]. * فيه من الفقه جواز الميت على سريره، وأن يدخل عليه الناس؛ فإن في ذلك نوع من استدعاء رحمة له من كل قلب قد يكون قاسيًا عليه، فربما جعله في حل مما بينه وبينه؛ وليتعظ الأحياء به. * وفي هذا الحديث دليل على أن عليًا لم يرض ولم يتمن أن يكون له مثل عمل أحد بعد عمر. * وفيه من الفقه شهادة علي له ولأبي بكر معًا بصحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوله: (مع صاحبيك) وهذا أمر قد كان من علي رضي الله عنه على سبيل النطق بالمعروف المعهود بين الصحابة من أن أبا بكر وعمر صاحبا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكذلك قوله: (ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر).

- 119 - الحديث الرابع: [عن عبد الله بن جعفر قال: سمعت عليًا يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد)]. * في هذا الحديث من الفقه أن قوله: (خير نسائها) أي من يماثلها أو يقاربها في شرفها، كما يقال للمرأة التي يعين لها الصداق: (يرجع فيه إلى مهور نسائها)، (80/ أ)، أي أقاربها ومن يماثلها. - 120 - الحديث الخامس: [عن محمد بن علي (بن الحنفية) أن عليًا قال لابن عباس: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية)]. * فيه من الفقه تحريم المتعة التي تخالف فيها الشيعة، وهذا الحديث المتفق عليه عن علي يرد قولهم، ويدل على تحريم الحمر الأهلية.

- 121 - الحديث السادس: [عن علي قال: كنت رجلا مذاء، فاستحييت أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لمكان ابنته، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله، فقال: (يغسل ذكره، ويتوضأ). وهو في أفراد مسلم عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب قال: أرسلنا المقداد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن المذي يخرج من الإنسان، كيف يفعل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (توضأ وانضح فرجك)]. * فيه من الفقه أن على الذي يلقى منه غسل الفرج، وما روي عن أحمد: أنه يغسل الأنثيين جيدًا حسنًا. وقوله: (انضح فرجك)، هو الحديث الأول لكنه قدم وأخر، وعبر عن الغسل بالنضح. - 122 - الحديث السابع: [عن سعيد بن المسيب قال: اجتمع علي وعثمان يعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال له علي: ما تريد إلى أمر فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، تنهى

الناس عنه؟ فقال له عثمان: دعنا عنك، قال إني لا أستطيع أن أدعك، فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعًا. وهذا بمعناه في أفراد البخاري عن مروان بن الحكم: أنه شهد عثمان وعليًا بين مكة والمدينة، وعثمان ينهى عن المتعة، وأن يجمع بينهما، فلما رأى ذلك علي أهل بهما: لبيك بعمرة وحجة. فقال عثمان: تراني أنهى الناس، وأنت تفعله؟ فقال: ما كنت لأدع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول أحد. وهذا المعنى في أفراد مسلم: أن عليًا كان يأمر بالمتعة، وعثمان ينهى عنها، فقال عثمان كلمة (80/ ب) فقال علي: لقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عثمان: أجل، ولكنا كنا خائفين]. * في هذا الحديث جواز الإهلال بالعمرة والحج، وما ذهب إليه عثمان رضي الله عنه فقد ذكر الاحتجاج له بأن ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك كان لأجل الخوف، وما فعله علي محتجًا بظاهر فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان كل منهما مأجورًا، إلا أن مثل ذلك لو اتفق في زماننا هذا كان المتعين متابعة الإمام فيما يفعله. - 123 - الحديث الثامن: حديث حاطب بن أبي بلتعة، وقد تقدم الكلام عليه، إلا أن في هذا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قد صدقكم)].

يدل على أنه لما سئل موطن الخطر صدق، فلا جرم نجاه الله تعالى بسابق عمل صالح. -124 - الحديث التاسع: [عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب وفي رواية: يوم الخندق- (ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس). وفي رواية عن عون عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: شغلونا عن الصلاة الوسطى: صلاة العصر، ثم صلاها بين المغرب والعشاء] * في هذا الحديث من الفقه استحباب الدعاء على الكفار، على خلاف ما كانت تراه الجاهلية، فإنهم لا يرون الدعاء على العدو، ويعدونه ذلا. * وفيه أيضًا الاشتغال بالعدو حتى غربت الشمس، وهذا قد يكون عن اشتداد القتال، ويكون عن نسيان، وشدة جلبة القتال. * وفيه أيضًا دليل على أن الصلاة الوسطى التي أمر الله تعالى بالمحافظة عليها هي صلاة العصر، وذلك ظاهر فيها لأن بين يديها صىلاتين من النار، وورائها صلاتين من الليل، وهي الصلاة الوسطي.

-125 - الحديث العاشر: [عن علي قال: (كساني النبي صلى الله عليه حلة سيراء، فخرجت فيها، فرأيت الغضب (81/ أ) في وجهه، فشققتها بين نسائي). وفي أفراد مسلم عن علي عليه السلام: أن أكيدر دومة أهدى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثوب حرير، فأعطاه عليًا، وقال: (شققهخمرًا بين الفواطم). وفي رواية عن علي قال: (أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلة سيراء، فبعث بها إلى فلبستها، فعرفت الغضب في وجهه، فقال: إن لم أبعث بها إليك لتلبسها، إنما بعثت بها إليك لتشققها خمرًا بين السناء)] * في هذا الحديث من الفقه جواز إعطاء الإمام الثوب الحرير من غير اشتراط عليه أن لا يلبسه، فإن هو لبسه أنكره عليه، وقد مضي شرح ذلك فيما تقدم. * وفيه أيضًا جواز تشقيق الثوب للخمر ونحوه، وليس هذا مما يعتمده الجهال من تشقيق الثياب حتى تعود عصائب لا تفيد طائلا، ألا تراه يقول: (شققه خمرًا بين الفواطم)؟ فلا ينبغي أن يتجاوز تشقيق الثياب حد الخمار أو ما ينتفع في الغالب.

* وفيه أيضًا إباحة لبس الحرير للنساء. والحلة السيراء: ذات الخطط. - 126 - الحديث الحادي عشر: [عن علي قال: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لأحد إلا لعسد بن مالك، فإني سمعته يقول يوم أحد: (يا سعد، أرم، فداك أبي وأمي)]. * فيه من الفقه استحباب الرمي وكونه فاضلا في السلاح. * وفيه جواز أن يدعو الرجل للرجل في مواطن الحرب إذا كان في ثغر من ثغور القتال بدعاء معناه السلامة والبقاء لأجل مقامه في ثغرة صف المسلمين، ألا ترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا له بأن يفدي حتى ذكر أبويه؟ * وفيه أيضًا أنه على عظم تشريفه إياه له بهذا المنطق أنه لمي جعل فداه مسلمًا ولا حيًا. -127 - الحديث الثاني عشر: [عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكذبوا علي،

فإنه من يكذب (81/ ب) على يلج النار]. * في هذا الحديث من الفقه أن من أعظم الكذب إثما الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الكذب عليه يشتمل على تبديل الشرع وتقلب الأحكام، فقد جاء في الحديث: (تحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وإذا حدثتم عني فلا تكذبوا علي فليس كذبًا على ككذب على غيري) يعني - صلى الله عليه وسلم - أن الحكاية عن بني إسرائيل لا تتخذ شرعًا، وأن القول عنه - صلى الله عليه وسلم - يتخذ شرعًا. وفيه أيضًا أنه قال: (من يكذب على يلج النار)، بالشرط وجوابه هكذا مطلقًا من غير تقييد بخلاف الحديث الآخر الذي قيده بأن قال: (من كذب علي متعمدًا) وهذا المطلق ينصرف إلى التعمد وغيره هو أصعب وأشد. -128 - الحديث الثالث عشر: عن علي قال: [نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتبذ في الدباء والمزفت]. *فيه من الفقه أن لا ينتبذ في الدباء وهو القرع، والمزفت وهو المطلي بالزفت، وذلك أن النقيع في الأسقية لا يسرع إليه الاشتداد والصيرورة إلى الإسكار كما يسرع إلى النقيع في الدباء والمزفت؛ فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك لئلا يتعدى

إلى ما يستبد فيحوج الأمر إلى أن يلقى ويهراق. -129 - الحديث الرابع عشر: [عن علي قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه، وأن أتصدق لحمها وجلودها وأجلتها، وأن لا أعطي الجزار منها، وقال: (نحن نعطيه من عندنا)]. * فيه من الفقه أنه تجوز الاستنابة في الأضحية لأن عليا قال: (أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنه)، وقد جاء في الحديث الآخر: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر بيده ثلاثًا وستين بدنة، وأمر عليًا بنحر الباقي من المائة). * وفيه أيضًا دليل على أنه يجوز أني تصدق بجميع نسيكته، وقوله: (أمرني أن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها) وهذا في هذه القضية مروي مأثور، فأما الأضاحي في غير هذا الحديث فإن أجلتها لا تعلق لها بالصدقة أن يشاء ربها فيتصدق بها (82/ أ) بذلك كما يشاء.

* وفيه أيضًا من الفقه أن لا يعطي الجازر منها شيئًا، بل يعطى أجرته من غيرها، وذلك أن الجازر لو أعطي شيئًا منها كان يعود شريكًا فيها، فلا يلومن أن يتوخى لنفسه أطايبها فيظلم الفقراء. -130 - الحديث الخامس عشر: [عن علي: أن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادمًا، وأنه قال: (ألا أخبرك بما هو خير لك منه؟ تسبحين الله ثلاثًا وثلاثين، وتحمدين الله ثلاثًا وثلاثيين، وتكبرين الله أربعًا وثلاثين). وفي رواية: أن عليًا قال: فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلينا وقد أخذنا مضاجعنا، فقعد بيننا، حتى وجدت برد قدميه على صدري، وقال: أعلمكما خيرًا مما سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما أن تكبرا الله أربعًا وثلاثين فذكره. وقال: فهو خير لكما من خادم). قال سفيان: إحداهن أربع وثلاثون. وفي رواية ابن سيرين: التسبيح أربع وثلاثون. قال علي: فما تركته منذ سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قيل له: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين]. * في هذا الحديث من الفقه جواز الجلوس بين الابنة وزوجها.

* وفيه إسقاط لغيرة الجاهلين من مثل هذا. * وفيه جواز الاستخدام للرجل الصالح والمرأة الصالحة، ألا ترى أن فاطمة رضي الله عنها طلبت من أبيها - صلى الله عليه وسلم - خادمًا ولم ينكر ذلك عليها؟ * وفيه أن التسبيح خير من خادم لأنه جمع لها بين تسبيح الله ثلاثًا وثلاثين، وحمده ثلاثًا وثلاثين، وتكبيره أربعًا وثلاثين يكمل ذلك مائة، فيكتب الله به ألف حسنة، ولقد عوضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنعم العوض، فإن كل من سبح بهذه التسبيحات عاملا بهذا الحديث، ممن بلغه ويبلغه إلى يوم القيامة فإن لفاطمة رضي الله عنها بركة م عمله لأنها هي التي أثارت هذه السنة بسؤالها المبارك، فصار (82/ ب) العاملون كلهم بهذا الحديث حيث كانت هي المثيرة له خادمين بالثواب الذي يتصل من عملهم إليها من غير أن ينتقص من أجورهم شيء فعاضها الله عز وجل عن خادم واحد بألوف الألوف من الخدم. * وفيه أيضًا أن الإنسان إذا كان له تسبيح أو ورد من الذكر فالأولى أن لا يتركه في موطن من مواطن الشدة، ألا ترى إلى علي رضي الله عنه كيف قال: (ولا ليلة صفين؟!) بل ربما كان هذا التسبيح أوفى عتادًا لمثل تلك الحال؛ فذكره له ذلك الموطن أولى وأحرى. -131 - الحديث السادس عشر: [عن علي قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد، وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس، وجعل ينكت بمخصرته ثم قال: (ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار، ومقعده من الجنة) فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال: (اعملوا، فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة، فسيصير لعمل

السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء، فسيصير لعلم أهل الشقاء، ثم قرأ: {فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى} * في هذا الحديث من الفقه أن الأرزاق والآجال قد سبق ما قسم الله عز وجل منها، وأن أهل النار قد سبق في علم الله عز وجل ذكرهم، ومقاعدهم منها. * وفيه من الفقه أن هذا الخبر لا ينبغي أن يؤثر في ترك العمل بل في زيادته، ويؤثر في ترك الإدلال بالطاعة؛ ألا ترى إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أعملوا فكل ميسر لما خلق له)؟! وقد روي عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه لما روي الحديث الذي فيه: (يعمل أحدكم بعمل أهل الجنة ...) قال: هذا أشد الحديث أو أشد الأحاديث بعثًا على العمل، أو كما قال، والغرض أن هذا الحديث ليس يقتضي (83/ أ) تقتير العمل بل يقتضي الحذر من الإعجاب، كما أنه لا يقتضي التتابع في المعاصي بل يقتضي أن لا يقنط فاعلها من رحمة الله إن كثرت ذنوبه. وقوله: (أما من كان من أهل السعادة فسيصير لعمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فسيصير لعمل الشقاء)، فأعلم أن السين تخلص الفعل المضارع للاستقبال، فقوله: (سيصير لعمل أهل السعادة) يدللك على أن المعمول عليه هو الخاتمة، فلا يغتر أحد بعمل ولا يقنط من ذنب. * وفيه جواز حمل المخصرة في الجلوس على الأرض. * وفيه أيضًا جواز نكت الأرض بشيء يكون في يد المتكلم استراحة في القول وتتميمًا للكلام.

-132 - الحديث السابع عشر: [عن علي قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فأغضبوه في شيء. فقال: أجمعا لي حطبًا، فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا نارًا، فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تسمعوا وتطيعوا؟ قالوا: بلى؛ قال: فأدخلوها، فنظر بعضهم إلى بعض وقالا: إنما فررنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النار، فكانوا كذلك حتى سكن غضبه، وطفئت النار، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (لو دخلوها ما خرجوا منها أبدًا)، وقال: (لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف)] * في هذا الحديث من الفقه أنه تجوز طاعة الأمير إلى الحد الذي لا ينتهي إلى معصية الله عز وجل، فإذا انتهى إليها فحينئذ لا طاعة له ولا لغيره. * وفيه أيضًا أن المأمورين إذا رأوا أميرهم قد أمرهم بما يتحققون أنه معصيه لله عز وجل (83/ ب) فواجب عليهم أن لا يطيعوه، ألا تسمع إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو دخلوها لم يخرجوا منها أبدًا)؟ * وفيه أن طاعة الأمير إنما هي فرع على طاعة الله عز وجل التي هي الأصل، فإذا انتهت المراعاة لحفظ فرع من الفروع إلى أن ينتقض ذلك الأصل الذي بنيت الفروع عليه نبا في الحكم فبطل من أصله.

-133 - الحديث الثامن عشر: [عن زيد بن شريك قال: رأيت عليًا على المنبر يخطب، فسمعته يقول: لا والله، ما عندنا من كتاب نقرؤه إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة، فنشرها، فإذا فيها أسنان الإبل، وأشياء من الجراحات، وفيها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله يوم القيامة منه صرفًا ولا عدلا، ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة عدلا ولا صرفًا؛ ومن والى قومًا بغير إذن مواليه)، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدًلا). وفي أفراد البخاري مختصرًا عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم

شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة إلا فهمًا يعطيه الله رجًلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر]. * في هذا الحديث من الفقه أنه إذا ظن الناس وليس له صحة وعند الإمام أو العالم (84/ أ) المخرج منه، واليقين من حاله، أنه يصدع بذلك، ويذكره ولا يترك الناس على ظنهم المخطئ، ألا ترى أن عليًا رضي الله عنه حين آنس من الناس تناجيهم بأن عند علي وصية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إليه فيها سرًا، صعد المنبر، وأعلن بكشف الحق في ذلك، وحلف عليه تارة بقوله: لا والله، وتارة بقوله: (لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة ما عندنا من كتاب نقرؤه إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة)؟ وكان فيها أسنان الإبل، وفكاك الأسير، وأشياء من الجراحات، يعني في الأروش: كالخارصة، والباضعة، والبازلة، والمتلاحمة، والسمحاق، والموضحة، والهاشمة، والمنقلة، والجائفة، والمأمومة؛ والعقل؛ وأن لا يقتل مسلم بكافر. * ففي هذا الحديث من الفقه أن هذه الأشياء التي ذكرت كلها، هي من انتقال الوالي لأن معرفة أسنان الإبل، وفرائض الزكاة لازمة في علم الصدقات، وكذلك العلم بالجراحات وأروشها ليكون السلطان مقتصًا من الجانبين في كل شيء فيها، وكذلك العقل، وما يلزم العاقلة من الديات، وكذلك فكاك الأسير من قبول أو فداء أو قتل على ما يراه الإمام؛ وأن لا يقتل مسلم بكافر، فهذا الذي هو الغالب على أحكام السلطان، وكذلك معرفة حدود الحرم التي سنها رسول الله من عبر إلى ثور، ومنع الإحداث فيها، والإيواء للمحدث، وأن من فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولما كان هذا كله جل شغل الإمام كان علمه

عند علي رضي الله عنه، حتى انتهى الأمر إليه، وتلك إشارة من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى (84/ ب) أنه سيصير إليه الإمامة. * وفي هذا أيضًا من الفقه أن قوله: (أو رجل آتاه الله فهمًا في كتابه) يعني به نفسه أي ذلك هو العلم الواسع والبحر الذي لا ينتهي إلى ساحل فذلك لا يمكن ضبطه ولا حصره، وإنما هو ما يؤتيه الله عز وجل عبده كما يشاء. * وفيه من الفقه أن ذمة المسلمين واحدة، وأنه إذا أجار أدناهم أو بذل ذمة على البلد العظيم أو الجم الغفير مضت ذمته، ونفذ قوله، ولزم المسلمين كلهم الوفاء بما شرطه. * وفيه من الفقه من والى قومًا بغير إذنهم أو انتمى إلى غير مواليه أو ادعى إلى غير أبيه، فإن هذا كله من موجبات سخط الله عز وجل وغضبه، ولعنه الله وملائكته والناس أجمعين. -134 - الحديث التاسع عشر: [عن سويد بن غفلة قال: قال علي رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثًا، فو الله لأن أخر من السماء أحب إلى من أن أكذب عليه. وفي رواية: من أن أقول عليه ما لم يقل، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم، فإن الحرب خدعة، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (سيخرج قوم ي آخر الزمان حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرأون القرآن، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا لمن

قتلهم عند الله يوم القيامة] * في هذا الحديث من الفقه أن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما يروي على صيغته ووجهه، وأن حديث الحرب ربما يقول المحارب فيه قولا يترخص فيه بالمعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب؛ إذ لا يجوز أن يظن بعلي رضي الله عنه أن يقول في الحرب ولا في غيرها إلا الحق، ولكن قد يقول في الحرب من المعاريض ما (85/ أ) يكون فيه بعض التغرير لعدوه، يجوز أن يلقي الرجل عدوه فيوهمه أن وراءه من يضربه، فيقول: أضرب أو أطعن ليلتفت الخصم إلى ورائه فيتمكن منه، وهو يعني بقوله: أضرب، الأمر لنفسه بضرب الخصم. * وفيه أن قراءة القرآن مع اختلال العقيدة غير زاكية ولا حامية صاحبها من سخط الله عز وجل، وأن ذلك قمن جدير أن يكون في حدثاء الأسنان، وعند سفهاء الأحلام، وأنه يكثر في أخر الزمان، وأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يعني - صلى الله عليه وسلم - أن مروقهم من الدين بعد نكاية منهم فيه، كما أن السهم يمرق من الرمية بعد نكاية منه فيها، وكما أن السهم إذا مرق من الرمية لا يتعلق من الرمية إلا بدمها وقرنها، كذلك هم لا يفعلون من الدين إلا بما أكسبهم مذمة وسوء قاله. * وفي هذا الحديث أيضًا دليل على جواز قتل من خرج ببدعة على الإمام وصار له حزب وشوكة. * وفيه أيضًا دليل على أن قتلهم فيه أجر لمن قتلهم.

-135 - الحديث العشرون: [عن علي قال: ما كنت لأقيم حدًا على أحد فيموت فأجد في نفسي منه شيئًا إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسنه]. * في هذا الحديث من الفقه أن تحرج علي رضي الله عنه فيما بين الأربعين إلى الثمانين، لأن ذلك كان في اجتهاد من منه بقول عمر رضي الله عنه؛ فإنه روي أنه قال له: إن الأربعين لا يكف من الناس. فقال علي رضي الله عنه: (أرى أن من شرب الخمر هذى، ومن هذى افتر، وعلى المفتري ثمانون)، فحد عمر الثمانين باجتهاد علي رضي الله عنه، فالفقه في هذا الحديث أن من مات من الأربعين فلا يؤدي لأنه مات من حد استوفاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن مات فوق الأربعين إلى الثمانين فديته في بيت المال لأنه من حد (85/ ب) انتهى إليه اجتهاد إمام، فلهذا يقول علي رضي الله عنه: إني أجد في نفسي منه شيئًا.

-136 - من أفراد البخاري: الحديث الأول: [عن ابن عباس: أن عليا خرج من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجعه الذي توفى فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن، كيف أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئًا، فأخذ بيده العباس بن عبد المطلب، فقال: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، وإني والله لأرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيتوفى من وجعه هذا، إني اعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، فأذهب بنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلنسأله فيمن هذا الأمر؟ فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا كلمناه، فأوصى بنا، فقال علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]. * فيه من الفقه جواز الإخبار عن حال المريض بأحسن ما يخبر به، رجاء للبرء، فإنه قال: (أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بارئًا)، وبارئًا اسم فاعل، واسم الفاعل فعله لما يستقبل من الزمان، فهو يعني: إن شاء الله بارئًا، وبارئًا منصوب بأنه خبر أصبح. وقول العباس له: (أنت والله بعد ثلاث عبد العصا)، يعني إنك مأمور تلزمك الطاعة، وتخاف من مخالفتها العقوبة. * وفيه أيضًا ما يدل على حسن فطنه العباس بما ذكره من العلامة التي رآها لبني عبد المطلب عند الموت لصدق نسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه أيضًا من فقه علي رضي الله عنه لم يبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى لوصية في ذلك، وأنه لحكمة من عند الله سبحانه، لم ير أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما

أمسك عنه (86/ أ) فيكون ضربًا من سوء الأدب؛ لأن هذا من الأمور المهمة والخطوب الكبار، فما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخل بتعيين الوصية فيه إلا بأمر من الله سبحانه، والذي بان من ذلك أنه لما لم يعين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على شخص، ولا نص بالوصية في أحد، كان ذلك من فعله - صلى الله عليه وسلم - مفصحًا أن الحق هو أن يبايع المسلمون رجلا من قريش؛ إذ قد سبق قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الأئمة من قريش)، وإشارته الخفية بتولية أبا بكر أمر الصلاة بعد قوله - صلى الله عليه وسلم - (يوم القوم أقرؤهم .. الحديث)، شهادة منه أنه اختار الأقرأ والأفقه والأشرف والأقدم هجرة إلا أنه لم ينص عليه نصًا ظاهرًا من أجل أنه كان يتخذ ذلك شرعة لا تسع غيرها، فكان لا يولي والٍ إلا من يريده الوالي قبله، لكن لا ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمر من غير وصية، وانعقد إجماع المسلمين على خلافة أبي بكر عرف من ذلك الحكة في إمساك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصية، فلما استخلف أبو بكر عمر فهم من فعل أبي بكر جواز الوصية والاستخلاف، فلما تركها عمر شورى في ستة دل ذلك أيضًا على جواز التعيين في عددٍ من غير نصٍ على واحد، ولا إشاعة الأمر في الناس كلهم، وكان من حكمة الله سبحانه وتعالى رد الأمر إلى الوارث، وهو

العباس رضي الله عنه إلا أن وجود الأفاضل كان مانعًا من ذلك إلى أن بلغ الكتاب أجله، وجرى لعثمان رضي الله عنه ما جرى، واستطال من أمر بني أمية، فصار رجوع الأمر إليهم صلة رحم لآل علي رضي الله عنه، ولو كان قد رجع الأمر إلى بني العباس من آل علي كان يكون فيه نوع قطيعة (86/ ب) للرحم. وقول علي رضي الله عنه: (لئن سألناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعناها) دليل على فقهه، فإنه كان يرى من فقهه أن لا يسأل العمل فإنه من سأله وكل إليه، ومن لم يسأله أعين عليه، ألا ترى إلى قوله: (وإني والله لا أسألها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)؟ فإنه لما رأى إمساك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مثل هذا الأمر المهم علم أنه لم يكن إمساكه إلا بأمر محتوم، وأنه لو فجأة أحد بالسؤال عن ذلك لرده عنه، فكان يستمر علي وآله من رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصمة لا تزول، ولذلك قال: (إن منعناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) * يعني في هذه الحال- (لا يعطيناها الناس أبدًا)، وكان من حكمة الله سبحانه أن رتبهم في الخلافة على حسب أعمارهم، فترك آخرهم في الخلافة أطولهم عمرًا ليكون كل منهم قد أخذ من ذلك بقسط يبين فيه معنى قول الله: {محمد رسول الله والذين معه}، فإن كلا منهم قام في وقته بفرضٍ كفى فيه وأبلغ؛ فأبو بكر رضي الله عنه قام في قتال أهل الردة المقام الذي شهد له أنه لم يكن على الحق فيه غيره، وعمر رضي الله عنه قام في وقته من فتوح الأمصار، وبعث البعوث إلى أطراف الأرض حتى امتدت الكلمة وانتشرت الدعوة بها شهد له أنه كان فيه أوحد علمًا. وعثمان رضي الله عنه قام في وقته من جمع القرآن ومنع الاختلاف وعمارة المسجد وغير ذلك مما كان فيه علمًا واحدًا. وعلي رضي الله عنه قام في وقته لما ثار من الأمر ما يشكل إلا على الراسخين في

العلم مثله من انقلاب ممن كان يتظاهر بالخير ويزيد على المعهود في الدين غلوًا وتشدًا من جهالهم بقتل من قتل منهم، ومحاربة من حاربه، ما يشهد بأنه لم يكن يقوم غيره فيه مقامه، فصارت (78/ أ) هذه الأركان الأربعة؛ من قتلا من ارتد عن الإسلام بترك الزكاة نقضًا فيه، وقتلا لمن تجاوز الحد في التشدد غلوًا، وقتال المشركين الأصليين، وحفظ كتاب الله عز وجل بين هؤلاء الخلفاء الأربعة على قسمة سواء، فيعلم حينئذ كل ذي فطنة أن هؤلاء الأصحاب- رضي الله عنهم- أيد الله سبحانه دين نبيه - صلى الله عليه وسلم - بهم بعده واحدًا بعد احد، كما أيد بهم في حال حياته كلما أوقدت الشياطين فتنة في وقت واحد منهم أطفأها الله سبحانه على يد إمام الوقت، فصار الأربعة أصولا في الدين، فلم يكن بعد ما دبر الله عز وجل فيهم لقائل مقال ولا معترض. -137 - الحديث الثاني: [عن النزال بن سبرة قال: (أتى علي باب الرحبة فشرب قائمًا، وقال: إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كما رأيتموني فعلت)]. * في هذا الحديث من الفقه أن يفعل العالم الفعل الذي غيره أفضل منه، ليدل بذلك على جوازه، وليجعله طريقًا إلى الإخبار به، وتعليم الناس إياه. -138 - الحديث الثالث: [عن علي قال: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله

ورسوله؟] * في هذا الحديث من الفقه أن العالم ينبغي أن يربي الناس بالعلم تربية، ويغذيهم إياه تغذية، فيربيهم بصغار العلم قبل كباره، فيكون ربانيًا كما جاء في الحديث الآخر، ويوضح ذلك أن الطفل لما كانت معدته لا تقوى على هضم الأطعمة الغليظة يسر الله له رزقه من ثدي أمه مدة طويلة يتدرج فيها إلى تناوله الأغذية الباقية على جهتها، فإن اللبن قد كان غذاء ثم انقلب لبنًا فصار على نحو الشيء المصاعد فهو من ألطف الأغذية، فإذا قويت معدة الطفل غذي بالأغذية القوية، فكذلك ينبغي للعالم أن يرفق بالناس في التعليم، فلا يعرض عقولهم لسماع ما تنكره من قبل أن يتيقن قوة عقولهم لدفع الشبهة، وقبول الحجة، والكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، وإلا عرضهم للتكذيب، كما قال علي رضي الله عنه (87/ ب) (أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟). -139 - الحديث الرابع: [عن ابن الحنفية قال: لو كان على ذاكرًا عثمان بسوء؛ ذكره يوم جاءه ناس يشكون إليه سعادة عثمان، فقال لي علي: أذهب بهذا الكتاب إلى عثمان، وأخبره أن فيه صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمر سعاتك يعملون بها، فأتيته بها، فقال: أغنها عنا، فأتيت بها عليًا، فقال: لا عليك، ضعها حيث وجدتها).

قال بعض الرواة عن سفيان بن عيينة: لم يجد علي بدًا حين كان عنده علم منه أن ينهيه إليه. قال: ويروى أن عثمان إنما رده؛ لأن عنه علمًا من ذلك فاستغنى عنه]. * في هذا الحديث من الفقه أن العالم يعين العالم، وأنه يتعين على كل من عنده علم يعلم أن الإمام يحتاج إليه أن يعلمه به، ويهديه إليه. * وفيه أيضًا دليل على أن الإمام إذا كان عنده علم مما أرسل إليه به أن يعيد ذلك إلى من أرسل به، إذ هو مستغن عنه، ولا يقبل شيئًا لا يحتاج إليه، وكان علي رضي الله عنه أحلم من الذي ظن أنه سيحفظه هذا إذ ليس في هذا ما يحفظ، ولا كان علي رضي الله عنه يغضب إلا لله عز وجل وللحق، ولمي كن عند عثمان رضي الله عنه ما يتناوله الغضب لله عز وجل بحال، وإنما أعادها إيه لأنه كان عاملا بها فلم ير أن يكون عاملا بها بقول غيره لأنه مجتهد، والمجتهد لا يتبع مجتهدًا. -140 - الحديث الخامس: [عن أن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أبو بكر: قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر. قال: وخشيت أن أقول ثم من؟ فيقول عثمان: فقلت ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين].

* في هذا الحديث دليل واضح على إفصاح على رضي الله عنه بأن أبا بكر خير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن خيرهم بعد أبي رضي الله عنه عمر رضي الله عنه. وفيه أيضًا أن محمد بن الحنفية فهم من علي رضي الله عنه أنه لو سأله عن الثالث لقال (88/ أ) عثمان، فلذلك قال له: ثم أنت؟ فقال: ما أنا إلا رجل من المسلمين، يعني المسلمين الذين شهدت بأن أبا بكر وعمر خيرهم فكأنه قال: والذي فهمته أنت مني أنك لو سألتني لقلت لك عثمان فأنا من المسلمين الذين يكون عثمان خيرهم بعد الاثنين المذكورين. -141 - الحديث السادس: [عن علي قال: أقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الخلاف، حتى يكون الناس جماعة، أو أموت كما مات أصحابي. قال: وكان ابن سيرين يرى عامة ما يروون عن علي كذبًا]. * في هذا الحديث من الفقه أن الفقيه المجتهد إذا أدى اجتهاده إلى خلاف فقيه يقدمه ثم رأى أن في ذكر اجتهاده نوع فرقة أو إثارة شبهات فإنه يمسك عن ذكر ما

عنده، ويجري الأمر على ما قد أفتى به غيره مع كونه يعتقد أن الصواب ضده، فإن عليًا قد أدى اجتهاده في مسائل قد خالف فيها أبا بكر وعمر، إلا أنه رأى من الصواب للأمة أن يجري الأمر في الأقضية على ما تقدم من قضائهما رضي الله عنهما وعنه. وقوله: (حتى يكون الناس جماعة) يعني يكون الناس جماعة هي التي يشتمل على قولي وقولهم، وأن وافقت لهم فيما حكموا به يصير إجماعًا مني ومنهم، إذ لم يكن يتم الإجماع إلا بأن يوافقهم علي رضي الله عنه على أقضيىته. ومعنى قوله: (أو أموت) أي إلى أن، كما يقول القائل: لا أفارقك أو تعطيني حقي؛ يعني إلى أن تعطيني حقي؛ يعني إلى أن تعطيني، وأراد: إني على ذلك إلى أن ألحق بأصحابي وهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ويكون الإجماع قد انعقد من غير خلاف، فلذلك رأى ابن سيرين أن عامة ما يروون عن علي كذبًا لأن حديثه هذا يكذبهم. -142 - الحديث السابع: [عن الشعبي أن عليًا حين رجم المرأة ضربها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة. وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله (88/ ب) - صلى الله عليه وسلم -]. * في هذا الحديث من الفقه حجة لأحمد رضي الله عنه في إحدى روايتيه في الجمع

بين الجلد والرجم على الزاني المحصن. -143 - الحديث الثامن: [عن قيس بن عباد، عن علي قال: أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الرحمن يوم القيامة. قال قيس: فيهم نزلت: {هذا خصمان اختصموا في ربهم} قال: هم الذين تبارزوا يوم بدر وهم: علي، وحمزة، وعبيدة بن الحارث، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة. وفي رواية: أن عليًا قال: فينا نزلت هذه الآية، وفي مبارزتنا يوم بدر: {هذا خصمان اختصموا في ربهم}]. * في هذا الحديث من الفقه أن عليًا عليه السلام وحمزة وعبيدة بن الحارث كانوا أول من قاتل يوم بدر، وهو معنى قول علي: (أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الرحمن يوم القيامة). -144 - الحديث التاسع: [عن عبد الله بن معقل بن مقرن: أن عليًا صلى على سهل بن

حنيف، فكبر وقال: إنه شهد بدرًا. قال البرقاني: لم يبين البخاري عدد التكبير، وهو عند ابن عيينة بإسناده، وفيه: أنه كبر ستًا]. * فيه من الفقه أن عليًا رضي الله عنه ميز أهل بدر بزيادة في التكبير، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كبر على حمزة سبعين تكبيرة. -145 - من أفراد مسلم: الحديث الأول: [عن علي قال: نهاني النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التختم بالذهب، وعن لباس القسي، وعن القراءة في الركوع والسجود، وعن لباس المعصفر. وفي رواية: عن ابن عباس أنه قال: نهيت أن أقروا وأنا راكع، ولم يذكر عليًا في الإسناد. زاد في الأطراف: أن في رواية ابن عباس عن علي: (النهي عن خاتم الذهب، وعن لبس القسي، والمعصفر المقدم، وعن القراءة في الركوع والسجود)]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله (89/ أ) الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عما ذكره كله إلا أن

قوله: (نهيت عن القراءة في الركوع)، أرى أن من ذلك أن الإنسان إذا عجل في صلاته لم يؤمن أن يركع وقد بقي عليه شيء من قراءته، فيخر راكعًا وهو يقرأ ما بقي عليه من سورته وآيته فيصادف ذلك قراءته في الركوع، فكأنه أمره بإتمام القراءة قبل الركوع. أما ذكر المعصفر فلا أراه إلا من جهة أنه لباس شهرة. والقسي: ثياب منسوبة إلى القس من أرض مصر، كان فيها حرير، وقيل: الأصل فيها قز بالزاي، فأبدلوا بينها سينًا ليقدم حرف الاستعلاء، وكل سين أصلية يتقدمها حرف الاستعلاء فجائز أن تبدل زايًا وصادًا، وحروف الاستعلاء تجمعا هذه الكلمات وهي: (ضغط قص خط). والمقدم: المشبع. -146 - الحديث الثاني: [عن أبي الطفيل قال: (كنت عند علي بن أبي طالب، فأتاه رجل فقال: ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسر إليك؟ قال: فغضب ثم قال: ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسر إلى شيئًا يكتمه عن الناس، غير أنه قد حدثني بكلمات أربع. قال: ما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: قال: (لعن الله من لعن والديه، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثًا، ولعن الله من غير منار الأرض)]. * في هذا الحديث ما يعضد ما مضى من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يسر إليه شيئًا يكتمه عن غيره.

وقوله: (لعن الله من لعن والديه) لا يبعد أن يريد به من عرض والديه للعن الناس، بدليل من فعله مماسًا لهذا المعنى. وأعلم أنه من أحدث في الدين فقد أتى عظيمًا، ومن آواه فكأنه صار وقاية للمحدث فهو شريكه في المغنى إذا علم بإحداثه. وأما تغيير منار الأرض قد يكون بين الشريكين فلا يحل لأحد الشريكين أن يقدم الحد ولا يؤخره (89/ ب) وقد يكون أيضًا من الأعلام في الطرق التي يهتدي بها المسافرون، فلا يحل لأحد تغييرها فيؤول إلى إضلال الناس عن طريقهم ومقاصدهم. ومنار الطريق: أعلامها. -147 - الحديث الثالث: [عن علي قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام للصلاة قال: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، أنت ربي، وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فأغفر لي ذنوبي جميعًا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وأصرف عن سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك). فإذا ركع قال: (اللهم لك ركعت، وبك أمنت، ولك أسلمت،

خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي). وإذا رفع رأسه قال: (اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات والأرض، وما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد). وإذا سجد قال: (اللهم لك سجدت، وبك أمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين). ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: (اللهم، أغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت)]. * في هذا الحديث من الفقه أن هذا الدعاء للاستفتاح وفيه: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض)، والذي أراه أنه ينبغي للمصلي في هذا الوقت أن يكون شديد الفهم بقلبه لقيامه بين يدي ربه عز وجل؛ إذ ليس المراد توجيه الوجه الذي هو وجه الصورة إلى الكعبة، وإنما المراد بهذا توجيه القلب إلى الذي (90/ أ) فطر السموات والأرض، وأن يكون في هذا النطق ذاكرًا لدليل موجد الخلق فإنه قال: الذي فطر السموات والأرض: أي خلقهن، لأن نفس السموات والأرض دالة على وجوب وجود موجد. وقوله: (حنيفًا)، أي مائلا إلى الحق عن المشركين، وقوله (حنيفًا) نطق يدل على أن الأكثر من أهل الأرض على الضلال، قال الله عز وجل: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل اللهْ}.

وقد تقدم شرحنا لمعنى قوله: {إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}. وقوله: (وبذلك أمرت)، دليل أن لك قول صالح ونطق كريم فإنه لا يكون مقبولا حتى يكون قد أمر الله تعالى به. وقوله: (ظلمت نفسي)، قد تقدم شرحه في أول هذا الكتاب ص 50 - 51 وقوله: (لبيك)، مأخوذ من الإقامة، وهو مصدر، وكذلك (سعديك) مصدر، وفيه: أنه لما قال: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض)، وكان قوله (فاطر السموات والأرض) موجبًا عليه الإقرار بموجد الخلق في العالم كله، فلما ركع وسجد أخذ في تفصيل تلك الجملة فقال حينئذ في الركوع: (اللهم لك ركعت)؛ وفي السجود (سجد وجهي للذل خلقه)، فآمن بأن خالق وجهه وشاق سمعه وبصره هو الفاعل بجملة الكون. وقوله: (وخشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي)، أي خشع خشوع معترف، فإن كل واحدة من هذه شاهدة (على قدرة الله) فإن السمع والصر كل منهما فيه من الحاسة وعجائب الصنعة ما يدل من نظر إليها على قدرة صانعها، وكونها لا تستمسك إلا بإمداد إمساكه سبحانه وتعالى. وكذلك قوله: (مخي وعظمي وعصبي)، فإنه يعني أن المخ والعظم والعصب كل واحد من هذه غير الآخر، ولو كان كل واحد منهما من جنس الآخر لم يستقم للإنسان حياة، ولم تتأت له حركة، فإن (90/ ب) مخ الإنسان هو ينبوع حسه لأن الله عز وجل خلقه من أشرف الخلق وأنعمه، فهو شديد الحس لذلك؛ ثم إنه سبحانه وتعالى حصنه في دماغ الآدمي ليكون منبعثًا في الأعصاب إلى جميع أجزائه الحساسة،

فكل موضع من البدن تنقطع الوصلة بينه وبين الدماغ يبطل حسه، ثم ركب العظام من خلق شديد قوي غير ملتوٍ غير ملتوٍ ولا متعجن ليكون داعمًا لهذا الجسد، وقائمًا فيه لينصبه ثم جعل فيه حركات تدور على حسب قيامه وقعوده وتثنيه، فلو لم تكن هذه العظام من ذلك الجسم الصلب لم يستتب للآدمي اعتدال؛ إلا أن هذه العظام لما كانت من جسم قوي لحاجتها إلى الحمل، وكانت تحتاج إلى رفعها وخفضها حقيقة جعل الله تعالى العظام فارغة الدواخل ليخف حملها، وتسهل الحركة فيها، ويبلغ المقصود بها إلا عظم الدماغ، فإنه خلقه من عظم متخلخل تنفذ فيه الأبخرة ولا يحتقن فيفسد الدماغ. وجعل سبحانه وتعالى الحس في لسان الآدمي من أعلا الدماغ في ظاهر اللسان ليذوق الأطعمة، وما في باطنه من أسفل الدماغ، فلذلك يذوق الإنسان بظاهر لسانه دون أسفله، وإنما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الأشياء دون غيرها من أعضاء البدن لكونها أصوله وروابطه، وإلا ففي البدن زهاء خمسة آلاف حكمة تدل على صانعها، وتسبح الله عز وجل بلسان حالها ليلا ونهارًا. وأما قوله: (والشر ليس إليك) فمعناه على قول: (ليس واصلا إليك من أحد). وعلى قول آخر: (إنه لا ينسب العبد شر نفسه إليه). والقول الآخر: قال النضر بن شميل المازني: (أي ليس الشر مما يتقرب به إليك). فلما قضي صلاته وأدى ما عليه كان حينئذ وقت ذكر حاجته قبل انصرافه من

صلاته (91/ أ) فلطلب المغفرة من ذنوبه، واستقال من الإسراف على نفسه. -148 - الحديث الرابع: [عن عبيد الله بن أبي رافع: أن الحرورية لما خرجت على علي بن أبي طالب وهو معه، فقالوا: لا حكم إلا لله، قال علي رضي الله عنه: كلمة حق أريد بها باطل، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصف- لنا- ناسًا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء. يقولون الحق بألسنتهم، ولا يجوز هذا منهم (وأشار إلى حلقه)، من أبغض خلق الله تعالى إليه، منهم أسود، إحدى يديه طبي شاة أو حلمه ثدي، فلما قتلهم علي بن أبي طالب ري الله عنه قال: انظروا، فنظروا فلم يجدوا شيئًا، فقال: ارجعوا، فو الله ما كذبت ولا كذبت- مرتين، أو ثلاثًا، ثم وجدوه في خربة، فأتوا به حتى وضعوه بين يديه. قال عبيد الله: وأنا حاضر ذلك من أمرهم، وقول علي فيهم]. * في هذا الحديث أن القائل قد يقول كلمة الحق ويكون مقصوده بها الباطل كما يروى أن رجلا كان لا يقرأ من القرآن إلا عبس وتولى، ففطن لمقصده ذلك، فأفتى علماء وقته بضرب عنقه. * وفيه دليل على صدق نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - من جهة أنه أخبر بما يكون بعده، فكان كما قال.

-149 - الحديث الخامس: [عن علي أنه: ذكر الخوارج فقال: فيهم رجل مخدج اليد- أو مثدون اليد، أو مودن اليد- لولا أن تبطروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم، على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال: فقلت: أنت سمعت هذا من محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: إي، ورب الكعبة، قالها ثلاثًا]. * فيه من الفقه توفر الثواب في قتل الخوارج، وأنه بلغ إلى أن خاف علي رضي الله عنه أن يبطر أصحابه إذا أخبرهم بثوابهم في قتلهم، وإنما ذكر هذه لئلا يرى أحد في وقت ظهور مثلهم أن قتال المشتركين أولى من قتالهم، بل قتالهم على هذا الكلام أولى من قتال المشركين لأن في ذلك حفظ رأس مال الإسلام وقتال المشركين (91/ ب) هو طلب ربح في الإسلام. -150 - الحديث السادس: [عن زيد بن وهب: أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي، الذين ساروا إلى الخوارج. فقال علي رضي الله عنه: أيها الناس: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يخرج قوم من أمتي يقرأون القرآن. ليس قراءتكم إلى

قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرأن القرآن، يحسبون أنه لهم، وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية) لو يعلم الجيش الذي يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لاتكلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد وليس له ذراع، على عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض، فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام، وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم؟ والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس، فسيروا. قال سلمة بن كهيل: فنزلني زيد بن وهب منزلا منزًلا، حتى قال مررنا على قنطرة فلما التقينا، وعلى الخوراج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي، فقال لهم: ألقوا الرماح، وسلوا سيوفكم من جفونها، فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء، فرجعوا فوحشوا برماحهم، وسلوا السيوف، وشجرهم الناس برماحهم. قال: وقتل بعضهم على بعض، وما صيب من الناس يومئذ إلا رجلان#؛ فقال علي رضي الله عنه: التمسوا فيهم المخدج، فالتمسوا فلم يجدوه، فقام على بنفسه حتى أتى ناسًا قتل بعضهم على بعض. فقال: أخروهم، فوجدوه مما يلي الأرض، فكبر، ثم قال: صدق الله، وبلغ رسوله. قال: فقام إليه عبيدة السلماني، فقال يا أمير المؤمنين: الله الذي لا إله إلا هو، أسمعت هذا الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: إي، والله

الذي لا إله إلا (92/ أ) هو، حتى استخلفه ثلاثًا، وهو يخلف له]. * في هذا الحديث ما سبق شرحه ومما يؤكد ما ذكرناه أن عليًا رضي الله عنه حلف ثلاثًا على أنه سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن هؤلاء إنما أتوا من الغلو في الدين، وكونهم جفت طباعهم حتى ظنوا أن الدين كله إهانة النفوس للقتل، وأكل الخشب ولبس الخشن وغير ذلك، فرأوا الصبر على القتل ظانين أن ذلك مما يقربهم عند الله عز وجل، وكان ذلك غلطًا منهم، وسوء تدبير، فإن الحق هو ما شرعه الله عز وجل في الحنيفية السمحة السهلة، وأن يكونوا أشداء على الكفار، رحماء بينهم، وإني لأخاف على كثير ممن يتظاهر بالزهد والانقطاع في زماننا هذا، وأن يكونوا قد بلغوا في الجهل ومخالفة الحق إلى نحو طبقة هؤلاء من كونهم يرون الإنكار على السلطات والهجران لدار الإمام قربة يزعمونها، وفضيلة يدعونها إلا أنهم ليسوا أهل شوكة ولا لهم قلوب تثبت في الحرب، ولذلك نما أمرهم، وإن الحق إعانة الخلافة فيما فرضه الله لها، وسمعت الشيخ محمد بن يحيي الربيدي رحمه الله يقول: والله الذي لا إله إلا هو، وعلمت أن مجاورتي بالبلد الحرام أفضل من مجاورتي لدار الخلافة للبثت مجاورًا بالبلد الحرام. وليس على الناس إلا تعظيم الخلافة وإكرام الإمامة، وأن ينظروا إلى نيابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وسرح الناس: مواضع رعي مواشيهم ودوابهم.

* ووحشوا برماحهم: رموا بها. * وشجرهم الناس برماحهم: طعنوهم بها. والمخدج: هو الناقص الخلق. -151 - الحديث السابع: [قال علي رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله: مالك تنوق في قريش وتدعنا؟ قال: (وعندكم شيء؟) قلت: نعم بنت حمزة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (إنها لا تحل لي؛ إنها ابنة (92/ ب) أخي من الرضاعة)]. * فيه دليل على أن الحرمة في الرضاعة تجري مجرى الحرمة في النسب. * وفيه دليل على أنه يستحب لمن عنده نسيبة له ان يتحف بها من يحبه ويعلمه أنها عنده. * وتنوق في قريش: أي تحب النكاح فيهم. -152 - الحديث الثامن: [أن علينا خطب فقال: يأيها الناس: أقيموا الحدود على أرقائكم، من أحصن منهم ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن أنا جلدتها، أن أقتلها،

فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أحسنت، أتركها حتى تماثل)]. * فيه جواز تأخير الحد عن المريض لأجل المرض. * وفيه ما يدل على أن من الفواحش ما يفعله الأعراب اليوم من إهمالهم إماءهم حتى يزنين ويلدن من الزنا من غير إنكار، ولا إقامة حد، ألا تراه يقول: (اتقوا الله، وأقيموا الحدود على أرقائكم)؟ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجلد أمة له. -153 - الحديث التاسع: [عن زر قال: قال علي رضي الله عنه: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - إلى: أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق]. * في هذا الحديث من الدليل أن حب على إيمان، وبغضه نفاق. * وفيه دليل على أن الرجل يصدع بالحق وإن كان فيه ثناء على نفسه من غير جبن عن ذلك، ولاسيما إذا وقع الجهل من أهل الشك، كما ذكر عثمان رضي الله عنه عن نفسه من فضله لما أرتاب الجاهلون بفضله. -154 - الحديث العاشر: [عن شريح بن هانئ قال: أتيت عائشة رضي الله عنها أسألها عن المسح

على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه، فقال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (93/ أ) ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم]. * فيه جواز المسح على الخفين في الحضر والسفر مما يحتج به على الشيعة؛ فإنهم لا يجيزون ذلك، ومستندهم بزعمهم إلى علي رضي الله عنه، وهو يروي ما يخالفهم. -155 - الحديث الحادي عشر: [عن علي رضي الله عنه قال: (نهاني- يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أجعل خاتمي في هذه، أو التي تليها. قال بعض الرواة: (نهاني أن أتختم في إصبعي هذه، أو هذه، قال: وأومأ إلى الوسطى والتي تليها. ونهاني عن لبس القسي، وعن جلوس علي المياثر. قال: فأما القسي، فثياب مضلعة يؤتي بها من مصر والشام، وأما المياثر: فشيء كانت تجعله النساء لبعولتهن على الرحل كالقطائف الأرجوان. أخرج منه البخاري: تفسير القسية والميثرة فقط بغير إسناد.

فقال: وقال عاصم عن أبي بردة: قلنا لعلي: ما القسية؟ قال: ثياب أتتنا من الشام أو من مصر مضلعة، فيها حرير؛ فيها أمثال ألا ترج، والمثيرة: ما كانت النساء تصنعه لبعولتهن مثل القطائف. قال البخاري: وقال جرير في حديثه: القسية: ثياب مضلعة يجاء بها من مصر؛ والميثرة: جلود السباع]. * في هذا الحديث دليل على تحريم لبس الحرير، وقد مضي. * وفيه دليل على كراهية المياثر، وإنما كره ذلك لأنه نوع من التنعم والسرف إلا أن يكون ذلك لمن يريد الطاء للرفق ببدنه فلا بأس إذا لم يكن حريرًا * والمثيرة جلود السباع، فيه دليل على أن جلود السباع لا تستعمل وإن دبت لأنها لا تطهر بالدباغ. -156 - الحديث الثاني عشر: [عن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم أهدني وسددني. وفي رواية: قل: اللهم إني أسألك الهدى والسداد، وأذكر بالهدى هدايتك (93/ ب) الطريق، والسداد، سداد السهم].

* هذا الحديث يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حضه على سؤال الهدى والسداد، وأنه ذكر له ما يجمع له في ذكره إياه بين حفظ النطق ومعرفة المغني، فإنه قال: (اذكر بالهدى هدايتك الطريق) وذلك أن السلوك إلى الحق على سبيل السنة يشابهه سلوك الطريق إلى المقصد في الطريق المعروفة، فمتى مال عن الطريق يمينًا أو يسارًا فقد جانب الهداية، والسداد هو التصويب، وسداد السهم التصويب وأن يريد به التنصيص والتحقيق، وأن لا تزيله الأهواء. -157 - الحديث الثالث عشر: عن علي قال: رأينا النبي - صلى الله عليه وسلم - قام فقمنا، وقعد فقعدنا، يعني في الجنازة]. * في هذا الحديث ما يدل على أن القيام والقعود للجنازة قد كانا مشروعين في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - اقتداء بفعله - صلى الله عليه وسلم -. -158 - الحديث الرابع عشر: [عن أبي الهياج قال: قال لي علي رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته. وفي رواية: ولا صورة إلا طمستها].

* في هذا الحديث ما يدل على تحريم الصورة، وأنه يجزي في تغييرها الطمس. * وفيه أيضًا ما يدل على تسوية القبور، وأنه هو السنة، وإن كانت الشيعة قد اعتمدته، ولا نترك السنة لأجل اعتماد الشيعة ذلك. -159 - الحديث الخامس عشر: [عن أبي ساسان، قال: شهدت عثمان بن عفان أتي بالوليد، وقد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان: أحدهما حمران، أنه شرب الخمر، وشهد آخر، أنه رآه يتقيًا. فقال عثمان رضي الله عنه: إنه لم يتقيأ حتى شربها، فقال يا علي، قم (894/ أ) فأجلده، فقال علي: قم، يا حسن فأجلده، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها (فكأنه وجد عليه)، فقال: يا عبد الله بن جعفر، قم فأجلده، فجلده وعلي يعد، حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك، ثم قال: جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي]. * في هذا الحديث ما يدل على اعتقاد (علي) صحة إمامة عثمان، لأنه لما أمر عثمان أن يجلده، أستناب ولده في جلده، وأنه لما قال الحسن: (ول حارها من تولى قارها) كره ذلك منه، وأمر عبد الله بن جعفر بأن يجلده. * وفيه أيضًا ما يدل على أن الحد في الخمر أربعون، وأن ثمانين جائزة، وكل من ذلك حسن. * وقوله: (ول حارها من تولى قارها)، يريد: ول شدة هذا الأمر وصعوبته من

تولى رفاهيته ولينه. * وقول علي رضي الله عنه لعبد الله بن جعفر (قم فأجلده)، يدل على أنه لم يرض ما قاله الحسن، ولذلك لم يعمل به، وإن كان الذي أراه أن الحسن لم يقل ذلك إلا لكراهية أن يستوفى الحد بيده من نسيب عثمان رضي الله عنه، فيكون فيه نوع مما يجر موجدة، إلا أن رأي علي في ذلك أحسن وأقرب للتقوى.

مسند عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه

5 مسند عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أخرج له في الصحيحين سبعة أحاديث المتفق عليه منها اثنان، وباقيها انفرد به البخاري -160 - الحديث الأول: (من المتفق عليه) [عن ابن عباس: أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، حتى إذا كان

بسرغ، لقيه أمراء الأجناد، أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبره أن الوباء قد وقع بالشام. قال ابن عباس: فقال لي عمر: أدع لي المهاجرين الأولين، فدعوتهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام (94/ ب) فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه. وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء. فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي الأنصار، فدعوتهم، فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم. فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي من كان من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، قلم يختلف عليه منهم رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ و-كان عمر يكره خلافه- نعم، تفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديًا له عدوتان؛ إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله،

وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيبًا في بعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا علمًا، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه). قال: فحمد الله عمر بن الخطاب، ثم أنصرف. وفي رواية: فسار حتى أتى المدينة، فقال هذا المحل أو هذا المنزل إن شاء الله. وفي رواية: أن عمر إنما انصرف بالناس عن حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه]. * في هذا الحديث من الفقه أن لا يقدم على أرض الوباء إذا سمع به فيها. * وفيه أيضًا أنه يستحب للإمام أن يشاور أماثل مأموميه. * وفيه أيضًا أن يشاورهم على الترتيب على حسب مقاديرهم، فيبدأ بالأفاضل ثم بمن يليهم، وعلى ذلك، ألا تراه كيف أحضر المهاجرين أولا ثم الأنصار ثم الذين أسلموا بعد الفتح؟ * وفيه أن الإمام أو الوالي ليس مخيرًا في أن يحمل رعيته على ما يقتضيه يقينه من التوكل واطراح الأسباب، بل يذرهم (1195/ أ) بمقتضى الحكمة التي دبر الله بها عموم عباده، فإن عمر رضي الله عنه أجاب أبا عبيدة بن الجراح بما يقتضي قوله بقوله: (أرأيت لو كانت لك إبل)؟ يعني إنه في رعاية الخلق على نحو

رعاية صاحب الإبل، من حيث إن الإبل لا تدري أين يذهب بها راعيها، فلو هبط بها عدوة جدبة لما أنكرت، كما لو هبط بها عدوة خصبة لما شكرت، فإذا ترك الراعي العدوة الخصبة عامدًا أو هبط العدوة الجدية مختارًا ثم قال: إنها لن تأكل إلا ما قدر لها، لقيل له: أما إنها لن تأكل إلا ما قدر لها فهذا قول صحيح، ولكن بئس الراعي تكون أنت إذن، ولذلك (فإن) اليتيم في حجر الوصي، إذا تركه عاريًا جائعًا، تؤذيه الشمس، وتطرق عليه الآفات حتى مات ثم قال: إنه لم يمت إلا بأجله قيل له: صدقت، إنه لم يمت إلا بأجله ولكن بئس الوصي أنت. * وفيه من الفقه أن المؤمن إذا ثبت عنده الحق، وكان في ظاهر الأمر أن ذلك الحق ليس بعزيمة بل رخصة، عدل عن العزيمة إذا كان راعيًا لغيره أو كافلا لسواه. * وفيه أن المؤمن ينبغي أن لا يحتفل بما يستحسنه الجهال، إذا كان ما استحسنوه مما لا يرضي الله به ورسوله والذين آمنوا. * وفيه أن الرجل الصالح قد يلبس عليه الأمر أحيانًا بما يغلب من الأخذ بالعزائم، ويكون مخطئًا، ألا ترى أبا عبيدة كيف قال لعمر: (أفرارًا من قدر الله)؟ فقال له عمر: (لو غيرك قالها يا أبا عبيدة)؟ وفي تفسير هذا قولان: أحدهما، أن المعنى: لو قالها غيرك لعاقبته. والثاني، أن المعنى: هلا تركت هذه الكلمة لغيرك ولم ترتضها لنفسك، أتظن أني أفر من قدر الله، ثم أحتج عليه بما يليق بالحال؟ فقال: (أرأيت لو نزلت واديًا له عدوتان ..)؟، على أن أبا عبيدة لم يقل إلا قولا له مأخذ؛ لكن عمر قال له بفقهه:) نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله). * وفي الحديث من الفقه أن الوباء إذا (95/ ب) وقع بأرض فإن الشرع حظر أن يخرج منها فرارًا أو يقدم عليها.

فأما النهي عن القدوم فلئلا يقول الذي يصيبه: (لو لم أقدم ما أصبت)، فيقف مع الأسباب وينسى المسبب. وأما النهي عن الخروج ففيه ثلاثة أوجه: - أحدها؛ لئلا يظن الخارج أنه يسلم بخروجه، وينسى القدر، فيساكن ذلك فيهلك، فإنه من سبق الكتاب أنه يموت في الوباء لم يمت إلا فيه، ومن سبق له أن لا يموت في الوباء لم يمت فيه. * والثاني؛ لئلا يخرج الأصحاء فيهلك المرضى لعدم من يقوم بمصالحهم، فلا يبقى لهم ممرض، ولا من يواري ميتًا إن مات منهم. * والثالث؛ أن من حصل له شيء من ذلك المرض لم يغنه الخروج فلا يكون له فائدة في خروجه على رأيهم. -161 - الحديث الثاني: [عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: إني لواقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما، فتمنتني أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: أي عم؛ هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، فما حاجتك يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده، حتى يموت الأعجل منا. قال: فتعجبت لذلك.

قال: وغمزني الآخر، فقال لي مثلها. فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه. قال: فابتدراه بسيفهما، فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبراه، فقال: (أيكما قتله)؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال: (هل مسحتما سيفيكما)؟ قالا: لا، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السيفين، فقال: (كلاكما قتله)؛ وقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. والرجلان: معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء].

* فيه (96/ أ) من الفقه جواز أن يختار الرجل في الحرب أن يكون بين رجلين باسلين لقوله: (تمنيت أن أكون بين أضلع منهما). * وفيه استحباب أن يكتم الرجل في الحرب عزمه إلى وقت إمكان الفرصة؛ ألا تراه كيف قال: (فغمزني أحدهما، فقال: أرني أبا جهل، ثم غمزني الآخر وقال لي مثل ذلك)؟ * وفيه أن الإخلاص في الجهاد داعية النصر، ألا ترى إلى قولها أنه: (بلغنا أنه يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)؟ وأنهما غارا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلا جرم أن الله أمكنهما من عدوه وشفى صدورهما منه. * وفيه أنه لما ادعى كل منهما قتله، جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينة كل منهما الدم في نصله؛ فحينئذ قال: (كلاكما قتله). فأما قضاؤه بالسلب لأحدهما دون الآخر، فإن الذي أراه في ذلك أنه نفله إياه من حيث إنه رآه له أصلح؛ وأنه إما قد رآه أمكن لحمل السلاح من صاحبه، أو رآه أفقر إياه على ما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك. وقوله: بين أضلع منهما؛ أي أقوى منهما.

-162 - من أفراد البخار: الحديث الأول: [عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، قال: (كاتبت أمية بن خلف كتابًا: أن يحفظني في صاغيتي بمكة، وأحفظه في صاغيته بالمدينة، فلما ذكرت (الرحمن) قال: لا أعرف الرحمن، كاتبني باسمك الذي كان لك في الجاهلية، فكاتبته (عبد عمرو) فلما كان يوم بدر خرجت لأحرزه، فأبصره بلال، فخرج حتى وقف على مجلس من مجالس الأنصار، فقال: يا معشر الأنصار، أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا أمية، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا، فلما خشيت أن يلحقونا، خلفت لهم ابنه؛ لأشغلهم به، فقتلوه، ثم أتونا حتى لحقونا، وكان أمية رجلا ثقيلا، فقلت: أنزل، فنزل فألقيت عليه نفسي لأمنعه، فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه، (96/ ب) وكان عبد الرحمن يرينا ذلك الأثر في ظهر قدميه]. * في هذا الحديث من الفقه أنه كان في أول الإسلام للمسلم أن يوادع واحدًا من الكفار بحال تخصه، وأن يحفظ له صاغيته؛ وهم أهله؛ ليحفظ هو مثل ذلك. * وفيه جواز أن يحزر المسلم الكافر إذا اتفق له مثل الذي اتفق لعبد الرحمن بن عوف، إلا أن محو (الرحمن) من اسم عبد الرحمن وجعل (عبد عمرو) مكانه أمر قد غفره الله لعبد الرحمن فلا يذكر فيه شيئًا؛ ولولا ذلك لقلت إنه خطأ فاحش. * وفيه جواز أن يقتل الكافر في حصن المسلم في مثل ذلك الموطن.

* وفيه أن المسلم إذا امتنع عليه الكافر بمحاماة من المسلم وإلقاء نفسه عليه، جاز له التوصل إلى قتله حتى لو جرح المسلم، ولما كان فيه قصاص ولا أرش، بل يتعين على المسلم أن يتجنب إصابة المسلم بجهده، وعلى هذا ينبني القول في المسألة المعروفة أنه إذا تترس المشركون بالمسلمين، ولم يمكن الوصول إلى المشركين إلا بإصابة المسلمين فلا حرج. -163 - الحديث الثاني: [عن عبد الرحمن قال: لما قدمنا المدينة آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيني وبين سعد بن الربيع. فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالا، فأقسم لك نصف مالي، وأنظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها، فإذا حلت تزوجتها. فقال له عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق بني قينقاع: قال: فغدًا إليه عبد الرحمن، فأتى بأقط وسمن. قال: ثم تابع الغدو، فما لبثت أن جاء عبد الرحمن عليه أثره صفرة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تزوجت؟ قال: نعم. قال: ومن؟ قال: امرأة من الأنصار. قال: كم سقت؟ قال: زنة نواة من ذهب، أو نواه من

فضة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أولم ولو بشاة)]. * في هذا الحديث من الفقه جواز المؤاخاة بين المسلمين. * وفيه أيضًا حسن الإيثار من الأخ الغني للفقير حتى بإحدى زوجتيه. * (97/ أ) وفيه أيضًا أن أحسن من ذلك ما فعله عبد الرحمن بن عوف من توفيره على أخيه ماله وأهله. * وفيه أيضًا استحباب الكسب. * وفيه أيضًا أن الكسب من السوق لا يتورع منه المؤمن، اللهم إلا أن تكون الأسواق تكثر فيها العقود الفاسدة أو التعامل بالربا ومشاهدة المنكرات، ويضعف المؤمن عن مقاومة إنكار ذلك في كل وقت، فكسبه من غير السوق أصلح لمثله، على أنه لو جاهد في الصبر وأنكر المنكر، وذكر الله في أثناء كسبه لكان كالشجرة الخضراء بني الشجر اليابس. * وفيه أيضًا جواز العقد على وزن نواة من ذهب. وقد ذكر ابن فارس اللغوي أن النواة وزن خمسة دراهم.

* وفيه أيضًا استحباب الوليمة للعرس. * وفيه استحباب أن تكون الوليمة بأكثر من شاة فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أو لم ولو بشاة). * وفيه جواز أن يخرج الرجل إذا كان عروسًا وعليه ردع زعفران. * وفيه أنه لما تغانى أن يأخذ من سعد بن الربيع شيئًا أغناه الله سبحانه حتى جعله من أغنى أهل المدينة. * وفيه أيضًا أنه لما وثق بوعد الله تعالى بالغنى عند التزويج مع فقره بقوله سبحانه {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ... الآية}؛ فتزوج مع فقره واثقًا بوعد الله سبحانه أعقبه الله عز وجل الغنى. -164 - الحديث الثالث: [عن إبراهيم بن عبد الرحمن قال: أتي عبد الرحمن بطعام، وكان صائمًا فقال: قتل مصعب بن عمير، وكان خيرًا مني، فكفن في بردة: إن غطى رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، وقتل حمزة أو رجل آخر- شك إبراهيم-. وفي رواية: قتل حمزة- ولم يشك- قال: وهو خير مني، فلم يوجد ما يكفن فيه إلا بردة، ثم بسط لنا من الدنيا، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل

يبكي (97/ ب) حتى ترك الطعام) * في هذا الحديث من الفقه أن مصعب بن عمير، وحمزة بن عبد المطلب أعوزهما كفن سابغ يكفون فيه، فليس إذن سعة الدنيا مما يدل على خير على الإطلاق. * وفيه أن المؤمن يستحب له إذا بسط له من الدنيا أن يذكر شدة عيش الأفاضل من المؤمنين قبله. * وفيه أن المؤمن ينبغي أن يكون خوفه من الفتنة في الغني أكثر، وأن يكون عند حصول الطيبات أحذر، فأما بكاء عبد الرحمن حتى ترك الطعام فلا أحاسبه في ذلك الوقت الأخ كان وحده، إذ لو كان معه غيره أوقد أتفق له ضيف لم يحسن به أن يبكي حتى يترك الطعام فيكدر على ضيفه. -165 - الحديث الرابع: (عن عبد الرحمن أنه قال لصهيب رضي الله عنهما: (أتق الله، ولا تدع إلى غير أبيك). فقال صهيب ما يسرني أن لي كذا وكذا، وأني فعلت ذلك، ولكني سرقت وأنا صبي). * فيه من الفقه جواز أن ينهى المؤمن أخاه عما يظنه فيه من الوقوع في معصية.

الحديث الخامس: (عن بجالة بن عبيد -ويقال: ابن عبدة- قال: كنت كاتبا لجزء بن معاوية، عم الأحنف فجاء كتاب عمر قبل موته بسنة: (أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، وفرقوا بين كل ذي محرم من المجوس، وأنهم عن الزمزمة)، فقتلنا ثلاث سواحر، وجعلنا نفرق بين المرء وحريمه في كتاب الله، وصنع لهم طعامًا كثيرًا، وجعل السيف على فخذه، وجعل يدعوهم إلى الطعام، فألقوا وقر بغل أو بغلين، وأكلوا بغير زمزمة، ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر). * في هذا الحديث من الفقه جواز قتل الساحر أذا استجاز فعل السحر، وأن لا يترك أحد من المجوس مع أخت ولا أم ولا ذات رحم محرم، من أجل أنهم يرون عندهم نكاح الأمهات والأخوات. * وفيه جواز أخذ الجوية من المجوس، لحديث عبد الرحمن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (98/ أ) لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر. * وفيه أيضًا الحجة على نهي المشركين أن يرفعوا أصواتهم بشيء من أموالهم في دار الإسلام؟ ألا ترى أن عمر رضي الله عنه قد اشترط. عليهم ترك الزمزمة وهي من أخفضت الأصوات؟ فكان المنع مما فوق ذلك أحرى.

مسند طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه

6 مسند طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أخرج له في الصحيحين سبعة أحاديث المتفق عليه منها حديثنا، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثلاثة. -167 - الحديث الأول: (من المتفق عليها) [عن طلحة قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد، ثائر الرأس، يسمع دوري صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو يسأل عن الإسلام.

فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: (خمس صلوات في اليوم والليلة). فقال: هل علي غيرهن؟ قال: (لا، إلا أن تطوع). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وصيام رمضان). قال: هل علي غيره؟ قال: (لا، إلا أن تطوع). قال: وذكر له رسول الله الزكاة، فقال: هل على غيرها؟ قال: (لا، إلا أن تطوع). قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أفلح إن صدق)] في هذا الحديث من الفقه تعيين الفرائض بما ذكر، وأن السائل سأله عن الإسلام، فأخبره بخمس صلوات في اليوم والليلة، وصيام شهر رمضان، والزكاة. وهذا أرى فيه أن إخلاله - صلى الله عليه وسلم - بذكر الشهادتين والحج في هذا الحديث من أجل أن دعاءه إلى الشهادتين كان دعاء ظاهرًا، وأن الدعوة بذلك اتصلت في البادي والحاضر، وكذلك الحج، فهو أمر شائع، وقد كان في الجاهلية قبل الإسلام (98/ ب) وزاد الإسلام في تأكيده، فلم يكن يخفي تحتمه ووجوبه، فأخبره - صلى الله عليه وسلم - عما عدا ذلك من أركان الإسلام. وقوله في كل شيء: (هل على غيره)؟ يعني من جنسه، فكان يجيبه بأنك (لا إلا أن تطوع) في كل باب من الأبواب.

وقوله بعد ذلك: (أفلح إن صدق)، فإنه يستبين صدقة باستمراره على فعله ذلك مدة حياته، وحينئذ يتحقق له الفلاح. وأصل الفلاح في اللغة البقاء. -168 - الحديث الثاني: [عن أبي عثمان النهدي قال: لم يبق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض تلك الأيام التي قاتل فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، غير طلحة وسعد؛ عن حديثهما. وفي رواية: فقت لأبي عثمان وما علمك بذلك؟ فقال: عن حديثهما]. * فيه دليل على أن الصادق يقل خبر. في حق نفسه. -169 - من أفراد البخاري: الحديث الأول: [عن السائب بن يزيد قال: صحبت طلحة بن عبيد الله وسعدًا والمقداد وعبد الرحمن بن عوف، فما سمعت أدحدًًا منهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أني سمعت طلحة يحدث عن يوم أحد]. في الحديث من الفقه تورع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث.

الحديث الثاني: [عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة بن عبيد الله شلاء، وقى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد]. في هذا الحديث من الفقه وجوب وقاية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه وعلى كل مسلم بنفسه وأعضائه ألا ترى طلحة رضي الله عنه وقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده حتى شلت؟ من أفراد مسلم -171 - الحديث الأول: [عن عبد الرحمن بن عثمان قال: كنا مع طلحة ونحن حرم، فأهدى لنا طير، وطلحة راقد، فمنا من أكل، ومنا من تورع فلم يأكل، فلما أستيقظ طلحة، وفق من أكله، وقال: أكلناه مع رسول الله (99/ أ) - صلى الله عليه وسلم -] * في هذا الحديث من الفقه جواز أن يأكل المحرم من صيد لم يكن صيد لأجله.

الحديث الثاني: [عن طلحة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبال من مر وراء ذلك)]. * في هذا الحديث من الفقه أن سترة المصلي يكون مقدارها نحو رادفة الرحل، ورادفة الرحل أطول من مقدمته، ويستحب للمصلي إليها أن يدنو منها، وأن يجعلها إزاء حاجبه الأيمن أو الأيسر حتى ينحرف عن مقابلتها بكل وجهه، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك. -173 - الحديث الثالث: [عن طلحة قال: مررت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوم على رؤوس النخل، فقال: (ما يصنع هؤلاء)؟ فقالوا: يلقحونه؛ يجعلون الذكر في الأنثى فلقح. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما أظن يغني ذلك شيئًا)؛ فأخبروا بذلك، فتركوه، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال: (إن كان ينفعهم فليصنعوه، فإني إنما ظننت ذلك ظنًا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله بشيء فخذوا به، فإني لن أكذب على الله تعالى]. * في هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى جعلهم الفحال في النخلة ظن أن ذلك

مما تحيله عقول الجهال نافعًا، فقال فيه - صلى الله عليه وسلم - ما قال، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - تدارك في ذلك بأن قال إن كان ينفعهم ذلك فليفعلوه؛ (فإني إنما قلت ذلك ظنًا)، وإنه لم يقله عن ربه عز وجل، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يكن له أن يقول عن ربه إلا ما قاله سبحانه وتعالى، وهذا الحديث مفسر وموضح لكل ما ورد من الأحاديث في هذه الصورة.

مسند الزبير بن العوام رضي الله عنه

7 مسند الزبير بن العوام رضي الله عنه أخرج له في الصحيحة تسعة أحاديث. المتفق عب منهما حديثان، وباقيها للبخاري -174 - الحديث الأول: (من المتفق عليه) [(99/ ب) عن الزبير: أن رجلا خاصم الزبير عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شراج الحرة التي يقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه، فاختصما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للزبير: (أسق

يا زبير ثم أرسل إلى جارك)؛ فغضب الأنصاري، ثم قال: يا رسول الله، إن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: (أسق يا زبير ثم أحبس الماء حتى يرجع إلى الجدر). فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ... الآية}. وفي رواية البخاري: (فاستوعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للزبير حقه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك قد أشار على الزبير برأي، أراد فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استوعى للزبير حقه في صريح الحكم)]. * في هذا الحديث من الفقه جواز أن يكون السقي للأول ثم للذي بعده، إلا أن هذا في النخل خاصة وما يجري مجراه. فأما الزرع وما لا يصبر على العطش أكثر من جمعة ونحو ذلك فإن الماء يتناصف فيه بالسوية. قال الله عز وجل: {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم}. * وفيه أيضًا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خفف عن الأنصاري بترك شيء من حق الزبير معه، فإن الزبير من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكم في حقوقه، فلما جهل الأنصاري ذلك وظن الأمر بخلاف ما كان عليه استوعى حق الزبير؛ ليعلم الأنصاري سر الأمر ويتأدب عن أن يسيء ظنه برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذ حق الزبير كله فلم يظلم الأنصاري حقه. والجدر: هو أصل الجدار. والشراج: طريق الماء إلى النخل.

الحديث الثاني: [عن ابن الزبير قال: كنت يوم الأحزاب جعلت -أنا وعمر بن أبي سلمة- مع النساء، يعني نسوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أطم حسان بن ثابت، فنظرت فإذا أنا بالزبير (100/ أ) على فرسه يختلف إلى بني قريظة. فلما رجع قلت: يا أبت، رأيتك تختلف؟ قال: أو هل رأيتني يا بني؟ قلت: نعم، قال: أما والله لقد جمع لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبويه فقال: (فداك أبي وأمي). قال بعض الرواة فيه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟)، فانطلقت، فلما رجعت جمع لي أبويه]. * في هذا الحديث من الفقه جواز حراسة الأطفال والصبيان عن أن يشهدوا موطن الحرب. * وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع للزبير بين أبويه في النداء. وقد سبق ذكر ذلك في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حق سعد بن مالك، وجمعه له بين أبويه- أنظر الصفحة 252، الحديث رقم 126.

-176 - من أفراد البخاري: الحديث الأول: [عن ابن الزبير قال: لما وقف الزبير رضي الله عنه يوم الجمل، دعاني فقمت إلى جنبه، فقال: يا بني إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أراني إلا سأقتل اليوم مظلومًا، وإن من أكبر همي لديني، أفترى ديننا يبقى من مالنا شيئًا؟ ثم قال: يا بني، بع مالنا، فأقض ديني؛ وأوصى بالثلث، وثلثه لبنيه- يعني لبني عبد الله- قال: فإن فضل من مالنا بعد قضاء الدين شيء، فثلثه لولدك. قال عبد الله بن الزبير: فجعل يوصيني بدينه، ويقول: يا بني، إن عجزت عن شيء منه فاستعن بمولاي. قال: فو الله ما دريت ما أراد حتى قلت: يا أبت، من مولاك؟ قال الله؛ قال: فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه فيقضيه، فقال: فقتل الزبير ولم يدع دينارًا ولا درهمًا إلا أرضين، منها الغابة، وإحدى دارًا بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودارًا بالكوفة، ودارًا بمصر. قال: وإنما كان دينه الذي كان عليه: أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه. فيقول الزبير: لا، ولكن هو سلف، وإني أخشى عليه الضيعة، وما ولي إمارة قط، ولا جباية، ولا خراجًا، ولا شيئًا إلا أن يكون في غزوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (100/ ب) أو مع أبي بكر وعمر وعثمان. قال عبد اله بن الزبير رضي الله عنهما: فحسبت ما كان عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف، قال: فلقي حكيم بن حزام عبد الله بن الزبير فقال: يا بن أخي، كم على أخي من الدين؟ قال: فكتمته وقلت: مائة ألف.

فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تسع هذه. فقال عبد الله: أرأيتك إن كانت ألفي ألف ومائتي ألف؟ قال: ما أراكم تطيقون هذا؟ فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي. قال: وكان الزبير قد اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبد الله بألف ألف، ثم قام فقال: من كان له على الزبير شيء فليوافنا بالغابة، قال: فأتاه عبد الله بن جعفر، وكان له على الزبير أربعمائة ألف، فقال لعبد الله: إن شئتم تركتها لكم. قال عبد الله: لا، قال، فإني شئتم جعلتموها (فيما) تؤخرون إن أخرتم، فقال عبد الله: لا، قال: فاقطعوا لي قطعة. قال: فقال عبد الله: لك من ههنا إلى ههنا. قال: فباع عبد الله منها فقضي دينه وأوفاه، وبقي منها أربعة أسهم ونصف. قال: فقدم على معاوية، وعنده عمرو بن عثمان والمنذر بن الزبير وابن زمعة، قال: فقال له معاوية: كم قومت الغابة؟ قال: كل سهم بمائة ألف. قال: كم بقي منها، قال: أربعة أسهم ونصف؛ فقال المنذر بن الزبير: قد أخذت منها سهمًا بمائة ألف، وقال عمرو بن عثمان: قد أخذت سهمًا بمائة ألف، وقال ابن زمعة: قد أخذت سهمًا بمائة ألف، قال: فقال معاوية: كم بقي؟ قال: سهم ونصف. قال: أخذته بخمسين ومائة ألف. قال: وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بستمائة ألف. قال: فلما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه، قال بنو الزبير: أقسم بيننا ميراثنا. قال: والله لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم أربع سنين: ألا من كان (101/ أ) له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه، قال: فجعل كل سنة ينادي في الموسم، فلما مضي أربع سنين، قسم بينهم، ورفع الثلث؛ قال: وكان للزبير أربع نسوة فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائتا ألف. قال: فجميع ماله خمسون ألف

ألف، ومائتا ألف). * في هذا الحديث من الفقه أن الزبير رضي الله عنه رأى أنه يوم الجمل مقتل مظلومًا، وقد كان ما جرى يوم الجمل على ما قد تناهت به الأخبار، ألا أن الحق في ذلك أن الكل كانوا مجتهدين، وكان علي رضي الله عنه مجتهدًا مصيبًا فله أجران، وكان الآخرون مجتهدين غير مصيبين فلهم أجر واحد. وقد روى سفيان أن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه سئل عن القتلى في يوم الجمل من الجانبين فقال: كلهم في الجنة. * في هذا الحديث جواز شغل الرجل الصالح ذمته بالدين االواسع إذا كانت حاله مثل حال الزبير. * وفيه أيضًا ما يدل على غزارة دينه وثقته بالله عز وجل في أمره ولده بأن يستعين بمولاه الكريم في قضاء دينه. * وفيه أيضًا جواز ابتياع الأرض واقتناء الضيعة من غير كراهية، فقد الكراهية لم ترد إلا في اقتناء الضيعة من سواد العراق لكراهية الدخول في أداء الخراج والانقياد للمذلة من أجل ذلك. * وفيه جواز تأخير قسوة االميراث احتياطًا لقضاء الدين كما فعل عبد الله بن الزبير. * وفيه أيضا ما يدل على كلام عبد الله بن جعفر في مبادأئه بأن يضع عن الزبير حقه، وهو ذلك المال الجم، حيث لم يجبه الوصي إلى وضع ما عليه؛ فجعل ذلك آخر ما يقضي. * وفيه ما يدل على كرم حكيم بن حزام ببذله الإعانة في قضاء دين الزبير ابتداءً منه.

-177 - الحديث الثاني: [عن عبد الله بن الزبير قال: قلت للزبير: ما لي لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان؟ قال: أما إني لم أفارقه منذ أسلمت؛ ولكن سمعته يقول: (من كذب على فليتبوأ مقعده من النار)]. * في هذا الحديث من الفقه أن قوله: (لم (101/ ب) أفارقه) يعني: مفارقة مباينة، وليس يريد مفارقة جسدين إذ لم يكن ينام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه أيضًا التحذير من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه قد أتى الوعيد ههنا مطلقًا مثل حديث علي: (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار)، هكذا مطلقًا من غير تقييد بتعمد. -178 - الحديث الثالث: (عن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره، فيبيعها، فيكف الله بها وجهه- وفي رواية: فيستعين بثمنها- خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه).

في هذا الحديث استحباب الكسب ما كان- حتى بالاحتطاب- فإنه خير من المسألة- * وفيه أيضًا كراهية المسألة لن يقدر على الاكتساب أعطي أو حرم -179 - الحديث الرابع: [عن الزبير قال: لقيت يوم بدر عبيدة (ويقال عبيدة) بن سعيد بن العاص، وهو مدجج، لا يرى منه إلا عيناه، وكان يكني أبا ذات الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش، فحملت عليه بالعنزة، فطعنته ي عينه فمات. قال هشام بن عروة: فأخبرت أن الزبير قال: لقد وضعت رجلي عليه، ثم تمطأت، فكان الجهد أن نزعتها وقد انثنى طرفاها. وقال عروة: فسأله إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه إياها، فلما قبض أخذها، ثم طلبها أبو بكر فأعطاه، فلما قبض أبو بكر سألها عمر، فأعطاه إياها، فلما قبض عمر أخذها، ثم طلبها عثمان منه فأعطاه إياها، فلما قتل وقعت إلى آل علي، فطلبها عبد الله بن الزبير فكانت عنده حتى قتل). * فيه من الفقه ذكر شدة الزبير وقوة بطشه، لأنه تمطى حتى استخرج العنزة، وهي الحربة، من أبي ذات الكرش وهو مدجج، والمدجج: الغائض في الحديد. * وفيه أيضًا أن هذه العنزة أخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان

(102/ أ) ثم آل علي ثم عبد الله تبركًا بمكانها، من حيث إن الله عز وجل قتل بها عدوًا، ونصر بها وليًا. -185 - الحديث الخامس: [عن عروة: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للزبير بن العوام يوم اليرموك: ألا تشد فنشد معك؟ قال: إني إن شددت كذبتم؟ قالوا: لا نفعل، فحمل عليهم حتى شق صفوفهم، فجاوزهم وما معه أحد، ثم رجع مقبلا، فأخذوا بلجامه، فضربوه ضربتين على عاتقه، بينهما ضربة ضربها يوم بدر. قال عروة: فكنت أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب وأنا صغير. قال عروة: وكان معه عبد الله، وهو ابن عشر سنين، فحمله على فرس، ووكل به (رجلا)] * في هدا الحديث من الفقه ستة بأس الزبير، وأنه لما أغراه قوم بالحملة ولاح له أنهم لا يشدون معه، حمل إذ عزم، وأنه شق الصفوف حتى تجاوزها، ويدل على ذلك عودة من ورائها حين ضرب ضربتين على عاتقه، كان بينهما ضربة ضربها يوم بدر، وأن ذلك كان من الآثار المستحسنة؛ حتى قال عروة بن الزبير: (كنت أدخل يدي فيها ألعب بها). * وفيه جواز أن يدخل الصبي في الحرب، ولكان في حالة يحتاط عليه فيها كيلا

يهجم بغرته فيصاب فيهوهن المسلمون به. وقوله: (إن شددت كذبتم؟)، فإني لا أراه إلا على نحو الاستفهام، يعنى به: إن شددت، أنا أتفعلون أنتم التأخر؟. -181 - الحديث السادس: [عن الزبير قال: ضربت للمهاجرين يوم بدر بمائة سهم]. * في هذا الحديث جواز عد السهام التي يرمي بها في سبيل الله عز وجل؛ ولا يكون عدها خارجًا خرج الإعجاب بل على وجه تعديد النعم، فقد جاء في الحديث أنه: (من رمى بسهم في سبيل الله فيبلغ- أخطأ أو أصاب- كان كتحرير رقبة من ولد إسماعيل). -182 - الحديث السابع: (عن هشام بن عروة قال: قال عروة: كان سيف الزبير محلى بالفضة، وكان سيف عروة محلة بفضة). * (102/ ب) في هذا الحديث جواز تحلية السيف بالفضة.

مسند سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

8 مسند سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أخرج له في الصحيحين ثمانية وثلاثون حديثًا. المتفق عليه خمسة عشر، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بثمانية عشر. -183 - الحديث الأول: (من المتفق عليه) [أخرجناه مختصرًا، وأخرجه البخاري بطوله من حديث جابر بن سمرة، قال: شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر رضي الله عنه فعزله واستعمل عليهم.

عمارًا، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فأرسل إليه فقال: يا أبا إسحاق، إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي، فقال: أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أخرم عنها، أصلي صلاة العشي فأركد في الأولين، وأخف في الأخريين: قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق، فأرسل معه رجلا- أو رجالا- إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة؛ فلم يدع مسجدًا إلا سأل عنه، ويثنون معروفًا، حتى دخل مسجدًا لبني عبس، فقام رجل منهم، يقال له أسامة بن قتادة، يكني أبا سعدة. فقال: أما إذا نشدتنا، فإن سعدًا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية. قال سعدك أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا، قام رياء وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن .. فكان بعد ذلك إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد. قال الراوي عن جابر بن سمرة: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق، يغمزهن. وفي رواية: أما أنا فأمد في الأوليين، وأحذف في الأخريين، ولا ألو ما اقتديت به من صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: صدقت؛ ذاك الظن بك؛ أو ظني بك. وللبخاري في رواية: قال عبد الملك بن عمير: فأنا رأيته يتعرض للإماء في السكك، فإذا قيل له: كيف أنت يا أبا سعدة؟ قال: كبير مفتون أصابتني

دعوة سعد]. * في (103/ أ) هذا الحديث من الفقه جواز أن يعزل الإمام العامل تطيبًا لقلوب رعيته، وإن غلب على ظنه تقولهم عليه؛ ألا تراه كيف عزل سعدًا بمجرد شكايتهم؛ مع كونه قال له: (ذاك الظن بك يا أبا إسحاق)؛ يعنى تجويد كل الأعمال؟ * وفيه أيضًا من الفقه أنه إذا عزل الإمام العامل تطيبًا لقلوب رعيته؛ فإنه يتتبع كشف ما ذكروه عنه؛ ليكون العمل على يقين، ولتعلم الرعية أنه لا يهمل الكشف عما يقال له، فلا يحتجون في ترك مواجهتهم إياه بالحق بهيبة ولايته. * وفيه أنهم لما رموه بكبير من الأمر من نسبته إلى الجهل بالصلاة، أرسل عمر لكشف ذلك مع كونه قال له: (ذلك الظن بك). * وفيه أيضًا أن عمر ظن به الحسن الجميل ظنا يسوغ معه الاعتبار، إذ لو علم بطلان قولهم يقينًا لم يكن ليشرع في كشف ولا بحث. وقوله: (أركد في الأوليين) يعني أثبت فيهما، وهذا من قول سعد تنبيه منه على ما عداه من أحكام الصلاة، وأن هذا من آدابها وسنتها، وهو أن يطيل الأوليين؛ من الظهر والعصر؛ لأن صلاتا العشي، ويقتصر في الأخريين على فاتحة الكتاب، فهو يعني: إني إذا كنت قد حفظت عليهم آداب الصلاة إلى هذا الحق فإن أحفظ غيرها من الأمور المكشوفة الظاهرة أولى وأحرى. وأراد: إني لم أضع هذا القدر مع كوني ذا أشغال ومهمات، فإذا كنت مراعيًا للسنة من مقادير القيام والقراءة، فكيف أضيع ما فوقها؟

* وفيه أيًضا جواز أن يعتبر قول من شكا من الرعية بما عند غيرهم من أمثالهم؛ ألا تراه كيف طاف بسعد على المساجد؟! * وفيه أيضًا أنه لا يسأل عنه إلا بحضوره ومشهده؛ لئلا يقال في حقه ما لا يوافق عليه، ولئلا يحتاج في الموافقة بينهم إلى تقدير مرة أخرى. * وفيه أيضًا أن سعدًا لما قدح فيه أبو سعدة بما لم يكن كما قال من قوله: (إنه لا يسير بالسرية (103/ ب)، ولا يقسم بالسوية؟! لا يعدل في القضية)، لم يخلد في هذا إلى أن يقابله عليه بقولٍ ولا بسوطٍ؟ بل عدل إلى دعاء الله تعالى؛ واثقًا بأن الله سبحانه وتعالى إذا دعاه المظلوم أجابه- وإن كان أميرًا- ليتبين صدق سعد وكذب أبى سعدة فيما بعد تلك الحال وإلى يوم القيامة، وكان سعدًا أراد أن يكون الله تعالى هو المزكي له والشاهد ببطلان ما قيل عنه بما أظهر من إجابة دعوته. -184 - الحديث الثاني: [عن سعد قال: أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رهطًا، وأنا جالس فيهم، فترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم رجلا، هو أعجبهم إلي، فقمت فقلت: مالك عن فلان؟ والله إني لأراه مؤمنًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أو مسلمًا) ذكر ذلك سعد ثلاثًا، وأجابه بمثل ذلك، ثم قال: (إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه، خشية أن يكب في النار]. وفي رواية قال الزهري: فترى أن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل

الصالح. وفي رواية لمسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم قسمًا وترك رجلا]. * فيه من الفقه جواز أن ينبه الرجل الإمام على بعض ما عساه أن يحل به. ألا ترى سعدًا كيف راجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرار في ذلك فلم ينكر عليه؟! * وفيه أن الإيمان درجة من وراء الإسلام، فأما الإسلام فحقيقة من حيث اللغة الاستسلام، فقد يكون عن معرفة صحة ما عليه من أستسلم له في الأكثر، وأنه يسلم نفسه راضيًا بما أسلم نفسه فيه عن علم بصحته، وقد يكون على نحو ما فعله الأعراب من إسلامهم مخافة القتل والحرب مع غير عقيدة متيقنة؛ قال الله عز وجل {قالت الأعراب أمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}، فأما الإيمان فأصله التصديق وهو درجات، ومذهب أهل السنة أنه قول وعمل، وهذا الحديث صريح في فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الإسلام والإيمان. * وفي هذا الحديث (104/ أ) من الفقه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إني أعطى الرجل، وغيره أحب إلي منه)؛ ففيه جواز أن يكون الذي عليه خاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المعطي لعلمه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان الحرمان يرد به بعض موارد الهلكة من سوء ظنه في الله تعالى، أو من شكه في الإسلام أو سوء احتماله للفقر وغير ذلك، ويجو أن يكون المحذور عليه هو المحروم من كونه قد كان يعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما يصلحه فقره، فلو قد استغنى أبطره غناء أو شغله عن ربه، أو حلت به آفة من آفات سواء احتمال الغنى، وعلى هذا ينبغي لكل مؤمن أن يحسن الظن بربه سبحانه وتعالى في قسمه الأرزاق بين عباده، وأنه سبحانه لم يضع من ذلك شيئًا

إلا في موضعه ومحله، فإنه قال سبحانه: {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء}. -185 - الحديث الثالث: [عن سعد قال: جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجة الوداع، من وجع كان اشتد بي، فقلت: يا رسول الله، إني قد بلغ بي الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: (لا)، قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: (لا) قلت: فالثلث؟ قال: (الثلث، والثلث كثير- أو كبير- إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تتفق نفقه تبتغي بها وجه الله، إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في في امرأتك)، قال: فقلت يا رسول الله، أخلف بعد أصحابي؟ قال: (إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله، إلا أرددت به درجة ورفعه، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون. اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن (104/ ب) خولة؛ يرثي له رسول الله - أن مات بمكة). وفي رواية: (وكان يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها). وفي رواية لمسلم: أن سعدًا قال: (إني خفت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم أشف سعدًا، اللهم أشف سعدًا، اللهم أشف سعدًا). ومنه: (إن صدقتك من مالك صدقة، وإن نفقتك على عيالك صدقة،

وإن ما تأكل امرأتك من مالك صدقة). * في هذا الحديث من الفقه استحباب عيادة المريض، ومن آداب العيادة أن تكون بعد ثلاث، لأن ما دونها لا يؤثر في الانقطاع تأثيرًا يقتضي العيادة. * وفيه أيضًا جواز أن يخبر الرجل بشدة ألمه ولا يكون فلك شكوى، لقوله: (إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى) فلم ينكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه. * وفيه أيضًا أن سعدًا لما قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يرثني إلا ابنة لي)، فأجابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء)، فأشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنك لن تموت في هذه المرضة، وأنك ستبقى إلى أن يصير لك ورثة جماعة. * وفيه أيضًا ما يدل على أن الرجل إذا لم يكن له وارث، أن المستحب له أن يتصدق بما يتركه، لأن سعدًا اعتذر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصدقة بكل ماله بما ذكر من أن له بنتًا ترثه. وقوله: (أن تذر ورثتك أغنياء)، خير دليل على أن ترك الرجل ورثته أغنياء خير من تركهم فقراء إذا أمكنه؛ لأن الخلق عيال الله، وهذا المتصدق (فإنما) يخرج ماله إلى بعض عيال الله عز وجل، وورثته (فهم) من بعض عيال الله عز وجل، فإذا عزم على التصدق، فالأولى أن يبدأ بمن يجمع بين الصدقة عليه وبين صلة الرحم فيه من ورثته؛ ولأن الرجل كاسب لورثته في حال حياته، فقد سعي لهم مدة حياته؛ فإذا ترك لهم بعده شيئًا كان أيضًا كالساعي لهم بما ترك لهم من ماله في أيديهم، فلذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (105/ أ) (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير).

* وفيه أيضًا من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل للرجل من ماله الثلث ليتصدق به في وجوه يراها أولى من ورثته لأنه قد يكون في الناس من يعرف ناسًا ذوي ضرورة ملحقة فهم في العاجل أولى من ورثته؛ فلو كان محظورًا على الرجل أن يتصدق من ماله بشيء لكان ذلك إضرارًا بأولئك المستحقين، كلما أنه لو كان مفسوحًا للرجل أن يتصدق بكل ماله لكان ذلك أضرارًا بورثته، فلما كان الأمر في ذلك من الجانبين اقتضت حكمة الله ما قدره رسول الله بالثلث؛ إلا أنه إنما قدر الثلث من حيث ترجيح الورثة بجانب الفاقة وجانب الرحم، فصار الورثة يدلون بسببين والفقراء غيرهم يدلون بسبب واحد، فلذلك صار الثلث للأجانب والثلثان للأقارب. * وفيه من الفقه أنه ينبغي للرجل المؤمن أن لا ينفق نفقة في بيته وعلى أهله وزوجته وولده إلا لله عز وجل؟ ألا تراه يقول: (إنك لا تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله عز وجل إلا أحرت بها حتى ما تجعل في امرأتك)؟ وإنما خص المرأة بذلك لأنه ليس فيمن يطعمه من ولده من يمازج إطعامه له نوع شهوة إلا ما يجعله في امرأته، فهو يعني - صلى الله عليه وسلم -: أنه إذا كان هذا ممتزجًا بنوع شهوة وأنت تثاب عليه، فما عداه أولى وأخرى. * وفي الحديث أيضًا ما يدل على فقه سعد؛ فإنه فهم من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ليس بميت في تلك المرضة فلذلك قال: (أخلف بعد أصحابي؟)، فإنما خاف سعد أن يكون تخلفه بعد أصحاب ناقصًا له من فضله، فعرفه - صلى الله عليه وسلم - أن طول عمر المؤمن زيادة درجات له بمقتضى كل عمل يعمله في كل يوم وساعته ونفس، فإن المؤمن لا يستوي يوماه أبدًا بل هو في زيادة. * وفيه أيضًا ما يدل على أن المؤمن كما ينتفع به المؤمنون فكذلك يستضر به الفاسقون والمجرمون؛ لأنه قاله (105/ ب): (ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون).

* وفي هذا الحديث دليل على أن المهاجر لا يستغنى عن الدعاء له في إمضاء هجرته قبولا وارتضاه من الله سبحانه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم أمض لأصحابي هجرتهم). وقوله: (ولا تردهم على أعقابهم) دليل على الخوف من الارتداد بعد الإيمان والنكوص على العقبين بعد الهجرة. * وفيه أيضًا توجع رسول - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن خولة أن مات بمكة؟ بمعنى: كيف فاته الفضل في أن يموت بأرض هجرته؟! * وفيه أيضًا دليل على أن استحباب الدعاء للمؤمن بطول البقاء مشروع؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم أشف سعدًا، ثلاث مرات). * وفيه دليل على أن نفقة الرجل على عياله تحسب له صدقة، وهذا إذا كان منفقًا ما ينفق من ذلك لله عز وجل، لأن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسعد (إن نفقتك على عيالك صدقة)، لحسن ظنه بسعد رضي الله عنه، وأنه لا ينفق شيئًا على نفسه ولا على عياله إلا وهو يقصد بذلك وجه الله عز وجل، وهكذا كل مؤمن إلا أن يغفل فيذكر فإذا هو مبصر إن شاء الله. - 186 - الحديث الرابع: [عن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم على الناس، فحرم من أجل مسألته)]. * في هذا الحديث من الفقه لتحذير من فضول القول وكثرة السؤال على طريق التعنت، ولاسيما في مقامات تعتريها خطرات من يرى نفسه متدينًا، فيرى

التضييق على عباد الله في دينهم مستصوبًا، فلا يكون ممن شرح الله صدره للإسلام، بل ممن قال فيه سبحانه وتعالى: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا كأنما يصعد في السماء}، ويرى بضيق عين بصيرته أن الله سبحانه وتعالى لم ينعم على عباده (106/ أ) إلا بحسب ما عبدوه؛ فيتعرض لكل ما فيه تشديد وتضييق، فذلك المراد بهذا الحديث؛ ألا تراه - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم على الناس، فحرم من أجل مسألته)؟ وإنما عظم جزمه لأنه جنى على المسلمين بما طرقه عليهم، ويجوز أن يكون جرمه من حيث رده لفيض كرم الله سبحانه وتعالى على عباده. -187 - الحديث الخامس: [عن سعد قال: ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزلت هذه الآية {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله} ... الآية]. * في هذا الحديث من الفقه ما يدل على فضل عبد الله بن سلام، وما يحض على قبول أخباره؛ لأن رسول الله؛ قال: لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنه من أهل الجنة)، وإنما نال الجنة لأنه أقبل على الحق حين أرتد عنه أهل الكتاب، فكان في معنى شخص يكون في صف المسلمين فينكسرون فيثبت وحده، أو في صف المشركين فيصرون على

كفرهم، ويثبت بمفرده. ومعنى قوله: {شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله} أي مثل ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأت ببدع لم يأت به المرسلون قبله. -188 - الحديث السادس: [عن سعد قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من تصبح بسبع تمرات عجوة، لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر). وفي أفراد مسلم: من أكل سبع تمرات، مما بين لابتيها، حين يصبح، لم يضره سم حتى يمسي]. * الذي أراه في هذا الحديث أن التصبح بالتمر على الإطلاق فيه بركة؛ لأنه إذا أكله المؤمن مفكرًا في قدره في عز وجل التي أخرجته من حيث أخرجته، فقد أتى من الإيمان ما تذرع به قلبه عن أن يعمل فيه سحر، وكذلك إذا كان أول طعام يتناوله فإنه يدفع الله به السم؛ لأن السموم مخلوقة على مضادة أجزاء (106/ ب) الإنسان، وما خلقه الله تعالى في التمر على مناسبة أجزاء الإنسان، وشاهدت في بعض الكتب أن كل بلد يكثر فيها التمر لا يعرض فيه الجذام البتة، وليس من الثمار ما يمكن أن يتخذ قوتًا يعايش عليه دهرًا سوى التمر. * وفيه أيضًا أن ثمرة مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أشد التمور نشفًا وجفافًل، فهي إلى أن تكون أبلغ في العمل من غيرها أولى، ويجوز أن يكون هذا مما خص الله به تمر المدينة لجوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن الإيمان بالبركة في التمرات التي تؤخذ من

النخلات التي هي في جوار النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا انتشر على أجزاء الإنسان في باطنه وظاهره دفع عنه كل سم وسحر. * وفي هذا الحديث أن المؤمن أكله من التمرات في الغالب هو هذا العدد إذا تصبح به، فإنه على سبيل اللهنة وهي تمسك فؤاد الجائع؛ والفقه في أنه يتصبح بالتمرات أنه يريد به جلاها عن الفؤاد لأن التمر إن صادف على معدة من أكله شيئًا جلاه، وإن صادف معدة الأكل خالية غذاها، والرطب في ذلك كله أفضل ما يفطر عليه الصائم؛ فإن لم يكن فالتمر، فإن لم يكن فالماء. واللابة: هي الحجارة السود، فالمدينة بين لابتين أي حرتين في جانبيها. -189 - الحديث السابع: [عن سعد قال: استأذن عمر على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعنده نسوة من قريش يكلمنه- وفي رواية: يسألنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن على صوته- فلما استأذن عمر فمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدخل عمر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك. فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله بأبي وأمي (زاد البرقاني: ما أضحكك؟)؛ قال: (عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب) قال عمر: فأنت يا رسول الله أحق أن يهبن، ثم قال عمر: أي عدوات أنفسهن، أتهبني ولا (107/ أ) تهين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلن: نعم، أنت أفظ وأغلظ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إيه يا بن الخطاب، والذي نفسي بيده، ما لقيك

الشيطان سالكًا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك). * في هذا الحديث من الفقه أن المؤمنين قد يكونون مختلفي الأحوال، ففيهم الرفيق وفيهم الشديد، وأن عمر رضي الله عنه كان قويًا شديدًا في الله عز وجل. * وفيه أيضًا أن حالة الرفق التي لا تنزل إلى ضعف، فوق حال القوة التي تجاوز إلى عنف؛ لأن حالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل الحالات. * وفيه أيضًا أنهن حين أحتجبن عند علمهن بدخول عمر، ضحك صلى الله عليه وسلم؛ وضحكة هذا فيما أرى سرور برفقه بهن، الذي بان مقداره بفرقهن من شدة عمر، وهو صاحبه وتبعه. * وفيه أيضًا دليل على فضيلة عمر وشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له بأن الشيطان إذا رآه سالكًا فجًا سلك فجا غير فجه. * وفيه أيضا أن عمر قال لهن لما احتجبن عند دخوله: (أتينني ولا تبهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!)، تعجبًا من جرأتهن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنهن أحسن الجواب في قولهن: (أنت أفظ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأغلظ) أي أننا نجترئ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا طمعًا في لطفه، وأنهن وصفن عمر رضي أدله عنه بأنه أفظ من رسول الله وأغلظ، وهذا النطق جمع لهن بين الاعتراف بشدة عمر وفضيلة رسول - صلى الله عليه وسلم -، فخرجن من القول مشكورات.

- 190 - الحديث الثامن: [عن سعد قال: خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بن أبي طالب في غزوة تبوك فقال: يا رسول الله، أتخلفني في النساء والصبيان؟ فقال: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي)؟! وفي أفراد مسلم أنه قال لعلي عليه السلام: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي]. * فيه من الفقه ما يدل على (107/ ب) فضيلة علي رضي الله عنه. * وفيه ما يدل على انه لم يرض لنفسه التخلف عن القتال، حرصًا على الجهاد في سبيل الله عز وجل. * وفيه أيضًا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟)؛ فذلك أنه خلفه في قومه. * وفيه أيضًا دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احترز في النطق احتياطيًا مما علمه أنه سينتهي إليه أقوال أهل البدع من إعطائهم عليا فوق حقه، وعلى رضي الله عنه غير راضٍ بذلك ولا مؤثر له؛ فلذلك استثنى - صلى الله عليه وسلم - فقال: (غير أنه لا نبي بعدي) يعني بذلك - صلى الله عليه وسلم -: إنك وإن شملك وهارون الاستخلاف، وقلت لك: (أما ترضى أن تكون من هارون عن صحبته، ولا لنفاسة عليه بخير يعلمه في

مرافقته؛ ولكنه لحالٍ اقتضت بذلك؛ (إلا أنه لا نبي بعدي)، لا أنت ولا غيرك. -191 - الحديث التاسع: [عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: صليت إلى جنب أبي فطبقت بين كفيء ووضعتهما بين فخذي، فنهاني عن ذلك وقال: كنا نفعل هذا، فنهينا عنه، وأمرنا أن نضع أيدينا على الركب] * في هذا الحديث من الفقه النهي عن التطبيق بين اليدين وجعلهما بين الفخذين، والمعنى في ذلك أن وضع كل واحدة من اليدين على كل واحدة من الركبتين أقوى للراكع وأمكن، وأجدر أن لا يسأم من طول ركوعه لو طال، وقد جرى التقدير في أصل الخلقة أنه إذا تمكنت اليدان من الركبتين أمتد الظهر، واستقر فيه الاستواء؛ فيقال لمن قنع بيسير الانحناء في ظهره وسماه ركوعًا: أجعل يديك فوق ركبتيك؛ ليكون أمكن لك؛ فقد خلقك الله عز وجل مهيئًا لذلك بوضع أصل الخلقة. - 192 - الحديث العاشر: [عن سعد (108/ أ) قال: رأيت عن يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بياضٍ، يقاتلان عنه كأشد القتال، وما رأيتهما قبل

ولا بعد؛ يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام]. * في هذا الحديث من الفقه جواز رؤية الملائكة لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - بحضرته؛ غير أنهم يكونون على صورة البشر. * وفيه أيضًا أنهما أثرا التزيي بزي المجاهدين في سبيل الله عز وجل والتشبه بهم في القتال، واختارا أشد المواضع مضاعًا، وحاميًا عن أشرف من كان في ذلك الوقت من أهل الأرض والسماء. * وفيه أيضًا أن الثياب البيض أفضل الثياب؛ فأما استمرار لبس الدولة العباسية بالسواد ففيه معنى، وهو أنه أبعد الألوان من الزينة، وأقربها إلى الزهد في الدنيا، ولذلك لبسه الزهاد والنساك وذوو الحزن. -193 - الحديث الحادي عشر: [عن سعد قال: رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن لاختصينا].

* في هذا الحديث من الفقه أن أصول الله - صلى الله عليه وسلم - رد التبتل، وهو الانقطاع عن الناس والنساء، والبتول المنقطعة الشبه والمثل، وإنما رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التبتل على عثمان بن مظعون لأنه من الرهبانية التي لم تكتب علينا، والتبتل الذي رده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابن مظعون لا يسوغ لغيره استعماله، اللهم إلا أن لا يجد الإنسان نكاحًا فليستعفف مترقبًا أن يغنيه الله من فضله، ويوجد له الطول للنكاح، أو رجل لا تتوق نفسه إلى النساء أصلا؛ فإن هذا قد أختلف فيه، وهل الاشتغال بالنكاح له أفضل أم التخلي لنوافل العبادة؟. والذي أراه فيه خاصة تخليه لأنه مكره لنفسه، وغير معف لزوجته، وقول الفقهاء بالتخلي لنفل العبادة أراه مشيرًا إلى أن النكاح لمن تتوق نفسه إليه فوق (108/ ب) ما يسمى نفلا. وقوله: (لو أذن له لاختصينا) أي أنه - صلى الله عليه وسلم - بردة تبتل ابن مظعون ما كان كل منا يتبع فيه خواطره، وأنه كان يفضي ذلك إلى ما ذكره من حيث المبالغة، الا أنهم كانوا يستجيزون ذلك، لأن الاختصاء عدوان محض، فلا يفعله أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبدًا. -194 - الحديث الثاني عشر: [عن سعد قال: جمع لي النبي - صلى الله عليه وسلم - أبويه يوم أحد. وفي رواية للبخاري: تقل لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنانته يوم أحد وقال: (أرم فداك أبي وأمي). وفي رواية لمسلم: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين، فقال

له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أرم؛ فداك أبي وأمي) قال: فنزعت السهم ليس فيه نصل فأصبت جنبه فسقط، فانكشفت عورته، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نظرت إلى نواجذه]. * في هذا الحديث من الفقه جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بين أبويه وقد تقدم تفسيره في مسند علي رضي الله عنه. * وفيه أيضًا من الفقه جواز التعاون من المسلمين، وأن يساعد المجاهد بمناولة السهام، ونثل الكنانة؛ ليريح الرامي ذلك الزمان الذي كان يتناول فيه سهام نفسه، ولتثبيت الله تعالى الناثل للكنانة كما يثبت الرامي. فأما الرمي بسهم ليس فيه نصل فلا أراه إلا عن عوز أو عن عجلة، حيث أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد استهدف المشرك له فلم ير أن يؤخره لئلا يزول عن المكان المستهدف. * وفي الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن في شدة الحروب قد ملكه خوف ولا أستحوذ عليه روع، ولا اشتملت عليه كآبة، بل كان - صلى الله عليه وسلم - بقلب ثابت، وثغر ضاحك، حتى قال سعد: (رأيت نواجذه). وفي هذا المعنى أجاد أبو الطيب إذ يقول: (109/ أ) تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم.

وفيه ما يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سره ما شاهده من خور عود المشرك، وأنه لما وقع فيه سهم ليس فيه نصل وقع حتى انكشفت عورته، فكان ذلك مما أضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. -195 - الحديث الثالث عشر: [عن سعد وأبي بكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أدى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام)]. * في هذا الحديث من الفقه تحريم الانتساب إلى غير الوالد، وإن علا؛؟ لقول الله عز وجل: {واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق}. * وفيه أيضًا أنه يشتد السخط على من انتمى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه، وهذا مما يدل على أنه يراد به الأب الأعلى، فلو قد انتمى منتمٍ إلى أب من الناس، وهو لا يعلم الحقيقة في ضد ذلك لم يكن داخلا في هذا الوعيد إن شاء الله، وذلك لأن ارتكاب الفاحشة إذا كان منها ما تعر له الأعراض وتنكس له الرؤوس وتخجل فيه الوجوه فإنما ذلك كله من أجل أن نتيجته أن يكون شخص لغير أبيه، فإذا سعى إنسان في أن ينتمي إلى غير أبيه راضيًا بأحوال أولاد الزنا فقد رضي من الدناءة وسقوط المنزلة بما ينافي أخلاق أهل الجنة.

-196 - الحديث الرابع عشر: [عن سعيد قال: (والله إني لأول رجل من العرب رمي يسهم في سبيل الله عز وجل، ولقد كنا تغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لنا طعام إلا ورق الحبلة وهذا السمر، حتى إن كان أحدنا ليضع كما تضع الشاة، ما له خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام؟! لقد خبت إذن وصل عملي)، وكانوا وشوا به إلى عمر، وقالوا: لا يحسن يصلي]. * في هذا الحديث من الفقه جواز أن يذكر الرجل بعض عمله الصالح إذا غمطه الجاهل، توقيًا بذلك من سوء القالة، لا تزكية للنفس. * وفيه أيضًا دليل على جواز أكل ورق (109/ ب) الشجر عند اشتداد الجوع. * وفيه أيضًا أن العبد الصالح قد يسلط عليه الفساق من يعضهه فيستنصر العاضه في دينه لا المعضوه. والحبلة: شجر العضاه؛ والعضاه والسمر. نوعان من الشجر. وتعزرني: توبخني على التقصير.

-197 - الحديث الخامس عشر: (متفق عليه من ترجمتين) [هو في أفراد البخاري من رواية عائشة بنت سعد عن أبيها، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء. وهو بمعناه في أفراد مسلم، عن عامر بن سعد عن أبيه في آخر حديث تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما بين لابتى المدينة قال: ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء. وهو في أفراد مسلم عن سعد وأبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: اللهم بارك لأهل المدينة في مدهم. وفيه: من أراد أهلها بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء]. * في هذا الحديث من الفقه شرف المدينة، صلى الله على ساكنها وسلم؛ وأنه لا يريد أحد أهلها بسوء إلا انماع؛ والانمياع في الحديث فيما أرى هو انفتات عزيمته وانتكاث صريمته. ولابتا المدينة: حرتاها. * وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا لهم بالبركة في مدهم إشارة منه إلى أن الكيل يجلب إليهم في الأكثر. * فأما الفقه في ذوب من يريد أهلها بسوء فإن من شأن الماء أن يجمد الأشياء

ولا يذيبها، إلا الملح فإنه يذوب فيه، فكلا مخالفًا للأشياء فشبههم بالملح الذي يسرع ذوبه إذا وقع في الماء ولا يستمسك بخلاف غيره، وأراد أنهم يذوبون في الأشياء التي مجمد فيها غيرهم؛ فما الظن بهم لو وقعوا فيما يذوب فيه غيرهم؛ فكأنه قال: إذا ذابوا في الماء فكيف في النار؟!. -198 - من أفراد البخاري الحديث الأول: [عن عبد الله بن عمر أن سعدًا حدثه (110/ أ) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه مسح على الخفين، وأن ابن عمر سأل عن ذلك عمر فقال: نعم، إذا حدثك سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، فلا تسأل عنه غيره]. * فيه من الفقه جواز المسح على الخفين. * وفيه تعديل عمر لسعد وتزكيته * وفيه أيضًا أنه مرضي، لقوله: (إذا حدثك سعد فلا تسأل عنه غيره). -199 - الحديث الثاني: [عن سعد قال: لقد رأيتني وأنا ثلث الإسلام. وفي لفظ: ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام، وإني لثلث الإسلام].

* في هذا الحديث من الفقه أنه لم يسبقه إلى الإسلام إلا رجلان. * وفيه أنه مكث سبعة أيام وهو ثلث الإسلام. * وفيه أيضًا دليل على أنه كان من أقدم المسلمين إسلامًا، ألا ترى أنه يقول: (ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه)؟! -200 - الحديث الثالث: [عن سعد أنه كان يأمر بهؤلاء الخمس، ويحدثهن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدجال، وأعوذ بك من عذاب القبر). وفي رواية عمرو بن ميمون عن سعد: أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن دبر الصلاة، وذكر الخمس، إلا أنه قال: (أعوذ بك من فتنة الدنيا) بدل الدجال]. * في هذا الحديث من الفقه شرف هذه الكلمات، والحض على تعلمهن فإنهن عود؛ إلا أنه يفحصن عن معانٍ إذا فكر فيها المؤمن تعوذ من كل شيء من ذلك. فأول ذلك البخل، وحده منع الحق الذي فرضه الله تعالى في الأموال، وهو الزكاة، فإذا أخرج الرجل زكاة ماله لم يسم بخيلا إلا أن البخل قد يعرض في غير المال مثل أن يبخل الرجل بالسلام الأمل أو بالبشر في وجه أخيه أو بالخبر الطيب الذي يسر قلبه به (110/ ب) ونحو ذلك، وإن من أبخل البخل

وأفظعه أن يبخل الرجل على أخيه المسلم بفضل ربه سبحانه، فيحسده أو يبخل عليه بمال غيره إذا رزقه الله منه، وإن من قبيح البخل البخل بالعلم مع علم العالم أن علمه يزكو على الإنفاق. * وأما الجبن فإن شعبه متفرقة، دان بن أفظعه أن يجبن عن معاملة الله في تصديق وعوده، ثم تقديم العوائد على مقتضيات شرعه. * وأما أرذل العمر فحالة يتناهى فيها الضعف لعلو السن وتكاثف العجز فيعود الإنسان كلا على الناس وثقلا على الناس وثقلا على غيره، ويعجز عن عبادة الله عز وجل وتحمل أعباء حوائج الناس، وقد يكون أرذل العمر زمان البطالة أخلاق الصبيان. * وفي هذا الحديث ما يدل على أن عذاب القبر حق، وكذلك ما حذر منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسيح الدجال حق أيضًا. * وفي رواية أخرى: (فتنة الدنيا) وتلك أمض كبدًا مما ذكر كله. -201 - الحديث الرابع: [عن مصعب بن سعد قال: سألت أبي، يعني عن قوله: {هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا} أهم الحرورية؟ قال: لا، هم اليهود والنصارى، أما اليهود، فكذبوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، والنصارى: كذبوا بالجنة، قالوا: لا طعام فيها ولا شراب. والحرورية: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه}.

وكان سعد رضي الله عنه: يسميهم الفاسقين]. * في هذا الحديث من الفقه أن سعدًا لما سمع الله عز وجل يقول: {هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا}؛ فاخبر الله سبحانه وتعالى نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - عن قوم ضلوا- بلفظ الماضي- فكان منصرفًا إلى اليهود والنصارى، وإن الحرورية حدثوا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف ينصرف إليهم؟ * وفيه من فقه سعد أنه لما ذكر أن اليهود كذبوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - (111/ أ)، قال: (النصارى كذبوا بالجنة)، يعني بعد تكذيبهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى أنهم زادوا على اليهود في تكذيبهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أن كذبوا بالجنة. * وقوله: (الحرورية: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه}؛ هذا كلام صحيح لأنهم وقفوا بالدخول في الإسلام، وإنما دخل عليهم ما دخل من حيث الغلو. وأرى أن هذا الميثاق الذي أشار إليه سعد هو الذي ذكره الله تعالى، وإنما نقضوا ميثاقهم لاطراحهم أمر رسول الله في ترك طاعتهم عليا أمير المؤمنين رضي الله عنه. وقوله: (وكان سعد يسميهم الفاسقين)، فإنها تسمية واقعة؛ إلا أنها فيمن كفر عليا وعثمان رضي الله عنهما تضم إليها أنه كفر وفسق، فإن كان فيهم من لم ينتبه به الضلال إلى أن يكفر عليا أو عثمان رضي الله عنهما فهو فاسق.

- 202 - الحديث الخامس: [عن مصعب بن سعد: أن سعدًا رأى له فضلا على من دونه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟)] * فيه من الفقه أن سعدًا أنما رأى الفضل له على من دونه لغنائه في الإسلام، وقوته في الجهاد، وجده في أمر الله تعالى. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟) يعني أن الذي جعلته سببًا لفضيلتك من قوتك في أمر الله تعالى فإنما أمدك فيه، وشاركك في حصوله الفقراء والضعفاء؛ وجعلها كلمة شاملة لسعد وغيره. -203 - من أفراد مسلم الحديث الأول: [عن سعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الوزغ، وسماه فويسقا). * إنما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتل الوزغ لأنه من ذوات السموم، وقد ذكره الأطباء في ذوات السموم، وقد يجبن بعض الناس عن قتله، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله. فأما تسميته إياه (فويسقا) فإنها تكون مستترة فلا يحس بها إلا إذا خرجت (111/ ب) للأذى؛ كما يقال: فسقت الرطبة؛ إذا خرجت من قشرها.

-204 - الحديث الثاني: [عن سعد قال: كنت أرى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه وعن يساره، حتى أرى بياض خده]. * في هذا من الفقه استحباب الاستقصاء في التفاته في التسليم؛ ليكون ذلك كاشفًا للإلباس عن المأمومين، فإن الرجل فيما دود هذا الالتفات قد يعرض له في الصلاة أن يلتفت وذلك مكروه؛ ففرق بالمبالغة في هذا الالتفات بين الالتفاتين، يشعر به أنه خروج من الصلاة، وليكون أيضًا في التفاته مواجهًا للملكين بوجهه غاية الإمكان لكونهما ملكين كريمين، فلا يكون إقباله عليهما إقبالا فيه بعض لأزورار. -205 - الحديث الثالث: [قال سعد: الحدوا لي لحدا، وانصبوا علي اللبن نصبًا، كما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم -] * في هذا الحديث من الفقه أن السنة هي اللحد وليست بالشق، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (اللحد لنا، والشق لغيرنا) يعني اليهود والنصارى.

* وقوله: (انصبوا علي اللبن نصبا)، يعني لا تبنوه بناء. -206 - الحديث الرابع: [عن عامر بن سعد؛ أن سعدًا ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبدًا يقطع شجرًا أو يخبطه فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم- أو عليهم- ما أخذ من غلامهم. فقال: معاذ الله أن أرد شيئًا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي أن يرد عليهم]. * فيه من الفقه أن حرم المدينة لا يعضد شجرة، ولا يخبط، ذلك لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم ما بين لابتيها كما حرم مكة؛ وأخذ سلب العاضد عقوبة، ومعناه أنه قد هجم على حرم الإسلام فاسقط حرمة الحرم، فلذلك عوقب بأخذ السلب، وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبل رضي الله عنه. * وفيه من الفقه أن الشجر فيما حول المدينة ومكة مما ينبغي أن يوفر ورقه عليه ليكثر ظله، وليكون القصاد والمسافرون يتفيؤون ظلاله، ولأن خبط الشجر، وإزالة (112/ أ) ورقه عنه يسلط عليه من حر الشمس في أماكن كان يقيها من الحر، فيكون أدعى ألي تلف الشجر وسر انجعافه. والخبط يسلخ غصن الشجرة أو يكسره، فيكون كمن هدم شيئًا من أشخاص الحرم، لأن الشجرة كالكلول.

-207 - الحديث الخامس: [عن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، رضيت بالله ربًا، وبمحمد رسولا، وبالإسلام دينا؛ غفر له ذنبه)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الإنسان ينبغي له عند دخول وقت كل صلاة أن يجدد لفظ الإسلام؛ لما عساه أن يكون قد عارضه فيما بين الصلاتين من شك أو شرك، أو عرض له عارض شبهة فلم يجل صدأة بالنظر والاستدلال، فإذا جدد الشهادة محا ذلك ونقاه، فيدخل إلى الصلاة بإسلام جديد ليس فيه ما يرد الصلاة ولا يفسدها. وقد تقدم شرح هذا المعنى. * وقوله: (رضيت بالله ربًا، وبمحمد رسولا، وبالإسلام دينًا، فهذا ترتيب يدل على كمال التوفيق، فإنه بدأ بذكر الله ثم عقبه بذكر رسوله ثم ثلث بذكر الإسلام. ومعنى: رضيت بالله ربًا)؛ أي لست بمكره على ذلك بل أنا راض. - 208 - الحديث السادس: [عن عامر بن سعد قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعد بن أبي وقاص فقال: ما منعك أن تسب أبًا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثًا قالهن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلن أسبه؛ لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلى من حمر النعم؛ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له- (وقد) خلفه في بعض مغازيه- فقال له علي:

يا رسول الله، خلفتني مع النساء والصبيان؟. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون (112/ ب) من موسى؟ إلا أنه لا نبوة بعدي). وسمعته يقول يوم خيبر: (لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)، ويحبه الله ورسوله)، قال: فتطاولنا، فقال: (أدعو لي عليًا) فأتى به أرمد، فبصق في عينيه ودفع إليه الراية، ففتح الله عليه. ولما نزلت هذه الآية: {.. ندع أبناءنا وأبناءكم} دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًا وفاطمة وحسنا وحسينًا فقال: (اللهم هؤلاء أهلي]. * في هذا الحديث ما يدل على أن معاوية أثار ما عند سعد بقوله: (ما منعك- يعني: أي شيء صدك- عن أن تسب أبا تراب)؟ فهو سائل له، ويدلل على هذا أن سعدًا لما ذكر فضائل علي لم ينكر عليه معاوية، وأن سعدًا قال كل شيء من ذلك قول تمكن وشرح حال عن غير جمجمة، ولعله لا يبعد أن يكون قد أراد معاوية أن يؤدب بقول سعد بعض أحداث الأسنان من أهله أو أتباعه بما يذكره سعد في حق علي، وإنه قد روي لنا أنه كان يثني عليه ويقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغره بالعلم غرًا، ويرد الفتاوى عنه إليه في حالة اشتداد ما بينهما، ولم يكن منكرًا فضل على رضي الله عنهما، وإنما كان القتال مستندًا إلى اجتهاد في فرع، أخطأ فيه معاوية وأصاب علي، وليس ذلك بمخرج له من الإيمان. وقول سعد في الأولى: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أما نرضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟)، فقد سبق شرحه.

وأما قوله: (لأعطين الراية رجلا يحب اله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)، فإن هذا حق لا شك فيه فإن عليا رضي الله عنه كان يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله؟ لأنه كان عن المؤمنين الذين قال الله تعالى فيهم: {يحبهم ويحبونه} وممن شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن حبه إيمان، وبغضه نفاق. وقوله: (تطاولنا)؛ أي إلى إصابة قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لأعطين الراية رجلا يحب الله)، وأنه استدعي بعلي، وكان أرمد، فدل على أن النص في ذلك قد كان من الله عز وجل، لأنه لم يرد الولاية كونه أرمد (113/ أ) بحضور جماعة أصحاء. وقوله: (فبصق في عينيه)، أي داوى ألمه، ثم بعثه ليلقى العدو؛ وهو ذو بسطة في الجسم؛ على الجيش ينبغي أن يكود صحيح الأعضاء متمكنًا من نفسه، ثابتًا في رأيه؛ وإنما بصق في عينيه، واثقًا بأن ريقه - صلى الله عليه وسلم - يكفي في برء عينه. * وهذا أيضًا دليل على وكادة التداوي؛ فإن ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان دواء لعين علي رضي الله عنه، ولو برأت عينه من غير ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تجز تلك الفضيلة، ولم تظهر المعجزة في أنه في بريقه. * وأنه لما نزل قول الله تعالى: {.. ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ..} دعا عليًا وفاطمة حسنًا وحسينًا؛ فإن هذا يدل على أن المباهلة إنما استعملت في الأعز، وأعز ما عند الآدمي الطفل حتى يكبر، والحسن والحسين رضي الله عنهما كانا صبيين؛ والولد، فكانت فاطمة ولده؛ والحميم،

وهو علي، وكان صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكن هناك أهل بيت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بوهل فيهم؛ وإنه لم يعرضهم للمباهلة إلا على ثقة منه بالفلج، لعزتهم عليه، وأنهم أهل لكل فضيلة، وفرض حبهم على كل مسلم. -290 - الحديث السابع: [عن عامر بن سعد قال: كان سعد بن أبي وقاص في إبله، فجاءه ابنه عمر، فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب؛ فينزل، فقال له: أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟ فضرب (سعد) في صدره، فقال: أسكت؛ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)]. * في هذا الحديث من الفقه أن فراسة المؤمن صادقة، فإذا سعدًا تفرس في أبنه عمر ما آل أمره إليه أخيرًا في نوبة الحسين رضي الله عنه. * وفيه أيضًا ما يدل على أن المؤمن هذا تفرس أو كان عنده علم فإنه يتعين عليه إظهاره، ولو في ولده، ومما يدل على سوء (139/ ب) توفيق عمر بن سعد أنه لما جاءه لم يحضه على الجهاد في سبيل الله، ولا على الغيرة على الإسلام، وإنما لامه على ترك المنازعة في الملك. * وقوله: (إن الله يحب العبد التقى الغني الخفي) يعنى بالتقي الورع عن محارم الله تعالى، والغني بالله سبحانه؛ والخفي يكون حريصًا على إخفاء فقره، فبذلك يكون خفيًا، إذ لو كان مثل هؤلاء السؤال لم يخف له حال.

-210 - الحديث الثامن: [عن عامر بن سعد عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إني أحرم ما بين لابتي المدينة، أن يقطع عضاهها، أو يقتل صيدها). وقال: (المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لإوائها وجهدها إلا كنت له شفيعًا- أو شهيدًا- يوم القيامة)]. * هذا الحديث يدل على شرف المدينة، ونبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به عن حالها بعد موته - صلى الله عليه وسلم - بما آل إليه أمرها من المشقة والجهد لأنها كانت في زمنة، وبعد ذلك فيها سعة لكثرة الغاشي والجالب. * وقوله: (إني أحرم ما بين لابتي المدينة)، كأن فيه إشعارًا بموته - صلى الله عليه وسلم - فيها، لأن الصيد الذي يأوي إليها كالمستجير بقبره - صلى الله عليه وسلم -، كما أنه لا يتعرض لصيد مكة لأنه يأوي إلى بيت الله تعالى، وفي هذا إشارة إلى أن لا يتعرض لأذى مسلم،

لأن الصيد قد منع من أذاه إذا لجأ إلى الحرم، فكيف، لا يمنع من أذى من لجأ إلى الإسلام؟! وقوله: (المدينة خير لو كانوا يعلمون): أي لو علموا أن جوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شدة الأحوال خير من جوار غيره في رخاء من العيش لما فارقوها، وإنما يعرف هذا أهل العلم. * وقوله: (إلا كنت له شفيعا أو شهيدًا يوم القيامة) وهذا يدل على شرف الإقامة بالمدينة. -211 - الحديث التاسع: [عن عامر (114/ أ) بن سعد عن أبيه، أنه أقبل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه ودعا ربه طويلا، ثم انصرف إلينا، فقال: (سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة؛ سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها)]. * في هذا الحديث من الفقه أن هذه المسائل الثلاث شاملة جارية. والسنة: الجوع، ويعني بالغرق أن لا يأتي مثل طوفان نوح. * فأما ذكر الناس؛ فالذي ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأجله هو التحذير لأمته من أن يسول لهم الشيطان أن قتالهم بينهم بتأويل، ما فيه ثواب على الإطلاق، وإنما يكون الثواب في مقابلة الفئة الخارجة على الإمام تحت راية الإمام، فأما غير ذلك

فلا. وأما ما فعله على في يوم الجمل وصفين والنهروان فلم يكن عنده مندوحة، وإنما وضع الحرج عمن حضر الجمل لكونهم أماثل أصحاب رسول االله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يخرجوا قصدًا لقتال الإمام، وإنما هاجت هائجة تفاقم معها الأمر. والحال في صفين والنهروان، قد تقدم القول فيها، (ص 279 - 280 - 282) ففي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تجعل بأسهم بينهم)، تحذير من الخروج على الإمام. -212 - الحديث العاشر: [عن سعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه، خير له من أن يمتلئ شعرًا)]. * حكى أبو عبيد في هذا الحديث قول من تأوله على أنه من الشعر الذي كان فيه هجوم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم زيف ذلك وقال أن الكلمة الواحدة من ذلك كفر، وإنما أراد أن يمتلئ جوف الإنسان (114/ ب) حتى لا يكون فيه غير الشعر أو

يكون الغالب عليه الشعر. قال يحيى بن محمد- قدس الله روحه- وهذا القول لا بأس به، ألا أن الذي أراه أنه تحذير من الشعر الذي كانت الجاهلية تضمنه ما تتخذه شريعة لأنفسها، يفتون بها ويردون إليها، كقول الشاعر: وفي الشر نجاة حين لا ينجيك إنسان وقال الآخر: قتلت عمي فقتلت عمكا .. وكقول أخر ومن لم يظلم يظلم وقول قائلهم: (كيف ندى من لا أكل، ولا شرب ولا صاح ولا استهل، ومثل ذلك يطل؟ ..)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أسجع كسجع الأعراب؟) أي: أتبطل حدا من حدود الله لأجل قوافيك؟! وقوله: (وري جوفه)، ويرى من الوري، وهو داء في الجوف، ووراه ذلك الداء إذا أصابه. - 213 - الحديث الحادي عشر: [عن سعد قال: ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده على الأخرى ثم قال:

(الشهر هكذا وهكذا) ثم نقص في الثالثة إصبعا)]. * فيه من الفقه حسن التعلم، فإن حال هذا التعليم في العدد يفهمه كل سامع له حتى الأطفال. -214 - الحديث الثاني عشر: [عن سعد قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله، علمني كلامًا أقوله. قال: (قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم) قال: فهؤلاء لربي، فما لي؟ قال: (قل، اللهم أغفر لي وارحمني، واهدني، وارزقني، وعافني)؛ شك الراوي في: عافني]. * بدأ صلى الله عليه وسلم بكلمة الإخلاص التي هي أصل الأصول، فكل فرع يبتنى عليها، وأتبعها بقوله: (الله أكبر كبيرًا) والذي ذكر سيبويه أن أكبر بمعنى كبير لأن أكبر من باب أفعل، وليس لله مثل، ولا أراه في هذا، إلا أنه تأكيد لمعنى إعراب هذه الكلمة، فالمعنى الله أكبر، أعني كبيرًا، فجاء هذا كالتفسير لقول الله أكبر، وقوله: (الحمد لله كثيرًا) (115/ أ)، كثيرًا ها هنا صفة مصدر محذوف بتقدير فعل يأتي المصدر مؤكدًا له، والنكرة في هذا المقام أعم من المعرفة؛ وقوله: (سبحان الله)؛ التسبيح: التبرئة. فأما العالمون: فجمع عالم، وهذه الكلمة إذا نظر إلى وضع اشتقاقها وأنها من عين ولام وميم، فإنها تكون مشيرة إلى معنى الدليل، فإن العلم:

الجبل، وسمي علمًا لأنه يستدل به على الطريق والبلاد والنواحي، والعلم الذي يكون على رأس الأمير دليل أيضًا على المكان الذي فيه الأمير، والعلم في الطريق: يدل على أن الطريق عنده، ومعالم الدار تدل عليها، ومن ذلك المعلم. والأعلم: المشقوق الشفة العليا وذلك يدل على باطن ما في فمه. والعلام: نبت أحمر، ينبت أول الربيع، يستدل به على زمان نبات الربيع، فصار مجموع هذا يدل على أن الكلمة تعر ب على أنها للدلالة، فالعالمون الدالون على الله عز وجل، فلذلك أفتتح الكتاب بقوله: {الحمد لله رب العالمين} وهذا من عجيب الفصاحة. * وقوله: (لا حول ولا قوة إلا بالله) في هذا نفي قوة القائل وقدرته إلا بالله، فقد تبرأ قائلها من العجب بعمله. وفيها معنى آخر: لا حول لأحد يقصد الأذى، ولا قوة إلا بالله، فيوجب هذا الاعتقاد خروج خوف الخلق من المقر بذلك. وفي (العزيز) وجهان: أحدهما، الممتنع، والثاني: أنه الكريم، فإنه سبحانه، أعز الأشياء عند عبده المؤمن. وفي (الحكيم) قولان: أحدهما، المحكم. والثاني: الحاكم؛ فمن قال المحكم فإن فعيلا بمعنى مفعل كبير؛ نقول: أليم، بمعنى مؤلم، وسميع بمعنى مسمع. قال الشاعر: أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع

ومن قال: الحاكم، فإن فعيلا بمعنى فاعل كبير، نقول قدير بمعنى قادر. * وقوله: (هؤلاء لربي) يعني أنهن للثناء على الله عز وجل، وذكر صفاته؛ (فما لي؟) فأراد أن يعلمه كيف يسأل ربه (115/ ب) عز وجل، فجمع له - صلى الله عليه وسلم - خير الدنيا والآخرة في قوله: (اللهم، أغفر لي) فقدم له الاستغفار؛ ليطهر المحل من دنس يمنع نزول الفضل؛ وعقبة بالرحمة، لأن الغفر أصله الستر، وقد يستر من لا يرحم، فأراد الرحمة بعد المغفرة ليتكامل التطهير؛ ثم علمه طلب الهداية، وهي شاملة لأمور كثيرة منها: حسن الطلب من الله عز وجل. ثم قوله: (وارزقني)؛ ومن مليح القول: أنه لم يقل له وارزقني كذا؛ فكان يكون الطلب مقصورًا على فن، فلما أطلق انصرف إلى كل مطلوب يرزق مثله، ولا ينصرف إلى ألم ولا إلى عذاب، لأن ذلك لا يسمى رزقًا. وقوله: (عافني)؛ المعنى: إنك إذا أنعمت على بهذه النعم، فعافني في ذلك من البلاء على كثرة صنوفه، فأطلق المعافاة ليتناول كل ما يطلب العافية منه من كل أذى في الدنيا والآخرة. -215 - الحديث الثالث عشر: عن سعد قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أيعجز أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنة؟) فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: (يسبح مائة تسبيحة، فيكتب له ألف حسنة، أو يحط عنه ألف خطيئة). هكذا هو في كتاب مسلم في جميع الروايات عن موسى: (أو يحط).

قال البرقاني: ورواه شعبة وأبو عوانة ويحيى بن سعيد عن موسى فقالوا: ويحط بغير ألف]. * في هذا الحديث الترغيب في التسبيح، وحصره بعدد لا أراه إلا لأن المؤمن إذا كان منور القلب لم ير مربيًا إلا كان ذلك من الأسباب التي تقتضي عنده تسبيح الله تعالى، فهو على المعنى إذا سبح الله في كل يوم مائة مرة كان قد شهد لله عز وجل بالتسبيح في مائة طريق. وقوله: (أو يحط عنه ألف خطيئة)؛ من رواه بالألف، فإن (أو) قد تأتي بمعنى الواو، وإنما جاء الحديث (116/ أ) في ذكر التسبيح مائة مرة على الإطلاق ليكون هذا النطق متناولا من يقول (سبحان الله) مائة مرة، على معنى أن أصل ذلك هو عن الموجب الذي قدم ذكره، فيحسبه الله تعالى لقائله من حيث أن ذلك مطلعه، وإليه مرجعه. -216 - الحديث الرابع عشر: [عن سعد قال: أنزلت في أربع آيات من القرآن. قال: حلفت أم سعد ألا تكلمه حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشر ب؛ قالت: زعمت أن الله وصاك بوالديك، فأنا أمك، وأنا أمرك بهذا، قال: مكثت ثلاثًا حتى غشي عليها من الجهد، فقام ابن لها يقال له عمارة فسقاها، فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله تعالى في القرآن هذه الآية: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنًا، وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما- وصاحبهما في الدنيا معروفًا}. وقال: وأصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنيمة

عظيمة، فإذا فيها سيف فأخذته، فأتيت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: نفلني هذا السيف يا رسول الله، فأنا من قد علمت حاله، فقال: (رده (من) حيث أخذته)؛ فانطلقت حتى إذا أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي، فرجعت إليه فقلت: أعطينه، قال: فشد لي صوته: (رده من حيث أخذته)؛ قال فأنزل الله تعالى: {يسألونك عن الأنفال ...}. ومرضت فأرسلت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتاني، فقلت: دعني أقسم مالي حيث شئت، قال: فأبى، قال: قلت: النصف. قال: فأبى، قلت: الثلث فسكت، فكان بعد الثلث جائزًا. قال: وأتيت على نفر من الأنصار والمهاجرين، فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمرًا، وذلك قبل أتحرم الخمر، قال: فأتيتهم في حش- والحش: البستان-، فإذا رأس جزور مشوي عندهم، وزق من خمر فأكلت وشربت معهم، قال: فذكرت المهاجرون والأنصار عندهم، فقلت: المهاجرون خير (16/ ب) من الأنصار قال: فأخذ رجل أحد لحيي الرأس فضربني به، فجرح أنفي، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فأنزل الله سبحانه في- يعني نفسه- شأن الخمر: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان}. وفي حديث شبعة في قصة أم سعد قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصا ثم أو جروها، وفي أخره: فضرب أنف سعد ففزره، وكان أنف سعد مفزورًا].

* هذا الحديث يدل على شرف سعد وعلو منزلته، لأن الله تعالى أنزل هذه الآيات في شأنه، فاستمرت أحكامها باقية إلى يوم القيامة تعود عليه بركتها، ويناله من خيرها، فمن بركة هذه القصة أن الله تعالى أفتى فيها حيث كانت الوصاة قد تقدمت منه سبحانه ببر الوالدين وتتابعت، وكان حق الله عز وجل أولى في عبادته، فلما اعترض هذا الحق المؤكد ما هو أوكد منه لم يكن له فضل إلا ما أنزل الله سبحانه وتعالى لأنه شرح الحال قال: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنًا} فأخبر سبحانه أن وصاته سبقت. وقوله: {وإن جاهداك} المعنى وقلنا له: وإن جاهداك، والخطاب بقوله {وإن جاهداك} تأكيد لأجل المخاطبة، والمعنى وإن ألزماك أن تشرك بي ما ليس لك به علم، أي ما ليس عليه علم؛ لأنه لا دليل على الشرك. وقوله: {فلا تطعها} دليل على قرنه برهما؛ لأنه لم يقصد: فأعصهما، ولا فأهنهما، وإنما إذا اأمتنع المرفق بهما فلا تطعهما، ثم عاد فأوصى بها فقال: {وصاحبهما في الدنيا معروفًا} وذلك لأن صحبتهما بالمعروف تخرج أن يكون هجرانك لهما عن شيء راجع إليك، ولا من أجل أنهما كانا قد حرماك ما لهما أو قد منعاك رفقهما أو غير ذلك، وإنما يكون إعراضك عنهما لأجل الله سبحانه وتعالى بالحد الذي حده من أنك لا تطيعهما في الشرك. وأما القصة الثانية فإن فيها من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (17/ أ) أدبه في المرة الأولى، وأنه لم يكن لسعد أن يأخذ على يده من المغنم شيئًا ثم يقول: (نفلني هذا) لأنه يكون هو الذي نفل نفسه، ولو رخص لسعد ذلك لكان يكون داعيًا إلى تفريق الأنفال قبل القسمة، فلما عاوده في المرة الثانية بعد ذلك الثانية بعد ذلك شد عليه صوته؛ لأنه كان في المرة الأولى معذورًا من حيث ظن جواز ذلك، فلما عاد بعد النهي أوجب ذلك أن شد عليه صوته بالإنكار، ولما علم الله عز وجل أن الحاسم

لأطماع الكل في مثل ذلك ما ينزله من كلامه المجيد؛ أنزل قوله: {يسألونك عن الأنفال} فصار لا نفل إلا إلى الأمير، ينقل من يرى، وليس لأحد أن يأخذ شيئًا على يده، ولا يجوز النفل من مال قد عمه الاشتراك إلا لمصلحة عائدة على الكل، وإنما جعل للأمير ليتفقد ذلك فإذا رأى في المسلم داعيًا، أو شاهد فيهم ذا حاجة أو ما تكود فيه المصلحة عائدة على الكل، كان ذلك جائزًا، وأما ما يفعله غير الأمير فإنما هو لنفسه وحده. وأما القصة الثالثة في الخمر فإنها تدل على أن الله عز وجل شرف أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأكرمها بأن حرم عليها الخمر، لما في الخمر من جماع الإثم، وإنها داعية إلى سفك دماء وانتهاك أعراض، وضياع أموال، وتغير عقول وغير ذلك، كلما جرى لسعد في فزر أنفه. وأما ما يرجع إلى معنى الوصية بالثلث فقد تقدم ذكره فيما مضى، (ص326). والجهد: مفتوح الجيم هو المشقة، ومضمومها: الطاقة. والقبض: محركًا اسم ما يقبض ويجمع من الغنائم. وشجروا فاها: فتحوه. والوجور: ما أدخل في الفم من دواء أو غذاء تستدرك به القوة. والفرز: الشق. والميسر: الجزور الذي يتقامرون عليه، سمي ميسرًا لأنه يجزا أجزاء فكأنه وضع موضع التجربة، وكل شيء جربته فقد يسرته، والياسر الجازر، لأنه يجزي لحم الجزور. والأنصاب: الحجارة أو الأصنام الذي كانت الجاهلية تنصبها (117/ ب)، وتعبدها؛ واحدها نصب.

والأزلام: القداح التي كانوا يستقسمون بها في أمورهم. -217 - الحديث الخامس عشر: [عن سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو حديث أسامة بن زيد في الطاعون- أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن هذا الوجع رجز وعذاب عذب به أناس من قبلكم، فإذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا بلغكم إنه بأرض فلا تدخلوها)]. * وقد سبق تفسير هذا الحديث في مسند عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، في الحديث رقم (160) الصفحة (290) وما بعدها. * وقوله: (إن رجز أو بقية عذاب)، والرجز: العذاب المقلقل. وكذلك هو، إلا أنه قد روي في حديث سيأتي: الطاعون شهادة، وإنما كان شهادة لمن مات به من حيث عن من ثبت قلبه فيه مع مشاهدة كثرة الموتى، وتخييل الشيطان أن هذا من فساد الهواء والماء وغير ذلك من الأسباب التي ينسى فيها المسبب، فإذا هذا من فساد الهواء والماء وغير ذلك من الأسباب التي ينسى فيها المسبب، فإذا ثبت قلب المؤمن حتى أماط عن قلبه هذه التخيلات، وأعتقد أنه لا يموت أحد إلا بأجله، فإن الشهادة جاءته من قبل هذا الإيمان. * قوله: (عذب به أناس ممن كان قبلكم)؛ المعنى أنه لما قربت آجالهم اختلت عقائدهم فجمع لهم بين الموت بالطاعون، وخروجهم من الدنيا كفارًا.

-218 - الحديث السادس عشر: [عن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة)] * في معنى هذا الحديث ثلاثة أوجه كلها تدل على صدق نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصحة نبوته: أحدها؛ أنه أشار بذلك إلى ما قد شوهد من ائتلاف الكلمة بالغرب واستعمالهم مذهب مالك بن أنس رضي الله عنه، وأنهم متمسكون بالحديث غير مازجين لمذهبه بشيء من الكلام، وليس في الغرب مذهبان فيجري فيهما خلاف، ولا ينسب إلى هذا المذهب شيء من البدع فيما علمت. الثاني؛ أنه أراد بذكر الغرب أنه ثغر يتاخم المشركين مثل قسطنطينة وغيرها، والجهاد فيه لا (118/ ب) يزال متصلا، فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن كلمة الإسلام لا تزال في ذلك الثغر ظاهرة إلى أن يأتي أمر الله عز وجل، وإذا كانت الكلمة في الثغر في ذلك الثغر ظاهرة إلى أن يأتي أمر الله عز وجل، وإذا كانت الكلمة في الثغر ظاهرة فهي فيما وراءه الثغر إلى ناحية بلاد الإسلام أظهر وأظهر. والثالث؛ أن ما تسير الشمس فيه من وقت طلوعها إلى حين زوالها لا يمتنع أن يسمى مشرقًا، كما أن ما تنحدر فيه من وقت زوالها إلى أن تغرب لا يمتنع أن يسمى مغربًا، وصارت الأرض كلها بهذه القسمة مشرقًا ومغربًا. فإذا نظرنا إلى الأرض على هذه القسمة من حيث الأقاليم فإن ما يرجع إلى المشرق كلهم لسانهم أعجمي، وما يرجع إلى المغرب كلهم لسانهم عربي، فتكون الإشارة بذكر المغرب إلى أن العرب ينصرون فوعد بظهورهم بالحجة

والغلبة؛ لأنهم يعرفون القرآن بجبلتهم، وأولئك- أعني الأعاجم- لا يعرفونه إلا بواسطة تعبر لهم عنه. -219 - الحديث السابع عشر: [عن غنيم بن قيس، قال: سألت سعد بن أبي وقاص عن المتعة في الحج؟ فقال: فعلناها، وهذا يومئذ كافر بالعرش، يعني بيوت مكة. وفي رواية يحيى بن سعيد: يعني معاوية]. * في هذا الحديث من الفقه ذكر تقدم إسلام سعد على إسلام معاوية؛ ولا خلاف في أنه أفضل منه لأنه قطع له بالجنة رضي الله عنهما. * وقوله: (وهذا كافر بالعرش)، أي كان حينئذ كافر ًا، وأراد: إني أقدم وأعرف بما كان. والعرش: بيوت مكة. -220 - [عن سعد قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة نفر، فقال المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أطرد هؤلاء لا يجتروون علينا. قال: وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل:

{ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}] * فيه من الفقه النهي عن طرد كل طالب للعلم (118/ ب) ولا يسوغ طردهم. * وفيه أيضًا ما يدل على كرامة هؤلاء النفر الستة، ومن لم يذكر اسم في هذا الحديث فقد ذكر في حديث آخر وهم: سعد، وابن مسعود، وبلال، وصهيب، وعمار، والمقداد، فإن الآية الكريمة قد شهدت لهم: {يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}، وفي هذا دليل على أنهم كانوا من أهل محبة الله عز وجل لقصدهم وجهه سبحانه، وذلك أن أطيب الزمان وألذه هو الغدوات والعشيات فإذا طاب لهم زمانهم تمنوا أن يقطعوه بذكر ربهم سبحانه، وقد قالت الشعراء في هذا المعنى الأقوال التي يذكر بعضها ليستدل به على المقصود. كقول بعضهم: أحبك أطراف النهار بشاشة .. وقول الآخر: أجد لنا طيب المكان وحسنة ... مني .. فتمنينا .. فكنت الأمانيا وقوله تعالى: {ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء}، فإن معناه غامض شريف، وذلك أنه قال: (ما عليك من حسابهم}، فجعل الحساب لهم لا عليهم، وقال: {وما من حسابك عليهم من شيء} وكفى بهذا شرفًا لمن يتدبره.

مسند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه

9 مسند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه أخرج له في الصحيحين ثلاثة أحاديث المتفق عليه منها حديثان، والثالث للبخاري -221 - الحديث الأول: (من المتفق عليهما) [عن سعيد بن زيد قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)].

* قد ذكر المفسرون في قوله .. (الكمأة من المن)، أنها مما من الله به على عباده من غير تعب منهم، ولا وضع بذر، ولا غرس. وذكروا في قوله: (ماؤها شفاء للعين)؛ أي ماؤها الذي تبنت عليه، وقيل إن المراد بمائها أنها تشق وتوضع على النار؛ فيقطر منها ما يصلح للعين. وذكروا في قوله: (ماؤها شفاء للعين)؛ أي ماؤها الذي تبنت عليه، وقيل إن المراد بمائها أنها تشق وتوضع على النار؛ فيقطر منها ما يصلح للعين. -222 - الحديث الثاني: [عن عروة أن سعيد بن زيد خاصمته أروى بنت أويس (وقيل أويس)، إلى مروان بن الحكم، وادعت أنه أخذ شيئًا من أرضها، فقال سعيد: أنا كنت أخذ من أرضها شيئًا بعد الذي سمعت من رسول (119/ أ) الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: وما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه إلى سبع أرضين)، فقال له مروان: لا أسألك بينة بعد هذا. فقال سعيد: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واقتلها في أرضها. قال: فما ماتت حتى ذهب بصرها، ثم بينما هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت. وفي رواية البخاري: (من ظلم من الأرض شبرًا طوقه من سبع أرضين). وفي أفراد مسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا، طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين). وفي رواية لمسلم: أن الخصومة كانت في دار، وأن عروة رآها عمياء تلتمس الجدر، وتقول: أصابتني دعوة سعيد، وأنها مرت على بئر في الدار،

فوقعت فيها، فكانت قبرها]. * فيه من الفقه أن الأرضين سبع، وذكر النقاش في تفسيره أنه لم يأت في القرآن ذكر عدد الأرضين إلا في قوله تعالى: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن}؛ وباقي القرآن تعدد السموات وذكر الأرض مفردة، وهذا من حيث التأويل غير ممتنع الوجه إلا أن المعول في ذلك على ما يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موضحًا مبينًا. * وفيه إجابة دعوة سعيد، وما ظهر من كرامته بإجابة دعوته وإظهار آية الله تعالى في الكاذبة عليه. * وفيه أنه قد يبتلى الرجل الصالح بالفاسق، يدعي عليه أنه ظلمه وغصبه ويكون مبطلا في ذلك؛ فأحسن ما قوبل ذلك بالدعاء عليه. - 223 - من أفراد البخاري: [عن سعيد بن زيد قال: لقد رأيتني، موثقي عمر على الإسلام، أنا وأخته، وما أسلم، ولو أن أحدًا انقض- وقيل: أرفض- للذي صنعتم بعثمان، لكان محقوقًا أن ينقض].

* في هذا الحديث ما يدل على إسلام سعيد قبل إسلام عمر، وأنه أوثقه عمر ليرده عن الإسلام فما فعل. * وقوله: (لو أن أحدًا أنقض) في ذكره لهذا الكلام مع الكلام (119/ ب) الأول إشارة لطيفة، وهو أن الأحوال قد تفضي بالناس إلى أن يكونوا على ضلالة، وهم يحسبون أنهم مهتدون، كما أن عمر رضي الله عنه كان قبل الإسلام رأى من الصواب عنده أن أوثق سعيدًا وأخته إلى أن يردهما إلى الكفر عن الإسلام، فالمعنى أن هذا الذي فعلتم بعثمان يا من رآه صوابًا عنده هو من ذلك الجنس وذلك الحيز، وأنه عند من يؤمن بالله لو قد أرفض له أو انقض له أحد كان محقوقًا. وقوله: (ارفض)؛ بأي تفرق، و (انقض)؛ أي هوى وسقط.

مسند أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه

10 مسند أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه واسمه: عامر بن عبد الله له في الصحيحين حديث واد أنفرد بإخراجه مسلم من أفراد مسلم: - 224 - [عن أبي الزبير عن جابر، قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر علينا أبا عبيدة بن الجراح، نتلقى عيرًا لقريش، وزودنا جرابًا من تمر لم يجد لنا غيره. فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة. قال: فقلت: كيف كنتم تصنعون بها؟

قال: نمصها كما يمص الصبي. ثم نشرب عليها من الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء فنأكله؛ قال: وانطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر، قال: فقال أبو عبيدة: ميتة؛ ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وفي سبيل الله) وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليها شهرًا، ونحن ثلاثمائة حتى سمنا. قال: ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن، ونقتطع منه الفدر كالثور (أو كفدر الثور) فلقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا، فأقعدهم في وقب عينه، وأخذ ضلعًا من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا، فمر من تحتها، وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا ذلك له. فقال: (هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟) (120/ أ) قال: فأرسلنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه فأكله]. * قوله: (نحن رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)؛ هو من مسند أبي عبيدة من هذا الحديث، وإلا فهو من مسند جابر. ويقال: أنفرد بهذه الزيادة من قول أبي عبيدة أبو الزبير، وسائر الرواة عن جابر لا يذكرونها، وليس لأبي عبيدة في الصحيحين غير هذا الفصل من هذا الحديث. * في هذا الحديث من الفقه جواز أكل ما يقذفه البحر من السمك الطافي. * وفيه أيضًا أن الحال إذا اشتدت على المضيق المسافر وكان عنده من الزاد الشيء

اليسير فإنه لا يأكله في دفعة ويرتقب غيره، بل يوزعه على الأيام، ولا يكون ذلك قادحًا في توكله بل منسوبًا إلى حسن تدبيره؛ إلا أنه يراعي في ذلك قدر ما يمسك الرمق. * وفيه أيضًا أن الماء يغذو، وأن أولى ما استكثر به من الماء استعمال التمر وشبهه من الحلوى. وقد روي في حديث أبي ذر أنه بقي شهرًا ليس له طعام إلا ماء زمزم قال: (فتكسرت عكن بطني). * وفيه أيضًا أنه لما قذف الله تعالى لهم بهذه الطعمة أقاموا عليها شهرًا بحسب ما احتاجوا إليه. * وفيه أيضًا أن الرجل إذا رأى شيئًا عجبًا وأراد أن يخبر عنه قدر ذلك المقدار لما يخبر به؛ ألا تراه كيف أقعد ثلاثة عشر رجلا في حجاج عينه؟! وكيف اعترف من وقب عينه بالقلال؟ وكيف أقام ضلعًا من أضلاعه ثم رحل أعظم بعير فجاز تحتها؟ وهذا يدل على أن المستحب للراوي إذا أراد أن يروي حديثًا يطرف به، أن يعتبر المحكي عنه بمعيار، ويستند حديثه إليه. وقوله: (ثم تزودنا من لحمه وشائق)؛ والوشائق: ما قطع من اللحم ليقدد) الواحدة: وشيقة. والعير: الإبل التي تحمل الميرة. والخيط: ورق الشجر. ووقب العين: ما نقر منها؛ والوقب: كالنقرة في الشيء أو الحفرة. والفدرة: القطعة من اللحم، وجمعها (120/ ب) فدر. * وفيه أيضًا أن استباحة المفتي ومشاركته من أفتاه فيما أفتاه بإباحته يزيده طيبًا، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قال لهم: (هو رزق أخرجه الله لكم)، ثم قال: (هل معكم من لحمه شيء)؟ فعرفهم حله للمضطر وغير المضطر.

أخر ما في الصحيحين عن العشرة رضي الله عنهم

المجلد الثاني

مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أخرج له في الصحيحين مائة وعشرون حديثًا، المتفق عليه منها أربعة وستون، وانفرد البخاري بواحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين. -225 - الحديث الأول من المتفق عليه: [عن ابن مسعود قال: لما نزلت {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم}، شق ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ليس ذلك إنما هو الشرك، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه: {يا بني لا تشرك بالله، إن الشرك لظلم عظيم). وفي رواية: ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه)]. ?

وفي رواية: ألم تسمعوا قول العبد الصالح. * في هذا الحديث تصريح بانصراف الظلم المذكور في الآية إلى الشرك، وذلك مغن عن الشرح. فأما كون الشرك ظلمًا، فإنه من حيث أن الله سبحانه هو المنعم؛ فإذا أشرك عبده معه غيره فقد جاء بظلم عظيم. والظلم: فعل ما ليس لفاعله فعله. -226 - الحديث الثاني: [عن ابن مسعود، قال: بينما أنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -وهو يتوكأ على عسيب- مر بنفر من اليهود، فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه لئلا يسمعكم ما تكرهون، فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن الروح، فقام ساعة ينظر، فعرفت أنه يوحى إليه، فتأخرت عنه حتى صعد الوحي، ثم قال: {ويسألونك عن الروح، قل: الروح من أمر ربي}].

* في هذا الحديث من الفقه أن الروح إذا سئل عنها الإنسان سؤالًا (121/ أ) مطلقًا كان الجواب هذا، وهو أن يقال {الروح من أمر ربي} فأما إذا سئل عن روح الآدمي، فيقال: إنها جسم، وكذلك إذا قيل: (عيسى روح الله عز وجل)، فيقال هذه إضافة ملك. والقرآن قد سمي روحًا بقوله: {روحًا من أمرنا} وسمي جبريل (روحًا) أيضًا. * وفي الحديث من الفقه أنه يستحب للإنسان أن يكون في يده ما يكف به ما عساه أن يعرض له، ويتوكأ عليه، ويتمم به كلامه، ولا يكون عطل اليدين. والعسيب من النخل: كالقضيب من سائر الأشجار. -227 - الحديث الثالث: [عن ابن مسعود، قال: كنا نسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه، فلم يرد علينا، فقلنا: يا رسول الله، كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا، فقال: (لأن في الصلاة شغلًا)].

* في هذا الحديث دليل على أن ابن مسعود هاجر إلى الحبشة، وقد هاجر إلى المدينة، فجمع له بين الهجرتين. * وفيه دليل على أن ما كان من إباحة الكلام في الصلاة نسخ. * وفيه تنبيه على أن الإنسان ينبغي أن يكون مستغرقًا بشغله بالصلاة، وقد استوفينا هذا المعنى في مسند عثمان. -228 - الحديث الرابع: [عن علقمة قال: كنت أمشي مع عبد الله بمنى، فلقيه عثمان، فقام معه يحدثه، فقال له عثمان: يا أبا عبد الرحمن، ألا نزوجك جارية شابة، لعلها تذكرك بعض ما مضى من زمانك؟ قال: فقال عبد الله: لئن قلت ذاك، لقد قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء]. * في هذا الحديث ما يدل على أن الرجل الشيخ لا ينبغي أن يستضعف نفسه عن التزويج فإن الاختيار له في ذلك للثواب لأنهن يرجى منهن الولد. * وفيه أن عبد الله لما قال له عثمان ذلك، أجاب (21 ب) بجواب يصلح أن يكون عذرًا له إن هو فعل؛ وعذرًا له إن لم يفعل؛ لأنه ذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج) فذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الشباب بالتزويج ثم علله بما يشمل الشباب وغيره: من قوله (فإنه أغض

للبصر، وأحصن للفرج) ويصلح أن يكون عذرًا له في تركه النكاح لأنه خصه بالشباب في قوله: يا معشر الشباب. فكأنه قال: عندي دواء الترك وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فليصم)، فإذا كان ذلك للشباب ففي الشيوخ أولى، فيجوز أن يكون هذا الاعتذار منه في الترك لأجل قوله (نزوجك جارية شابة) فكان هذا كالعذر عن تزويجه الشابة لكونه قد شاب لقوله: (تذكرك بعض ما مضى) ويحتمل أن يكون ذكر ابن مسعود لما ذكر موافقته لعثمان في حثه على النكاح له. * والباءة: الجماع ... * والوجاء: هو أن ترض الأنثيان. * وأحصن: أعف. -229 - الحديث الخامس: [عن ابن مسعود، قال جاء حبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا محمد إن الله يضع السماء على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر والأنهار على إصبع، وسائر الخلق على إصبع ثم يقول: أنا المليك، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: (وما قدروا الله حق قدره)]. وفي رواية: والماء والثرى على إصبع ثم يهزهن، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه تعجبًا وتصديقًا له، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، {وما قدروا الله حق قدره}.

* هذا الحديث وما يجري مجراه، مذهب أهل الحديث إمراره كما جاء، ولغة العرب معلومة فيه. * وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وما قدروا الله حق قدره)، يعني أن عظمة الله سبحانه وجل جلاله لا تتناهى فهو أعظم من ذلك، ومهما خطر من عظمة الله في القلوب فالله أعلى وأجل، وعلى أن هذا الحديث ليس فيه من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قراءته الآية (وما قدروا الله حق قدره) وأما ضحكه فمحتمل. إلا أن قولنا: نمرها كما جاءت أي نرويها كما سمعناها، ونمتنع أن (122 أ) نقول بجهلها على ظاهرها. ولا خلاف بين كل من يعتد بخلافه أن الله سبحانه وتعالى منزه مقدس عن كل نقص فإنه: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}. والنواجذ: الأنياب. -230 - الحديث السادس: [عن علقمة، قال: كنا بحمص، فقرأ ابن مسعود سورة يوسف، فقال رجل: ما هكذا أنزلت، فقال عبد الله: والله لقد قرأتها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:

(أحسنت)، فبينما هو يكلمه، إذا وجد منه ريح الخمر؛ فقال: أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب؟ فضربه الحد] * في هذا الحديث من الفقه ما يدل على أن ابن مسعود ضربه الحد بنفس وجود الريح من الخمر، وإلى هذا ذهب بعض الفقهاء، وله في الحديث حجة. -231 - الحديث السابع: [عن ابن مسعود، قال - صلى الله عليه وسلم -، فزاد أو نقص -شك بعض الرواة- والصحيح أنه زاد- فلما سلم، قيل له: يا رسول الله! أحدث في الصلاة شيء؟ قال: (وما ذاك؟) قالوا: صليت كذا وكذا، قال: فثنى رجليه واستقبل القبلة فسجد سجدتين ثم سلم، ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: (إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به، ولكني إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا

شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليبن عليه، ثم يسجد سجدتين)] وفي رواية: [صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسًا، فقلنا: يا رسول الله أزيد في الصلاة؟ قال (وما ذاك)؟ قالوا: صليت خمسًا، فقال: (إنما أنا بشر مثلكم، أذكر كما تذكرون، وأنسى كما تنسون، ثم سجد سجدتي السهو]. * في هذا الحديث: إخبار منه - صلى الله عليه وسلم - أنه بشر، ينسى كما ينسى البشر، وذلك من لطف الله عز وجل بعباده، ليكون لهم قدوة في كل شيء حتى في ذلك. * وفيه أيضًا دليل على أن سجود السهو بعد السلام. * وفيه أيضًا دليل على أنه على من رأى شيئًا أن يذكره لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا نسيت فذكروني). * وفيه دليل على التحري في عدد الركعات. -232 - الحديث الثامن: [عن علقمة، عن عبد الله أنه لعن الواشمات. وفي رواية أنه قال: (لعن الله الواشمات والمستوشمات (122/ ب) والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)، فبلغ ذلك امرأة من بني

أسد، يقال لها: أم يعقوب وكانت تقرأ القرءان، فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك، أنك قلت كذا وكذا؟ وذكرته.؟ فقال عبد الله: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وهو في كتاب الله عز وجل؟ فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف، فما وجدته. قال: إن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، قال الله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} قالت: إني أرى شيئًا من هذا على امرأتك الآن؟. قال فاذهبي فانظري، فذهبت فنظرت فلم تر شيئًا، فجاءت فقالت: ما رأيت شيئًا، فقال: أما لو كان ذلك، لم نجامعها] * وإنما منع من هذا لأنه غرور، ويؤدي إلي ضرر، فإن الواشمة تؤذي نفسها بالجراح، والمتنمصة تنتف شعرها، فلا يؤمن أذى البشرة وكذلك المتفلجات للحسن فربما حصل الأذى بالمبرد، ويجمع ذلك كله قوله (المغيرات خلق الله). * وقوله لها: (اذهبي فانظري) تنبيه على أن العالم ينبغي أن يحرس امرأته من أن

يرى عليها شيء لا يحسن أن يقتدى به في ذلك، إلا أنه إن كان قد بلي بامرأة تعمل بخلاف ما يقوله فلا ينبغي أن يترك هو القول للحق، وليكن ناهيًا لزوجته وغيرها. * وقول ابن مسعود: (لو كان ذلك لم نجامعها) قوة عزيمة. -233 - الحديث التاسع: [إن الأشعث بن قيس دخل على عبد الله وهو يطعم يوم عاشوراء، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إن اليوم يوم عاشوراء، فقال: قد كان يصام قبل أن ينزل رمضان فلما نزل رمضان ترك، فإن كنت مفطرًا فاطعم). وفي رواية لمسلم قال: (وكان يومًا يصومه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل رمضان تركه). وفي رواية أخرى له أيضًا: (دخل الأشعث على عبد الله، يوم عاشوراء فقال: أدن فكل، قال: إني صائم، قال: كنا نصومه ثم ترك] * فيه من الفقه ما يدل على أن صوم عاشوراء قد كان فرضًا ثم ترك، والأمر على ذلك.

-234 - الحديث العاشر: [عن عبد الله: قال: بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غار بمنى، إذ نزلت عليه (والمرسلات) فإنه ليتلوها -وإني لأتلقاها- من فيه (123 أ)، وإن فاه لرطب بها، إذ وثبت علينا حية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اقتلوها)، فابتدرناها لنقتلها، فسبقتنا- فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وقيت شركم ووقيتم شرها)]. قوله (بمنى) للبخاري دون مسلم. * في هذا الحديث من الفقه أن ابن مسعود كان أول من تلقن المرسلات من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والغار: النقب في الجبل. * ومعنى قوله: (وإن فاه لرطب بها) أي لم يمسك عن التلاوة لها بعد، ورطوبة الفم بها حركته للتلاوة. * وفي الحديث دليل على إباحة قتل الحيات. * وقوله: (وقيت شركم، ووقيتم شرها) فيه دليل على حسن تنبيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في ألطاف الله عز وجل في جميع أقداره، وأنه لا يخلو له فعل من حكمة، وأنه سبحانه وتعالى قد يلطف بالشرير إمهالًا منه له، وإعذارًا فيه إلى أجل وحين، فإن هذه الحية على كونها لا منفعة منها في عاجل الحال، وقيت شر أولئك النفر الصالحين في أذاها، وقد يكون دفع الشر عنها لحمة اقتضت ذلك، وهي

أنها لعلها أن تكون معدة لأن تسلط على بعض أعداء الله أو غير ذلك من المنافع. -235 - الحديث الحادي عشر: [عن عبد الله، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ (والنجم ..) فسجد فيها، وسجد من كان معه، غير أن شيخًا من قريش أخذ كفًّا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال يكفيني هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته، بعد، قتل كافرًا] * وهذه القصة لها حديث يأتي فيما بعد بطوله، إلا أن تكبر ذلك الكافر، ورفعه الحصى إلى جبهته، لجهله وعمهه، قضى أن أذله الله في الدنيا بأن قتل كافرًا، واتصل ذلك الإذلال أبدًا في جواب تكبره على الله عز وجل. -236 - الحديث الثاني عشر: [عن عبد الله، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (مدكر، دالًا)]

* أما قوله (مدكر) فإن أصله مذتكر، لأنه لم يكن بد من ذكر الذال لأنه من الذكر (123/ ب) فأدغمت التاء في الذال، وأبدلت منها الدال لمشاركتها في المخرج. -237 - الحديث الثالث عشر: [عن عبد الله، قال: لا يجعلن أحدكم للشيطان شيئًا من صلاته، يرى أن حقًا عليه إذا سلم أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ينصرف عن يساره] * في هذا الحديث ما يدل على أن الشيطان يسول للآدمي أشياء في عبادته توهمه فيها زيادة التحرج فينال الشيطان بذلك لأنه إنما يقصد الشيطان بالعبد أن يزيغ عن سنن الشرع ولو شعرة، فإذا ضيق عليه وشدد احتجره، فكان من فقه عبد الله بن مسعود أن قال ذلك وشدد الوصية بنون التوكيد فقال: لا يجعلن. وهذا يقاس عليه كل ما يريده رأي الإنسان مما ليس بمشروع، أو يرى المسنون فيه واجبًا.

-238 - الحديث الرابع عشر: [عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: (صلى بنا عثمان بن عفان بمنى أربع ركعات فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود، قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات، ركعتان متقبلتان]. * هذا الحديث قد فسره الزهري، وقال: إنما أتم عثمان لأنه اتخذ الأموال بالطائف وأراد أن يقيم بها، على أن الحديث يدل على أنه يجوز للمسافر أن يتم. * وقوله: (فليت حظي من أربع ركعات، ركعتان متقبلتان). في هذا دليل أن العمل القليل إذا أصيبت به السنة كان أقرب إلى القبول وما فعله أبو بكر وعمر هو الأولى، وإن كان فعل عثمان جائزًا.

-239 - الحديث الخامس عشر: [عن ابن مسعود، قال: ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة بغير ميقاتها إلا صلاتين: جمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها) وفي أفراد البخاري: (حج عبد الله بن مسعود، فأتينا المزدلفة حين الأذان بالعتمة، أو قريبًا من ذلك، فأمر رجلًا فأذن، وأقام، ثم صلى المغرب، وصلى بعدها ركعتين ثم دعا بعشاء فتعشى (124/ أ) ثم أمره فأذن وأقام، ثم صلى العشاء ركعتين، فلما كان حين طلع الفجر، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان، في هذا اليوم. قال عبد الله: هما صلاتان تحولان عن وقتهما: صلاة المغرب بعد ما يأتي الناس، والفجر حين يبزغ الفجر، قال: (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله) وفي رواية عن عبد الرحمن بن يزيد قال: (خرجت مع عبد الله ثم قدمنا جمعًا، فصلى الصلاتين، كل صلاة وحدها بأذان وإقامة، تعشى بينهما، ثم صلى الفجر حين طلع الفجر، قائل يقول: (طلع الفجر)، وقائل يقول: (لم يطلع الفجر)، ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما، في هذا المكان: المغرب والعشاء، فلا يقدم الناس جمعًا حتى يعتموا، وصلاة الفجر هذه الساعة)، ثم وقف حتى أسفر، ثم قال: لو أن أمير

المؤمنين -يعني عثمان- أفاض الآن أصاب السنة، فما أدري: أقوله كان أسرع أم دفع عثمان، فلم يزل يلبي حتى جمرة العقبة)]. * في هذا الحديث من الفقه أن هاتين الصلاتين متخصصتان من الوقت الذي له أول وآخر، والإنسان مخير في أن يصلي ما بين أول الوقت وآخره، أي وقت شاء من ذلك سوى هاتين الصلاتين، وأنهما يتخصصان من الوقت بالوقت الذي عينه النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتزحزحان عن ذلك. فأما جمع هاتين الصلاتين فإنه زيادة رفق بالمصلين في ذلك الوضع؛ فإن الجمع مع القصر رفق فوق رفق. -240 - الحديث السادس عشر: [عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: (رمى عبد الله بن مسعود جمرة العقبة، من بطن الوادي، بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة). وفي رواية: (فجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، قال: فقيل له: إن أناسًا يرمونها من فوقها. فقال: هذا - والذي لا إله غيره، مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة]

* فيه من الفقه أن رمي جمرة العقبة يكون من بطن الوادي. * وفيه، (124/ ب) أن الإنسان إذا أراد أن يثبت قوله حلف على ذلك وإنما ذكر سورة البقرة لأن معظم المناسك فيها. -241 - الحديث السابع عشر: [عن مسروق، قال: كنا جلوسًا عند عبد الله بن مسعود، وهو مضطجع بيننا، فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن، إن قاصًّا عند أبواب كندة يقص ويزعم، أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار. ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام، فقال عبد الله -وجلس وهو غضبان-: يا أيها الناس! اتقوا الله تعالى. من علم منكم شيئًا، فليقل بما يعلم، ومن لا يعلم فليقل: الله أعلم، فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم. فإن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين}. إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى من الناس إدبارًا عنه قال: (اللهم سبع كسبع يوسف). وفي رواية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دعا قريشًا كذبوا واستعصوا عليه، فقال: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف .. فأخذتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة من الجوع، وينظر أحدهم إلى السماء فيرى كهيئة الدخان، فأتاه أبو سفيان فقال: يا محمد، إنك جئت تأمر بطاعة الله، وبصلة الرحم،

وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم، قال الله تعالى: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} إلى قوله {إنكم عائدون} قال عبد الله: أفيكشف عذاب الآخرة؟ {يوم نبطش البطشة الكبرى، إنا منتقمون] والبطشة يوم بدر. وفي رواية عند البرقاني: فسوف يكون لزامًا يوم بدر. وفي الكتابين عن مسروق عن عبد الله قال: خمس قد مضين: الدخان، واللزام، والروم، والبطشة، والقمر) * قد تقدم في حديث عمر نهيه من قال في شيء سأله عنه: الله أعلم. وقال: (من علم شيئًا فليقل) وذلك هو القول المحرر. * وقول ابن مسعود (فليقل: الله أعلم) له وجه فإن من لا يعلم إذا رد العلم إلى الله فقد أحال على مليء.

* والصحيح في آية الدخان (125/ أ) أنها تقدمت كما قال ابن مسعود: خمس قد مضين الدخان، واللزام، والروم، والبطشة وهو يوم بدر، وانشقاق القمر .. * وفي الحديث دليل على جواز أن يستصلح الناس بالشدة فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى} فإذا أفسدتهم العافية فإن البلاء يصلحهم. * وفي الحديث جواز إجابة السائل وإن كان مشركًا إذا طلب ما في إجابته إليه دليل على وحدانية الله سبحانه وتعالى، كما طلب أبو سفيان من قبل إسلامه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو الله لقومه، ولعل ذلك كان من أسباب إسلامه. * وقوله: (حصت) أي أذهبت النبات فانكشفت الأرض، وأصله الظهور والتبين. -242 - الحديث الثامن عشر: [عن عبد الله أن رسول الله ? قال: (ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية). وفي رواية: (أو، أو)]

* في هذا الحديث صريح النهي عن أن يبلغ الحزن إلى ضرب الخدود وشق الجيوب، أو أن ينتهي إلى دعوى الجاهلية من كونهم كانوا يذكرون الكلام الباطل الذي نسخه الإسلام، وليس في هذا ما يمنع البكاء وظهور الرقة على الإنسان عند فقد حبيبه أو أخيه المسلم. -243 - الحديث التاسع عشر: [عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، قال: سألت مسروقًا: من آذن النبي صلي الله - صلى الله عليه وسلم - بالجن ليلة اسمعوا القرآن؟ قال: حدثني أبوك -يعني ابن مسعود- أنه آذنت بهم شجرة)]. * في هذا الحديث دلالة على نبوته - صلى الله عليه وسلم - وأن الشجرة أعلمته باستماع الجن لقراءته، فهي في ذلك بعض أعوانه - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه أيضًا دليل على أن من اطلع سر مسترق لسمع من محق أنه يتعين عليه أن يطلعه على ذلك تأسيًا بهذه الشجرة المباركة. -244 - الحديث العشرون: [عن (125/ ب) عبد الله بن مسعود، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليس من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه سن القتل أولًا).

وفي رواية: (لأنه كان أول من قتل)]. * في هذا الحديث من الفقه شدة التحذير من سن السنن السيئات، وأنها لا تزال تتجدد على الذي سنها أولًا بأذى كلما تجدد من تلك السنة السيئة فعل يشابه فعل الفاعل الأول، فليكن الإنسان شديد الحذر من المعاصي على الإطلاق. وليكن أشد حذرًا من كل شيء يستمر ويبقى ويكون عرضة لأن يعمل به غيره. والكفل: النصيب والحظ. -245 - الحديث الحادي والعشرون: [عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون) وفي رواية لمسلم: (إن من أشد أهل النار يوم القيامة عذابًا، المصورون). وعند البرقاني في رواية: (إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل قتله نبي، أو مصور يصور هذه التماثيل]

* وإنما اشتد عذاب المصورين لأنهم يعملون أصنامًا وإن لم تكن تعبد في وقتنا هذا عبادة ظاهرة، فإن الأنس والميل إليها درجة يخاف منها الإفضاء إلى عبادتها. * وأما زيادة البرقاني: (أشد الناس عذابًا رجل قتله نبي)، فإنه لما قتله في سبيل الله أكرم وقته على ربه بعد إظهار الدليل، فالنبي خصمه في الحالتين، فلما أهانه الله بيد أكرم أهل الوقت عليه اشتد عذابه، لأن النبي رحمة، فإذا جعله الله عز وجل لواحد منهم نقمة كان ذلك الشخص أشد الناس عذابًا إذ أتاه الله بالبلاء من حيث ترجى الرحمة. -246 - الحديث الثاني والعشرون: [عن عبد الله قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة] * فيه دليل على إطلاق العصمة لكل من (126/ أ) شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فأما الاستثناء بعد هذا الإطلاق لمن ذكر: بأن يزني الإنسان بعد إحصانه ويقتل نفسًا معصومة فيهتك عصمة الله، فأبيح منه ما كان معصومًا، والتارك دينه هو المفارق للإسلام، وهذه واسعة يدخل فيها كل من أدى به قول أو اعتقاد أو فعل إلى مفارقة الدين.

-247 - الحديث الثالث والعشرون: [عن عبد الله قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبة نحوًا من أربعين فقال: (أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟)، قلنا: نعم، قال: (أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟) قلنا: نعم. قال والذي نفس محمد بيده، إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، وذاك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة. وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر] * في هذا الحديث أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وأن الأنبياء كلهم مسلمون ومن تبعهم، وأن اليهودية والنصرانية بدعتان. * وفيه أيضًا أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - يكونون نصف أهل الجنة وذلك لأن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - عقبت الأمم فورثت ما كانت عليه الأمم بأسرها ثم لا يعقبهم غيرهم، وإذا نزل المسيح بن مريم كان على ملتهم فمن حيث العدد والكثرة فإنهم فيما يوضحه التأمل لا يرد الجمع من أهل الجنة من يكون أكثر عددًا منهم. فأما من أهلكه الله تعالى من الأمم التي كذبت الرسل من قوم نوح وعاد وثمود فإن أولئك ليسوا من أهل الجنة. * ويكون قوله: أنتم في أهل الشرك كالشعرة البيضاء، إشارة إلى جميع الخلق، وذلك أن الخلق خرجوا من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئًا، كما قال

الله عز وجل: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا}. فلم يفق من سكرة ذلك إلا من وفقه الله عز وجل للعلم واتباع المرسلين. -248 - الحديث الرابع (126/ ب) والعشرون: [عن ابن مسعود قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه، فيضعه في كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه. فلما سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وضعه بين كتفيه - صلى الله عليه وسلم - فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر. فلو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجدًا ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت، وهي جويرية، فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا، دعا ثلاثًا، وإذا سأل سأل ثلاثًا، قال: (اللهم عليك بقريش)، ثلاث مرات، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته، ثم قال: (اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عقبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط) وذكر السابع ولم أحفظه].

قال: فوالذي بعث محمدًا بالحق! لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر. وفي رواية: (فأشهد بالله لقد رأيتهم صرعى، قد غيرتهم الشمس، وكان يومًا حارًا). وفي رواية البرقاني: (ذكر السابع، وهو عمارة بن الوليد، قال بعض الرواة: الوليد بن عقبة غلط في هذا الحديث]. * في هذا الحديث ما يدل على شدة صبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أذى المشركين. * وفيه أيضًا ما يدل على أن المؤمن إذا أوذي في الله عز وجل مع قدرته، وتعرض الضعفاء للبغي والعدوان مع شدة قوته -يتعجب في ذلك الوقت من حلم الله تعالى حيث يؤتى إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد له سبحانه فيستهزأ منه ويوضع سلا الجزور (127/ أ) على كتفيه -وهو وعاء الولد- فلو كان قد أطبق السماء على الأرض في ذلك الوقت أو دك كذلك جبال الأرض كلها لكان ذلك بعض جزاء المشركين، ولكنه سبحانه حلم ثم انتقم انتقامًا أهلك فيه أعداءه على كفرهم ليستديم لهم العذاب السرمد أبدًا.

* وفي هذا الحديث دليل على ما خص الله تعالى به فاطمة البتول من رفع ذلك عن أبيها - صلى الله عليه وسلم -، ولعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث ساجدًا لا يلقي ذلك عن ظهره انتظارًا لما يفعل الله عز وجل في إكرام من يريد أن يكرمه بأن يجعله هو الملقي لذلك عن ظهره فكانت فاطمة، ويجوز أن يكون - صلى الله عليه وسلم - لما رأى أن ذلك قد ألقي على ظهره في سبيل الله تعالى استطاب دوامه ليراه الله سبحانه وتعالى راضيًا بما أوذي به في سبيله. * وفيه أيضًا دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم دعاء ظاهرًا أسمعهم إياه حتى إذا أهلكهم الله سبحانه وتعالى عرف كل من كان قد سمع ذلك في جواب دعائه. ولا يقول قائل إن هذا جرى اتفاقًا. * وفيه أيضًا ما يدل على أنه يستحب للداعي أن يكرر دعاءه ثلاث مرات فإن في ذلك تثبيتًا لما يطلبه لنفسه من ربه. * وفيه دلالة على تصديق الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من إهلاكهم في يوم بدر في القليب الذي ذكره. * وفيه دليل على أن المؤمن إذا لم تعجل له إجابته فلا ييأس ولا يظن أن الله عز وجل لم يجبه؛ بل إنه يجيبه سبحانه وتعالى في الوقت الذي يستصلحه لذلك. * وفيه أيضًا أن الضحك من الكافر بالمؤمن باب من الأبواب التي يزيد بها بعدًا عن الله عز وجل، فإن السخرية الاستهزاء من الحق يذهب كثير من الناس به إلى الكفر والبدعة، وصاحب ذلك يظن أن قوله مقصور على السخرية والاستهزاء فليحذر ذلك المؤمن. * وفيه أن المجرم إذا استشعر العذاب وخاف العقوبة فلم يبلغ به إلى (127/ ب) الإقلاع والانتهاء عما كان عليه بالتوبة النصوح فإن ذلك لا ينفع. * وفيه جواز السب للمشركين لأن فاطمة سبتهم.

الحديث الخامس والعشرون: [عن ابن مسعود قال: (دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة يوم الفتح، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصبًا، فجعل يطعنها بعود كان في يده، ويقول: (جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا) (جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد]. * في هذا الحديث دلالة على صدق الله ورسوله من وعده على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثق باستمرار ما فتح الله به عليه من ذلك طعنه الأصنام. * وقوله (جاء الحق وزهق الباطل) قول واثق بدوام ذلك موقن باستمراره. -250 - الحديث السادس والعشرون: [عن ابن مسعود: قوله عز وجل {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة}.

قال: كان نفر من الإنس يعبدون نفرًا من الجن، فأسلم النفر من الجن، واستمسك الآخرون بعبادتهم. فنزلت: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة}] * في هذا الحديث من التنبيه على أن التابع في الكفر قد اشتد غلظ جرمه إلى أن لا يزيله عن كفره استقامة متبوعه الذي كان يتبعه، فإن الجن الذين كان هؤلاء يعبدونهم لما أسلموا وابتغوا إلى ربهم الوسيلة لم يرجع الكافرون عن عبادتهم لهم. -251 - الحديث السابع والعشرون: [عن عبد الله، قال: (علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد - كفي بين كفيه- كما يعلمني السورة من القرآن: * التحيات لله، والصلوات، والطيبات. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله (وبركاته). السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله). * وفي رواية (إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله)، ذكره وزاد عند

ذكر عباد الله (الصالحين) - فإنكم إذا فعلتم ذلك سلمتم على كل عبد الله صالح في السماء والأرض. وفي آخره: ثم يتخير من المسألة ما شاء] * (128/ أ) في هذا الحديث أن التشهد ما ذكره. * وفيه أيضًا أن العالم إذا أراد من المتعلم زيادة حفظ لشيء يلقنه إياه من الأمور المهمة أن يزيده من عاداته معه شيئًا يعرف به مكان نفاسة ذلك العلم الملقى إليه، إما بأخذ يده كما ذكر ابن مسعود أو بتقديم القول له من زيادة الإيقاظ والإنباه أو غير ذلك. * وفيه أيضًا: أن هذا التشهد لا يسوغ أن يزيد فيه الإنسان ولا ينقص منه ولا يغير نطقه؛ لقوله: كما يعلمني السورة من القرآن، يعني أنه حفظني نطق ذلك، ولذلك قال: (فإذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء والأرض) فليس له أن يغير هذا النطق إلى غيره ولا أن يرويه بالمعنى. * وفيه أيضًا جواز أن يدعو الإنسان في صلاته بما شاء، وقد ذهب إلى الاحتجاج بهذا جماعة منهم الشافعي رضي الله عنه، إلا أن الذي ذكرناه في مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه من أنه أشار ألى أن لا يدعو ألا بما جاءت به الأخبار، فإنه يتناول هذا النطق لأنه قال: ثم يتخير من المسألة، والأخبار قد جاءت بأدعية كثيرة، ولم يل الدعاء إلا مما لا مصلحة فيه، فليختر من ذلك المنقول.

-252 - الحديث الثامن والعشرون: [عن أبن مسعود، قال: (انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشقين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اشهدوا). وفي رواية: (بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعنى، إذا انفلق القمر فلقتين، فلقة وراء الجبل، وفلقة دونه، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اشهدوا، اشهدوا] * وفي هذا الحديث دلالة واضحة على أن انشقاق القمر كان وسبق، وأنه انشق في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (اشهدوا .. اشهدوا) مكررًا الإشهاد. * ويصدق هذا الحديث الآية قوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} وقوله (انشق)، لفظ ماض وقد أتبعه سبحانه بقوله: {وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر} ولو لم يكن ذلك مما لم يمكن المشركين أن يدافعوه وينكروه لكانوا يتخذونه حجة (128/ ب) على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقولون: فمتى انشق القمر؟ ولما لم يمكنهم ذلك دل على صدق ما أنزل الله سبحانه. * وفي هذا من الآيات الفاصلة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - المقدمة له على سائر الأنبياء أن موسى شق الله له البحر، وهو آية عظيمة إلا أن البحر قد تشقه السفن والمراكب

والحواجز فإن لم يكن لكله كان لبعضه. وأما القمر فهو في كبد السماء مرتفع عن نيل أهل الدنيا فكان انشقاقه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الآيات التي تدل على شرفه وكرمه على الله تعالى، كما أن انفجار الماء من بين أصابعه أفضل من انفجار الماء من الحجر لموسى عليه السلام؛ لأن الحجارة قد تنفجر منها الأنهار ولم تجر العادة أن ماء ينفجر من بين أصابع بشر إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه أيضًا أنه انشق انشقاقًا ظاهرًا حتى حال الجبل بين فلقيه حتى لا يمكن أحدًا أن يجحد ذلك ولا يناكر فيه. * وقد روى هذا الحديث من الصحابة عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وأنس بن مالك فانضموا إلى ابن مسعود؛ فصاروا أربعة فبلغوا الغاية في البينات، وهذه بينات عند المتأخرين وإلا فالحاضرون كلهم شهدوا ذلك. -253 - الحديث التاسع والعشرون: [عن عبد الله، قال: اجتمع عند البيت ثلاثة نفر: ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم، فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول، فقال الآخر: يسمع، إن جهرنا، ولا يسمع، إن أخفينا، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم}]

* في هذا الحديث دليل على أن كثرة شحم البطن مظنة قلة الفهم، ومن قلة فهم هؤلاء أنهم شبهوا الله تعالى بخلقه من أنه يسمع جهر الأصوات دون سرها؛ ولذلك قال قائلهم: إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا، ثم لجهله أيضًا علقه بأن الشرطية وموضع الاحتجاج عليهم من آية هو قوله (129/ أ) سبحانه: {ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرًا مما تعملون} فأخبرهم بأنه سبحانه وتعالى يعلم، والعلم محيط بما يسمع وما لا يسمع، فكان قوله سبحانه (يعلم) ها هنا، أبلغ من السمع، (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم)، أي أهلككم جهلكم بالله سبحانه في تشبيهكم إياه بخلقه، وإنما أتوا من قبل التشبيه؛ لأنهم قاسوا سمع الله سبحانه على سمع الآدمي الذي يسمع الجهر دون السر. -254 - الحديث الثلاثون: [عن عبد الله قال: أتيت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك، فمستنه بيدي، فقلت: إنك لمتوعك وعكًا شديدًا، قال أجل، أوعك كما يوعك رجلان منكم، فقلت: بذلك إن لك أجرين. قال: (أجل، ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها]. * في هذا الحديث جواز أن يخبر الرجل بشدة ألمه لقوله: (أوعك كما يوعك رجلان).

* وفيه من السنة أن العائد يمس المريض ليتعرف بذلك حاله فيخبره بما يجد منه. فلقد يحس الرجل من لمس صاحبه مالا يحس به الملموس من نفسه. * وفيه أيضًا دليل أن الرجل إذا عاد مريضًا عزيزًا عليه صدقه فيما يراه منه لقول ابن مسعود (إنك لمتوعك). * وفيه أن يستحب للعائد أن يبشر المريض بثوابه ويذكره بأجر صبره على ألمه؛ لقول ابن مسعود: (إن لك أجرين) وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أجل)، فصدقه في ذلك، ولم ينكره عليه لأنها بشرى لسائر الأمة في المرض. * وفيه أيضًا بشرى لكل مؤمن لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواء إلا حط الله سيئاته كما تحط الشجرة ورقها) وذلك أن السيئات من ثمرات الأبدان والنفوس، فلما أصاب الأبدان التي أثمرت السوء من الألم ما شاركته فيه نفوسها عم أجزاءها، فكان كالعقوبة لمثمر السوء، فصار على نحو الشجرة التي إذا قلت المادة منها لما كانت تمده من الورق انتثر، فلما قلت مادة السيئات بما أصاب البدن (129/ ب) من الألم انتثرت من الخطايا بلطف من الله سبحانه، وهذا مما ينبغي للعبد أن يتضاعف شكره لله تعالى عليه، لأنه يحط عنه خطاياه بغير عزم من المخطئ تطهيرًا منه لعباده. -255 - الحديث الحادي والثلاثون: [عن الحارث بن سويد، قال: حدثنا عبد الله بن مسعود حديثين: أحدهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والآخر: عن نفسه. قال: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا -أي بيده- فذبه عنه، ثم قال، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

يقول: لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش -أو ما شاء الله- قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحلته عنده، عليها زاده وشرابه، فالله أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده)]. * أما الحديث الموقوف: فإن المؤمن ينظر إلى عظمة الله عز وجل جلاله وعز سلطانه وغناه عن خلفه وفقر خلقه إليه، وأن يسير المعصية له جل جلاله ليس بيسير عند المؤمن؛ فلذلك يرى كأنه قاعد تحت جبل من خوف ما أتى. وأما الفاجر فلا يرى من ذلك ما يراه المؤمن فلذلك يستخف الأمر في المعصية لله

عز وجل حتى يرى كأن ذنوبه ذباب أطاره بيده عنه لا لخفة ذنوبه، ولكن لخفة إيمانه في نفسه. * فأما الحديث المرفوع: فإنه من أعظم ما حض وحث وبعث الآبقين على حسن العود وتلاقي الفارط، والفزع إلى التوبة، فإن الذي ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من موقع التوبة عنده سبحانه وتعالى دليل كرمه، وآية (130/ أ) جوده، وأنه يسره سبحانه وتعالى أوبة عبده حتى يبلغ ذلك السرور مقدارًا لا يمكن أن تنتهي المعرفة إليه إلا بأن لا يزال العبد تائبًا إلى الله تعالى راجعًا إليه مقلعًا عن كل ما لا يصلح في معاملته إلى ما يصلح من مقتضى أمره وكريم وصاياه، فإنه تتوالى عنده المسار بالعبادات، وتتتابع إليه الأفراح بالطاعات؛ كما يسر ربه سبحانه بتتابع توباته وموالاة إنابته. * وهذا في حق من يتوب مقبلًا بعد إعراض فكيف إذًا من يتوالى إقباله ويتتابع إحسانه. * الدوية منسوبة إلى الدو، وهي المفازة والقفر التي تخاف فيها الهلاك. -256 - الحديث الثاني والثلاثون: [عن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه

الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها"]. * في هذا الحديث من الفقه أنه من شرف هاتين الخلتين أتيح فيهما ما هو محظور في غيرهما، وذلك أن من آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق فقد أهلك المهلك للناس، ومن أوتي حكمة فقضى بها وعلمها فإنه قد رزق من التوفيق أن لا يشح بما آتاه من فضله. * ومعنى"يقضي بها" أي أموره وأمور غيره، ثم إنه يعلمها الناس ليبقى له بعده فيدر عليه ثوابها إلى يوم القيامة، فلا لوم على من حسده لأنه لما أهلك هذا الشخص الشيء المهلك للناس وهو المال، وجاء بالشيء المنجي للعموم من الهلكة وهو الحكمة، كان نطق الحسد المذموم منقلبًا في حق ذلك الحاسد مباحًا، لأن الحاسد إنما يذم على كونه كان يحسد على ما يهلكه. فإذا حسد على ما يهلك المهلك وينجي الهلكى زال المعنى الذي وضع نطق الحسد له فلم يلم. * وقد قيل: إن ذكر الحسد ها هنا يجوز على ما يظنه الناس حسدًا فهو كقوله تعالى: {حجتهم داحضة عند ربهم} وقوله (130/ ب): {فرحوا بما عندهم من العلم} فتجوز بذكر الحسد والمراد الغبطة. * والفرق بين الحسد والغبطة. أن الحسد تمني زوال النعمة عن المحسود والغبطة تمني مثلها مع بقائها على صاحبها.

* وقال الخطابي: (المراد بالحسد في هذا الحديث شدة الحرص والرغبة فكنى بالحسد عنهما لأنهما سبب الحسد والداعي إليه). - 257 - الحديث الثالث والثلاثون: [عن عبد الله قال: كنا نغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس معنا نساء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) الآية]. * هذا الحديث منسوخ بالحديث الآخر في أنه نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وقد سبق ذكر هذا، وقراءة عبد الله لهذه الآية {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} محمول منه على أنه لم يتعد النهي عن المتعة. * وفي الحديث النهي عن الاستخصاء.

- 258 - الحديث الرابع والثلاثون: [عن زر بن حبيش في قوله عز وجل: {فكان قاب قوسين أو أدنى} وفي قوله: {ما كذب الفؤاد ما رأى} وفي قوله: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} قال فيها كلها: قال إن ابن مسعود قال: رأى جبريل عليه السلام له ستمائة جناح، زاد في قوله تعالى: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} رأى جبريل في صورته. كذا عند مسلم]. وعند البخاري في قوله تعالى: {فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى} أن ابن مسعود قال: "رأى جبريل له ستمائة جناح، ولم يذكر في سائر الآيات هذه ولا ذكر فيها غير ما أوردنا. قال ابن مسعود في الأطراف في حديث عبد الواحد: ولقد رآه نزلة أخرى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (رأيت جبريل في صورته له ستمائة جناح). وليس ذلك فيما رأيناه من النسخ ولا ذكره البرقاني فيما أخرجه على الكتابين. * مجموع هذا الحديث أنه حكاية عما كان يراه عبد الله بن مسعود في هذه الآيات وإلا ففي أحاديث أخر أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه عز وجل، ونص القرآن يدل على (131/ أ) ذلك.

- 259 - الحديث الخامس والثلاثون: [عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها. قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: (تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم] * (الأثرة) هي الاستئثار. (والأمور التي ينكرونها) المراد بها الأمراء. * وفي هذا الحديث دليل على أن الأمير إذا أتى ما ينكر لم يمنع ذلك الحق الذي له بل يعطاه، وأن يسأل الحق الذي عليه من الله عز وجل ولا ينازع ولا يقاتل. - 260 - الحديث السادس والثلاثون: [عن عبد الله قال: (حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق، (أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا. ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله ملكًا بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح، فوالذي لا إله غيره! إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل

أهل النار. فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها] * قوله: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا) دليل على أن الطبيعة لا تفعل ذلك لأنه لو كانت الطبيعة من شأنها أن تولد النطفة كيف كانت تستحيل بنفسها فتصير علقة، وإن كانت الطبيعة هي التي من شأنها أن تجعلها علقة فكيف تصير مضغة في مقر واحد، وهكذا حتى تصير عظامًا وهكذا إلى حين تمامها. * ثم هذا الحديث يدل على وجوب الإيمان أن كل نسمة توجد إلى يوم القيامة قد سبق في علم الله ما يكون من رزقها وأجلها وسعادتها وشقائها. وهذا علم ينفرد الله عز وجل به، فله الأمر من قبل ومن بعد. * قال أحمد بن حنبل -رحمه الله- لما سمع هذا الحديث قال: هذا الحديث ينبغي أن يكون أشد شيء في الحث (131/ ب) على زيادة العمل. ووفق ذلك فإنه حيث كان الأمر قد فرغ منه فإنه لا يعمل إلا من قد سبق له التوفيق فهو يعان عليه ويساعد فيه، وهو الأمارة على أن الكتاب الذي سبق كان مقتضيًا ذلك، إلا أنه مع ذلك فإنه لا ينبغي أن يركن الإنسان إلى عمل ولا يعول على عبادة، فإن الله سبحانه وتعالى إذا اطردت الأسباب خرقها في نوادر، ليتبين بذلك أنه لا تجوز عبادة الأسباب ولكن يعبد الله المسبب؛ فلهذا قال: (فيبقى بينه وبين الجنة أو بين النار مقدار ذراع) فهذا ينبغي أن يتداوى به في نفي العجب عن العاملين لا ترك العمل الصالح، وفي الحذر من القنوط من رحمة الله تعالى لا في الزيادة من الذنوب إزماعًا على الهلكة.

- 261 - الحديث السابع والثلاثون: [عن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته)] * في هذا الحديث دليل على أن خير الناس الذين صحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأوه ثم التابعون لهم بإحسان كما قال عز وجل: {والذين اتبعوهم بإحسان}. *وقوله: {ثم الذين يلونهم} تنبيه على من يأتي إلى يوم القيامة، فإن كل متقدم خير ممن يليه. ثم حذر من قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته؛ لأن الشاهد إن كان لا غرض له فيما عليه أن يحلف -قبلت شهادته أم ردت- فهو يدل يمينه على شهادته أنه متهم أو خائف أن يتهم فيكمل شهادته بيمين. -262 - الحديث الثامن والثلاثون: [عن عبد الله، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (اقرأ علي القرآن) فقلت يا رسول الله أقرأ عليك، وعليك أنزل. قال: (إني أحب أن أسمعه من غيري) قال:

فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك (732/ أ) على هؤلاء شهيدًا قال: (حسبك الآن)، فالتفت إليه، فإذا عيناه تذرفان]. وفي رواية لمسلم قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (شهيدًا ما دمت فيهم -أو ما كنت فيهم). * في هذا الحديث أن القرآن في سماعه ثواب كما في تلاوته. * وفيه أيضًا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أتى إلى هذه الآية التي فيها ذكره وأنه لا بد أن يأتي شاهدًا على أمته، وإنما يحبس الحاكم ويطلق بشهادة الشهود، فإذا كان شهيدًا على أمته وهو شفيعهم وبه يتوسلون فكيف تكون أحوالهم، فلذلك ذرفت عيناه فيما أرى - صلى الله عليه وسلم -. *وفيه من الفقه أنه يجوز لمن يقرأ عنده القرآن أن يقول للقارئ (حسبك). - 263 - الحديث التاسع والثلاثون: [عن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعلم آخر أهل النار خروجًا

منها، وآخر أهل الجنة دخولًا في الجنة، رجل يخرج من النار حبوًا فيقول له الله تعالى: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول: يا رب، وجدتها ملأى، فيقول الله عز وجل له: اذهب فادخل الجنة، قال فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، ويرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول له الله عز وجل: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا فيقول: أتسخر بي (أو أتضحك بي) وأنت الملك؟ قال: فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه فكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة]. * في هذا الحديث من الفقه أن أدنى أهل الجنة منزلة من يجتمع له مثل ملك ملوك الدنيا في شرقها وغربها وجبالها وأوديتها وأنهارها وأشجارها ويضاعف ذلك عشرة أضعاف وهذا آخر من يخرج من النار، فلا يبقى بعده إلا من يخلد (132/ ب). *وقوله: (فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى) يدل على أنه كان من أهل تخيلات السوء ولم يكن من أولي الألباب؛ لأنه بعد أن خرج من النار وقد مكث فيها مدة طويلة أمره الله عز وجل أن يمضي فيدخل الجنة فعرض له تخيل سوء بأن الجنة ملأى بمن فيها فلا يكون معه من الإيمان والمعرفة بالله سبحانه أن يعلم أنه يأمره بدخولها إلا وهو سبحانه عالم أن له مكانًا فيها؛ فيرجع بتخيله فيأمره الله سبحانه ثانيًا فيعرض له تخيله السيء فيرجع عنها ثم

تأتيه حتى إذا قال الله عز وجل: {لك مثل الدنيا وعشرة أضعافها}، يستكثر هذا في كرم الله عز وجل لأنه لم يعرف الله سبحانه وتعالى، ولا قدره حق قدره، فذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ليتبين به أهل النار مثل هذا الشخص كما قال عز وجل: {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}. * فأما ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه فيما أرى؛ أنه لما رأى عطاء الله سبحانه وتعالى لهذا الرجل على أحواله هذه، وأنه أعطى مثل الدنيا عشرة أضعاف، استبدل به على جزالة ما يعطي الله عز وجل المؤمنين وسعته وطيبه فضحك سرورًا بذلك إن شاء الله تعالى. - 264 - الحديث الأربعون: (عن ابن مسعود، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الذنب أعظم؟ قال: (أن تجعل لله ندًا وهو خلقك)، قال: قلت: إن ذلك لعظيم. قلت: ثم أي؟ قال: (أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك) قلت: ثم أي؟ قال: (وأن تزاني حليلة جارك)

* هذه الذنوب المذكورة في الحديث دركات في مقام السوء، فلذلك عظم الجواب على مقاديرها فقوله: (أن تجعل لله ندًا وهو خلقك). فإن المشرك يعلم قطعًا أنه لم يخلقه الذي يشركه مع الله عز وجل، ولا في خلقه شركة فيكذب في جعله ندًا لله عز وجل كذبًا يعلمه هو فلا يكفيه أن يجحد أن الله خلقه حتى يجعل له مثلًا. وكذلك الذي يقتل (133/ أ) ولده مخافة أن يطعم معه، وهو في نفسه يطلب من الله طعمته، فماذا عليه من غيره حتى يقتله؟ وكذلك الزاني فإنه يأتي بفاحشة، إلا أنه إذا أتاها مع حليلة جاره وهو عنده كالمؤتمن والأحسن منه إن كان يحمي حريم جاره ويحرس ذماره -فكيف يكون هو الذي يأتي بالفاحشة إليه؟! - 265 - الحديث الحادي والأربعون: [عن عبد الله رضي الله عنه قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: (الصلاة على وقتها) قلت: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين). قلت: ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله)، قال: حدثني من لو استزدته لزادني].

* في هذا الحديث دليل صريح على أن أفضل الأعمال الصلاة على وقتها، وذلك لأنها هي التي يفرق بها بين المؤمن والكافر، ثم أتبعها ببر الوالدين وهو مما يدل على كرم طبع البار؛ فإنه إذا ذكر حال ضعفه وعجزه وكونه كان طفلًا لا يقدر على دفع أذى عن نفسه، ولا جلب منفعة إليها فسخر الله له الوالدين فأحسنا إليه إحسانًا استمر به حتى أنهما بعرضة أن يرثهما فيخرجان من الدنيا له، فقد أحسنا في حال ضعفه، وأحسنا في حال قوته، فمتى برهما دل ذلك على أنه من ذوي الألباب، الذين يسعون في فكاك ذممهم من ديون الإحسان ولا سيما بأول المحسين وهما الأبوان اللذان سبق إحسانهما إليه، وسلف برهما به، وتبع ذلك إنهما يخرجان من الدنيا ويتركان ما في أيديهما له، فلذلك صار هذا البر على أثر إقامة الصلاة في الفضيلة، ثم ذكر الجهاد بعد هذا، وذلك أنه يدل على مبدأ الإنسان في حفظه وهو النفس، فإن الإنسان لا يجود بها إلا موقنًا أن وراءه مقرًّا خيرًا من هذا المقر، وإن القائلين بما لا يليق بجلال الله يستدعي من المؤمنين الغيرة وأن يبذلوا نفوسهم حتى تكون كلمة الله هي العليا، وأن لا يذكر في الأرض إلا كلمة الإخلاص (133/ ب) وهي لا إله إلا الله، فإذا جاهد هذا المسلم أعداء الله على هذه الكلمة حتى تكون هي العليا فقتل؛ فإنه قاتل بلسان حاله لا إله إلا الله، ولسان الحال في هذا المقام أمكن من لسان المقال. -266 - الحديث الثاني والأربعون: [عن عبد الله أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فنزلت: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) الآية فقال: يا رسول الله، ألي هذه؟ قال: (ولمن عمل بها من أمتي)].

[وفي رواية لمسلم قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة. وإني أصبت منها ما دون أن أمسها فأنا هذا فاقض في ما شئت: فقال له عمر: لقد سترك الله، لو سترت على نفسك، قال: ولم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، فقام الرجل فانطلق فأتبعه النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا، فدعاه وتلا هذه الآية عليه: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين} فقال رجل من القوم: يا نبي الله هذا له خاصة؟ قال: (بل للناس كافة)]. *في هذا الحديث ما يدل على شدة ورع هذا الرجل الذي اختلف في اسمه على ثلاثة أقوال: أحدها، أنه عمرو بن غزية أبو حية الأنصاري، قاله ابن عباس. والثاني: عامر بن قيس الأنصاري، قاله مقاتل. والثالث: أبو اليسر كعب بن عمرو، وذكره أبو بكر الخطيب. فلما جرى على هذا الشخص من مصيبة الله عز وجل ما جرى اختار الإعلان بحاله، وآثر سؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صورة أمره وتسليمه إليه نفسه ليقضي فيها بما شاء.

*وفيه أيضًا أن الذي رآه عمر من ستره لنفسه فوق ما يراه الرجل، فلو ستر على نفسه وتاب فيما بينه وبين الله عز وجل كان ذلك أولى، من حيث أن ما جرى منه هو كشف عورة -فهو أنه كما ينتقم بالإظهار من نفسه بما جرأ- جرأ على المعصية من غيره من قد كان يرى عن هذا الرجل أن (134/ أ) مقامه أكبر من أن يتعرض لمثل هذه. *وقوله: {إن الحسنات يذهبن السيئات} يدل على فرق ما بين كرم الله تعالى وبين عباده، فإنه من لطفه أن الحسنات عنده يذهبن السيئات أي تمحوها وتزيلها، ومن شأن العباد أن السيئات عندهم تذهب الحسنات، فشتان ما بين حالين، ويا خسران من ترك معاملة الله تعالى إلى معاملة فلان وفلان. -267 - الحديث الثالث والأربعون: [عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن (أو قال ينادي) بليل ليرجع قائمكم، ويوقظ نائمكم، وليس الفجر أن يقول: هكذا. وجمع بعض الرواة كفيه -حتى يقول: هكذا، ومد إصبعيه السبابتين]. وفي رواية جرير: وهو المعترض، وليس بالمستطيل.

* في هذا الحديث من الفقه: جواز الأذان لصلاة الفجر قبل دخول الوقت. * وفيه: أن الأذان لا يمنع من السحور. * وفيه أيضًا: أن المصلين كانوا إذا دخلوا في الصلاة انصرفوا عن الخلق وتوجهوا إلى الله عز وجل. فلذلك قال: يرجع قائمكم أي إليكم فيما أرى ويوقظ النائم ليتأهب للصلاة. ويعني الراوي بمد إصبعيه أن الفجر هو المعترض لا المستطيل. - 268 - الحديث الرابع والأربعون: [قال عبد الله: من اشترى محفلة فليرد معها صاعًا. في بعض الروايات عند البرقاني: من تمر، ولم يذكره البخاري قال: ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تلقي البيوع]. * فيه من الفقه أن الإنسان إذا اشترى محفلة وهي المصراة، والمصراة التي قد جمع لبنها في ضرعها أيامًا ليغر بها مشتريها فإنه لا يمكنه أن يعتبر التصرية فيها والتحفيل إلا بأن يحلب لبنها، فإن رد ما يكون قيمة ذلك اللبن لا يعلم مقداره فيرد معه صاعًا لئلا يخسر صاحبها مقدار اللبن فيجمع ذلك عليه مع ردها (134/ ب) عليه.

* وأما تلقي البيوع، فالمعنى فيه أنه إذا تلقاهم ولم يخبرهم بأسعار البلد غرهم. وفي حديث آخر: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض). - 269 - الحديث الخامس والأربعون: [عن عبد الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه، ولا تباشر المرأة المرأة فتصفها لزوجها كأنه ينظر إليها)]. * إنما نهى عن تناجي اثنين دون الثالث لأن ذلك يحزن الثالث، ومن أجل أنه يعطي هذا المقصد بين المسلمين منع ذلك على الإطلاق، فإذا انفردا عن أخيهما المسلم بنجوى أحزناه، فإن صاروا أربعة جاز أن يتناجى اثنان منهم؛ لأن ذلك المعنى يزول لانفراد اثنين بنجوى فيكون لكل واحد من الممنوعين بالادخال في السر أسوة بالآخر فلا يتعين انقباض من الواحد، بل لو تناجى ثلاثة دون الرابع كان كتناجي اثنين دون الثالث في الكراهية. * وأما مباشرة المرأة المرأة؛ فإنه يدل على أنه يكره للمرأة أن تصف لزوجها امرأة أخرى والمراد بالمباشرة قيل: إنه رؤية البشرة. فلا ينبغي أن تصف ذلك لزوجها لا على وجه المدح فربما عرضه للافتتان بها، ولا على وجه الذم والوقيعة، فتمدح نفسها، فعلى كلا الحالين الوصف مكروه.

- 270 - الحديث السادس والأربعون: [عن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)]. * سباب المسلم من أجل أنه مسلم فسوق، وقتال المسلم من أجل أنه مسلم كفر، وأما غير هذا الوجه فكل مقام فيه مقال. - 271 - الحديث السابع والأربعون: [عن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد (135/ أ) أحب إليه المدح من الله عز وجل؛ ولذلك مدح نفسه). وزاد مسلم في رواية له: (وليس أحد أحب إليه العذر من الله عز وجل من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل)].

* في هذا الحديث تنبيه على أن لله سبحانه غيرة على عبده وأمته، وأن من أتى فاحشة مع أمة من إماء الله بغير إذن مالكها جل جلاله فقد اجترأ على حمى الله سبحانه. * وقوله: (ولا أحد أحب إليه المدح من الله) لأنه سبحانه يحب الصدق، ولا يصدق المادح إلا في مدح الله عز وجل، فإن مدحه نشر الآية الحميدة، وهو يستدعي تحبيب الله تعالى إلى عباده، ويحضهم على طاعته فيستدعي حب الله تعالى لعباده، إلا أنه سبحانه لما علم عجز الخلق عن مدحه تعالى مدح نفسه سبحانه. * وقوله: (وليس أحد أحب إليه العذر من الله) .. أي إقامة العذر، ولذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل لئلا يكون للناس على الله حجة يعد الرسل؛ ولذلك لا يدخل النار إلا من قد برد قلبه بإقامة الحجج عليه فهو كالمتشفي من نفسه لظلمها وبغيها على الله عز وجل بعد أن انكشفت لها الأمور وزال عنها اللبس. - 272 - الحديث الثامن والأربعون: [عن شقيق، قال: جاء رجل يقال له نهيك بن سنان إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن! كيف تقرأ هذا الحرف، ألفًا تجده أم ياء، (من ماء غير آسن). أو من ماء غير ياسن؟ فقال له عبد الله، أو كل القرآن قد أحصيت غير هذا؟ قال: إني لأقرأ المفصل في ركعة. فقال عبد الله: هذا كهذ الشعر إن أقوامًا يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم

ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع، إن أفضل الصلاة الركوع والسجود. إني لأعلم النظائر التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرن بينهن سورتين في كل ركعة. ثم قام عبد الله فدخل علقمة في إثره. فقلنا له: (135/ ب) سله عن النظائر التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في ركعة، فدخل عليه فسأله ثم خرج علينا فقال: عشرون سورة من أول المفصل على تأليف عبد الله آخرهن من الخواتيم (حم الدخان) و (عم يتساءلون)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الإنسان يتعين عليه أن يتقن الأصول قبل طلب الفروع، ألا ترى قول ابن مسعود: أوكل القرآن قد أحصيت غير هذا؟ إذ لا يعرف أحد يقرأ ياسين، ويدلك على أن ابن مسعود لم يرض فقه المسائل من أجل أنه لما سأله عن علمه في أصول القراءة لم يجبه عنه بل عدل إلى غيره، وقال: إني لأقرأ المفصل في ركعة، وليس هذا بجواب لابن مسعود، فإن جوابه كان أن يقول: إني عرفت ذلك كله أو لم أعرفه فعدل إلى كلام آخر فوجد ابن مسعود فيه أيضًا ما يقتضي نهيًا آخر فقال له: هذا كهذ الشعر، وهذا هو جواب هذا الكلام الأخير ثم أتبعه بقوله: (إن أقوامًا يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم) تحذيرًا له أن يكون منهم، ثم قال بعد ذلك: إذا وقع في القلب فرسخ في القلب أي ثبت فيه. * ومن دليل الخطاب في هذا الكلام أنه ينبغي أن يشتد الخوف على من يقرأ القرآن ولا يرسخ في قلبه. * وأما قوله: (إن أفضل الصلاة الركوع والسجود) فما أراه إلا أنه، إذ كرر الركوع والسجود كان بذلك مسبحًا لله عز وجل، ومعظمًا له، وكان ذلك لمن يهذ

القرآن أفضل. وأما من يتدبر القرآن بالتلاوة فإن طول التلاوة له أفضل، وسيأتي تفصيل هذا في الأحاديث التي يذكر فيها إن شاء الله تعالى. *وقوله: (إني لأعلم النظائر التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرن بينهن) فيه جواز أن يقرن الرجل بين سورتين في ركعة. * وفيه من الفقه أن العالم إذا سأله من لا يحسن السؤال أو من لا يراه أهلا لأن يحمل عنه (136/ أ) أن لا يضيع الزمان في حديثه. ألا ترى ابن مسعود كيف قام وترك الرجل حتى سأل الحاضرون علقمة أن يدخل إلى ابن مسعود فيسأله عن النظائر. *فأما النظائر فليس في هذا الحديث ما يدل أنها نظائر في القصص أو في عدد الآي أو الوعد أو الوعيد أو غير ذلك ومن النظائر في العدد نحو الحجرات والتغابن وكل واحدة منهما ثماني عشرة آية ونحو سورة الحديد تسع وعشرون ومثلها التكوير، ونحو المجادلة اثنتان وعشرون ومثلها البروج، ونحو الجمعة إحدى عشرة آية ومثلها المنافقون والضحى والعاديات والقارعة، والطلاق اثنتا عشرة آية ومثلها التحريم، ثم سورة الملك ثلاثون آية ومثلها الفجر، ونون خمسون آية وآيتان ومثلها الحاقة، والمزمل عشرون ومثلها البلد، والقيامة أربعون ومثلها القتال، والانفطار تسع عشرة آية ومثلها الأعلى والعلق، والانشراح ثماني آيات ومثلها التين والزلزلة والتكاثر، والقدر خمس آيات ومثلها الفيل وتبت والفلق، والعصر ثلاث آيات ومثلها الكوثر والنصر، وقريش أربع آيات ومثلها الإخلاص، والكافرون ست آيات ومثلها الناس. * وإن كان يعني النظائر في القصص وهو أن يخرج من قصة إلى نظيرها نحو قوله في آخر سورة الأحقاف: {فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} ثم أتبعها

بوصفهم فقال: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم} وكذلك قوله في آخر الذاريات: {فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون} ثم ذكر ذلك اليوم بقوله: {والطور، وكتاب مسطور} الآيات. إلا أنه في هذا الحديث المفصل، والمفصل قصار السور. قال ابن قتيبة (136/ ب) (سميت مفصلًا لقصرها وكثرة الفصول فيها بسم الله الرحمن الرحيم). * الترقوة: العظم بين الحلق والصدر، وإنما سميت بترقوة لترقيها، والواو في ترقوة منقلبة عن ياء لأن جمعها تراقي وإنما لما انضم ما قبلها انقلبت واوًا. - 273 - الحديث التاسع والأربعون: [عن شقيق، قال خطبنا عبد الله فقال: على قراءة من تأمرونني أن أقرأ، والله لقد أخذت من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعند مسلم: (لقد قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعًا وسبعين سورة ولقد علم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني من أعلمهم بكتاب الله عز وجل وما أنا بخيرهم، ولو أعلم أن أحدًا أعلم مني لرحلت إليه).

قال شقيق: فجلست في حلق أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فما سمعت أحد يرد ذلك عليه، ولا يعيبه]. * في هذا الحديث من الفقه جواز أن يذكر الرجل فضل نفسه إذا غفل عن قدره ليحض الناس على التعلم منه والتحمل عنه. * وقوله: (على قراءة من تأمرونني أقرأ؟ لقد أخذت من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعًا وسبعين سورة) فإنه صادق في ذلك إلا أن الذي وقع عليه الإجماع وشهد به أربعة من الرجال الذين عددهم الغاية في البيان، وأقره الخلفاء الراشدون هو الحق، وإذا خالف عبد الله شيئًا منه في بعض الحروف كان الرجوع إلى ما شهد به الأكثر، إذ الواحد فد يجوز عليه الخطأ والنسيان وغير ذلك ما يجوز. * وقوله: (لقد علم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني من أعلمهم بكتاب الله) فهو صادق في ذلك، وهذا قول عالم إلا أنه احترز بقوله (من أعلمهم) ولم يقل أنا أعلمهم. *وقوله: (لو أعلم أن أحدًا أعلم مني لرحلت إليه) يدلك على أن المتعين على العالم إذا أشير إليه وتفرد في علمه فبلغه أو (137/ أ) إذا عرف أن عالمًا أعلم منه في ذلك العلم الذي أشير إليه هو فيه كان المتعين عليه أن يرحل إليه ويستفيد منه، فيزداد بذلك علمًا إلى علمه. وليعرف الناس باستحقاق العالم بالقصد له فيصرفهم إليه. *وقول شقيق: (فجلست في حلق أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فما رأيت أحدًا يرد ذلك عليه ولا يعيب عليه) فإنه قول صدق فإنه لم يقل إلا قول عالم محترز في قوله فلا يعيبه عليه محق.

-274 - الحديث الخمسون: [عن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بئسما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت، بل هو نسي، فاستذكروا القرآن، فإنه أشد تفصيًا من صدور الرجال من النعم من عقلها). وفي رواية يحيى بن يحيى، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقل أحدكم: نسيت آية كذا وكذا، بل هو نُسِّي)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الكلمة إذا كانت تحتمل معنيين: أحدهما، يتضمن سوء أدب، فالأولى أن يعدل الإنسان عنها إلى كلمة لا تحتمل إلا معنى واحدًا خارجًا عما يحذر، فإن قوله: (بئسما لأحدهم أن يقول نسيت) فإن نسيت تكون بمعنى تركت. ولا ينبغي لأحد أن يقول: تركت آية كذا وكذا فإذا قال: (نسيت آية كذا وكذا) خلص قوله من الاحتمال، ثم لما كان هذا يخلص منه أن يستذكر الإنسان القرآن بدراسته وتلاوته عقبه يذكر الحض على الدراسة والتلاوة. ثم أتبعه بقوله: (فإنه أشد تفصيًا من صدور الرجال من النعم من عقلها) وذلك أن القرآن حق فصل ليس بالهزل، جد كله، وما قد نشأ الآدمي عليه من أضداد هذه الأحوال فقد أنس بها طبعه. فإنه لا يزال ينزع إلي ما قد أنس به وطالت صحبته فيضطر غلى تذكار القرآن وتكرير دراسته وتلاوته، ويزيده قوة على ذلك أن يفهم ما يقرأه، ألا تراه يقول: أشد (137/ ب) تفصيًا من النعم من عقلها؟ فإن الأفهام إذا أدركت المعاني كانت لسرورها بها من أعوان التالي بخلاف ما إذا قرأ ما لا يفهمه. وأما التفصي فإنه من تفصى الشيء إذا انفصل عنه.

-275 - الحديث الحادي والخمسون: [عن عبد الله، قال: ذكر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل نام ليله حتى أصبح وفي رواية: مازال نائمًا حتى أصبح ما قام إلى الصلاة فقال: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنه، أو قال في أذنيه)]. * في هذا الحديث من ظاهر نطقه الحض على قيام الليل نافلة، وإن كان مع تحرير كلمه ينصرف إلى من نام عن العشاء لأنه قال (نام الليل كله) والعشاء بعض الليل. * وقوله: (بال الشيطان في أذنيه). أعلم أن الباب الذي يدخل منه إلى اليقظة هو الأذن لقوله: {فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددًا}. * وقوله: (بال الشيطان في أذنه) فلا أراه إلا مثلًا من حيث أن الآدمي إذا أهمل سمعه في نهاره قبل نومه انتهز الشيطان فرصة غفلته؛ فقذف في أذنه من الكلام الخبيث المشكك له في الدين، والمغلب عنده طيب راحة النوم على ناشئة الليل فمنعه من قيام الليل؛ فكان بمثابة من ألقى البول في أذنه من حيث أنه ألقى الكلمة الخبيثة النجسة في أذنه فلذلك نام الليل كله من غير انزعاج لذكر الله تعالى في الليل الذي يخلو فيه بنفسه، ويسلم فيه من الرياء لأحد من خلق الله تعالى ولا يمتنع أن يكون للشيطان بول لا يحس به الآدمي وقد ذكر هذا العلماء.

-276 - الحديث الثاني والخمسون: [عن عبد الله: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني فأقول: أي رب أصحابي؟ فيقال: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) (138/ أ)]. * في هذا الحديث أنه فرط لأمته على حوضه والفرط: هو السابق إلى الماء. * وفي الحديث دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - يومئذ عال في المقام والمكان، ألا تراه يقول: حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني. ومعنى اختلجوا أي اجتذبوا؛ فأقول أصحابي فيقال: (أنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) وهذا ينصرف إلى من ارتد بعده كالذين منعوا الزكاة وغيرهم. -277 - الحديث الثالث والخمسون: [عن عبد الله، قال: قال رجل يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟

فقال: (أما من أحسن في الإسلام فلا يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ون أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر)]. * في هذا الحديث من الفقه أن المسلم إذا أحسن إسلامه كان الإسلام جابًا لما قبله. * وفيه من الفقه أنه إذا أسلم بلسانه ولم يحسن عمله ولا صلحت نيته ولا آمن قلبه؛ فإنه يضاعف عليه السوء، ويؤخذ بما كان أساء في وقت عناده ومظاهرته بالشقاق مع الكفار، وبإساءته التي أتى بها في حال إسلامه، وهذا ينصرف إلى المنافقين ونحوهم إن شاء الله تعالى. -278 - الحديث الرابع والخمسون: [عن شقيق قال: (كان عبد الله يذكر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم؟ قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بها، مخافة السآمة علينا)

* فيه من الفقه أن الواعظ ينبغي له أن يكون همه في وعظ الناس أن يعلمهم من الخير بقدر ما يعلم أنهم يحفظونه، وأن يكون غرضه في الترقيق جذب القلوب إلى أن تفيء ثم ينتهز فرصة حضورها وانجذابها إلى حفظ ما يعلمها، وأن يتجنب كل ما يراه داعيا إلى السأم، وأن يغب بالموعظة (138/ ب). * وقوله (يتخولنا). قال أبو عبيد (يتخولنا): يتعهدنا، والخايل: المتعهد للشيء والمصلح له والقائم به، وروي يتخوننا بالنون، والتخون مثل التخول وكان أبو عمر بن العلاء يقول: إنما هو يتخولهم أي ينظر حالتهم التي ينشطون للموعظة والذكر فيعظهم فيها، ولا يكثر عليهم فيملوا. * وهذا الحديث فيه من المسند (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا). -279 - الحديث الخامس والخمسون: [عن عبد الله، قال: لما كان يوم حنين آثر النبي - صلى الله عليه وسلم - ناسًا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن مثل ذلك، وأعطى أناسًا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله. قال: فقلت: والله لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فأتيته فأخبرته بما قال، فتغير وجهه حتى كان كالصرف، ثم قال: فمن

يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله) ثم قال: (يرحم الله موسى، فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر). قال: (فقلت: لا جرم، لا أرفع إليه بعدها حديثًا)]. * الصرف: صبغ يصبغ به الأديم. * وفي هذا الحديث من الفقه جواز إيثار الإمام وتفضيله قومًا في الغنائم على قوم على حسب ما يراه في مصالح الإسلام. * وفيه أيضًا دليل على حلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شرارات النطق الخفي طلبًا لجمع الكلمة وكراهية لشق العصا عند نفث كل ناطق غاو ما لم يظهره. * وفيه أيضًا جواز تأدية القول الذي ليس بصالح إذا قيل إذا كانت التأدية عبرة للحق ليعلم قائله فيحذر. * وفيه أيضًا أن عبد الله لما رأى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضب لذلك الخبر الذي أخبره به ثم لم يزد على أن قال: (قد أذي موسى بأكثر من هذا فصبر) (139/ أ) اقتضى استصوابه أن لا يرفع بعد ذلك إليه - صلى الله عليه وسلم - مثله. وهذا جائز مع أمن الشر الذي يخاف في كتمان مثله مما ينشر أذاه أو يعظم ضرره.

- 280 - الحديث السادس والخمسون: [عن عبد الله قال: (صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأطال حتى هممت بأمر سوء. قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه))]. *فيه جواز تطويل الصلاة وإن شق على بعض المأمومين، وهذا فلا أراه إلا في النافلة. * وفيه أيضًا جواز أن يخبر الرجل عن نفسه بما كان من همه بسوء ووقاية الله عز وجل إياه شرها، وعلى أنه لو بلغ به الأمر أن لا يطيق القيام فلم يستمسك جاز له أن يقعد. - 281 - الحديث السابع والخمسون: [عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من مات يشرك بالله شيئًا، دخل النار). وقلت أنا: (من مات لا يشرك بالله (شيئًا) دخل الجنة) وفي رواية لمسلم بالعكس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من مات لا يشرك بالله شيئًا، دخل الجنة)، وقلت أنا: (من مات يشرك بالله شيئًا، دخل النار).

وفي رواية للبخاري قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمة وقلت أخرى قال: (من مات يجعل لله ندًا دخل النار)، وقلت: (من مات لا يجعل لله ندًا دخل الجنة)]. * في هذا الحديث على ما ذكر في الروايات دليل على أن الشرك بالله ضد الإيمان به، فكما أن الشرك يدخل النار فمن ليس يشرك يدخل الجنة. وهذا صحيح حق. - 282 - الحديث الثامن والخمسون: [عن ابن مسعود قال: (كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبيًا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)]. * في هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر ما جرى لنبي قبله من الأذى ليشعر أصحابه وأمته أن صبره على أذى قومه قد سبقه الأنبياء إليه، وليس هو عن عجز ولا عن ذل كما يظنه أهل (139/ ب) الجاهلية، وإنما هو الرفق بالخلق والأناة

بهم والصبر عليهم، ولا سيما إذا كانوا لا يعلمون فيصبر انتظارًا لهم أن يؤمنوا؛ فيكون صبره ذلك نوعًا من المجاهدة في سبيل الله عز وجل. * وقوله: (يمسح الدم عن وجهه) يعني أنه بلغ الأمر به إلى أن اجترأ عليه قومه حتى ضربوه وأدموه في وجهه وذلك من أشق ما لقي الأنبياء. * وفيه أيضًا دليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يولي المشركين ظهره بل يلقاهم بوجهه؛ ولذلك شج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجهه وكسرت رباعيته أي أنه كان مقبلًا غير مدبر - صلى الله عليه وسلم -. - 283 - الحديث التاسع والخمسون: [عن عبد الله بن مسعود قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! كيف ترى في رجل أحب قومًا، ولما يلحق بهم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المرء مع من أحب)]. * في هذا الحديث دليل على أنه سيلحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من أحبهم إلى يوم القيامة إن شاء الله؛ فإن قوله (لما يلحق بهم)؛ فإن لما أصلها (لم) زيدت عليها (ما) ليقتضي التأخير فيتصرف المعنى إلى أنه لم يلحق بهم عملًا ووقتًا. وفيه أيضًا بشرى لمن أحبهم ثم قصر به عمله أن يبلغ أعمالهم. فإن الله عز وجل يلحقه بهم من حيث أنه بنفس حبه لهم فنيته تكون متمنية بلوغ مرامهم؛ فلمثل هذا كانت نية المؤمن بالغة ما لم يبلغه عمله.

*ويستدل من نطق هذا الحديث على أنه لا ينبغي لمسلم أن يحب كافرًا ولا أن يوده، ولا أن يتعرض أن يكون له عنده يد فيوده لأجلها مخافة أن يلحقه الله به؛ لظاهر هذا الحديث فإنه لم يقل المرء مع من أحب من الصالحين خاصة بل أطلقه، وهذا عام يتناول الصالحين وغير الصالحين. - 284 - الحديث الستون: [عن ابن مسعود قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء)]. * في هذا الحديث (140/ أ) من الفقه أنه لما كان يوم القيامة هو يوم الوزن الحق لم يقدر فيه إلا الأهم، والنفوس هي مالكة الأموال والأعراض فيبدأ في يوم القيامة بفعل الأهم فالأهم فإذا قضي فيه بالحق فيما كان من الدنيا من إصابة النفوس والجراح عدل حينئذ إلى القضاء فيما كان ملكًا لهذه النفوس أو مضافًا إليها ليعلم حينئذ تحرير التدبير في ذلك اليوم. - 285 - الحديث الحادي والستون: [عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لكل غادر لواء يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان)].

* لما أتى الغادر بالشنعاء في اللوم وهي الغدرة وإنما يأتي ذلك لذل فيه عن المجاهرة بالغدر، رفع اللواء عليه لإظهار شهرته بعقوبة يشهدها الأولون والآخرون، كما يقام في الدنيا شاهد الزور، ويعلم الناس بحال المفلس؛ لئلا يغتر بهما أحد. * وفي هذه الإهانة للغادر إكرام لأهل الوفاء بالعهود من جهة أنه شاركهم في العهد وتميز بالعقوبة، فلما أهين علمت كرامتهم. - 286 - الحديث الثاني والستون: [عن أبي وائل قال: كنت جالسًا مع ابن مسعود وأبي موسى الأشعري فقالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن بين يدي الساعة أيامًا، ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج- والهرج: القتل). وفي رواية البخاري أن الأشعري قال لعبد الله: أتعلم الأيام التي ذكر فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - أيام الهرج؟ .... قال ابن مسعود: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء). وفي رواية لمسلم: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس)].

* في هذا الحديث من الفقه أن قيام الساعة يكون عند كثرة الشرور، وقلة الخير، وأن العدل حينئذ يستدعي قرب (140/ ب) وقت القضاء، وإنصاف المظلوم، وأنه ما دام الخير أكثر والعمل أظهر والجهل أخفى، فإن الحال المثلى راجحة. * وفيه أيضًا من الفقه أن شرار الناس الذين تقوم عليهم الساعة يكونون من بقايا عصب الرجال ممن قد رأى اليوم الذي لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل. * وفيه أن من أشراط الساعة أن يجترئ الناس على القتل ويستخفوا بأمر الدماء؛ فإن الذين تدركهم الساعة وهم أحياء شرار الناس؛ لأنهم يصادفون الأهوال ثم تتصل بهم. - 287 - الحديث الثالث والستون: [عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا)). وفي أفراد مسلم نحوه وفي أوله (ألا أنبئكم ما العضة)].

* في هذا الحديث من الفقه أن الرجل يصدق ثم يصدق إلى أنت ينتهي به إكثار الصدق إلى أن يكتب صديقًا، والصديق هو الصادق في مقاله وفي حاله فمقاله يصدق حاله، وحاله يصدق مقاله. * وصديق فعيل من الصدق يسمى به كل مكثر من الصدق كما يقال سكيت وشريب أي كثير السكوت والشرب، وكذلك إذا كذب ثم كذب فإنه يكتب عند الله كذابًا، ولم يأت في اللغة كذيب لأن الكذب عورة فقليلها مذموم فلم بين لها بناء نهائيًا مبالغة ليحذر القليل منها. * وأما العضة ها هنا فهي النميمة. -288 - الحديث الرابع والستون: [عن أبي وائل، عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (141/ أ) قال: (من حلف على مال امرى مسلم بغير حقه، لقي الله عز وجل وهو عليه غضان) قال عبد الله: ثم قرأ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصداقه من كتاب الله: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا ..} إلى آخر الآية- وفي رواية زيادة (فدخل الأشعث ابن قيس قال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن؟ قلنا: كذا وكذا، قال: صدق أبو عبد الرحمن، كان بيني وبين رجل خصومة في بئر. فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (شاهداك أو يمينه). فقلت: إنه إذن يحلف ولا يبالي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم،

هو فيها فاجر: لقي الله وهو عليه غضبان) ونزلت: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا} إلى آخر الآية))]. * في هذا الحديث من الفقه أن من حلف بالله سبحانه كاذبًا ليقتطع به شيئًا من الدنيا استحق غضبه عز وجل. وذلك مشير من فاعله إلى عدم الإيمان فإنه من أقسم بالله كاذبًا ليغر خصمه بأنه صادق، فرضي خصمه باسم الله تعالى عوضا عن ماله فأرضى الله عنه، وتعرض الحالف الفاجر بما اقتطعه من مال أخيه فاستحق غضب الله عز وجل بما أفصح به من حاله عن عدم إيمانه به. وفي هذا سر من حيث أن الله سبحانه وتعالى لم يوجب على من أؤتمن على حق بغير شاهد عليه يجحده سوى اليمين بالله عز وجل، وتحت ذلك من السر أن الله عز وجل لم يشرع في الجحد غير ذلك، فإنه قد أشار بالحال إلى أن اسمي عند عبادي أعظم وأعز وأكبر من أن يحلفوا بي كاذبين على الدنيا كلها، فكيف على بعضها؟ فإن بدر منهم من لم يكن له نظر في هذا وحلف باسمي كاذبًا فإنني لا أعاقبه بمثل أن أسقط (141/ ب) عنه عقوبة الحلف وأكون أنا القائم بعقوبته، وهذا يستخرج من قوله تعالى: {وقد جعلتم الله عليكم

كفيلًا} أي أن الكفيل من الآدميين ينتقل الحديث إليه والخطاب معه عن مكفوله ويكون خطاب الحق مع الكفيل، وكذلك إذا حلف بالله تعالى فكأنه قد تعرض لأن يجعل الله تعالى كفيلًا من صاحب الحق، فلهذا يصير خطاب الله مع هذا الفاجر في يمينه. * وفي الحديث أيضًا أنه ليس على المدعى عليه سوى اليمين إذا لم تكن بينة -وإن ذهب الحق- لقول الأشعث بن قيس: يا رسول الله إذن يحلف ويذهب حقي. - 289 - الحديث الأول من أفراد البخاري: [عن ابن مسعود قال: (سمعت رجلًا قرأ آية، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ خلافها، فأخذت بيده، فانطلقت به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له فعرفت في وجهه الكراهية وقال: (كلاكما محسن فلا تختلفوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا). * في هذا الحديث من الفقه أن كل من قرأ برواية مما اشتهر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ به من الأحرف السبعة فإنه لا يجوز إنكاره ولا رده، بل يجب قبوله والإيمان به، فإن كلًّا من ذلك شاف كاف.

وفيه نهي عن الاختلاف في الكتاب، والتحذير من ذلك بذكر ما جرى لأهل الكتاب قبلنا من الاختلاف في كتابهم. -290 - الحديث الثاني: [عن ابن مسعود قال: شهدت من المقداد بن الأسود مشهدًا، لأن أكون أنا صاحبه، أحب إلي مما عدل به، أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو على المشركين يوم بدر فقال: (يا رسول الله إنا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: (اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون) ولكن امض ونحن معك، فكأنه سري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)]. * في هذا الحديث من الفقه ما يدل على فضل المقداد بن الأسود وفضل (142/ أ) ابن مسعود من حيث معرفته بالفضل لأهله؛ لأن معرفة الفضل لأهل الفضل فضل، لأنه قال: (لأن أكون أنا صاحبه أحب إلي مما عدل به) وهذا يعني به أنه استشف من تلك الكلمات أنها بلغت من رضى الله عز وجل، ورضى رسوله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الساعة وفي ذلك المقام مبلغًا لا يعدله ما يناله علم البشر من الأماني، وذلك أنه قال قولًا اشتدت به قلوب المؤمنين، وجرى فيه إلى مجرى علاء طمح فيه إلى التفضل على أصحاب بموسى في ضمن إيمان بموسى عليه السلام وإيمان بأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في نبوته على منهاج موسي في الذي جرى له، فكان قوله باعثًا من الفترة فيمن عساه قد كانت عرضت له وزائدًا في إيمان من قد كان انتهض إيمانه إلى أن سري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به.

* واعلم أن المقداد لم يقل: نحن نمضي وأنت، فكان يكون بذلك كالمتقدم بين يدي الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، بل لم يخرج في ذلك عن حد التبع لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (امض ونحن معك)، وهذه الكلمة في ذلك الموطن لا يعدلها قول في غيره. -291 - الحديث الثالث: [عن عبد الله قال: إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها و: {إن ما توعدون لآت، وما أنتم بمعجزين}]. * في هذا الحديث من الفقه أن ابن مسعود سمى كلام الله حديثًا لقوله تعالى {الله نزل أحسن الحديث كتابًا} وينصرف ذلك إلى أنه حديث التنزيل فيما أرى كما روي عن أحمد رحمه الله، فهو أحسن الحديث، وأحسن القول. وهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - طريقته. والهدي: الطريقة، ففي هذا الحديث دليل على أن من أحدث في الدين شيئًا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه خارج عن أن يسمى أحسن بل الذي فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الأحسن * وقوله (142/ ب) (شر الأمور محدثاتها) إنما ذكر الأمور بالألف واللام

المعرفتين لأنه يعني بذلك الأمور التي حررها رسول - صلى الله عليه وسلم -. فكل ما أحدث بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما حرره فهو شر. * فأما ما رآه المسلمون صلاحًا مما لا يضاد الشعر ككتابة المصحف، وجمع المصلين في التراويح على قارئ يؤمهم، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم فإنه ليس من هذا بل هو من المحدثات المستحسنات. -292 - الحديث الرابع: [قال عبد الله: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} قال: رأى رفرفًا أخضر سد أفق السماء]. * هذا كلام ابن مسعود أخبر بالرؤية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الرفرف شبيه بالرف في العلو. * ومعنى سد افق السماء: سد جانبها. -293 - الحديث الخامس: [عن علقمة، قال: كنا جلوسًا عند ابن مسعود، فجاء خباب فقال: يا

أبا عبد الرحمن، أيستطيع هؤلاء أن يقرأوا كما تقرأ؟ فقال: أما إنك لو شئت أمرت بعضهم يقرأ عليك؟ فقال أجل: فقال: اقرأ يا علقمة، فقال زيد بن حدير، أخو زياد بن حدير: أتأمر علقمة أن يقرأ وليس بأقرئنا؟ فقال: أما إنك إن شئت أخبرتك بما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في قومك وقومه، فقرأ خمسين آية من سورة مريم، فقال عبد الله: كيف ترى؟ قال: إنه أحسن، قال عبد الله: ما أقرأ شيئًا إلا وهو يقرأه، ثم التفت إلى خباب وعليه خاتم من ذهب، فقال: ألم يأن لهذا الخاتم أن يلقى، قال: أما إنك لن تراه علي بعد اليوم فألقاه)]. * في هذا الحديث من الفقه تزاور الصالحين. * وفيه أن تزاورهم للخير والتذكر. * وفيه أيضًا أن خبابًا لما رأى المتعلمين عند ابن مسعود أحب أن يختبر حفظهم وقراءتهم. * وفيه أيضًا أن التفويض في تقديم من يرى العالم من المتعلمين إليه، فإن عبد الله أمر علقمة دون غيره، فالعالم أعلم بتقدير قدر التفاوت بين متعلميه، ألا ترى أنه لما اعترض عليه (143/ أ) زيد بن حدير فقال: أتأمر علقمة أن يقرأ وليس بأقرئنا؟ احتج عليه عبد الله بمعنى آخر يستدعي التقديم لم يكن عند ابن حدير منه ما عند علقمة. * وفيه أيضًا المنع من التختم بالذهب. وفيه أيضًا الرخصة في تلطيف الإنكار على المؤمن لقول ابن مسعود (أما آن لهذا الخاتم أي يلقى).

* وفيه أيضًا حسن استجابة خباب بقوله: (إنك لن تراه علي بعد اليوم). * وفيه أيضًا جواز إبقاء ذلك في يده بنية حفظه ريثما يلقيه، وقوله (فألقاه) دليل على أنه نزعه في الحال، ولعل خبابًا لم يكن سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما سمع ابن مسعود في تحريم خاتم الذهب، فلما سمع ألقاه. -294 - الحديث السادس: [عن عبد الله قال: كنا نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفًا، كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فقل الماء، فقال: (اطلبوا لي فضلة ماء)، فجاءوا بإناء فيه ماء، فأدخل يده في الإناء ثم قال: (حي على الطهور المبارك، والبركة من الله تعالى) فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. * في رواية البرقاني: (لقد كنا نأكل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نسمع تسبيح الطعام، وزاد في فضل الماء حتى توضأنا كلنا)]. * في هذا الحديث أن الآيات التي يظهرها الله تعالى لعباده المؤمنين بركة، ودليل خير، لأنها تزيد المؤمن إيمانًا وتغيظ الكافر والمنافق. * وقول: (وأنتم تعدونها تخويفًا) يعني أنه إن ظنها ظان حجة علها، فإن ذلك كذلك، ألا تراه لم ينكر على من حسبها تخويفًا إنكارًا صريحًا. * وفيه دلالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بتفجر الماء من بين أصابعه. * وفيه أيضًا أن ذلك يحسن موقعه عند اتفاق الحاجة إليه.

* قال عبد الله: (فقل الماء)، وقوله (فقل الماء) دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (143/ ب) وضع يده في ماء قليل فتفجر فوق ذلك الماء من بين أصابعه ماء كفى وأروى. * وقوله: (لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل)، هذا يدل على أنهم كانوا رضي الله عنهم قد أنسوا بالآيات، لكن قوله، نسمع تسبيح الطعام، يدل على أن الطعام كان ينطق نطقًا يسمعونه، وليس هذا من باب أنهم يفهمون من خلق الله تعالى للطعام ما يشبه تسبيحهم هم، كما قال بعض المفسرين في قوله، {وإن من شيء إلا يسبح بحمده}. بل هذا دليل صريح أن الطعام كان يسبح تسبيحًا يعلمونه. * وقوله (نسمع) بالنون الجامعة يعني به ما كنت أسمعه وحدي. * وقوله (كنا نأكل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نسمع تسبيح الطعام) ولعل هذا الطعام -إنما كان يسبح لله تعالى لكون جعله قوتًا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - والذين معه يتقوون على مجاهدة أعدائه والقيام في أرضه بحقوقه، فيكون ذلك الطعام من جملة أعوان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على أعدائهم. -295 - الحديث السابع: [عن علقمة، قال: شهدنا عنده يعني عند عبد الله- عرض المصاحف، فأتى على هذه الآية: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} قال: هي المصيبات تصيب

الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى)]. * فيه من الفقه أن ابن مسعود رضي الله عنه رأى أن التسليم في المصائب هدى من الله عز وجل لعبده، وذلك لأنه عند المصائب يتبين الرغوة من الصريح، وإن كان لا يبعد أن يكون المعنى أن من يؤمن بالله يهد قلبه للعلم والعمل ومقامات الخير على كثرتها، والجزم في (يهد) هو جواب الشرط، وحرف الشرط (من) ولولا جواب الشرط تحذف الياء. -296 - الحديث الثامن: [عن ابن مسعود قال: (أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، قال: فوجدت حجرين، والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال: هذه ركس]. * هذا الحديث يدل على أنه لا يجوز الاستجمار إلا بكل طاهر مزيل للعين.

* (144/ أ) وفيه دليل على أن الروث نجس لأن قوله ركس أي نجس، فعلى هذا لو كان الحجر يابسًا قد علقت به نجاسة لم يجز الاستجمار به. -297 - الحديث التاسع: [عن عبد الرحمن بن يزيد قال: سمعت ابن مسعود يقول في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي]. * فيه من الفقه: إشعاره بزيادة أنسه بهذا السور وذلك يستدعي زيادة فهمه لكل منهن، وذلك لأن نزولهن متقدم، ويعني قوله (من تلادي) أي مما حفظته قديمًا، والتليد والتلاد والتالد: المتقدم. والطريف والطارف: المستحدث. * وفي الحديث ما يدل على أن نزول القرآن كان على غير ترتيبه في المصحف، إلا أن الله عز وجل أعلم أن ترتيبه يكون على ما هو الآن، وفي ذلك أسرار، وتنبني عليه أمور. -298 - الحديث العاشر: [عن ابن مسعود قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟

قالوا: يا رسول الله، ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه. قال: (فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر)]. * في هذا الحديث من الفقه، تلطيف القول بإيصال الحكمة إلى قلوب الخلق، فهو كما قال ?: (إن مال الإنسان ما قدمه ومال وارثة ما خلفه) وقد شرد الناس عن ملاحظة هذا السر إلا من وفقه الله تعالى، وإنه لمن البيان العجيب والنطق الفصيح والمقنع الكافي، وذلك من فضل الله على الناطق به. -299 - الحديث الحادي عشر: [عن ابن مسعود قال: (ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الله تعالى جعل ميقات إعزاز دينه بإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه تكرمة له بذلك، فطوبى لمن أعز الله به دينه، والويل لمن أهان مؤمنًا أو استذله. -300 - الحديث الثاني عشر: [عن عبد الله أنه أتى أبا جهل يوم بدر، وبه رمق، فقال: هل أعمد من رجل قتلتموه).

وفي رواية البرقاني في (144/ ب) أوله: (هل أخزاك الله يا عدو الله؟ فقال: هل أعمد]. * قال أبو عبيد: المعنى هل زاد على سيد قتله قومه، هل كان إلا هذا؟ وأراد أن هذا ليس بعار، وهذا من جهله وبقاء نخوته في الجاهلية فيه حتى يلقى ربه وهو ساخط عليه، فكأن المعاصي في الكفر تزيده غلظًا وشدة وشرًّا. -301 - الحديث الثالث عشر: [عن عبد الله قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك)]. في هذا الحديث من الفقه تمكين الله عز وجل عبده من العمل للجنة والنار، وأنه في حالة قرب من الدارين، فإن أطاع الله فالجنة أقرب إليه من شراك نعله، وإن عصى الله تعالى فالنار أقرب إليه من شراك نعله. -302 - الحديث الرابع عشر: [عن عبد الله قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقولن أحدكم: إني خير من يونس بن متى).

وفي رواية عن الأعمش: (ما ينبغي لأحد أن يكون خيرًا من يونس بن متى)]. * في هذا الحديث من الفقه: لا تقولوا عني إني خير من يونس؛ لأنه أشار بقوله: (إني) إلى نفسه، وهذا يدل على وجه التواضع. -303 - الحديث الخامس عشر: [عن عبد الله: (هيت لك) فقال: إنما نقرأ كما علمنا. وعن عبد الله: (بل عجبت ويسخرون)، (يعني بالنصب) هاتان القراءتان المسندتان إلى ابن مسعود مشهورتان. فأما هيت بفتح التاء فهي قراءة الأكثرين. وأما هيت بكسر الهاء وفتح التاء فهي قراءة نافع وابن عامر، قال الزجاج: معناها هلم لك، أي: أقبل على ما أدعوك إليه.

قال الشاعر: أبلغ أمير المؤمنين أخا العراق إذا أتيتا .... أن العراق وأهله عتق إليك فهيت هيتا وأما عجبت بفتح التاء فهي قراءة الجمهور]. قال المفسرون في معناها: بل عجبت يا محمد منهم إذ كفروا ويسخرون هم منك. * وفي هذا دليل على أنه لا يجوز الاستطراح عند ظهور المنكر والإخلاد إلى التعجب والإمساك، بل لتجهد في إزالته. -304 - الحديث السادس عشر: [عن عبد الله: لقد أتاني اليوم رجل، فسألني عن أمر ما دريت (145/ أ) ما أرد عليه، فقال: أرأيت رجلًا مؤديًا نشيطًا، يخرج مع أمرائنا في المغازي، فيعزم علينا في أشياء لا نحصيها؟ فقلت: والله ما أدري ما أقول لك، إلا أنا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعسى أن لا يعزم علينا في أمر إلا مرة حتى نفعله، وإن أحدكم لن يزال بخير ما اتقى الله، فإذا شك في نفسه شيء سأل رجلًا فشفاه منه، وأوشك أن لا تجدوه، والذي لا إله إلا هو، ما أذكر ما غبر من الدنيا إلا كالثغب، شرب صفوه ويقي كدره]. * في هذا الحديث ورع ابن مسعود وترفعه عندما لم يعلم، وقوله: (أرأيت رجلًا مؤديًا) أي كامل الأداء.

* ومعنى (لا نحصيها) لا نطيقها من قوله تعالى {علم أن لن تحصوه} أي لن تطيقوا قيام الليل. * وفيه أيضًا أنه يستحب لأمراء الجيش أن لا يكثروا العزمات على المجاهدين فيعرضوهم لبعض المخالفة بل ليخففوا عنهم ما استطاعوا، وليشاوروهم في الأمور ويعرفوهم مطالع الأحوال التي عليها تبنى وجوه التدبير للحرب. * ويستحب أيضًا للمجاهدين مع الأمراء إذا عزموا عليهم عزمة أن يقابلوها بالإمساك ولا يحوجوهم إلى تكدير الأمر بها، ويكون الأمراء والمأمورون في هذا يعاملون الله عز وجل بذلك. * وفيه أيضًا أن الإنسان إذا شك في شيء لم ينفذ فيه حكمًا على شك بل يسأل عنه ويبحث ويستضيء بنور العلم من أهله إن وجد، وإلا عمل فيه على أصول الشرع وقاس واجتهد. * وقوله: (بما غبر من الدنيا) أي ما فني. والثغب: هو الماء المستنقع في الموضع المطمئن، وإذا كان عبد الله يقول هذا في زمانه فكيف في زماننا؟ إلا أنه لابد من المقاربة والتسديد والاستعانة بالله عز وجل على عبادته. -305 - الحديث السابع عشر: [عن عبد الله قال: كنا نقول للحي في الجاهلية- إذا كثروا قد أمر بنو فلان]. * في هذا الحديث من الفائدة (145/ ب) ذكر اللغة. ومنها أمر بنو فلان أي كثروا، ويفهم من دليل نطقه أن حفظ اللغة من الأمور المهمة في الدين.

الحديث الثامن عشر: [عن ابن مسعود قال: (خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مربعًا، وخط خطًّا في الوسط خارجًا منه، وخط خطوطًا صغارًا، إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، فقال: (هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به -أو قد أحاط به- وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطوط الصغار: الأغراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطاه هذا نهشه هذا)]. * في هذا الحديث من الفقه حسن التعليم، والتوصل في تفهيم الحكمة لمن لا يفهمها إلا بضرب المثال والتشكيل، وهذا أصل لغيره من الصور مما يتوصل الإنسان في تفهيم الناس له بضرب من الأمثال والأشكال. -307 - الحديث التاسع عشر: [عن هزيل بن شرحبيل، قال: سئل أبو موسى عن ابنة، وابنة ابن، وأخت فقال: للابنة: النصف، وللأخت: النصف، وائت ابن مسعود، فسيتابعني. فسئل ابن مسعود، واخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذًا، وما أنا من المهتدين، ثم قال: أقضي فيها بما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت. فأتينا

أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: (لا تسألوني مادام هذا الحبر فيكم)]. * في هذا الحديث من الفقه أن المعول عليه ما ذكره ابن مسعود، وقد وافق أبو موسى على ذلك، وقول أبي موسى: لا تسألوني مادام هذا الحبر فيكم، يدل على فضل ابن مسعود واعتراف أبي موسى له، وإنما يعرف فضل الفاضل فاضل مثله. -308 - الحديث العشرون: [عن عبد الله، قال: إن أهل الإسلام لا يسيبون، وإن أهل الجاهلية كانوا يسيبون). اختصره البخاري ولم يزد على هذا]. * وأخرجه البرقاني بطوله من تلك الطرق عن هزيل قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: إنى أعتقت عبدًا لي وجعلته سايبة فمات وترك مالًا ولم يدع وارثًا -فقال عبد الله (146/ أ): إن أهل الإسلام لا يسيبون، وإنما كان أهل الجاهلية يسيبون، وأنت ولي نعمته فلك ميراثه، فإن تأثمت في شيء وتحرجت فنحن نقبله ونجعله في بيت المال]. * في هذا الحديث دليل على أن السوائب غير مفسوح فيها، وإنها مما نهى الشرع عنه.

* وفيه أيضًا أن ما يصيبه الرجل من تلك بجهله فإن نصيبه يحسب لغوًا ويعود ميراثه إلى المعتق، كما قال عبد الله بن مسعود. * وفيه أيضًا أنه إذا حل في صدر الرجل المعين .. شيء من ذلك فتحرج أو تأثم أي خاف، فيخرج من الحرج والإثم وضع ذلك في بيت المال أو غيره من سبل الخير. -309 - الحديث الحادي والعشرون: [عن ابن سيرين، قال: جلست إلى مجلس فيه عظم من الانصار، وفيهم عبد الرحمن بن أبي ليلى، وكان أصحابه يعظمونه، فذكرت حديث عبد الله بن عتية في شأن سبيعة بنت الحارث، فقال عبد الرحمن: لكن عمه كان لا يقول ذلك، قلت إني لجريء إن كذبت على رجل في جانب الكوفة، يعني عبد الله بن عتبة، ورفع صوته، قال: ثم خرجت فلقيت مالك بن عامر، فقلت: كيف كان قول عبد الله بن مسعود في المتوفى عنها زوجها وهي حامل؟ قال ابن مسعود: أتجعلون عليها التغليظ، ولا تجعلون لها الرخصة؟ أنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}]. * في هذا الحديث الدلالة على أن أجل الحامل أن تضع حملها، وهو الحق الذي نطق به القرآن، وانعقد عليه الإجماع.

الحديث الأول (من أفراد مسلم): [عن ابن مسعود: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (آخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأولين والآخرين، فترفع له شجرة فيقول: يارب! أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها، وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل: (146/ ب) يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها، فيقول: لا يارب! ويعاهده أن لا يسأله غيرها. قال: وربه عز وجل يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى. فيقول: أي رب! أدنني من هذه لأشرب من مائها وأستظل بظلها لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم! ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها؟ فيعاهده أن لا يسأله غيرها. وربه تعالى يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هى أحسن من الأوليين فيقول: أي يا رب أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها لا أسألك غيرها، وربه عز وجل يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه. فيدنيه منها، فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة فيقول: أي رب! أدخلنيها. فيقول: ابن آدم! - ما يصريني منك؟ أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا رب! أتستهزئ مني وأنت رب العالمين). فضحك ابن مسعود فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا: مم تضحك؟ فقال: هكذا ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال:

من ضحك رب العاملين حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر)]. * هذا الحديث في ذكر نجاة هذا الرجل من النار، فيجوز أن يكون قد نجي منها بعد الوقوع فيها، ويجوز أن يكون قد نجا منها فلم بدخلها. * وفيه أيضًا أنه آخر أهل الجنة دخولًا إليها، فإنه قد يخرج قوم فيدخلون الجنة فإذا كان هذا آخر أهل الجنة دخولًا إليها فإنه يكون آخر أولئك. والذي أراه فيه من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يعرف عباد الله (147/ أ) كرم ربهم سبحانه وتعالى، وأنه ليس كمن عرفوه من ملوك الدنيا، فإن الواحد منهم إذا عاقب أحدًا استوحش منه ولم يأمن بعد ذلك إليه فلا يقربه، فأراد - صلى الله عليه وسلم - أن يعلم بهذا الحديث أن الله سبحانه وتعالى صفته الرحمة، وأنه إذا عاقب بعدله الحد الذي انتهى إليه علمه، وكان ذلك جزاء لمن خالف أمره عطف عليه سبحانه العطف الذي يدنيه إلى الخير ويقربه منه منزلة بعد منزلة، وأنه كلما رأى شيئًا لا صبر له عنده عذره سبحانه وتعالى في إخلاف الوعد حتى يدخله الجنة، ويضعف له العطاء ويضحك منه سبحانه رضي عنه. * ومعنى قوله: (ما يصريني) أي ما يقطع مسألتك لي ويرضيك يقال: صريت الشيء إذا قطعته، وصريت الماء: إذا جمعته. وكأصرى وصرى وهو الذي يطول استنقاعه. فإن قيل كيف قال: أعطاني ما لم يعط أحدًا من الأولين، وهو يعلم أن خلقًا قد سبقوه إلى الجنة وأنهم أفضل منه؟ فالجواب من وجهين:

أحدهما: أنه لما تفكر في ذنوبه فرأى أنه يستحق الخلود في النار ولم ير ما يوجب التخلص منها، شكر مجرد الكرم الذي ليس بجزاء عن عمل، ورأى أن كل من جوزي فعلى قدر عمله. والثاني: أن يكون قوله عائدًا إلى من في النار من المعذبين. -311 - الحديث الثاني: [عن أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من نبي بعثه الله عز وجل في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل). قال أبو رافع: فحدثت عبد الله بن عمر، فأنكره علي، فقدم ابن مسعود فنزل على قناة فاستتبعني إليه ابن عمر يعوده، فانطلقت معه، (147/ ب) فلما جلسنا سألت ابن مسعود عن هذا الحديث؟ فحدثنيه كما حدثته ابن عمر]. * في هذا الحديث من الفقه أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محفوظون معانون على الأخذ عنه والتأدية للعلم إلى الأمة عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، وأنه سيأتي بعدهم خلوف، ومعنى خلوف أن ينشأ الواحد منهم بعد فقد أولئك، وقد تقدم معنى الحواري.

* وقوله: (يقولون ما لا يفعلون) يجوز أن يكون هذا من قولهم الحق الذي لا يفعلونه، ويجوز أن يكون أنهم يشددون على الأمة ويضيفون عليهم رحمة الله الواسعة بما بأمر به الله، وإن أخرجوا ذلك مخرج الوعظ وأوردوه مورد النصح فشددوا فيه وغلوا غلوا انتهى بهم إلى مثل ما جرى للخوارج وغيرهم، ولا آمن على بعضهم من يظهر التعبد وهو جاهل بالشرع أن يحدث للناس أحداثًا مثل هذا؛ فيجب الإنكار عليه حينئذ كما يجب الإنكار على من أضاع شريعة الله عز وجل تفريطًا فيها باليد إن أمكن أو باللسان أو بالقلب إذا لم يقدر على رفع الباطل بيده، ولا إنكاره بلسانه ولا إنكاره بقليه. فإن لم يفعل فليس في قلبه حبة من خردل من إيمان كما وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وأما قوله (ويفعلون مالا يؤمرون) ففيه مضمر محذوف، والضمير متعلق بالجار والمجرور، ومعناه لا يؤمرون به، قال الله تعالى: (فاصدع بما تؤمر) أي تؤمر به أو تؤمره ومثله: (ويفعلون ما يؤمرون) الحديث الثالث: [عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هلك المتنطعون) قالها ثلاثًا]. * هذا الحديث مما يشهد بما قدمنا ذكره في الحديث الذي قبله؛ لأن التنطع هو التعمق والتدقق في الأشياء، فإن الهلكة مقرونة، وهو مما يقرأه الجهال على غير أصل الشريعة على نحو ما ابتدعه النصارى من الرهبانية

التي لم تكتب عليهم، وإنما هم الذين ابتدعوها؛ ابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها؛ ولذلك كل من ابتدع في الدين شيئًا أو دقق (148/ أ) على عباد الله وعمق مما لم يأذن به الله ولم يشرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو الهالك المحتقب وزر كل من أهلكه بتنطعه. -313 - الحديث الرابع: [عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس). وفي رواية الأعمش: (لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبر)]. * قد فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الكبر بقوله - صلى الله عليه وسلم - الكبر: بطر الحق وغمط الناس. وبطر الحق: التكبر عن الإقرار به، والطغيان في دفعه. وقال أبو عبيدة: غمط الناس الاحتقار لهم والإزراء بهم، ومثله غمض الناس (بالضاد) وكشف هذا أن العبد إذا قال لا إله إلا الله وسجد لله عز وجل ولم يحتقر الناس فقد برئ من ذلك. والكبر الذي يكون مثقال ذرة منه يحرم الجنة ويوجب النار هو الكبر عن عبادة الله عز وجل، فأما تكبر الآدميين بعضهم على بعض من قبيل الفخر بالآباء والبيوت ونحو ذلك فهو الذي أخرج إبليس من الجنة، والجدير بمن

يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعتقد الإسلام دينًا أن لا يفخر بنسب بعد أن سمع الله عز وجل يقول {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} يعني سبحانه وتعالى أن الناس كلهم ينسبون إلى آدم وحواء، ثم قال سبحانه بعد ذلك: {وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا} وما قال لتفاخروا، ثم أخبر سبحانه أن المعنى الذي تطمح إليه نفوسكم إنما هو راجع إلى التقوى فقال: {أن أكرمكم عند الله أتقاكم} فالتكبر على عباد الله من أقبح الخلال إلا أنه ليس في الشر كالتكبر على عبادة الله عز وجل. * وأما قوله: (إن الله جميل يحب الجمال) فهو يدلل على أن تحسين الرجل ثوبه وتنظيفه (148/ ب) يكون عبادة الله عز وجل، من أنه في تنظيفه الثوب تطييب لريحه وشكر لله عز وجل لحاله وتظاهره بالغنى الدافع لأعطيات الناس، وفي توسيخ الثوب من الزفر وما يتأذى به الجلساء وشكواه ربه بلسان حاله وتعريضه نفسه لأعطيات الناس برثاثة زيه وتخجيله أيضًا للمؤمنين إذا بدا في مثل تلك البزة، فلذلك وغيره قال: (إن الله جميل يحب الجمال) وليس هذا من الكبر في شيء. * وأما قوله: (لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان) فإن هذا النطق قد تكرر في الأحاديث، وتارة يأتي مثقال ذرة ووزن قيراط إلى غير ذلك، وقد يقع في قلب الإنسان شبهة من ذلك بأن يقول: وكيف يوزن الإيمان بالذرات ومثاقيل الحبات والقراريط، فيقال له: إن الإنسان إذا أعار جارًا له ميزانًا يزن فيه، فوزن جاره الذي يريده فنسي فتعلق بخيط الميزان من ماله مثقال ذرة فلما رد الميزان على صاحبه وهو لا يعلم بما علق بخيطها من ماله نظر صاحب الميزان في ميزانه فلمح تلك الذرة فأعادها على صاحبها، فتبينا أن في قلب هذا الذي رد هذه الذرة مثقال ذرة من إيمان إذا لم يكن عليه شاهد بها إلا الله عز وجل ولو أنه أخذها ولم يردها، ولا أعلم

صاحبها بها تبينا أنه ليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وعلى هذا فإن الإيمان يزيد حتى يرجح بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، ويقل ويعز حتى لا يزن عشر عشر الذرة. -314 - الحديث الخامس: [عن عبد الله قال: إنا ليلة جمعة في المسجد، إذ جاء رجل من الأنصار فقال: لو أن رجلًا وجد مع امرأته رجلًا فتكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه، وإن سكت سكت على غيط، والله لأسألن عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما كان من الغد أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لو أن رجلًا وجد مع امرأته رجلًا فتكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه، وإن سكت سكت على غيط، فقال (149/ أ): (اللهم! افتح) وجعل يدعو فنزلت آية اللعان: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} هذه الآيات، فابتلي به ذلك الرجل من بين الناس، فجاء هو وامرأته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلاعنا، فشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ثم لعن الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فذهبت لتلعن فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - (مه) فأبت فلعنت، فلما أدبرا قال: لعلها أن تجيء به أسود جعدًا، فجاءت به أسود جعدًا)]. * هذا الحديث هو الأصل في حكم اللعان بين الرجل وامرأته إذا قذفها بالزنا ولم يكن له شاهد إلا نفسه، وهو ها هنا مختصر وسيأتي موضحًا وفيه من الفقه:

* أن ذلك السائل بلي بما سأل عنه، وأنه تطلعت نفسه إلى حال كشف عورة في الإسلام فبلي في نفسه. * وفيه من الفقه أيضًا أنه لما كانت الشهادة في الزنا لا تتم إلا بأربعة شهود، وكانت هذه الحالة لم يطلع عليها غير الزواج، كلف أربع أيمان لتكون كل يمين مكان شاهد، لأن اليمين في بعض الأحيان تقوم مقام الشاهد، وذلك أن يكون لواحد حق وليس له إلا شاهد، فإن الشرع قد أقام يمينه مقام الشاهد، فلما تكملت أربع شهادات مقام أربعة شهود، ولم يكن بعد شهادة الشهود الأربعة في الزنا على المحصن الذي هو مثل هذا إلا الرجم وهو الهلاك، لم يكن بعد الالتعان المرات الأربع إلا لعنة الله سبحانه أو غضبه وهما الهلاك أيضًا. * وقول الله تعالى: {أن لعنة الله عليه أن كان من الكاذبين}، و {أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} فهو كلام مقنع وليس بمحتاج إلى ذكر تعيين ما قذفها به من الزنا لا من قوله ولا من قولها، لأنه سبحانه إنما قال من الكاذبين على الإطلاق حتى إذا كان هذا القاذف لزوجته بالفاحشة قد كذب في دهره كله مرة واحدة لم يبر في يمينه هذه، وأنه قد كان يغنيه عن ذلك أن (149/ ب) يفارقها، وإذا أمر اللعان مفض إلى الفراق وما عساه أن يكون ما يتخوفه من مؤنة الولد فإن الله رزقه وإياه ولم يكن يفضح أهله بعد ما كان بينهما من الإفضاء وأخذ المرأة منه ميثاقًا غليظًا ما كان، وهذا الرجل في الأغلب من أحواله من جهة أنه لا يمكنه أن يشهد بإنزال الشخص الذي قذفها به معها ولو أمكنه ذلك جاز أن يكون الولد من ذلك الشخص وجاز أن يكون منه، فإنزاله هو الماء عندها متيقن وإنزال من رماها به محتمل فإن اعتذر في قذفه إياها بأني لا أريد أن الحق بي من ليس بولدي قيل له: كيف تنفي من يجوز أن يكون ولدك، وإنما دفع العذاب عنها بأربع أيمان فإنها أقامت أربع أيمان في مقابلة

أربع أيمان فتعارضت البينات فسقطت فرجع الأمر إلى الحالة الأولى وهو سقوط الحد، وكانت مؤنة الولد على أمه على أمه لأنها أمه بيقين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. * وفيه أيضًا ما قلنا في حق الزوج وأنه إن كان معروفًا بالصدق في غير ذلك غضب الله عليها في جواب تحكيمها غضبه إن كان من الصادقين في شيء من الأمر، والمرأة في ذلك أخف حالًا من الرجل، لأن قولنا من الصادقين لا ينصرف إلا إلى المعروفين بالصدق، بخلاف قول الرجل من الكاذبين فإنه قد ينصرف إلى من يندر منه الكذب، والمرأة ليست قادرة على فراق الزوج قدرة الزوج على فراقها، لأن أمرها بيده وليس أمره بيدها. -315 - الحديث السادس: [عن عبد الله قال: لما نزلت {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قيل لي: أنت منهم]. * في هذا الحديث ما يدل على أنه سبحانه وتعالى أباح لنبيه - صلى الله عليه وسلم - من الأرزاق ما لم يبحه لغيره من الأنبياء، ذلك مما أطعمه الله ورسوله وأمته بعده. -316 - الحديث السابع: [عن عبد الله قال: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا ومؤكله). قال: قلت (يعني

مغيرة لإبراهيم) (150/ أ): وشاهديه وكاتبه؟ فقال: إنما نحدث بما سمعنا]. * هذا الحديث يتضمن لعنة آكل الربا وقد ذكر الربا وعلة تحريمه، وقد جاء في حديث آخر ذكر ما توزع عن روايته راوي هذا الحديث وهو لعن شاهديه وكاتبه، وهذا محمول على ما إذا علموا أنه ربا صريح لا يفتي بحله أحد من الفقهاء. * فأما مؤكله، فإنه يحتمل أربعة أوجه: أحدها: المعطي للربا، فإنه مؤكله المعطى. الثاني: الآخذ، فإنه قد أطعم مقرضه الربا بما يؤدي إليه. والثالث: الذي يعامل بالربا ثم يطعم منه الناس. والرابع: أن يكون المفتي فيه بتأويل باطل غير مستند إلى نذهب معروف يجوز العمل عليه. -317 - الحديث الثامن: [عن علقمة عن ابن مسعود قال: (لم أكن ليلة الجن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووددت أني كنت معه). كذا في رواية أبي معشر عن إبراهيم ولم يزد. في حديث الشعبي أن علقمة قال: أنا سألت ابن مسعود، فقلت: هلى شهد أحد منكم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو أغتيل، قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله!

فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فقال: (أتاني داعي الجن فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن) قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد، فقال: (لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم، أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة علف لدوابكم) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم). وفي رواية الشعبي: وسألوه الزاد، وكانوا من جن الجزيرة]. * في هذا الحديث دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى الجن والإنس وكذا ينبغي أن يعتقد، وينبغي أن يكون الإنسان معرضًا لإبلاغ (150/ ب) الجن إذا أمكنه. وقد حكى الشيخ محمد بن يحي رحمه الله أنه كان يخرج ليلًا وحده في نواحي خيبر أو نحو ذلك المكان؛ فيعظ الجن ويذكرهم ويقرأ القرآن ويذكر أركان الإسلام، ثم قال لي: اعتمدت ذلك ليلة حتى إذا ذهب من الليل نحو نصفه انصرفت عن ذلك إلى مسجد خال فصعدت إلى قبلته، فجلست مستقبل القبلة ووليت ظهري باب المسجد، فأحسست وقع حافر فرس فلم أبرح من مكاني حتى أحسست بأن ذلك الوقع كان وقع فارس؛ فلما وصل إلى باب المسجد نزل عن الدابة ودخل المسجد حتى وضع قصعة فأحسست بها في ظهري فأدرت وجهي إليها فإذا فيها ثريد ولحم فأكلت منها، وهذا إخاله أنه أضافه مؤمنو الجن في جواب تذكيره إياهم.

وحكى لي مرة أخرى أنه كان خارجًا من مكة يقصد المدينة وحده قال: فنوديت من بعض الجبال في حفظ الله وفي ودايعه؛ فقلت: من أنت تكون رحمك الله؟ فقال: إخوانك الجن يسلمون عليك ويودعونك. * وفي هذا الحديث ما يدل عل لطف الله بالآدميين لأنه اختار لهم لباب الأشياء وجعل ما لم يختره لهم كالعظام زادًا لإخوانهم من الجن. * وفيه أيضًا من الفقه أنه ينبغي للإنسان أن لا يطرح عظمًا مما يأكله بل ينزله ناويًا به الصدقة على الجن، وأن يذكر اسم الله عز وجل عليه ليستطيبه المؤمنون منهم، وينبغي أن لا يضايق الجن فيه، ولا يكسر ولا يثلمه ليجدوه أوفى ما يكون لحمًا، وكذلك لطف الله سبحانه بالآدمي فجعل قوته من جوهر البر الحنطة والشعير والحبوب، وجعل العصف الذي لا يصلح للآدميين قوتًا لدوابهم التي حملهم عليها، وجعل الروث والبعر قوتًا لعباده الجن ليعلمك أيها الآدمي أنه ليس في خلقه شيء يضيع، وأن الأشياء على كثرتها قد قدر لها من المرتزقين بإزائها في كل شيء. * فأما قوله (ما شهدت (151/ أ) مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن) فإنه يجوز أن يكون أراد ما شهدت حالة الخطاب بدليل الحديث الآخر: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن. * وفي الحديث ما يدل على حسن صحبة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنهم لما فقدوه التمسوه في الأودية والشعاب ولم يهملوا طلبه إلى أن أتى هو -وقوله: (استطير) أي استطيل بالأذى عليه، وانتشر الأعداء في طلبه، والاغتيال: الغدر والوثوب بالمكروه على عقله. * وفيه أيضًا بيان حذرهم عليه وقولهم (استطير) محمول منهم مقتضى الحذر والإشفاق وإلا فإن الله تعالى لم يكن ليسلط عليه شيطانًا إذ لو قرب منه الشيطان لاحترق.

* وقوله: (فانطلق فأرانا آثارهم) يدل على أنهم يتصورون في الجثث الكثيفة ولذلك كانت لهم آثار في الأرض. والحديث يدل على أن لهم نيرانًا ولعلهم قد أكثروا منها في تلك الليلة لأجل حضور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليستضيء بها. * وفي الحديث النهي عن الاستنجاء بالعظم لأنه زاد الجن، والنهي عن الاستنجاء بالروث لأنه أيضًا زاد الجن، وإن كان روث ما يؤكل لحمه في نجاسته الخلاف المعروف. وقد دل هذا الحديث على طهارته لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعله زادًا للجن فقال: (وكل بعرة علف لدوابهم)، ولا يجعل النجس زادًا، ثم قد قرنه بالعظم الذي ذكر اسم الله عليه، وإنما يذكر اسم الله على الطاهر وإن كان نجسًا لم يجز الاستنجاء بالنجس. * وأما قوله: (وكل بعرة علف لدوابهم) فإنه أراد فيما أراه لما يدب منهم وهم الذين يتصورون في صورة الحيات والحشرات. -318 - الحديث التاسع: [عن عبد الله قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوسوسة؟ قال: (تلك محض الإيمان)]. * الوسوسة: حديث الشيطان في بواطن القلوب. والمحض: الخالص.

* وقد روى هذا الحديث أبو هريرة مكشوفًا قال: جاء ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه: (151/ ب) إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال: (وقد وجدتموه؟) قالوا: نعم: قال: (ذاك صريح الإيمان) لا أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان؛ لأنها من فعل الشيطان، فكيف تكون إيمانًا؟!. -319 - الحديث العاشر: [عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى؛ ثم الذين يلونهم، وإياكم وهيشات الأسواق). ذكر أبو مسعود هذا الحديث في أفراد مسلم، فحكى فيه ثم الذين يلونهم (مرتين)، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم]. * في هذا الحديث من الفقه أن أولي الأحلام والنهى هم الأولى أن يكونوا أقرب الناس إلى الإمام ليأخذوا عنه ويكونوا موضع سره، وعدة لمشاورته، وأمناء على قربه؛ فبذلك صلاح الأحوال. * وقولهم: (ثم الذين يلونهم) أي يكون المكلفون به على درجات فيكون الأقرب إليه الأفضل فالأفضل. * وقوله: (وإياكم وهيشات الأسواق) يعني اختلاطها وما يكون فيها من الفتن وارتفاع الأصوات، وأراد ألا يكونوا من أهلها، فإنه يخفى فيها الصواب ولا يتضح فيها الحق، ويتقدم فيها كل مستحق للتأخير ويتأخر كل مستحق للتقديم.

* وقوله: (لا تختلفوا) يجوز أن يكون من الاختلاف في صفوف الصلاة فيكون حضًّا على تعديل الصفوف، ويجوز أن يكون من الاختلاف في كل شيء من قول أو فعل، فإن الاختلاف داعية إلى اختلاف القلوب. -320 - الحديث الحادي عشر: [عن علقمة والأسود، قالا: أتينا ابن مسعود في داره، فقال: أصلى -هؤلاء خلفكم؟ فقلنا: لا. فقال: قوموا فصلوا. فلم يأمرنا بأذان ولا إقامة. قال: وذهبنا لنقوم خلفه، فأخذ بأيدينا فجعل أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله. قال: (فلما ركع وضعنا أيدينا على ركبنا قال: فضرب أيدينا وطبق بين كفيه ثم أدخلهما بين فخذيه. قال: فلما صلى قال: إنه ستكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها، ويخنقونها إلى شرق الموتى. فإذا (152/ أ) رأيتموهم قد فعلوا ذلك، فصلوا الصلاة لميقاتها، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة، وإذا كنتم ثلاثة فصلوا جميعًا، وإذا كنتم أكثر من ذلك فليؤمكم أحدكم، وإذا ركع أحدكم فليفرش ذراعيه بين فخذيه. وليجنأ وليطبق بين كفيه، فلكأني أنظر إلى اختلاف أصابع رسول - صلى الله عليه وسلم - فأراهم]. * قوله: (فلم يأمرنا بأذان ولا إقامة). يدل على جواز ذلك مع ترك الأولى. * وقوله: (فجعل أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله) دليل على جواز صلاة الواحد عن يسار الإمام، وما ذكر فيه من التطبيق منسوخ لحديث سعد وقد تقدم، وإنما أقام عليه ابن مسعود لأنه لم يعلم ناسخه.

* وقوله: (شرق الموتى) يعني عند آخر مغيبها، وشبهها بخروج نفس الآدمي، ويدل هلى هذا البيان أنه قد جاء في الصحيح: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي العصر والشمس حية أي قوية الحر، وكأن الشمس عند قرب الغروب قد أخذت في الموت. * وقوله: (اجعلوا صلاتكم معهم سبحة) يعني نافلة. في هذا حث على المداراة وأن لا يتظاهر بالخلاف على الأمراء وإن أخروا الصلاة عن وقتها، بل يصلي الإنسان الصلاة ويجعل صلاته معه نافلة إلا أن المعمول عليه أنه من صلى الجمعة خلف أمير رابع فأعادها في بيته ظهرًا فهو مبتدع. -321 - الحديث الثاني عشر: (عن عبد الله، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر محرمًا بقتل حية بمنى) * فيه دليل على جواز قتل المحرم الحية في الحرم. -322 - الحديث الثالث عشر: [عن عبد الله قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمسى، قال: (أمسينا وأمسى

الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها. وأعوذ بك من شر ما في هذا الليلة وشر ما بعدها، وأعوذ بك من الكسل وسوء (152/ ب) الكبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر). وإذا أصبح قال ذلك أيضًا: (أصبحنا وأصبح الملك لله). وفي رواية: (من الكسل والهرم وسوء الكبر. وفتنة الدنيا وعذاب القبر)]. * في هذا الحديث خير وبركة وتعليم لهذا الكلمات وهي تشمل على معان منها أنه إذا أمسى وإذا أصبح يقر بأن الملك لله، وأن كل ملك في يد مالك الملك فإنما هو على سبيل المجاز، والملك حقيقة لله عز وجل، وأن الملك لله عز وجل ملكًا وولاية واستحقاقًا. فإذا قال العبد ذلك واعتقده بقلبه خرج من قلبه تعظيم ملوك الدنيا، ثم أتبع ذلك بالحمد لله، وذلك على نعمه الكثيرة التي لا تحصى، منها: انفراد الله تعالى بالملك، فإن الملك يغار من أن يكون الملك إلا له وحده، فإذا قضى سبحانه وتعالى بما يوافق محبة المؤمن تعين على المؤمن أن يحمد الله تعالى على ذلك القضاء، ثم أتبع ذلك بقوله: (لا إله إلا الله وحده) فنفى الإلهية عمومًا وأثبتها لله تعالى وأنه في ذلك وحده، ووكده بقوله: (لا شريك له) ثم أتبعه بقوله: (له الملك وله الحمد) فإنه لا يملك ان يخلص الحمد إلا الله عز وجل، ثم أثبت له القدرة بقوله (وهو على كل شيء قدير) حتى أنه ليعترف المؤمن عند توفيق الله تعالى له، أن الله سبحانه قد كان على خذلانه ومنعه أن يعترف بذلك قديرًا. * وقوله: (رب أسألك خير ما في هذه الليلة) قوله (رب) بحذف النداء يدل على

استشعار القرب، فإن المنادي إذا علم قرب المنادى حذف حرف النداء إلا في موضعين اقتضيا الاستحثاث وهما قوله: (وقال الرسول يا رب) وقوله: (وقيل يا رب). وحرف النداء: يا، وأيا، هيا، والهمزة، وأي. فينادي بها القريب والبعيد، (أيا) ينادى بها المتلفت والنائم، ولأنك تزيد على (يا) همزة فيكون (153/ أ) أمد ذكرها بقدر ما يقبل المتلفت ويستيقظ النائم. (وهيا) في معنى (أيا) لأن الهاء بدل عن الهمزة، والهمزة تنادي بها المقبل عليك فإذا تناهى القرب حذفت حرف النداء، وقلت زيد عمرو كقوله تعالى: (يوسف أعرض عن هذا) فعلى هذا يكون نداء الأنبياء وقولهم (رب) دالا على استشعارهم تناهي القرب من ربهم سبحانه وتعالى إلى داعيه. * وفي هذا الحديث دليل على أن الإنسان ينبغي أن يجدد الدعاء في كل صباح ومساء لأنه خلق جديد، فيؤتى له بذكر جديد، وقوله: رب أعوذ بك من الكسل، إنما استعاذ من الكسل لأنه من أهم ما استعيذ منه إذ هو سبب للتواني في الطاعات. * وقوله: (وسوء الكبر) إنما استعاذ في الكبر مما يسمى سوءًا فإذا كان الكبر في طاعة الله وخدمته كان حسنًا لا سوءًا. * وقوله: (رب أعوذ بك من عذاب في النار) أي من عذاب النار، ويجوز أن يكون: أي من عذاب يكون فيها زيادة على عذابها. * وقوله: (وعذاب في القبر) دليل على عذاب القبر.

- 323 - الحديث الرابع عشر: [عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذنك علي أن يرفع الحجاب، وأن تستمع سوادي، حتى أنهاك]. * في هذا الحديث ما يدل على أن رفع الحجاب يغني عن الإذن لمثل من كان مقصودا كالسلطان. * وقوله: (وأن تستمع سوادي) أي سراري، ليعلم أن في البيت رجلًا لأنه قد رفع الحجاب، وبه نسوة ليس معهن رجل. * وقوله: (حتى أنهاك) أي حتى أقول ارجع. -324 - الحديث الخامس عشر: [عن عبد الرحمن بن يزيد قال عبد الله ونحن بجمع: سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يقول في هذا المقام: (لبيك اللهم لبيك)]. * قوله: (لبيك) كلمة في جواب النداء، وكأنه فيما أرى جواب نداء إبراهيم عليه السلام نادى في الناس بالحج بأمر الله عز وجل فصار النداء من الله تعالى فأجابه كل وافد إلى بيت الله الحرام: بـ (لبيك اللهم لبيك).

-325 - الحديث السادس عشر (153/ ب): [عن عبد الله، قال: والذي لا إله غيره ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت، وما من آية إلا أنا أعلم فيما أنزلت، ولو أعلم أحدًا هو أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه]. * فيه جواز تنبيه الرجل على ما عنده من العلم وأنه مع ذلك لا يستغني عن الاستفادة ممن هو أعلم منه إذا عرف مكانه، وقد تقدم ذكره. -326 - الحديث السابع عشر: [عن مسروق، قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون} فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: (أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت. ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: وأي شيء نشتهي؟ ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا].

* في هذا الحديث من الفقه أن الشهداء أعطوا ما لم يبق للأماني متطلع، وأنهم كرر عليهم السؤال مع العلم بأنه لم يبق في ذلك مطلب، ليعلم الراغبون في الجهاد فضله، وأنهم لم يتركوا من أن يسألوا قالوا بحالهم: ماذا نسأل وقد انتهت الأماني بنا وفرغت المسائل منا وتجاوز العطاء لنا مبالغ حد عقولنا. فلما كرر عليهم قالوا: إن كان كذا فما بقي فيما هو لنا ما يقبل زيادة بحال، ولكنه قد بقي ما هو لك يا رب وهو أن تردنا إلى الدنيا فنقتل فيك، فلما كان هذا السؤال ليس مما هو لهم ولا راجع إليهم تركوا؛ فدل هذا الحديث أن الشهداء بلغوا من فضل الله إلى ما لم يتبق فيه أمنية بحال. وقوله: نسرح من الجنة حيث شئنا يدل على أنهم لا يخصصون من الجنة موضعًا مفردًا بل يسرحون فيها حيث شاءوا. -327 - الحديث الثامن عشر (154/ أ): [عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما تعدون الرقوب فيكم؟) قال: قلنا: الذي لا يولد له. قال: (ليس ذاك بالرقوب، ولكنه الرجل الذي لم

يقدم من ولده شيئًا). قال: (فما تعدون الصرعة فيكم؟) قال: قلنا الذي لا يصرعه الرجال، قال: (ليس بذلك، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب)]. * في هذا الحديث من الفقه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن الرقوب هو الذي لم يقدم فرطًا من ولده بين يديه، وهذا يدل على أن فضل الولد الفرط غير فضل المخلف من الأولاد، وأن في الفرط فضلًا وذلك أنه قد جاء في الحديث: لم يبلغوا الحنث وسيأتي ذلك في مسند أبي هريرة إن شاء الله تعالى. * وأما ذكر الصرعة فتنبيه على معالجة النفس وقهرها؛ فإن ذلك أشق وأشد من معالجة المصارعة للناس، لأن النفس عدو خفي والذي يصارع خصم ظاهر، ومعالجة العدو الخفي أشق من معالجة الخصم الظاهر. * وفيه أنك إذا غلبت نفسك فقد تبعها بدنك، وإن غلبتك نفسك فقد تغلب عليها بدنك، لأن النفوس تستخدم الأبدان وتصرفها فيما تريد، وسنزيد ذلك شرحا في مسند أبي هريرة لأن هذا الحديث يتكرر هناك إن شاء الله تعالى. -329 - الحديث العشرون: [عن عبد الله، قال: حبس المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة العصر، حتى احمرت الشمس أو اصفرت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (شغلونا عن الصلاة الوسطى

صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارًا، أو حشا الله أجوافهم وقبورهم نارًا). * قد سبق تفسيره في مسند علي عليه السلام. -330 - الحديث الحادي والعشرون (154/ ب): [قال عبد الله، لما أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها، وإليها ما يهبط به من فوقها، فيقبض منها، قال: (إذ يغشى السدرة ما يغشى). قال: فراش من ذهب، قال: فأعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا: أعطي الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئًا المقحمات]. * سدرة المنتهى: هي سدرة المنتهى في كل شيء. * وقوله: (غشيها فراش من ذهب) فالذي أراه أن أنوارا تلألأت فيها لورود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبلغ ذلك إلى أن غشيها فراش، لأن الفراش من شأنه موافقة الأضواء، وهذا مما أخبر الله تعالى به من كثرة الأنوار تلك الليلة، وكونه فراشًا من ذهب

لكون الذهب مناسبًا لون الأنوار، فلو كان من فضة لأثر لمخالفته في لون الأنوار، وهذا مما يدل على شرف مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الفرق ما بين سدرة المنتهى وشجرة موسى عليه السلام فرق ما بين المنزلتين. * وقوله: (وأعطي الصلوات الخمس) وهذا مختصر وسيأتي في حديث المعراج مشروحًا وأنها كانت خمسين وإنما ردت إلى خمس وجعل لها ثواب الخمسين، وأما خواتيم سورة البقرة فإنها من عتيد النعم، لأنها ليس في القرآن ما اتصلت فيه الأدعية أكثر منها لأنه قال سبحانه فيها: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} إلى آخر الآية، فجمعت الاستعاذة من النسيان والخطأ وحمل الإصر وإن كان حمله من كان قبلنا، والاستعاذة من تحمل ما لا طاقة لنا به ثم طلب العفو وإرداف ذلك بطلب المغفرة، ثم بسؤال الرحمة ثم ختم ذلك كله بسؤال النصر على القوم (155/ أ) الكافرين، وكأن الله تعالى بإنزال هذا علمهم أن ادعوني بكذا وكذا، أفيظن ظان أن الله تعالى لقننا هذا الدعاء لندعوه به إلا وهو سبحانه يجيب حتمًا، إن الله على ما يشاء قدير. * وقوله في الحديث: (غفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئًا المقحمات) يعني المقحمات في النار، وإذا غفر تلك غفر ما دونها، والحمد لله رب العالمين. -331 - الحديث الثاني والعشرون: [عن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)].

* الذي أراه في هذا من الفقه أن سبعين ألفًا في سبعين ألفًا، أربعة آلاف ألف ألف وتسع مائة ألف ألف يجرونها إليهم من ثقلها وتغيظها فهؤلاء الملائكة يكفون أذاها أن يصيب بريئًا أو يؤذي من ليس من أهلا. -332 - الحديث الثالث والعشرون: [عن عبد الله، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمررنا بصبيان فيهم ابن صياد، ففر الصبيان وجلس ابن صياد، فكأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كره ذلك فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تربت يداك، أتشهد أني رسول الله؟ فقال: لا بل تشهد أني رسول الله؟ فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ذرني يا رسول الله! حتى أقتله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن يكن الذي ترى، فلن تستطيع قتله). وفي رواية أبي معاوية: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قد خبأت لك خبا فقال: دخ. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (اخسأ (155/ ب) فلن تعدو قدرك. والذي أراه في هذا الحديث أن الذي قدره الله من ذلك كان إحدى دلائل نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أظهر لأصحابه أنه يضمر سورة الدخان فلما نطق بذلك سمعه شيطان ابن صياد مسترقًا لقوله فلم يبد إلى ابن صياد من ذلك سوى الدخ، وإنما كان مقصود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكره لأصحابه سورة الدخان، من أجل أن آية الدخان من الآيات المعجلة في الدنيا، كما سبق ذكره في هذا المسند، فأراد أن يعلمهم أن هذا ابن صياد مبطل لأنه لو كان

صادقًا كما يزعم لأعلمه الله بما يريد أن يحدثه في أرضه، لا سيما وقد ذكر له الشيطان نصف اسم الكلمة فقال: (الدخ) ولم يقل الدخان، عرف أصحابه بطلان قوله، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - (اخسأ فلن تعدو قدرك). * وقد روي أن ابن صياد أسلم وحج وكان له ابن واسمه عمارة وأنه روى عنه مالك بن أنس. * وقيل: أن ابن صياد فقد يوم الحرة. * وقيل: إنه مات بالمدينة، وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا الثوب عن وجهه حتى رآه الناس، وقيل لهم (اشهدوا). -333 - الحديث الرابع والعشرون: [عن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي ولكن الله اعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمنا أن كل شخص وإن بلغ من العبادة والعلم ما بلغ لا ينفك عنه شيطان يوكل به يغويه ويسول له، ويشككه في الدين، وأنه أيضًا معان بملك يسدده ويرشده، وسألني بعض الناس مرة أخرى الكلام، قلت له: هل ترى الملكين اللذين معك؟ فقال: لا، وكان جالسًا عندي في الدار (156/ أ) فقلت اخرج إلى الشمس وانظر هل ترى ظلك أم لا، وإنما عنيت بذلك أنه لم ير الملكين من حيث تكاثف الظلمة على

البصيرة، فلو قد طلعت عليه شمس من نور الإيمان لأضاءت له البصيرة، فأبصر ما لم يره من قبل. * وقد دل هذا الحديث على أن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيطانًا. وقوله: (فأسلم) يجوز أن يكون مرويًا بالنصب على معنى أسلم الشيطان، ويجوز أن يكون بضمها والمعنى أسلم أنا منه. -334 - الحديث الخامس والعشرون: [عن عبد الله، قال: قالت أم حبيبة- زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - اللهم أمتعني بزوجي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبأبي، أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئًا قبل حله، ولو كنت سألت الله ان يعيذك من عذاب في القبر أو عذاب في النار لكان خيرًا وأفضل). قال: وذكرت عنده القردة- قال مسعر: وأراه قال- والخنازير مما مسخ فقال: (إن الله تعالى لم يجعل لمسخ نسلًا ولا عقبًا، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك). وفي رواية: فقال رجل يا رسول الله! القردة والخنازير، هي مما مسخ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تعالى لم يهلك أو يعذب قومًا فيجعل لهم نسلًا)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الإنسان إذا دعا الله عز وجل فينبغي أن يتخير المسألة ويغتنم وقت الطلب من الله عز وجل فيصرف السؤال فيه إلى أهم الأمور

عنده، وما سألته أم حبيبة من إمتاعها برسول الله وبأبيها وأخيها فإنها سألت في أمر قد سبق الأمر بأنه لا بد من انقضائه، وسؤال الله عز وجل الإعاذة من عذاب الآخرة ينصرف إلى حسن الخاتمة والموت على الإسلام، وإن كان لن يدخل النار إلا من قد سبق له في علم الله تعالى أن يدخل النار، ولكن قد أمر (156/ ب) بالتعوذ من العذاب على يقين من انقضاء عذاب الآخرة كما نحن على يقين من انقضاء المتعة في الدنيا وأما ذكر القردة والخنازير ففيه دليل على أن الإشارة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كل سامع لحديث يروى أو أثر ينقل أن يعتبره ويجتهد في طريق صحته، ومنه هذا الذي يذكر أن القردة مما مسخ حتى بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ما أزال به كل إشكال. وقد قال ابن قتيبة: أنا أظن أن هذه القردة والخنازير هي الممسوخ بأعيانها توالدت، ثم قال: (إلا أن يصح حديث أم حبيبة، وقد صح حديث أم حبيبة فلا يلتفت إلى ظن ابن قتيبة). -335 - الحديث السادس والعشرون: [عن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: لقد هممت أن آمر رجلًا يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة في بيوتهم].

* في هذا الحديث تأكيد أمر الجمعة وأنه لم يرض أن يستنيب في ذلك حتى يلابسه بنفسه، وأنه كان - صلى الله عليه وسلم - يرى أن تفوته هو صلاة الجمعة فيحرق بيوت من لم يشهدوها فيكون فوت جمعة واحدة حافظًا لجمع كثيرة إلا ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك وجعل ما نطق به مما هم بفعله نائبًا منابه، حتى إن تركها أهل بلد ففعل به الإمام ما هم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفعله جاز له ذلك. -336 - الحديث السابع والعشرون: [قال عبد الله لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة. وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه]. * هذا الحديث يدل على زيادة توكيد الجماعة وأنها واجبة على الأعيان. * وقوله: (كان المريض ليمشي بين رجلين) إنما يحمل على مريض لا يزيد مشيته إلى الجماعة في مرضه (157/ أ) وإلا فمتى زاد مشيته إلى الجماعة في مرضه كره له ذلك، وصلاته في بيته مجزئة، فإن احتمل ذلك ومشى إلى المسجد كره له ذلك، وأجزأه حضوره، وإذا صلى الإنسان في بيته جماعة فقد حصلت له الجماعة، وكذلك إذا صلى بزوجته.

-337 - الحديث الثامن والعشرون: [عن عبد الله قال: من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم، كما يصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق، معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف]. * فيه من الفقه الحض على حضور الجماعة في المساجد وأنها دالة على من يحافظ عليها في المساجد أنه بريء من النفاق، وإنها لكذلك. * إن الإنسان يجمع في حضوره المسجد بين السعي إلى ذكر الله تعالى، وبين التعرض للقاء الإخوان، وبين التعلم ممن هو أعلم منه، والتعليم لمن هو دونه في التعلم، وبين عمارة المسجد بالجلوس فيه، وبين تكثير سواد المصلين، علمًا أن ثوابهم يكثر بحسب كثرة عددهم إلى غير ذلك، وقد ذهب شرح قوله: (يهادى بين رجلين).

-338 - الحديث التاسع والعشرون: [عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلًا. زاد في بعض الروايات: (ألا إني أبرأ إلى كل خل من خله). وفي رواية: (ولو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا، لاتخذت ابن أبي قحافة خليلًا ولكن صاحبكم خليل الله]. * في هذا ما يدل على أن الخلة أرفع المقامات، وقد ذكر (157/ ب) بعض الحكماء أنها المقام الأعلى للمحبين لله سبحانه، واستدل في أنه يعود الأمر في إرادة الله تعالى وإرادة عبده واحدًا كما قال الله عز وجل {والله ورسوله أحق أن يرضوه} وأشار إلى هذا المعنى أبو طالب المكي في كتابه، واستشهد عليه بقول الشاعر: ما الخل إلا من أود بقلبه. * وقوله: (لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا) يدل على شرف أبي بكر رضي الله عنه، وأنه لم يمنع من أن يتخذه خليلًا إلا أن الله تعالى اتخذ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خليلًا، كما اتخذ إبراهيم خليلًا، فإن الخلة أكثر من الأخوة لقوله - صلى الله عليه وسلم - (ولكنه أخي)، وسنوسع القول في هذا إن شاء الله تعالى.

الحديث الثلاثون: -339 - [عن عبد الله قال: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قال: (ألا أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة، القالة بين الناس). زاد البرقاني في رواية (وإن شر الروايا روايا الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا يعد الرجل صبيه ثم لا ينجزه)). * في هذا الحديث من الفقه أنه إذا كان النمام قد أخبر بالسوء دون الحسن، وغلظ ما حكاه من القبيح، فهو شر ممن يحكي ما جرى على صورته. وأن هذا العضه ينتشر فيصير قالة بين الناس، ويكون حوبها على العاضه في كل ما ينتشر من طريقه إذا كان عضها بالباطل لا بالحق. * وقوله: (أن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل) يتضمن أنه لا يحل أن يكذب الإنسان هازلا، فإن مزح فلا يقل إلا الحق، وعلى هذا فإنه يستحب أن لا يعد الرجل طفله بشيء إلا ويفي به له، لتعتاد نفسه الوفاء بما ينطق به لسانه حتى لصبيه وهكذا، فلا مجرى فيما يتمسح به الناس، فقد روي أن أخت الربيع بن خيثم رأت صبيًا للربيع فنادته: يا ابني، فقال لها الربيع أرضعتيه؟ فقالت: لا، فقال لها: (فقولي يا ابن أخي). * وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنس: يا بني؛ فلأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما أنا لكم كالوالد) فهو أبو الأمة (158/ أ) وأزواجه أمهاتهم.

-340 - الحديث الحادي والثلاثون: [عن عبد الله ان النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى)). * في هذا الحديث ما يدل على أن المهدي هادي الهدى، وقد سأل من الله عز وجل (الهدى). * فيه أيضًا جواز أن يكون سأل الهدى لأمته إلى يوم القيامة، فإن الهدى مما قال الله عز وجل فيه: {إن علينا للهدى}]. * وقد سأل - صلى الله عليه وسلم - مع الهدى (التقى) وهذه التاء في التقى مبدلة من الواو، والتقوى نطق قد تكرر في القرآن، وأصل التقوى تقوى الشرك ثم ترتفع في الدرجات فهي كلمة شاملة إلا أنها راجعة إلى الحذر. * ثم سأل - صلى الله عليه وسلم - (العفاف)، والعفاف قد يكون منه العفاف عن الرذائل على كثرتها، ومنه العفاف عن أموال الناس، ومنه العفاف عن سؤال الأجر على تبليغ الحق، ومنه العفاف الذي يؤدي إلى العون عما لا يحل من النظر فما فوقه، ومنه العفاف عما جاوز الكفاية بالمعروف في كل معنى. * ثم سأل - صلى الله عليه وسلم - (الغنى) وقد جاء عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (الغنى غنى النفس) وكذلك هو. وهو الذي سأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن الغنى مطلق ينصرف إليه، إذ غنى الأعراض قد يكون فقرًا من وجوه كثيرة؛ منها الاشتغال بها، والخدمة لها، والحاجة إلى دوامها وغير ذلك.

-341 - الحديث الثاني والثلاثون: [عن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس)]. هذا قد أشير إلى شرحه فيما مضى وسيأتي في تفسير قوله: (لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض أحد يقول الله الله). -342 - الحديث الثالث والثلاثون: [عن عبد الله قال: (بحسب المرء من الكذب، أن يحدث بكل ما سمع)]. * في هذا (158/ ب) الحديث من الفقه أن يعرف الرجل أن أكثر ما يسمعه لا يأمن أن يكون كذبًا، فلا ينبغي أن يحدث به حتى يسبره، ويستصحه، فإذا ثبت عنده حدث به حينئذ، لأن ابن مسعود لم يقل: (بحسب المؤمن من الكذب أن يحدث بكل ما صح عنده) ولم يقل (ما ثبت عنده) وإنما قال: (بكب ما سمع) وأراد (قبل أن يستصح ويسبر ليعلم الحق).

-343 - الحديث الرابع والثلاثون: [عن يسير بن جابر (وقيل: أسير) قال: هاجت ريح حمراء بالكوفة، فجاء رجل ليس له هجيرى إلا: يا عبد الله بن مسعود، جاءت الساعة، قال: فقعد وكان متكئًا فقال: إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث، ولا يفرح بغنيمة، ثم قال بيده، هكذا (ونحاها نحو الشام) فقال: عدو يجمعون لأهل الإسلام ويجمع لهم أهل الإسلام قلت: الروم تعني؟ قال: نعم، وتكون عند ذاكم القتال ردة شديدة. فيشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة. فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل فيفيء هؤلاء وهؤلاء، كل غير غالب. وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل فيفيء هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب. وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة للموت، لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يمسوا. فيفيء هؤلاء وهؤلاء. كل غير غالب. وتفنى الشرطة فإذا كان يوم الرابع نهد إليهم بقية أهل الإسلام فيجعل الله الدبرة عليهم فيقتلون مقتلة. إما قال: لا يرى مثلها، وإما قال: لم ير مثلها، حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم، فما يخلفهم حتى يخر ميتًا. فيتعاد بنو الأب كانوا مائة فلا يجدونه بقي منهم إلا الرجل الواحد. فبأي غنيمة يفرح؟ أو أي ميراث يقسم؟ فبينما هم كذلك إذ سمعوا ببأس، هو أكبر (159/ أ) من ذلك. فجاءهم الصريخ: إن الدجال قد خلفهم في ذراريهم فيرفضون ما في أيديهم ويقبلون. فيبعثون عشرة فوارس طليعة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إني لأعرف

أسماءهم، وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم. هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ أو من خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ)]. * هذا الحديث ق دل على أن المذكور فيه من أشراط الساعة، وذلك لا محالة لصحة الطريق إلى ثبوته، وأنه نقلب أولئك المجاهدون عن جهادهم ذلك إلى حرب الدجال. * وفيه أيضًا أن المسلم إذا رأى الريح المنكرة خاف أن تقوم السعة، ألم تر أن ابن مسعود لم ينكر على ذلك قوله، غير أنه يبين له ما يكون من أشراطها، فلو هبت تلك الريح بعد ما ذكر من أشراطها لجاز أن يكون ذلك لقيام الساعة. -344 - الحديث الخامس والثلاثون: [عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} إلا أربع سنين]. * فيه ما يدل على أن القرآن العزيز وبخ قومًا على بطء خشوع قلوبهم بعد نزول القرآن وأنه سبحانه وتعالى ذكر لنا قومًا (فطال عليهم الأمد فقست

قلوبهم. ويجوز أن يكون ها هنا الأمد بمعنى الأمل، ويجوز أن يكون بمعنى القيامة، والمعنى أنهم استبعدوا كونها فقست قلوبهم، والله سبحانه وتعالى يجعلنا ممن خضع قلبه لذكر الله، ولا يجعلنا ممن طال عليهم الأمد فقسا قلبه وكثير منهم فاسقون.

مسند عمار بن ياسر رضي الله عنه

مسند عمار بن ياسر رضي الله عنه أخرج له في الصحيحين خمسة أحاديث، المتفق عليه منها حديث واحد في التيمم، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بواحد. -345 - فأما حديث التيمم فقد قسموه حديثين متقاربين في المعنى، أحدهما: [عن أبي موسى الأشعري عنه قال شقيق (159/ ب): كنت جالسًا مع عبد الله وأبي موسى الأشعري. فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن! أرأيت لو أن رجلًا أجنب، فلم يجد الماء شهرًا، كيف يصنع بالصلاة؟ فقال عبد الله: لا يتيمم، وإن لم يجد الماء شهرًا، فقال أبو موسى: فكيف بهذه الآية في سورة المائدة: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيدًا طيبًا} فقال عبد الله: لو رخص لهم في هذه الآية لأوشك إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد). فقال أبو موسى لعبد الله: ألم تسمع قول عمار لعمر: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، فقال: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا)،

ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين فظاهر كفيه ووجهه فقال عبد الله: أولم تر عمر لم يقنع بقول عمار؟ وفي رواية (فقال أبو موسى: فدعنا من قول عمار، فكيف تصنع بهذه الآية؟ فما درى عبد الله ما يقول؟). وفي رواية: ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما يكفيك أن تقول هكذا وضرب بيديه إلى الأرض، فنفض يديه، فمسح وجهه وكفيه). والحديث الثاني، في معناه، (أن رجلًا أتى عمر فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء؟ فقال: لا تصل، فقال عمار: ألا تذكر، يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا، فلم نجد ماءً، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك؟ فقال عمر: اتق الله يا عمار. فقال: إن شئت لم أحدث به فقال عمر: نوليك ما توليت)]. * هذان الحديثان أصل في التيمم ومبينان للآية، والآية قد صرحت بمسح الوجه واليدين في التيمم، وفي الحديث أنه يستحب نفخ ما عساه أن يعلق باليد من ذرة طفيفة يزيلها النفخ ويكفي فيها أدنى الغبار (160/ أ)، وما ذهب إليه ابن مسعود في هذا فليس عليه العمل. * وقد أجمع كل من يحتج بقوله أن للجنب أن يتيمم في السفر؛ فيمسح وجهه

وكفيه ويصلي ولا يعيد، وأما من خاف من برد الماء فجائز له أيضًا في السفر، ولا إعادة عليه وجائز ذلك في الحضر إلا أن في الإعادة خلافًا. قال الشافعي في بعض أقواله: تجب عليه الإعادة في الحضر خاصة. * فأما الحديث الثاني ففيه دليل على أن الثقة قد ينسى الحديث فلا يكون ذلك قادحًا في الحديث إذا ذكره ثقة غيره، فإن عمارًا لم يقل لعمر: (ألا تذكر) إلا لما تحقق أنه قد كان معه فيه، وأما قول عمر لعمار: (اتق الله) فإنه يدل على أنه قد كان ذلك من وهمه بالكلية، ولم يقدح ذلك في إخبار عمار ولهذا قال: (نوليك ما توليت)، أي أنك عندنا أهل أن يقبل خبرك فيما أخبرت به. -346 - الحديث الأول من أفراد البخاري: [عن أبي وائل قال: لما بعث علي رضي الله عنه عمارًا والحسن بن علي إلى الكوفة ليستنفرهم، خطب عمار فقال: إني لأعلم أنها زوجة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها لينظر إياه تتبعون أو إياها]. * في هذا الحديث ما يدل على ان عمارًا رضي الله عنه كان فيه من الإيمان ما لم تستخفه الخصومة والحرب إلى أن ينقص عائشة رضي الله عنها شيئًا من فضلها بل شهد لها بأنها زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة. * وفيه أيضًا ما يدل على ما تقدم من ذكرنا له من أن الحال كانت حالة اجتهاد وقد سبق القول في ذلك.

-347 - الحديث الثاني: [عن أبي وائل قال: دخل أبو موسى وأبو مسعود على عمار، حيث أتى الكوفة ليستنفر الناس فقالا: ما رأينا منك أمرًا منذ أسلمت أكره عندنا من إسراعك في هذا الأمر؟ فقال: ما رأيت منكما منذ أسلمتما أمرًا أكره عندي من إبطائكما عن هذا الأمر ثم كساهما حلة. قال أبو مسعود في الأطراف: يعني أبا موسى (160/ ب) وأبا مسعود حلة حلة ثم راحوا إلى المسجد. ولم يذكر البخاري يعني: أبا مسعود وأبا موسى في روايته عن عبد الله. قال أبو مسعود وكان موسرًا: يا غلام، هات حلتين، فأعط إحداهما أبا موسى، والأخرى عمارًا، وقال: روحا فيهما إلى الجمعة)]. * في هذا الحديث من الفقه أن اجتهاد أبي موسى وأبي مسعود أداهما إلى البطء وان اجتهاد عمار أداه إلى الإسراع، وكراهية كل جانب من الجانبين حال الآخر؛ لأن الأمور مشتبهة المصادر فإذا أولت تبينت بأعقابها، والذي بان من أعقاب ذلك الأمر أن الإسراع في الشد من أزر إمام المسلمين وتقوية يده كان الصواب، وأن ما عداه في تلك المرة كان خطا مغفورًا لكونه عن اجتهاد. * وفيه أيضًا دليل على جواز أن يكسو المسلم أخاه الحلة، وأن يشير إليه بالرواح فيها إلى الصلاة. * وفيه جواز قبول المسلم من أخيه مثل ذلك ولا يرد فضله عليه.

الحديث الثالث: [عن عمار قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر]. * في هذا الحديث ما يدل على قدم إسلام عمار. * وفيه أيضًا أن الأمر إذا كان حقًا فبدأ ضعيفًا فإنه ينبغي للمؤمن أن لا ييأس من قوته وتكميله، كما أن الباطل لو بدأ قويًا ذا مرة لم ييأس المؤمن من اضمحلاله وتلاشيه. -349 - حديث لمسلم عن عمار: [عن أبي وائل قال: خطبنا عمار، فأوجز وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست! فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته مئنة من فقهه)، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحرًا). وفي أفراد مسلم في مسند حذيفة كلام لعمار قال: (ما عهد إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا لم يعهده إلى الناس كافة) (161/ أ) [. * في هذا الحديث ما يدل على فصاحة عمار رضي الله عنه من حيث وصف أنه

أبلغ وأوجز، ومن حيث أنه تعهد ذلك فلم يقع منه اتفاقًا لاحتجاجه لذلك بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمره بتقصير الخطبة وتطويل الصلاة. * والذي أراه في ذلك إن تطويل الصلاة ليدركها الغائب والبعيد عن الجامع، وأما قصر الخطبة فإنه يكون أدعى لحفظ ما يذكره فيها، ولئلا يقول كلامًا منشورًا لا يتيسر الاحتراز في حدوده، فإذا أقل منه كان قمينًا أن يسلم وينفع، وهذا فهو في الأكثر، فإن احتاج الخطي إلى أن يطيل لذكر حادثة جرت أو نائبة أو إبانة عن صورة لا بد من إبانتها لم يكره ذلك إن شاء الله تعالى. * وقوله: (لو كنت تنفست) أي أطلت. * وقوله: (مئنة من فقهه) فمعناها الأمارة والعلامة الدالة على فقهه. * وقوله: (إن من البيان سحرًا) يعني أن البيان يفعل في عطف الألباب ما يفعل السحر، وهذا يدل على أن للسحر حقيقة حتى شبه ما له حقيقة به، إلا أنه في الحق والصواب من التأييد والنور والإلهام لمن وفق لما تبين له، وقل ما يوفق لذلك مبطل، فإن الله تعالى يقول: {وهدوا إلى الطيب من القول} وقوله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} وقوله: {أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى}.

مسند حارثة بن وهب الخزامي (رضي الله عنه)

مسند حارثة بن وهب الخزامي (رضي الله عنه) أخرج له في الصحيحين أربعة متفق عليها. -350 - الحديث الأول: [عن حارثة قال: صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونحن أكثر ما كنا قط وآمنه، بمنى ركعتين]. * هذا الحديث يدل على أن الصلاة بمنى ركعتان، وأن القصر لا يتوقف على الخوف، وما روي عن عثمان في أنه صلاها أربعة فقد تقدم بيان وجهه. -351 - الحديث الثاني: [عن معبد بن خالد عن حارثة أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (حوضه ما بين صنعاء والمدينة].

فقال المستورد: ألم تسمعه (161/ ب) قال: الأواني؟ قال: لا، فقال المستورد: ترى فيه الآنية مثل الكواكب). * قد اتفق حارثة والمستورد على إثبات الحوض ما عدا ذكر الأواني، ثم انفرد المستورد بذكر الأواني. * وقوله: (ما بين صنعاء والمدينة) يعني مقدار تلك المسافة، ويجب الإيمان بالحوض، فإنه مما أكرم الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليسقي منه يوم العطش الأكبر، فهو أول ضيافاته في الآخرة، وسيتكرر ذكره في هذا الكتاب، ويذكر في كل شيء ما يناسبه إن شاء الله. * وأما تشبيه الأواني بالكواكب فإنه شبهها بها لكثرتها وأنوارها، فإنها تزهر مثل الكواكب فلا يخفى على أحد موضع إناء. -352 - الحديث الثالث: [عن حارثة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: تصدقوا، فيوشك الرجل يمشي بصدقته، فيقول الذي أعطيها: لو جئتنا بها بالأمس قبلتها، وأما الآن فلا حاجة لي بها،

فلا يجد من يقبلها]. * فيه من الفقه الإيذان بصلاح الناس وزهدهم في الفضول حتى لا يقبل أحد منهم ما هو مستغن عنه. * وقد روي أنه كان في زمن عمر بن عبد العزيز ينادى على الصرة فيها مائة دينار ليقبلها قابل عامة اليوم فلا يقبلها أحد، لأن عمر أغنى الناس، ويجوز أن ذلك كان لأن عمر زهد الناس في الدنيا بحاله. -353 - الحديث الرابع: [عن حارثة قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر]. * في هذا الحديث ذكر علامات أهل الجنة وأهل النار، فمن علامات أهل الجنة أن يكون ضعيفًا متضعفًا، وذلك أن الجبارين يتضعفونه فيستطيلون عليه لضعفه، وقد يكون الضعف فقرًا لعدم المال، وقد يكون لعدم الرجال، وقد

يكون لعدم القوة والأيد، فإذا خلق الله (162/ أ) تعالى خلقًا ضعيفًا لهذه الأشياء أو بعضها ليمتحن به عباده، فمن يرحمه الإنسان أو يقهره فإنه يكون من أهل الجنة كما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وأما علامات أهل النار فإنه العتل، قال أبو عبيدة: العتل عند العرب الشديد، وهو الشديد الذي يدل لشدته ويتطاول بحلوله على الناس، فإن كان ممن ينفق قوته في الحق فهو خارج من هذا، كما روي عن محمد بن الحنفية أنه كان أيدًا من الرجال. وقال الله تعالى: {واذكر عبدنا داود ذا الأيد} ذا القوة. وأما الجواظ: فقد قيل في معناه أقوال: أولاها أنه الجموع المنوع، والمستكبر: المتكبر.

مسند أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه)

مسند أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه) أخرج له في الصحيحين ثلاثة وثلاثون حديثا، المتفق عليه منها اثنا عشر، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بتسعة عشر. -354 - الحديث الأول: [عن ابن عباس قال: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قلنا: بلى، قال: قال أبو ذر: كنت رجلًا من غفار، فبلغنا أن رجلًا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل كلمه وأتني بخبره، وذكر الحديث. وفي رواية: ان ابن عباس قال: لما بلغ أبا ذر مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني، ثم انطلق حتى قدم مكة، وسمع من قوله: ثم رجع إلى أبي ذر فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلامًا ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني فيما أردت، فتزود وحمل شنة له فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى

المسجد، فالتمس النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل فاضطجع، فرآه علي رضي الله عنه، فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح (162/ ب)، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، فظل ذلك اليوم ولا يراه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه فمر به علي رضي الله عنه فقال: أما أنى للرجل أن يعرف منزله؟ فأقامه فذهب معه، ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى إذا كان يوم الثالثة فعل مثل ذلك فأقامه علي معه ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك هذا البلد؟ قال: إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا لترشدني فعلت، ففعل فأخبره، فقال: إنه حق وهو رسول الله، فإذا أصبحت اتبعني فإني إن رأيت شيئًا أخافه عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ودخل معه فسمع من قوله، وأسلم مكانه، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري)، فقال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم قام القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس فأكب عليه، وقال: ويلكم، ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجاركم إلى الشام عليهم؟ فأنقذه منهم ثم عاد من الغد بمثلها، وثاروا إليه فضربوه، فأكب عليه العباس فأنقذه، وفي الرواية الأخرى ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له لما أسلم (يا أبا ذر، اكتم هذا الأمر وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل) قال: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم .. وذكر نحوه. وقال: فكان هذا أول إسلام أبي ذر].

وفي أفراد مسلم على مساق آخر يوجب إيراده: عن عبد الله بن الصامت: قال: قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا. فنزلنا على خال لنا، فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا. فحسدنا قومه فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس فجاء خالنا فنثا علينا الذي قيل له. فقلت له: أما ما مضى (163/ أ) من معروفك فقد كدرته، ولا جماع لك فيما بعد. فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها، وتغطى خالنا ثوبه فجعل يبكي، فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة، فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها، فأتيا الكاهن فخير أنيسًا، فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها. قال: وقد صليت يا ابن أخي! قبل أن ألقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاث سنين فقلت: لمن؟ قال: لله. قلت: فأين توجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء حتى تعلوني الشمس. فقال. أنيس: إن لي حاجة بمكة فاكفني. فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث علي، ثم جاء فقلت: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلًا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله. قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر، وكان أنيس أحد الشعراء. قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون. قال: قلت: فاكفني حتى أذهب فأنظر، قال: فأتيت مكة، فتضعفت رجلًا منهم فقلت أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟ فأشار إلي فقال: الصابئ، فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم، حتى خررت مغشيًا

علي، قال: فارتفعت حين ارتفعت، كأني نصب أحمر، قال: فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء وشربت من مائها، ولقد لبثت، يا ابن أخي ثلاثين بين ليلة ويوم، ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني. وما وجدت على كبدي سخفة جوع. قال: فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان إذ ضرب على أصمختهم فما يطوف بالبيت أحد، وامرأتين منهم تدعوان إسافًا ونائلة، قال: فأتتا علي في طوافهما فقلت: أنكحا أحدهما الأخرى! قال: فما تناهتا عن قولهما، قال فأتتا علي (163/ ب). فقلت: هن مثل الخشبة، غير أني لا أكني. فانطلقتا تولولان وتقولان: لو كان ها هنا أحد من أنفارنا! قال: فاستقبلهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، وهما هابطان قال: (ما لكما؟) قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها. قال: (ما قال لكما؟) قالتا: إنه قال لنا كلمة تملأ الفم. وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى استلم الحجر وطاف بالبيت هو وصاحبه ثم صلى، فلما قضى صلاته (قال (أبو ذر)) فكنت أنا أول من حياه بتحية الإسلام قال: فقلت: السلام عليكم يا رسول الله، فقال: (وعليك السلام ورحمة الله). ثم قال: (من أنت؟ قال: قلت: من غفار، قال: فأهوى بيده فوضع أصابعه على جبهته. فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار، فذهبت آخذ بيده فقدعني صاحبه، وكان أعلم به مني، ثم رفع رأسه ثم قال: متى كنت ها هنا؟ قال: قلت: قد كنت ها هنا منذ ثلاثين ما بين ليلة ويوم، قال: فمن كان يطعمك؟، قال: قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم. فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما أجد على كبدي سخفة جوع، قال: (إنها مباركة. إنها طعام طعم).

فقال أبو بكر: يا رسول الله! ائذن لي في طعامه الليلة، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وانطلقت معهما ففتح أبو بكر بابًا فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، وكان ذلك أول طعام أكلته بها. ثم غبرت ما غبرت، ثم أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إنه قد وجهت لي أرض ذات نخل. لا أراها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عني قومك؟ عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم). فأتيت أنيسًا فقال: ما صنعت؟ قلت: صنعت أني قد أسلمت وصدقت. قال ما بي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقت. فأتينا أمنا، فقالت: ما بي رغبة عن دينكما فإني قد أسلمت وصدقت، فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارًا، فأسلم نصفهم. وكان يؤمهم أيماء بن رحضة الغفاري. وكان سيدهم، وقال نصفهم: إذا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أسلمنا، فقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فأسلم (164/ أ) نصفهم الباقي وجاءت أسلم فقالوا: يا رسول الله! إخوتنا. نسلم على الذي أسلموا عليه، فأسلموا: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله). زاد بعض الرواة بعد قول أبي ذر لأخيه: فاكفني حتى أذهب فأنظر. قال: نعم، وكن على حذر من أهل مكة، فإنهم قد شنفوا له وتجهموا]. * في هذا الحديث: ما يدل على ان أبا ذر وفق لما يجب على كل مؤمن من النظر لقوله عز وجل: {إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى

ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} وكان توفيقه بإرسال أخيه لما بلغه دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخلق إلى ربهم، وقصده بعد ذلك بنفسه. * وفيه أيضًا أن المؤمن يزن القول ويعتبره، ويقسم له الأقسام، ثم إذا أدى التقسيم إلى أن الحق في جهة صار إليها، ألا ترى أن أخا أبي ذر قال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلامًا ما هو بالشعر. ومكارم الأخلاق من أمارات المحقين ودلائل الصادقين وقد قال الله عز وجل {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين، تنزل على كل أفاك أثيم}. * (وحمل شنته) يعني قربته، ويريد بقوله فتزود بأنه سار بهذا يتزود في مشنته وأنه كان يهيم بأمر دينه ولم يكسل لطول الشقة. * وفيه أيضًا ما يدل على حسن تأني أبي ذر حين بدأ بالمسجد، لأن المسجد يجمع، ويدل على أنه إذا كان للإنسان أمر مهم لم يبدأ بالسؤال عنه حتى ينظر من يصلح للسؤال عنه، ومما يدل على أن الله تعالى يهدي المجتهد أن الله تعالى قيض عليًا للقاء أبي ذر لأن الله تعالى يقول: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}. * وفيه أيضًا أن الإنسان إذا أضاف ضيفًا فمن الأدب أن لا يسأله عن حاله، من أجل أنه ربما يكون له (164/ ب) شأن يقتضي الكتمان، فلا يبدأ بالسؤال عن حاله فيضطر إلى ذكر شيء لا يريد أن يذكره أو يلجئه إلى أن يتمحل في قول يخرج به من عهدة جواب مضيفه، ولا يظهر سر نفسه. * وقوله: (أما أنى للرجل أن يعلم منزله) أي أما آن.

قال الشاعر: تمخضت المنون له بيوم .... أنى ولكل حاملة تمام * وقوله: (حتى إذا كان يوم الثالثة). هذا يدل على أن الضيافة ثلاث، وتقدير الضيافة بثلاث تقدير صائب، لأن الإنسان في الأغلب إذا كان في سفر، فالثلاث غالب ما يقيمها عابر السبيل لقضاء شغل وانتظار صاحب، ولذلك أن قاصر الصلاة في السفر منتهاه إليهما، فلما مضت الثلاث سأله علي فقال: ألا تحدثني؟ فعرض عليه أن يحدثه ولم يلزمه. يعني ألا تراني أهلًا لأن تحدثني فكان جوابه أن قال: (إن أعطيتني عهدًا أو ميثاقًا لترشدني فعلت). * وفي هذا الحديث دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يداري ما يخافه بل يوهم فيه غير قصده لأن عليًا رض الله عنه قال له: إن رأيت شيئًا أخافه عليك قمت كأني أريق الماء. * وفيه دليل على جواز قول الرجل (أريق الماء) فإنه قد سبق في هذا الكتاب عن عمر أنه نهى عن ذلك وكلاهما له معنى. * وقوله) فإن مضيت فاتبعني) أي إن أتممت الشيء فاعلم أني لم أر شيئًا أخافه عليك فاتبعني. * وقوله (أسلم مكانه) فيه دليل على أن العاقل إذا بان له الحق لم يتوقف ولم يؤخر قبوله والعمل به من ساعة إلى ساعة. * وقوله: (ارجع إلى قومك حتى يأتيك أمري) فيه دليل على جواز التربص بالأعداء والصبر عليهم. * وفيه جواز أن يبذل المؤمن نفسه معرضًا بها للتلف في إظهار الحق لقول أبي ذر: والله لأصرخن بها بين ظهرانيهم. * وفيه ما يدل على فضيلة العباس في أنه حمى أبا ذر من شر المشركين،

وحسن تأنيه فيما ذكره لهم من تخويفهم تعويق تجارتهم حتى أمسكوا عنه، وكذلك في الثانية والثالثة (165/ أ). * وفيه أيضًا كتمان الحق طلبًا للمصلحة وانتظارًا لوجود الفرصة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر حين أسلم (اكتم هذا). * وقوله: (فقيل لخالنا إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس) في هذا تحذير من سماع قول الحساد. * وقوله: (نثا علينا) أي أفشى وأظهر لنا القبيح الذي قيل له. (والنثا) يقال في الشيء القبيح، وقد يقال في الحسن. وقول أبي ذر (أما ما مضى من معروفك فقد كدرته) أي حين سمعت ما قيل عنا، ولو وفق لم يظهر لهما ذلك، فلما أظهر ذلك لم يبق لهما عنده مقام. * وقوله: (فقربنا صرمتنا) وهي القطعة من الإبل. * وقوله: (فنافر أنيس عن صرمتنا). نافر: تأخر، وخير أنيسًا حكم له بالفضل. * وقوله: (ألقيت كأني خفاء) الخفاء ممدود، هو الكساء يطرح على السقاء، والمعنى أني كنت أصل إلى أن استطرح. (وراث) بمعنى أبطأ. * وقول أنيس في حق نبينا - صلى الله عليه وسلم - والقرآن يدل على فهمه؛ لأنه قسم فقال سمعت قول الكهنة فليس بكاهن، ووضعت قوله على أقراء الشعر أي على وجوهه فلم يكن به. * (فتضعفت رجلًا منهم) أي رأيته ضعيفًا لا أبالي بإظهار سري إليه. * وقوله (كأني نصب أحمر) أي كأني لجريان دمي أحد الأنصاب التي كانوا يذبحون عليها.

* وفيه أن ماء زمزم أسمنه، وأنها مباركة، وقد أخبر أنه تكسرت عكن بطنه فلم يعره ذلك، ولا يعر مثل ذلك لمثله في تلك الحال لأن ما جرى كان آية من آيات الله عز وجل. * وقوله: (ما وجدت على كبدي سخفة جوع) قال الأصمعي: السخفة هي الخفة ولا أحسب قولهم: سخيف إلا من هذا. * قوله: (في ليلة قمراء إضحيان) القمراء منسوبة إلى القمر، والمعنى في ليلة كثيرة الضياء، (وإضحيان) أي مضيئة لا غيم فيها. وقوله: (ضرب على أصمختهم) الصماخ: خرق الأذن الباطن الذي يفضي إلى الرأس ومنه يتأذى (165/ ب) فهم المسموع إلى النفس، وهذا كناية عن النوم المفرط. * (أساف ونائلة) صنمان وقوله (هن مثل الخشبة) يعني الذكر، وفي هذا دليل على أن الإنسان قد يقول الكلمة التي فيها بعض التصريح بالقذاء، إذا كان في مثل مقام أبي ذر وما جرى له. * قوله (من أنفارنا) أي من قومنا مأخوذ من النفر، والنفر ما بين الثلاثة إلى العشرة. * (الصابئ) الخارج من دين قومه. وقولها كلمة (تملأ الفم) أي كلمة عظيمة يربو اللسان عند سماعها في الفم فلا يقدر على الكلام، وقدعني: أي كفني.

* وقوله: (من ثلاثين ليلة) اي من ممر ثلاثين ليلة، قال الشاعر: لمن الديار بقنة الحجر .... أقوين من حجج ومن شهر أن (من) لا تخبر بها عن الزمان إلا ب قدير فعل. * وفيه أيضًا من حسن الصحبة أن لا يضيف الرجل رجلًا غريبًا لا يعلم علمه إلا عن إذن من صاحب أمره إذا كانت الحال في مثل حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحال أبي بكر، فإنه لا يأمنه أن يكون جاسوسًا لعدو أو طليعة لمشرك أو نحو ذلك. * وفيه أيضًا أن لا يحقر ما قدم للضيف على حسب ما يتفق لقوله (فجعل أبو بكر رضي الله عنه يقبض من زبيب الطائف) (وغبرت) بمعنى بقيت. * وقوله (وجهت لي أرض) أي جعلت وجهة لي. * وفيه دليل عن أن الإسلام من النساء مقبول، وأن لم يعرفن أدلة النظر، فإن أم أبي ذر قالت: (لا رغبة لي عن دينكما) فجعلت الدلالة على صحة ما انتقلت إليه إسلام ولديها. * وفي الحديث دليل على ان القوم أسلموا وصلوا جماعة، لأنه كان يؤمهم إيماء بن رخصة. * وفي هذا الحديث أيضًا ما يدل على انه إذا اتفق في القول ما يجانس فيه كان أولى من غيره، لأنه أحلى في السمع وأقرب إلى الحفظ لقوله - صلى الله عليه وسلم - (غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله) إلا أن هذا إذا اتفق فذاك، وأما إذا تكلف له تكلفًا بغير المعاني فلا. * وقوله (فإنهم قد شنفوا إليه وتجهموا) شنفوا له أبغضوه ونفروا منه. والشنيف المبغض (وتجهموا) تلوت وجوههم واستقبلوه بالمكروه.

الحديث (166/ أ) الثاني: [عن أنس بن مالك قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل عليه السلام، ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأفرغها في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء، فلما جاء إلى السماء الدنيا، قال جبريل لخازن السماء: افتح، قال: من هذا؟ قال: هذا جبريل قال: هل معك أحد؟ قال: نعم، معي محمد - صلى الله عليه وسلم - قال: فأرسل إليه؟ قال: نعم، ففتح، قال: فلما علونا السماء الدنيا، فإذا رجل عن يمينه أسودة، وعن يساره أسودة، قال: فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى قال: فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح، قال: قلت يا جبريل، من هذا؟ قال: هذا آدم عليه السلام، وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه. فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى. ثم عرج جبريل حتى أتى السماء الثانية، فقال لخازنها: افتح. قال: فقال له خازنها مثل ما قال خازن السماء الدنيا ففتح. فقال أنس بن مالك: فذكر أنه وجد في السموات: آدم، وإدريس، وعيسى، وموسى، وإبراهيم عليهم السلام، ولم يثبت كيف منازلهم، غير أنه ذكر: أنه وجد آدم عليه السلام في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة، قال: فلما مر جبريل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإدريس عليه السلام، قال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح، قال: ثم مر. فقلت: من هذا؟ قال: إدريس. قال: ثم مررت بموسى فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح، قال: فقلت: من

هذا؟ قال: موسى. قال ثم مر بعيسى عليه السلام، قال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح، قال: قلت: من هذا؟ قال: عيسى بن مريم، قال: ثم مررت بإبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح، قال: قلت: من هذا؟ قال: إبراهيم). قال ابن شهاب: وأخبرني ابن حزم: أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري، كانا يقولان: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (166/ ب) (ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع صريف الأقلام). قال ابن حزم وأنس بن مالك: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، قال: فرجعت بذلك حتى أمر بموسى عليه السلام فقال موسى: ماذا فرض ربك على أمتك؟ قلت: فرض عليهم خمسين صلاة، قال لي موسى: فراجع ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، قال: فراجعت ربي فوضع شطرها، قال: فرجعت إلى موسى، فأخبرته، قال: فراجع ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، قال: فذكر مثله فوضع شطرها فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال راجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، قال: فراجعت ربي فقال: هي خمس، وهي خمسون، لا يبدل القول لدي، قال: فرجعت إلى موسى، فقال: راجع ربك، فقلت: قد استحييت من ربي، ثم انطلق بي جبريل، حتى أتى سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي؟ قال: ثم أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك]. * قوله (فرج سقف بيتي) أي كشف. وأنا بمكة، فنزل جبريل عليه السلام.

* (ففرج صدري) أي شقه ثم غسله بماء زمزم. الذي أرى في هذا أن فرج قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغسله وهو يرى ذلك تثبيت له - صلى الله عليه وسلم -، وتثبيت عنده أن قلبه الكريم لا ينزغ فيه شيطان أبدًا، وإنه محفوظ معصوم لا يقربه شيطان في قلبه وفي سره، ليكون على يقين من خواطره أنها حق وصدق لا يتمارى فيها ولا يتردد، ويصدق هذا قوله سبحانه: {وما ينطق عن الهوى}. * وقوله (بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا فأفرغها في صدري) فيه من الفقه أنه قال بطست من ذهب، والإشارة بذلك إلى أن الذهب لا يصدأ فلا يخالط ما يلقى فيه بشيء من صدئه، وكونه أيضًا استعمل الذهب في حقه مع أنه نهى عن استعمال آنية الذهب لأن ذلك الطست الذي جاء به جبريل ليس من ذهب الدنيا الذي تناوله التحريم، بل هو من عطاء الله وإنعامه المستثنى فلا يتناوله تحريم. كما قال عز وجل: {يحلون فيها من أساور من ذهب}. * وقوله: (مملوءة حكمة وإيمانًا) يعني به - صلى الله عليه وسلم - أن الحكمة إذا قرن بها الإيمان كانت النافعة احترازًا ممن قد (167/ أ) كان يلقى الحكمة من الأوائل خالية عن إيمان فلم تنزل ولم تنفع. * وقوله: (فأفرغها) ولم يقل (فأفرغهما) وذلك أن الحكمة امتزج بها الإيمان في كل جزء من أجزائها فاتحدت فلم تقبل التثنية، ويجوز أن يكون الضمير عائدًا إلى الطست. * وقوله: (فأخذ بيدي فعرج إلى السماء) فيه من الفقه أن السماء جهة للخلق إلى الله تعالى، وأن الله مستو على عرشه، وأن العرش فوق السموات السبع. وأن العروج به في ذلك الوقت بعد غسل قلبه، وصب الحكمة الممزوجة بالإيمان فيه، وصعوده إلى السماء السابعة وإتيانه إلى سدرة المنتهى، ولقاءه الأنبياء

صلوات الله عليه وعليهم، هو تشريف الرسالة وكرامة النبوة، حتى أخذ من هذا ملوك الدنيا ما يعتمدونه عنه استخدامهم خدمة وزير لهم، يبدؤونه بإظهار تقريب منزلته، وإدنائه منهم، ومشافهته بالقول المشعر بالتحكيم، وتجديد الملابس عليه، وإخدام الأولياء له وغير ذلك؛ حتى يعرف الكل من حديثهم معه أنه الواسطة بين مخدومهم وبينهم، كما أن الأنبياء واسطة بين خالقهم عز وجل وبين عباده. * وفيه من الفقه ان السماء سقف محفوظ، وأنها ذات أبواب لا تفتح إلا بأمر الله سبحانه ولها خازن. * وفيه أيضًا ما يدل على أنها جسم كثيف لقول الخازن لجبريل استفتح: من هذا؟ ولو كانت كما يزعم المنجمون جوًا متخرقًا لكان يراه فلا يحسن أن يقال له: من هذا؟ * وقوله: (هل معك أحد) دليل على ما قلنا. * وقوله: (نعم، معي محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال: فأرسل إليه؟) يدل أيضًا على أن جبريل عليه السلام إذا تنزل في أمر من أمر الله لا تعلم به الملائكة حتى يهبط إلى الأرض فيقضي بأمر الله ثم يعود، ويجوز أيضًا أن يكون قوله لجهل (أو قد أرسل إليه؟) استخبارًا مبتكرًا. * وفيه من الفقه أيضًا أن آدم - صلى الله عليه وسلم - في السماء الدنيا، وبعض ذريته فوقه، فهو يفرح بذريته، فإن كان قد قصر بدرجته على سماء الدنيا شيء (167/ ب) من الخطيئة التي كان سولها له إبليس، على أن الله تعالى قد أخبرنا بأنه تاب عليه وهدى، والله أعلم بذلك. * (فأما نظره إلى الأسودة عن يمينه وعن شماله وهي نسيم بني آدم، وأنه إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى) أما ضحكه لأجل أن ما قبل يمينه من أهل الجنة، فيسر بدخول أجزاء منه إلى الجنة، فإن ذريته أبعاضه، وهذا يشهد لما ذكرنا من أنه يسره علو درجات ذريته فوقه. فأما بكاؤه إذا نظر قبل

شماله من أجل أنهم من أهل النار فإنه من أجل أنهم من صلبه ومن ذريته، وكيف كان من ذريته من يدخل النار. * وفيه من الفقه أنه كلمه بالعربية لقوله (مرحبًا)، وهي كلمة تستعملها العرب للقادم. * وقوله: (بالابن الصالح والنبي الصالح) بالألف واللام اللتين للتعريف، يدل أنه على العهد في ذلك كله، عليه السلام علمه. * وفي هذا الحديث من الفقه أن الأنبياء صلى الله عليهم جميعًا لقوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ولقيهم، وأنهم على شرف منازلهم وعلو مراتبهم لما أراد الله عز وجل أن يجمع بينه وبينهم لم يكن ذلك على قصد منه إليهم ولا غشيانًا منه لهم، بل في رقيه إلى ربه جل جلاله لقيه الواحد منهم بعد الواحد في طريق ليجتمع له - صلى الله عليه وسلم - لقاؤهم وحفظ منزلته في شرفها عند ربه. ألا ترى إلى مراتبهم في ساء بعد سماء، وإن كان في هذا الحديث لم يبينه كما بينه في حديث آخر الذي يأتي فيما بعد إن شاء الله، إلا أنه قد ذكر أن إبراهيم في السماء السادسة، وذكر عن موسى عليه السلام أنه لما فرضت الصلوات خمسين فمر حتى أتى موسى ولم يذكر أنه لقيه في عوده قبل موسى أحد، بعد قوله لقيه إبراهيم في السماء السادسة، وفيه ان الكل قالوا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح إلا آدم وإبراهيم فكلًا قال: الابن الصالح والنبي الصالح؛ لأنهما أبوان في النسب، ولو قال ذلك غير أبي النسب لكان يشير (168/ أ) إلى نقص في الخطاب. * وفيه من الفقه أنه لما تجاوز مقامات الأنبياء لم يقل: وعرج جبريل بي، بل قال: (فعرج بي) بإضمار الفاعل (حتى ظهرت) يعني وحدي ولم يقل فظهرنا فكأنه يشير إلى أنه انتهى إلى مقام لم يرق إليه راق سواه (لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام). ومعلوم أن سمع الآدمي لا يبلغ صريف القلم إلا عن مكان قد تناهى في القرب، وصريفه: صريره وصوت حركته في المخطوط فيه، ويدل أيضًا على أن الله سبحانه وتعالى أقام محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في مقام الأمانة الذي

لا ينطوي فيه عنه سر حتى سمع فيه صريف الأقلام بما كان ويكون إلى يوم القيامة. وهذا مقام لا يبلغه غيره - صلى الله عليه وسلم -. * وقوله: (ففرض على أمتي خمسين صلاة) فرجعت بذلك حتى أمر على موسى فقال: موسى عليه السلام (ارجع إلى ربك) فأما موسى - صلى الله عليه وسلم - فإنه سعى لهذه الأمة في تخفيف آل ببركة نيته إلى تضعيف فصارت الخمس في الأداء خمسين في فضل الجزاء، ويدلك على أن جبريل إنما عاد إلى صحبته منذ استقر الأمر في الصلاة عند ذكر موسى. * وقوله: (انطلق بي إلى سدرة المنتهى فغشيتها الألوان لا أدري ما هي) في هذا من الفقه: أن الألوان التي يعرفها الآدميون في الدنيا ويسمونها معدودة محصورة، وأن تلك الألوان لا يدري ما هي أي لا يعرف الآدميون أسماءها، لأنها ليس لها في الدنيا مثل فهي مما تفرد الله تعالى بعلمه. * وقوله: (ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك) وناهيك بدار يكون أعز شيء في طيب الدنيا هو فيها مكان التراب. -356 - الحديث الثالث: [عن أبي ذر قال: خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي وحده، ليس معه إنسان، قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد، قال: فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت فرآني، فقال: من هذا؟ فقلت: أبو ذر، جعلني الله فداك، قال: يا أبا ذر تعاله. قال: فمشيت معه ساعة، فقال: (إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيرًا، فنفح عن يمينه وشماله

وبين يديه ووراءه، وعمل فيه (168/ ب) خيرًا). قال: فمشيت معه ساعة فقال لي: ها هنا، قال: فأجلسني في قاع حوله حجارة، فقال لي: (اجلس ها هنا حتى أرجع إليك) قال: فانطلق في الحرة حتى لا أراه، فلبث عني فأطال اللبث، ثم إني سمعته وهو مقبل وهو يقول: (وإن سرق، وإن زنى)، قال: فلما جاء لم أصبر، فقلت: يا نبي الله جعلني الله فداءك، من تكلم في جانب الحرة؟ ما سمعت أحدًا يرجع إليك شيئًا. قال: (ذاك جبريل عرض لي في جانب الحرة فقال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة. فقلت: يا جبريل، وإن سرق وإن زنى؟ قال: (نعم). قال: قلت يا رسول الله: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم. قال: قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم، وإن شرب الخمر). وفي رواية المعرور عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أتاني جبريل فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئًا، دخل الجنة. فقلت: وإن زنى وإن سرق؟. وفي رواية أبي الأسود الديلي: ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: (وإن زنى وإن سرق، ثلاثًا. ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر). وفي رواية زيد بن وهب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (قال لي جبريل: من مات من

أمتك لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة ولم يدخل النار. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: نعم]. * فيه من الفقه: أنه لما آثر أبو ذر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخاف أن لا يؤثر رسول الله عليه ذلك تبعه في ظل القمر. فجمع في ذلك بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين ترك التقديم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صحبته عن غير إذنه. * وفيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رآه على ذلك لم ينكر عليه، وقال له (تعاله) بهاء السكت، وهي كلمة مباسطة لأنه انتهى إليها الكلام فوقف عليها. وهي مشتقة من الأمر بالعلو فإذا وقف عليها بالهاء فقد أمره بالعلو ثم قطع الكلام على ذلك. * وفيه أيضًا أن المكثرين هم يوم القيامة المقلون، وأن الأحوال قد تنقلب يوم القيامة فيعود الفقراء ملوكًا والملوك فقراء إلا من أعطاه الله خيرًا فنفح فيه عن يمينه (169/ أ) وعن شماله ومن بين يديه ومن ورائه، ونفح بالعطاء أي أظهره، ونفح الطيب ظهور رائحته، والنفح والنفحة ظهور الأمر بسرعة والمراد: أنه يعطي في حقوق الله عن يمينه فيمن هو من أهل يمينه، ويكف عن تناول ما ليس له بحق من جانب شماله فيمن يستعين عليهم بأهل شماله، فإن أهل يمين الإنسان أهل خيره وبره، وأهل شماله أهل غوايته وفساده، ومن بين يديه يجوز أن يكون منه ما أحياه من سنن دراسة وحقوق عاطلة، ومن ورائه ما يتركه بعده من خير ينتفع به أو صدقة جارية أو ولد صالح أو علم ونحو ذلك. * أما كونه أجلسه في قاع وحوله حجارة، ففيه من الفقه ما يدل على أن الصاحب إذا خلف صاحبه في مكان ليعود إليه اختار له موضعًا يعرفه به حتى إذا عاد إليه وطلبه لم يضل عنه. * وفيه أيضًا من الفقه أن من مات من هذه الأمة لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة،

وإن أتى من الزنى والسرقة وشرب الخمر، لأن ذلك إنما يطرأ على الفرع فلا يتعدى إلى نقص الأصل، وهو الإقرار بأن لا إله إلا الله. * وفيه أنه ينبغي للمؤمن إذا حدث عن فضل الله وكرمه بشيء واسع فلا يستنكره ولا يستبعده. ألا ترى إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: على رغم أنف أبي ذر؟ وقد جاء في القرآن هذا المعنى مفسرًا وهو قوله عز وجل: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذًا لأمسكتم خشية الإنفاق}. * وفيه أيضًا ما يدل على فضل الثياب البيض. وفيه أيضًا من البشرى أنه قال: (ولم يدخل النار) حتى لا يتوهم أنه يدخل الجنة بعد أن يخرج من النار، ففسر بهذا الحديث أنه يدخل الجنة ولم يدخل النار، وأرغم الله أنف فلان أي ألصقه بالرغام. والرغام التراب، وأنا أفعل كذا وإن رغم أنفه أي وإن كره ذلك. -357 - الحديث الرابع: [عن أبي ذر قال: أذن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالظهر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أبرد) (أبرد) أو قال: (انتظر انتظر). وقال: (إن (169/ ب) شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة. قال أبو ذر: حتى رأينا فيء التلول].

* (والإبراد): انكسار وهج وتوقده. * (وفوح جهنم وفيحها): غليانها والتهابها. * وفيه: استحباب تأخير الظهر في شدة الحر، وأن ذلك ينتهي إلى أن تفيء التلول، وذلك أنه تكون في الأكثر إذا انحدرت الشمس عن كبد السماء شيئًا كثيرًا نحو المغرب، وأنها من لطف الله تعالى بعباده في ذلك، لئلا يشق عليهم تكليفهم الصلاة في المساجد في أول وقت الظهر لكن يؤخرها، حتى إذا انفركت الشمس عن مسامتة الرؤوس وطالت الأفياء وأمكن الماشي أن يمشي فيها، فحينئذ يصلي الظهر بخلاف الشتاء. -358 - الحديث الخامس: [عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسمًا أن {هذان خصمان اختصموا في ربهم} أنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة)]. * وقد سبق هذا في مسند علي (عليه السلام).

-359 - الحديث السادس: (عن أبي ذر قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد عند غروب الشمس فقال: (يا أبا ذر، أتدري أين تذهب الشمس؟ فقلت: الله ورسوله أعلم فقال: (تذهب تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فلذلك قوله عز وجل: {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم}. وفي رواية: ثم قرأ ذلك (مستقر) في قراءة عبد الله. وفي رواية: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتدرون متى ذاكم؟ ذاك حين: {لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا}. وفي رواية وكيع: (مستقرها تحت عرش الرحمن)]. * فيه من الفقه أن الشمس تستأذن في كل يوم تطلع فيه لطلوعها بعد سجودها، وأنها ستطلع (170/ أ) من مغربها إلا أن في هذا الحديث من الإشارة إلى أن

الشمس لا تعلم متى ذلك، وأنها يجوز أن يكون ردها لتطلع من مغربها هو كل يوم. * وفي الحديث أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا قوله تعالى: {لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا} مبينًا أن هذا عند ذلك الوقت. -360 - الحديث السابع (في أول مسجد في الأرض): [عن إبراهيم بن يزيد عن شريك التيمي قال: كنت أقرأ على أبي القرآن في السدة. فإذا قرأ السجدة سجد: فقلت له: يا أبت أتسجد في الطريق؟ قال: إني سمعت أبا ذر يقول: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أول مسجد وضع في الأرض؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: (المسجد الأقصى) قلت: كم بينهما؟ قال: (أربعون عامًا. ثم الأرض لك مسجد، فحيثما أدركتك الصلاة فصل)]. زاد في رواية البخاري: فإن الفضل فيه، وأول حديثه: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟). * فيه من الفقه: أن أول مسجد وضع في الأرض: المسجد الحرام ثم المسجد الأقصى. فأما الفضيلة فإن في الحديث الآخر: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال

(والمسجد الحرام ومسجدي والمسجد الأقصى)، ثم سوى بعد ذلك بين المساجد. * وفيه أيضًا دليل على تأكيد سجود لتلاوة حتى في الطريق. * وفيه أيضًا دليل على جواز إقراء القرآن في الطريق وهو قوله: (كنت أقرأ على أبي في السدة). وقال أبو عبيدة: السدة: الظلة تكون بباب الدار. وفيه أيضًا جواز العمل بمفهوم الخطاب فإنه سجد في الطريق مستندًا لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قوله (ثم الأرض لك مسجد فحيث ما أدركتك الصلاة فصل). -361 - الحديث الثامن: [عن الأحنف بن قيس قال: قدمت المدينة. فبينما أنا في حلقة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه فقام عليهم فقال: (بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى (170/ أ) يخرج من نغض كتفيه. ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه، يتزلزل قال: فوضع القوم رءوسهم، فما رأيت أحدًا منهم رجع إليه شيئًا، قال: فأدبر، واتبعته حتى جلس إلى سارية، فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم. فقال: إن هؤلاء لا يعقلون شيئًا، إن خليلي أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - دعاني فأجبته فقال: (أترى أحدًا؟) فنظرت ما علي من الشمس وأنا أظن أنه يبعثني في حاجة له، فقلت: أراه فقال: (ما يسرني أن لي مثله ذهبًا، أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير) ثم هؤلاء يجمعون الدنيا لا يعقلون شيئًا. قال: قلت: مالك

ولإخوتك من قريش لا تعتريهم وتصيب منهم، قال: لا، وربك لا أسألهم عن دنيا ولا أستفتيهم عن دين، حتى ألحق بالله ورسوله.) وفي رواية: (أن الأحنف قال: كنت في نفر من قريش، فمر أبو ذر وهو يقول: بشر الكانزين بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم. وبكى من قبل أقفائهم يخرج من جباههم، ثم تنحى فقعد. فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو ذر. قال فقمت إليه، فقلت: ما شيء، سمعتك تقول قبيل؟ قال: ما قلت إلا شيئًا سمعته من نبيهم - صلى الله عليه وسلم - قال قلت: ما تقول في هذا العطاء؟ قال: خذه فإن فيه اليوم معونة، فإذا كان ثمنًا لدينك فدعه). في رواية عن أبي ذر قال: (كنت أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ينظر إلى أحد فقال: ما أحب أن يكون لي ذهبًا تمسي علي ثالثة وعندي منه شيء). وفي رواية: (وعندي منه دينار إلا دينار أرصده لدين إلا أن أقول به في عباد الله هكذا، (حثا بين يديه) وهكذا (عن يمينه) وهكذا (عن شماله)]. * في هذا الحديث من الفقه أن أبا ذر رضي الله عنه كان لزهده في الدنيا يخاف على الكافرين ما ذكره. وإنما يحمل هذا منه على أنه ينصرف إلى من لا يؤدي زكاة ماله، فأما من يؤدي زكاة ماله فإن الأمة مجمعة على أنه لا إثم عليه إن كنز كنزًا طيبًا، وإن ترك لورثته ترك مالًا طيبًا، ولم (171/ أ) يكن هذا ليخفى على أبي ذر رضي الله عنه، وإنما أراد به تخويف الأفاضل فيما أرى ليرغبوا في الفضائل من إخراجهم أموالهم وإنفاقها في سبيل الله عز وجل على ما بينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شريعته وبلغه إلى أمته.

* وفي هذا الحديث (فنظر إلى احد) فقال: (ما أحب أن يكون لي ذهبًا يمسي علي ثالثة وعندي منه شيء)، وفي رواية: (عندي منه دينار). وهذا صحيح فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاشى له أن يحب ادخار المال من غير إنفاق في سبيل الله مع كثرة المصاريف في وقته، ذلك من ضعف الإسلام حينئذ وقلة جنوده، وكونه في قوة أمل أن تمتد كلمته إلى أقاصي المشارق والمغارب، وأنه لو كان في ذلك الوقت أمثال أحد مرارًا كثيرة من الذهب لكانت له مصارف مهمة يخرج فيها. * فأما (الرضف) فجمع رضفة وهي الحجارة تحمى بالنار ونغض الكتف الشاخص منها، وقوله (يتزلزل) أي يتحرك بانزعاج ومشقة وقوله (تعتريهم) أي تغشاهم وتقصدهم. -362 - الحديث التاسع: [عن المعرور بن سويد قال: رأيت أبا ذر وعليه حلة وعلى غلامه مثلها. فسألته عن ذلك؟ فذكر أنه ساب رجلًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعيره بأمه. فأتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنك امرؤ فيك جاهلية). وفي رواية: قلت على ساعتي هذه من كبر السن؟ قال: نعم، هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فغن كلفتموهم فأعينوهم عليه. وفي حديث عيسى بن يونس: (فإن كلفه ما يغلبه فليبعه). وفي حديث زهير: (فليعنه عليه)].

* في هذا الحديث من الفقه أن أبا ذر رضي الله عنه عمل بهذا الحديث، فألبس غلامه حلة كما لبس هو حلة. * وفيه أيضًا دليل على جواز لبس الرجل الصالح حلة، والحلة عند العرب (171/ ب) ثوبان. * وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمى المملوكين إخوانًا، وأما إطعام الرجل عبده مما يأكل فقد ينصرف إلى الجنس وغن كان دون ما يأكله السيد في قدره. * وقد دل الحديث على أنه لا يجوز تكليف العبد ما يغلبه، فإن كلفه السيد ذلك ثم أعانه عليه فلا بأس لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (فإن كلفتموهم فأعينوهم). * وفي الحديث أن يؤمر الشاق على رفيقه بالبيع لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فليبعه) لكن هذا الأمر على طريق الوعظ لا الإجبار. * وقوله: (إنك امرؤ فيك جاهلية) المعنى قد بقي فيك من اخلاق القوم شيء. -363 - الحديث العاشر: [عن أبي ذر قال: انتهيت إلى رسول النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة!، قال: فجئت حتى جلست فقال: فلم أتقار أن قمت، فقلت: يا رسول الله! فداك أبي وأمي من هم؟ قال: هم الأكثرون أموالًا، إلا من قال بالمال: هكذا وهكذا وهكذا (من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله) وقليل ما هم، ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم، لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه

بأظلافها، كلما نفدت اخراها عادت عليه اولاها حتى يقضى بين الناس]. وفي رواية: فانطلق في الحرة. * فيه من الفقه تأكيد لما ذكرناه فيما قبل ان الزكاة إذا أداها ذو مال فلا حق عليه فيه بعدها. * وقوله (لم أتقار) أي لم أتمكن من الاستقرار، وفيه من الفقه أيضًا أن الذي لا يؤدي زكاة إبله أو بقره أو غنمه فإنها تحضر يوم القيامة بأعيانها وينطح بها بقاع قرقر. والقاع هو المكان السهل الذي لا ينبت الشجر، والقرقر: المستوى، والظلف للبقرة والشاة كالحافر للفرس. وإنما سلطت عليه بأعيانها ليكون كلما كان الصارف له عن (172/ أ) إخراجها من حسنها وسمنها هو الذي يذيقه البلية منها. * وفيه أيضًا دليل على ان الله تعالى يحضر الحيوانات كلها، لإظهار قدرته، وليعلم الكفار المعجزون قدرة الله عند ذلك- إنهم كانوا كاذبين، ولكن من حكمة إحياء الحيوانات بأعيانها إبطاء الأموال التي لم تؤد زكواتها رقاب أصحابها وظهورهم في ذلك الجمع الذي يجتمع فيه الأولون والآخرون فتكون من جنود الله سبحانه التي تنتقم بها ممن خالفه. -364 - الحديث الحادي عشر: [عن أبي ذر، انه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادعى ما ليس له، فليس منا، وليتبوأ مقعده من النار،

ومن دعا رجلًا بالكفر أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه). وفي رواية البخاري (لا يرمي رجل رجلًا بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه، غن لم يكن صاحبه كذلك)]. * فيه من الفقه ذكر جواب من ادعى إلى غير أبيه وقد تقدم تفسيره، وفيه أيضًا شدة إثم من ادعى ما ليس له حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ليس منا) يعني من المسلمين أو من البررة الصالحين، وقد يكون المدعي ما ليس له في باب الأموال، وقد يكون من باب الأقوال، وقد يكون من باب الأحوال، والأجمل للمؤمن التقي أن لا يتسع بماله فكيف بان يدعي ما ليس له؟ * وفيه أيضًا شدة الحظر على من رمى أخاه المسلم بالكفر، فإنه بهذا الحديث على يقين من ارتدادها إليه إن لم يكن أخوه كما ادعاه. فليحذر أن يقولها أبدًا لمن هو من أمره في شك، وكذلك أن يرميه بالفسق فإنه على سبيله في ارتداده عليه إن لم يكن كما ذكره بيقين. -365 - الحديث الثاني عشر: [عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: (الإيمان بالله، والجهاد في سبيله)، قال: قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: (أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنًا) قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: (تعين ضائعًا، أو تصنع

لأخرق)، قال: قلت: يا رسول الله: أرأيت إن (172/ ب) ضعفت عن بعض العمل؟ قال: (تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك)]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن جواب المسألة فبدأ بالأس، وقدم الأصل، فقال: حين سأله: أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله، وهذا إن كان قد جاء جوابًا عن أقوال السائل أفضل؟ مع أن العرف ينصرف فيه إلى مفاضلة بين فاضلين، فإن معناها ها هنا ألزم وأوجب لأنه إنما يبتني باقي المسائل عليه. * ثم أتبعه بالجهاد في سبيل الله وهو باب الله الأعظم، فإن الجهاد في سبيل الله على شدته ومشقته هو مقتضى الإيمان. وقد قال الله تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا}. * أما سؤاله أي الرقاب أفضل؟ فإنه أجابه - صلى الله عليه وسلم - بجواب الحق من أن الرقاب مال، وإن زيادة هذا المال بزيادة نفاسة الرقبة، فإنه قد يتفاوت في ذل التفاوت البين. * وقوله: (قلت فإن لم أفعل؟) وهذا من حسن أدب أبي ذر، فإنه لما ذكر حال يقتضي التقصير من المؤمنين لم ير أن ينسبها إلى غيره. فقال (فإن لم أفعل؟) أي إن كانت نفسي أنا لا تسمح بأن تعتق أنفس الرقاب، ولم يقل ذلك عن غيره، فقال له: (تعين ضائعًا) الضائع قد يكون في ضلالة، وقد يكون من سوء تدبيره وهو شديد الحاجة إلى من يعينه وليس على معينه كبير خسران، فإنما يعينه بفاضل قوته أو بعزيز رأيه. وقد روي صانعًا (بالمهملة) وأتى بذلك نكرة ولم يقل تعين الصانع؛ لأنه قد يكون في الصناع من لا يحسن هذا المعين أن يعينه في صناعته، وإنما قال صانعًا من الصناع يمكنك أن تعينه (أو تصنع

لأخرق) الأخرق قد يكون في رأيه، ومعنى تصنع له أي ترقع له ما خرقه بخرقه ومطلع اللفظين أعني قوله: أن تعين صانعًا أو تصنع لأخرق، متقارب في الاحتمال ويكشفهما التفصيل. (والأخرق) هو المسيء التدبير. * وقوله: أرأيت إن (173/ أ) ضعفت عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس. * في هذا من الفقه إن الإنسان إذا ضعف عن أن يعمل الخير فينبغي أن يكون أقل أحواله الكف عن الشر، فإنه إذا لم يطق أن يعمل خيرًا فلا أقل من أن لا يعمل شرًا. وهذا من غاية تنبيهاته - صلى الله عليه وسلم - ولطفه في حسن الموعظة. * وقوله: (فإنها صدقة منك على نفسك) في هذا من الفقه أن الإنسان إذا أتى شيئًا من الشر فقد عرض نفسه لاحتمال العقوبة على ذلك الشر، فإذا كف عنه فقد تصدق على نفسه بإراحتها من احتمال تلك العقوبة حين لم يمكنه أن يسعى في أن يحصل لنفسه الفوائد والغنائم، فلا أقل من أن يتصدق عليها بأن لا يعرضها من البلاء لما لا تطيقه. -366 - الحديث الأول من أفراد البخاري: [عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة، فإذا بأبي ذر فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذلك كلام، فكتب إلى عثمان يشكوني، وكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها، وكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذاك لعثمان فقال: إن شئت

تنحيت فكنت قريبًا، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمروا علي حبشيًا لسمعت وأطعت]. * في هذا الحديث من الفقه أن الحال التي جرت بينه وبين معاوية حال يسوغ فيها الخلاف، فإن أبا ذر وافق معاوية في أنها نزلت في أهل الكتاب وزاد في المسلمين، وقال معاوية: بل نزلت في أهل الكتاب خاصة، والذي أرى أن الذي فر منه معاوية هو أن العذاب والوعيد بالنار إذا صرف إلى أهل الكتاب فإنه منصرف متوجه، وما رآه أبو ذر من إطلاق القول فمصروف متوجه أيضًا. * فأما شكواه إلى عثمان فإنه فيما أراه أنه لما رأى من زهد أبي ذر وتأويله الأشد، وأنه ربما ينقل عنه من لا يأمن أن ينتشر عنه، فيثير فتنة أو يهيج خروجًا على إمارته (173/ ب) في غير حق؛ لذلك رأى أن ينهيه إلى عثمان فيدبره برأيه إذ ليس في هذا الحديث أنه سأله أن يستدعيه إنما شكاه إلى عثمان، وإنما عثمان أقدمه المدينة، ولما قدم المدينة اجتمع الناس على أبي ذر كأنهم لم يروه من قبل حتى خاف أبو ذر بأن يذكر تلك الحال لعثمان، وكأنه شكاها إليه، فقال له عثمان: (إن شئت تنحيت فكنت قريبًا) وقوله: (إن شئت) يدل على أنه خيره ورد ذلك إلى مشيئته، وأن أبا ذر خرج إلى الربذة اختيارًا منه، وليس كما يحكى أن عثمان أخرج أبا ذر إلى الربذة إبعادًا له ونفيًا، فإن نطق هذا الحديث يدل على خلاف ذلك، ويدل أيضًا قول أبي ذر: لو أمروا علي حبشيًا لسمعت وأطعت: أي أنني لم أكن لأشق عليهم العصا ولا أنازعهم في الأمر، ولا كان خروجي إلى الربذة إلا على ما ذكرت، وأنه ل بلغ الأمر على أن يؤمروا علي حبشيًا لسمعت وأطعت، مظهرًا بذلك طاعته لهم واعتقاده صحة ما هو عليه، وهذا هو الحق في ذلك، والله أعلم.

-367 - الحديث الثاني: [عن أبي ذر قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أخذ مضجعه من الليل قال: (باسمك اللهم أموت وأحيا)، وإذا استيقظ قال: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)]. * في هذا الحديث من الفقه أن النوم جنس الموت لقوله - صلى الله عليه وسلم - (باسمك اللهم أموت وأحيا) وأنه يذكر بالنوم الموت وباليقظة الحياة بعد الموت؛ فلذلك قال: (وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا) وقد سماها الله تعالى وفاة فقال تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي تمت في منامها} فلذلك دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يناسب الدخول في النوم، وعند الاستيقاظ بما يناسب الخروج منه، وإن من آيات الله تعالى أن يجعل النوم سباتًا ليذكر حال أصحاب القبور، ثم جعل اليقظة في كل يوم لذلك مذكرة للإنسان حالة النشور. -368 - الحديث الأول من أفراد مسلم: [عن أبي ذر قال: (كانت لنا رخصة، يعني (174/ أ) المتعة في الحج). وفي رواية: (كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة). وفي رواية: (قال أبو ذر: (لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة، يعني متعة النساء ومتعة الحج).

وعن عبد الرحمن بن أبي الشعثاء قال: أتيت إبراهيم التيمي وإبراهيم النخعي فقلت: إني أهم ان أجمع العمرة والحج، العام. فقال إبراهيم النخعي: لكن أبوك لم يكن ليهم بذلك. وفي رواية قال: (إنما كانت الرخصة دونكم)]. * وأما متعة النساء فمنسوخة، ومتعة الحج قد تقدم ذكرها. -369 - الحديث الثاني: [عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم) قال: فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات. وقال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: (المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)]. * في هذا الحديث من الفقه شدة كراهية إسبال الإزار، ولا بعيد أن يكون المراد بقوله (المسبل) تطويل الثياب. * وأما المنان فغن المن لا يحتمل غضاضته إلا محتاج، والله سبحانه هو الغني. ولذلك كان المن عنده مبطلًا للعمل. وكيف لا؟ وفيه جحد للحق فإن المؤمن

بالله يلزمه أن يعترف بأن توفيق الله تعالى له هو الذي كانت الأعمال الصالحة عنه، فإذا من بذلك فقد جحد لله سبحانه وتعالى كرم صنعه. * وأما المنفق سلعته فإن غر أخاه وغشه في معاملته، ولم يرض بذلك حتى زاده غرورًا بأن حلف له بالله عز وجل كذبًا، فباع أمانته، وخفر ذمة نفسه، وأسخط ربه فيما فعل من ذلك، ولقد ختم ذلك بيمين فاجرة في شيء زهيد، لأن الدنيا بأسرها في هذا المقام حقيرة فكيف لشيء منها. -370 - الحديث الثالث: [عن أبي ذر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولًا الجنة، وآخر أهل النار خروجًا منها، رجل يؤتى به يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، (174/ ب)، وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه. فيقال عملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا؟ فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول: رب! قد عملت أشياء لا أراها ها هنا، فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك حتى بدت نواجذه)]. * وقد تقدم فيما مضى شرح حال الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولًا وآخر أهل النار خروجًا في موضعين من مسند ابن مسعود، فإن كان هذا الرجل هو ذاك ثم قد ذكر كل من الرواة طرفًا من حاله، فلا يبعد، إذ ليس يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل أنه آخر أهل النار خروجًا منها، ويخرج بعده أحد، فإذا ذكر ذلك في أحاديث متفرقة دل على أن الحكاية في الأحاديث الثلاثة إنما هي عن

رجل واحد، إلا أن كل راو من الرواة قد ذكر طرفًا من حديث ذلك الرجل، وقد كان في أمره ما يقتضي هذا التفصيل، وإنه لينتهي به الأمر إلى الشدة الشديدة التي تناهت به إلى أن تخلف في النار بعد خروج أهلها المذنبين بأسرهم منها، وناهيك بذلك شدة، ثم إنه بعد ذلك تناهى به الفضل من الله عز وجل إلى أن أعطاه عشرة أمثال الدنيا، فيكون ما تفضل الله عز وجل به عليه أو وقفه على صغار ذنوبه ثم بدل له مكان كل سيئة حسنة، لأن كرم الله عز وجل جلاله لا يقاس بكرم الخلق إذ غاية ما في كرم الخلق إذا أحسن إليهم أن يجازوا بالإحسان، فإذا أساء إليهم مسيء فقصاراه أن لا تحيط حسناته عندهم بإساءته. فأما إن تناهى كرم الكريم إلى أن تنقلب السيئة بعينها حسنة، فإن هذا مما لا يقاس بالمعهود في عادة الخلق بل هذا مما يفرد الله عز وجل به. * وأما ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يجوز أن يكون تعجبًا من سرعة تقلب الآدمي من اليأس الشديد إلى الطمع العتيد، فإن هذا مما كان خائفًا (175/ أ) كبار ذنوبه أن تظهر له، فلما عرف ما من الله به عليه زاد طمعه في وقته وحاله إلى أن قال (رب! قد علمت أشياء لا أراها) وإنما قصد بذلك الحسنات التي تبدل منها، فيكون ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شدة قنوطه أولًا ثم تعقيب ذلك باتساع الطمع ثانيًا. ويجوز أن يكون ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرورًا بما من الله به على هذا العبد الذي كان آخر أهل النار خروجًا منها استلالًا على ما يضاعف الله به الحسنات لمن هو فوق المذكورين من المؤمنين. - 371 - الحديث الرابع: [عن أبي ذر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يقول الله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، أو أزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها، أو أغفر، ومن تقرب مني شبرًا، تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا، تقربت منه باعًا،

ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئًا، لقيته بمثلها مغفرة)]. * قوله في هذا الحديث: (يقول الله) أفضل لهذه الأمة من أن لو قال: (قال الله عز وجل) لأن (يقول) فعل للحال وللاستقبال، فهو مما شرفت به هذه الأمة. * وقوله: (من جاء بالحسنة) من: كلمة تقع على من يعقل. وقوله: (فله عشر أمثالها) وذلك لأن فعلات الحسنات يتفاوتن؛ فكل فعلة حسنة فإن الله تعالى يعوض عبده المؤمن عشر أمثالها (ثم قوله أو يزيد) فإن (أو) في لغة العرب تأتي بمعنى الواو، ولا سيما في كلام من لا يجوز عليه الشك سبحانه، فيكون المعنى وأزيد، وإن كانت (أو) على وجهها فإن معناها أن الحسنة لا تنقص عندي عن عشر أمثالها، بل هي إلا أن تزيد على عشر أمثالها أو تقف على عشر أمثالها. * وقوله: (ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها) فذكر الحسنة بعد أن أتى بلام الملك فقال له: (عشر أمثالها) (175/ ب). فلما ذكر السيئة لم يقل فعليه سيئة مثلها، يعني أني إذ أجازيه فلي ذلك إلا أن هذا النطق لا يتناول إيقاع الجزاء إلا أن يشاء الله، وقد تقدم الكلام في (أو)، ولا أراها في هذا المكان إلا بمعنى الواو، قولًا واحدًا، لأنه لم يجعل جزاء السيئة إلا سيئة، والله تعالى لا يجوز أن يصدر عنه ما يسمى سيئة، فلما سمى المثلية سيئة عرفنا أنه لم يسمها سيئة وهو يفعلها لما بينا أن ما يصدر عنه تعالى لا يسمى سيئة. * وقوله: (من أتاني يمشي) فعل مضارع وهرولة مصدر، والمصدر يقع تأكيدًا لفعله فهو أبلغ، وعلى أن الوقوف في المثل في جزاء الماشي على الهرولة ومن ورائها الشد، فإنه فيما أرى نوع معاتبة كيف جاء يمشي مشيًا ولم يكن سعيًا. * وقوله (من لقيني بقراب الأرض خطيئة) أي بما يقارب ملأها، وخطيئة يجوز أن

يكون اسمًا لجنس الخطايا، ويجوز أن يكون المعنى وهو الأظهر: من جاءني بخطيئة واحدة تقارب ملء الأرض أتيته بقرابها مغفرة، إذا لم يشرك بي شيئًا. * وقوله: (بقراب الأرض) وإنما لم يقل ملأها ولا وزنها ولا سعتها ولا عرضها وإنما ذكر قرابها ليتناول هذه الأشياء كلها -إن كانت الخطيئة بوزنها أو في سعتها- وإنما قابل قراب الأرض بقراب الأرض، لأن الغفر ستر ومحو، والمحو لا يحتاج زيادة تفضل بل يكفي فيه تقدير المحو. - 372 - الحديث الخامس: [عن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة (176/ أ) وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى]. * في هذا الحديث من الفقه أن الإنسان قد أعطاه الله عز وجل خلقه، قال الله تعالى: {الذي أعطى كل شيء خلقه} وفي معنى الآية وجهان: أحدهما: أعطى خلقه كل شيء. والثاني: أنه أعطى كل شيء خلقه أي وهب للآدمي خلقه، فجملة عظام الآدمي هبة من الله تعالى له. *وتفصيل ذلك: أن كل سلامى هبة من الله عز وجل للآدمي -قال أبو عبيدة: (معنى الحديث على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة) فإذا نظر الآدمي في خلق نفسه، ورأى أنه لو قد أعوزه من عظامه عظم واحد لأدخل عليه حياته

كما لو زاد، ورأى أن ذلك كله لم يكن له هو فيه صنع، وأن عظام الآدمي ما بين طوال وقصار، ودقاق وغلاظ، فلو قد قصر الطويل منها أو طال القصير أو دق الغليظ، وغلظ الدقيق لاختل بذلك نفعه. فإذا صح المؤمن، وقد أعطي الآن الحركة لما أتقن فيه من تركيب العظام وجعلها جسما صلبًا لا يضعف منه انبوب ساقه عن حمل بدنه نفسه، وعن حمل ما يحمله بدنه أيضًا ولا عظم زنده عن إقلال حمل ما يرفعه بيده، ولا عظام أضلاعه عن وقاية حشاه، ولا عظم نافوخه عن صيانة دماغه، تعين عليه أن يشكر فاعل هذا به شكرًا محتمًا، فنبه الشرع على أن يقابل هذه النعمة بما ذكره، إلا أنه لطف به في تسمية ذلك صدقة مخرجًا لها مخرج ما يثاب عليه ويؤجر فيه، ثم احتسب له بقول (سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وأمر بمعروف ونهي عن منكر)، ثم لطف به حتى جمع ذلك كله بأن يصلي ركعتين من الضحى على معنى أنه إذا قام فدعمته عظامه، وإذا ركع استوت له عظامه في ركوعه، وإذا سجد وجلس فحينئذ يذكر بهاتين الركعتين مطاوعة الأعضاء له في جميع أشغاله (176/ ب) فيكون بهاتين الركعتين جامعًا لشكر هذه العظام عن جميع أشغاله من غير الصلاة كالنعمة بها عليه في الصلاة. - 373 - الحديث السادس: (عن أبي ذر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عرضت على أعمال أمتي: حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها: الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن))

* في هذا الحديث من الفقه أن أعمال الأمة عرضت على نبينا - صلى الله عليه وسلم - يدل عليه قوله: (فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق) أي عرضت علي الأعمال حتى هذا، وذلك أن المسلم يمر بالطريق وفيها حجر ربما يتأذى به الرجل الضرير أو غيره، فيرفعه من مكانه فيعتد الله تعالى له به، حتى أنه أرى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وكذلك السيئات حتى النخامة في المسجد التي لا تدفن ويشير بهذا إلى أنه إذا انتخم الرجل في المسجد كان هذا منه سيئة إلا أنه لو دفنها كفرها، فكأنه لم يكتب عليه سيئة في الأول حتى أخل بتداركها في الثاني فكتبت. * وفي هذا الحديث ما يدل على أنه لا يجوز أن يحتقر من البر شيء، ولا يستصغر من الإثم شيء وإن قل. * وفيه أيضًا أن الصحائف على ما يخفى فيها من الأعمال الثقال فإنها لا يغادر منها لمثاقيل الذر. * وفيه أيضًا إشارة إلى أنها لم تعرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وهي بسبيل أن يستغفر لأهلها منها، ويستوهبها لهم كما قال: (تعرض علي أعمال أمتي، فإن رأيت حسنًا شكرت الله، وإن رأيت سيئًا استغفرت الله)، لأنه قد علم الله سبحانه وتعالى رحمة نبيه لأمته فلا يعرض عليه سيئات أعمالهم إلا رفقًا بهم لعلمه أنه يستغفر لهم. فقد وصفه الله عز وجل: {عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} فلم يعرض عليه (177/ أ) إلا ليكون ذلك تبريرًا لشفاعاته المحبوبة ومسائله المطلوبة، والحمد لله رب العالمين. -374 - الحديث السابع: [عن أبي ذر، أن أناسًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله!

ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: (أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟! إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة)، قالوا: يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيه أجر؟ قال: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال له أجر)]. * قولهم: (ذهب أهل الدثور) يعني أهل الأموال الكثيرة، ثم عللوا ذهاب القوم بالأجور، فقالوا: يتصدقون بفضول أموالهم. وهذا القول لم يصدر من أولئك السادة الذين وصفهم الله عز وجل بقوله: {الذين لا يجدون ما ينفقون} خارجًا مخرج الحسد للأغنياء على ما في أيديهم من الدنيا بل منافسة في الفضيلة، لذلك وصفهم الله عز وجل فقال: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون} فنافسوا فيما يتنافس فيه المتنافسون ولذلك قال عز وجل: {ألا يجدوا ما ينفقون} ولم يقل ما يكنزون ولا ما يدخرون دالًا بذلك جل دلاله أن حزنهم إنما كان على فوت فضيلة الإنفاق في سبيل الله عز وجل، وذلك أنهم لما رأوا أن أصحاب الدثور يصلون كما يصلون، ويسبحون كما يسبحون، ويفعلون من أفعال الخير كما يفعلون إلا أنهم يفضلونهم بالأنفاق غبطوهم ها هنا حتى شكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأجابهم - صلى الله عليه وسلم - فقال (أليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟) والذي فات أصحاب الأموال وإن شاركوا الفقراء في التسبيح والتحميد (177/ ب) هو الحسرة التي يجدها الفقراء لعدم ما ينفقون، وتلك حسرة لا يجدها واجد، بل صارت تسبيحته صدقة منه جامعة

بأنها قامت له عوضًا من الإنفاق، ولأن تسبيحهم هذا أثار تعليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسؤالهم إياه، فصار كل من يتعلم منهم إلى يوم القيامة فإنما هو في المعنى كأنه من صدقتهم عليه، فكانت صدقتهم أذكار الله سبحانه وحمده وتسبيحه على عباد الله، وذلك لعباد الله أنفع من الطعام والشراب لأن الطعام والشراب قوت الأبدان، وتسبيح الله وتحميده قوت الأرواح. * وهذا الحديث سيأتي في أثناء الكتاب أشياء يكون نطقها مبينًا عن معناه، وإنه لما ذكر الفقراء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما خافوا أن يفوتهم به الأغنياء من الإنفاق، قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولًا عارضهم به قوله: (أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون) وهذا يرجع إلى ما فسرناه من الحديث المقدم من قوله: (يصبح ابن آدم على كل سلامى منه صدقة) فأراد بالذي جعل لهم ما يتصدقون به: أن الفقراء إذا قال أحدهم سبحان الله كانت قائمة مقام صدقة ألغني مع تمني أحدهم أن يكون له مال ينفقه في سبيل الله، وفي بعض الأحاديث التي تأتي أن ذلك بلغ الأغنياء فقالوا كما قال الفقراء، واجتمع لهم فضل الإنفاق وفضل الذكر، فإن ذلك لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء). * وهذا إنما يكون لغني تكون حاله كحال الفقراء في تفرغه لعبادة ربه، ويكون الفقير الذاكر لله سبحانه الراضي بتدبير الله تعالى في إفقاره وإغناء غيره المتمني أن لو كان له ما ينفق لأنفقه، مع كونه قد اعتبر ذلك على نفسه بأن أنفق اليسير الذي فضل عن حاجته وإن كان يسيرًا فإنه ذو درجة فاضلة عالية. * وأما قوله: (ففي بضع أحدكم صدقة) ففيه من الفقه (178/ أ) أن الرجل المؤمن في مباضعة أهله قد يتصدق بذلك على من يباضعه من حلاله فإنه يعفه به عن التطلع والتلفت. * ويكون أيضًا قد تصدق على المسلمين بأن بذر لهم، من يجوز أن يحضر يومًا من الأيام صفًّا من صفوف المشركين مجاهدًا في سبيل الله عز وجل واقفًا مع المسلمين، فيستنزل الشيطان صف المسلمين ببعض ما كسبوا فولوا الأدبار،

فوفق الله ذلك الولد لأن خاف من الله عز وجل أن يولي، فرجع وحده إلى صف المشركين، ثم لزم قنطرة لا يقدر أن يعبر مشرك إلا عليها، فسلم المسلمون كلهم ببركته، فيكون في نيته بمباضعته أهله أن يتصدق على المسلمين بمثل ذلك الولد. وقد قالت امرأة عمران: {رب إني نذرت لك ما في بطني محررًا} أي وقفًا على خدمتك. * وفيه من الفقه في هذا الباب أن يحسن المؤمن التأني في إعفاف قرينته بأن لا يعاجلها فقد جاء في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك، فأحب للإنسان أن يتطلع إلى مقدار كفاية زوجته فيصبر لها حتى يعلم حصول الكفاية. * وقولهم: (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ فقال: أرأيت لو وضعها في حرام) وفيه من الفقه: إجابة السائل برد القول بمثله فإنه سيجيب نفسه، لأن الشهوة إنما جعلها الله تعالى في الآدمي باعثة له من طبعه لقيام النسل. فلو استعمل ما طبعه الله تعالى عليه في مسقط حرام، وأضاع نسبه وحرم ذريته ماله والانتماء إليه، وعرض ولده لأن يكون غاضبًا ظالمًا لحق رجل آخر، إلى غير ذلك من آفات الفاحشة، أليس كان يكون آثمًا؟ فإذا استعمل ذلك في مقره فوضع نطفته حيث أباح الله له وضعها، وصدق من ينتسب ولده إليه، وكان ما يتركه من مال ينصرف إلى وارثه بكتاب الله وقسمته، فهذه كلها عبادات لله سبحانه تقتضي الأجر. - 375 - الحديث الثامن: [عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روى عن الله عز وجل أنه قال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا

يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم. يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم. يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)]. * في هذا الحديث من الفقه أنه لا يسوغ لأحد أن يسأل الله تعالى أن يحكم له على خصمه إلا بالحق لقوله سبحانه: (إني حرمت الظلم على نفسي) فهو سبحانه لا يظلم عباده لنفسه، فكيف يظن ظان أنه يظلم عباده لغيره، ولذلك قال (فلا تظالموا) والمعنى لا بد من اقتصاص للمظلوم من الظالم، ويصدق

هذا قول الله تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} ومعناه فيما أرى أنه ندب للمظلوم أن يجهر بذكر قصته باسم من ظلمه ليشيع ذلك بين الناس، فيكون شيوع ذلك عذرًا للقادر على الإيقاع بالظالم ليجمع في ذلك بين أن يعرف الناس أنه سبحانه لم يوقع بمن ظلم إلا انتصارًا منه لمن كان ظلمه، وليعلم العباد أن من وراء الظالمين طالبًا لا يرد بأسه، وهذا فهو كذلك، إلا أن من وراء هذا حالًا أخرى لولاها لم يكن يمهل ظالم (179/ أ) في الأرض فواق ناقة، وتلك الحال أن الخلق كلهم عبيد الله سبحانه، وملك له، فإذا ظلم بعضهم بعضًا فالمظلوم لا يستحق على الظالم إلا أن يمكنه سيده، إذ من جنى على عبد جناية فالخصم فيها سيده، فالخلق كلهم لله تعالى، أروش جناياتهم حقوقه، فهو سبحانه إن أمهل فله ذلك، وإن اقتص فله ذلك. * وقوله: (كلكم ضال إلا من هديته) في هذا من الفقه أن الشأن في الناس الضلال إلا من هدى الله تعالى، فيترتب على ذلك أن الإنسان إذا رأى عنده آثار هدى فليعلم أن ذلك من عند الله تعالى، وكلما ازداد هدًى تعين عليه أن يزداد شكرًا وحمدًا لله تعالى. * وقوله: (فاستهدوني أهدكم) أي اطلبوا مني الهداية، أهدكم، والمعنى أهديكم إذا استهديتموني، فإذا استهديتني أيها العبد فهديتك عرفتك أنني أجبت الدعاء وأعطيتك ما سألت فتعرفت إليك بذلك، ولو قد هديتك من قبل أن تسأل لم يكن تعبدًا منك أن تقول: {إنما أوتيته على علم عندي} *وقوله: (كلكم جائع إلا من أطعمته) يعني سبحانه وتعالى أنه خلق الخلق ذوي فقر إلى الطعام، وأن كل طاعم فإنه كان جائعًا حتى أطعمه الله تعالى بأنواع منها سوق الرزق، ومنها تصحيح الآلة المتناولة لذلك الرزق، فهو

سبحانه يسوق إليك الطعمة ويهيء آلات استطعامك لتناولها، ويلطف بك حتى يخلصك من أثقالها. * وقوله: (استطعموني) أي اطلبوا الرزق مني ولا يستنكف حي ولا ذو كثرة أن يستطعمني، فإن ذلك يجهله وعمهه يظن أن ذلك الذي في يده من رزقي وقد رفعه إلى فيه، يطعمه إياه غيري. * وفيه أيضًا للفقراء ما يؤدبهم وكأنه قال: لا تطلبوا الطعمة من غيري، فكل هؤلاء الذين تطلبون منهم أنا أطعمهم (فاستطعموني أطعمكم). * وقوله: (كلكم عار إلا من كسوته) فيه من الفقه: أن الكسا من الله تعالى متنوعة فقد يكسو من عري جسدًا، وقد يكسو بالستر الجميل. * وقوله: (فاستكسوني) (179/ ب) أي اطلبوا مني الكسوة الجميلة الطاهرة فإن من كساه الله تعالى لباس التقوى لم يقدر أحد أن ينزعه عنه. * وقوله: (إنكم تخطئون بالليل والنهار) في هذا الكلام الشريف من التأنيب والتوبيخ ما يستحي منه كل مؤمن، وذلك أنه إذا لمح العبد الفطن أن الله تعالى خلق الليل ليطاع فيه سرًا، ويعبد بالإخلاص في خلوة من الناس، حيث تسلم الأعمال غالبًا من الرياء والنفاق، ومشاهدة الخلق، ولا يستحي المؤمن ألا ينفق الليل فيما خلق له من الطاعة حتى يخطئ فيه ويعصي الله تعالى في مطاويه. فأما النهار فإنه جعل مشهودًا من الناس يقتضي من كل فطن أن يطيع الله تعالى فيه، ولا يتظاهر بين الناس بالمخالفة، فيكون مجرئًا لغيره على مثل ذلك، فكيف يحسن بمؤمن أن يخطئ جهرًا يشهد به عليه خلق الله عز وجل في نهار يكشف الأغطية، ويبدي الوجوه والألوان، إلا أنه سبحانه وتعالى قال بعد ذلك كله: (وأنا أغفر الذنوب جميعًا) وذكر الذنوب بالألف واللام اللتين للتعريف، وإنما قال سبحانه جميعًا ها هنا قبل أمره إيانا باستغفاره حتى لا يقنط أحد من رحمة الله لعظيم ذنب احتقبه ولا لشديد وزر قد ارتكبه. * وقوله: {لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني} في مثل هذا

المقام لو قال المؤمن إلهي، وسيدي، ومولاي كيف لي بأن ترضى عني؟ بماذا أتقرب يا من له كل شيء؟ ماذا يعمل من ليس له شيء؟ أنت الغني وحدك، لا يتصور النفع والضر إلا منك، والحمد كله والملك لك، لا آمن إليك إلا بسواق اختيارك في وموضع أثارك مني، ولا أدلي بمثل أن جملتي تشهد لك وتفاصيلي تسبح بحمدك فإن فتر لساني عن الشهادة بوحدانيتك والتسبيح لك فإن ذراتي وأجزائي كلها ناطقة بلسان حالها لك، لا إله إلا أنت سبحانك (180/ أ) وتعاليت، فأنا بعض دلائلك، ومن جملة الشهود على ربوبيتك، فالانتفاع والاستضرار لائقان مناسبان لحالي وأما خالق النفع والضر فتعالى علوًا كبيرًا. * وقوله: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا) في هذا ما يدل على أن تقوى المتقين رحمة من الله تعالى لهم، ولمن بعدهم ودونهم، وأنه لا يقدر المتقون أن يزيدوا في ملك الله شيئًا كما أنه لا يقدر الفجار أن ينقصوا من ملك الله تعالى شيئًا، ولكن تقوى المتقين وفجور الفاجرين سعادة وشقاوة. * وقوله: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد) في هذا التنبيه للخلق على أن يعظموا المسألة، ويوسعوا الطلب، ولا يقتصر طالب ولا يختصر سائل، فإن ما عند الله لا ينقص. * وقوله: (كما ينقص المخيط إذا دخل البحر) هذه إشارة إلى النعمة المخلوقة فهي تنقص كما ينقص المخيط من البحر إذا أدخل فيه، وإنما أراد بهذا تجزئة السؤال وتشجيعهم على إيساع الطلب حتى لا يظن منهم ظان أن ما عند الله تعالى يغيضه الإنفاق فيتوهم الجاهل أن طلابه وإن اتسع ربما يصادف غورا وقد تعالى الله عز وجل عن ذلك، فإن ما عند الله تعالى لا يغيض. * وقوله: (إنما هي أعمالكم) ذكر سبحانه هذا بعد أن عدد ما عدده من نعمه وشرحه من فيض كرمه، ثم إنه سبحانه وتعالى بعد ذلك أوضح لنا أن أعمالنا هي التي تعرض علينا، فمن وجد منا خيرًا فليحمد الله تعالى على توفيقه، ومن

وجد غير ذلك، ولم يقل ها هنا ومن وجد شرًا بل قال غير ذلك، والخير كلمة مفاضلة لأن قولك زيد خير أي هو خير من خير. * وقوله: {ومن وجد غير ذلك} أي وجد غير الخير أي غير الأفضل فلا يلومن إلا نفسه، فذكره بنون التوكيد، وإنما جاء للتأكيد ها هنا، يحذر من أن يخطر في قلب عامل أن اللوم في ذلك يستحقه غير نفسه؛ لأن الله تعالى أوضح فأعذر، وليس لأحد عليه حجة، حتى أن من قلة إنصاف (180/ ب) الآدمي لربه أن يحسب طاعاته وعباداته لنفسه، ولا يسندها للتوفيق، كما يبرأ من معاصيه، ويسندها إلى الأقدار، فلو نظر إلى مغالطته في هذا، وهو أنه كان لا تصرف له كما يزعم، فهلا كان في الأمرين؟ أو إن كان له تصرف فلم يعزله عن أحد الحالين؟! ولكن الإنسان ظلوم!. - 376 - الحديث التاسع: [عن أبي ذر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن بعدي من أمتي- أو سيكون بعدي من أمتي- قوم، يقرأون القرآن، لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة). * في هذا الحديث أن من هذه الأمة قومًا يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم. * وأما قوله: (كما يخرج السهم من الرمية) فقد تقدم تفسيره. * وقوله: (لا يعودون فيه) قد جاء هذا المعنى صريحًا في أحاديث علي رضي الله عنه، وذكر أنهم الخوارج، فإن كان معناها في غيرهم فإنه يلحق بهم.

* وقوله: (لا يعودون فيه) فإن هذا مما نخاف منه كثيرًا على أهل البدع، فإن كل مبتدع بدعة لا يرى أنه فيها على ضلال فيعود إلى الحق، وليس في الذنوب ذنب لا يستغفر منه صاحبه إلا البدعة لأنه يراها دينًا وقربة لا يستغفر منها، ولا أرى هذا ينصرف إلى أهل البدع، فإنهم يخرجون من الدين بالبدعة ثم لا يعودون إليه؛ لأنهم لا يرون قبح ما هم عليه من الضلالة. - 377 - الحديث العاشر: [عن أبي ذر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته: الحمار، والمرأة، والكلب الأسود). فقلت: يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود، من الكلب الأحمر، من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي، سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني، فقال: (الكلب الأسود شيطان)]. * في هذا الحديث من الفقه أن السترة بين يدي المصلي تكون في نحو آخر الرحل وهو مؤخره، فلا يضير المصلي من مر بين يديه من وراء ذلك، فإن خالف (181/ أ) ولم يفعل وصلى من غير سترة فإنه إذا مر بين يديه حمار أو امرأة لم تقطع صلاته مع شدة كراهية ذلك؛ لأن الحمار قد لا يؤمن أن يفجأه بنهاقه عند محاذاته إياه فيزعجه وهو بين يدي ربه عز وجل، وقد قال الله عز وجل: {إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} وأما المرأة فإنها إذا مرت بين يديه ولا سترة بينهما أثارت من الشهوة المخلوقة في الرجال عند رؤية النساء ما يشتد الإثم في حضور مثله في ذلك المقام، وهو بين يدى ربه تعالى. وأما الكلب الأسود، فمذهب أحمد رضي الله عنه أنه يقطع الصلاة

خاصة، أخذًا بهذا الحديث وقوله: (إنه شيطان) فإنه كما وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والذي أراه في ذلك أن إبهام لونه إشارة إلى إبهام حاله من حيث أن الشياطين يتصورون في الجثث الكثيفة فيكون إذا مر بين يدي المصلي أوهم قرناءه أن الصلاة كانت لي أو نحو ذلك، وإنما جر ذلك على المصلي إخلاله بالسترة، فلذلك قطع صلاته من حيث أنها وقعت في مقام ادعاها الشيطان، فتعين استئناف العبادة الله من أولها. -378 - الحديث الحادي عشر: [عن أبي ذر، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يميتون الصلاة، أو قال: يؤخرون الصلاة عن وقتها) - قلت: فما تأمرني؟ قال: (صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة) وفي رواية: (فإن اقيمت الصلاة وأنت في المسجد فصل (أخرى) فإن أدركتك (يعني الصلاة) معهم فصل، ولا تقل إني صليت فلا أصلي). وفي رواية: (أن أبا ذر قال: إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدًا مجدع الأطراف، وأن أصلي الصلاة لوقتها)]. * في هذا الحديث من الفقه أنه إذا رأى الإنسان الأمير يصلي، وقد كان هو صلى أعاد الصلاة معه، ولا يقل إني قد صليت لئلا يتوهم فيه أنه لا يرى الصلاة خلفه ومعه. * وفيه أيضًا: أنه إذا كان من الأمراء من يؤخر الصلاة عن وقتها، فإنه يصلي الصلاة لوقتها، فإن أدركها معه صلاها ثانيًا.

* وقوله (181/ ب): (يميتون الصلاة) يعني بإماتتها، أشياء منها تأخيرها ومنها ترك أبهتها وقلة الاحتفال لها وغير ذلك. * وقوله: (وإن كان عبدًا مجدع الأطراف) فيه دليل على جواز استعمال العبد والمجدع: المقطع الأطراف. * وهذا يدل على أن طاعة الأمير متعينة، لا لأجل شوكته، ولا لأجل قوته، ولكن لأنه ولَّاه الإمام. -379 - الحديث الثاني عشر: [عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله! ما آنية الحوض؟ قال: والذي نفس محمد بيده! لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها في الليلة المظلمة المصحية، آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه، يشخب فيه ميزابان من الجنة، من شرب منه لم يظمأ، عرضه مثل طوله، ما بين عمان إلى أيلة، ماؤه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل)]. * في هذا الحديث ما يدل على ثبوت أمر الحوض، ووجوب الإيمان به، وأنه تكرمة من الله تعالى لرسوله، وغياث من الله تعالى للأمة في يوم العطش الأكبر، وأنه له آنية فيه مما يدل على أنه يومئذ سهل الموارد، ويدل قوله: (عدد أوانيه أكثر من عدد نجوم السماء في الليلة المصحية)، على أن عدد الآنية للشاربين على علم بقدر كثرة الشارب. * وقوله: (آنية الجنة)، يريد - صلى الله عليه وسلم - أنها آنية دار البقاء لا يكسر منها إناء ولا ينثلم ولا يتغير، وأنها قد يجوز أن يرتقي منها الإناء، بنفسه ملآن إلى فم الشارب، وأنه يمر الظمآن بالحوض فيشتهي، فيثب الإناء إلى فيه فيرويه، لأن آنيته

وصفت بأنها آنية الجنة، وكذلك ما يشتهى من الجنة هذا وصفه والموضوع في الإناء بمقدار إرادة الشارب من قوله عز وجل: {قدروها تقديرًا}. * وقوله: (أشد بياضًا من اللبن) وذلك لأن البياض أبعد من الكدر والقذى، ولا يتوارى فيه شيء من ذلك. وفي هذا دليل على خلاف ما يقوله قوم من أن الماء لا لون له. * وقوله: (آخر ما عليه) يعني آخر ما عليه من الظمأ أي فلا يعاوده ظمأ. * وقوله: (يشخب فيه ميزابان) الشخب: هو ما اندفع من اللبن، وهو على معنى السكب إلا أنه يستعمل في الضرع، ويعني به (182/ أ) أن مدده غير منقطع لأنه من الجنة. * وقوله: {عرضه مثل طوله} فيه ما يدل على أن التربيع غير مكروه كما يزعم المنجمون بل التربيع أن يكون العرض مثل الطول وهذا صفة حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -. * وقوله (يشخب فيه ميزابان من الجنه) آلة مادة الحوض من الجنة، وآلة تفرقة ما فيه من الجنة، وذلك مشعر بأنه جزء من الجنه، وإنما قال: (ميزابان) ولم يقل ميزاب واحد، وقد كان الواحد يجزئ لأن الاثنين أقل الجمع، فلم يكن واحدًا لئلا يتوهم التقليل قلة الاحتفال، ولم يكن غاية الجمع لئلا يوهم أن آلات الجنة يؤثر فيها قلة العدد. * فأما معنى الحوض لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فالذي أراد أنه - صلى الله عليه وسلم - من العرب، ومن شأن العرب إكرام الضيف، والحوض يومئذ يضيف أهل الجمع يشرب منه الأولون والآخرون.

-380 - الحديث الثالث عشر: [عن أبي ذر قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الكلام أفضل؟ قال: (ما اصطفى الله تعالى لملائكته أو لعباده: سبحانه الله والحمد لله. وفي لفظ: ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله؟ سبحانه الله وبحمده)]. * وإنما التسبيح أحب الكلام إلى الله عز وجل، لأن معنى التسبيح التنزيه له عن كل مالا يجوز عليه من المثل والشبه والنقص، وكل ما ألحد فيه الملحدون من أسمائه. وقول القائل بحمده اعتراف بأن ذلك التسبيح إنما كان بحمده سبحانه فله المنة فيه، ويجوز أن المعنى: وبحمده سبحناه. -381 - الحديث الرابع عشر: [عن أبي ذر، قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، وبحمده الناس عليه؟ قال: تلك عاجل بشرى المؤمن)]. * في هذا الحديث من الفقه الدلالة على أن حمد الناس المؤمن على خير فعله بشرى من الله تعالى تعجلها، إذ هم شهود الله في أرضه، لأن المؤمنين لا يستجيزون أن يمدحوه ويثنوا عليه إلا فيما يكون لله عز وجل رضى، كما أنهم لا يستجيزون أن يذموا إلا على ما هو غير رضى.

-382 - الحديث الخامس عشر: [(182/ ب) (عن أبي ذر، قال: (إن خليلي أو صاني: إذا طبخت مرقًا فأكثر ماءه، ثم انظر أهل بيت من جيرانك، فأصبهم منها بمعروف)]. * فيه من الفقه: حض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا ذر على حسن التدبير في العيش، فإنه إذا طبخ فأكثر الماء ثم أصاب بذلك المرق جيرانه ممن سيجد في الأغلب ريحه، وينمى إليه خبره، فأصابهم، ما يأتيهم منه، لم ينقصه كبير أمر، وإنما وصلهم بما قد صحب طعامه فأرضاهم به، ولم ينقص ما عنده طائلًا، إلا أن هذا هو أدنى الأحوال، وما فوقه من المشاركة والإيثار له مقامه. -383 - الحديث السادس عشر: عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)]. * في هذا الحديث من الفقه ما يدل على أن لقاء الأخ بالقطوب مكروه، وأن لقاءه بالبشر مستحب، فإن كنت في حال مقطبًا لغير حال تتعلق بأخيك، فالأولى أن لا تكشر في وجه أخيك، متكلفًا ذلك، لتحظى بأجره وأجر تكلفك له. وإن هذا من أدنى برك بأخيك، فكيف إذا كلمته وصافحته وصاحبته ورافقته إلى غير ذلك؟! والوجه الطلق ضد العابس.

-384 - الحديث السابع عشر: [عن أبي ذر، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل رأيت ربك؟ قال: (نور أنى أراه)) * أما (أنى) فإنها وجوه، والأحاديث المتفق على صحتها قد شهدت بأن الله تعالى يُرَى، وأن المؤمنين يرونه بأبصارهم، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآه. فأما هذا الحديث فمن وجوهه أن يكون معنى النور: أن رؤيته حق، فشبهها لكونها حقًّا بالنور وقال: (أنى أراه) أي متى أراه، فيكون التقدير متى أراه اشتياقًا إلى رؤيته. -385 - الحديث الثامن عشر: [عن أبي ذر، قال: قلت يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: (يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة، خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها). وفي رواية لمسلم: (يا أبا ذر (183/ أ) إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم)]. * في هذا الحديث من الفقه المؤمنين يكون فيهم القوي، ويكون فيهم الضعيف، وأن الانتقاد في ذلك إلى العالم، فإن أبا ذر ظن أنه يصلح له العمل ليعامل الله عز وجل به، فعلم منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضعفه الذي بان برهانه بخلافه

لمعاوية في مسألة الكنز، وأنه ضاق ذرعه عن احتشاد من احتشد إليه حتى طلب الوحدة فأذن له عثمان رضي الله عنه فصار إلى الربذة؛ فلهذا قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنك ضعيف) والعمل إنما يصلح للأقوياء الذي لا يؤثر فيهم العمل إلا جدًّا في الحق، وزهدًا في كل ما علموا فيه. * وفي هذا الحديث أن الإشفاق من المصحوب ينبغي أن يبلغ إلى الغاية التي بلغ إليها إشفاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي ذر في قوله (إني أحب لك ما أحب لنفسي). وقد دل هذا الحديث على خطر الإمارة وأنها أمانة، وأي أمانة، وأنها على الأكثر والأغلب خزي وندامة في يوم القيامة، إلا من أخذها بحقها، ويعني بقوله (إلا من أخذها) بما فيها من حق مجمعًا على أدائه فيها. * ثم قال: (وأدى الذي عليه فيها) والمعنى أنه يفي بأداء تلك الحقوق. * وقوله: (فلا تأمرن على اثنين) يصح منه لأبي ذر رضي الله عنه بعد ما أخبره بضعفه. * وقوله: (ولا تولين مال يتيم) فإنها راعى - صلى الله عليه وسلم - ضعف أبي ذر عن القيام بحفظ مال اليتامى كما ينبغي؛ وإلا فقد قال الله تعالى في اليتامى: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير}. -386 - الحديث التاسع عشر: [عن أبي ذر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنكم ستفتحون أرضًا يذكر فيها القيراط). وفي رواية: (ستفتحون مصر، وهى أرض يسمى فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لهم ذمة ورحمًا).

وفي رواية: (فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحمًا) أو قال: (ذمة (183/ ب) وصهرًا، فإذا رأيت رجلين يختصمان فيها في موضع لبنة، فاخرج منها) فرأيت ربيعة وعبد الرحمن ابن شرحبيل بن حسنة يتنازعان في موضع لبنة فخرجت منها)]. * في هذا الحديث دلالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه خبر بما يفتح الله تعالى من أرضه. * وقوله: (يذكر فيها القيراط) علامة تعرف بها تلك الأرض. * وقوله: (ستفتحون مصر)، فإن كانت الرواة كلهم رووا مصر بغير صرف فالمراد مصر بالغرب، والوصاة بأهلها من أجل متاخمة الكفار، وإنها كانت كذلك، والله تعالى نسأل استخلاصًا لها وردها إلى مستحقيها، وتنزيه قبور الأنبياء بها وما يجاورها. كما نسأله تطهير بيت المقدس من عبدة الأوثان وشربة الخمور، واستخلاصه من أيدي المشركين، إنه بمنه ولي ذلك والقادر عليه. وإن كان بعض الرواة قد روى مصرًا بالتنوين، فإنه يتناول بلدًا يذكر فيه القيراط مما يفتحه الله على المسلمين. آخر مسند أبي ذر رضي الله عنه ..

مسند حذيفة بن اليمان العبسي -رضي الله عنه

-387 - مسند حذيفة بن اليمان العبسي -رضي الله عنه اخرج له في الصحيحين سبعة وثلاثون حديثًا، المتفق عليه منها اثنا عشر، وانفرد البخاري بثمانية ومسلم بسبعة عشر الحديث الأول من المتفق عليه: [عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنهم كانوا عند حذيفة بالمدائن، فاستقى فسقاه مجوسي في إناء من فضة). وفي رواية: فرماه به، وقال: إني قد أمرته أن لا يسقيني فيه، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا تلبسوا الحرير، ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا). زاد في رواية (ولكم في الآخرة)].

* في هذا الحديث من الفقه جواز شرب المسلم من ماء المجوسي، وجواز إقرار المجوسي في دار الإسلام، وظاهر هذا الكلام يدل على أن هذا المجوسي قد كان له بحذيفة مماسة خدمة أو صحبة لقوله: (قد كنت أمرته أن لا يسقيني فيه) إذ لو لم يكن له معه صحبه (184/ أ) لما قال ذلك، فإن كان الإناء لحذيفة فقد دل على جواز اقتناء آنية الفضة مع تحريم استعمالها، وإن كان للمجوسي فيدل على جواز إقرار آنية الفضة في أيدي المجوسي. * وقد دل هذا الحديث على تحريم الحرير والديباج وهما بمعنى واحد إلا أن العرب تقول الحرير فيما ذكره العرب عن العجم ديباج، لأنها كلمة عجمية عربت. * وفي الحديث النهي عن الأكل في صحاف الذهب والفضة. والصحاف جمع صحيفة وهي القصعة. * وقوله: (فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة) المعنى من استعملها منهم في الدنيا فهي له في الدنيا خاصة، وهي لكم في الآخرة أي لكم دونهم. - 388 - الحديث الثاني: (عن حذيفة، قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقامًا، ما ترك شيئًا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة، إلا حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيه، فأراه فأذكره، كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه)].

* في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغ وأدى وأوضح وإنما أتي من أتي من قبل نسيانه. * وفيه أيضًا أن الرجل في قلبه الشيء فيشده عنه، فإذا رأى ما يذكره به عاوده علمه الحق فيه. * وفيه أيضًا الدلالة أنه يتذكر الإنسان العلم بالعمل لقول حذيفة: (حفظه من حفظه)، يعني: من حفظ العمل به، (ونسيه من نسيه) - أي نسيه من ترك العمل به. * وفيه أيضًا جواز نشر العلم وذكره قولًا من غير تقييد له بكتاب إلا أن الكتاب أجزم. * وفيه أيضًا دليل على أن الخطيب والإمام يقوم لتبليغ القول لكون صوته أبعد ومشاهدة الأقصى إليه وأوصل. * وفيه أيضًا جواز أن يكون العالم أو الإمام قائمًا والمستمعون جلوسًا لقوله: (قام فينا) إذ لو كانوا قيامًا مثل قيامه لقال: قام بيننا. * وفيه أيضًا دليل على أن العالم يذكر من المسائل الشاملة للأحداث ما لم يقع بعد لقوله: (فما ترك شيئًا من مقامه ذلك إلى أن تقوم الساعة إلا ذكره). * وفيه أيضًا أن من نسي العلم وهو غير مطرح (184/ ب) له ولا معرض عنه أن ذلك فوت جبر له، ولا يأثم؛ لأنه لم ينقل تأثيم من نسي العلم وهو كاره لنسيانه. * وفيه أيضًا دليل لإشارة خفيفة على أن من حفظه عملًا حفظه ذهنًا وفطنة، كما أن في قوله: (نسيه من نسيه) إشارة معناها نسيه من ترك العمل به.

الحديث الثالث: [عن حذيفة، قال: كنا عند عمر، فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة كما قال؟ فقلت: أنا أحفظ كما قال، فقال: هات، إنك لجريء فكيف قال؟ قلت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يكفرها الصيام والصلاة، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). فقال عمر: ليس هذا أريد، إنما أريد التي تموج كموج البحر، قال: فقلت ما لك ولها يا أمير المؤمنين؟ إن بينك وبينها بابًا مغلقًا، قال: فيكسر الباب أم يفتح؟ قال: قلت بل يكسر. قال ذاك أحرى أن لا يغلق أبدًا، قال: فقلنا لحذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟ قال: نعم، كما يعلم أن دون غد ليلة، إني حدثته حديثًا ليس بالأغاليط، قال: فهبنا أن نسأل حذيفة: من الباب؟ فقلنا لمسروق: سله، فسأله فقال: عمر)]. * في هذا الحديث من الفقه أن يسترشد الرجل الرجل من غير تعيين له باسمه، بل ينبه الكل لينطق المراد نطقه من بين القوم؛ لقول عمر: أيكم يحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة. * وفيه أيضًا تنبيه على أن يختار الراوي، وأن يسمع من الأحفظ للحديث لقول

عمر: (أيكم يحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وذلك لأن المعاني إنما تبنى على حدود الكلم، فإذا لم يحفظ الراوي حدود الكلم تغايرت المعاني. * وقوله: (الفتنة) يعني الابتلاء والاختبار، ومنه قولهم: فتنت الذهب في النار إذا اختبرته لتعلم جودته من رداءته. * وفيه أيضًا دليل على أن المسئول إذا سئل بنطق محتمل لأمرين: كبير ويسير، فإنه يبدأ بحمله على اليسير حتى يكون الناطق به هو (185/ أ) المفسر لمقصوده منه، ألا ترى أن عمر رضي الله عنه حين سأل عن الفتنة، وكان هذا النطق محتملًا لفتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده، ومحتملًا للفتنة الكبرى التي تعم جميع الخلق، لم يحملها حذيفة أولًا إلا على الفتنة الصغرى، إذ كما يكره إهاجة نفس الفتنة الكبرى، كذلك يكره إهاجة ذكرها، حتى فسر عمر رضي الله عنه مقصوده. * وأما قوله: (فتنة الرجل في أهله وماله) فأما الفتنة في الأهل فإن المؤمن مأمور بصلة الرحم فيهم مؤاخذ بالعصبية في الباطل لهم، وأما الفتنة في المال والولد، فإن الله جل جلاله يقول: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} والإنسان إذا أوتي مالًا قد خاطبه الشرع بحسن القيام عليه وحفظه وتثميره إن كان مما يقبل ذلك مع صيانته أن يخرج منه شيء وإن قل، إلا فيما أجاز المنعم به إخراجه فيه، كما أنه إذا خاطبه الشرع بإنفاقه وجب عليه أن لا يمسك شيئًا منه استبدادًا به وشحًا عليه، فيجمع فيه بين طرفي مساءتين: من حفظه عن تدبير في غير حق، أو البخل بشيء منه إذا عرض ما هو الأحق. * وفتنة الإنسان في نفسه: أنها مودوعة عنده فهو مأمور بصيانتها واستيفاء حقوق الله تعالى منها، وكذلك الولد فإنه فتنة أيضًا من حيث أن الوالد مأمور بحفظ ولده وتعليمه، مؤاخذ على إهماله والتفريط فيه مما كله مشعر بالحدب عليه، كما هو مخاطب بأن لا يريده لنشر ذكره بعده ولا ليتبع جنازته ولا نحو

ذلك بل ليعبد الله عز وجل في أرضه، وأنه إذا رآه على باطل مقته في ذات الله تعالى، واستوفى حق الله تعالى منه، كما روي أن عمر جلد ابنه في حد فمات، وكان يقول له عند مساق الموت: إذا لقيت الله فأخبره أن أباك يقيم الحدود. * وكذلك الفتنة في جاره فإنه مأمور بحفظه وأن لا يسلمه، ثم إنه مأمور بأن لا (185/ ب) يمنعه من حق عليه، ولا يقره على ظلم غيره، إلا أن هذه الأشياء كلها أخبر حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأخبر أن المتخوف شره من كل هذه إذا وقع الإنسان فيه، فإنه يكفره الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن هذه حسنات أخبر الله عز وجل أنهن يذهبن السيئات. * وفي هذا الحديث من الفقه أيضًا أن السائل إذا سأل عن مسألة من النطق المحتمل لمعنيين، أتى المجيب بشرح يستغرقهما معًا لتكون إفادته لهما من غير إخلال بواحد منهما، كما أن حذيفة لما ذكر الفتنة أتى بفتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره، ثم اتصل الحديث بذكر الفتنة الكبرى التي تموج موج البحر، وقوله: (يكفرها الصيام والصلاة) بالألف واللام، إنما يعني به الصيام المفروض والصلاة المفروضة، فلا يحتاج الإنسان أن يعين لذلك مكفرًا غير ذلك، ولو أراد غير المفروض المعهود لقال: صيام وصلاة. وفي تقديمه الصيام على الصلاة ها هنا معنيان: أحدهما أنه اتسق القول من أجل أن الأخذ في الكلام أن يكون الوقوف على المترادف وهو ما ترادف فيه الساكنان الألف والهاء، ولذلك جاء في الكلام كثير الصوم والصلاة، فقدم الصوم لأنه أخف على اللسان، والقرينة على الإطلاق يراعى فيها الأخف من القول. * والوجه الثاني: أن استعمال الصوم في الكفارات أكثر من غيره ككفارة اليمين والظهار، وفي محظورات الإحرام وغير ذلك.

* وفيه أيضًا من الفقه حسن السؤال، فإن السائل إذا سأل عن أصل فأجاب المسؤول بأصل غير المسؤول عنه، فإن السائل المتأدب لا يبدؤه بالقطع عليه، ولكن يتركه حتى يتم حديثه فيستفيده غيره وينتفع به من سمعه. * وفيه أيضًا (186/ أ) من الفقه أن عمر سكت له حتى انتهى كلامه ثم قال له: (ليس هذا أريد) ولم يقل له ليس هذا أردت، فيجوز أن يكون معنى كلامه ليس هذا أريد بعد أن سمعت ذلك الأول. * وقوله (إنما أريد التي تموج موج البحر) التي ها هنا اسم موصول وهي صفة لموصوف محذوف وهو ذكر الفتنة التي تقدم ذكرها. * وقوله (تموج موج البحر) أي موج خطر، لأن البحر موجه مغرق مهلك لسعة سواحله واشتداد الريح في أرجائه، وغمورة مائه، وبعد قعره، فشبه عمر رضي الله عنه الإسلام بالبحر إذا قعد هو منه وكانت موجاته متفرقة مهلكة. فقال له حذيفة: (مالك ولها) يعني ما سؤالك عنها؟ أي مالك ونبش ذكرها؟ إن بينك وبينها بابًا مغلقًا. * وفيه أيضًا من الفقه أن المسألة إذا كانت تتعلق بذكر فتنة أو خبر ملحمة فإنه يشار فيها بالإشارة والرمز، ألا ترى إلى قول عمر لما قال له حذيفة: (إن بينك وبينها بابًا مغلقًا) قال له أيكسر الباب أم يفتح؟ وإنما فهم من قول حذيفة ما فهم بقوله بينك وبينها، يعني أنها لا تكون في زمانك، فلما قال بابًا مغلقًا، يعني أن الأمر أغلق بك، ففهم عمر وسأله عن الباب وهل يكون فتحه بالموت على معنى فتح باب الروح أم يكسر، ومعنى الفتح أنه يفتح الغلق من حيث أغلق مع سلامة الباب، وبالكسر ينهدم الجثمان في غير موضع الغلق، فكأنه استفسره عن موته أو شهادته فقال له: يكسر، فعرف أنها الشهادة، ثم قال ذلك أحرى أن لا يغلق أبدًا، يعني إذا كان هذا في زمان الباب فيه من حديد وقد كسر، فكيف به إذا كان من جنس هو دون ذلك في الصلابة، وعرف عمر رضي الله عنه أن وقته خير الأوقات التي تأتي بعده، فإذا كان فيها الباب الحديد يكسر عن ذخائر الدين ويهجم عليه،

فبالحري أن لا يغلق أبدًا، أي لا (186/ ب) يكون بعد أهل وقته خير منهم. * وفيه دليل واضح من قول حذيفة أن عمر كان يعلم ما قال وقيل له لقوله: نعم، كما يعلم أن دون غد ليلة. * وقوله: (حدثته حديثًا ليس بالأغاليظ) - جمع أغلوظة، والمعنى ليس فيه ما يغلط. * وفي الحديث جواز أن يكتم العالم بعض علمه إذا كان في مثل هذا الأمر قصدًا للمصلحة كما فعل حذيفة، فإنه لم يكن حدث بهذه الفتنة إلا على سبيل التورية والتعريض. * وفيه أيضًا دليل على حسن أدب السائلين للعالم، وأن لا يتهجموا عليه بل يتهيبونه كما فعل هؤلاء مع حذيفة، فإنهم هابوا أن يسألوه عن الباب حتى وصوا عليه مسروقًا، فسأله فقال: عمر، وكان كما ذكر. -390 - الحديث الرابع: [عن حذيفة، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أحصوا لي كم يلفظ الإسلام؟ قال: فقلنا يا رسول الله! أتخاف علينا، ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة؟ قال: (إنكم لا تدرون، لعلكم أن تبتلوا، قال: (فابتلينا، حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرًا)]. * وفيه من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جوز على من يلفظ الإسلام أن لا يكون صادقًا بباطنه كما ظهر على نطقه.

وقوله: (أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة والسبعمائة) فقال: (إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا) أي تختبروا، فلا يعني وقت الاختبار إلا المؤمنين خاصة. * وقوله: (فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرًا) تحقيق لما ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. -391 - الحديث الخامس: [عن حذيفة، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك)] * قال أبو عبيد: الشوص هو الغسل، وكل شيء غسلته فقد شصته. * وفي هذا الحديث من الفقه أن السواك تطهر به الأسنان مالا يبلغ الماء في تطهيره مبلغ السواك، لأن الأسنان على ما خلقها الله تعالى عليه من الرتل في تدوير انتظم بتعددها فكان ما (187/ أ) يتخلف من الأغذية إذا لحج فيما بين السنين أو فيما بين الثلاثة، والأسنان على ما يتراقى إليها من الأبخرة المتصاعدة من البطن على وهجه وحره فيجففه بسرعة فتلحج لحجًا لا يزيله الماء ولا الأصبع، حتى يشوص الرجل فاه بعود من أراك أو خرقة فتبلغ في تطهيره ذلك المبلغ المطلوب، وإنما تطهير الفم من ذلك سنة مؤكدة مستحبة، فإن صلى مصل من غير تسوك أجزأته صلاته إلا أنه تفوته الفضيلة. والسر فيه أن تطيب طريق القرآن؛ فإن الخلوف قد يجتمع منه ما يؤذي ريحه، والملائكة يدنون من الآدمي وقت تلاوة القرآن زيادة دنو حتى

جاء في الحديث (إذا قرأ القرآن من كان قد بدأ بالسواك جعل الملك فمه على فم القارئ فلا يخرج من فيه كلمة إلا التقمها الملك، فإذا قرأ القرآن بغير سواك تباعد عنه) وذلك أن الريح التي يتنفس بها الإنسان هي حاملة القرآن في خروجه، فإذا ترك في الفم ما يفسد الريح تأذى الملك، وتأذى القارئ، وتأذى من يقربه من الآدميين، وإذا استاك فقد نجا من ذلك كله. * وفيه أن السواك يقطع البلغم الذي يتغير به اللسان في الفم ويجلو فم المعدة ويشد اللثاة ويقوي الأسنان، وكل هذه من المعاون في تجويد القراءة وتمكين الحروف وأن يخرج كل حرف من مخرجه ناصعًا صادقًا غير ملبس بحرف آخر؛ فلذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلهج بالسواك ويأمر به ولا سيما عند القيام إلى الصلاة، وقيامه من الليل، فإنه في هذين الوقتين آكد، وهذا لأن الآدمي في منامه ينطبق فمه فيكون ما يجتمع في الفم من الأبخرة المتراقية غير المنفذة والبلاغم المضرة للأسنان أكثر، فإذا قام من الليل كان إلى ذلك أحوج. -392 - الحديث السادس: [عن حذيفة، قال كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -: فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائمًا، فتنحيت فقال: (أدنه) فدنوت حتى قمت عند عقبيه. فتوضأ، ومسح على خفيه. وفي رواية: (187/ ب) كان أبو موسى الأشعري يشدد في البول، ويبول في قارورة ويقول: (إن بني إسرائيل كان إذا أصاب جلد أحدهم بوله قرضه بالمقاريض. فقال حذيفة: لوددت أن صاحبكم لا يشدد هذا التشديد. فلقد رأيتني أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - نتماشى فأتى سباطة قوم خلف حائط. فقام كما يقوم أحدكم فبال، فانتبذت منه، فأشار إلي، فجئت فقمت عند عقبه حتى فرغ)].

* في هذا الحديث من الفقه جواز البول في السباطة، وجواز البول قائمًا أيضًا. إلا أن هذا الحديث قد رواه أبو هريرة في مكان آخر فقال: (بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا لمرض كان بمأبضيه) وقيل: كان جرحًا، وقد قيل: إنه فعل ذلك تداويًا. * وفيه أيضًا من الفقه أنه استدنى حذيفة في ذلك الوقت حتى كان عند عقبه فقيل: إنه فعل ذلك للاستتار كما يستتر بالشجر إذا كان في الصحراء فلما لم يكن عنده في السباطة شيء يستتر به استتر بحذيفة. ولكن أرى أن حذيفة لما دنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليستتر به فما هو إلا أن حذيفة ولى ظهره إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستقبل بوجهه المكان الذي يخشى منه النظر فيكون حارسًا ساترًا، وإن كان لإزالة الوسواس فإنه مقصود في هذا المقام أيضًا، لأن حذيفة قال: (فتنحيت) فقال: (أدنه) فدنوت فدنوت حتى قمت عند عقبيه. والعقبان مما يلي ظهر الرجل وذلك أن حذيفة لما بعد في مثل ذلك الموضع لم يكن لبعده فائدة إلا مجرد الوسواس، فإن رشاش البول لا يتراجع من الآدمي إلى ما وراء عقبيه، فكان تباعد حذيفة مجرد وسواس فقط، فأدناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليعلمه، ويعلم كل من يتصل هذا الحديث به أن التنطع والتدقيق في الاحتراز من النجاسة إلى الحد الذي يطاوع فيه الوسواس فيتنحى لأجله إلى موضع لا يخاف أن تصله فيه النجاسة، أو يبعد الرجل ولده أو يتنزه عن أن يعالج مريضه أو يأنف من والده الكبير أو والديه أو غير ذلك، أن هذا من الشيطان، فاستدناه - صلى الله عليه وسلم - لذلك (188/ أ).

ويشهد لهذا أن حذيفة لما ذكر له تدقيق أبي موسى في التحرز من النجاسة، وأنه كان يبول في قارورة فقال: لوددت أن لم يشدد هذا التشديد، فاستدل بالحديث في مقام جعله حجة على من ذهب به التدقيق ذلك المذهب. * وفي هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحالة اكتفى بالحجارة في الاستجمار، إذ لا يتصور استعمال الماء للقائم في مثل ذلك المقام، وأنه إنما اكتفى بالاستجمار، وإن لم يكن ذلك مذكورًا في هذا الحديث، ولكن مفهوم الكلام يدل عليه. * وفيه أيضًا ما يدل على أن الإنسان إذا قضى حاجته، أو بال في سباطة غيره جاز ذلك، ألا تراه يقول: (أتى سباطة قوم) ولم يذكر أنه استأذنهم. * وفيه أيضًا ما يدل على أن التراب الملقى إذا خالطه الزبل والنجاسات فإنها لا يحرم استعمالها في إلقائها في الصحارى، فإن هذه السباطة إنما تستعمل لتعد لإطعام الشجر أو النخل والمزارع، فلو كان وقوع النجاسة فيها يحرم إلقاؤها تحت النخل أو الشجر لما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * زفي هذا الحديث ما يدل على مسح الخفين للمقيم لأنه قال: (أتى سباطة قوم ثم بال ومسح على خفيه) وهذا لم يكن في سفر. -393 - الحديث السابع: [عن حذيفة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليردن على حوضي أقوام ثم يختلجون دوني، فأقول: "أصحابي". فيقال: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)].

* هذا الحديث لا ينصرف إلا إلى من ارتد عن الإسلام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالذين منعوا الزكاة جحدًا لوجوبها. * وهذا مما يدل على أن ردتهم كانت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه - صلى الله عليه وسلم - تركهم على ما تركهم عليه فلذلك قال (أصحابي) حتى اختلجوا دونه. فقيل له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، ولا يؤثر في هذا التأويل ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (تعرض علي أعمال أمتي) إذ هؤلاء بالردة خرجوا عن أن يكونوا من أمته. -394 - الحديث الثامن: [عن حذيفة، قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثين، قد رأيت (188/ ب) أحدهما، وأنا أنتظر الآخر. حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة. ثم حدثنا عن رفع الأمانة، قال: ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت، ثم ينام النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل، كجمر دحرجته على رجلك. فنفط، فتراه منتبرا، وليس فيه شيء -ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله- فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال: إن في بني فلان رجلًا أمينًا، حتى يقال للرجل: ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله!، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان. ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت، لئن كان مسلمًا ليردنه علي دينه، وإن كان نصرانيًا أو يهوديًا ليردنه علي ساعيه، وأما اليوم فما كنت أبايع إلا فلانًا وفلانًا)].

* في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحدث مسئولًا وتحدث مبتدئًا. وقوله: (حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثين) يعني حديثًا واحدًا يشتمل على أمرين: ماض، ومستقبل. * وقوله: (قد رأيت أحدهما). وهو قوله أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال. قال أبو عبيد: والجذر الأصل من كل شيء. ويقال: (بفتح الجيم وكسرها). وقال يحيى بن محمد رضي الله عنه: وكذلك جذر الحساب فإنه أصله، نحو اثنين فإنها جذر لأربعة وثلاثة جذر لتسعة، والأربعة جذر لستة عشر والخمسة جذر لخمسة وعشرين، وكل عدد ضربته في نفسه فارتفع منه عدد سمي المرتفع مآلًا، وسمي ذلك العدد المضروب جذرًا وما اصطلح أرباب الحساب على تسميته الجذر إلا لأن الجذر هو الأصل. * وهذا الحديث يدل على أن الله عز وجل أنزل الأمانة (189/ أ) في أصل قلوب الرجال ثم أنزل القرآن ليصادف نزول القرآن قلوبًا قد سبقت إليها الأمانة؛ لأن قلوب الرجال للقرآن مصاحف أمانات، فلما سبقت إليها الأمانة صلحت حينئذ أن تستودع القرآن، وأن يصير أهلها حملة له مبلغين ما نزل منه. * وقوله: (فعلموا من القرآن وعملوا من السنة) ويعني هذا أن القرآن والسنة من أشد الأمانة وأكملها لأن المستودع للقرآن والمستودع للسنة أمين الخلائق إلى يوم القيامة فهو مستودع ما يحقن به الدماء أو تسفك، وتصان الفروج أو تستباح، وتعصم الدماء أو تزال عنها العصمة. * ويدل على هذا أيضًا أنك إذا ائتمنت على القرآن والسنة فبالحري أن تؤتمن على ما دون ذلك. * وقوله: (حدثنا عن رفع الأمانة). لما كانت الأمانة في قلوب الرجال مختلفة الأسباب كان كل ما كان منها لله سبحانه خالصًا فهو الذي يرتفع، وكل ما كان منها لغير الله فهو الذي يرتفع بارتفاع سببه، فمن كان أداؤه للأمانة بين الناس ليأتمنه الناس فذلك الذي إذا زال الناس الذين كان يؤدي الأمانة لأجلهم انقطع

السبب الذي كانت الأمانة تنبع من قلبه لأجله، فينام فيصبح وقد قبضت الأمانة من قلبه. * وقوله: (فيبقى أثرها كأثر الوكت) والوكت: الأثر، نحو تأثر البشرة إذا انتفط منها مكان الإرطاب، فقال بشر موكت (بكسر الكاف) والمعنى أن ذلك يبدو عليه ويستشف منه ولا يخفى من حاله فيكون أثره فيه كأثر الوكت. * ثم قال: (وينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه) يعني - صلى الله عليه وسلم - أن الرجل إذا كان يؤدي الأمانة رعاية لشخص فمات ذلك الشخص أو ذهب ما بينه وبينه فينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه لانقطاع سببها، فيصبح وقد بدا ذلك على حالة وظهر عليه ليكون (189/ ب) أثره كالمجل، والمجل: أثر العمل في الكف. فقال: مجلت يده، فأراد - صلى الله عليه وسلم - أن الحال تبين من الظاهر لا من الباطن كجمر دحرجته على رجلك أي أنه أخذ من ظاهر الجلد لا من باطنه فرآه منبترًا أي منقطعًا على هذا الشبه. ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله أي أن ذلك يبدو عليه من ها هنا ومن ها هنا من مواضع متغايرة لأن كل واحد من الناس يستشف ذلك عليه من جهة. * وقوله: (فيقال ما أجلده) ما أظرفه!! أي أنه كانت جلادته وظرفه لغير الله ولم يكن في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، والظريف، فعيل من الظرف، والظرف الوعاء، فكأن الظريف وعاء للآداب، والأمانة باطن محض وسر صرف، فهي إذا خلا منها الظرف لم يغنه ما أوعي فيه من غيرها. * فقال حذيفة حينئذ: (لقد أتى علي زمان ما أبالي أيكم بايعت) يعني أن الإيمان كان في ذلك الزمان شائعًا عامًا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأما الآن فإنه لما قل الإيمان قلت الأمانة التي هي لله، فلا أبايع إلا فلانًا وفلانًا ممن بقي على ذلك الطراز الأول، يؤدون الأمانة لله عز وجل. * واعلم أن المبايعة إن كانت يدًا بيد فلابد لها من الأمانة التي يزول معها الغش، وإن كانت نسيئة لم يستغن عن الأمانة التي يصدق فيها صاحب النسأ في المدة

المضروبة في جنس ما يؤدي. ولا أرى حذيفة أتى من معاملة عموم الناس حذرًا على ماله فقط بل حذرًا على دينه من أن عموم الناس غير متحرجين في بياعتهم ومعاملاتهم، وأنهم ربما يعقدون العقود الفاسدة أو يعاملون المعاملات التي ليست جائزة، فمنعه ورعه وفقهه بعلوم البياعات وتجنب الربا من المعاملة للناس على الإطلاق، وإذا كان هذا في زمن حذيفة فكيف به في زماننا هذا؟! (190/ أ) إلا أن ظاهر الشرع جواز معاملة الناس وحمل أمرهم على الأجمل إلى أن يتيقن في بعضهم ما يكره. والذي رآه حذيفة في ذلك هو الأحوط، فأشار إلى مذهب الورع ولم يجعل ذلك حتمًا على الناس. * وقوله: (وإن كان مسلمًا رده علي دينه) أي على إيمانه. وهذا يدل على أن المؤمن يرده دينه كما يرد الذمي ساعيه، فمن لم يجد من دينه ما يرد حقوق الناس فليتهم إسلامه. * وقوله: (وإن كان معاهدًا رده علي ساعيه) يعني عامله الذي يأخذ منه الجزية فيكون مستطيرًا عليه. * ومدار هذا الحديث هو التنبيه على أن الأمانة التي تثبت وتنفع في الدنيا والآخرة هي التي كانت لله ومن أجل الله، وأن الأمانة التي يستعملها الناس لأجل الناس ولحراسة معايشهم ولحفظ أقوالهم بين الناس، ولصلاح دنياهم، فإنها هي التي تقبض من قلوبهم وترفع لارتفاع أسبابها، ولانقضاء ما كانت لأجله، فأما ما كان منها لله تعالى، فإنه لا يزول لدوام الله سبحانه وتعالى. -395 - الحديث التاسع: [عن حذيفة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يدخل الجنة قتات).

وفي رواية: (نمام، والقتات: هو النمام)]. * قال أبو عبيد: يقال فلان يقت الأحاديث قتًا أي ينمها. * وفيه من الفقه أن المسلم أخو المسلم، وقد يكون من الأخ على أخيه في وقت ضجره أو غضبه حال يستنزل فيها الحلم للكلمة، فإذا نقلها الناقل إلى من قيلت عنه، ولم يعين له الحال التي هاجتها، والصورة التي أثارتها، كان ذلك الناقل ساعيًا في إفساد الحال بين عباد الله عز وجل. * ولا يسمى قتاتًا إلا إذا نقل الخبيث من القول، فأما إذا نقل القول الصالح والكلم الطيب كان مصلحًا لا قتاتًا. * وهذا المعنى لا يشتمل كل ناقل؛ فإن من الناقلين من يسمع الكلمة من البدعة فيؤديها إلى من يزجر عنها، أو يسمع الكلمة من الغيبة فيؤديها إلى من يرجو عنده (190/ ب) إطفاء ما يطلع من شررها إلى غير ذلك. فإن ذلك لا يكون قتاتًا بل يكون مصلحًا. * وفي هذا المعنى أن الجنة دار الألفة يرفع فيها الغل من القلب، فإذا كان في الناس من جبل على تفريق الألفة لم يكن من الصالحين لدخول الجنة لأن حالها ينافي حاله. -396 - الحديث العاشر: [عن حذيفة قال: (جاء أهل نجران إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا يا رسول الله ابعث

إلينا رجلًا أمينًا. فقال: (لأبعثن إليكم رجلًا أمينًا حق أمين) قال: فاستشرف الناس لها، قال: فبعث أبا عبيدة بن الجراح)]. * في هذا الحديث أن من توفيق أهل البلدة أن يلتمسوا عاملًا عالمًا يعلمهم أو أميرًا يقوم زيغهم، ألا ترى أهل نجرتن كيف طلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا أمينًا؟ * وفي هذا الحديث أيضًا أن الرجل قد يكون أمينًا ولا يكون حق أمين، فقوله (حق أمين) يعني أنه حقيق بالأمانة مبالغ فيها. * وقوله: (فاستشرف الناس لها) أي رفعوا رؤوسهم ينظرون من المخصوص بهذه الصفة كالمتعجبين، ولم يكن هذا منهم رغبة في حمل الأمانة، ولكن رغبة في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -. -397 - الحديث الحادي عشر: يجمع أحاديث: عن ربعي بن حراش، قال: انطلقت أنا وعقبة بن عمرو إلى حذيفة، فقال عقبة: حدثنا بما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدجال، فقال: سمعته يقول: (إن مع الدجال إذا خرج ماء ونار، فأما الذي يرى الناس أنه نار فهو ماء بارد وأما الذي يرى الناس أنه ماء فنار تحرق، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يرى أنها نار، فإنه عذب بارد). قال حذيفة، وسمعته يقول: (إن رجلًا كان ممن كان قبلكم، أتاه الملك ليقبض

روحه، فقال: هل عملت من خير؟ قال: ما أعلم، قيل له: انظر، قال: ما أعلم شيئًا، غير أني كنت أبايع الناس في الدنيا، فأنظر الموسر، وأتجاوز عن المعسر، فأدخله الله الجنة)، وسمعته يقول: إن رجلًا حضره الموت (191/ أ) فلما يئس من الحياة، أوصى أهله: إذا أنا مت فاجمعوا لي حطبًا كثيرً، جزلًا، ثم أوقدوا فيه نارًا، حتى إذا أكلت لحمي، وخلصت إلى عظمي، وامتحشت، فخذوها فاطحنوها، ثم انظروا يومًا راحًا فاذروه في اليم، ففعلوا فجمعه الله تعالى إليه فقال له: (لم فعلت ذلك؟ قال: خشيتك. قال: فغفر الله تعالى له). قال عقبة: (وأنا سمعته يقول ذاك وكان نباشًا). وفي رواية أخرى عن حذيفة، أنه عليه السلام قال في الدجال: (إن معه ماء ونارًا، فناره ماء بارد، وماؤه نار. فلا تهلكوا). قال أبو مسعود: أنا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية عن حذيفة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: لأنا بما مع الدجال أعلم منه، معه نهران يجريان، أحدهما: رأي العين أبيض، والآخر رأي العين: نار تأجج فإما أدركن أحد فليأت الذي يراه نارا وليغمض، ثم ليطأطئ رأسه فيشرب منه فإنه ماء بارد، وإن الدجال ممسوح العين عليها ظفرة غليظة، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب)]. * في هذا الحديث أنه يكون على ظاهر نطقه، وأنه مع ظهور الدجال يكون معه نار وماء على ما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * ومعنى الدجال في اللغة: أنه من الدجل، وهو تغطية الحق بالباطل.

* يقال: سيف مدجل إذا طلي بالذهب، وبعير مدجل إذا طلي بالقطران. * والدجال هو الذي يغطي الحق بالباطل، فإذا تسلط ذلك الشخص واستولى كان معه من الدنيا وشهواتها ولذاتها، ما هو في المعنى كالنهر الجاري، ويكون عنده من العذاب والمساءات ما هو كالنار، فكل من شرب من ذلك النهر الذي في يده من شهوات الدنيا ولذاتها التي منبعها الحرام، والتلبيس والباطل، فالشارب يظن أنه قد شرب ماء من حيث الصورة وإنه نار من حيث المعنى، كما أن (191/ ب) عنده من العذاب والمساءات للمؤمنين، من صبر عليها واحتمل أذاها فإنها وإن كانت نارًا من حيث الصورة فإنها هي الجنة من حيث المعنى. * وأما قوله في الحديث الآخر: أتاه الملك ليقبض روحه فقال: (هل عملت خيرًا؟) يدل على أن العبد يصلح أن يحسن ظنه بالله عز وجل عند دنو أجله، وقد نبهه الملك على ذلك حتى ذكره ما كان يعمل من عمل صالح فلم يجد إلا أنه كان ينظر المؤمنين ويضع عن المعسر منهم فذكره به، فاطمأنت نفسه إليه فأدخله الله الجنة. والحكمة في حسن الظن عند دنو الأجل أن الله تعالى عند ظن عبده، فإذا قبض على ما ذكر من عمل صالح كان مؤنسًا له، فإذا لم يذكر عملًا صالحًا، ورد على الله مستوحشًا. * وأما الحديث الآخر: فقد ورد في غير هذا الموضع، وفيه من النطق ما سيذكر في موضعه إن شاء الله تعالى، وليس في نطق هذا الحديث ما يخرجه عن الإيمان؛ لأنه خاف الله تعالى فابتدع ما أمر به مخلفيه أن يحرقوه ويذروه في الريح، عقوبة عاقب بها نفسه من مخافة الله عز وجل، فجمعه الله تعالى ثم سأله سبحانه وتعالى عن موجب فعله ذلك، وهو العالم به إرادة من الله تعالى أن يعلم بهذه الحال عباده، فأخبر أنه فعل ذلك من مخافة الله سبحانه، فغفر له، وأدخله الجنة يعني بقوله، فغفر الله له أي غفر له ذلك الابتداع من إحراق نفسه وتذريته في الريح، فإن هذا لا يجوز فعله، وإلا فهذا الرجل إنما فعل هذا لشدة خوفه ممن ثبت الإيمان به في قلبه تعالى جده.

* واليوم الراح: هو الكثير الريح. وقوله (كان نباشًا) فإنه استفظع ذنبه فظن أن إفظاعه في عقوبة نفسه يمحو ما كان من قبح خطيئته. * وقوله: (على عين الدجال ظفرة) هذه علامة لشخص معين يرتقب ظهوره وأن بين (192/ أ) عينيه مكتوبًا (كافر) يقرأوه كل مؤمن كاتب وغير كاتب. وهذه علامة صريحة واضحة. * والذي أرى في هذا أن الكتابة على نحو ما جاء في التنزيل: {كتب في قلوبهم الإيمان} فإن المؤمن يقرأ تلك الكتابة، فإذا كانت أعمال هذا الكافر دالة على أن الله سبحانه كتب بين عينيه أنه كافر فهو على معنى قوله تعالى: {كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله} فتكون الكتابة: قرأها المؤمنون خاصة من أحواله وأفعاله، ولذلك قال: كاتب يفهم قراءة الحروف، وغير كاتب إذا كان مؤمنًا فيقرأه بقرائن أحواله. -398 - الحديث الثاني عشر: [عن حذيفة، قال: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: (نعم)، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: (نعم، وفيه دخن) قلت: وما دخنه؟ قال: (قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر)، فقلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: (نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم

إليها قذفوه فيها)، فقلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: (نعم! هم قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، قلت: يارسول الله: فما ترى؟ وفي رواية: ما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم؟ قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام) قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك). وفي رواية: (وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس) قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع)) (192/ ب)]. * في هذا الحديث من الفقه دليل على جواز أن يسأل الإنسان عن الشر بنية الحذر منه أو التحذير، وظاهر هذا الحديث أن قوله (بعد) ينصرف إلى مدة من الزمان، وإن كان لا يبعد انصرافه إلى حالة الواحد من الناس فإنه قد يكون الواحد في حالة صالحة تأتيه بعدها حالة شر في نفسه ثم تأتيه بعدها حالة خير على تقليب أحواله، فأما الظاهر من الأمر فهو ينصرف إلى الزمان، فلو قيل إن الخير الصريح كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر وعمر وعثمان حتى جرى ما جرى من الشر الذي انتهى إلى القتل بعثمان رضي الله عنه، وأنه أعقبه بعد ذلك الخير الذي كان في زمان عثمان رضي الله عنه من إمامته إلا أنه كان فيه من الدخن الذي ظهر واشتهر مما جرى في زمن علي من تنكر الأحوال وتزلزل الأقدام حتى جرى بين الصحابة في يوم الجمل وصفين وغير ذلك ما جرى ذلك الذي يعرف منه وينكر، وأن بعد ذلك الخير شرًا، وهو أن الدعاة بالدين على باب جهنم ممن كان من الولاة الذين جرى منهم ما جرى في الحرة وكربلاء والبلد الحرام.

* وقوله: (وهم من جلدتنا) أي من العرب، وهذا يدل على ما حدث في العرب المتكلمين بلسانه ثم أمره بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم لعلمه - صلى الله عليه وسلم - أن عهده قريب يجوز أن يدركه عمر حذيفة، وكأنه أشار بإمامهم إلى علي رضي الله عنه. وقوله: (فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام فاعتزل تلك الفرق) يعني إن كان زمن فترة ووقت مهلة ريثما ينتصب الإمام كما جرى في ليالي الشورى. * وقوله: (ولو أن تعض بأصل شجرة) يعني أن تصبر في ذلك على الجوع. *وفيه أيضًا أن المؤمن إذا بلي بذلك في وقت أمير جائر من ضرب ظهره وأخذ ماله فإنه لا يخرج عليه ولا يحاربه بل يسمع ويطيع فإنه (193/ أ) بخروجه يزيد الفتن شرًا. -399 - الحديث الأول من أفراد البخاري: [عن حذيفة {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، قال: نزلت في النفقة)]. * فيه من الفقه أن الإنسان إذا أراد الجهاد في سبيل الله فينبغي أن يستعد لذلك بتجويد سلاحه واختيار دابته محتسبًا ما ينفقه في ذلك لله سبحانه، ولا يخدعه شيطانه مخرجًا له اللوم في الإمساك، ومنع النفقة في سبيل الله، مخرج التوكل، فيظهره لعدوه حاسرًا غير دارع ولا فارس فقال الله تعالى: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} يريد هذا المعنى، فإن اضطر شخص في وقت أن يلقى عدوه حاسرًا ولا يمكنه لضيق الاستسلاح، فإنه يلقاه معتمدًا على الله تعالى ولا حرج عليه.

-400 - الحديث الثاني: [عن حذيفة، قال: المنافقون اليوم شر منهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: وكيف ذلك؟) قال: (إنهم كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون). عنه أنه قال: إنما كان النفاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأما اليوم: فإنما هو الكفر أو الإيمان، وفي رواية (بعد الإيمان)]. * في هذا الحديث من الفقه أن كفر الكافر، وتشكك الشاك، ونفاق المنافق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أغلظ إثمًا وأشد شرًا، فإنه قد كان الأمر في أوله وتأتأته يفقه عاقبته اللبيب، ويعمي عن آخره الغبي، حيث كانت وعود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنصر، وظهور الأمر لم يبلغ المدى إلى مصداقها بعد، فأما وقد ظهر صدق وعوده وامتداد أمره كما سبق خبره به فإن من كفر بعد ذلك فهو كما قال الله عز وجل: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم (193/ ب) من بعد خوفهم أمنًا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}]. -401 - الحديث الثالث: [عن حذيفة: أنه رأى رجلًا لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما قضى صلاته،

دعاه فقال له حذيفة: (ما صليت). قال: وأحسبه قال: (ولو مت مت على غير سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية: (ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -]. * فيه من الفقه وجوب إتمام الركوع والسجود، وهو أن يركع حتى يطمئن راكعًا، ويرفع من الركوع حتى يطمئن قائمًا، ويسجد حتى يطمئن ساجدًا ويجلس بين السجدتين حتى يطمئن جالسًا، وإنما كان ذلك إتمامًا بتوفية كل شيء من ذلك كماله، وإلى اعتبار هذا مذهب أحمد رضي الله عنه. * وقد قال له حذيفة لما لم يتم ركوعه وسجوده (إنك لم تصل)، وهذا صريح في بطلان الصلاة التي لم يتم ركوعها وسجودها. * وفيه أيضًا أن إنكار المنكر في مثل هذا من الصلاة يغلظ له لفظ الإنكار ويخشن النطق وإن احتيج إلى أن يؤتى بشيء خارج عن الخطاب. * وفيه: (دعاه) جيء به، ألا ترى إلى حذيفة كيف قال: (ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -]. * وفيه إشارة إلى تكفير تارك الصلاة. * وفيه أيضًا إشارة إلى تغليظ الأمر في الصلاة حتى أن من أساء في صلاته ولم يتم ركوعها ولا سجودها فإن حكمه حكم تاركها. -402 - الحديث الرابع: [عند حذيفة أنه قال: ما بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة، ولا من المنافقين إلا أربعة.

يعني بالآية: قوله تعالى: (فقاتلوا أئمة الكفر). فقال أعرابي: إنكم أصحاب محمد تخبرونا أخبارًا ما ندري ما هي؟ تزعمون أن لاينافق إلا أربعة، فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا، ويسرقون أعلاقنا؟ قال: أولئك الفساق، أجل لم يبق منهم إلا أربعة أحدهم شيخ كبير (194/ أ) - لو شرب الماء البارد لما وجد برده]. * فيه من الفقه أن حذيفة صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنافقين وأئمة الكفر. * وقوله تعالى: {فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون} يجوز أن يكون معناه قاتلوهم حيث لا أيمان لهم عليكم، ويجوز أن يكون: قاتلوهم إنهم لا أيمان لهم لأنهم يغدرون في أيمانهم فلا أيمان لهم. * وقوله: (لم يبق من المنافقين إلا أربعة) يعني والعالم الله سبحانه المنافقين الذين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. *وقول الأعرابي: (إنكم أصحاب محمد تخبرونا أخبارًا ما ندري ما هي تزعمون أن لا منافق إلا أربعة فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا -أي يفتحونها- ويسرقون أعلاقنا) أي نفيس أمتعتنا، فإنه ظن الأعرابي أن بقر البيوت وسرق الأعلام نفاق حتى فسر له حذيفة وبين له أن قال: (أولئك الفساق) فأما المنافقون فلم يبق منهم إلا أربعة يعني المنافقين الذين ذكرناهم آنفا. * وقوله: (أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده) يعني من الكبر وهذا إنما ذكره حذيفة على معنى أن الله استأصل شأفة النفاق وأظهر الحق، وأبطل الباطل بحوله وقوته.

-403 - الحديث الخامس: [عن حذيفة أنه قال: (يا معشر القراء، استقيموا، فقد سبقتم سبقًا بعيدًا، وإن أخذتم يمينًا وشمالًا، لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا)]. * في هذا الحديث من الفقه أن القارئ إذا استقام فإنه يسبق غيره سبقًا بعيدًا فلا يدرك شأوه غيره، وأنه إن أخذ عن القرآن وحدوده يمينًا وشمالًا مع كونه هو له مبلغًا، ومن جملة حملته فقد ضل ضلالًا بعيدًا إذ الهدى كله فيما هو حامله فإذا أخذ عنه يمينًا وشمالًا فقد سلب الهدى وضل ضلالًا بعيدًا. * وهذا يكون تأويله (194/ ب) على فتح السين من قوله (سبقتم) فأما قوله (سبقتم) بضم السين وكذلك روي لنا، فلا أراه إلا على سبيل التحريض والبعث والحفز لهم على اللحاق بمن سبقهم من المجاهدين وذوي المقامات المشهورة في المواطن، والله أعلم. -404 - الحديث السادس: [عن حذيفة قال: كان النبي إذا أوى إلى فراشه قال: (باسمك اللهم أحيا وأموت). وإذا أصبح، وفي رواية: إذا استيقظ قال: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)].

* فيه من الفقه ما يدل على أن المأوى للمرء مكان طمأنينته، وأوى أي اطمأن. * وقوله: (باسمك اللهم أحيا وأموت) تكون هذه الباء بمعنى (على) أي: على اسمك أحيا وأموت، ويكون ذاكرًا بنومته حال موته، وبهبوبه حال حياته. * ثم قال: فإذا استيقظ قال: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) وذلك يدل على أنه ذكر بالاستيقاظ من النوم حال النشور في القيامة. وقوله إليه النشور يحتمل وجهين أحدهما: النشور من القبور متوجه منه إليه سبحانه. والثاني: أن النشور إليه سبحانه ولاية وعلمًا. * وأما إفراده بقوله (باسمك اللهم أحيا وأموت)، وقوله: (الذي أحيانا) بلفظ الجمع، فلأن في قوله (باسمك اللهم أحيا وأموت) ذكر تخصيص، وقوله (الذي أحيانا) يجمع ذلك كل مستيقظ من نومه، فلما كان تعميمًا اقتضى الجمع. -405 - الحديث السابع: [عن الأسود النخعي قال: كنا في حلقة عبد الله، فجاء حذيفة حتى قام علينا فسلم: ثم قال: لقد أنزل النفاق على قوم خير منكم، فقلنا: سبحان الله، فإن الله عز وجل يقول: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} فتبسم عبد الله، وجلس حذيفة في ناحية المسجد، فقام عبد الله فتفرق أصحابه، فرماني بالحصى، فأتيته، فقال حذيفة: عجبت من ضحكه، وقد عرف ماقلت: لقد أنزل النفاق على قوم كانوا خيرًا منكم ثم تابوا فتاب الله عليهم. وفي رواية فقال: اللهم إنهم لما تابوا كانوا (195/ أ) خيرًا منكم].

* في هذا الحديث من الفقه أن كل مؤمن يخوف على نفسه النفاق، وأن حذيفة لما رأى عبد الله بن مسعود في حلقته المحفوفة بالأخيار من أصحابه أراد أن يخوفهم من النفاق، ويزيل العجب عنهم بقوله: (لقد أنزل النفاق على قوم خير منكم) فقلنا: سبحان الله، فإن الله عز وجل يقول: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} وهذا يدلك على ما ذكرناه، وأنه إنما أخبرهم بذلك لما رأى حالهم حال اشتغال بالعلم وقراءة القرآن وإنها مظنة العجب، وتبسم عبد الله بن مسعود إشارة إلى أنه فهم مقصود حذيفة في قوله ذلك. * وفيه أيضًا أن حذيفة رمى الأسود بن يزيد بالحصى فأتاه فقال: عجبت من ضحكه، وقد عرف ما قلت: وهو يدل على ما ذكرناه. * وفي الحديث دليل على جواز أن يدخل الرجل العالم إلى حلقة العالم ثم يعتزلها ويجلس وحده لمعنى يخصه على معنى ما فعل حذيفة أو لضيق الحلقة أو غير ذلك ولا يكون هذا إعراضًا عن العلم ولا داخلًا في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي رجع عن الحلقة (وأما هذا فأعرض عن الله فأعرض الله عنه). * وفيه أيضًا دليل على جواز رمي الرجل صاحبه في المسجد بالحصى. * وفيه دليل على أن المؤمن قد تعرض له حادثة من خطيئة ثم يتوب منها ويغفرها الله تعالى له فيعود إلى حاله الحسنى. * وفيه أن التوبة من النفاق تصح. -406 - الحديث الثامن: [عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي قال: قلنا لحذيفة: أخبرنا برجل قريب السمت والدل والهدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - نأخذ عنه قال: ما نعلم أقرب سمتًا ودلًا

وهديًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ابن أم عبد، حتى يتوارى بجدار بيته، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -: أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله وسيلة) * في هذا الحديث أن السمت والهدي والدل قريب بعضه (195/ ب) من بعض وهو السكينة والوقار. * وفيه أيضًا ما يدل على أن السائلين عن ذلك أرادوا أن يأخذوا ذلك عن طريق الصورة إذ هو أبلغ في الإفهام من ذكره نطقًا. * وفيه أيضًا ما يدل على أن ابن أم عبد، وهو عبد الله بن مسعود كان من أقرب الصحابة شبهًا بسمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وقاره وسكينته. * وأراد بقوله: (نأخذ عنه) يعني ذلك السمت فيما نأخذه عنه. *وقوله: (حتى يتوارى بجدار بيته) يعني الذي نراه من دله وهديه وسمته ظاهرًا معنا فيه هو أقرب شبهًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك هو الذي نراه فيما بيننا ومعنا، فأما إذا واراه جدار بيته فلا أعلمه؛ لأن ذلك قضية يشهدها من عرفها من وراء جدار عبد الله. * وقوله: (ولقد علم المحفظون من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -) يعني الذين حفظهم الله من أن لا يشهدوا إلا بالحق، وقوله: (من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -) من ها هنا ليست للتبعيض وإنما هي لبيان الجنس، فمعنى قوله: (من أصحاب محمد) أي جميع أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. * وقوله: (أقربهم إلى الله وسيلة) لا أرى الوسيلة التي عناها حذيفة إلا القرآن العظيم.

-407 - الحديث الأول من أفراد مسلم: [عن قيس بن عباد قلت لعمار بن ياسر: أرأيتم صنيعكم هذا الذي صنعتم في أمر علي أرأيا رأيتموه أو شيئًا عهده إليكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟. فقال: ما عهد إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا لم يعهده إلى الناس كافة، ولكن حذيفة أخبرني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (في أصحابي اثنا عشر منافقًا، ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، وأربعة لم أحفظ ما قال شعبة فيهم). وفي رواية: (ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة)) سراج من النار يظهر في أكنافهم حتى ينجم من صدورهم)]. * في هذا الحديث من الفقه (196/ أ) قول عمار: لم يعهد إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا لم يعهده إلى الناس)، وقد تقدم ذكر هذا، وأن إجماع الناس على (علي) رضي الله عنه هو بمقتضى البيعة له من المسلمين لا بوصية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه أيضًا رواية الصحابي عن الصاحبي. * وفيه أيضًا أنه قال: (في أصحابي اثنا عشر منافقًا، ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) وهؤلاء لا يكونون من المنافقين الذين قال الله تعالى فيهم: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} وليس يمكن أن يفصح في هذا باسم أحد لأن حذيفة لم يفصح به بل يعلم أن الله عز وجل

قد نزه منه وباعد عنه المعروفين من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - من كل من شهد له بالجنة، ومن شهد معه بدرًا أو الحديبية ومن قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) إلا أنه قد عينهم لأن الله تعالى يظهر في ثمانية منهم سراجًا من النار. دبيلة: هي الخراج العظيم يكون في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم. -408 - الحديث الثاني: [عن جندب قال: جئت يوم الجرعة، فإذا رجل جالس. فقلت: ليهرقن اليوم هاهنا دماء. فقال ذاك الرجل: كلا والله! قلت: بلى والله! قال: كلا والله قلت: بلى والله! قال: كلا والله! إنه لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثنيه فقلت: بئس الجليس لي أنت منذ اليوم، تسمعني أخالفك، وقد سمعته من رسول الله فلا تنهاني؟ قلت: ما هذا الغضب؟ فأقبلت عليه أسأله فإذا الرجل حذيفة]. فيه من الفقه أن جندبًا قال وحلف على من رآه من منذرات الحال، فيدل على أنه يجوز أن يقول الرجل ما يبينه على منذرات الأحوال ويحلف عليه (196/ ب) بمنتهى ظنه، إلا أنه ما دام الاحتمال لغير ذلك جائزًا، فإنه لا يجوز اليمين إلا على طريق اللغو التي وعد الله عز وجل أن لا يؤاخذ بها، وقد ذكر أنها أيمان الغضب والضجر التي لا يقصد بها عقد اليمين

* وقول حذيفة ما قال في ذلك ويمينه عليه، فإنه قول صدق لأنه أسند خبره في ذلك إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ريب فيه. * وفيه أيضًا من الفقه أن الرجل إذا خالف الرجل في مسألة وعنده فيها حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو قد ذكره لرجع عنه خصمه إليه وانقطع الجدال به، فإنه يجب عليه أن يذكره. ألا ترى إلى جندب كيف قال لحذيفة: (بئس الجليس لي أنت منذ اليوم تسمعني أخالفك، وقد سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تنهاني) فلم ينكر عليه حذيفة ذلك. * وفيه أيضًا أن الرجل إذا خالف الرجل في مسألة فينبغي أن ينظر إلى مخالفه ومن هو أولًا، فإن كان من لا يسوغ له خلافه أو هو أعلم منه، رجع إليه. ألا ترى إلى جندب كيف قال لحذيفة: ما هذا الغضب؟ ثم أقبل عليه- فإذا هو حذيفة بن اليمان. * وفيه أيضًا من الفقه أن الغضب قد يحمل الإنسان على الإعراض، وأنه لا ينظر من حوله فينبغي له أن لايثق بنظر في حالة الغضب، لأنه لم يعرف حذيفة حتى أقبل عليه وسأله. -409 - الحديث الثالث: [عن حذيفة، أنه قال: أخبرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، فما منه شيء إلا قد سألته. إلا أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة].

* وفيه من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر حذيفة بما سأله عنه لأنه قال: (ما منه شيء إلا قد سألته). * فيه أيضًا من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغ من أخبار ما مضى ومن أخبار ما يأتي وما أرسل به إلى أن تقوم الساعة. وذلك كله في القرآن العظيم، ومحتمل أن يكون سؤال حذيفة عن تبيين مكان ذلك في كتاب الله عز وجل، وإلا فهو لو كان قال لحذيفة شيئًا من العلم الذي يجب (197/ أ) تبليغه إلى الأمة لم يجز لحذيفة كتمانه. * وقوله: (إلا أنني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة) فإن هذا يجوز أن يكون قد ضرب على قلبه السؤال عنه إكرامًا لمدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إكرامًا لحذيفة في أن لا يسأل عما لا يجوز السؤال عنه، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن المدينة محرمة على الدجال، وإن على كل نقب من أنقابها ملكًا، وإنه لا يريدها أحد بسوء إلا أذابه الله كما يذوب الملح في الماء، فيكون السؤال عن مساءتها مكروهًا من حيث أنه تطريق السوء على ما لم يطرقه الله عليه. -410 - الحديث الرابع: [حذيفة، قال: ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل، قال: فأخذنا كفار قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمدًا؟ فقلنا: ما نريده ما نريد إلا المدينة، قال: فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرناه بالخبر، فقال: انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم]. * فيه من الفقه أن حذيفة لم يمتنع عن شهود بدر إلا لعذر.

* وفيه أيضًا جواز أن يفي الرجل المسلم بما وافقه عليه المشرك إذا كان المسلم في قبضة المشرك، وهذا فهو على طريق الاستحباب. * وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: نفي بالنون الجامعة ولم يقل لحذيفة: ف لهم بعهدهم؛ لأنه علم أن حذيفة يقف عند ما يأمره به - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه أيضًا من الفقه أن الوفاء حق للمشرك بمثل هذا العهد الجائز مظنة إعانة الله سبحانه وتعالى لقوله: (نفي لهم ونستعين الله عليهم). -411 - الحديث الخامس: [عن أبي الطفيل قال: كان بيني وبين رجل من أهل العقبة بعض ما يكون بين الناس، فقال: أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة؟ قال: فقال له القوم: أخبره إذ سألك، فقال: كنا نخبر أنهم أربعة عشر، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر، وأشهد بالله (197/ ب) أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. وعذر ثلاثة قالوا: ما سمعنا منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا علمنا بما أراد القوم، وقد كان في حرة فمشى فقال: (إن الماء قليل فلا يسبقني إليه أحد، فوجد قومًا قد سبقوه. فلعنهم يومئذ]. * فيه من الفقه أنه حكاية للصورة التي جرت وسيأتي ذكرها، إلا أنه يدل على أن الحديث الذي رواه حذيفة في الاثني عشر منافقًا أنهم هؤلاء. * وفيه أيضًا ما يدل على أن ذوي النفاق وكل من في صدره إحنة فإنه يظهر ذلك

في أوقات المضايق، وعند توهم الشدة كما كشف الله عز وجل أمر هؤلاء المنافقين في يوم العقبة. * وفيه أيضًا جواز أن يحرس الإمام الماء، وأن يمنع أن يسبق غيره إليه لأنه هو أعرف بالمهم والأولى، فيكون تفريقه على ما يراه، والمساواة بين عسكره بحسب ما يستصوبه. * وفيه أيضًا من الفقه أن يستدل على نفاق المنافق بجزعه في صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يسبق الماء قبل أن يصل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد وصاته بترك السبق إليه. -412 - الحديث السادس: [عن حذيفة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقيه وهو جنب، فحاد عنه، فاغتسل ثم جاء، فقال: كنت جنبا، فقال: (إن المسلم لا ينجس)]. * فيه من الفقه أن الجنب غير نجس، وإنما عليه حدث يوجب الغسل، وأن كل مائع يغمس الجنب يده فيه فإن ذلك المائع طاهر. * وفيه أيضًا من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر في هذا بما يشتمل على مطلع الأصل الذي يكون عنه أحكام الإنجاس لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن المسلم لا ينجس). * وفيه أيضًا أنه لما تحرز حذيفة من أن يدنو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جنب إكرامًا له - صلى الله عليه وسلم - وإيمانًا في حال لا يعلم بها المخلوقون، لم ينكر ذلك عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه من دلائل (198/ أ) الإيمان واحترام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن أعلمه أن المسلم لا ينجس، ليفيده العلم وليقره على ما فعله من إيمانه بالله عز وجل واحترامه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

* وفيه أيضًا من الفقه أن المؤمن إذا حدث له حدث في سره فاقتضى حالًا تجدد عليه في ظاهره، فإنه يستحب له أن يخبر بذلك صاحبه إذا كان من أبواب العلم وجواب الإفادة، فإن حذيفة لما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بموجب إزوراره عنه، أفاده - صلى الله عليه وسلم - مسألة ثبتت في الإسلام أصلًا إلى يوم القيامة. * وفيه أيضًا من الفقه أن الصاحب إذا كان له من صاحبه عادة دنو واقتراب، أو مجلس يقرب منه فاتفق له من الأمر ما يقتضي لغير تلك الحال، فإنه متعين عليه أن يذكر الموجب لصاحبه حتى لا يسيء ظنه به، وينسبه إلى غير ذلك. -413 - الحديث السابع: [عن حذيفة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الدجال أعور العين اليسرى، جفال الشعر، معه جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار)]. * قد سبق أن الدجال من الدجل، والدجل في لغة العرب من التمويه. وأنه يقال: سيف مدجل، إذا موه بالذهب، وبعير مدجل إذا طلي بالقطران ويكون الدجل: القطع في الأرض يقال: دجل في الأرض إذا قطعها فكلا ذين التفسيرين موجود في الدجال الذي حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه في غير حديث. * وقد ذكر في هذا الحديث أنه أعور العين اليسرى، جفال الشعر، أي كثيره فهذا يكون شخصًا بعينه، وقد تكون هذه العلامات في شخص له استيلاء يقطع فيه الأرض، وله تمويه بالباطل على الحق، ويكون معه جنة ونار. فالذي أرى وقد تقدم ذكره أيضًا أنه يكون صاحب شهوات، ودنيا واسعة في الباطل، فرآها الجاهل بها أنها جنة لمن نالها -وتكون هي النار في الحقيقة-

فيكون لا يراها جنة إلا من حاله مثل حال من رأى قارون فقال: {يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم} ويرى ذلك نارًا أولو العلم الذين قال الله تعالى (198/ ب) فيهم: {وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير}]. * ويكون معه نار يعني من العذاب والتسلط والشدة على أهل الدين والبطش بالمتقين ما يراه الجاهل نارًا، وهو في الحقيقة الجنة مفتحة الأبواب لمن نيل من ذلك بشيء. -141 - الحديث الثامن: [عن حذيفة، قال: كنت مع النبي ذات ليلة. فافتتح البقرة. فقلت: يركع عند المائة. ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها. ثم افتتح آل عمران فقرأها. يقرأ مترسلًا، إذا مر بآية، فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: (سبحان ربي العظيم) فكان ركوعه نحوا من قيامه. ثم قال: (سمع الله لمن حمده) - زاد جرير: ربنا لك الحمد. ثم قام طويلًا، قريبًا مما ركع، ثم سجد فقال: (سبحان ربي الأعلى)، فكان سجوده قريبًا من قيامه)]. * فيه من الفقه: جواز تطويل الصلاة إذا كانت نافلة يصلي بها الرجل لنفسه أو لمن يعلم أنه يؤثر تطويلها معه، فأما الفريضة فالمستحب له أن يوجز فيها مع إتمام ركوعها وسجودها.

* وفيه أيضًا من الفقه أنه يجوز أن يقرأ في الركعة الواحدة السورة والسورتين والثلاثة. * وفيه أيضًا من الفقه أنه إذا كان في صلاة فمرت به آية رحمة فشاء أن يسألها الله تعالى مغتنمًا ما في القرآن من مناسبة الطلب سألها فإن القرآن وحي مجدد، وإذا مر بآية فيها تسبيح الله تعالى فإنه يسبح الله بما روي في الأخبار، وليعلم أنه في مقام كريم لا يلائمه المطالب الدنيا، وإذا مر بآية عذاب للكافرين استعاذ بالله تعالى من مثل أن يقرأ قوله: {واستغفر لذنبك} فيقول الحديث المروي وهو: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) ومثل أن (199/ أ) يأتي قوله عز وجل: {ما لكم لا ترجون لله وقارًا} فيقول ها هنا: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك) وفي مثل قوله سبحانه في ذكر تسبيحه سبحانه وتعالى: {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} وقد سبق أن معنى قولنا: (سبحان الله) أنه تنزيه له عز وجل عن كل مالا يجوز عليه، ثم يقول: (وبحمده) أي وبحمده سبحته، ولذلك يقول: (سبحان الله العظيم). وهذا فلا أراه إلا في النافلة. * فأما الفريضة فيقصرها على أذكارها مع التفكر في كل ذكر من أذكارها، فإنها حاوية شاملة جامعة، وليكن في إنجازه بها مبادرًا الوسواس. * وفي هذا الحديث من الفقه جواز تطويل الركوع والسجود، وهذا فإنما يستحب مع أمن الضرر فيه، فإن خاف ضررًا يؤول إلى أذى في سمعه أو بصره أو رأسه أو بدنه فلا يستحب له ذلك.

-415 - الحديث التاسع: [عن حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كل معروف صدقة)]. * هذا الحديث قد صرح بأن كل معروف صدقة، ومن ذلك بشر الرجل في وجه الرجل، وقد جاء مبينا في حديث آخر أن إرشاد الرجل إلى الطريق التي لا يعرفها صدقة، وأن حلمه عن السفيه إذا كان قادرًا صدقة، ويتسع هذا إلى ما لا يقدر إحصائه إلا الله سبحانه. * وكما ينبغي أن يعتد به فاعله، يجب أن يعتده المفعول معه، ومن هذا الباب تصل الصدقات إلى من لا يقبل صدقة الأموال، فإن الرجل قد يؤثر الرجل بمجلسه أو يرفعه عليه أو يقدم سؤاله أو حاجته قبل حاجته، ويكون المحسن إليه في ذلك غنيًا لا يقبل صدقات الأموال، فهذا الفقه في الاحتساب يجعل الصدقة مكتوبة على غني. * ومن هذا المعروف أن يتصدق على زوجته بإعفافها كما قال - صلى الله عليه وسلم -: في بضع أحدكم صدقة، يعني على أهله؛ لأنه قد تشتد حاجتها ويعظم فقرها من ذلك إلى ما لا يمكنها الضعف أن تذكره ولا تبدي ما (199/ ب) بها من الحاجة إليه. -416 - الحديث العاشر: [عن حذيفة، قال: كنا عند عمر فقال: أيكم سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه، فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله

وجاره؟ قالوا: أجل، قال: تلك يكفرها الصلاة والصيام، ولكن أيكم سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الفتن التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القوم، فقلت: أنا، قال: أنت: لله أبوك، قال حذيفة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشر بها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة، ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًا كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه). قال: وحدثته أن بينك وبينها بابًا مغلقًا، يوشك أن يكسر، قال عمر: أيكسر لا أبا لك، فلو أنه فتح لعله كان يعاد، قلت: لا بل يكسر، وحدثته، أن ذلك الباب رجل يقتل أو يموت، حديثًا ليس بالأغاليط، قال ربعي: فقلت: يا أبا مالك! ما أسود مربادًا؟ قال: شدة البياض في سواد، قلت: فما الكوز مجخيًا؟ قال منكوسًا]. * قد تقدم في الحديث المتفق عليه من مسند حذيفة في الفتن ما تقدم. * وهذا الحديث فيه من الفقه أن عمر رضي الله عنه لما رأى حذيفة قد حفظ الحديث حيث أمسك القوم قال له: (أنت! لله أبوك) وهذا ثناء عليه. * وقول حذيفة: (تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير)، والحصير المحبس، قال الله تعالى: {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرًا} أي محبسًا. وقوله: (عودًا عودًا)، فأي قلب أشربها، أي تقبلها، نكت فيه نكتة سوداء. وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين:

أبيض مثل الصفا (200/ أ) فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربادًا كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه. * والمجخي: المنكوس، والمرباد: شدة البياض في السواد. * وتفسير هذا أو شرحه -والمعين الله تعالى-: أن الفتن تعرض على القلوب كعرض الحصير، والحصير فعيل من الحصر، وهو التضيق والحبس والشدة. * وقوله: (عودًا عودًا) أي مرة بعد مرة، وهذا فهو يفتن بالمثل الذي يضرب له، وهو أن القلب تعرض عليه الفتنة، وأصل الفتنة الامتحان والاختبار، وذلك أنه قل ما يمر على الآدمي حال إلا ويجوز أن يكون مختبرًا بها، فإذا أتته حال فتنة عرف الشيطان أنها له في الآدمي حال انتهاز فرصة واهتبال غرة فجعلها مركبًا لكيده وشوكة لإشراكه، فإن كان القلب لم يرسخ فيه الإيمان، بل هو طاف عليه طفوًا كطحلب على الماء، لم يكن ما يصدم الفتن منه ذا رسوخ ولا تمكن، فيتزلزل للفتنة وتنقطع فيشر بها القلب، فبقدر ما ينكشف من القلب لها ينكت فيه نكتة سوداء من ذلك الحيز الذي دخلت الفتنة فيه منه؛ لأن القلب يشتمل على معان، فإذا جاءته الفتنة من معنى من تلك المعاني فأشربها اسود ذلك الموضع الآخر، فلا يزال هكذا حتى يسود قلبه كله من جميع جوانبه، وتصوير ذلك أنه لو علق مصباح في زجاجة، وكانت الزجاجة صافية من نواحيها كلها، فإنها تضيء من جميع جهاتها، فلو صادفها من جانب من جوانبها دخان، وتكرر عليها، ولم يمط عنها فإن ذلك الموضع يسود فلو قد كان ذلك في جميع أجزائها لأظلمت من سائر نواحيها. * وقوله - صلى الله عليه وسلم - (يعود القلب مربادًا) أي في لونه ربدة، وهو (200/ ب) ما بين السواد والغبرة. وقوله (كالكوز مجخيًا) يعني منكوسًا يصير أسفله أعلاه يعني - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يخلص منه شيء من الأذى المحتبس فيه، فهذا أحد القلبين اللذين وصفهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (تكون القلوب على قلبين).

* وأما القلب الآخر فهو الذي قال فيه: (وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء حتى يصير أبيض مثل الصفا، فلا يضره فتنة مادامت السموات والأرض) فإن الفتنة إذا قابلت القلب المؤمن فأنكرها إنكارًا يستثير له إيمانه ويستجيش له تقواه بالفزع إلى ربه، والحياء من خالقه سبحانه، كيف عرض له مثل ذلك، أو خطر في فكره، واعتذارًا من جبلته البشرية وكيف يتطرق هذا عليها، ومثله كانت حالته تلك كالانتفاض والغسل والتنقية لقلبه ولا سيما في الموضع الذي دخل على قلبه ذلك الموضع زيادة بياض فيكون أشد بياضًا من باقي القلب كله، وهكذا على هذا حتى يبيض القلب كله، فيكون كالصفا فيه سراج يزهو لا يأتيه الشيطان من جهة إلا رآه، ولا يتحرك ناهضًا إليه إلا لحظه ورأى مسالكه والأسباب التي يجعلها سلالم إلى الوصول إليه. * وهذه الفتن فهي تعرض في العقائد والأحوال والأقوال والأفعال. * وفي هذا الحديث من الفقه أن قلب المؤمن إذا أنكر الفتنة ودفعها بنفس الإنكار ولم يحضره حجة في وقته ذلك، بل قد كان عرف الحق معرفة شاملة، فإن ذلك يكفيه في دفع الشبهة، إلا أنه لو دفعها بالحجة لكان أفضل. * وفيه أيضًا أن علامة القلب الأسود المرباد أنه لا ينكر منكرًا ولا يعرف معروفًا إلا ما أشرب من هواه يعني بقوله: (إلا ما أشرب من هواه) أنه لو أنكر منكرًا يومًا ما، كان لهوى يخالطه لا لله، وهذه القلوب كما أنها تصبغت ألوانها من الأشياء الطارئة عليها (201/ أ) من خارج، فكذلك يعرف ألوانها بأعمالها الصادرة عنها إلى الخارج، وقد ذكر شيخنا محمد بن يحيى رحمه الله تعالى أن يوسف الصديق حين همت به امرأة العزيز حدد النظر والاستدلال فرأى برهان ربه، وحكي عن القاضي أبي يعلي الفراء -رحمه الله- أنه أشار إلى تحديد النظر والاستدلال عند كل انتباه من نوم أو إفاقة من غفلة ونحو ذلك.

* وأن من الفتن التي تتشربها القلوب اللهج بما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم والحكاية لما يقوله أهل البدعة والمجالسة لأهل الشك في الآخرة. -417 - الحديث الحادي عشر: [عن حذيفة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن حوضي لأبعد من أيلة من عدن، والذي نفسي بيده، إني لأذود عنه الرجال كما يذود الرجل الإبل الغريبة عن حوضه) .. قالوا: يا رسول الله وتعرفنا؟ قال: (نعم، تردون علي غرًا محجلين من آثار الوضوء، ليست لأحد غيركم)) * في هذا الحديث ذكر مقدار حوضه - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه أيضًا أنه يذود عن حوضه من ليس من أهله، ولا أرى ذياده - صلى الله عليه وسلم - إلا من طريق الحمية والأنفة أن يورد حوضه من غير إذنه، وأن أولئك يردون على سبيل السرق فيكون في ذلك افتئات عليه - صلى الله عليه وسلم -، ولكونهم أيضًا نجسًا، وإن الله قد حرمه على الكافرين، فيكون - صلى الله عليه وسلم - حارسًا للماء الذي حرمه الله على الكافرين، وليعلمنا أن الكفار مع مشاهدتهم أهوال القيامة لا ينتهون عن عوائدهم السيئة من الورود بغير إذن. * ويدل أيضًا على أن أولئك الذين ذادهم - صلى الله عليه وسلم - ليسوا من المصلين زلا من المؤمنين، وهذا مما يحض على الوضوء وأنه لا يزال المتوضئ يغسل ظاهر وجهه ويديه ورجليه مرارًا حتى يغسل الله تعالى باطنها فتقلب غرة وتحجيلًا يعرف (201/ ب) بها صاحبها يوم القيامة.

-418 - الحديث الثاني عشر: [عن حذيفة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورًا، إذا لم نجد الماء)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن الله سبحانه وتعالى أباح لهذه الأمة الأرض فإن صفوف أمة المسلمين ممتدة امتدادًا يستدعي سعة المواضع. * وفيه أيضًا أن اصطفاف المؤمنين في صفوفهم مقدمة اصطفافهم في قتال عدوهم، فإنه كما يسوي بين أعقابهم في القيام في الصلاة، فلا يخرج منكب عن منكب، ولا عقب عن عقب، فكذلك يطلب من المجاهدين، فلا يتوارى أحد بأحد ولا يتقي هذا بهذا. * وفي صفوف الصلاة أيضًا أن الصف إذا قوم اتسع عليهم المكان، فلو تقدم واحد وتأخر آخر، لأخرج المتأخر الصف الذي خلفه، ولضيق المتقدم على من بين يديه في صفوفهم. * وقوله: (وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا) فهذا من فضل هذه الأمة أنها لم تقصر مساجدها على بقاع محصورة بل شرف الأرض وغربها وبرها وبحرها، وكذلك لعلم الله عز وجل بكثرة ظهور هذه الأمة واحتفالهم بصلواتهم وسع عليهم فجعل لهم البسيطين: الماء والتراب، يقوم هذا بدلًا من هذا متى أعوز حتى يقضوا نهمتهم من العبادة.

-419 - الحديث الثالث عشر: [عن ربعي عن حذيفة، وعن أبي حازم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضي لهم يوم القيامة قبل الخلائق). وفي رواية واصل بن عبد الأعلى: المقضي بينهم (202/ أ)]. * في هذا الحديث أن الله تعالى يكرم من يشاء بأن يدخر له ما يشاء، فقد من الله تعالى على هذه الأمة بأن جعل لها الجمعة، وجعل بعدها لليهود السبت، وبعد السبت الأحد للنصارى، فلولا أن الله تعالى ادخر الجمعة لنا لكان لنا يوم الاثنين، ولكن الله عز وجل أبى إلا أن يجعلنا الأولين في مقام عبادته، وإن تأخر زماننا بعدهم، وهذا مما يدلل على أنه إذا أراد الله أن يقدم متأخرًا أو يؤخر مقدمًا فعل به هكذا. * وهذه مقدمة ما يفعل في القيامة لأن القيامة يوم الجمعة. * وقوله: (المقضي لهم يوم القيامة قبل الخلائق) ىومن كرامة هذه الأمة أنه جعلها آخر الأمم، وقص عليها أخبار المتقدمين، فعرفت كل ما جرى لهم، ولم يعرف أحد منهم ما جرى لها، فتمم الله تعالى على هذه الأمة نعمته في فصل القضاء بينها وبينه سبحانه سرًا عن غيرها، فيقضي لهم قبل الناس كلهم حتى لا يشهد أحد من الناس شيئًا من أقضيتهم إلا بعد الفراغ منه.

-420 - الحديث الرابع عشر: [عن ربعي عن حذيفة وأبي حازم عن أبي هريرة، قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يجمع الله تعالى الناس، فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم، فيقولون: يا أبانا، استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم، لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله، قال فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك، إنما كنت خليلًا من وراء وراء، اعمدوا إلى موسى الذي كلمه الله تكليمًا، فيأتون موسى عليه السلام فيقول: لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه، فيقول عيسى: لست بصاحب ذلك، فيأتون محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فيقوم، فيؤذن له، وترسل الأمانة والرحم، فتقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالًا، فيمر أولكم كالبرق، قال: قلت: بأبي أنت وأمي! أي شيء كمر البرق؟ (202/ ب) قال: (ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وشد الرجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط، يقول: رب! سلم سلم، حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفًا). قال: (وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة، مأمورة تأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج، ومكدوس في النار) والذي نفس أبي هريرة بيده، إن قعر جهنم لسبعون خريفًا]. * في هذا الحديث من الفقه أن الشفاعة مما يجب الإيمان به، وأنها كرامة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - في أمته، وذلك أن الذنوب قد يتفاقم منها الذنب إلى أن تكون

الجناية فيه لا يفي بها مقدار عمل عاملها، ولا حد مقامه، فإذا قابلها مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرض جاهه في ذلك المقام المحمود، نهض بها، وكانت مكانته - صلى الله عليه وسلم - وكريم قدره يغسل ذلك الحوب، وهذا على ما كان فيه فإنه إظهار لجاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الأولين والآخرين، ولا جرم أنه ينتشر كرمه وشرف مقامه حتى يتسع لأهل الجمع كلهم حين يضيق الخجل بالهداة عليهم السلام، فإن ادم عليه السلام يبلغ منه الأمر إلى أن يعترف لذريته بأن خطيئته كانت سبب إخراجهم من الجنة فهو في خجله منهم باق، ولقد كان قمينا أن يتدارك ذلك بأن يشفع في يوم القيامة، ولكن رأى أن ذلك مقام يلائم من شمل أمره الكل، وأن ذلك لا يتحقق إلا فيمن صدق المرسلين وهو خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، وأما إرسال آدم بنيه إلى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فإنه تلويح مشير أن الأمر يتسلسل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكن بعد أن يدفعه الواحد منهم إلى الواحد حتى لا يبقى في قلب أحد شك أنه لما أرشد الأنبياء كلهم إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - (203/ أ) قام بها وقال: (أنا لها). * وقول إبراهيم عليه السلام: (إنما كنت خليلًا من وراء وراء) أي من خلف حجاب ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أتخذ خليلًا بعد أن أسري به. * وقوله في موسى: (كلمه الله تكليمًا) فقوله تكليمًا مصدر مؤكد لقوله (كلم) ولو لم يكن الكلام فيه زيادة على الوحي لما قال لهم إبراهيم: اذهبوا إلى موسى الذي كلمه الله تكليمًا، إذ الأنبياء كلهم قد كان يوحى إليهم. * وقول موسى: (لست بصاحب ذلك) علم منه وإشارة إلى أن هذا المقام هو مقام محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي وعده الله تعالى به بقوله: {عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا} فكان موسى قال لست بصاحب ذلك أي أن له صاحبًا اذهبوا إلى عيسى فيرشدكم إليه، وما كان له أن يدل هو عليه، لأن عيسى بينهما، فيكون غضًا من عيسى، وإنما أمرهم بقصد عيسى ليرشدهم إليه.

* وفي حديث آخر أن عيسى يدلهم على محمد - صلى الله عليه وسلم - فيأتون محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وبنفس قول عيسى عليه السلام لست بصاحب ذلك تعيين الأمر لمحمد - صلى الله عليه وسلم -. * وقوله: (وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبتي الصراط) يريد بهذا قيام الجد، من قولهم قام زيد بالأمر، وكل من أدى الأمانة فيما بينه وبين ربه وبين المسلمين ظهر خفيها وبرز كامنها، فكان في ذلك الموطن لأنها من الإيمان المحض الصرف فيدفع الله بها الجبال من الزلات والمعاصي، وكذلك الرحم فإنها مما عظم الله تعالى شأنه، وجعلها امرة في ذلك الموطن علما وحكمة، فإن الرحم من الوالدين والأقربين هي في المعنى تسببت في وجود الآدميين فالله تعالى خلق عبده في ذلك فهو كما قال عز وجل: {يذروؤكم فيه} فإذا رعى الآدمي ماذرأه الله فيه وجعله إكليلا عليه من جوانبه كان ذلك من أكرم الصلات وأثر الوسائل لمن وصلها، كما أنه من أعظم الحوب لمن قطعها، مثل الأمانة؛ فإن من أداها لله عز وجل كان له الفوز العظيم، ومن خانها وأضاعها (203/ ب) خسر الخسران المبين، والرحم إنما اشتد الأمر في صلتها ثوابا، وفي قطعها عقابا؛ من حيث أن طباع الآدميين لهجة بالحسد من الأقرب فالأقرب، والغيظ من الأدنى فالأدنى، ولأن الأقارب قل ما يخلصون من موجبات الشر والخير في المشاركات والمحاورات والمعاملات ونحو ذلك، فللمسلم على المسلم حق، والمسلم على المسلم إذا كان ذا رحم حقان، فإذا قطعه فقد قطع حقين كما أنه إذا وصله وصل سببين أكد الأول منهما الثاني. * ومعنى قوله: (تمر كالبرق) فإنه يجوز أن يكون التشبيه واقعا بالسرعة، ويجوز أن يكون بالنور، فإن الناس في ظلمة يوم القيامة، وإنما إيمان المؤمنين ينير لهم، فالبرق أسرع الأشياء، ثم الريح بعده، فمن أسرع به في ذلك الموطن عمله حمد سرى ليله، ومن أبطأ به كان متثاقلا عن الطاعات فأبطأت به.

* وقوله: (رب سلم سلم) يجوز أن يكون من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، ويجوز أن يكون من قول حذيفة. * وقوله: (فمخدوش ناج) هذا يدل على أن من يعبر على الصراط تكون عقوبته بخدش ذلك الكلوب ثم يفلت منه. * (ومكدوس في النار) المكدوس الملقى. * وقول أبي هريرة: (إن قعر جهنم سبعون خريفًا) يعني مسيرة سبعين سنة في النزول والهبوط، ومعنى تخصيصه بالخريف لا أراه إلا تذكير إبانة وقت انقضاء الثمر ونفض ورق الشجر، وزوال بهجة الدنيا وزهرتها وعودها إلى القحط، فيكون ذلك كالمذكر بهذا القول. -421 - الحديث الخامس عشر: [عن حذيفة، قال: والله! إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة، فيما بيني وبين الساعة، وما بي إلا أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسر إلي في ذلك شيئًا لم يحدثه غيري، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو يحدث مجلسًا أنا فيه عن الفتن. فقال رسول (204/ أ) الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يعد الفتن: (منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئًا، ومنهن فتن كرياح الصيف، منها صغار ومنها كبار). قال حذيفة: فذهب أولئك الرهط كلهم غيري]. * وفي هذا الحديث ما يصدق ما ذهبنا إليه من أنه لم يكن حذيفة ليكتم علمًا حدثه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يبلغه عنه، وقد صرح بذلك في هذا الحديث.

* وقوله: (منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئًا) فهذه الثلاث قد كان جرى في زمن الصحابة من قبل عثمان، وفي الجمل وصفين ما لم يكدن يذرن شيئًا لولا رحمة الله ولطفه بعباده، ولا جرم أبقت من غبراتها وعقابيلها وأدوائها في القلوب المريضة ما يستمر إلى أن تقوم الساعة إلا في حق من عصمه الله، وحفظ قلبه منها فإن الفتن تمر عليه كقطع الليل وهو منها في عافية. * وقوله: (ومنهن فتن كرياح الصيف) يعني برياح الصيف أنها وان اشتدت فإنها دون رياح الشتاء. -422 - الحديث السادس عشر: [عن يزيد بن شريك: قال: كنا عند حذيفة فقال رجل: لو أدركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلت معه وأبليت. فقال حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الأحزاب، وأخذتنا ريح شديدة وقر. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ألا رجل يأتيني بخبر القوم، جعله الله تعالى معي يوم القيامة؟) فسكتنا. فلم يجبه منا أحد. ثم قال (ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله تعالى معي يوم القيامة؟) فسكتنا. فلم يجبه منا أحد. ثم قال: (ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله تعالى معي يوم القيامة؟) فلم يجبه منا أحد. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قم يا حذيفة). قال: فلم أجد بدًا إذ دعاني باسمي إلا أن أقوم قال: اذهب فأتني بخبر القوم، ولا تذعرهم علي)، فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم. فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره (204/ ب) بالنار، فوضعت سهمًا في كبد القوس. فأردت أن أرميه فذكرت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ولا تذعرهم علي)، ولو رميته لأصبته، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام. فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم، وفرغت، قررت فألبسني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فضل عباءة

كانت عليه يصلي فيها فلم أزل قائمًا حتى أصبحت، فلما أصبحت قال لي: (قم يا نومان)]. * في هذا الحديث جواز أن يتمنى الرجل الخير ويأتي بلفظ (لو) نحو قول هذا الرجل (لو أدركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). * وقول حذيفة له: (أنت كنت تفعل ذلك؟) لا يدل على أنه أنكر عليه، ولكنه شرح له حالًا شديدة، وذكر الريح الشديدة والقر اللذين كانا في تلك الليلة والقر: هو البرد. * وفي هذه دليل على أن المؤمنين يبتلون. قوله: (ألا رجل يأتيني بخبر القوم) فقوله: (ألا) حث وتحريض. * وقوله: (جعله الله معي يوم القيامة) يجوز أن يكون هنا دعاء له، ويجوز أن يكون خبرًا عن حاله، وتكريره - صلى الله عليه وسلم - ذلك ثلاث مرات يدل على حسن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورفقه بأصحابه. *وهو أيضًا تعليم لأمير الجيوش أنه في مثل هذا المقام لا يجوز أن يكلف الأمير الشخص منهم أن يبعث به في مثل هذا المقام قهرًا أو جبرًا فإنه سبيل شديد الخطر، ولكن يدعو له ويرغبه في الثواب لينهض طوعًا، فإن عاد عاد مأجورًا، وإن ذهب ذهب شهيدًا. * وقوله: (قم يا حذيفة) فإنه لما لم يكن يحسن أن يتنامى إلى المشركين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حض أصحابه ثلاث مرات متتابعات لينهض منهم واحد يأتيه بخبر القوم فلم يندب منهم أحد، رأى حينئذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعين حذيفة لمعنى رآه فيه. * وقوله: (فلم أجد بدًّا) أي مندوحة حيث دعاني باسمي، يعني إلا أن أجيب.

* وقوله - صلى الله عليه وسلم - (لا تذعرهم علي) فهذا من مليح القول الذي يشد (205/ أ) قلوب أصحابه، ويقوي نفس المرسل، فإنه يوهمه أنه طليعة في أخذهم متوقع حصولهم، فيكون معنى لا تذعرهم علي أي لا يهربوا مني. * وفيه أيضًا دليل على أن من انتدب لله وجاهد في سبيله أعانه الله، ألا ترى حذيفة كيف يقول: فخرجت كأنما أمشي في حمام؟. * وفي هذا دليل على أن الحمام قد كان معروفا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وقوله: (فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره) يدلل على أنه قد كان أخذته الرعدة حتى اصطلى أقبح اصطلاء، وهذا قد كان في حال شركه ثم أسلم فحسن إسلامه، وأن حذيفة لما ذهب طليعة لم يترك سلاحه كما يفعل الجبان إذا انتدب في مثل هذه الحال بدعوى التخفف مزمعا على الهرب. * وقوله: (فأردت أن أرميه) فذكرت قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تذعرهم علي) يدلل على شجاعته وأنه وحده لم يبالهم، ويدلل على حسن نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفراسته فيه. * ثم قال: (ولو رميته لأصبته) وهذا يدلل على جواز قول الرجل عن الشيء الذي لم يكن أن لو كان على مقتضى ظنه لكان قوله: (لو رميته لأصبته). * وقوله: (فلما فرغت قررت) كسر الله تعالى عن حذيفة البرد في المكان الذي كان يتخوف البرد فيه، حيث امتثل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قصد العدو، وأنه لما عاد إلى حيث أمن وفرغ من شغل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاد إلى المكان الذي كان فيه، عاوده البرد، ليثبت عنده أن ذلك الدفء الذي غشيه قبل ذلك من الله عز وجل لا من الوقت. * وقوله: (فألبسني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فضل عباءة كانت عليه). فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن متكبرًا حيث كان هو وحذيفة في ثوب واحد. * وفيه تشريف لحذيفة حيث شمله بثوبه - صلى الله عليه وسلم -.

* وفيه أنه استنظف حذيفة لكونه كان يصلي في تلك العباءة. * وفيه أن الذين (205/ ب) يتنطعون تضررًا من رفقائهم وأصحابهم إذا مس أحدهم ثوب صاحبه غسله، أن ذلك من وسواس الشيطان. * وفيه أيضًا ما يدل على أنه إذا سهر الصاحب أو تعب فنام، استحب لصاحبه أن يوفره على نومه ولا يزعجه حتى يشبع من نومه، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غطى حذيفة بفضل ثوبه ولم يزعجه ولم يجذب ثوبه عنه حتى الصباح، فحينئذ قال له كلمة تدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يضجر من طول مقام ثوبه عليه، ولا تأثر لذلك؛ لأن الكلمة تدل على انبساط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسروره. وهي قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يا نومان). -423 - الحديث السابع عشر: [عن حذيفة، قال: كنا إذا حضرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - طعامًا لم نضع أيدينا، حتى يبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيضع يده. وإنا حضرنا معه مرةً طعامًا فجاءت جارية كأنها تدفع فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدها. ثم جاء أعرابي كأنما يدفع فأخذ بيده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الشيطان يستحل الطعام، أن لا يذكر اسم الله عليه، وأنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي يستحل به، فأخذت بيده، والذي نفسي بيده، إن يده في يدي مع يدها. زاد عيسى بن موسى: "ثم ذكر اسم الله وأكل)]. * في هذا الحديث من الفقه ما يدل على حسن أدب الصحابة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنهم كانوا يأكلون بالمروءة لا بالشره، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤمهم في ذلك.

* وفيه من الفقه أن التسمية على الطعام مؤكدة، وأن الله سبحانه وتعالى يبارك في الطعام إذا ذكر اسم الله تعالى عليه لحمايته من الشيطان، فإن الشيطان إنما يمكنه أن يشارك الإنسان في طعامه إذا لم يذكر اسم الله تعالى عليه؛ لأن اسم الله تعالى هو نور كما قال الله تعالى {الله نور السموات والأرض} فإذا ذكر اسم الله عز وجل على طعام شمل نور الإسلام ذلك الطعام، فإذا مد إليه يده ادمي ولم يذكر (206/ أ) اسم الله تعالى عليه أوجد للشيطان طريقا من جهته فجعل يده مع يده. وأن الشيطان لم يمكنه أن يقربه حتى جاء بالمرأة كأنها تدفع فأمسك - صلى الله عليه وسلم - يدها ثم جاء بأعرابي كأنه يدفع فأمسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده لأنهما جاءا إلى طعام لم يدعيا إليه على فجأة، ولم يتقدم لهما إذن، فكان مما عملاه من مخالفة الحق في ذلك كله طواعية الشيطان فلم يمكنهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك لئلا ينفذ حكم الشيطان على أحد في مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى طعام هو حاضره. ألا تراه يقول: (إن يده في يدي مع يدها). * وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر استظهاره على الشيطان وقهره له (إن يده في يدي مع يدها، ثم ذكر اسم الله وأكل). * وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر استظهاره على الشيطان وقهره له (أن يده في يدي) أي مملوكة مقهورة، ولم يقل: يده في يده، والله سبحانه أجل وأعلم.

المجلد الثالث

-1000 - (2/أ) الحديث الثلاثون: [عن ابن عباس، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يتهجد قال: (اللهم ربنا لك الحمد، أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، والساعة حق. اللهم، لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت). وفي حديث ثابت بن محمد: (وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت) أو (لا إله غيرك). * قوله: (يتهجد). قال الأزهري: المتهجد هو القائم إلى الصلاة من

النوم. وينبغي للقائم من الليل أن يبدأ بهذا الدعاء قبل صلاته، فيعترف لله بأنه حق، وأن رسله حق، وكتبه حق، والاعتراف بالجنة والنار والبعث، وهذا كله مما يجدد به إيمانه، ويستحضر به يقينه أمام دخوله في الصلاة؛ لقوله: (اللهم ربنا لك الحمد)، وذلك أنه بدأ باعترافه من نفسه بأنه مربوب، وأن ربه هو الله، ثم جاء بالنون التي هي للجمع فقال: (ربنا)، ففتح الباء على النداء مع حذف حرف النداء، والتعويض منه الذي قد تقدم. قولنا: بأن حذفه يدل على استشعار قرب المنادى جل جلاله؛ فكأنه لما نادى ربه سبحانه وتعالى قد سمع نداءه مبتديًا للإجابة لسؤاله، لم يكن عند هذا الناطق أهم ولا أولى من تقديم حمد الله سبحانه وتعالى، فقال: (لك الحمد) فأتى بالألف واللام المشعر فيه، المستغرقتين للجنس، وقد تقدم قولنا: إن الحمد لله سبحانه وتعالى استحقاقًا وولاية وملكًا. * ثم أتبع ذلك بقوله: (أنت قيم السماوات والأرض) وذلك اعتراف بأن قيام السماوات ومن فيهن له سبحانه وتعالى؛ فهو القيم جل جلاله بذلك، وأن من ذلك قيام كل قائم إلى عبادته، ثم أتبعه برد الحمد ثانيًا على ذلك وعطف عليه بالواو؛ لأنه حمد بعد حمد متقدم. * ثم قال: (أنت نور السماوات (2/ب) والأرض) لأنه سبحانه وتعالى كما

قال الله سبحانه: {الله نور السموات والأرض}، وقد تقدم قولنا: إن اسم الله تعالى هو نور السماوات والأرض، ويجوز أن يكون نور السماوات والأرض على أنه منورها، ويجوز أن يكون أيضًا على أن ظهور صنعته وبدائع حكمته في كل جزء من أجزاء السماوات والأرض ومن فيهن، هو نور يهتدى به ويستدل به عليه، ولذلك ما شرعه الله تعالى في ذلك كله، وأودعه إياه من الحكمة وحسن التقدير في مطاويه هو النور الذي يهتدي به أهل السموات والأرض فيما بينهم. * وقوله: (ولك الحمد، أنت ملك السماوات والأرض) فإنه سبحانه لما اعترف العبد له بما تقدم جملاً تشير إلى التفصيل أتيت حينئذ بهذا القول: (له الملك) في كل ما أثبت له فيه الملك. * وقوله: (بك آمنت) بين هذا، وبين قوله: (آمنت بك) فرق؛ وذلك أن قوله: (بك آمنت) يجمع الإيمان بالله والاعتراف أنه لم يؤمن به إلا بتوفيقه، وقوله: (آمنت) إنما هو مجرد الإخبار عن إيمانه. * وقوله: (بك خاصمت) أي أخاصم بشرعك وأجعلك الحاكم فيه، وكل من يريد الفلج على خصمه فإنه يخاصم بالحق الذي يحكم به الحاكم الذي يعون الحكومة عهد به؛ فإنه كحكم له به. * وقوله: (فاغفر لي ما قدمت) أي من ذنوبي أو ما قدمت من شهواتي على حقوقك، (وما أخرت) من الحقوق التي تجب لك.

* وقوله: (أنت المقدم وأنت المؤخر) أي إنك المستحق أن يقدم ويؤخر فلا أقدم أنا ولا أؤخر. -1001 - الحديث الحادي والثلاثون: (عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر). وفي حديث عبد الرازق عن معمر: (اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله، فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر). * هذا الحديث يدل على تقديم ورث الفرائض على العصبات. قال الخطابي: قوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها) أي: بذوي السهام الذين يرثون، فما بقي لأولى رجل ذكر من العصبة، والولي: القرب، وإنما قال: ذكر، ليعلم أن العصبة إذا كان عمًا أو ابن عم أو من كان في معناهما فكان معه (3/أ) أخت أنها لا ترث شيئًا.

-1002 - الحديث الثاني والثلاثون: (عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تلقوا الركبان، ولا يبيع حاضر لباد)، فقلت لابن عباس: ما قوله: (لا يبيع حاضر لباد؟) قال: لا يكون له سمسارًا). * في هذا الحديث دليل على ما يقتضيه الحديث الآخر: (دعوا الناس يزرق الله بعضهم من بعض). * وفيه ما يدل على أن الغبن الذي جرت العادة أن يتغابن الناس بمثله مباح. -1003 - الحديث الثالث والثلاثون: (عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (احتجم وأعطى الحجام أجره، واستعط). وفي رواية: (احتجم، ولو علم كراهته لم يعطه). وفي رواية لمسلم: (احتجم رسول الله، وأعطى الذي حجمه، ولو كان حرامًا لم يعطه).

وفي رواية لمسلم: (حجم النبي - صلى الله عليه وسلم - عبدٌ لبني بياضة، فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أجره، وكلم سيده فخفف عنه من ضريبته، ولو كان سُحتًا لم يعطه النبي - صلى الله عليه وسلم -). * في هذا الحديث دليل على أن أجرة الحجام ليست بسحت. * وقوله: (استعط) فإنه إن كان أراد بذلك يوم الحجامة فإنه بليغ في باب الطب، من حيث إن الحجامة يخرج الدم من الرأس فيتخلف فيه البلغم؛ فربما يؤذي، حتى حكى عالم من الأطباء أن رجلاً كانت به زكمة فاحتجم فلحقته السكتة على أثر ذلك. فإذا استعط أخرج من البلغم بإزاء ما أخرج من الدم فلم يكن ما أبقى في الرأس من الخلطين إلا ما يقاوم أحدهما الآخر، وإن كان استعاطه بعد ذلك، فإن الاستعاط دواء بليغ في منفعة السمع والبصر، وشفاء من أدواء كثيرة في الرأس. * وقوله: (خففوا عنه من ضريبته)، الضريبة: ما يضرب على العبد من خراج يؤديه. ولما حجم هذا الرجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها صحة مستمرة، حكم مواليه أن يخففوا عنه من خراجه لتكون راحته مستمرة؛ ليكون متخلقًا في ذلك بخلق الله عز وجل في كونه جل جلاله يجعل الثواب على الأعمال غالبًا من جنس (3/ب) الأعمال.

-1004 - الحديث الرابع والثلاثون: (عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: في الذبح، والحلق، والتقديم، والتأخير، فقال: (لا حرج). وفي رواية: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل يوم النحر بمنى، فيقول: (لا حرج)، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ قال: (اذبح ولا حرج)، قال: رميت بعدما أمسيت، فقال: (لا حرج). وفي رواية: (قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: زرت قبل أن أرمي، قال: (لا حرج)، قال: حلقت قبل الذبح، قال: (لا حرج)، قال: ذبحت قبل أن أرمي، قال: (لا حرج). وفي رواية: سُئل في حجته عن الذبح قبل الرمي، وعن الحلق فأومأ بيده: (لا حرج). * وفي هذا الحديث أن من قدم شيئًا من الأفعال التي تقع في يوم النحر: من الرمي والذبح والحلق والطواف فإنه لا حرج عليه في ذلك؛ لأن المقام في ذلك اليوم بمنى هو على حاله اختطاف للوقت، فراعى الشرع مسامحة

الحاج فيه لئلا يكون عليه حرج. -1005 - الحديث الخامس والثلاثون: (عن ابن عباس، قال: (رُخِّص للحائض أن تنفر إذا خاضت، فكان ابن عمر يقول في أول أمره: إنها لا تنفر}، ثم سمعته يقول: تنفر، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص لهن). وفي رواية عن ابن عباس، قال: (أمِرَ الناسُ أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خُفف عن المرأة الحائض). وفي رواية عن طاوس، قال: (كنت مع ابن عباس، إذ قال له زيد بن ثابت: تُفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ فقال ابن عباس: إما لا، فسل فلانة الأنصارية: هل أمرها بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فرجع زيد إلى ابن عباس يضحك، وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت). وفي رواية: أن أهل المدينة سألوا ابن عباس عن امرأة طافت، ثم حاضت، قال لهم: تنفر، قالوا: لا نأخذ بقولك وندع قول زيد، قال: إذا قدمتم المدينة فسألوا، فقدموا المدينة، فسألوا، فكان فيمن سألوا أم سليم،

فذكرت حديث صفية، يعني في الإذن لها بأن تنفر). * في هذا الحديث جواز أن تنفر المرأة إذا حاضت وتترك طواف الوداع. -1006 - الحديث السادس والثلاثون: (عن ابن عباس، قال: كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، وكانوا يسمون المحرم صفرًا، ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، (4/أ) وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر، قال: فقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه صبيحة رابعة مهلِّين بالحج، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال: (الحل كله). وفي رواية عن ابن عباس قال: (قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، إلا من معه هدي). وفي حديث نصر بن علي: أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج، فقدم لأربع مضين من ذي الحجة. فصلى الصبح، وقال حين الصبح: (من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة)، ومنهم من قال: فصلى الصبح في البطحاء)، ومنهم من قال: (بذي طوى). وفي رواية لمسلم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هذه عمرة استمتعنا بهاـ، فمن لم يكن معه الهدي فليحل الحل كله، فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم

القيامة). * قوله: (برأ الدبر) أي من ظهور الإبل، فإنها إذا انصرفت عن الحج دبرت ظهورها فأرادوا إدبارًا ذلك. (وعفا الأثر) أمحي وذهب وغطاه التراب، وهذه سيرة كانت في الجاهلية رفعها الإسلام. * وهذا الحديث يدل على فسخ الحج إلى العمرة، وهو بمعنى قوله: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة). * وقال بعض العلماء: الإشارة بذلك إلى تداخل السكين، فيجرىء عنها طواف واحد وسعي واحد. -1007 - الحديث السابع والثلاثون: (عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى الخلاء، فوضعت له وضوءًا، فلما خرج قال: (من وضع هذا؟) فأخبر. في كتاب مسلم: (اللهم فقهه في الدين). وحكى أبو مسعود: (فقهه

في الدين وعلمه التأويل). وفي رواية البخاري: (ضمني النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صدره، وقال: اللهم علمه الحكمة). وفي رواية وهيب: (علمه الكتاب). * هذه الدعوات كلها استجيبت وحصلت لابن عباس رضي الله عنه. * وقد قيل (الحكمة) هي السنة، و (الكتاب) هو لقرآن. -1008 - الحديث الثامن والثلاثون: (عن ابن عباس: وسئل عن صيام عاشوراء، فقال: (ما علمت أن رسول الله (4/ب) - صلى الله عليه وسلم - صام يومًا يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهرًا إلا هذا الشهر - يعني رمضان). وفي رواية: (ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم؛ يوم عاشوراء، وهذا الشهر؛ يعني شهر رمضان). * وقد سبق الكلام في يوم عاشوراء، وهذا الحديث يدل على فضل صومه،

وقد سبق في مسند أبي قتادة أن صومه بسنة، وبينا وجه الحكمة في التقدير بسنة. -1009 - الحديث التاسع والثلاثون: (عن ابن عباس قال: (أنا ممن قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة في ضعفة أهله). وفي رواية: (بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - في الثقل من جمع بليل، ورمينا قبل أن يأتينا الناس). وفي رواية البخاري عن ابن عباس قال: (كنت أنا وأمي ممن عذر الله). وفي رواية: (كنت أنا وأمي من المستضعفين، أنا من الولدان، وأمي

من النساء). * الضعفة: جمع ضعيف. * وهذا الحديث يدل على أن ابن عباس كان حينئذ غلامًا، فإن الله عز وجل عذره وعذر أمه لكونهما من الضعفاء. * و (المزدلفة) حدها ما بين المازمين ووادي محسر، وإنما جاء التقدم للضعفة لئلا يحطمهم الناس. -1010 - الحديث الأربعون: (عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذًا إلى اليمن قال: (إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم: أن الله عز وجل قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم: أن الله تعالى فرض عليهم زكاة تؤخذ من أموالهم، وتُرَد على فقرائهم، فإذا أطاعوا فيها خذ منهم، وتوق

كرائم أموالهم). زاد في رواية ابن المبارك ووكيع: (واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب). * قد سبق الكلام في هذا الحديث في إيجاب الصلوات، وقد سبق ذكره، وفيه وجوب الزكاة وقد تقدم الكلام في ذلك. * وكرائم الأموال: أفاضلها. * وفيه التحذير من دعوة المظلوم؛ وذلك لأنه لا ناصر له سوى الله عز وجل. وذلك لما قدمنا ذكره من أنه يطلب حقه من حاكم عادل قادر على الاستيفاء، لا يخاف العُقبى، فلذلك ما اشتد التحذير من دعوة المظلوم التي لا يبقى معها إهمال إلا من حيث أن الله سبحانه وتعالى إذا أمهل عبدًا من عبيده (5/أ) بمظلمة فإن ذلك يتناول حق الله عز وجل إذ خلق الله تعالى ملكًا له سبحانه،

كما تقدم من ذكره سبحانه تأخير الاستيفاء وتقديمه، وإسقاطه والأخذ به. -1011 - الحديث الحادي والأربعون: (عن ابن عباس أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يقول: (لا يَخْلُون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تُسافر المرأة إلا مع ذي محرم)، فقام رجل فقال: يا رسول الله، فإن امرأتي خرجت حاجَّة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال: (انطلق فحج مع امرأتك). * إنما اشترط المحرم لحراسة المرأة؛ لأنه ذو حمية عليها، والمحرم هو الذي لا يجوز له نكاحها، ويجوز له إنكاحها. -1012 - الحديث الثاني والأربعون: (عن ابن عباس: أن رفع الصوت بالذكر، حين ينصرف الناس من المكتوبة؛ كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال ابن عباس: (كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته). وفي حديث ابن عيينة: (ما كنا نعرف انقضاء صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا

بالتكبير). * في هذا الحديث دليل على أن رفع الناس أصواتهم بالذكر عند انقضاء المكتوبات سنة. -1013 - الحديث الثالث والأربعون: (عن ابن عباس، قال: بتُّ عند خالتي ميمونة ليلة، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل، فتوضأ من شن معلق وضوءًا خفيفًا (يخففه عمرو ويقلله) وقام يصلي. قال: (فقمت فتوضأت نحوًا مما توضأ، ثم جئت فقمت عن يساره - وربما قال سفيان: عن شماله - فحولني، فجعلني عن يمينه، ثم صلى ما شاء الله، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، ثم أتاه المنادي فآذنه بالصلاة، فقام معه إلى الصلاة، فصلى الصبح ولم يتوضأ). قال سفيان: (وهذا للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة؛ لأنه بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تنام عيناه ولا ينام قلبه). وفي رواية ابن المديني عن سفيانـ، قال: (قلت لعمرو: إن ناسًا يقولون: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنام عيناه ولا ينام قلبه). فقال عمرو: سمعت عبيد بن عمير يقول: رؤيا الأنبياء وحي، ثم قرأ: {إني أرى في المنام أني أذبحك}.

وأخرجا من رواية أخرى: (بت في بيت خالتي ميمونة، فتحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أهله ساعة، ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد، فنظر إلى (5/ب) السماء، فقال: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب}. ثم قام فتوضأ واستن، فصلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال، فصلى ركعتين ثم خرج). وفي رواية: (رقدت في بيت ميمونة ليلة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عندها؛ لأنظر كيف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فتحدث النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أهله ساعة ثم رقد). وفي رواية: (فقلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فطرحت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسادة، قال: فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهله في طولها، فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتصف الليل أو قبله بقليل، أو بعده بقليل، ثم استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل يمسح النوم عن وجهه بيديه، ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شن معلقة، فتوضأ منها، فأحسن وضوءه، ثم قام يصلي، قال عبد الله بن عباس: فقمت فصنعت مثلما صنع، ثم ذهبت فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده اليمنى على رأسي، فأخذ بأذني اليمنى يفتلها، فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى قام المؤذن، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح). وفي رواية: (نمت عند ميمونة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندها تلك الليلة، فتوضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قام فصلى، فقمت عن يساره، فأخذني فجعلني عن يمينه،

فصلى في تلك الليلة ثلاث عشرة ركعة، ثم نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نفخ وكان إذا نام نفخ، ثم أتاه المؤذن فخرج فصلى ولم يتوضأ). وفي رواية: (بتُّ عند خالتي ميمونة، فقلت لها: إذا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأيقظيني، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقمت إلى جنبه الأيسر، فأخذ بيدي فجعلني من شقه الأيمن، فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أدني، قال: فصلى إحدى عشرة ركعة، ثم احتبى، حتى إني لأسمع نفسه، راقدًا، فلما تبين له الفجر صلى ركعتين خفيفتين). وفي رواية (6/أ): (بتُّ عند خالتي ميمونة، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتى حاجته، ثم غسل وجهه ويديه، ثم نام، ثم قام، فأتى القربة، فأطلق شناقها، ثم توضأ وضوءًا بين الوضوءين، لم يكثر وقد أبلغ، ثم قام فصلى، فقمت كراهية أن يرى أني كنت أتقيه، فتوضأت، وقام يصلي فقمت عن يساره، فأخذ بيدي، فأدارني عن يمينه، فتاممت صلاته ثلاث عشرة ركعة، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، فأتاه بلال فآذنه بالصلاة، فقام فصلى ولم يتوضأ، وكان في دعائه: (اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي سمعي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، وأمامي نورًا، وخلفي نورًا، واجعل لي نورًا). قال كريب: (وسبع في التابوت، فلقيت رجلاً من ولد العباس، فحدثني بهن، فذكر عصبي، ولحمي، ودمي، وشعري، وبشري، وذكر خصلتين). وفي رواية: (وأعظم لي نورًا) بدل قوله: (واجعل لي نورًا). وفي رواية: (بت في بيت خالتي ميمونة، فبقيت - وفي رواية: فرقبت -

وفي حاشية كتاب البرقاني بخطه: فرمقت كيف يصلي النبي - صلى الله عليه وسلم -. وذكر نحوه إلى أن قال: ثم نام حتى نفخ، وكنا نعرفه إذا نام بنفخه، ثم خرج إلى الصلاة فصلى، فجعل يقول في صلاته - أو في سجود-: (اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي سمعي نورًا وفي بصري نورًا، وعن شمالي نورًا، وأمامي نورًا، وخلفي نورًا وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، واجعل لي نورًا، أو قال: واجعلني نورًا). وفي حديث عقيل: (فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلتئذ بتسع عشرة كلمة، قال سلمة: حدثنيها كريب، فحفظت منها اثنتي عشرة، ونسيت ما بقي، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي لساني نورًا، وفي سمعي نورًا، وفي بصري نورًا، ومن فوقي نورًا، ومن تحتي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن شمالي نورًا، ومن بين يدي نورًا، ومن خلفي نورًا، واجعل لي في نفسي نورًا، وأعظم لي نورًا). وفي رواية: (أتى القربة فحل شناقها، فتوضأ وضوءًا بين الوضوءين، ثم أتى فراشه فنام، ثم قام قومة أخرى، فأتى القربة فحل شناقها، ثم توضأ وضوءًا هو (6/ب) الوضوء. وقال: (أعظم لي نورًا). وفي رواية: (بتُّ عند خالتي فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل، فقمت أصلي معه فقمت عن يساره، فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه، فصلى خمس ركعات، ثم صلي ركعتين، ثم نام حتى سمعت غطيطه - أو خطيطه - ثم خرج إلى الصلاة). وفي رواية: (فأخذ بيدي أو بعضدي حتى أقامني عن يمينه). وفي رواية: (فأخذ بيدي من وراء ظهره، يعدلني كذلك من وراء ظهره إلى الشق الأيمن. قلت: أفي التطوع كان ذلك؟ قال: نعم).

وفي رواية لمسلم: فاستيقظ، فتبول وتوضأ، وهو يقول: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} فقرأ هؤلاء الآيات حتى ختم السورة، ثم قام فصلى ركعتين، أطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاث مرات: ست ركعات، كل ذلك يستاك ويتوضأ، ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث، فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة وهو يقول: (اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي لساني نورًا، فذكر الكلمات ...). * في هذا الحديث دليل على جواز أن يبيت الرجل عند خالته، وإن كانت ذات زوج.

* وفيه جواز أن يبيت المراهق إذا كان ذا قرابة من الرجل وذا قرابة من امرأته بالقرب منهما. * وفيه جواز تعليق الشنة، وهي القربة لتبرد في الهواء، ولا أرى تعليقها إلا لذلك. قال أبو عبيد: وشناق القربة ما يعلق به على الوتد من خيط أو سير. * وقوله: (وضوءًا خفيفًا)، الذي أراه أنه أراد خفيًا لم يعلم به من حوله. * وفيه دليل على أن صلاة النبي صحيحة. * وفيه دليل على أنه إذا قام الرجل إلى الصلاة يكون عن يمين الإمام. * وقوله: (نام حتى نفخ)، وهذا من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان ينام عيناه، ولا ينام قلبه، وذلك أحسن حالاً؛ لأن طبيعة الإنسان لتدل على نقص قلبه الذي يخرج مع النفس فلا تحتبس الحرنة في بدنه، وليكون أيضًا نفخه دافعًا للهوام في حالة نومه. ومعنى استن: استاك، فأما قيام ابن عباس على يسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكونه رده إلى يمينه فإن الله عز وجل أجرى ذلك ليعلم للناس موقف المأموم إذا كان وقف (7/أ) على يمينه في أول أمره فأقره على ذلك لم يعلم الناس أن الوقوف على الشمال لا يصلح، وهذا مما يستدل به على حكمة الله عز وجل في تقدير بعض الأشياء ليعلم بها غيرها. * وفيه استحباب وضوء الإنسان لنفسه بغير استعانة لقوله: (فأطلق شنان القربة ثم توضأ). * وقوله: (بين الوضوءين) المعنى أنه لم يكن يكثر من الماء وقد أبلغ.

* وفي هذا الحديث دليل على كراهية أن يراصد الرجل الرجل لقول ابن عباس: (كراهية أن يرى أني كنت أتقيه) أي أرصده وأراعيه. * وفيه أيضًا أن تهجد الليل ثلاث عشرة ركعة، وهو أكثر ما نقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وأما سؤال النور في هذا الحديث، فليس المراد به النور الشعشعاني، ولكنه النور المعنوي، وهو الذي يضيء لصاحبه في ظلام المشكلات فيشتبه به النور الشعشعاني الذي يضيء في ظلمات الأجسام فيبصر الإنسان حينئذ جواد الطرق، ويعرف أين المهاوي منها، وأين سبيل السلامة التي ليس فيها مهواة. * وفيه دليل على الاستكثار من فضل الله عز وجل؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ما جبله الله عز وجل عليه من النور الذي فضل فيه الأولين والآخرين لم يقنعه ذلك حتى سأل ربه أن يجعل في قلبه نورًا، وفي بصره نورًا، وفي سمعه نورًا، وأمامه نورًا، وفي لسانه نورًا، ومن خلفه نورًا. ثم قال بعد ذلك: (واجعل لي نورًا - أو: زدني نورًا) يعني - صلى الله عليه وسلم - أنه لما طلب لكل حاسة من حواسه وجهة من جهاته نورًا يضيء به الناحية التي يواجهها، طلب زيادة نور بعد ذلك، وأن يكون له من النور ما يملكه الله عز وجل إياه فيثبت عنده بقوله: (واجعل لي نورًا) أي لا ينسلب مني ولا ينزع عني، ثم قال بعد ذلك: (وزدني نورًا)، فكأنه قال: لا أشبع من النور الذي أدرك به معرفتك ومعاني كلامك وأسرار تسبيحك.

-1014 - الحديث الرابع والأربعون: (عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أما لو أن أحدكم قال:- إذا أراد أن يأتي أهله، أو قال: حين يأتي أهله -بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رُزقنا، ثم قدر بينهما في ذلك ولد؛ لم يضره شيطان أبدًا). -1015 - الحديث الخامس والأربعون: (عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور).

-1016 - الحديث السادس والأربعون: (قال مجاهد: سمعت ابن عباس - وذكروا له الدجال: بين عينيه كافر، أو ك ف ر - قال: لم أسمعه قال ذلك، ولكنه قال: (أما إبراهيم: فانظروا إلى صاحبكم، وأما موسى، فجعد آدم، على جمل مخطوم بخلبةٍ، كأني أنظر إليه انحدر من الوادي). وفي رواية قال: (ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به فقال: موسى آدم طوال، كأنه من رجال شنوءة، وقال: عيسي جعد مربوع. وذكر مالكًا خازن النار، وذكر الدجال). زاد في رواية: (ورأيت عيسي بن مريم مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سبط الرأس، ورأيت مالكًا خازن النار، والدجال. في آيات أراهن الله إياه: {فلا تكن في مرية من لقائه} [السجدة: 23]).

-1017 - الحديث السابع والأربعون: (عن ابن عباس، قال: (لقي ناس من المسلمين رجلاً في غنيمة له، فقال: السلام عليكم، فأخذوه فقتلوه، وأخذوا تلك الغنيمة، فنزلت: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنًا} وقرأها ابن عباس: السلام).

-1018 - الحديث الثامن والأربعون: (عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أكل أحدكم فلا يمسح يده حتى يَلْعَقها أو يُلْعِقها). -1019 - الحديث التاسع والأربعون: (عن ابن عباس قال: (قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حُمَّى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم غدًا قوم قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحجر، وأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا بين الركنين؛ ليرى المشركون جلدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم؟ هؤلاء أجْلد من كذا وكذا. قال ابن عباس: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم). وفي رواية قال: (لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - لعامه الذي استأمن فيه، قال: أرملوا؛ ليري المشركين قوتهم، والمشركون من قبل قُعَيْقِعان).

وفي رواية مختصرًا: قال ابن عباس: (إنما سعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبيت وبين الصفا والمروة ليري المشركين قوته) (7/ب). * فيه من الفقه أنه يجوز إظهار الجلد ليغتاظ العدو. * وفيه أيضًا دليل على أن المستحب في إظهار الجلد أن لا يؤذي نفسه من يجد غُبَّر شكاء؛ لقوله: (وما منع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا للإبقاء عليهم). والرمل: كالهرولة، والخبب وهو فوق المشي ودون الإسراع، والأشواط: الدوران في الطواف. والشوط: مقدار يعدو فيه الرجل. والجلد: القوة، وإنما اقتصر الرمل على ثلاثة أشواط لطفًا بهم، وهذا مما زال سببه وبقي حكمه. -1020 - الحديث الخمسون: (عن ابن عباس: أعتم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعشاء فخرج عمر رضي الله عنه فقال:

الصلاة يا رسول الله؛ رقد النساء والصبيان، فخرج ورأسه يقطر يقول: (لولا أن أشق على أمتي - أو: على الناس -لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة). وفي رواية: فخرج وهو يمسح الماء عن شقه، يقول: (إنه للوقت؛ لولا أن أشق على أمتي). وفي رواية للبخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شغل عنها ليلة، فأخرها حتى رقدنا في المسجد، ثم استيقظنا، ثم خرج علينا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: (ليس أحد من أهل الأرض ينتظر الصلاة غيركم) وكان ابن عمر لا يبالي أقدمها أم أخرها، إذا كان لا يخشى أن يغلبه النوم عن وقتها، وقل ما كان يرقد قبلها. قال ابن جريج: قلت لعطاء: فقال سمعت ابن عباس يقول: (أعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة بالعشاء حتى رقد الناس واستيقظوا، ورقدوا واستيقظوا، فقام عمر فقال: الصلاة. قال عطاء: قال ابن عباس: فخرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كأني أنظر إليه الآن، يقطر رأسه ماء، واضعًا يده على رأسه، فقال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يصلوا هكذا). قال: فاستثبت عطاء: كيف وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - على رأسه يده، كما أنبأه ابن عباس؟ فبدد لي عطاء بين أصابعه شيئًا من تبديد، ثم وضع أطراف أصابعه ثم قرب الرأس، ثم ضمها يمرها كذلك على الرأس، حتى مست إبهامه طرف الأذن مما يلي الوجه على الصدغ وناحية (8/أ) اللحية، لا يقصر ولا يبطش إلا كذلك. وفي رواية ابن جريج، قال: (قلت لعطاء: أي حين أحب إليك أن أصلي العشاء - التي يقول لها الناس العتمة - إمامًا وخلوًا؟ فقال: سمعت ابن عباس

يقول: أعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة العشاء، ثم ذكر نحوه إلى قوله: (لا يقصر ولا يبطش إلا كذلك). ثم قال: قلت لعطاء: كم ذكر لك أخرها النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلتئذ؟ قال: لا أدري. قال عطاء: أحب إليَّ أن أصليها إمامًا وخلوًا، أو على الناس في الجماعة، وأنت إمامهم فصلها وسطًا، لا معجلة ولا مؤخرة. وفي رواية لمسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شُغل عنها ليلة، فأخرها حتى رقدنا في المسجد، ثم استيقظنا، ثم رقدنا، ثم استيقظنا، ثم خرج علينا، ثم قال: (ليس أحد من أهل الأرض الليلة ينتظر الصلاة غيركم). * في هذا الحديث جواز إذكار الإمام بالصلاة ودعائه إلى الخروج إليها. * وفيه استحباب تأخير العشاء ما لم يشق على المأمومين، وقد تقدم ذكر ذلك. * وفيه أنه يستحب تأخيرها ما لم تخف غلبة النوم، فإن النوم قبلها مكروه. * وفيه أن شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن محلوقًا؛ لأنه قال: خرج وهو يقطر رأسه، ولا يقطر إلا من الشعر الوافر. * وفيه أيضًا ما يدل على أن تفرد الإنسان بعبادة دون أهل الأرض في وقت ينيله فضلاً؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ليس في الأرض من ينتظر الصلاة غيركم).

* وقوله: (أعتم بالعشاء) أي أخرها؛ فالعتمة ظلمة الليلة، ووقتها بعد غيبوبة الشفق، وقوله: (إنه للوقت) يعني وقت الفضيلة. -1021 - الحديث الحادي والخمسون: (عن عطاء قال: قال لي ابن عباس: (ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي. قال: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك) قالت: أصبرُ، فقالت: فإني أتكشف، فادع الله لي أن لا أتكشف. فدعا لها). وفي رواية البخاري عن عطاء: (أنه رأى أم زفر تلك امرأة طويلة سوداء (8/ب) على ستر الكعبة). * في هذا الحديث ما يدل على من ابتلي بمثل ما ابتليت به هذه المرأة فصبر كما صبرت كان له مثل ما وعدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه علل دخول الجنة بصبرها فاختارت الصبر، فاقتضى مفهوم الخطاب أن كل من كانت حاله مثل حالها وصبر مختارًا للصبر على العافية رجي له من فضل الله عز وجل ما رجي لها.

-1022 - الحديث الثاني والخسمون: (عن عطاء قال: كان ابن عباس يقول: (لا يطوف بالبيت حاج ولا غير حاج إلا حلَّ. قلت لعطاء: من أين يقول ذلك؟ قال: من قول الله تعالى: {ثم محلها إلى البيت العتيق}. قلت: وإن ذلك بعد المعرف؟. فقال: كان ابن عباس يقول: هو بعد المعرف وقبله. وكان يأخذ ذلك من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أمرهم أن يحلوا في حجة الوداع). وفي رواية لمسلم: (قال رجل لابن عباس: ما هذه الفتيا التي قد تشغفت - أو تشعبت - بالناس؛ إن من طاف بالبيت فقد حل؟ فقال: سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، وإن رغمتم). وفي رواية: إن هذا الأمر قد تفشغ بالناس، من طاف بالبيت فقد حل الطواف في عمرة. فقال: سنة نبيكم وإن رغمتم).

* قد مضى الكلام فيما يتعلق بالحج وقوله: (تشغفت الناس) أي حلت شغاف قلوبهم فشغلته، و (تشعبت) بمعنى تفرقت، و (تفشغ الناس) أي اتفشغ فيهم أي كثر، والراغم: الكاره، وهو مأخوذ من الرغام وهو التراب. -1023 - الحديث الثالث والخمسون: (عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لامرأة من الأنصار يقال لها أم سنان: (ما منعك أن تكوني حجيت معنا؟). قالت: ناضحان كانا لأبي فلان (زوجها)، حج هو وابنه على أحدهما، وكان الآخر يسقي أرضًا لنا، قال: (فعمرة في رمضان تقضي حجة - أو: حجة معي). وفي حديث يحيى بن سعيد: (فإذا جاء رمضان؛ فإن عمرة فيه تعدل حجة). * في هذا الحديث ما يدل على أن هذه المرأة قد كانت حجت فعرفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عمرة في شهر رمضان تعدل حجة - يعني لمن حج وقضى الفرض - ومعنى (تقضي حجة) أي تفي بها، وتقوم مقامها. -1024 - الحديث الرابع والخمسون: (عن ابن عباس، قال: سمعت (9/أ) النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لو أن لابن آدم

مثل واد من ذهب مالاً لأحب أن له إليه مثله، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب). قال ابن عباس: ولا أدري من القرآن هو أم لا؟ وفي رواية أبي عاصم: (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب). * في هذا الحديث ما يدل على أن الآدمي لا يشبعه كثرة المال، وأنه لا يملأ بطنه إلا التراب، وأن الإكثار ليس يقلل من حرصه ولا يهضم من شرهه. * والقرآن: هو ما أجمع عليه المسلمون ونقل النقل المتواتر كواف عن كواف، كما قلنا إنه اجتمع على كتبه أربعة وهم الغاية في البينات، وهذا ليس من ذلك، وقد سبق شرح هذا الحديث. -1025 - الحديث الخامس والخمسون: (عن عطاء قال: (خرجنا مع ابن عباس في جنازة ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بسرف، فقال ابن عباس: هذه زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا رفعتم نعشها فلا

تزعزعن أو لا تزلزوا، وارفقوا؛ فإنه كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - تسع نسوة، فكان يقسم لثمان ولا يقسم لواحدة. قال عطاء: والذي لا يقسم لها: بلغنا أنها صفية بنت حيي. كانت آخرهن موتًا، ماتت بالمدينة). * الزعزعة: التحريك بشدة، وإنما أمرهم بذلك احترامًا لهذه المرأة لكونها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأم المؤمنين، فلذلك كان حملها بالوقار والرفق متعينًا. وأما المرأة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقسم لها؛ فقد قال عطاء: هي صفية، وقال غيره: سودة، وإنما أراد ابن عباس أن ميمونة من اللواتي كان يقسم لهن، فلذلك وجبت الزيادة في توقيرها. -1026 - الحديث السادس والخمسون: (عن ابن عباس قال: (ليس التحصيب بشيء، وإنما هو منزل نزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). * التحصيب هو نزول المحصب، فأراد ابن عباس أن نزول المحصب ليس بواجب ولا سنة. والمحصب هو الشعب الذي يخرج (9/ب) منه إلى الأبطح في طريق منى، وكل موضع جعلت فيه الحصباء، وهي صغار

الحجارة، فهو محصب. -1027 - الحديث السابع والخمسون: (عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة وفيها ست سوار، فقام عند كل سارية، فدعا ولم يصل. وفي رواية: لما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - البيت دعا في نواحيه كلها، ولم يصل حتى خرج منه، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة. وقال: (هذه القبلة). * إنما لم يصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة؛ لأن الكعبة هي القبلة، والمصلى جميع نواحيها يأمها، إلا أنه قد جاء في حديث آخر أنه صلى فيها نافلة، وأمر النافلة خفيف، فأما الفريضة فيها فلا تصح؛ لأن المصلي يستدبر بعضها، وأما الصلاة على ظهرها فلا تصح؛ لأن المصلي لا يتوجه إلى شيء منها. * وقوله: (في قِبْلِ) أي في مقابلتها ومواجهتها. -1028 - الحديث الثامن والخمسون: (عن ابن عباس قال: مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ثلاث عشرة، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة.

وفي رواية للبخاري قال: أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن أربعين فمكث ثلاث عشرة، ثم أمر بالهجرة فهاجر إلى المدينة فمكث بها عشر سنين ثم توفي - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية عن ابن عباس وعائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبث بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن، وبالمدينة عشرًا. وفي رواية لمسلم من حديث عمار بن أبي عمار قال: سألت ابن عباس: كم أتي الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم مات؟ قال: ما كنت أحسب مثلك من قومه يخفى عليه ذلك. قال: قلت: إني قد سألت الناس فاختلفوا عليَّ، فأحببت أن أعلم قولك فيه. قال: أتحسب؟ قلت: نعم. قال: أمسك أربعين. بعث لها خمس عشرة بمكة. يأمن ويخاف، وعشرًا مهاجرة إلى المدينة. وفي رواية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي وهو ابن خمس وستين. وفي حديث حماد بن سلمة: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة خمس عشرة سنة، يسمع الصوت، سبع سنين، ولا يرى شيئًا (10/أ)، وثمان سنين يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشرًا. ولمسلم من حديث عمرو بن دينار، قال: قلت لعروة: كم لبث النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة؟ قال: عشرًا. قال: قلت لابن عباس يقول: بضع عشرة. قال: فَغَفَّرَهُ وقال: إنما أخذه من قول الشاعر، يعني قوله: ثوى في قريش بضع عشرة حجة ولمسلم من حديث أبي حمرة، عن ابن عباس قال: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ثلاث عشرة يوحى إليه، وبالمدينة عشرًا، ومات هو ابن ثلاث

وستين سنة). * المذكور في هذا الحديث من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبث بمكة ثلاث عشرة وبالمدينة عشرًا، وأن الله تعالى بعثه على رأس أربعين سنة وقبضه على رأس ثلاث وستين. وهذا هو أصح ما نقل. * فأما قوله: توفي وهو ابن خمس وستين فإنه من إقرار مسلم. والمتفق عليه عن ابن عباس ما قدمنا. * وقول ابن عباس: (لبث بمكة عشرًا يوحى إليه) فله وجهان: أحدهما: أنه ذكر العقد وترك ما زاد عليه. والثاني: أنه لما أوحي إليه استسر بالنبوة ثلاث سنين حتى نزل عليه {فاصدع بما تؤمر}، فحسب ابن عباس ما ظهر، والبضع هو ما بين الثلاث إلى التسع فأصلها القطعة من الشيء. وقوله: (فغفره) أي دعى له بالمغفرة. -1029 - الحديث التاسع والخمسون: (عن ابن عباس قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: (ما هذا؟) قالوا: يوم صالح، نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى. فقال: (أنا أحق بموسى منكم) فصامه

وأمر بصيامه. وفي حديث سفيان: فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما هذا اليوم الذي تصومونه؟) قالوا: هذا يوم عاشوراء، يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرَّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فنحن أحق وأولى بموسى منكم) فصامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر بصيامه. وفي رواية: فنحن نصومه تعظيمًا له). * قد سبق الكلام في يوم عاشوراء، وبينا أن فرضه نسخ بصوم رمضان وبقي الفضل في صومه إلى يوم القيامة. -1030 - (10/ب) الحديث الستون: (عن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب على المنبر يقول: (إنكم مُلاقو الله حفاة عراة غُرلاً). وفي رواية: (مشاة). وفي رواية: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بموعظة، فقال: (أيها الناس! إنكم

محشرون إلى الله حفاة عراة غُرلاً {كما بدأنا أول خلق نعيده وعدًا علينا إنا كنا فاعلين} ألا إن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام، ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال. فأقول: يارب أصحابي، فقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: كما قال العبد الصالح: {وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم} إلى قوله: {العزيز الحكيم}. قال: فيقال لي: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم). * في هذا الحديث من الفقه أن ما يقع من بدن الآدمي في الدنيا يعاد إليه ولا يضاع، بقوله: (غُرلاً) أي قلفًا. * قال ابن الأنباري: يقال: هو أغرل وأدغل وأخلف وأغلف مني. * وقوله: (لم يزالوا مرتدين على أعقابهم) أي راجعين عن الدين، والإشارة بهذا إلى المنافقين ومن ارتد من مانعي الزكاة وغيرهم.

-1031 - الحديث الحادي والستون: (عن ابن عباس قال: بينما رجل واقف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة، إذ وقع من راحلته. قال أيوب: فأوقصته (أو فأقعصته)، وقال عمرو: فوقصته، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه. (قال أيوب): فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيًا). وفي رواية: (في ثوبيه)، وفي رواية: (ولا تغطوا رأسه ووجهه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبدًا). وفي رواية: وقصت رجلاً ناقته، وهو محرم). * لو قص: هو أن ترمي الرجل ناقته فتكسر عنقه، والقعص الموت السريع. * وفيه من الفقه أن من كان في عبادة الله عز وجل فمات، فإنه يحشر على ما مات عليه من عبادة الله تلك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في المحرم حين مات على إحرامه: (إنه يبعث يوم القيامة ملبيًا أو ملبدًا).

والملبد: الذي يلبد شعره، وأراد به أنه يبعث على شعث الإحرام. * وهذا يقتضي أن كل من مات على عبادة حشر (11/أ) وأثر تلك العبادة عليه، وقد روي عن سفيان أنه توضأ ليلة موته ستين مرة ليموت طاهرًا. -1032 - الحديث الثاني والستون: (عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: ألمَنْ قتل مؤمنًا متعمدًا من توبة؟ قال: لا، فتلوت عليه هذه الآية التي في الفرقان: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق} .. إلى آخر الآية فقال: هذه الآية مكية، نسختها آية مدنية: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم}. وفي رواية عن سعيد بن جبير قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن، فرحلت فيه إلى ابن عباس، فقال: نزلت في آخر ما نزل ولم ينسخها شيء. وفي رواية عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية بمكة: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر} إلى قوله: {مهانا}، فقال المشركون: وما يغني عنا الإسلام وقد عدلنا بالله وقد قتلنا النفس التي حرم الله وأتينا الفواحش؟ فأنزل الله تعالى: {إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا} .. إلى آخر الآية. زاد في حديث أبي النضر: فأما من دخل في الإسلام وعقله ثم قتل،

فلا توبة له. وعن سعيد قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم}، فسألته فقال: لم ينسخها شيء، وعن هذه الآية: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق}، قال: نزلت في أهل الشرك. وفي رواية عن سعيد، قال: سألت ابن عباس عن قوله: {فجزاؤه جهنم} قال: لا توبة له. وعن قوله: {لا يدعون مع الله إلهًا آخر} قال: كانت هذه في الجاهلية) * في هذا الحديث أن مذهب ابن عباس في القاتل أنه يخلد في النار، وقد خالفه في هذا جمهور الصحابة والفقهاء، والأحاديث الصحاح التي ستأتي فيما بعد إن شاء الله، إلا أن هذه من المسائل التي يسوغ فيها الخلاف لأنها من مسائل الاجتهاد. والجمهور أسندوا ذلك إلى أدلة واضحة وحجج قاطعة، فمن ذلك هو أن الإجماع انعقد على أنه لو قتل في حال كفره مؤمنًا متعمدًا لإيمانه ثم أسلم بعد ذلك قُبِلَ إسلامه ومحي ما كان من قتله للمسلم، فإذا قتل مؤمنًا وهو مؤمن بالله عز وجل (11/ب) لم يكن ما أتى بأكثر ما كان عليه في الحالة الأولى،

وعفو الله سبحانه وتعالى يتسع له فيما أرى لأن؛ المقتول ملك لله عز وجل والقاتل ملكه، فإن وهب القاتل وهب ملكه؛ إذ فيما شرع لنا سبحانه أن من جني على عبد رجل جناية فإن أرش تلك الجناية يستحقها مولى العبد لا العبد، فلما صارت الحقوق راجعة إلى ملك الله عز وجل ووسعها عفوه لم يجز لنا أن يحصر عفوه على شيء؛ إذ لو فعلنا ذلك لكنا بمنزلة من يقول إن فضل الله عز وجل يتسع لكذا إلا كذا، وهذا فهو من فظيع القول؛ فإن الله سبحانه يقول: {ورحمتي وسعت كل شيء}. من غير استثناء لشيء ما، ومن هرب من القول بالعفو عن القاتل حذرًا من أن يقول أن يكون ذلك ظلمًا فإنه لم يفهم أن المقتول لو كان مالكًا لنفسه توجه مثل هذا؛ فأنى وهو ملك لسيده، فسيده هو الخصم فيه. * وقوله سبحانه: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا} فإنه يتناول قاتلاً يقتل مؤمنًا من أجل أنه مؤمن، وذلك إنما ينصرف إلى الكفار، ويدلك عليه قوله سبحانه: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطئًا}، وأيضًا فإن قوله سبحانه في الآية: {فجزاؤه جهنم} .. إلى آخرها فإن معناه أن هذا جزاؤه إن جازاه، وإن وهب له فله تعالى ذلك لأن الحق له. ولقد جرى لي في هذه المسألة: إني كنت ليلة جالسًا عند صهر لي وهو: كامل بن مسافر، رحمه الله، ومعنا أبو منصور بن الحصين خالي رحمة الله، ورجل آخر يعرف ابن محسن السهوباري فجرت هذه المسألة، وهل يتوب الله

على القاتل أم لا؟ فامتد التنازع، وارتفع الضجاج بيننا إلى أن تفرقنا على تنازع فيها، وكنت ليلتئذ ذا قلب شديد التطلع إلى معرفة الحق في هذه المسألة، فاطلع الله سبحانه على قلبي، فأراني في منامي تلك الليلة بعينها أني في مكان قد رأيته في النوم مرارًا، وهو مسجد دون باب السور الذي عند الحلبة، فبعد ذلك عرفت ما ذكره الخطيب في تاريخه من أنه كان هناك مسجد، ذكر من شأنه وفضله وأنه استهدم. فرأيت في النوم في تلك الليلة أنني دخلت ذلك المسجد، وهو على شكل جامع القطيعة، وفيه رجل جالس يخيط (12/أ) ثوبًا أو يرقعه، فقذف في روعي أنه رجل من علماء السلف، فسألته وقلت له: إني أريد أن أسألك عن مسألة، فقال لي: سل، فقلت له: مسألة القضاء والقدر، فقال لي: إذا كانت هذه مسألتك فاصبر حتى نصلي الجمعة وأجيبك، ثم إنه قام فخطب على منبر، ثم جئت فجلست في الصف الأول، ففي المدة التي خطب فيها ذلك الرجل، أوقع الله في نفسي أن أقول له: هل سأل أحد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه المسألة أو لا؛ ليجيبني بفتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا بفتياه هو. فأجمعت على هذا، ثم إنه قضى خطبته، ونزل فصلى، وصليت خلفه، فلما قضى صلاته عاد إلى موضعه الذي كان فيه من المسجد، فجئته وقد تحرر معي السؤال، فقلت: له، أما سأل أحد عن هذه المسألة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا علم كلمته في المنام معربًا هكذا أم غير معرب، إلا أن المعنى كان هذا، فقال في جوابه لي: بلى، فقلت له: من؟ فقال لي: المرأة التي قصتها مشهورة، فقلت له: وماذا قال لها؟ فقال: قال لها: يغفر لك، واستيقظت ولا أعرف تتمة معنى هذا الكلام ما هو.

فلما أصبحت جئت إلى صهري المذكور، وأحسب أني صليت الفجر معه في جماعة، فلما قضيت الصلاة وأخبرته بهذه الرؤيا، فرأيته وقد بلغ ذلك منه واشتد تعجبه، وقال لي: بعد أن خرجت من عندي، نظرت في كتاب تنبيه الغافلين لأبي الليث السمرقندي، فرأيته فيه عن أبي هريرة أنه قال: لقيتني امرأة فقالت: يا أبا هريرة، سل لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن امرأة زنت ثم قتلت هل لها من توبة؟ قال أبو هريرة: فقلت: لقد هلكت وأهلكت، فذهبت المرأة، قلت لنفسي: أتفتي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا؟ فجئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته الخبر، وقلت له: يا رسول الله، لقد استقبلني اليوم امرأة بأمر هائل، ثم أخبرته الخبر، فقال: (وماذا قلت لها؟) قال: قلت لها: لقد هلكت وأهكلت، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بل أنت هلكت وأهلكت يا أبا هريرة، اذهب إليها (12/ب) وقل: إن الله يغفر لك). قال أبو هريرة: فخرجت ألتمس المرأة، وأطوف عليها، وأقول: من رأى لي امرأة من شأنها وحالها، حتى جعل صبيان المدينة يقولون: جن أبو هريرة. ثم قال لي كامل رحمه الله: هذا الحديث لما وقفت عليه البارحة بعد خروجك، علمت عليه لأريكه، وذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون.

-1033 - الحديث الثالث والستون: (عن ابن عباس: لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين} صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصفا، فجعل ينادي: (يا بني فهر، يا بني عدي) - لبطون قريش - حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً؛ لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال: (أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي، تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟)، قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا. قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، فقال أبو لهب: تبًا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تبت يدا أبي لهب وتب (1) ما أغنى عنه ماله وما كسب}. وفي بعض الروايات عن الأعمش: (وقد تب). وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى: (يا صباحاه)، فاجتمعت إليه قريش، فقال: (أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم، أكنتم تصدقوني؟) قالوا: نعم، قال: (فإني نذير لكم) وذكره نحوه. وفي رواية للبخاري: لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين} جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم قبائل قبائل. قال: الشعوب القبائل العظام، والقبائل: البطون).

* في هذا الحديث من الفقه انتهاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغاية في التبليغ. * وفيه أيضًا من الحكمة البداءة في ذلك بالعشيرة الأقربين؛ من أجل أنهم أهل العلم ببواطن الإنسان وأسراره، وهم المطلعون على خفي أحواله، فلا يمكنه أن يأمر الأقربين من أهله بما يخالفهم إلى غيره، ثم يبلغ إلى الناس بعدهم. * وقوله: (تبًا لك سائر اليوم) التباب الخسران، ومعنى تبت يدا أبي لهب أي خسرتا. * وقوله: (يا صباحاه) قد سبق بيانه في مسند سلمة بن الأكوع. -1034 - الحديث الرابع والستون: (عن حصين بن عبد الرحمن السلمي، قال: (كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي (13/أ) انفض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة ولكن لُدغت، قال: فماذا صنعت؟ قلت: استرقيتُ. قال: ما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، فقال: وما حدثكم الشعبي؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب الأسلمي أنه قال: (لا رقية إلا من عين أو حُمَة).

فقال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، لكن حدثنا ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عُرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن أنظر إلى الأفق، فنظرت، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب)، ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذي يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله. وذكروا أشياء. فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ما الذي تخوضون فيه؟) فأخبروه، فقال: (هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: (أنت منهم)، ثم قام آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: (سبقك بها عكاشة). * انفض النجم: أي هوى.

* وفيه من الفقه أن الرقية جائزة وتركها توكلاً على الله تعالى أفضل منها، وكذلك الكي فإنه جائز وتركه أحسن، وأما الطيرة فلا تحل بحال. * وأما قوله: (هذه أمتك ومعهم سبعون ألفًا) فإنه يدل على أن السبعين ألفًا غير الذين رآهم، فكأن السبعين ألفًا لم يحضروا الموقف إذ لا حساب عليهم. * وأما التداوي فليس في هذا الحديث أنهم لا يتداوون، وإنما قال: (لا يكتوون) أي لا يبلغ بهم التنطع في التداوي إلى الكي، وهو آخر الأدوية، على كونه - على ما يرى الأطباء - لا يفيد طائلاً (13/ب). وأما التداوي بالعسل والحجامة وغير ذلك مما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أذن فيه، فإنه لا يقدح في توكل الإنسان، بل ربما كان فضيلة يفضل فعله تركه بالنية فيه؛ من أجل أن معرفة الطب باب واسع من أبواب معرفة الله تعالى بالاستدلال عليه بما في تركيب الآدمي ومنافع الأدوية ومقاديرها وغير ذلك، فلا يشرع في سد باب من أبواب معرفة الله عز وجل. * وقوله: (إلا من عين) أي هو من أصابه بالعين. * وقوله: (الحُمة) قال ابن قتيبة: الحمة: هو سم الحيات والعقارب وما أشبهها من ذوات السموم. * وقد تقدم الكلام في هذا الحديث في مسند عمران بن حصين وذكر عكاشة.

-1035 - الحديث الخامس والستون: (عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله عز وجل: {لا تحرك به لسانك لتعجل به}. قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه - فقال لي ابن عباس: أنا أحركهما كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحركهما. فقال سعيد: أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما. فحرك شفتيه - فأنزل الله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرآنه}. قال: جمعه في صدر كريم فقرأه: {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه}. قال: يقول فاستمع وأنصت، ثم إن علينا أن تقرأه، قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه جبريل عليه السلام بعد ذلك استمع. فإذا انطلق جبريل قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أقرأه. وفي رواية جرير: كما وعد الله عز وجل). * اعلم أن لسان العبد مخلوق، وما يقرأه من كلام الله عز وجل بلسانه لمخلوق، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرك شفتيه بما يسمعه من جبريل عليه السلام قبل إتمام الوحي، فقال عز وجل: {إن علينا جمعه} يعني في صدرك، وإلا فهو مجموع في علم الله عز وجل {فإذا قرأناه} أي قضي فاقرأه.

وقد دلت الآية على وجوب اتباع القرآن والإنصات إليه. -1036 - الحديث السادس والستون: (عن ابن عباس، قال: (أهدت (14/أ) خالتي أم حُفيد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمنًا أو أقطًا وأضبًا، فأكل من السمن والأقط، وترك الضب تقذرًا. وأكل على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان حرامًا ما أكل على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية أم حفيد بنت الحارث بن حزن خالة ابن عباس: أهدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمنًا وأقطًا وأضبًا، فدعا بهن، فأكلن على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتركهن كالمتقذر لهن، ولو كن حرامًا ما أكلن على مائدة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أمر بأكلهن. وفي رواية عن ابن عباس: (دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت ميمونة. فأتي بضب محنوذ، فأهوى إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يريد أن يأكل، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده، فقلت أحرام هو يا رسول الله؟ قال: (لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه) قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر). وفي رواية عن ابن عباس، عن خالد بن الوليد: (أنه أخبره أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ميمونة - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي خالته، وخالة ابن عباس - فوجد عندها ضبًا محنوذًا، قدمت به أختها حفيدة بنت الحارث من نجد - قال بعض الرواة: وكانت تحت رجل من بني جعفر - فقدمت الضب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وكان قلما يقدم من يديه لطعام حتى يحدث به، ويسمى له. فأهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده إلى الضب. فقالت امرأة من النسوة الحضور: أخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قدمتن له. قُلنَ: هو الضب يا رسول الله، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده، فقال خالد بن الوليد: أحرام الضب يا رسول الله؟ قال: (لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه). قال: فاجتررته فأكلته، ورسول (14/ب) الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر، فلم ينهني). وفي رواية لمسلم من حديث يزيد بن الأصم، قال: (دعانا عروس بالمدينة، فقرَّب إلينا ثلاثة عشر ضبًا، فأكل وتارك. فلقيت ابن عباس من الغد فأخبرته، فأكثر القوم حتى قال بعضهم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا آكله ولا أنهى عنه، ولا أحرمه)، فقال ابن عباس: بئسما قلتم، ما بُعثَ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مُحلِلاً ومحرمًا. إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بينما هو عند ميمونة، وعنده الفضل بن عباس وخالد بن الوليد وامرأة أخرى، إذ قُربَ إليهم خوان عليه لحم، فلما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأكل قالت له ميمونة: إنه لحم ضب، فكف يده، وقال: (هذا لحم لم آكله قط) وقال لهم: (كلوا)، فأكل منه الفضل وخالد بن الوليد والمرأة. وقالت ميمونة: لا آكل من شيء إلا شيئًا يأكل منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

* في هذا الحديث استحباب الهدية، وأن لا يحقر اليسير منها. * والمحنوذ: هو المشوي، وأعافه: أكرهه. * وفيه دليل على جواز أكل الضب، ودليل على أن ترك ما تعافه النفس مندوب إليه ولا ينسب ذلك إلى الترفه. * وفيه استحباب أن لا يسبق الإنسان إلى أكل شيء حتى يعرفه ويسمى له. * وقوله: (دعانا عروس)، العروس: هو الرجل المتزوج. والأقط: شيء يصنع من اللبن فيجفف. -1037 - الحديث السابع والستون: (عن ابن عباس، سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين؟ فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم). * في هذا الحديث محتمل لما يتجاذبه الاختلاف في أولاد المشركين. -1038 - الحديث الثامن والستون: (عن ابن عباس قال: (ما صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا كاملاً قط غير

رمضان. وكان يصوم - إذا صام - حتى يقول القائل: لا، والله لا يفطر، ويُفطر - إذا أفطر - حتى يقول القائل: لا، والله لا يصوم. وفي رواية: شهرًا متتابعًا حتى قدم المدينة. ولمسلم عن عباد بن حنيف قال: سألت سعيد بن جبير (5/أ) عن صوم رجب - ونحن يومئذ في رجب - فقال: سمعت ابن عباس يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم). * في هذا الحديث ما يدل على أن عبادات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت على سبيل الفتوح من الله عز وجل بحسب ما يقتضيه إخلاصه الصافي؛ فإن الاستمرار في عبادة لا يؤمن أن تكون النفس واقعة منها مع الاعتياد، فيمازج الإخلاص من ذلك شيء. وإذا كانت العبادة على ما ذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت على الجدد القويم من الإخلاص. -1039 - الحديث التاسع والستون: (عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجن وما رآهم، انطلق رسول الله في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين

الشياطين وبين خبر السماء، وأرسل عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: وما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو بنخل، عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن، استمعوا له، وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا {إنا سمعنا قرآنا عجبًا (1) يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدًا}. فأنزل الله عز وجل على نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن}. في آخر حديث موسى بن إسماعيل: (وإنما أوحي إليه قول الجن). * في هذا الحديث ما يدل على أن الشهب لم تكن قبل مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لقوله: (وأرسلت عليهم الشهب)، ومن خالف في هذا فليس له بينة؛ لأن الله تعالى يقول مخبرًا عنهم: {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابًا رصدًا}، فلو كان هذا معروفًا لكان المشركون يحتجون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله في هذا (15/ب) ويقولون: كيف تقول: فمن يستمع الآن يجد له شهابًا رصدًا، وهذه الشهب قد كانت تنقض من قبلك؟

ولكنهم لم يمكنهم ذلك، بل كان مما تحدد عند مبعثه - صلى الله عليه وسلم -، لكن لاشتهاره وكثرة معرفة أهل وقته به لم يكثر الرواية فيه لأجل معرفة الكل به كالأشياء المشهورة بين الكل؛ فإنها لاشتهارها لا يشتغل بنقلها؛ لأن العادة فيما ينقل ويكتب أن يكون مستطرفًا لا معتادًا. -1040 - الحديث السبعون: (عن ابن عباس: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها}. قال: أنزلت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُتوار بمكة، وكان إذا رفع صوته سمعه المشركون، فسبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك} أي: بقراءتك حتى يسمع المشركون، {ولا تخافت بها}: عن أصحابك فلا تسمعهم، {وابتغ بين ذلك سبيلاً}: أسمعهم ولا تجهر حتى يأخذوا عنك القرآن. وفي رواية: {وابتغ بين ذلك سبيلاً} بين الجهر والمخافتة). * في هذا الحديث دليل على أن المحق إذا خاف من ذكر الحق جهرًا أن يجلب أذى أو يقابله العدو بمنكر - أبيح له إخفاء قوله. وعلى هذا فالأولى سلوك الطريق الوسطى التي هي بين الجهر والمخافتة فإن الرافع صوته جدًا قد نهى

النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه، كما أن المخافت جدًا على نحوه في الخروج عن الاعتدال، وخير الأمور أوسطها. -1041 - الحديث الحادي والسبعون: (عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة التوبة، فقال: هي الفاضحة، ما زالت تقول: ومنهم ومنهم، حتى ظنوا أنها لا تبقى أحدًا إلا ذكر فيها. قلت: سورة الأنفال؟ قال: نزلت في بدر. قال: قلت: سورة الحشر؟ قال: نزلت في بني النضير. وفي حديث أبي عوانة، قلت لابن عباس: سورة الحشر، قال، قل سورة النضير). * وإنما سميت سورة التوبة الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين، وفيها من الأحوال ما ينبغي لكل مؤمن أن يعتبر نفسه بتلك الأحوال، ولا يأمن على نفسه أن يكون منافقًا، فمن ذلك قوله عز وجل: {ومنهم من يلمزك في الصدقات}، {ومنهم من عاهد الله} (16/أ) إلى غير ذلك.

* وقد ذكر العلماء أن لهذه السورة أسماء منها سورة التوبة، ومنها سورة براءة، وهذان الاسمان هما المشهوران. وقوله: (سورة الأنفال) نزلت في بدر) أي في ذكر غزاة بدر. -1042 - الحديث الثاني والسبعون: (عن ابن عباس قال: (إذ حرم الرجل عليه امرأته فهي يمين يُكفِّرُها) وقرأ: {لكم في رسول الله أسوة حسنة}. وفي حديث الربيع بن نافع: إذا حرم امرأته ليس بشيء). * اختلف العلماء فيما إذا حرم الرجل امرأته، فهذا الذي ذكرناه عن ابن عباس أنها يمين يكفرها. وهذا مروي عن أبي بكر وعائشة رضي الله عنهما إلا أنهما قالا: كفارتها كفارة الظهار. وعن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه يمين، وعنه أنه صريح في الظهار. وقال الشافعي رضي الله عنه: يرجع إلى نيته؛ فإن نوى اليمين كان يمينًا ووجبت عليه كفارة يمين، وإن لم ينو شيئًا فعلى قولين: أحدهما: لا شيء عليه، والثاني: عليه كفارة يمين.

-1043 - الحديث الثالث والسبعون: (عن ابن عباس: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي، إذ بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في سرية). * في هذا الحديث ما يدل على وجوب طاعة الأمير وأرباب الولايات من قبل الأمير. -1044 - الحديث الرابع والسبعون: (عن ابن عباس قال: (سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زمزم، فشرب وهو قائم). وفي حديث شعبة: (واستسقي عند البيت، فأتيته بدلو). وفي رواية: (فحلف عكرمة: وما كان يومئذ إلا على بعير). * هذا الحديث يدل على جواز الشرب قائمًا. وفي قول عكرمة بعد؛ لأن الراكب لا يقال له قائم.

-1045 - الحديث الخامس والسبعون: (عن الشعبي قال: أخبرني من مر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على قبر مَنْبُوذٍ، فأمهُم وصفهم خلفه، قال الشيباني: من حدثك بهذا يا أبا عمرو؟ قال: ابن عباس. وفي رواية: (أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبرًا، فقالوا: هذا دفن - أو دفنت - البارحة. قال ابن عباس: فصفنا خلفه، ثم صلى عليها). ومنهم من قال: (أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: أفلا آذنتموني؟). قالوا: دفناه في ظلمة الليل، فكرهنا أن نوقظك (16/ب)، فقام فصفنا خلفه، قال ابن عباس: وأنا فيهم، فصلى عليه). وفي رواية: (انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قبر رطب، فصلى عليه وصفوا خلفه، وكبر أربعًا). * في هذا الحديث جواز الصلاة على القبر، وجواز إعادة الصلاة على الميت. * وفيه أن التكبير على الجنازة أربع. * والمنبوذ: هو المفرد عن القبور، ومن رواه مضافًا فجعله اسمًا لرجل فليس بشيء؛ لأنه لا يعرف في الصحابة من اسمه منبوذ.

-1046 - الحديث السادس والسبعون: (عن ابن عباس قال: لا أدري: أنهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل أنه كان حمولة الناس، فكره أن تذهب حمولتهم، أو حَرَّمهُ في يوم خيبر؟ يعني لحوم الحُمُر الأهلية). * الحَمُولة: (بفتح الحاء) ما يحمل، والحُمولة (بضمها) الأحمال بعينها، وقد سبق الكلام في الحمر الأهلية. -1047 - الحديث السابع والسبعون: (عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روى عن ربه عز وجل - قال: (إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة، فإن هم بها فعملها، كتبها الله له سيئة واحدة).

زاد جعفر بن سليمان: (أو محاها، ولا يهلك على الله إلا هالك). * قوله: (كتب الحسنات والسيئات) أي قدر مبالغ تضعيفها، فعرفت الكتبة من الملائكة ذلك التقدير، فلا يحتاجون أن يستفسروا في كل وقت كيف يكتبون ذلك، بل قد شرع سبحانه ما تعمل الملائكة بحسبه، وأن الله عز وجل لما رحم هذه الأمة أخلف عليها، فقصر أعمارها بتضعيف أعمالها؛ فمن هم منهم بحسنة احتسبت له بتلك الهمة حسنة كاملة؛ لأجل أنها همة مفردة؛ لئلا يظن ظان أن ذلك ينقص الحسنة أو يُهضمها لكونها مجرد همة لم تظهر إلى الفعل، فبين ذلك بأن قال: (حسنة كاملة)، فإن هم بها وعملها فقد أخرجها من الهمة إلى ديوان العمل، فكتبت له بالهمة حسنة، ثم ضوعفت تلك الحسنة فصارت عشرة. ثم قوله: (إلى سبعمائة ضعف) فإنما يعني على مقدار (17/أ) ما يكون فيها من خلوص النية وإيقاعها في مواضعها التي يزيدها حسنًا، كما قال عز وجل: {ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنًا}. والمعنى في ذلك السبعمائة هو أن العرب تنتهي في الكثير من عقود الآحاد إلى سبعة، ولذلك أنهم متى أتوا بالثامنة عطفوا عليها بالواو، ويعنون أنه قد انتهى عدد القلة وخرجنا إلى عدد الكثرة. قال الله عز وجل: {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف} فلما تمت

أوصاف سبعة عطف بالواو فقال: {والناهون عن المنكر}. وقال عز وجل: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم} فلما ذكر السبعة قال: {وثامنهم كلبهم}، وقال في الجنة لكونها ثمانية {وفتحت أبوابها} فإذا ضربت السبعة في عشرة كانت سبعين، فإذا ضربت السبعين في عشرة كانت سبعمائة. ثم قال بعد ذلك: (أضعافًا كثيرة)، وكثيرة هنا نكرة وهي أشمل من المعرفة، فيقتضي هذا أن يحسب توخيه الكثرة على أكثر ما يمكن، ثم يقدر لتناول هذا الوعد الكريم بأن يقول إذا تصدق الآدمي بحبة بر فإنه يحسب له ذلك في فضل الله عز وجل أنه لو بذر تلك الحبة في أزكى أرض، وكان له من التعاهد والحفظ والري أوفى ما يقتضيه حالها ثم إنها إذا استحصدت نظر في حاصلها ثم قدر أن ذلك بذر في أزكى أرض، وكان التعاهد له على تلك الحال التي تقدم ذكرها ثم هكذا في السنة الثالثة، ثم يستمر له ذلك إلى يوم القيامة، فتأتي الحبة من البر أو الخردل أو الخشخاش وهي أمثال الجبال الرواسي وإن كانت مثال ذرة من جنس الأثمان فإنه ينظر إلى أربح شيء يشترى في ذلك الوقت ويقدر أنه لو بيع في أنفق سوق في أعظم بلد يكون ذلك الشيء فيه أشد الأشياء نفاقًا ثم يضاعف، وتردد هكذا إلى يوم القيامة، فأتى الذرة وربما تكون مقدارها على قدر عظم الدنيا كلها. وعلى هذا جميع أعمال البر في معاملة الله عز وجل إذا خرجت سهامها

عن نية وأغرقت في نزع قوس الإخلاص (17/ب) كانت تلك السهام ممتدة لا تنتهي عن يوم القيامة، ومن ذلك أن فضل الله سبحانه وتعالى يتضاعف بالتحويل في مثل أن يتصدق الإنسان على فقير بدرهم فيؤثر الفقير بذلك الدرهم بعينه من هو أشد فقرًا منه، فيؤثر به الثالث رابعًا، ويؤثر به الرابع خامسًا، والخامس سادسًا، وهكذا مما تطاول، فإن الله سبحانه وتعالى يحسب للمتصدق عن كل درهم عشرة فإذا تحول إلى الثاني انتقل ذلك السعر الذي كان للأول إلى الثاني فصار للثاني عشرة دراهم، وللأول عن عشرته التي انتقلت عشرة إلا أنها عشرة معشرة؛ لأن له أجره، وأجر من عمل به فكل واحد بعشرة فصارت مائة. فإذا تصدق بها الثاني صارت للثاني مائة وللأول ألف، وإذا تصدق بها الثالث صار له مائة وللثاني ألف وللأول عشرة ألف، فتضاعف إلى ما لا يعلم مقداره إلا الله تعالى؛ وذلك لأن للمتصدق الأول بالدرهم أجره وأجر من عمل به، فكلما تحول من شخص إلى شخص ضوعف ذلك للمتصدق الأول في سعره من حيث أن له مثل أجره وأجر من عمل به بالسعر الذي ينتقل إليه. * ومن ذلك أيضًا أنه إذا حاسب الله عبده المسلم يوم القيامة وكانت حسناته متفاوتات، فيهن الرفيعة المقدار التي وعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ألف ألف حسنة أو ألفي ألفي حسنة فإنه سبحانه بفضله وجوده يحسب سائر الحسنات بسعر تلك الحسنة العليا لأن جوده جل جلاله أعظم من أن يناقش من رضي عنه في تفاوت سعرين حسنتين، وقد قال سبحانه: {لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}، كما أنه إذا قال العبد في سوق من أسواق المسلمين: (لا

إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) رافعًا بها صوته كتب الله له بذلك ألفي ألفي حسنة ومحى عنه ألفي ألفي سيئة، وبنى له بيتًا في الجنة على ما جاء في الحديث. وهذا الذي ذكرناه إنما هو بمقدار معرفتنا لا على مقدار فضل الله سبحانه، فإنه فوق أن يحده أحد أو يحصره خلق. * ثم قال: (ومن هم بسيئة ولم يعملها كتبها الله له حسنة) لأن الله تعالى يحتسب للعبد لرجوعه عن السيئة (18/أ) وفكه تلك العزيمة التي كان عزمها بحسنة، فإن هو عملها كتبها واحدة أو محاها. والذي أرى في هذا أن (أو) هاهنا بمعنى الواو فإنه متى جاءت أو مخبرة عن فضل الله بشيء بين شيئين أحدهما يقتضي فضله والآخر يقتضي عدله لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله كتب كتابًا فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي). * (ولا يهلك على الله إلا هالك) يعني أن من سمع هذا عن فضل الله ثم جبن عن متاجرته أو شح عن الإنفاق في سبيله فإنه هالك غير معذور.

-1048 - الحديث الثامن والسبعون: (عن ابن عباس قال: قال محمد - صلى الله عليه وسلم -: (اطلعت في الجنة، فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء). * قد سبق الكلام على هذا الحديث في مسند عمران بن حصين. -1049 - الحديث التاسع والسبعون: (عن ابن عباس، يرويه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه؛ فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات، فميتة جاهلية).

* في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالصبر عند رؤية المكروه من الإمام. * وقوله: (شيئًا) الشيء يتناول القليل والكثير إلا أنه في هذا الموضع لا ينصرف إلى ما ينقم غالبًا. ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - لما رأى أن الإنكار على الإمام يفضي إلى الفرقة واختلاف الأمة أمر بالصبر على ذلك الشيء كراهية أن يتصل القول فيه إلى ما يفرق به الكلمة ويؤول إلى إراقة الدماء فقال: (من فارق الجماعة شبرًا) يعني به أنه من خرج من أرض عليها يد الإمام إلى أرض لا يد له عليها ولو مقدار شبر بنية المفارقة له فميتة جاهلية. * وقوله: (فميتة جاهلية) أي أنه لما كان في أمره غير مؤتمر لإمام ولا مستند إلى خلافته، كان على مثل ما كانت عليه الجاهلية، وإنما خص الموت بالذكر فقال: (ميتة جاهلية) ولم يذكر الحياة، فيقول: حياة فاسدة؛ لأنه أراد أنه من وقت مفارقته الجماعة هو في حكم الأموات. -1050 - الحديث الثمانون: (عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك (18/ب) أنبت، وبك خاصمت اللهم أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت، أن تُضلني، أنت الحي الذي لا يموت،

والجن والإنس يموتون). * في هذا الحديث من الفقه أن الإسلام درجة أولى والإيمان مقام وراء ذلك؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (لك أسلمت) ثم أتبعه بقوله: (وبك آمنت)، فلما بدأ بالإسلام ثم ثنى بالإيمان لم يبق حينئذ إلا تبين ثمرة الإيمان، وهو التوكل على الله. فقال: (وعليك توكلت) ثم لما لم يخل بسر ما يقتضي الإنابة مع ذلك كله، قال بعده: (وإليك أنبت)، ثم لما استقر ذلك كله جاء بالحب في الله والبغض في الله فقال: (وبك خاصمت) وهذا أبلغ من قوله: (وفيك خاصمت)؛ لأن ذلك يتضمن نوع تزكية للنفس، ودعوى قوله: (وبك خاصمت) يتضمن صدق التوكل، والمعنى: أنت مستندي وتفويض الانتصار بالله تعالى، وأنه خاصم في الله بدليل أنه لا ينتصر بالله إلا فيما يخاصم به فيه. * وقوله: (أعوذ بعزتك) العزة تحتمل وجهين: أحدهما: الامتناع، والثاني: ارتفاع القدر، فهو عز وجل عزيز في قلوب أوليائه، فيجوز أن يكون الإضلال فعلاً للعزة، فيكون المعنى: أعوذ بك أن تضلني عزتك أي تمنعني عظمتك واحتقاري لنفسي أن أسميك أو أصفك بما سميت به ووصفت به نفسك أو سماك ووصفك به رسلك. ويجوز أن يكون الإضلال عائدًا إلى الله تعالى؛ فقد قال الله تعالى: {ويضل الله الظالمين}.

* وقوله: (أنت الحي الذي لا يموت) وذلك أن كل حي سواه فحياته عارية، وهو الحي الدائم. -1051 - الحديث الحادي والثمانون: (عن ابن عباس (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض لا إله إلا الله رب العرش الكريم). * في هذا الحديث من الفقه أن الكرب والغم لا يزيله إلا الله، وهذه الكلمات إذا قالها عبد مؤمن عند مخافته؛ آمنه الله عز وجل من المخوف، فإذا قالها عند الخوف فقد عزل ذلك الشيء المخوف من رتبة أن يخاف لقوله: (لا إله إلا الله) ففي ضمن هذه أن لا يخاف غيره، وأن من يؤمن بهذه الشهادة فمن ضرورة الإيمان (19/أ) بها أن لا يخاف سوى الله عز وجل؛ لأن من عداه قاصر أن يفعل شيئًا ما إلا بتسليط من لا إله إلا هو، فيكون الخوف والرجاء معنيين لمن لا يفعل شيء في الوجود إلا عن إذن منه أو إقدار لفاعله على فعله. ثم أتبعها (بالتعظيم)، وكان هذا النطق تاليًا لما تقدم من التوحيد مشعرًا كل سامع بالعظمة التي لا يقوم لها شيء بحيث صغرت الخلائق والموجودات

كلها، والسموات والأرض عند ذكر هذه العظمة بحيث لم يبق لناطق جرأة على قول إلا بعد أن يتبع هذا النطق بقوله: (الحليم). فهذا كله بقوله لنفسه أن عظمته التي لا يقوم لها شيء لا يوازيها إلا حلمه تعالى وجل جلاله، ويقتضي إتباع العظمة بذكر الحلم أيضًا أن الناطق بهذا القول يتخوف أن يكون قد عصى الله سبحانه وأغضبه لما خطر في قلبه خوف لغيره فخاف من سخطه فأتبع ذلك بما تداركه بقوله: (وهو العظيم الحليم). * وفيه أيضًا أن المتجرئ عليك الذي أخافك إنما تجرأ عليك بحكم الله سبحانه لا أنه قدر أن يفعل ذلك مراغمة. وقد كنت عند عودتي من الحج سبقت أنا وأخوتي الناس في القفول فوصلنا إلى المعبر المعروف بصرصر وعليه خيمة مضروبة لجماعة من المكاسبين فحبسونا هناك من وقت ضحوة إلى بين صلاتي الظهر والعصر على شوقنا إلى أهلينا، وكوننا قد سبقنا الحاج مؤذنين بوصولهم ومخبرين بسلامتهم، فكان أصحاب المكس يتحيرون علينا غير مبالين بشيء من ذلك، وكنت أنا في أثناء ذلك أعجب من حلم الله عز وجل عنهم، وأقول من كلامي ما معناه: اللهم لا تعدم خلقك حلمك. * فأما ذكر العرش؛ فلأنه أكبر المخلوقات وأعلاها، وكل مخلوق تحته ودونه، فإذا آمنت بأن الله رب العرش العظيم، فإن العرش قد اشتمل على جميع المخلوقات، فلما ذكر التوحيد والعظمة والحلم والعرش العظيم نزل إلى ذكر السموات والأرض، فأقر بأنه خالقهما، ثم عاد فصعد إلى أعلا المخلوقات، فقال: (رب العرض الكريم)، ولما وصف العرض بالعظم وصفه بالكرم،

وليس كل عظيم كريمًا فجمع له الوصفين؛ أي أنه (19/أ) عظيم الخلقة، وهو كريم على خالقه؛ وذلك لأنه ذكر الكون من جهته بقوله: (رب العرش العظيم)، ثم ذكر بعد ذلك (رب السماوات والأرض) أي رب التحت والفوق، ثم أعاد بعد ذلك فكرر ذكر العرش، وأنه كريم، وإذا قال هذه الكلمات موقن بها زال كربه، وأي كرب يبقى مع هذه الكلمات العزيزة. -1052 - الحديث الثاني والثمانون: (عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) ونسبه إلى أبيه). * في هذا الحديث من الفقه أنه عنى بذلك العبد نفسه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا تفضلوني على يونس بن متى). قد سبق بيان هذا الحديث. -1053 - الحديث الثالث والثمانون: (عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من لم يجد إزارًا فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خُفين).

وفي رواية: (يخطب بعرفات). * في هذا الحديث جواز التعويض بالسراويل إذا لم يجد الإزار، والتعويض بالخفين إذا لم يجد النعلين، والإشارة بهذا إلى المحرم. وظاهر إطلاق الحديث أنه لا يجب عليه فدية بذلك. -1054 - الحديث الرابع والثمانون: (عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم. وفي رواية: (في عمرة القضاء). وفي رواية: (بنى بها وهو حلال، وماتت بِسَرِف). * في هذا الحديث وهم، والصحيح أن لا يتزوج المحرم، وقد ذكرنا في مسند عثمان من كتابنا هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تنكح المحرم) وسيأتي في مسند ميمونة أنها قالت: (تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن حلالان)

وميمونة أعرف بحالها ممن أخبر عنها. وقد روى أبو داود في سننه عن سعيد بن المسيب أنه قال: (وَهِمَ ابن عباس في قوله: تزوج ميمونة وهو محرم). * وإنما منع المحرم من عقد النكاح من أجل أن الحج عبادة يتلبس بها الإنسان على حاله إعراض عن الدنيا، فإن المحرم يغتسل كغسل الميت، وينزع المخيط كما يصنع بالميت، وينادي: (لبيك) (20/أ)، كأنه يجيب داعيًا يدعوه كما يجيب الميت عند النشور، كأنه قد أقبل إلى الملك العظيم لابسًا كفنه مغربًا عن المشتهيات، ولذلك شرع كشف وجوه النساء في الإحرام على معنى أن الرجال في شغل عن النظر من أجل ما يكون في القيامة. فإذا عقد النكاح في الإحرام كان منافيًا لما وضع له، وإن كان النكاح في غير هذا الموضع عبادة إلا أن هذه الحال تنافي ذلك. -1055 - الحديث الخامس والثمانون: (عن ابن عباس: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالمدينة سبعًا وثمانيًا: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. فقال أيوب: لعله في ليلة مطيرة؟ قال: عسى. وفي حديث سفيان بن عيينة: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانيًا جميعًا، وسبعًا جميعًا، قال عمرو: قلت: يا أبا الشعثاء، أظنه أخْرَ الظهر وعجَّلَ العصر،

وأخر المغرب وعجَّلَ العشاء؟ قال: وأنا أظن ذلك). وفي رواية لمسلم قال: (صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا من غير خوف ولا سفر). زاد في رواية زهير بالمدينة قال: أبو الزبير، فسألت سعيدًا: لم فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني، فقال: أراد أن لا يحرج أمَّته .. وفي حديث قرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصلاة في سفره سافرها، في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. وفي رواية: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء. وفي رواية لمسلم نحو حديث زهير عن أبي الزبير، وقال: في غير خوف ولا مطر، وقال في رواية لمسلم: خطبنا ابن عباس يومًا بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة. فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنة؟ لا أبا لك. ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع (20/ب) بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة فسألته، فصدَّق مقالته. وفي رواية: قال رجل لابن عباس: الصلاة، فسكت، ثم قال: الصلاة، فسكت، ثم قال: الصلاة، فسكت، ثم قال: لا أمَّ لك! تُعلمُنَا بالصلاة؟ كنا

نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). * مجموع هذه الأحاديث أنه يجوز الجمع بين الصلاتين في السفر من غير خوف ولا مطر. * ويجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر لأجل المطر. * وقوله: (أراد أن لا يحرج أمته) أي لا يضيق عليها في ترك الجمع لا في الحضر المعذر ولا في السفر. -1056 - الحديث السادس والثمانون: (عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أريد على ابنة حمزة، فقال: (إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم). وفي لفظ: (ما يحرم من النسب). * وقد سبق بيانه في مسند علي رضي الله عنه.

-1057 - الحديث السابع والثمانون: (عن ابن عباس: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وميمونة، كانا يغتسلان من إناء واحد). وفي رواية، عن عمرو بن دينار أنه قال: أكبر علمي، والذي يخطر على بالي، أن أبا الشعثاء أخبرني أن ابن عباس أخبره، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفضل ميمونة. وفي رواية: (أخبرتني ميمونة أنها كانت تغتسل هي والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد). * في هذا الحديث من الفقه أن إدخال المرأة يدها في الماء لا يضره. * وأنه إذا أفضلت المرأة ماء جاز للرجل الوضوء به. * وفيه أن الجنب إذا غمس يده في الماء، فالماء طاهر مطهر. -1058 - الحديث الثامن والثمانون: (عن عبد الله ابن الحارث قال: (خطبنا ابن عباس في يوم ذي رَدَغ، فأمر المؤذن - لما بلغ حي على الصلاة - قال: قل: الصلاة في الرحال، فنظر بعضهم إلى البعض كأنهم أنكروا، فقال: كأنكم أنكرتم؟ ثم قال: إن هذا فعله من هو خير مني - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - إنها عَزْمَةُ، وإني كرهت أن أحرجكم.

وفي رواية: (كرهت أن أؤثمكم، فتجيؤون تدوسون الطين إلى رُكبكم). وفي رواية: إن الجمعة عزمةُ، وقال: كرهت أن تمشوا في الدَّحْض والزَّلَلِ). * قوله: (إنها عزمة) (21/أ) يريد صلاة الجمعة، وقد دل عليها قوله: (خطبنا) وقد جاءت في بعض ألفاظ هذا الحديث مفسرة أن الجمعة عزمة. * وهذا الحديث يدل على جواز التأخر عن الجمعة لأجل المطر. * والرَّدَغ: هو الماء والطين. والدَّحْض: هو الزَّلق. * ومعنى: (أحرجكم) أضيق عليكم. -1059 - الحديث التاسع والثمانون: (حديث وفد عبد القيس): (عن أبي جمرة قال: كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس، ومنهم من قال: وكان يقعدني على سريره، فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجرِّ، فقال: إن وفد عبد القيس أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من الوفد؟ أو: من القوم؟) قالوا: ربيعة. قال: (مرحبًا بالقوم - أو: بالوفد - غير خزايا ولا ندامى). قال: فقالوا: يا رسول الله، إنا نأتيك من شُقة بعيدة، وإن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مُضَرَ، وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام،

فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا، وندخل به الجنة. قال: فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، قال: أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: (هل تدرون ما الإيمان بالله؟) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خُمْسًا من المغنم)، ونهاهم عن الدَّباء والحنْتَم والنقير والمزفَّت. قال شُعبة: وربما قال: (المُقيرِ). وقال: (احفظوه، وأخبروا به من ورائكم). وفي رواية: (أنهاكم عما ينبذ في الدُّباءِ والمقير والحنتم والمزفت). وفي رواية: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأشج - أشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة). وفي رواية حماد بن زيد: أن لا إله إلا الله وعقد واحدة. وفي حديث النضر: وسألوه عن الأشربة. وفي حديث عمرو بن علي: وإنا لا نصل إليك إلا في الأشهر الحرم، فمرنا بجمل من الأمر إن عملنا (21/ب) به دخلنا الجنة، وندعو إليه من وراءنا. وفي رواية: أن أبا جمرة قال: قلت لابن عباس: إن لي جرة تنبذ لي فأشربها حلوًا، فإذا أكثرت منه فجالست القوم فأطلت الجلوس خشيت أن أفتضح، فقال: قد قدم وفد عبد القيس وذكره. وفي رواية: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدُّباء والمزفت والنقير، وأن

يخلط البلح بالزُهْو). * في هذا الحديث من الفقه أنه يدل على أن الإيمان قول وعمل، وقد تقدم شرحنا لذلك، وإخلاله - صلى الله عليه وسلم - بذكر الحج في الأركان، فقد تقدم قولنا عليه في حديث طلحة رضي الله عنه، وإنه إنما أخل بذكره لاشتهار أمره في الجاهلية، وأنهم كانوا عليه، وجاء الإسلام فزاده شدة فلم يحتج إلى ذكره لهم. لما كان السائلون أهل غزو عرفهم ما هم إلى بيانه محتاجون من أمر الخمس في الغنائم، وكذلك نهاهم عن الأنبذة المذكورة لكونهم ممن يخاف عليهم استعمالها. * والخزايا، جمع خزيان. يقال: خزي الرجل إذا استحيا من فعل فعله على خلاف الصواب. * والندامى: جمع ندمان على فعله. * والشقة: السفر. * وقوله: (فمرنا بأمر فصل) أي بين واضح ينفصل به المراد من غيره. * والحنتم والحناتم: الجرار.

* والمزفت: السقاء الذي يطلي بالزفت وهو القار. * والنقير: أصل النخلة ينقر فيتخذ منه ما ينبذ فيه، وإنما نهاهم عن هذه الأواني؛ لأن الشراب قد يغلي فيها. * والأشج: لقب له، وإنما اسمه المنذر وقيل قيس. * والحلم والأناة، الأناة: التأني والتثبت وترك العجلة إلى أن يتضح الصواب. -1060 - الحديث التسعون: (عن أبي جمرة، قال: سألت ابن عباس عن المتعة، فأمرني بها، وسألته عن الهدي، فقال: فيها جزور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم. قال: وكأن ناسًا كرهوها، فنمت فرأيت في المنام كأن إنسانًا ينادي: حج مبرور، ومتعة متقبلة، فأتيت ابن عباس فحدثته، فقال: الله أكبر، سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية: عمرة متقبلة، وحج مبرور. وفي رواية لمسلم: تمتعت فنهاني ناس عن (22/أ) ذلك، فأتيت ابن عباس فأمرني بها. قال: ثم انطلقت إلى البيت فنمت. فأتاني آت في منامي، فقال: عمرة متقبلة وحج مبرور، فأتيت ابن عباس فأخبرته فقال: الله أكبر، الله أكبر! سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -).

* قد مضى من هذا الحديث ما يرجع إلى المتعة، وفيه أن العبد الصالح إذا قال قولاً فرأى بعض المسلمين منامًا يعضد ذلك القول- قوي قلب قائله، وكان مبشرًا له. * والهدي: ما أهدي إلى البيت، وإنما يكون من الإبل والبقر والغنم. ويقال: فيه هدي (وهدِي بكسر الدال وتشديد الياء). * وقوله: (أو شرك في دم) يدل على جواز أن يشترك السبعة في البدنة والبقرة سواء كان هديهم تطوعًا أو واجبًا، وسواء اتفقت جهات قربهم أو اختلفت، وكذلك إن كان بعضهم متطوعًا وبعضهم يؤدي ذلك عن واجب أو كان بعضهم متقربًا وبعضهم يريد اللحم. وهذا مذهب الشافعي وأحمد رضي الله عنهما. وقال أبو حنيفة: إن كانوا متقربين صح الاشتراك أو كان بعضهم متقربًا وبعضهم يريد اللحم فلا يصح، وقال مالك: إن كانوا متطوعين صح الاشتراك، وإن كان عليهم هدي واجب لم يصح. -1061 - الحديث الحادي والتسعون: (عن أبي جمرة: أن ابن عباس قال: (كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عشرة ركعة) يعني الليل).

-1062 - الحديث الثاني والتسعون: (في إسلام أبي ذر). (عن ابن عباس، قال: لما بلغ أبا ذر مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، واسمع قوله ثم ائتني، فانطلق حتى قدم مكة، وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر، فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلامًا ما هو بالشعر. فقال: ما شفيتني فيما أردت. فتزود وحمل شنة له فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه الليل، فاضطجع، فرآه علي بن أبي طالب عليه السلام، فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شئ حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده (22/ب) إلى المسجد، فظل ذلك اليوم، ولا يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه فمر به علي فقال: ما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه، فذهب به معه، ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء. حتى إذا كان يوم الثالث فعل مثل ذلك، فأقامه عليُّ عليه السلام معه، ثم قال: ألا تحدثني؟ ما الذي أقدمك هذا البلد؟ قال: إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا لترشدني فعلت، ففعل، فأخبره، فقال: فإنه حق، وهو رسول الله، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئًا أخاف عليك، قمت كأني أريق الماء فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل

على النبي - صلى الله عليه وسلم - ودخل معه. فسمع من قوله فأسلم مكانه. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري) فقال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس رضي الله عنه فأكب عليه، فقال: ويلكم، ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجاركم إلى الشام، - يعنى عليهم - فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، وثاروا إليه فضربوه، فأكب عليه العباس فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، وثاروا إليه فضربوه، فأكب عليه العباس فأنقذه). * قد سبق الكلام على هذا الحديث في مسند أبي ذر رضي الله عنه. -1063 - الحديث الثالث والتسعون: (عن سعيد بن أبي الحسن قال: (جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني رجل أصَوِّرُ هذه الصور، فأفتني فيها. فقال: ادن مني، فدنا، ثم قال: ادن مني، فدنا، حتى وضع يده على رأسه، وقال: أنبئك بما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة

صورها نفسًا فتعذبه في جهنم). فقال: إن كنت لابد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له). وفي رواية عن سعيد بن أبي الحسن، قال: (كنت عند ابن عباس إذ جاءه رجل فقال: يا أبا العباس (23/أ)، إني رجل، إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير. فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سمعته يقول: (من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها). فربا الرجل ربوة شديدة واصفر وجههن فقال: ويحك، إن أبيت إلا أن تصنع، فعليك بهذا الشجر، كل شيء ليس فيه روح). وفي رواية عن النضر بن أنس، قال: (كنت جالسًا عند ابن عباس، فجعل يفتي ولا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى سأله رجل فقال: إني رجل أصور هذه الصور. فقال له ابن عباس: ادنه، فدنا الرجل، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة، وليس بنافخ). * قد تقدم الكلام على الصور، وقوله: (كل مصور في النار يجعل له بكل صورة نفسًا) قد قدم قولنا: إن العذاب يكون على جنس الخطايا، وذلك

أنه لما ضاهى هذا المصور بجهله خلق الله فعجز عن ذلك عدل إلى تشبيه مثال يشبه الظاهر من الجثة والبدن، فأثمر له سوء مقصده أن جعل الله له تلك الصورة بعينها نفسًا تعذبه يوم القيامة حتى يكون معذبًا بما صنعت يده، فمن شاء من المصورين فليقلل ومن شاء فليكثر. * وقوله: (فربا الرجل)، الربو: ضيق الصدر وتتابع النفس، وأصله الانتفاخ. -1064 - الحديث الرابع والتسعون: (عن أبي البختري، أنه سأل ابن عباس عن بيع النخل؟ فقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع النخل حتى يأكل منه، أو يؤكل، وحتى يوزن، قال: فقلت: ما يوزن؟ فقال رجل عنده: حتى يحرز). * قد مضى الكلام في هذا الحديث، ويعني يوزن: يحرز، وهو الخرص. وذلك أنه إذا بلغ إلى أن يخرص فقد أمكن المشتري معرفة المقدار الذي يشتريه، وحينئذ يكون قد اشتد وصلح للأكل.

-1065 - الحديث الخامس والتسعون: (عن ابن عباس قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - (23/ب)، وهم يُسْلِفُون في الثمار، السنة والسنتين. فقال: (من أسلف في تمر، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم). * السلف: السلم. * وقد دل الحديث على أنه لا يجوز إلا في مقدار معلوم إلى أجل معلوم، ولا يجوز في أجل مجهول: كوقت الحصاد، وقدوم الحجاج.

أفراد البخاري -1066 - الحديث الأول: (عن المسور بن مخرمة، قال: (لما طُعِنَ عمر جعل يألم، فقال له ابن عباس، وكأنه يجزعه: يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذاك، لقد صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحسنت صحبته، ثم فارقك وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر رضي الله عنه فأحسنت صحبته، ثم فارقك وهو عنك راض، ثم صحبت المسلمين فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون. قال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضاه، فإنما ذاك مَنٌ من الله تعالى به عليّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر رضي الله عنه ورضاه، فإنما ذاك مَنٌ من الله به عليّ، وأما ما ترى من جزعي، فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبًا، لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه). * قوله: (يجزعه) أي ينسبه إلى الجزع، وإنما قصد بذلك تقوية نفسه، وأن يحسن بالله عز وجل ظنه.

* وقوله: (من أجلك وأجل أصحابك) يعني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضي عنه وأبو بكر رضي الله عنه رضي عنه، فكأنه أراد: إنما لا أدري عنه فراقكم أترضون عني أم لا؟ فأخبره عن الحال التي هو فيها موعظة لهم، وأن من أشرف على الموت كان على هذا الوصف. * وقوله: (قبل أن أراه) يحتمل أن يريد به العذاب، ويحتمل أن يعني به الله عز وجل. * وقوله: (صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحسنت صبحته) شهادة له بالصحبة وحسنها، وبرضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عمر حين فارقه، وكذلك أبو بكر، وأن عمر على جزعه صدقه في الأمرين جميعًا. * (وطلاع الأرض): هو ما طلعت عليه الشمس. -1067 - الحديث الثاني: (في صلاة الخوف): (عن ابن عباس قال: (قام النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه (24/أ) وسلم وقام الناس معه، فكبر وكبروا معه، وركع وركع الناس معه، ثم سجد وسجدوا معه، ثم قام الثانية، فقام الذين سجدوا وحرسوا إخوانهم، وأتت الطائفة الأخرى، فركعوا وسجدوا معه، الناس كلهم في الصلاة، ولكن يحرس بعضهم بعضًا).

* هذه صفة صلاة الخوف إذا كان العدو في جهة القبلة. * وقد سبق الكلام في صلاة الخوف في مسند سهل بن أبي خثمة. -1068 - الحديث الثالث: (عن ابن عباس قال: (يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء؟ وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكم أحدث الأخبار بالله، تقرؤونه محضًا لم يُشَبْ، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بَدَّلوا ما كتب الله، وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلاً؟ أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ ولا والله، ما رأينا منهم رجلاً قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم). * المحض: هو الخالص. والشوب: هو الذي يخلط به غيره. * وفي هذا الحديث من الفقه: المنع من سؤال أهل الكتاب والرجوع إلى شيء مما معهم، وذلك أن الله تعالى قد شهد أنهم قد بدلوا وغيروا، فإذا استطلع مسلم أحدًا من أهل الكتاب عن شيء من التوراة لم يأمن أن يخبره بذلك

المبدل المغير إذ كل شيء منه يجوز أن يكون التبديل قد أتى عليه، فلذلك منع منه. * فأما قوله: (ولا والله ما رأينا منهم رجلاً قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم) فإنه يحتمل أن أهل الكتاب ليس عندهم احتفال بالدين، فلذلك لم يسئلوا عنه، ويحتمل أن يكون أنهم لم يروكم أهلاً للسؤال على ما أنتم عليه من أداء الأمانة والاستحقاق لذلك، فكيف تأمنوهم أنتم على ما أخبر الله سبحانه به عنهم من الكذب والتبديل والافتراء حتى عليه جل جلاله. -1069 - الحديث الرابع: (عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى قيصر: (فإن توليت فعليك إثم الأريسيين). * هذا بعض حديث سيأتي في شرحه. * وقوله: (الأريسيين) قال الخطابي: كذا رواه البخاري اليريسيين، وهو في سائر الروايات الأيريسيين. (24/ب) قال ابن الأعرابي: الأريس: الأكَّار.

-1070 - الحديث الخامس: (عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بكتابه إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه، فحسبت أن سعيد بن المسيب قال: فدعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أن يُمزقوا كل ممزق). * كسرى: اسم ملك الفرس، كما أن قيصر: اسم ملك الروم. * ومعنى قوله: (أن يمزقوا) أي يتفرق أمرهم وينقطع ملكهم، وكذلك كان. وهذه من دلائل نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم -. -1071 - الحديث السادس: (عن القاسم بن محمد أن عائشة اشتكت، فجاء ابن عباس فقال: يا أم المؤمنين، تقدمين على فرط صدق، على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أبي بكر رضي الله عنه. وفي رواية: (استأذن ابن عباس على عائشة رضي الله عنها قبل موتها، وهي مغلوبة، قالت: أخشى أن يثني عليّ، فقيل: ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن

وجوه الناس، قالت: ائذنوا له، فقال: كيف تجدينك؟ قالت: بخير إن اتقيت، قال: فأنت بخير إن شاء الله، زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينكح بكرًا غيرك، ونزل عُذرك من السماء. ودخل ابن الزبير خلافه، فقالت: دخل ابن عباس، فأثنى عليَّ وودت أني كنت نسيًا منسيًا). * وإنما دعا ابن عباس عائشة لكونها أم المؤمنين. والفرط: المتقدم. وإضافة الفرط إلى الصدق مدح له، كقوله تعالى: {أن لهم قدم صدق}. * وقوله: (وهي مغلوبة) أي قد غلبها المرض. * وفيه جواز التبشير للمريض لتقوى نفسه؛ لأن ابن عباس بشر عائشة. * وفيه كراهية الإنسان الثناء عليه؛ لأن عائشة قالت: أكره أن يثني عليَّ. * وقوله: (كيف تجدينك؟) فقالت: (بخير إن اتَّقَيْتُ)، إنما سألها عن حال بدنها، فأخبرته هي عن حال دينها. قال: (فأنت بخير إن شاء الله) يعني أنك من أهل التقوى. * وقوله: (لم ينكح بكرًا غيرك) إنما خاطبها بحسن أدب، وإلا فالذي أراد لم ينكحك غيره، فكأنه قال: كأنك من الحور اللواتي لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان.

* وقولها: (ليتني كنت نسيًا منسيًا). قال أبو بكر الأنباري: النَّسْيُ اسم لما ينسى بمنزلة البغض اسم لما يبغض، والنسيِ اسم لما نسيت. قال الشاعر: (25/أ) كأن لها في الأرض نسيًا تَقُصُّه .... على أثرها، وإن تكلمك تبلت فمعناه: أنها تمنت أنها تكون لقا غير معتبرة ولا متوجهة، وإخال أن ذلك من يذكرها ما جرى بين المسلمين يوم الجمل، وأنها تذكرته فودت الخمول منه. وقد تقدم قولنا إنها كانت رضي الله عنها مجتهدة لها أجر واحد، وكان علي رضي الله عنه مجتهد له أجران لإصابته واجتهاده. -1072 - الحديث السابع: (عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (قال الله تعالى: كذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن لم ذلك، فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد، وسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدًا. * في هذا الحديث أن الله سبحانه وتعالى لما أغضبه إنكار من أنكر البعث بعد

الموت فقال سبحانه: (كذبني) فزعم أني لا اٌقدر على إعادته (ولم يكن له ذلك) يعني جل جلاله: أن إيجادي لقائل هذا القول هو دليلي عليه، فنسي نفسه وشده عن حاله وأذهله باطله حتى جحد ما هو بعينه البينة فيه. * وأيضًا فلأن من أنكر البعث فقد أعظم الفرية على الله عز وجل من وجوه: - منها أنه نسب جلال الله المقدس المنزه المكرم عن كل سوء إلى ما لا يرضى به غواة السفهاء من كونه يجعل عاقبة المسلم كعاقبة المحرم، ومال الذين اجترحوا السيئات، كمال الذين عملوا الصالحات. وقد قال سبحانه: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} أي أنهم بعد الموت يستوون في أن لا يعودوا. فقال جل جلاله: {ما لكم كيف تحكمون} أي كيف تحكمون بهذا القول على عدل الله وإنصافه، وأنه جل جلاله قضى في الجزاء لكل محسن بإحسان فقال: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}، وقال: {فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون}، ولو كان ما تخيله هؤلاء الكفار من لا بعث لكان المصلح والمفسد مستويي العاقبة، بل كان يفضل المفسد على المصلح بما استسلف من نيل شهواته وإنفاذ مآربه إلى غير ذلك. - ومنها أن الله سبحانه وتعالى جعل القيامة مظهرة من قدرته لما لا يظهر إلا بذلك؛ فإنه سبحانه وتعالى لما أنكر (25/ب) المنكرون بعثه سبحانه الأجسام بعد كونها عظامًا ورفاتًا - اقتضت حكمته أن يغضب لقدرته غضبة انتصار لها

بحيث يزجر الوجود زجرة فيعود كل ما كان قد اقتطعته أيدي الفناء وتملكته صولة التلاشي، زجرة واحدة فإذا الخلائق منذ لدن آدم إلى حين قيام الساعة من جهنم وإنسهم فكل دابة وطاير يطير بجناحيه ونفس منفوسة وشيخ فان وصبي رضيع وسخلة لشاة وفصيل لبعير أو سقط ألقته أمه خداجًا أو حمل في بطن، وما كان من ذلك من طائر أكله آدمي ثم أكل الآدمي أسد ثم أكل الأسد أسود ثم ماتت الأسود فأكلتها السمك في الآجام ثم أكل الآدميون السمك ثم هكذا في التغلغل والتداخل، فإذا الكل زجرة واحدة قيام ينظرون يتعارفون بينهم؛ فحينئذ يثبت لأهل الإيمان بقدرة الله عز وجل عند مشاهدتهم هذا منها ما لم يكن قبل ذلك، وترى المؤمنين من فرح لذتهم بالظفر منهم بأعدائهم المنكرين لذلك، وأنهم كانوا ملومين عند الكفار فيقولون حينئذ بألسن أحوالهم: ذلكم الله الذي أرغمناكم فيه. - ومنها أن الله سبحانه وتعالى أنزل في نص كتابه من الآيات ما استحل بها سبحانه وتعالى على عباده ووثق بها من نفسه عز وجل بمواثيق إذا فهمها عبد مؤمن استحيا أن يخطر في قلبه غير تجريد الإيمان بها كقوله: {الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} ثم تتبع ذلك قوله: {ومن أصدق من الله حديثًا}، وكقوله سبحانه: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلي وربي لتبعثن} الآية إلى آخرها. وقوله عز وجل: {وقال الذين كفروا لا تأتينا

الساعة قل بلى وربي لتأتينكم}. وهذه كلها أقسام وأيمان فمن زعم من الخلق أن لا بعث فقد زاد على التكذيب بالقول إلى أن الله سبحانه وتعالى قد أقسم بما يزعم الكافر أنه لا يبر قسمه سبحانه وتعالى فيه. - ومنها: أن القيامة وعد للمؤمنين، وإن تضمنت وعيدًا للكافرين، فإنه داخل في إنجاز وعد المؤمنين؛ لأنهم إنما عادوهم في الله عز وجل فكيف ينسب ناسب (26/أ) خالق السماوات والأرض الذي لا يجوز عليه اضطرار أو حاجة إلى خلاف وعده لعباده المؤمنين، تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. * ثم قال عز وجل: (وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك) زعم أن لي ولدًا (فسبحاني) أي تنزهت (أن أتخذ صاحبة ولا ولدًا)، لأن اتخاذ الصاحبة يكون لأهل النقص لمن يموت فيكون خلفًا منه وأما الحق سبحانه فلا نقص عنده ولا خلف منه. فهذا القول هو الذي {تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا (90) أن دعوا للرحمن ولدًا (91) وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدًا (92) إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدًا (93) لقد أحصاهم وعدهم عدًا} أي إن الإحصاء والحصر والعد لسواه سبحانه وتعالى عن الأجسام والخلق. -1073 - الحديث الثامن: (عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أبغض الناس إلى الله ثلاثة:

مُلحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه). * في هذا الحديث من الفقه أن المعاصي تغلظ بمقارنة أحوال وقوعها في أماكن ومحال تزيدها غلظة وشرًا. * الملحد: هو المائل عن الاستقامة؛ فإذا ألحد في الحرم - وهو موضع يقصده أهل الميل ليستقيموا فيه - فمال هو عن الحق في ذلك الموضع الذي يقوم لله فيه قاصد به - اشتد غضب الله عليه. * قوله: (ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية) والسنة الجاهلية: مهجورة متروكة بما جاء الله به من الإسلام ومحاسنه، فإذا أراد الإنسان استبدال الحسن من سنن الإسلام بالقبيح من سنن الجاهلية أبغضه الله عز وجل. * وقوله: (ومطلب دم امرئ) المطلب: الطالب، والدم لو وجب لإنسان طلبه بحق لكان من شأن المسلم أن يعفو عنه، ويجبن عن إراقة دم امرئ مسلم إذا كان له العفو عنه، فكيف بمن يطلب إراقة دم امرئ مسلم بغير حق. -1074 - الحديث التاسع: (عن ابن عباس: (أنه توضأ فغسل وجهه، فأخذ غرفة من ماء، فتمضمض بها واستنشق، ثم أخذ غرفة من ماء، فجعل بها هكذا، أضافها

إلى يده الأخرى، فغسل بهما وجهه، (26/ب) ثم أخذ غرفة من ماء، فغسل بها يده اليمني ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ). وفي رواية: (توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة). * قد سبق في ذكر الوضوء ما قد سبق، وبيننا الأفضل، وهذه المرة المذكورة هاهنا هي المجزئة، وكذلك تمضمضه واستنشاقه من غرفة واحدة، وإلا فالأفضل أن تفرد كل واحدة بغرفة. -1075 - الحديث العاشر: (عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كأني به أسود أفحج، يقلعها حجرًا حجرًا - يعني الكعبة). * في هذا الحديث ما يدل على أنه لابد من وقع ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك إلا أنه حينئذ تكون آية لخراب الدنيا كلها؛ لأنه بعد انهدام الكعبة فعلى الدنيا العفاء، والقيامة تكون على أثر ذلك. * والفحَجُ: تباعد ما بين الفخذين.

* ويريد بقوله: (يقلعها) يعني الكعبة. -1076 - الحديث الحادي عشر: (عن ابن عباس أن نفرًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَرُّوا بماء، فيهم لديغ أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راق؛ فإن في الماء رجلاً لديغًا أو سليمًا، فانطلق رجل منهم، فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء، فبرأ فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرًا، حتى قدموا إلى المدينة، فقالوا: يا رسول الله، أخذ على كتاب الله أجرًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله). * في هذا الحديث جواز أخذ الأجرة على القربات من الأذان والصلاة وتعليم القرآن وغير ذلك. * واللديغ: السليم. -1077 - الحديث الثاني عشر: (عن ابن عباس: أنه قال حين وقع بينه وبين ابن الزبير: (قلت: أبُوهُ الزبير، وأمه أسماء، وخالته عائشة، وجده أبو بكر، وجدته صفية). وفي رواية: (دخلنا على ابن عباس فقال: ألا تعجبون لابن الزبير، قام في أمره هذا، فقلت: لأحاسبن نفسي له حسابًا ما حاسبته لأبي بكر ولا

لعمر، وإنما كانا أولى بكل خير منه، فقلت: ابن عمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابن الزبير، وابن أبي بكر، وابن أخي خديجة، وابن أخت عائشة، فإذا هو يتعلَّى عليَّ ولا يريد ذلك، فقلت: ما كنت أظن أني أعرض هذا من نفسي فيدعه، وإنما أراه يريد خيرًا، وإن كان لابد كأن (27/أ) يَرُبَّني بنو عمي أحب إليَّ من أن يَرُبَّني غيرهم). وفي رواية: (قال ابن أبي مليكة:- وكان بينهما شيء - فغدوت على ابن عباس، فقلت: أتريد أن تقاتل ابن الزبير، فتحل ما حرم الله؟ قال: معاذ الله، إن الله كتب ابن الزبير وبني أمَيَّة مُحلِّين، وإني لا أحله أبدًا. قال ابن عباس: قال الناس: بايع لابن الزبير، فقلت: وأين لهذا الأمر عنه؟ أما أبوه فحواري النبي - صلى الله عليه وسلم -، يريد الزبير، وأما جده: فصاحب الغار، يريد أبا بكر، وأمه: فذات النطاقين، يريد أسماء، وأما خالته: فأم المؤمنين، يريد عائشة، وأما عمته، فزوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، يريد خديجة، وأما عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - فجدته، يريد صفية، ثم عفيف في الإسلام، قارئ للقرآن، والله إن وصلوني وصلوني من قريب، وإن ربوني ربني أكفاء كرام، فآثر التويتات والأسامات والحميدات، يعني: أبطنًا من بني أسد: بني تويت، وبنو أسامة، وبنو أسد، إن ابن أبي العاص برز يمشي القُدَميَّة، يعني عبد الملك بن مروان، فإنه لوى ذنبه، يعني ابن الزبير).

* في هذا الحديث من الفقه: حسن ثناء الصحابة على من أغضبهم، وذكر أحسن ما يعرفه أحدهم لأخيه في وقت غبه، فإن هذا القول من ابن عباس ليس فيه إلا ما هو حسن جميل، وما نقمه من الأفعال فإنه تلطف في ذكرها على ماله مخرج. * وقوله: (يَتَعَلَّى عليَّ) يعني يترفع. و (يَرُبَّني) بمعنى يكون أميرًا علي. * وقوله: (بنو عمي) يريد أن عبد الملك من بني عبد شمس، وعبد شمس هو أخو هاشم. * وقوله: (أبوه حواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) الحواري هو الناصر. * وقوله: (ابن ذات النطا) سيأتي ذكره في مسند عاشئة رضي الله عنها مشروحًا. * وقوله: (برز يمشي القُدَميّة) قال أبو عبيد: يعني به التبختر، وهذا مثل، ولم يرد به المشي بعينه، ولكنه أنه ركب معالي الأمور وسعى فيها وعمل بها. وقال ابن قتيبة: يقال مشى فلان القُدَميَّة والتقدمية أي يقدم لهمته وأفعاله. * وقوله: (وآثر التَّويتات والأسامات والحميدات) يعني أنه آثر قومًا من بني أسد (27/ب) بني عبد العزى من قرابته، وكأنه صغرهم وحقرهم.

* وقوله: (فإنه لوَّى بذنبه) أي أنه لم يبرز للمعروف، ويبدي له صفحته، ولكنه راغ عن ذلك وتنحى. -1078 - الحديث الثالث عشر: (عن ابن أبي مليكة، قال: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة، وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس فأخبره، فقال: (دعه فإنه قد صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية: (قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية، ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: أصاب، إنه فقيه). * في هذا الحديث جواز الإيتار بركعة منفصلة مما قبلها. * وفيه أيضًا شهادة ابن عباس رضي الله عنه لمعاوية أنه فقيه، وشهادته حجة؛ لأن الفقيه إذا شهد لآخر بالفقه ثبت فقه المشود له، خلاف ما لو شهد له بذلك غير فقيه ولا سيما شهادة ابن عباس فإنه فقيه الأمة وحبرها، فإذا شهد لمعاوية بالفقه فناهيك بها شهادة. -1079 - الحديث الرابع عشر: (قال ابن عباس: {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا} خفيفة.

زاد في رواية البرقاني: كانوا بشرًا ضعفوا ونسوا، وظنوا أنهم قد كذبوا ذهب بها هناك وأومى بيده إلى السماء. وفي رواية البخاري: ذهب بها هناك فتلا: {حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}، وقال ابن أبي مليكة: فلقيت عروة بن الزبير فذكرت ذلك فقال: قالت عائشة: (معاذ الله، والله ما وعد الله ورسوله من شيء إلا علم أنه كائن قبل أن يموت، ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى خافوا أن يكون من معهم يكذبونهم قال: وكانت تقرؤها: {وظنوا أنهم قد كذبوا} مثقلة). * في هذا الحديث من الفقه ما يدل على أن الله سبحانه سامح عباده بما تحدث في نفوسها عند الأشياء المزلزلة للإيمان، مما لا يمكن التعبير عنه بأكثر من الاعتراف له سبحانه بالعجز عن الشكر بمقدار ما يستحقه، إلا أن في هذا الحديث مما ذكرته عائشة جوابًا عما ذكره ابن عباس، وعلى ذلك فأن القراءة المشهورة هي تشديد الذال، وما ذكرته عائشة هو الصحيح. * وفي (28/أ) هذا الحديث ما يدل على أن ذلك الوقت الذي تتناهى فيه الشدة هو الوقت القريب من الفرج ونزول النصر لقوله سبحانه: {جاءهم نصرنا}.

-1080 - الحديث الخامس عشر: (عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (في العسل والحجم الشفاء). وفي رواية للبخاري عن ابن عباس قال: (الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى أمتي عن الكي). * في هذا الحديث ما يدل على أن التداوي بما ذكر سنة، وأن ما يجري مجراه من القياس عليه يفضل فعله تركه بالنية فيه، وقد تقدم ذكر ذلك.

-1081 - الحديث السادس عشر: (عن ابن عباس: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يطوف بالكعبة بزمام أو غيره، فقطعه). وفي حديث هشام: (يقود إنسانًا بخزامة في أنفه، فقطعها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم أمره أن يقود بيده). * في هذا الحديث ما يدل على أنه لا يجوز أن يقاد الآدمي بما يقاد به الدواب؛ لأن الله تعالى كرم بني آدم، فلا يجوز أن يخرم أنف أحدهم كما يخرم أنف البعير، وعلى هذا يقاس كل شيء من جنس الحبل فرقًا بين الآدمي والدابة. -1082 - الحديث السابع عشر: (عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: {قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربي} فقال سعيد بن جبير: قربى آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال ابن عباس: عجلت، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة. فقال: (إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة).

* في هذا الحديث من الفقه: أن الله تعالى إنما أنزل الكتاب على رسوله ليبلغه إلى عباده، وأن قول الله عز وجل: {قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربي} ومعناه أنه أراد أن القربى التي بيني وبينكم يا معاشر العرب، هي التي حملتني على حرصي على إيمانكم أول الخلق، وتقديكم في الإنذار على جميع العالمين فهذا تأويل الآية على ما كان يقوله الشيخ محمد بن يحي رحمه الله، وهو يعني ما ذكر عن ابن عباس على أن حب آل رسول الله (28/ب) - صلى الله عليه وسلم - فريضة على كل مسلم، وقد تقدم شرحنا لذاك الحديث. -1083 - الحديث الثامن عشر: (عن ابن عباس، قال: (خلال من خلال الجاهلية: الطعن في الأنساب، والنِّياحة، ونسي الثالثة. قال سفيان: ويقولون: الاستسقاء بالأنواء). * في هذا الحديث ما يدل على أن كل واحد من هذه الخصال الثلاث حرمه، وقد رفع الله عز وجل سير الجاهلية بآداب الشريعة والحمد لله رب العالمين. -1084 - الحديث التاسع عشر: (عن ابن عباس قال: (دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - البيت، فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم، فقال: أما هم، فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه

صورة. هذا إبراهيم مصور فما له يستقسم). وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت، ورأى إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام، فقال: قاتلهم الله، والله ما استقسما بالأزلام قط). وفي رواية: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم، أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل وفي أيديهما الأزلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قاتلهم الله، أما والله قد علموا أنهما لم يستقسما بهما قط) فدخل البيت، فكبر في نواحيه ولم يصل فيه). * في هذا الحديث ما يدل على تحريم الصور؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امتنع من الدخول إلى البيت الحرام لكون الصور فيه فما ظنك بغير ذلك من البيوت. * وفيه أيضًا تحريم الاستقسام بالأزلام. * وفيه أيضًا حجة على أن تستعمل مكان ما لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنهما لم يستقسما بالأزلام قط) والأزلام قد فسرناه في مسند سعد بن أبي وقاص. -1085 - الحديث العشرون: (عن ابن عباس، قال: (ليس السعي ببطن الوادي بين الصفا والمروة سنة،

إنما كان أهل الجاهلية يسعونها، ويقولون: لا نُجيزُ البطحاء إلا شَدًا). * قد بينا أن الرمل والطواف بالبيت في الأشواط الثلاثة إنما كان لإظهار (29/أ) الجلد. وذلك المعنى موجود في السعي لأدفع من فطنة المشركين بإيهان الحمى للمسلمين فيما خيف منه. وقد تقدم قولنا في هذا الأمر مما بقي حكمه بعد زوال سببه؛ ليكون ذلك مشيرًا إلى جواز استعمال مثله في غير الطواف والسعي إرغامًا للعدو وكيدًا له. * فأما قول ابن عباس رضي الله عنه: (ليس السعي بين الصفا والمروة بسنة) يحتمل أن يكون أليس بسنة بإسقاط همزة الاستفهام يعني: أليس السعي بسنة؟ وما ذكره عن الجاهلية فإنه يعني فيما أرى أن فعل الجاهلية وإن كان موافقًا لما فعله المسلمون في الصورة فقد خالفه في القصد. -1086 - الحديث الحادي والعشرون: (عن ابن عباس قال: (انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة، بعدما ترجل وادهن، ولبس إزاره ورداءه، هو وأصحابه، فلم ينه عن شيء من الأردية والأزُر إلا المزَعْفَرة التي تردع على الجلد، فأصبح بذي الحُليْفة، فركب راحلته، حتى استوى على البيداء أهل هو وأصحابه، وقلد بدنته، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة، فقدم مكة لأربع خلون من ذي الحجة، فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، ولم يحل من أجل بُدْنه؛ لأنه قلدها، ثم نزل بأعلى مكة عند

الحجون، وهو مُهل بالحج، ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة، وأمر أصحابه أن يطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يقصروا رؤوسهم، ثم يحلوا، وذلك لمن لم يكن معه بدنة قلدها، ومن كانت معه امرأته فهي له حلال، والطيب والثياب). وفي رواية: (قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة فأمر أصحابه أن يطوفوا بالبيت وبالصفا والمروة، ثم يحلوا، ويحلقوا ويقصروا). * المزعفرة: التي تصبغ بالزعفران، ومعنى تردع الجلد: أي تصبغه وتنفض صبغها عليه، وأصل الردع الصبغ والتأثير، ويقال: ثوب رديع، أي مصبوغ. وسيأتي ذكر حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسند جابر مشروحًا إن شاء الله تعالى. -1087 - الحديث الثاني والعشرون: (عن ابن عباس، قال: (يطوف (29/ب) الرجل بالبيت ما كان حلالاً، حتى يُهلَّ بالحج، فإذا ركب إلى عرفة فمن تيسر له هديه من الإبل أو البقر أو الغنم، ما تيسر له من ذلك، أي ذلك شاء، غير أنه إن لم يتيسر له فعليه ثلاثة أيام في الحج، وذلك قبل يوم عرفة، فإن كان آخر يوم من الأيام الثلاثة يوم عرفة فلا جناح عليه، ثم لينطلق حتى يقف بعرفات من صلاة العصر إلى أن يكون الظلام، ثم يدفعون إلى عرفات، فإذا أفاضوا حتى يبلغوا جمعًا الذي

يتبرَّرُ فيه، ثم ليذكروا الله كثيرًا، ويكثروا من التكبير والتهليل قبل أن يصبحوا، ثم أفيضوا فإن كان الناس، وقال الله {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} حتى يرموا الجمرة). * هذا الحديث طرف من حديث الحج وسيأتي في مسند جابر إن شاء الله تعالى. -1088 - الحديث الثالث والعشرون: (عن ابن عباس (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا بكر رضي الله عنه على الحج، يخبر الناس بمناسكهم، ويبلغهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى أتوا عرفة من قبل ذي المجاز، [فلم يقرب الكعبة ولكن شمر إلى ذي المجاز] وذلك أنهم لم يكونوا استمتعوا بالعمرة إلى الحج). * وهذا طرف من حديث الحج وفي مسند جابر يشرح أحوال الحج مستوفيًا إن شاء الله على أنه قد سبق من ذكر الحج ما قد سبق.

-1089 - الحديث الرابع والعشرون: (عن مجاهد قال: (قلت لابن عباس: أأسجد في (ص) فقرأ: (ومن ذريته داوود وسليمان} - حتى أتى-: {فبهداهم اقتده} فقال: نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ممن أمر أن يقتدي بهم). وفي رواية البخاري قال: (ليست (ص) من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها). * في هذا الحديث ما يدل على أن السجود في غير هذه السورة من العزائم؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجد في (ص) وليست من عزائم السجود. -1090 - الحديث الخامس والعشرون: (عن ابن عباس قال: (كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال الله تعالى لهذه الأمة: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء} فالعفو: أن يقبل الرجل الدية من أخيه في العمد و {اتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} والإحسان: أن يطلب هذا بالمعروف، ويؤدي هذا بإحسان {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} مما كتب على من كان قبلكم، {فمن اعتدى بعد ذلك} قتل بعد قبول (30/أ)

الدية). * في هذا الحديث ما يدل على أن من جملة ألطاف الله سبحانه لهذه الأمة، أنه شرع العفو عن الدم وقبول التوبة من القاتل وذلك تخفيف من ربنا ورحمة. قال سعيد بن جبير: يقال إنه كان حكم الله على أهل التوراة أن يقتل قاتل العمد، ولا يعفى عنه، ولا يؤخذ منه دية، فرخص الله لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن شاء ولي المقتول عمدًا قتل، وإن شاء عفى، وإن شاء أخذ الدية عند الجمهور. -1091 - الحديث السادس والعشرون: (عن ابن عباس: {فيما عرضتم به من خطبة النساء}. يقول: إني أريد التزويج، ولوددت أن تيسر لي امرأة صالحة). * في هذا الحديث ما يدل على أن التعريض بذكر النكاح للمعتمدة من وفاة

زوجها مباح، وإنما رخص الله عز وجل في التعريض لنكاحها إذا ما احتاط للميت بتطويل عدتها فإنه جعل عدتها أربعة أشهر وعشرًا. والذي أرى أن الحكمة في تعيين هذا العدد لبراءة رحم المتوفى عنها زوجها بيقين، هو أن الله سبحانه وتعالى لما شرع لبراءة الأرحام ثلاثة قروء، على اختلاف الناس في القروء وهل هي الأطهار أو هي الحيض؟ فإنه لا يتم ثلاثة قروء حتى تستكمل ستة ما بين طهر وحيض، فنظرت فإذا مذهب أهل الحجاز في أكثر الحيض أنه خمسة عشر يومًا. ومذهب أهل العراق في أكثر الطهر أنه سبعة وعشرون يومًا فإذا جمعنا أكثر الحيض عند من مذهبه الأتم في عدد أيامه وحسبنا الطهر على مذهب من مذهبه الأتم في عدد أيامه كان احتياطًا بالجمع بين المذهبين اللذين عليهما العمل مذهب أهل الحجاز ومذهب أهل العراق فاجتمع من ذلك عن كل قرء اثنان وأربعون يومًا، فإذا حسبنا ذلك ثلاث مرات كان مائة وستة وعشرين يومًا، فيكون هذا في الحساب أربعة أشهر وستة أيام فتبقى أربعة أيام مما نطق به القرآن وذلك لجواز أن تتوالى تلك الأشهر الأربعة نواقص فكملت بالأربعة أيام، فإذا جلست المرأة في عدة زوجها المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرًا (30/ب) فقد اعتدت ثلاثة قروء على كمال المذهبين في تمام الطهر وتمام الحيض بيقين احتياطًا من الشرع المتوفى عنها زوجها لئلا يلتحق بالميت نسب غيره. -1092 - الحديث السابع والعشرون: (عن ابن عباس: {عتل بعد ذلك زنيم} قال: رجل من قريش له زنمة مثل

زنمة الشاة). * في هذا الحديث ما يدل على نزول هذه الآية في شخص بعينه. وجمهور العلماء على أنه الوليد بن المغيرة، وإن كان العتل على الإطلاق هو الغليظ الجاف، والزنيم: الدعي. -1093 - الحديث الثامن والعشرون: (عن ابن عباس: {لتركبن طبقًا عن طبق} حالاً بعد حال، قال هذا نبيكم - صلى الله عليه وسلم -). * هذا التفسير من ابن عباس إنما يقع على قراءة من فتح الباء، وهي قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي وابن عباس رضي الله عنه قال في تفسيره: (لتركبن حالاً بعد حال). وابن مسعود رضي الله عنه قال: لتركبن سماء بعد سماء، فأما قراءة باقي السبعة فبضم الباء فهو خطاب لجميع الناس.

-1094 - الحديث التاسع والعشرون: (عن ابن عباس قال: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} قال: هم نفر من بني عبد الدار). * هذا الحديث يدل على أن هذه الآية نزلت في قوم متعينين، وإن كان حكم الآية يتناول كل من كانت حاله مثل حال هؤلاء الذين نزلت فيهم. * قال المفسرون: الصم هو انسداد منافذ السمع، وهو أشد من الطرش، والبكم: الخرس. ولو لم يكن القوم صمًا ولا بكمًا في الصورة، ولكنهم أعرضوا عن سماع ما يهديهم وعن التكلم بما ينفعهم كانوا صمًا بكمًا في المعنى. -1095 - الحديث الثلاثون: (قال ابن عباس: (أمره أن يسبح في أدبار الصلوات كلها، يعني قوله: {وأدبار السجود}).

* في هذا الحديث ما يدل على الندب إلى التسبيح على أثر كل صلاة. روى مجاهد عن ابن عباس، قال: المراد به التسبيح باللسان في أدبار الصلوات. وقال ابن زيد: المراد بها النوافل بعده المفروضات. وفي ذلك من المعنى أن الصلاة عند المؤمنين وقت غنيمة لانقطاعهم، وخلوهم فيها بمحبوبهم، مفكرين في أذكارها متدبرين ما يقرأونه من كلام (31/أ) مولاهم الكريم فيها، فإذا قضوا فرائضهم منها لم يرض المؤمن لنفسه أن لا يكون مشرئبًا إلى النافلة منها بعد الفريضة ومتطلعًا إليها لأنها مقام في مواصلة، فإذا اقتصر منها على ما فرضه الله عليه أشعر بحاله أنه لو لم يفرض عليه ما فرض لم يكن واقفًا بهذا الباب الكريم تطوعًا من قبل نفسه فإذا أتبعها بالنوافل كان بذلك دالاً على تيقظه لما له في الصلاة من الخير، وهذا هو يكون شرح القول بأن النوافل خلف الفريضة أي السبحة بعد الصلاة. فأما الوجه الآخر الذي هو التسبيح بالأذكار من غير صلاة؛ فإن المؤمن في صلاته تقتضي حاله عند كل فعل من أفعال الصلاة أن يأتي بذكر من الأذكار المشروعة التي يضيق عنها زمن الصلاة؛ فإذا فرغ من الصلاة واستدرك من الأذكار بتكرير التسبيح والتهليل والتحميد وقول: لا حول ولا وقوة إلا بالله العلي العظيم وسؤال ما يسأل من فضل الله تعالى مما يتبعه صلاته في وقت لا يختلف في جواز قوله إياه فيه. -1096 - الحديث الحادي والثلاثون: (عن ابن عباس {الذين بدلوا نعمت الله كفرًا} قال: هم كفار قريش. قال

عمرو: هم قريش، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - نعمة الله، {وأحلوا قومهم دار البوار} قال: النار، يوم بدر. وفي رواية عن ابن عباس قال: هم كفار أهل مكة). * في هذا الحديث ما يدل على أن نزول هذه الآية في أهل مكة، وقد ذكر بيان قوله: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم} وحكم هذه حكم تلك. -1097 - الحديث الثاني والثلاثون: (عن مجاهد {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا} قال: كانت هذه العدة، تعتد عند أهل زوجها واجب، فأنزل الله عز وجل: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا وصية لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف} [البقرة: 240]. قال: فجعل الله تمام السنة وصية إن شاءت سكنت (31/ب) في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله تعالى: {غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم}، والعدة كما هي واجب عليها. يرغم ذلك ابن أبي نجيح عن مجاهد. وقال ابن أبي نجيح، وقال عطاء: قال ابن عباس: نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها، فتعتد حيث شاءت، وهو قول الله تعالى: {غير إخراج}. قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهلها، وسكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت

لقول الله عز وجل: {فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن}. قال عطاء: ثم جاء الميراث، فنسخ السكنى، فتعتد حيث شاءت، ولا سكنى لها]. * في هذا الحديث ما يدل على أن المنسوخ حكمه بالكتاب العزيز في الآية الأخرى. -1098 - الحديث الثالث والثلاثون: (عن ابن عباس يقرأ: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين}. قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا). * هذا المذكور هو مذهب ابن عباس في هذه الآية، والجمهور على أنها منسوخة بقوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}.

-1099 - الحديث الرابع والثلاثون: (عن ابن عباس قال: كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع). * في هذا الحديث من الفقه أن العمل على ما انتهى عليه الأمر أخيرًا فإنه خرج عباده في فرض الفروض عليهم بما اقتضته حكمته إلى أن استقرت الأمور على ما لا نسخ له إلى يوم القيامة. -1100 - الحديث الخامس والثلاثون: (عن ابن عباس، قال: (صارت الأوثان التي كانت لقوم نوح في العرب تعبد، أما (ود) فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما (سُواعُ) فكانت لهذيل، وأما (يغوث) فكانت لمراد، ثم لبني غُطيف بالجرف عند سبأ، وأما (يعوق) فكانت لهمدان، وأما (نسر) فكانت لحمير، لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تُعْبَد،

حتى إذا (32/أ) هلك أولئك، وتنسخ العلم عُبِدت). * فيه من الفقه ما يدل على أن الله عز وجل أنقذ العرب بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من هلك كان قد تفاقم بهم على عبادة الأصنام واتخاذ الأوثان، فمن الله على الخلق عامة وعلى العرب خاصة. * وفيه أيضًا أن الشيطان توصل إلى ذلك من طريق تصور الصور. -1101 - الحديث السادس والثلاثون: (عن عطاء عن ابن عباس: كان المشركون على منزلتين من النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون، كانوا مشركي أهل حرب، يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركو أهل عهد، لا يقاتلهم ولا يقاتلونه، وكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طَهُرتْ حَلَّ لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح رُدَّتْ إليه، وإن هاجر عبد منهم أو أمة فهما حُران، ولهما ما للمهاجرين، ثم ذكر من أهل العهد مثل حديث مجاهد: وإن هاجر عبدًا أو أمة من أهل العهد لم يردوا، ورُدَّت أثمانهم. وقال عطاء: عن ابن عباس: كانت قريبة بنت أبي أمية عند عمر بن الخطاب، فطلقها فتزوجها معاوية بن أبي سفيان، وكانت أم الحكم بنت أبي سفيان تحت عياض بن غنم الفهري،

فطلقها فتزوجها عبد الله بن عثمان الثقفي). * في هذا الحديث ما يدل على الحال التي كانت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين ومن المشركين، وأن المؤمنات كن إذا هاجرن امتحن فإذا أعلمن مؤمنات لم يرجعن إلى الكفار وهن مؤمنات لم يؤمن أن يوطأن فتحمل المؤمنة من كافر، فيعود ذلك مانعًا لها مما هاجرت له، فلسن في ذلك كالرجال لأنه لا نخاف على الرجال ما نخاف على النساء من ذلك ثم شرع الله عز وجل رد ما أنفق الكفار على المؤمنات، يعني من المهور لأنه لم يعن بالنفقة في هذا الموضع إلا المهور. -1102 - الحديث السابع والثلاثون: (عن ابن عباس، قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فلما كان الإسلام فكأنهم تأثموا أن يتجروا في المواسم، فنزلت: {ليس عليكم جناح (32/ب) أن تبتغوا فضلاً من ربكم} في مواسم الحج. قرأها ابن عباس).

* في هذا الحديث ما يدل على أن التجارة في الحج مباحة. -1103 - الحديث الثامن والثلاثون: (عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} فكتب عليهم أن لا يفر واحد من عشرة. وقال سفيان - غير مرة - أن لا يفر عشرون من مائتين، ثم نزلت: {الآن حفف الله عنكم} الآية، فكتب أن لا يفر مائة من مائتين. زاد سفيان مرة: نزلت: {حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون} قال سفيان: وقال ابن شبرمة: وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا. وفي رواية: لما نزلت: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} شق ذلك على المسلمين، حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة، فجاء التخفيف، فقال: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين} فلما خفف الله عنهم من العدة، نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم]. * في هذا الحديث من الفقه أن الحكم كان في أول الإسلام وجوب ثبوت المؤمن لعشرة من المشركين وأن لا يفر منهم، وكان هذا مناسبًا للإيمان بالله

واليوم الآخر؛ لأن المؤمن يقاتل بصدق عزمه وقوة قلبه فيبين أمارة اعتضاده بربه وثقته بنصره غير أن الله تعالى لما علم أن في المؤمنين القوي والضعيف أراد اللطف بالضعيف وأن لا يكلفه الوقوف في مقام القوي فحط درجة القوي إلى الضعيف فوضع من العشرة ثمانية فبقي كل مؤمن إزاء كافرين فلا يحل له أن يفر من اثنين إذ لا يليق بالحال أن يجعل بإزاء المؤمن كافر أبدًا. * وقوله: {فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا} لفظه لفظ الخبر، ومعناه: الأمر، والمعنى: تقاتلوا مائتين فعرض على الرجل أن يثبت لرجلين فإن زادوا جاز له الفرار، وعلى هذا فإنه مباح للواحد أن يحمل ويلقى نفسه على العشرة والمائة والألف إذا رأى أن في ذلك إظهار العزة للإسلام وشدًا لقلوب المؤمنين، فإن غلب على ظنه أنه إن قتل في حملته تلك أن ذلك يعود بوهن ما على الإسلام لم يستحب (33/أ) له ذلك. * وفي الحديث أيضًا ما يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبغي أن يجتنب أهله في مكابدته ما يجتنبه المجاهدون وأن لا يرجعوا لقلة عن كثرة، لكن إذا أمكن رفع ذلك إلى الإمام وولى الأمر أو خيف من أن يفرق فيه كلمة يكون المنكر فيها أعظم أمسك. * وفيه أيضًا أن الله سبحانه يلقي صبره على عبده بمقتضى ما يكون من عزمه وجده، فإن زاد زيد له وإن نقص من عزمه فبحسب ذلك. -1104 - الحديث التاسع والثلاثون: (عن عمرو قال: قرأ ابن عباس: {ألا إنهم يثنون صدروهم ليستخفوا منه ألا

حين يستغشون ثيابهم}، قال: وقال غيره: عن ابن عباس: أنه قرأ: {ألا إنهم تثنوني صدروهم}. قال الراوي: فسألته عنها، قال: كان أناس يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنزل ذلك فيهم). * في هذا الحديث من الفقه إعلام الله عز وجل عباده أنه لا يخفى عليه شيء من سرهم ولا نجواهم، وأن الذين يثنون صدروهم أو يثنوني صدروهم بالسرار والقول الخفي فإنه يسمعه الله ويعلمه، وأرى التحذير في هذه الآية من أن يثني الإنسان صدره لنجوى أحد إلا فيما يستحسن أن يسمعه ربه فإن قوله تعالى: {ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون}، فإنه عنى سبحانه وتعالى إنما تستر الأثواب من الآدمي في الليل والنهار من العورة فإنه باد لله عز وجل، وإنما يستره ثوبه من مثله، وهذا فهو انكشاف من معذور فيه لأنه ليس من كسبه، فأما الانكشاف بعورة من قوله فإنه غير معذور فيه؛ لأنها من كسبه ولاسيما وهو يجمع فيها بين ذل أو فاحشة المناجي عن أن يجهر بها لخصمه وبين أن يجاهر بها ربه. * وفيه أيضًا دليل على كراهية أن يعرى الرجل في الليل عند جماعه لأهله

مفضيًا (33/ب) بفرجه إلى السماء. * وأما قراءة من قرأ: {تثنوني صدروهم} على وزن تفعوعل. * المصدور: ومعناه المبالغة في تثني الصدور. -1105 - الحديث الأربعون: (حديث إبراهيم عليه السلام وهاجر أم إسماعيل عليهما السلام. عن أيوب بن أبي تميمة السَّختياني، وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة،- يزيد أحدهما على الآخر - عن سعيد بن جبير، قال ابن عباس: (أول ما اتخذ النساء المنطق: من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقًا. وقال الأنصاري عن جريج، قال: أما كثير بن كثير: فحدثني قال: إني وعثمان بن أبي سليمان جلوس مع سعيد بن جبير، فقال: ما هكذا حدثني ابن عباس ولكنه قال: أقبل إبراهيم بإسماعيل وأمه وهي ترضعه، معها شنة - لم يرفعه- ولم يزد الأنصاري على هذا. وفي أول الحديث عن البرقاني: من حديث عبد الرزاق عن معمر عن أيوب، وكثير، ولم يذكره البخاري (أن سعيد بن جبير، قال: سلوني يا معشر الشباب، فإني قد أوشكت أن أذهب من بين أظهركم، فأكثر الناس مسألته، فقال له رجل: أصلحك الله، أرأيت هذا المقام، أهو كما كنا نتحدث؟ قال: وما كنت نتحدث؟ قال: كنا نقول: إن إبراهيم عليه السلام حين جاء عرضت

عليه امرأة إسماعيل النزول، فأبى أن ينزل، فجاءت بهذا الحجر، فقال: ليس كذلك). من هاهنا ذكر البخاري بهذا الإسناد المتقدم في أول الترجمة عن أيوب، وكثير عن سعيد بن جبير، قال سعيد: قال ابن عباس: (أول ما اتخذ النساء المنطق: من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقًا لتُعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هناك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقًا، فتتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي، الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت. فانطلق إبراهيم (34/أ) عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية - حيث لا يرونه- استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الدعوات فرفع يديه فقال: يارب {إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع- حتى بلغ- لعلهم يشكرون}، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط- فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا؟ فلم تر أحدًا، فهبطت من

الصفا، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت، سعي الإنسان المجهود، حتى إذا جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها، فنظرت، هل ترى أحدًا؟ فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فلذلك سعى الناس بينهما)، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا، فقالت: صه- تريد نفسها- ثم تسمعَت فَسَمِعَتْ صوتًا، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غُواثُ، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه، -أو قال: بجناحه، حتى ظهر الماء، فجعلت تُحَوِّضُهُ وتقول: بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعد ما تغرف- وفي رواية أخرى: بقدر ما تغرف-. قال ابن عباس: قال النبي صلي الله عليه وسلم: (يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم- أو قال: لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينًا معينًا) قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة، فإن هاهنا بيتًا لله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه، وعن شماله، فكانت كذلك، حتى مرت بهم رُفْقَة من جُرهُمَ، مقبلين من طريق كداء (وقد روي بضم الكاف وفتحها) فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرًا عائفًا، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريًا أو جريَّيْن فإذا هم بالماء، فرجعوا وأخبروهم فأقبلوا، (34/ب) وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: لتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم.

قال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس) فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كانوا بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوَّجُوهُ امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل. فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يسعى لنا. وفي رواية إبراهيم بن نافع: ذهب يصيد، ثم سألها عن عيشهم؟ فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة، وشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام، وقولي له: يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئًا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك وأخبرته أنا في جهد وشدة، فقال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك، فطلقها، وتزوج منهم أخرى. فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه، قالت: خرج يسعى لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله تعالى. قال: فما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم دعا لهم فيه). قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه. وفي رواية إبراهيم بن نافع: فجاء فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد، فقالت امرأته: ألا تنزل فتطعم وتشرب قال: وما طعامكم وما

شرابكم؟ فقالت: طعامنا اللحم وشرابنا الماء. قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم. قال: فقال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: (بركة دعوة إبراهيم عليه السلام). قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له: يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني (35/أ) عنك؟ فأخبرته، فسألني كيف عيشتنا؟ فأخبرته أنا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وأنتِ العتبة، أمرني أن أمسكك. ثم لبث عنهم ما شاء، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: (فاصنع ما أمرك ربك) قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني بيتًا هاهنا- وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها-، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}. وفي حديث أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي عن إبراهيم بن نافع عن كثير بن كثير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما كان بين إبراهيم وبين

أهله ما كان، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل، ومعهم شنة من ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة، فَيَدُّر لبنها على صبيها، حتى قدم مكة فوضعهما عند دوحة، ثم رجع إبراهيم إلى أهله، فأتبعته أم إسماعيل، حتى لما بلغوا كداء، نادته من ورائه: يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ قال: إلى الله، قالت: رضيت بالله. قال: فرجعت تشرب من الشَّنَّة، ويدرُّ لبنها على صبيِّها، حتى لما فني الماء قالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدًا، قال: فذهبت فصعدت الصفا فنظرت، ونظرت هل تُحِسَّ أحدًا، فلم تحسَّ أحدًا، فلما بلغت الوادي سعت، وأتت المروة، وفعلت ذلك أشواطًا، ثم قالت: لو ذهبت فنظرت. * ما يفعل الصبي؟ فذهبت، فنظرت، فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت فلم تقر نفسها، فقالت: لو ذهبت، فنظرت. لعلي أحس أحدًا، فذهبت فصعدت الصفا فنظرت، ونظرت (35/ب) فلم تحس أحدًا حتى إذا تمت سبعًا، قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل؟ فإذا هي بصوت، فقالت: أغث إن كان عندك خير، فإذا جبريل، قال: فقال بعقبه هكذا -وغمز بعقبه على الأرض- فانبثق الماء، فدهشت أم إسماعيل، فجعلت تحفن،- وفي أخرى: تحفر-، وذكر الحديث بطوله نحوه أو قريبًا منه. والأول أتم إلى قوله: فوافى إسماعيل من وراء زمزم يُصلحُ نبلاً له. فقال يا إسماعيل: إن ربك أمرني أن أبني له بيتًا. قال: أطع ربك، قال: إنه أمرني أن تعينني عليه، قال: إذن أفعل،- أو كما قال-، قال: فقاما فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على حجر المقام،

فجعل يناوله الحجارة ويقولان: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}. وأخرج البخاري طرفًا منه عن عبد الله بن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يرحم الله أم إسماعيل، لولا أنها عجلت، لكان زمزم عينًا معينًا). وفي حديث إبراهيم بن نافع، فقال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: (لو تركته كان الماء ظاهراً). * في هذا الحديث من الفقه أن أول من اتخذ النطاق أم إسماعيل عليه السلام، والنطاق: هو ثوب تشد به المرأة وسطها بالزيادة تحصن، وإنما فعلته أم إسماعيل لتسحبه على الأرض فيعفي أثرها على سارة. * وفيه أيضًا أن الغيرة من النساء قد كانت في النساء منذ ذلك الزمان. * وفيه أيضًا دليل على أن إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه إنما ترك أهله بالوادي بأمر الله عز وجل، فلا يشرع لغير الأنبياء أن يتركوا أحدًا في مضيعة ولا في مثل ذلك الوادي. * وقوله: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم} فإنه شرح حالهم ودعا لهم، فأراد بشرح حالهم أن يخبر أني قد امتثلت ما أمرت به فيهم، وبالدعاء لهم استيداعهم والإيصاء بهم.

* وقول أم إسماعيل: (أالله أمرك بهذا؟) فقال: نعم. فرجعت راضية (36/أ) لأنه من أحيل على ملي فليحتل. والتلوي: التلفت. * وفي الحديث دليل على أن السعي والطلب مشروع، فإن أم إسماعيل سعت تطلب لولدها. وقولها: (صه)، اسم فعل يقتضي الأمر بالإمساك فقولها: (هل عندك غواثُ) يعني فرجًا. قوله: (تحوضه) أي تجعله له حوضًا، ولو أنها تركت الماء على ما فتح الله عز وجل لكان معينًا ولكنها قصرت طمعها على كفاية لنفسها فوقف الأمر، والمعين: الظاهر الذي تبصره العيون، والسقا: القربة، والجريُّ: الرسول. وقوله: (أنفسهم) أي أعجبهم لنفاسته. * وفيه أيضًا أن الولد يتخذ كسبًا وهو من خير الكسب. * وفيه أن المرأة مسرعة إلى الشكوى لم يكن حالها ملائمة أن تكون زوجة نبي، وبضدها الراضية الشاكرة، فلذلك أمر إبراهيم ولده إسماعيل بمفارقة الأولى وإقرار الثانية. * وفيه أيضًا أن اللحم والماء بمكة دون غيرها من البلاد طعام صالح تستثمر به الأبدان وتصلح عليه. * وفيه أيضًا دليل على أن الإدمان على أكل اللحم مكروه. * وفيه أيضًا أن حسن الهيئة دليل خير ولقول زوجته عن إبراهيم: (أتانا شيخ حسن الهيئة). * وفيه دليل على أن بري النبل من خير صنائع المسلم للرمي، فإنه ينكأ العدو.

* وفيه جواز اشتراط الوالد على ولده الإعانة إذا كان بالغًا. والدوحة: الشجرة. والربوة: هو المكان المرتفع. * وفيه أيضًا أن الحجر لان لقدم إبراهيم حين ضعف كبرًا. قوله: (ينشع للموت) فإنه يفتح فاه كهيئة من ينزع. قوله: (تحقن): أي تجمع الماء. -1106 - الحديث الحادي والأربعون: (عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما العمل في أيام أفضل منها في هذه الأيام). قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء). * في هذا الحديث من الفقه فضيلة العشر الأول من ذي الحجة، وأنه كذلك من حيث أنه أول شهر حرام بين شهرين حرامين فيه أيام الإحرام من الحاج، وأيام رفع (36/ب) الأصوات بالتلبية وقصد الناس بيت الله الحرام للحج الذي جعل الله فيه لمن شهده منافع. وذكر المنافع بلفظ الجمع للمنكر، وهذا يشتمل على منافع غير محصورة؛ فإن القرآن العظيم إذا شهد بمنفعة فهي التي لا تتعقبها مضرة، وهذا لا يكمل إلا بدخول الجنة إن شاء الله تعالى. وأعمال الحاج لهم وأما غير الحاج فإن أعمالهم في سبل البر التي تمكنهم

سلوكها راجين أن يلحقهم الله بثواب الحاج والمعتمرين، وهذا يتضح بأن صيام يوم عرفة يعدل عامين إلا أنه لا يستحب صيامه للحاج، فيدل على أن عمل الحاج غير عمل من ليس بحاج. -1107 - الحديث الثاني والأربعون: (عن ابن عباس أن عمر سألهم عن قوله: {إذا جاء نصر الله والفتح} قالوا: هو فتح المدائن والقصور، قال: ما تقول يا ابن عباس؟ قال: أجل أو مثل ضرب لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، نعيت إليه نفسه. وفي رواية: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لم تدخل هذا معنا، ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه ممن قد علمتم. فدعاه ذات يوم فأدخله معهم، قال: فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم، قال: ما تقولون في قول الله عز وجل: {إذا جاء نصر الله والفتح} فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئًا، قال لي: بذلك تقول يا ابن عباس؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه، فقال: {إذا جاء نصر الله والفتح} فذلك علامة أجلك، {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا}، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول. وفي رواية: كان ابن الخطاب يُدني ابن عباس، فقال له عبد الرحمن بن عوف: إن لنا أبناء مثله، فقال: إنه من حيث تعلم، فسأل عمر ابن عباس عن هذه الآية: {إذا جاء نصر الله والفتح} قال: أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه إياه،

قال: ما أعلم منها إلا ما يعلم). * هذا الحديث يدل على أن فهم الرجل يلحقه بذوي الأسنان وإن كان حدثًا، وقد يبرز عليهم. * وفيه أيضًا ما يدل على أن العلم هو في تدبر القرآن واستنباط معانيه. * وهذا الحديث يوحد طريقًا مهيعًا لمتدبري كتاب الله في حمله على (37/أ) كل شيء يتناوله نطقه الشريف. -1108 - الحديث الثالث والأربعون: (عن ابن عباس قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع، ثم قرأ: {حرمت عليكم أمهاتكم ...}). * في هذا الحديث دليل على أن التحريم من جهتين: من جهة النسب ومن جهة السبب، وأن هذا سبع وهذا سبع.

-1109 - الحديث الرابع والأربعون: (عن ابن عباس: {ولكل جعلنا موالي}. قال: ورثة. {والذين عاقدت أيمانكم}. كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه؛ للأخوة التي آخاها النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فلما نزلت: {ولكل جعلنا موالي} نسختها. ثم قال: {والذين عاقدت أيمانكم} إلا النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث، ويوصي له). * في هذا الحديث دليل على أن ما كان من توارث الأخوين من الأخوة التي آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الصحابة فيها نسخ؛ لأن ذلك لضعف المهاجرين، فلما فتح الله الأرض وأغناهم نسخ بالميراث ما كان، فبقيت الوصية والرفادة مستحبتين، وبقي النصر والنصيحة لا ينسخان أبدًا. -1110 - الحديث الخامس والأربعون: (عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: هل تزوجت؟ قلت: لا، قال: فتزوج؛ فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء).

* إنما فضل أكثر هذه الأمة نساءً؛ لأن النكاح يشتمل على مصالح كثيرة: فأولها طلب الولد الذي يجوز أن يكون وليًا لله عز وجل، يحفظ به عباده، ويعمر به بلاده: مثل عبد الله بن عباس رضي الله عنه، ويكون عالماً مثل عبد الله بن عباس رضي الله عنه الذي حفظ الله سبحانه الأرض بعلمه، وإبقاء ذريته حفظه للأرض، ومن فيها في خلافة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالقيام بأمر الله سبحانه فيهم والدأب في مصالحهم إلى يوم القيامة، ويكون عالماً مجاهدًا عبادًا. * وقد جاء في الحديث: (من غرس شجرة فإنه لا يأكل منها طائر أو يستظل بظلها شخص إلا كتب لغارسها حسنات) فكيف بمن يغرس عبدًا مؤمنًا يصلح به الدنيا كلها، ويهدي إلى الآخرة، ويكون غيظًا لأعداء الله وسرورًا لأولياء الله، أخذًا من الشيطان بلطمة، يقر به أعين المؤمنين في الدنيا والآخرة، فهذا (37/ب) من أكبر فوائد النكاح. * ومن ذلك عشرة النساء، وذلك يتضمن تعليم الرجل لهن، فإن النساء عورات، وفي تعرضهن لطلب العلم من غير أزواجهن خطر من جهة خوف الفتنة، فإن كان المؤمن عالمًا وكثر نساؤه كان مغنيًا لنسائه ولمن يعلمهن نساؤه من الناس أن يحتجن عن أن يتعلمن من رجل غير ذي محرم. * ومن ذلك أن النساء كما وصفهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضلوع عوج، وإن الخلق

الحسن من المؤمن يعتبر بصبره عليهن، ولاسيما إذا كثرن وقايته لما يصلح في مداراتهن والتوصل في الجمع بينهن على رضي الله عز وجل وطلب ما عنده عز وجل ومن ذلك إعفافه نفسه وإعفافه إياهن عن الطموح بما يؤتيه الله عز وجل من فقه في معاشرتهن. * ومن ذلك تحمله نفقاتهن وصبره على كلفتهن. * ومن ذلك أن كثرة النساء للرجل دليل على ذكوريته، فلما كثرن دلت كثرتهن على رجوليته وذكوريته، وقلتهن يدل على قلة ذلك. -1111 - الحديث السادس والأربعون: (عن ابن عباس، قال: (هم أهل الكتاب، جزؤوه أجزاء، فقاموا ببعضه وكفروا يبعضه). وفي رواية عن ابن عباس: {كما أنزلنا على المقتسمين} قال: آمنوا ببعض وكفروا ببعض؛ اليهود والنصارى). * الذي كفروا به أهل الكتاب من كتابهم هو ما جحدوه منه، كالإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وكآية الرجم وغير ذلك. -1112 - الحديث السابع والأربعون: (عن ابن عباس قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب، فاقرأ ما فوق

الثلاثين ومائة من سورة الأنعام: {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم} إلى قوله: {قد ضلوا وما كانوا مهتدين}). * في هذا الحديث من الفقه تنبيه ابن عباس على أن يتعرف جهل من جهل من العرب ليحذر ما وقعوا فيه، وليعلم هذه الآيات فيمن نزلت. -1113 - الحديث الثامن والأربعون: (قال ابن عباس: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قرأت المحكم. وفي حديث هشيم: جمعت المحكم في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت له: وما المحكم؟ قال: المفصل). * هذا الحديث يدل على أن ابن عباس لم يكن يحفظ جميع القرآن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما حفظه بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولابن عباس ثلاث عشرة سنة (38/أ). * وقد سبق في مسند ابن مسعود ذكر المفصل.

-1114 - الحديث التاسع والأربعون: (عن ابن عباس، قال: إن أناسًا يزعمون أن هذه الآية نسخت، ولا والله ما نسخت، ولكنها مما تهاون الناس بها، وهما واليان: قال: وال يرث، وذلك الذي يرزق، ووال لا يرث، وذلك الذي يقول بالمعروف. ويقول: لا أملك لك أن أعطيك. وفي رواية للبخاري عن ابن عباس: {وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه} قال: هي محكمة، وليست بمنسوخة). * اختلف المفسرون في هذه القسمة على قولين: أحدهما: أنها قسمة ميراث بعد موت الموروث، والخطاب للوارثين، وهذا قول الجمهور. والثاني: أنها وصية الميت قبل موته، فيكون مأمورًا بأن يعين لمن لا يرثه شيئًا. قاله ابن زيد. وعلى ما ذكره ابن عباس يكون المشار بأولي القربى إلى من يرث من القرابات، ويكون قوله: {فارزقوهم} عائدًا إلى الوارث وقوله: {وقولوا لهم قولاً معروفًا} عائدًا إلى من لا يرث.

والأكثرون من المفسرين قالوا: المراد بأولي القربى هاهنا من لا يرث. قال الحسن والنخعي: يعطون من المال ويقال لهم عند قسمة الأرضين والرقيق بورك فيكم، وهو القول المعروف. -1115 - الحديث الخمسون: (عن سعيد بن جبير أنه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه الله إياه، قلت لسعيد بن جبير: فإن ناسًا يزعمون أنه من نهر في الجنة؟ فقال سعيد: الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه). * الكوثر: فوعل من الكثرة، والواو زائدة. وقد ثبت أن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهرًا أعطاه الله إياه، وسيأتي ذكره في مسند أنس رضي الله عنه. -1116 - الحديث الحادي والخمسون: (عن ابن عباس: {إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى}. قال عبد الرحمن ابن عوف: وكان جريحًا).

* في هذا الحديث ما يدل على أن الجريح يسمى مريضًا، فكل جريح مريض، وليس كل مريض جريحًا. -1117 - الحديث الثاني والخمسون: (عن ابن عباس، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمقداد: (إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه فقتلته، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل) (38/ب). * في هذا الحديث ما يدل على التحذير من قتل من يقول: لا إله إلا الله، وذلك أن المقدار خرج في سرية فلقي رجلاً فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد، فلما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبروه بذلك، فسأل المقداد: (أقتلت رجلاً قال: لا إله إلا الله؟ فكيف لا إله إلا الله؟)، ولأجل هذا قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ذكره ابن عباس. -1118 - الحديث الثالث والخمسون: (سئل ابن عباس: مثل من أنت حين قبض النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أنا يومئذ مختون، وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك.

وفي رواية: قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا ختين). * قد ذكرنا أن ابن عباس كان له عند قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عشرة سنة؛ وذلك لأنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين. وفي هذا الحديث دليل على جواز رواية الصبي للحديث. * وفيه أن الأولى أن لا يختن الصغير، بل يترك إلى حالة الكبر. -1119 - الحديث الرابع والخمسون: (عن ابن عباس: أنه دفع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وراءه زجرًا شديدًا، وضربًا للإبل وراءه، فأشار بسوطه إليهم، وقال: (أيها الناس، عليكم بالسكينة؛ فإن البر ليس بالإيضاع). * في هذا الحديث استحباب أن يدفع الناس من عرفات وعليهم السكينة؛ وهي الرفق بهم وبظهرهم، وأهنأ في ذكرهم لربهم. والبر: الطاعة. والإيضاع: هو الإسراع. -1120 - الحديث الخامس والخمسون: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين: (أعيذكما بكلمات الله

التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة)، ويقول: (إن أباكما كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق). * في هذا الحديث من الفقه أن التعوذ بالقرآن يدفع الله به المكروه، وأن كلمات الله التامة، وهي القرآن لقوله عز وجل: {وتمت كلمت ربك صدقًا وعدلاً}. * وقد قيل: إن كلمة الله التامة هي قوله: (كن). * وفي (الهامة) قولان: أحدهما: أنها كل نسمة تهم بسوء، قاله ابن الأنباري. والثاني: أن الهامة واحدة الهوم، والهوام هي الحيات، وكل ذي سم يقتل، فأما ما له سم إلا أنه لا يقتل غالبًا فهي السوام: كالعقرب والزنبور. فأما ما يؤذي وليس بذي سم فهي كالقنافد والخنافس. وقد يقع الهامة على كل ما يدب من الحيوان، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لكعب: (أيؤذيك (39/أ) هوام رأسك) يعني القمل. * وقوله: (من كل عين لامة) قال أبو عبيد: أصلها من ألمت إلمامًا فأنا مُلم،

كأنه أراد أنها ذات لمم. وقد روي عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه احتج بهذا الحديث على من قال بخلق القرآن، وقال: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بمخلوق. -1121 - الحديث السادس والخمسون: (عن سعيد، قال رجل لابن عباس: إني لأجد في القرآن أشياء تختلف علي؟ قال: {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون}، {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون}، {ولا يكتمون الله حديثًا}، {ربنا ما كنا مشركين}، وقد كتموا في هذه الآية، وقال: {أم السماء بناها} إلى قوله: {دحاها} فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال: {أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} فجعل في هذه الآية خلق الأرض قبل خلق السماء.

وقال: {وكان الله غفورًا رحيمًا} {عزيزًا حكيمًا} {سميعًا بصيرًا}، فكأنه كان ثم مضى؟ فقال: {فلا أنساب} في النفخة الأولى، ثم ينفخ في الصور {فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله} فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون، ثم قال في النفخة الآخرة: {أقبل بعضهم على بعض يتساءلون}. وأما قوله: {ما كنا مشركين} {ولا يكتمون الله حديثًا}: فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، يقول المشركون: تعالوا نقول: لم نكن مشركين، فيختم الله على أفواههم، فتنطق أبدانهم، فعند ذلك عُرف أن الله لا يكتم حديثًا، وعنده: {يود الذين كفروا} لو كانوا مسلمين. وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين، ثم دحا الأرض، و {دحاها} أن أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال والأشجار والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وخلقت السماوات في يومين. {وكان الله غفورًا رحيمًا} سمى نفسه بذلك، وذلك قوله: إني لم أزل كذلك، فإن الله لم يرد شيئًا إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلاً من عند الله.

وفي رواية البرقاني أن ابن عباس جاءه رجل فقال له: يا ابن عباس إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ؟ فقد وقع ذلك في صدري، فقال ابن عباس: أتكذيب؟ فقال الرجل: ما هو بتكذيب ولكن (39/ب) اختلاف. قال: فهلم ما وقع في نفسك. فقال له الرجل: أسمع الله يقول: {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون}، وقال في آية أخرى: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون}. وقال في آية أخرى: {ولا يكتمون الله حديثًا}. وقال في أخرى: {والله ربنا ما كنا مشركين} فقد كتموا في هذه الآية. وفي قوله: {أم السماء بناها (27) رفع سمكها فسواها (28) وأغطش ليلها وأخرج ضحاها (29) والأرض بعد ذلك دحاها} فذكر في هذه الآية خلق السماء قبل الأرض، وقال في الآية الأخرى: {أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادًا ذلك رب العالمين (9) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين (10) ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين}، وقوله: {وكان الله غفورًا رحيمًا} {وكان الله عزيزًا حكيمًا} {وكان الله سميعًا

بصيرًا} فكأنه كان ثم مضى. فقال ابن عباس: هات ما في نفسك من هذا؟ فقال السائل: إذا أنبأتني بهذا فحسبي. قال ابن عباس: قوله: {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} فهذا في النفخة الأولى ينفخ في الصور، فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، ثم إذا كان في النفخة الأخرى قاموا {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون}. وأما قول الله عز وجل: {والله ربنا ما كنا مشركين}، وقوله: {لا يكتمون الله حديثًا}، فإن الله تعالى يغفر يوم القيامة لأهل الإخلاص ذنوبهم لا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره، ولا يغفر شركًا، فلما رأى المشركون ذلك قالوا: إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك، تعالوا نقول: إنا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين، فقال الله تعالى: (أما فكتموا الشرك فاختموا على أفواههم) فختم على أفواههم، فتنطق أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون، فعند ذلك عرف المشركون أن الله تعالى لا يكتم حديثًا، فكذلك قوله: {يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً}. وأما قوله: {أم السماء بناها (27) رفع سمكها فسواها (28) وأغطش ليلها وأخرج ضحاها (29) والأرض بعد ذلك دحاها} فإنه خلق الأرض في يومين قبل خلق السماء، ثم استوى إلى السماء (40/أ) فسواهن في يومين آخرين. يعني

ثم دحى الأرض، ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى، وشق فيها الأنهار وجعل فيها السبل، وخلق الجبال والرمال والآكام وما فيها في يومين آخرين، فلذلك قوله: {والأرض بعد ذلك دحاها} ـ وقوله: {أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادًا ذلك رب العالمين (9) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين}، فجعلت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وجعلت السموات في يومين. وأما قوله: {وكان الله غفورًا رحيمًا}، {وكان الله عزيزًا حكيمًا}، {وكان الله سميعًا بصيرًا} فإن الله تعالى جعل نفسه ذلك، وسمى نفسه ذلك، ولم ينحله أحدًا غيره، وكان الله أي لم يزل كذلك. قال ابن عباس: احفظ عني ما حدثتك، واعلم أن ما اختلف عليك من القرآن أشباه ما حدثتك، فإن الله تعالى لم يزل شيئًا إلا قد أصاب به الذي أراد، ولكن الناس لا يعلمون، ولا يختلفن عليك القرآن فإن كلاً من عند الله عز وجل). * في هذا الحديث من الفقه أن للعالم الرباني يحدث الناس من العلم على قدر ما يعلم من اختلاف عقولهم له؛ فذكر ابن عباس لهذا السائل على نحو ذلك، وإلا فما يعلمه ابن عباس من علوم هذه الآيات وما كان في كل شيء منها إلا لدحض لشبهة السائل، لو قد كان ممن يصلح فهمه لاحتمال ذلك من علم ابن عباس ما كان مقنعًا كافيًا شافيًا؛ فإن نافع بن الأزرق

سوال غير عربي ولا موفق؛ لأنه كان من الخوارج. -1122 - الحديث السابع والخمسون: (عن ابن عباس قال: {ومن الناس من يعبد الله على حرف}، كان الرجل يقدم للمدينة، فإن ولدت امرأته غلامًا ونتجت خيله، قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله، قال: هذا دين سوء). * في هذا الحديث ما يدل على أن المؤمن لا يجعل إيمانه رهنًا على ما يناله من الدنيا أو يفوته منها، ولكن الله عز وجل قد وعد أن يبارك لمن أطاعه بقوله عز وجل: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}، وأنه قد يهلك حرث من ظلم نفسه (40/ب) لقوله عز وجل: {أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته}؛ إذ الدنيا والآخرة له، وقد يضاعف الأجر لبعض عباده -كما قال عز وجل:- {أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا} يعني في الدنيا والآخرة. وقال عز وجل: {وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين} فهو سبحانه أعلم

بعباده، وما يصلحون عليه من صحة وسقم، وغنى وفقر، وعز وذل. فيكون مجمل الحديث على من كان عبد الله تعالى على حرف لمعنى يريده من هذه الدنيا، طالبًا أن يغلب الله سبحانه تدبيره فيجعلها دار الجزاء، فلما أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة. * فأما من يعبد الله تعالى لطلب رضاه وإرادة للآخرة، ولأنه لا يستحق العبادة سواه - فآتاه الله عز وجل أجرين؛ أجرًا في الدنيا وأجرًا في الآخرة، فليس هذا ممن كان عبد الله تعالى على حرف، ولكن عبد الله تعالى على الإخلاص، فأضعف الله سبحانه له. ولقد علم الله عز وجل أنني ليلة شاهدت في السماء بابًا مفتوحًا، وأنا قائم على قدمي، وكانت ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، فدعوت دعاء كثيرًا في زمان وطال علي، ولا والله لا أحق أنني طلبت في تلك الليلة من الدنيا شيئًا قط؛ لا إمارة ولا وزارة مما أنعم الله تعالى به، ولكن الله سبحانه أنعم من ذلك بما شاء كما شاء. -1123 - الحديث الثامن والخمسون: (عن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري، وعدي ابن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدموا بتركته فقدوا جامًا من فضة مُخَوَّصًا بذهب، فأحلفهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم وجد الجام بمكة، فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي بن بداء، فقام رجلان من أوليائه، فحلفا:

لشهادتنا أحق من شهادتهما، وإن الجام لصاحبهم. قال: وفيهم نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم}). * إنما كانت شهادة أهل الكتاب في السفر حيث لا يوجد غيرهم، وقول الله تعالى: {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم} فدل على أن غيرنا ليسوا بعدول. وقوله: {فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنًا (41/أ) ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله} وإنما أكدت هذه الشروط عليهم واستظهر عليهم في ذلك لتكونوا على خوف من المخلوقين وتعييرهم؛ لأن خوفهم من الخلق ورجاء لهم إذ لا معرية عندهم الله عز وجل، ثم قال: {فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا} أي خانا {فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان} أي استحق عليهم الإثم، قوله: {الأوليان} أي فآخران يقومان وهما الأوليان. * فأما الرجل السهمي المذكور في الحديث فاسمه بزيل بن أبي مارية (بالزاي). * والمخوص بالذهب: هو أن يجعل عليه صفائح كالخوص.

-1124 - الحديث التاسع والخمسون: (عن ابن عباس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل: (ما يمنعك أن تزورنا؟) فنزلت: {وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا}). * في هذا الحديث ما يدل على أن جبريل غير محكم في نفسه، وأنه لا يمكنه أن ينزل نزلة ولا يرقى رقيًا إلا بإذن الله عز وجل. وللمفسرين في قوله: {له ما بين أيدينا وما خلفنا} قولان: أحدهما: أن ما بين أيدينا هو الآخرة، وما خلفنا الدنيا. قاله سعيد بن جيبر. والثاني: على عكس هذا قاله مجاهد. -1125 - الحديث الستون: (عن سعيد بن جبير، قال: سألني يهودي من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أدري، حتى أقدم على حَبْر العرب فأسأله، فقدمت فسألت ابن عباس، فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال فعل، صلى الله على نبينا وعليه).

* في هذا الحديث ما يدل على أن موسى عليه السلام احترز في نطقه بما لو قضى معه أدنى الأجلين لم يكن مخالفًا لما وعد به، ثم إنه قضى الأفضل، فجمع في ذلك بين احترازه لقوله وبين وفائه بأكمل وعديه؛ وذلك أن هذه الآيات مما تدل على أن القرآن قول فصل وليس بالهزل، وذلك قوله عز وجل: {ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس}، ولم يقل وجد عليه قومًا؛ لأن الأمة تشمل الرجال والنساء والصغار والكبار والشيوخ والشبان. * وقوله: {ووجد من دونهم امرأتين} فذكرهما بنطق دال على بلوغهما مبلغ النكاح بقوله: {امرأتين}، ولم يقل: جاريتين ولا صبيتين (41/ب)، ثم قال: {تذودان} أن تمنعان الغنم عما يرديان خيارهن عنه، وفي قوله: {تذودان} دليل على كمال صحتهما. فعجب موسى من كون هاتين المرأتين قد اعتزلتا تلك الأمة، وتفرس ذلك أنه لمخالفة ومباينة في العقيدة أو في الدين، فقال: أترى المرأتين قد تنزهتا أن ينكحهما رجلان من تلك الأمة، أم الأمة قد تنزهت أن ينكح رجلان منهم هاتين المرأتين. فرأى أن هذا مما له شأن، فقال: {ما خطبكما؟} والعادة في هذه الكلمة- وهي الخطب- أنها تستعمل في كل أمر مستفخم ومستهول، فأجابتها بأن قالتا: {لا نسقي حتى يصدر الرعاء} وقولهما: {لا نسقى} أبلغ من أن لو قالتا: لم نسق، فإن قولهما: {لا نسقى} أي هذا دأب لنا وعادة، {حتى يصدر الرعاء} أي يعود الرجال عن هذا الماء، ويخلو الماء لنا خلوًا نتمكن فيه من سقي الغنم غير محامتين عن نظر من ينظر إلى ما يبدو من أجسامنا عند معالجة سقي الغنم. * ثم قالتا له: وأيضًا {وأبونا شيخ كبير} فأعلمتاه بهذا القول أننا ليس لنا أزواج؛ إذ لو كان لنا أزواج لكانوا هم الذين يكفونا ذلك، إذ لو كان أبونا ذا

جلد لكان يقوم عنا فيه، ولكنه شيخ كبير، فأشارتا إليه بهذا النطق أنهما من أهل دين فيه ستر العورة ومجانبة المرأة الرجال، ومن أهل مروءة لو كان لنا رجل فكفينا الرعاية لما نريد لما برزنا لذلك، فحينئذ رأى موسى - صلى الله عليه وسلم - أنه قد يغتن عليه إردافهما بأن تصدق عليهما بفضل قوته: {فسقى لهما} ثم انصرف عنهما إلى الظل- كما قال الله عز وجل. ففي ذلك ما يدل على أنه سقى لهما بغير أجر ولا شرط، وأنه بقدر ما كفا فيما كانتا محتاجتين إليه من سقي الغنم تولى عنهما ولم يمكث ولا أدنى مكث فيتعرض بوقوفه إلى طلب ثواب لذلك السقي، ولو بأن يسقياه شيئًا من لبن شياهمها، ثم أخبر عز وجل أن فعل ذلك على شدة جوع منه وفقر إلى ما ينزل الله إليه من خير، فلم يستفزه جوعه ولا خدشت ضرورته وجه مروءته، بل تولى إلى (42/أ) الظل، وهنا يدل على أن الظل أفضل من الكون في الشمس ولاسيما لمثل موسى وقد أجهده ما عاناه من السقي؛ ليكون حسن الرعاية لبدنه أيضًا بتوديعه إياه إذ الكون في ظل يستدعي النوم فيرد عليه من قواه ما يستعين به على طاعة ربه. * ثم قال حين انفصل عن المرأتين، واستقر في الظل: {رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير}، فهذا دعاء إلى الله عز وجل ينطق الماضي ويراد به المستقبل، إلا أن في ذلك فائدة، وهي أنه لشدة إيمانه أن الله تعالى لا يغفله وأن رزقه سيأتيه صار المستقبل عنده في حكم الماضى، فقال: {إني لما أنزلت إلى من خير فقير}، و {خير} هاهنا نكرة من أي خير كان، فإن حاجتي بلغت إلى أن لا أتشوف ولا أريد الخير المعهود بالألف واللام، ثم

قال: {فقير} نكرة أيضًا، يعني فقيرًا في هذا الخير خاصة، وليست الفقير، والألف واللام الذي تنصرف إلى غير هذا في وقته ذلك. * ثم قال: {فجاءته إحداهما تمشي على استحياء} ففي هذا النطق لأن إحسان الظن بأهله مستحب؛ لأن شعيبًا عليه السلام لما أخبرتاه بحال موسى وهيئته تفرس فيه الإيمان. ولذلك أرسل إليه إحدى ابنتيه، ولم يرسل معه غيرها اتهامًا. وقوله عز وجل: {تمشي على استحياء} أي أنها استحيت من أنها امرأة غريبة وهو رجل غريب منها. ويجوز أنها استحيت أن يأتي إلى منزل أبيها فيراه منزل قوم فقراء فاستحيت من ذلك، ويجوز أن يكون استحياؤها من أنها بالغت في وصفه لأبيها، فخافت أن لا يصدق موسى مخبره خبرها عنه، فاستحيت من أن يراها أبوها وقد استخفها حال حتى أفرطت في الوصف فوق المستحق. * وقوله عز وجل: {قالت إن أبي يدعوك} ولم تقل قم إلينا أو إلى دعوتنا؛ فما كان موسى (42/ب) عليه السلام ينصرف مع امرأة ليست بذات محرم منه، ولكن قالت له: {إن أبي يدعوك} فأوجبت عليه المجيء معها إجابة للداعي؛ فإن إجابة الداعي متعينة، ثم قالت: {يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا} يعني إنك قد سعيت بالإحسان فأسلفت المعروف فقم لتقضي حقك، وهذا مما يدعوه إلى القيام، ثم فيه من حسن تأتيها أنها لم تستجرء أن تقول: قم إلى كرامتنا وهو قد سبق بالإكرام، ولكن قالت: {ليجزيك

أجر ما سقيت لنا} ليكون أتى في قضاء ما سلف لك من الإحسان أولاً، ثم حينئذ تكون الكرامة- أي منا- إن كانت. ففي هذا ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن ينسى الحق عليه ويذكر الحق له. فيقال إنه قال لها: إني أمشي بين يديك وكوني دليلتي من وراءي لتذكري لي الطريق يمينًا وشمالاً كراهية أن يمشي وراء امرأة فتصف الريح بدنها، وهذا يدل عليه نص القرآن في قوله عز وجل: {فلما جاءه وقص عليه} أي كان هو أولهما لقاء له، وقوله: {وقص عليه القصص} يعني موسى فعرف شعيب أن موسى قد خرج مهاجرًا إلى الله وخائفًا من أعداء الله، فعلم شعيب أن كل خارج إلى الله وخائف من عدو من أعداء الله منجيه ومؤمنه، فقال له: {لا تخف نجوت من القوم الظالمين}، ويجوز أن يكون قال له: {لا تخف} في مستقبل الحال؛ فإنك قد نجوت من القوم الظالمين. * {قالت إحداهما يا أبت استأجره} وهذا من قولها يدل على أن أباها متطلع إلى وجود شخص يصلح لصحبته ليستأجره فيصون به ابنتيه عن البذلة، فقالت: {يا أبت استأجره} فأمرته أمرًا لا يصلح أن يكون إلا عن علم بأنه قد كان مزمعًا عليه مريدًا له، ثم وصفت موسى بأحسن وصف يوصف به رجل؛ وهو الجمع بين القوة والأمانة، فإنهما خلتان قلما اجتمعتا في رجل إلا وكان عالمًا في وقته؛ وذلك أن القوة قد يعوزها كثيرًا من الأمانة فيشيبها الخيانة، كما أن الخيانة يعوزها القوة فيشيبها الضعف، فإذا أجمعت القوة والأمانة ازدانت كل منهما بالآخر. فقالت: {إن خير من استأجرت القوي الأمين} فقال هو حينئذ لموسى:

{إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} فبدأه بالخطبة (43/أ) فدلك ذلك على جواز أن يخطب الرجل ابنته من الآخر قبل أن يبدأه الرجل بذلك، ولذلك فعل عمر؛ خطب حفصة إلى أبي بكر ثم عثمان رضي الله عنهم كما تقدم. * وقال: {إحدى ابنتي هاتين} ولم يعين واحدة منهما ليجعل التخيير إليه، وليعلمه أنه ليس له حاجة إلى تزويج واحدة منهما دون الأخرى، وإنما الغرض فيك وفي مصاهرتك، إلا أنه أشار له في هذا النطق الذي يأتي إلى أمر سر عظيم ومقصد كريم؛ وذلك أنه لما جازاه رأى عنده دلائل النبوة، فقال: إن هذا فيه من أمارات النبوة ما لم يبق في استثنائي لها إلا بأن أذكر له حال النكاح ما أخيره فيه بين أمرين متى اختار أحدهما دخل ذلك عليه بوهن، فإن هو خرج منهما فهو نبي حقًا. * فقال: {على أن تأجرني ثماني حجج} أي تكون أجيرًا إلى ثماني حجج أو تعطيني أجر بضع ابنتي ثماني حجج من رعايتك، {فإن أتممت عشرًا فمن عندك}، وذلك أولى لأنه إن كان قد قال موسى أجيبك على أن تكون المدة ثماني سنين لا سيبخله، وقال: أخيره في أمرين أحدهما أجود لي والآخر هو أجود له، فيختار الأجود له على الأجود لي، فهذا مما يستدل به على البخل أو لو أظهر إجابته إلى المدة الكاملة لاستجهله، وقال: أخيره بين أمرين أحدهما أقصر مدة والآخر أطول فيختار الأطول مطاوعًا فيه اتباع الأمل وترك الاحتياط لنفسه فهذا يدل على الجهل، فلما حرج موسى من ذلك بأن {قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي}؛ عرف

حينئذ أن هذا جواب نبي كريم ثم قال: {والله على ما نقول وكيل}، ثم قال عز وجل: {فلما قضى موسى الأجل} فكان قضاءه الأكثر، مع كونه اشترط شرطًا يحتاط فيه للأول أحسن من أن لو اشترط الأكثر فأتى به أو ذكر الأول فزاد عليه. -1126 - الحديث الحادي والستون: (عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - آية الربا). * هذا الحديث يدل على أن تحريم الربا؛ لأنه (43/أ) نزل أخيرًا فلم يعقبه تغيير، ثم هذا المذكور هو مذهب ابن عباس. وقد روي عن أبي سعيد الخدري، وسعيد بن جبير، وعطية، ومقاتل: أن آخر آية نزلت: {واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى اللهْ}. وقد روي عن البراء بن عازب: أن آخر آية نزلت: {يستفتونك قل الله يفتتيكم في الكلالة}. وروي عن أبي بن كعب قال: آخر آية نزلت: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم}.

-1127 - الحديث الثاني والستون: (عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن صياد: (أخبأت لك خبأ) قال: فما هو؟ قال: (الدُّخُّ) قال: (اخْسأ). * قد ذكرنا تفسير هذا في مسند ابن مسعود. -1128 - الحديث الثالث والستون: (عن أبي الشعثاء قال: ومن تتقي شيئًا من البيت؟ وكان معاوية يستلم الأركان، فقال له ابن عباس: إنه لا يُستلم هذان الركنان، فقال: ليس شيء من البيت مهجورًا، وكان ابن الزبير يستلمهن كلهن. وفي رواية لمسلم عن ابن عباس قال: لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلم غير الركنين اليمانيين). * السنة المعمول عليها استلام الركنيين اليمانيين، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو استلم

الركنين الآخرين لأخرج الحجر من البيت، وقد قال: (الحجر من البيت). -1129 - الحديث الرابع والستون: (عن عمرو قال: قلت لجابر بن زيد: يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لحوم الحُمُرِ الأهلية، فقال: قد كان يقول ذلك الحكم عمرو بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة، ولكن أبى ذلك البحر عن ابن عباس، وقرأ: {قل لا أجد في ما أوحي إليّ محرمًا}). * قد سبق الكلام في هذا الحديث. -1130 - الحديث الخامس والستون: (عن ابن جمرة الضبعي قال: كنت أجالس ابن عباس بمكة، فأخذتني الحمى، فقال: أبردها عنك بماء زمزم؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء. أو قال: بماء زمزم).

* هذا الحديث قد سبق تفسيره. والتداوي بماء زمزم شربه. -1131 - الحديث السادس والستون: (عن ابن عباس قال: إن أول جمعة جمعت، بعد جمعة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في مسجد عبد القيس، بجواثا من البحرين) * في هذا الحديث ما يدل على فضيلة جواثا؛ إذ كانت تابعة للمدينة في التجميع بها -1132 - الحديث السابع والستون: (44/أ) (عن ابن عباس رضي الله عنه أن عليًا عليه السلام خرج من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجعه الذي توفى فيه فقال الناس: يا أبا حسن، كيف أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أصبح بحمد الله بارئًا). * قد تقدم المتن بطوله في مسند علي عليه السلام، وكذلك سبق الكلام

فيه. -1133 - الحديث الثامن والستون: (عن ابن عباس قال: اشتد غضب الله على من قتله نبي في سبيل الله، اشتد غضب الله على قوم دموا وجه نبي الله - صلى الله عليه وسلم -). * في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رحمة، فإذا عند عليه من آمنه من يقتله بيده- فقد اشتد غضب الله على المقتول. * ولذلك ينبغي أن يكرم وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أدت قومًا شقوتهم إلى أن دموه- فقد اشتد غضب الله عليهم. -1134 - الحديث التاسع والستون: (عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون فلا يتزودون، ويقولون: نحن متوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}).

* في هذا الحديث دليل على أن التزود للسفر متعين، ومن قال: إني أسافر متوكلاً بغير زاد- كما تدعي طائفة من المتصوفة- فإنه على خلاف الشرع، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزود لخروجه إلى الكفار إلى المدينة. والتوكل: إنما هو اعتماد القلب على الله عز وجل، لا أنه رفض الأسباب في الظاهر، بل لو قد رأى رجل مؤمن الأسباب تكسبه سكونًا إليها أو اعتمادًا عليها فخاف من ذلك فرفضها لكان أفضل، كمن خاف بكاء طفل له فطرده عنه، ولو دارى الصبي ليصحب ويعطى مقادته لكان أفضل له. وهكذا فإن النفوس إذا سكنت للأسباب، فالسنة أن تعالج من استصحاب الأسباب؛ ليجمع بين مجهادة النفس في ترك السكون إلى سبب، وبين اتباع السنة في اتخاذ الزاد وحمل السلاح وغير ذلك. فقد حدثني الشيخ محمد بن يحي- رحمه الله- فقال: خرجت من زبيد مع شيخ أعجمي اسمه (محمد) من الصالحين حتى ركبنا في البحر، وذكر قصة عجيبة إلى أن قال: فصعدنا في ساحل البحر بالسرين، ولم يكن معنا إلا كوز من ماء للشيخ وعبية فيها دقيق للشيخ أيضًا (44/ب)، قال: فطفق الجراية الدقيق بالساحل لمكس من يصل من الحاج مطوفون لذلك. قال: فجلس الشيخ وجلست إزاءه، فأغفينا وغمضت عيني، ثم فتحتها ولسنا في الموضع الذي كنا فيه، وكان يقول: لا أرى إلا أن الله تعالى أعد منها بحيث كنا ولو وجدنا في الموضع الذي صرنا إليه فإن الحال كانت أشد سرعة من أن يكون بنقل أو تحويل، قال: فعطشت قال: فجعلت أستسقي من الله الماء، قال: فالتفت

الشيخ إليَّ غضبًا، وقال: يا محمد، أي شيء هذا؟ سوء الأدب، ثم مد يده إلى الأرض فاستل لي قرصًا، فقلت: ما أصنع بالطعام؟ وإنما أريد الماء. قال الشيخ محمد بن يحي: فوالله الذي لا إله إلا هو، لقد رأيت في الحال سقيفة تصورت علي وعليها مرشوشة فيها سقاء مترع ملآن. فقال لي: اشرب فشربت. قال الشيخ محمد بن يحي: ثم قال لي الشيخ: نرجع إلى حيث كنا، ونأتي بالعبية والكوز. قال الشيخ محمد بن يحي: ولا أراه أمرني بذلك لئلا يترك السنة في حمل الزاد، وإلا فمن هذه حالهم ما يصنع بالعبية والكوز، وذكر بقية الحال التي جرت لهما. وقد حصل مقصودنا منها في هذا القدر الذي اقتضبناه. -1135 - الحديث السبعون: (عن ابن عباس في قوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس}. قال: هي رؤيا عين، أريها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به إلى بيت المقدس {والشجرة الملعونة في القرآن} هي شجرة الزقوم). * قد سبق الكلام في الإسراء، وإنما كانت هذه الرؤيا فتنة لأن من آمن بالله سلم، ومن كفر هلك.

فإن قال قائل: لو كانت رؤية بالعين لقال الرؤية، فلما قال: الرؤيا دلت على أنها كانت في النوم. فقد أجاب عن هذا أبو بكر الأنباري، فقال: المختار في هذا أن تكون الرؤيا يقظة، ولا فرق بين أن يقول القائل: رأيت فلانًا رؤية ورأيته رؤيا، إلا أن الرؤية يقل استعمالها في المنام، والرؤيا يكثر استعمالها في المنام، ويجوز كل واحد منهما في المعنيين. -1136 - الحديث الحادي والسبعون: (عن ابن الأسود محمد بن عبد الرحمن قال: قطع على أهل المدينة بعث، فاكتتبت فيه، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته، فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس: أن ناسًا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين (45/أ) على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي السهم يرمى به، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنزل الله: {إن اللذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} الآية). * في هذا الحديث من الفقه أنه نهاه أن يكون مكثرًا للسواد في الفتنة.

-1137 - الحديث الثاني والسبعون: (عن ابن عباس قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه بملحفة، وقد عصب رأسه بعصابة دسماء، حتى جلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد، فإن الناس يكثرون ويقل الأنصار، حتى يكونوا في الناس كمنزلة الملح في الطعام، فمن تولى منكم شيئًا يضر فيه قومًا وينفع آخرين، فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئتهم، فكان آخر مجلس جلسه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي حديث أحمد بن يعقوب: رأسه ملحفة متعطفًا بها على منكبيه. وفي حديث إسماعيل بن أبان: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أيها الناس إليّ) فقاموا إليه، ثم قال: (أما بعد، فإن هذا الحي من الأنصار يقلون ويكثر الناس) ثم ذكره نحوه). * فيه من الفقه أن المريض قد يخرج للحاجة. * وفيه أن التحاف المريض أصون له, والدسماء هي السوداء. * وفيه ما يدل على فضيلة الأنصار وتشبيههم بالملح لأنه يطيب كل طعام. * وفيه إشارة مفهومة إلى أن الأنصار ليس لهم في الأمر شيء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -

أوصى بهم المهاجرين، وقال: (من تولى منكم شيئًا فليقبل من محسنهم) ولم يوص إليهم. * وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطف بهم في إخراجهم من الأمر بهذا لطفًا. خرج أحسن مخرج بحيث فهمه أهل العلم عنه في تأكيد الحفظ لهم؛ ولأنه يقطع التجاذب في الأمر بعده من المهاجرين والأنصار. * وقوله: (يقلون ويكثر الناس) يجوز أن يكون أراد به في العدد، ويجوز أن يكون فيه إشارة إلى أنهم يلون شيئًا. -1138 - الحديث الثالث والسبعون: (عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (هذه وهذه سواء) يعني الخنصر والإبهام في الدية). * قال أبو سليمان الخطابي: هذا الحديث أصل في كل شيء من الجنايات لا يضبط، فيعلم قدره ويوقف على كميته؛ فإنه إذا كان كذلك ولم يكن اعتباره من طريق المعنى، كان الحكم منه معتبرًا من طريق الاسم كالأصابع والأسنان (45/ب) وإن اختلف جمالها أو منافعها. ومعلوم أن الإبهام من القوة والمنفعة ما ليس للخنصر، ثم جعلت ديتها سواء، والعلة في ذلك أنه لا يضبط ولا يوقف على دقائق معانيه، فحمل الأمر

على الاسم. * ولا أرى هذا كما ذكروا، وأي شيء لاتفاق المسمى في إيجاب الديات، وإنما عندي أن ذلك لأن كل واحد من الأصبعين الكبرى لا يتمكن من عملها إلا بوجود الصغرى معها، فلو قد عدم الخنصر لما أمسك الإبهام، كما لو عدم الإبهام أمسك الخنصر، فلما كانت هذه في طرف وهذه في طرف وكل واحدة منهما بها قوام الأخرى جعلت ديتهما واحدة ليعلم الخلق أن خلق الله سبحانه ما فيه من تفاوت. -1139 - الحديث الرابع والسبعون: (عن ابن عباس قال: رأيته عبدًا- يعني زوج بريرة- وكأني أنظر إليه يتبعها في سكك المدينة، يبكي عليها. وفي رواية للبخاري: كان زوج بريرة عبدًا أسود، يقال له مُغيثُ، عبدًا لبني فُلانٍ، كأني أنظر إليه يطوف وراءها في سكك المدينة. وفي رواية: أن زوج بريرة كان عبدًا يقال له المغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للعباس: (يا عباس، ألا تعجب من حُب مغيث بريرة، ومن بُغض بريرة مغيثًا)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو راجعتيه؟) فقالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: (إنما أشفع). قالت: لا حاجة لي فيه).

* هذا طرف من حديث بريرة، وسيأتي الكلام فيه مشروحًا إن شاء الله. -1140 - الحديث الخامس والسبعون: (عن عكرمة قال: صليت خلف شيخ بمكة، فكبر اثنتين وعشرين تكبيرة، فقلت لابن عباس: إنه أحمق، فقال: ثكلتك أمك، سنة أب القاسم - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية: رأيت رجلاً عند المقام يكبر في كل خفض ورفع، وإذا قام وإذا وضع، فأخبرت ابن عباس، فقال: أو ليس تلك صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا أم لك؟). * هذه الإشارة إلى التكبيرات التي تكون في الصلاة الرباعية، ومجموع التكبيرات في الصلوات الخمس هي أربع وتسعون تكبيرة. -1141 - الحديث السادس والسبعون: (عن ابن عباس قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال. وفي رواية: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المخنثين من الرجال (46/أ) والمترجلات من النساء، وقال: (أخرجوهم من بيوتكم). وأخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -

فُلانة، وأخرج عمر رضي الله عنه فُلانُا). * في هذا الحديث ما يدل على تحريم التخنيث، وأن يدخل المخنث على النساء، وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل الخلق زوجين اثنين: ذكرًا وأنثى، فجعل الذكر حالة البروز والسعي والحرب، وجعل النسوان ذوات قرار في بيوتهن ونهاهن عن التبرج؛ وذلك لأن شغلهن البيوت، فهن يخلفن الرجال في ذلك، كما يقوم الرجال عليهن في الكسب والحرب وحماية الذمار وغير ذلك. فإذا أخلف أحد الرجال في التشبه بالنسوان كان ذلك مخالفًا لما خلقه الله له وكذلك المرأة. -1142 - الحديث السابع والسبعون: (قال ابن عباس: قد أحصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحلق، وجامع نساءه، ونحر هديه، حتى اعتمر عامًا كاملاً). * هذا طرف من حديث الحديبية سيأتي ذكره. -1143 - الحديث الثامن والسبعون: (عن ابن عباس قال: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعة عشر يقصر الصلاة، فنحن

إذا سافرنا فأقمنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتمننا). * هذا رأي انفرد به ابن عباس والعمل على غيره. -1144 - الحديث التاسع والسبعون: (عن عكرمة {وكأسًا دهاقًا} قال: ملأى متتابعة. قال: وقال ابن عباس: سمعت أبي في الجاهلية يقول: أسقنا كأسًا دهاقًا). * الدهاق: الملأى. وقد زاد من عنده: إنها متتابعة، والذي يدل على ما استدل عليه من تتابعها أنه لما رأى امتلاءها دل على أخذها من شيء واسع لا يقف على حصر استدعى سرعة عودها إليها لتملى فلذلك قال: متتابعة. -1145 - الحديث الثمانون: (عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هي في العشر، في تسع يمضين، أو في سبع يبقين) يعني ليلة القدر. وفي رواية: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، ليلة القدر، في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى).

وفي رواية: (التمسوها في أربع وعشرين) موقوف). * قد مضى الكلام في ليلة القدر في مواضع. -1146 - الحديث الحادي والثمانون: (عن ابن عباس: {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن}، الآية. قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته؛ إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاء زوجوها (46/ب)، وإن شاء لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها. فنزلت هذه الآية في ذلك). * هذه سيرة كانت للجاهلية، فأزالها الله عز وجل بهذه الآية.

-1147 - الحديث الثاني والثمانون: (عن ابن عباس قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة والمزابنة). * قال أبو عبيد: (المحاقلة: بيع الزرع وهو في سنبله بالبر، وهو مأخوذ من الحقل، وهو الذي يسميه أهل العراق القراح). * والمزابنة: هو بيع التمر في رؤوس النخل بالتمر. * وإنما جاء النهي في هذا؛ لأنه في الكيل وليس يجوز شيء من الكيل والوزن إذا كانا من جنس واحد إلا مثلاً بمثل ويدًا بيد، وهذا مجهول لا يعلم أيهما أكثر. -1148 - الحديث الثالث والثمانون: (عن عكرمة، قال: أتى عليٌ رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس، قال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تعذبوا بعذاب الله). ولقتلتهم؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من بدل دينه فاقتلوه).

* في هذا الحديث دليل على أن الحدود لا تستوفى بالنار، فإن رأى الإمام أن اعتماد ذلك يزيد الإمام فخامة في قلوب الزائغين، فقد روي أن أبا بكر رضي الله عنه قذف بعض أهل الردة في النار. * وفيه أن الزنادقة قد بدلوا دين الله، فكل من ينكر البعث فحكمه حكم الزنديق. قال ابن دريد وقال أبو حاتم: الزنديق فارسي معرب. -1149 - الحديث الرابع والثمانون: (عن ابن عباس قال: قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أمر وسكت فيما أمر {وما كان ربك نسيًا}، و {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}). * هذا محمول من ابن عباس على الجهر والإخفات في الصلوات، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جهر في صلاة الليل ولم يجهر في صلاة النهار والراتبة؛ وذلك لأن قولنا قد سبق في أن سلطان السمع ينفد ليلاً كما أن سلطان البصر ينفد نهارًا فكان السمع فيه أبلغ في تأتيه إلى القلب، ولما كان النهار مظنة اشتغال الناس. * وفيه نفاذ البصر كان الإسرار فيه أنسب لحاله، وأما صلاة الجمعة والعيدين فإن كلاً من ذلك يجتمع له ولا يتكرر فعله في كل يوم، فأما صلاة الجنازة فإن الإخفات فيها على أن (47/ أ) الغالب فيها يكون نهارًا إلا من ضرورة

فأشبهت صلاة النهار. -1150 - الحديث الخامس والثمانون: (عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن أخي وصاحبي). وفي رواية: (ولكن أخوة الإسلام أفضل). وفي رواية: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه عاصبًا رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (إنه ليس من الناس أحد أمن عليّ في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذًا من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خوخة في المسجد، غير خوخة أبي بكر). وفي رواية عن أيوب: أما الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو كنت متخذًا من هذه الأمة خليلاً لاتخذته، ولكن خلة الإسلام أفضل - أو قال: خير-، فإنه أنزله أبًا، أو قال: قضاه أبًا - يعني الجد -). * قد سبق هذا في مسند ابن مسعود.

* وقوله: (سدوا عني كل خوخة) الخوخة: باب صغير، وهذا تمييز لأبي بكر رضي الله عنه لأمنه إياه. * وقوله: (فإنه أنزله أبًا) يعني أن مذهب أبي بكر رضي الله عنه أن الجد في مقام الأب في الميراث. -1151 - الحديث السادس والثمانون: (عن ابن عباس قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إني ما أعتب عليه في خلق ولا في دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أتردين عليه حديقته) قالت: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة). * هذا الحديث هو أصل في الخلع ورد ما أخذته المرأة. * وهو أول خلع في الإسلام. واختلف العلماء هل يجوز للزوج أن يأخذ من التي تطلب الخلع أكثر مما أعطاها. فقال عمر، وعثمان، وابن عباس، ومجاهد، والنخعي، والشافعي: يجوز. وقال علي، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، وابن جبير، والزهري، وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين: لا يجوز. -1152 - الحديث السابع والثمانون: (عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجد (بالنجم) وسجد معه المسلمون

والمشركون، والجن والإنس) (47/ ب). * والسجدة في هذه السورة من عزائم السجود إلا عند مالك. -1153 - الحديث الثامن والثمانون: [عن ابن عباس قال: انتشل النبي - صلى الله عليه وسلم - عرقًا من قدر، فأكل ثم صلى، ولم يتوضأ. وفي لفظ: تعرق النبي - صلى الله عليه وسلم - كتفًا، ثم قام فصلى ولم يتوضأ). * قد سبق بيان هذا وفسرنا العرق، ومعنى (انتشل): أي أخذه قبل تمام النضج، وقد بينا أن هذا ناسخ لقوله: (توضأوا مما مست النار). -1154 - الحديث التاسع والثمانون: (عن ابن عباس قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل

عنه فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مُرهُ فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه). * أما أبو إسرائيل فاسمه قيصر العامري، وليس في جميع الصحابة من كنيته أبو إسرائيل غيره، ولا من اسمه قيصر سواه، ولا له ذكر إلا في هذا الحديث. وإنما أمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فعله الصوم خاصة ورد باقي ذلك. -1155 - الحديث التسعون: (عن أيوب قال: ذكر عن عكرمة شر الثلاثة فقال: قال ابن عباس: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد حمل قُثم (3) بين يديه، والفضل خلفه، أو قُثم خلفه، والفضل بين يديه، فأيهم شرٌ، أو أيهم خير؟ وفي رواية: لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة، استقبله أغيلمة بني عبد المطلب فحمل

واحدًا بين يديه والآخر خلفه). * قد سبق الكلام في هذا، وقد تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أردف وراءه وبين يديه. * وقوله: (شر الثلاثة) شيء تقوله العامة لا أصل له. -1156 - الحديث الحادي والتسعون: (عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين، وإن لم يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون- صُبَّ في أذنه الآنك يوم القيامة، ومن صور صورة عُذب، وكُلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ). * المستمع إلى حديث من لا يحب استماعه سارق، إلا أنه لم يسرق بتناول دراهم فكانت تقطع، ولكنه تناول ذلك عن باب السمع، فصب فيه الآنك. والآنك: نوع من الرصاص فيه صلابة. * فأما كون المحلم في نومه يكلف العقد بين شعيرتين (48/أ)، فكأنه الذي

أرى عينيه ما لم تريا مكلف عمل ما لا ينعمل عذابًا له من جنس ذنبه. -1157 - الحديث الثاني والتسعون: (عن ابن عباس: أن هلال بن أمية قذف امرأته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشريك بن سحماء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (البينة أو حدٌ في ظهرك) قال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً، ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (البينة وإلا حَدٌ في ظهرك). فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل فأنزل عليه: {والذين يرمون أزواجهم} فقرأ حتى بلغ: {إن كان من الصادقين} فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليهما، فجاء هلال فشهد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب) ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة. قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت، حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم. فمضت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأيتين، خذلج الساقين، فهو لشريك بن سحماء)

فجاءت به كذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لولا ما مضى من كتاب الله عز وجل، لكان لي ولها شأن). * قد مضى الكلام في هذا الحديث. * وقوله: (إنها موجبة) المعنى أن هذه المرة توجب عذاب الله تعالى. * وتلكأت أي تباطأت عن إتمام اللعان. * والسبوغ: التمام. * والخدلج: هو الممتلئ الساقين. * وقوله: (لولا ما مضى من كتاب الله) يعني قوله: {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد}، (لكان لي ولها شأن} يعني الرجم. -1158 - الحديث الثالث والتسعون: (عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى السقاية فاستقى، فقال العباس: يا فضل، اذهب إلى أمك، فأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشراب من عندها. فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال: (اسقني) فشرب منه،

ثم أتى زمزم، وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: (اعملوا، فإنكم على عمل صالح)، ثم قال: (لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل (48/ب) على هذه) يعني عاتقه). * في هذا الحديث دليل على استحباب الشرب من حيث يشرب المسلمون، ويضعوا أيديهم فيه فإنه يزيده بركة، إلا أن هذا ينصرف إلى المسلمين الذين تعلم منهم الطهارة، فأما من يخاف منه أن لا يبالي بالنجاسة فإن من تحرج عما يمسه لم ألمه إلا أنه مباح ما لم يتيقن نجاسة. * وفيه أيضًا ما يدل على أن ترك العمل الفاضل لخوف أن يتأذى منه مضرة جائز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرفهم فضيلة العمل وعرفهم عذره كيف لم يعمل. * وقد دل الحديث على فضل سقي الماء، وأنه من أفضل القربات. -1159 - الحديث الرابع والتسعون: (عن ابن عباس قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشرب في السقاء). * هذا الحديث يتضمن الإشفاق على الشارب؛ لأنه ربما كان في الإناء دبيب وقد لا يتهنا بالشرب.

-1160 - الحديث الخامس والتسعون: (عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وهو في قبة يوم بدر: (اللهم، أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لا تعبد بعد هذا اليوم)، فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده فقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربك، فخرج في الدرع، وهو يقول: (سيهزم الجمع ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر). * قد سبق الكلام في هذا في مسند عمر رضي الله عنه. * وإن معنى (إن تشأ): ما تشاء لا تعبد. * وقوله: (ألححت على ربك): يدل على أن الإلحاح في الدعاء جائز. -1161 - الحديث السادس والتسعون: (عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على أعرابي يعوده، فقال: (لا بأس عليك، طهور إن شاء الله). فقال الأعرابي: طهور؟! بل حُمَّى تفور، على شيخ كبير، تزيره القبور، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فنعم إذًا). وفي حديث مَعلَّي بن أسد: دخل على أعرابي يعوده، قال: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم -

إذا دخل على مريض يعوده قال: (لا بأس، طهور إن شاء الله) فقال: قلت: طهور؟! بل حُمَّى تَفُورُ، على شيخ كبير، تزيره القبور). * في هذا الحديث ما يدل على أن المسلم إذا قال له أخوه المسلم كلمة بشرى وحمل حالاً له على محمل - فينبغي أن يتقبل ذلك ويرى أن الله تعالى أنطق ذلك المتكلم. * وفيه أيضًا دليل (49/أ) على أنه لم يقبل البشرى وتأول الكلام على الحالة السوآى كان له ما اختار لنفسه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فنعم إذًا) أي لما حملت أنت الأمر على الحال السيئة كان ذلك. -1162 - الحديث السابع والتسعون: (عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت، وهو على بعير، فلما أتى الركن أشار إليه بشيء في يده، وكبر). * قد مضى الكلام على هذا الحديث.

-1163 - الحديث الثامن والتسعون: (عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر: (هذا جبريل أخذ برأس فرسه، عليه أداة الحرب). * إن كان يريد بهذا أن جبريل كان راكبًا، ففي هذا تعليم للغزاة أن لا يهمل الراكب رأس فرسه، وإن كان جبريل كان آخذًا برأس فرسه يقوده، فهو تعليم للناس تر فيه مراكبهم إلى زمان الحاجة إلى القتال. * وأداة الحرب: آلاته. -1164 - الحديث التاسع والتسعون: (عن ابن عباس قال: (إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حُرمَتْ عليه) موقوف). * وهذا لأنه ليس للمشرك أن ينكح مسلمة.

-1165 - الحديث المائة: (عن ابن عباس في قوله تعالى: {ولا يعصينك في معروف} قال: إنما هو شرط شرطه الله عز وجل للنساء). * هذه كلمة طيبت قلوب النساء وحرست عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ظنون الجاهلين، وتثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر إلا بمعروف. -1166 - الحديث الأول بعد المائة: (عن ابن عباس قال: حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرات، ولا تمل الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم، فتقص عليهم، فتقطع عليهم حديثهم فتملهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لا يفعلون ذلك). * في هذا الحديث حسن التعليم للمتعلمين، وأن من آفة التعليم إكثاره حتى تعجز القلوب عن أن تعيه، ولهذا قال: (حدِّث الناس في كل جمعة مرة،

فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرات)، يعني أن من تغب يومًا وتحدثهم يومًا؛ وذلك أنهم يتفكرون فيما (49/ب) سمعوا، ويردون قولك ليحفظوه، فعلى الإكثار تغب يومًا وتحدث يومًا دون يوم الجمعة، فإنه خارج من هذه الوظيفة لأجل التشاغل بالجمعة إلا أن هذا إنما قاله في قوم ذوي رغبة في العلم، فتداوى به فرط رغبتهم ليرد أمر تعليمهم إلى الاعتدال النافع، فأما إذا مُني بقوم لا يستطيعون سمعًا ويهجرون ذكر الله أنهم ممن قال الله: {يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا}، فكانوا ممن قال الله عز وجل فيهم: {وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم} الآية. فإن هؤلاء بكل حال يصدع لهم بالحجة، وينطق بالحق في وجوههم وإن كرهوا، وإن زعموا، قال الله عز وجل: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك}. * وفي هذا الحديث كراهية التكلف للسجع، فإن السجع داعية التكليف لكن ممن يأتي بالقول الحسن فانساق إلى قرائن، وما فيه نوع استجلاب للفهم مما يزيده حسنًا فلا بأس. -1167 - الحديث الثاني بعد المائة: (عن ابن عباس: سُئل عن متعة الحج؟ فقال: أهل المهاجرون والأنصار، وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

(اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة، إلا من قلد الهدي) طفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا النساء، ولبسنا الثياب، وقال: (من قلد الهدي لا يحل حتى يبلغ الهدي محله)، ثم أمرنا عشية التروية أن نُهِلَّ بالحج، فإذا فرغنا من المناسك، جئنا فطفنا بالبيت، وبالصفا والمروة، وقد تم حَجُّنا وعلينا الهدي، كما قال الله تعالى: {فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم}: إلى أمصاركم، الشاة تجزئ، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة، فإن الله أنزله في كتابه، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأباحه للناس غير أهل مكة، قال الله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}. وأشهر الحج التي ذكر الله تعالي: شوال (50/أ) وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، فمن تمتع في هذه الأشهر، فعليه دم أو صوم. والرفث: الجماع، والفسوق: المعاصي، والجدال: المراء). * قد سبق الكلام في هذا الحديث وشرحنا ما يتعلق به.

-1168 - الحديث الثالث بعد المائة: (عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدًا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه. فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (لو فعله لأخذته الملائكة). زاد أبو مسعود: (لأخذته الملائكة عيانًا). قال: وقال ابن عباس: ولو تمنى اليهود الموت لماتوا، ولو خرج الذين يباهلون النبي - صلى الله عليه وسلم - لراجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً). * في هذا الحديث من الفقه ما يدل على أن أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - بلغ من الكافر كل مبلغ، كما أن الشدة تناهت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين إلى أقصى غاية. * وفيه أيضًا: أن الله سبحانه لا يذل نبيه ولا يسلط عليه أعداءه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو فعله لأخذته الملائكة عيانًا). * وفيه أيضًا: أنهم لو باهلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - لراجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً. ومن أكبر الدليل على صدقه - صلى الله عليه وسلم - أنهم لم يتجاسروا على مباهلته،

ولولا علمهم بصدقه ما توقفوا. -1169 - الحديث الرابع بعد المائة: (عن ابن عباس قال: لما أتى ماعزُ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (لعلك قبلت أو غمزت، أو نظرت؟) قال: لا يا رسول الله، قال: (أنكتها؟) لا يكني، فعند ذلك أمر برجمه. وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لماعز بن مالك: (أحق ما بلغني عنك؟) قال: وما بلغك عني؟ قال: (بلغني أنك وقعت بجارية آل فلان). قال: نعم، فشهم أربع شهادات ثم أمر به فرجم).

* قد سبق الكلام في قصة ماعز. -1170 - الحديث الخامس بعد المائة: (عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوم النحر فقال: (يا أيها الناس، أي يوم هذا؟) قالوا: يوم حرام، قال: (فأي بلد هذا؟) قالوا: بلد حرام، قال: (فأي شهر هذا؟) قالوا: شهر حرام. قال: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم (50/ ب) هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا) فأعادها مرارًا، ثم رفع رأسه فقال: (اللهم بلغت). قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده، إنها لوصية إلى أمته: (فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفارًا؛ يضرب بعضكم رقاب بعض).

* هذا الحديث قد تقدم شرحنا له. -1171 - الحديث السادس بعد المائة: (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن). زاد إسحاق بن يوسف: (ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن). قال عكرمة: فقلت لابن عباس: كيف يُنزع الإيمان منه؟ قال: هكذا، وشبَّك بين أصابعه، ثم أخرجها، فإن تاب عاد إليه هكذا، وشبَّك بين أصابعه). * هذه الواو في قوله: (وهو مؤمن) واو حال؛ كقوله تعالى: {وإذا قتلتم نفسًا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون}. * وقد دل الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه، وخروجه من العبد وعوده إليه.

-1172 - الحديث السابع بعد المائة: (عن ابن عباس: {لرادُك إلى معادٍ} قال: إلى مكة). * المعاد: المراد، وإذا أطلق انصرف إلى القيامة. وقد فسره ابن عباس العود إلى مكة، فقد حصل النبي - صلى الله عليه وسلم - الفوز بسعادة الأمرين. -1173 - الحديث الثامن بعد المائة: (عن سفيان التمار من قوله: أنه رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مُسنمًا). * هذا الحديث يدل على أن السنة تسنيم القبور. -1174 - الحديث التاسع بعد المائة: (عن ابن عباس قال: إن أول قسامة كانت في الجاهلية لقينا بني هاشم، كان رجل من بني هاشم، استأجر رجلاً من قريش من فخذ أخرى، فانطلق

معه في إبله، فمر به رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه، فقال: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي، لا تنفر الإبل، فأعطاه عقالاً فشد به عروة جوالقه، فلما نزلوا أعلقت الإبل إلا بعيرًا واحدًا، فقال الذي استأجره: ما بال هذا البعير لم يعقل بين الإبل؟ قال: ليس له عقال، قال: فأين عقاله؟ فحذفه بعصا كان فيها أجله. فمر رجل من أهل اليمن، فقال: أتشهد الموسم؟ فقال: ما أشهد وربما شهدته، فقال: هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر؟ قال: نعم، قال: فإذا أنت شهدت الموسم (51/أ) فناد: يا آل قريش، فإذا أجابوك فناد: يا آل بني هاشم، فإذا أجابوك، فسل عن أبي طالب فأخبره: أن فلانًا قتلني في عقال، ومات المستأجر. فلما قدم الذي استأجره. أتاه أبو طالب: ما فعل صاحبنا؟ قال: مرض، فأحسنت القيام عليه، ووليت دفنه، قال: قد كان أهل ذاك منك، فمكث حينًا، ثم إن الرجل الذي أوصى إليه أن يبلغ عنه وافى الموسم، قال: يا آل قريش، فقالوا: هذه قريش، قال: يا بني هاشم؟ قالوا: هذه بنو هاشم، قال: أين أبو طالب؟ قالوا: وهذا أبو طالب، قال: أمرني فلان أن أبلغك رسالة، أن فلانًا قتله في عقال. فأتاه أبو طالب فقال: اختر منا إحدى ثلاث: إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا، وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، وإن أبيت قتلناك به، فأتى قومه فأخبرهم فقالوا: نحلف، فأتته امرأة من بني هاشم، كانت عند رجل منهم، قد ولدت منه، فقالت: يا أبا طالب، أحب أن تجير ابني هذا برجل من الخمسين، ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان؛ ففعل، فأتاه رجل منهم فقال: يا أبا طالب، أردت خمسين رجلاً يحلفوا

مكان مائة من الإبل، فيصيب كل رجل منهم بعيران، هذان الصغيران فاقبلهما مني، ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان، فقبلهما، وجاء بثمانية وأربعون فحلفوا. قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده، ما حال الحول، ومن الثمانية والأربعين عين تطرف). * قوله: (قتلني في عقال) أي لأجل عقال. * وقوله: (أن تجير ابني) أي تأن له في ترك اليمين، و (اليمين الصبر) التي يلزمها المأمور بها. * في هذا الحديث ما يدل على تغليظ الحنث في اليمين، وأن الله تعالى لم يمهل عنها من حنث في الجاهلية، ليستدل المؤمن على أنه من حنث بعد إقراره بالحق واعترافه بالرب سبحانه وتعالى، فإنه أغلظ ذنبًا وأفحش جرمًا، وأعظم استهدافًا لأليم العقوبة. -1175 - الحديث العاشر بعد المائة: (عن طلحة بن عبد الله قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب، وقال: ليعلموا أنها سنة). * الظاهر من ابن عباس جهر حتى سمع المأموم، والجهر في الجنازة مذهب

ليس بالمعمول عليه. -1176 - الحديث الحادي عشر بعد المائة: (عن ابن عباس (51/ ب) قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ). * أراد - صلى الله عليه وسلم - أن من أصح الله جسمه وفرغه من شواغل هذه الدنيا، فلم ينفق صحته الواقعة في طرف من الزمان فارغ عن شاغل له في أربح التجائر وأعلى المكاسب من معاملة الله سبحانه وتعالى في أعلى المقامات التي وعد عليها سبحانه بأنه يحب أهلها، ويكرمهم، ويقدمهم منه فإنه مغبون. * وفيه دليل على أن الصحة نعمة فلا ينبغي أن يختار عليها البلاء. *وفيه أيضًا دليل على أن الفراغ نعمة فإذا فتح به فلا ينبغي أن يختار عليه عمل دنيا، فإذا أنعم الله تعالى على عبد من عباده بصحة في بدنه وفراغ في وقته، فلم ينفق هذه الصحة في هذه الفراغ لله سبحانه فقد غبن، ومن ذلك أنه إذا خلا في وقت دون وقت، فينبغي له أن ينفق ذلك الوقت الفارغ من شغل الدنيا في شغل الآخرة، ولا ينتظر بعمل الآخرة أن يتفرغ له في كل أوقاته، ولذلك فإن أعوزته الصحة التامة فلينفق مما آتاه الله منها، ولا يقفل بقية النعمة عنده.

-1177 - الحديث الثاني عشر بعد المائة: (عن ابن عباس قال: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين}: عن بدر والخارجون إلى بدر). * هذا الكلام، وإن كان متعينًا في أهل بدر، فيه دليل على أن كل ناهض إلى الجهاد لا يستوي والقاعدة عنه. -1178 - الحديث الثالث عشر بعد المائة: (عن ابن عباس قال: {اللات والعزى} كان اللات رجلاً يلُتُّ سويق الحاج). * هذا الحديث يدل على العاقل على أن لا يعطي الأشياء فوق حقها؛ فإن كثيرًا من الجُهَّال يطفون بالعالم فيعظمونه ويتوهمون فيه الأوهام، ثم إذا مات اتخذوا قبره وثنًا من الأوثان وذلك غير جائز. -1179 - الحديث الرابع عشر بعد المائة:

(عن ابن عباس: {حسبنا الله ونعم الوكيل} قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا: {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}). * من قال بلسانه حسبي الله فينبغي أن يوقن بذلك الذي نطق به، فإن أضطربت نفسه في ذلك فقال: إذن ونعم الوكيل. وقد اتفق على هذه الكلمة نبيان عظيمان: محمد الحبيب وإبراهيم الخليل صلى الله عليهما. * ويعني بالوكيل أنه كلما يغيب عنه العبد فإن الله سبحانه (52/أ) شاهده، فمن اتخذ ربه وكيلاً كما قال تعالى: {فاتخذه وكيلاً}، فإن من شرط هذا الاتخاذ أنه إذا قضى لعبده قضاء يكون راضيًا بالقضاء في تلك الوكالة محسنًا ظنًا غير مسي له؛ فإن الله تعالى لا يختار له إذا اتخذه وكيلاً إلا الأفضل والأجود، لا سيما وقد جربت أيها الإنسان كيف يتنكب القدر اختياراتك الدنية وأبدلك بها الأمور العلية غير راض أن يجعل إحسانه إليك تابعًا لسوء اختيارك. -1180 - الحديث الخامس عشر بعد المائة: (عن أبي يعفور العبدي، قال: تذاكرنا عند أبي الضُّحى فقال: حدثنا ابن

عباس قال: أصبحنا يومًا ونساء النبي - صلى الله عليه وسلم - يبكين، عند كل امرأة منهن أهلها، فخرجت إلى المسجد، فإذا هو ملآن من الناس، فجاء عمر بن الخطاب، فصعد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في غرفة له، فسلم فلم يجبه أحد، ثم سلم فلم يجبه أحد، ثم سلم فلم يجبه أحد، فناده، فدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أطلقت نساءك؟ قال: (لا، ولكن آليت منهن شهرًا) فمكثن تسعًا وعشرين، ثم دخل على نسائه). * قد سبق الكلام على هذا الحديث في مسند عمر رضي الله عنه. -1181 - الحديث السادس عشر بعد المائة: (عن عبد العزيز بن رفيع، قال: دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس، فقال له شداد بن معقل: أترك النبي - صلى الله عليه وسلم - من شيء؟ فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين. قال: ودخلنا على ابن الحنفية فسألناه، فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين). * هذا الحديث يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يترك من العلم شيئًا سرًا ولا مكتومًا.

* وقوله: (بين الدفتين) فاعلم أنه من فهم عن الله عز وجل ما في كتابه من العلوم ثم علمه فإن عليًا عليه السلام يقول: إلا رجلاً آتاه الله عز وجل فهمًا في كتابه. -1182 - الحديث السابع عشر بعد المائة: (عن ابن عباس: {إنها ترمي بشرر كالقصر} قال: كنا نرفع الخشب ثلاثة أذرع أو أقل للشتاء، فنسميه القصر، {كأنه جمالت صفر} حبال السفن تجمع حتى تكون كأوساط الرجال). * في هذا الحديث ما يدل على عظم جهنم، وأن شررها لم يشتبه إلا بالقصر، وهو أصول (52/ب) النخل المقطوعة، وإنما شبهت بهذا ولم تشبه بالصخر لأنها نظير لحفتها. وقوله: {كأنه جمالت صفر} أي أنه الجمال، والمعنى أنها تأتي جملة ثم تتفرق. * قال المفسرون: الصفر هاهنا هي السود. -1183 - الحديث الثامن عشر بعد المائة: (عن ابن عباس قال: كان أقوام يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استهزاءً، فيقول

الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي. فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} حتى فرغ من الآية كلها). * في هذا الحديث ما يدل على أنه لا ينبغي أن يسأل العالم إلا لطلب فائدة مستجلبة أو لحل عقدة في القلب. -1184 - الحديث التاسع عشر بعد المائة: (عن أبي الجويرية قال: سألت ابن عباس عن الباذق فقال: سبق محمد - صلى الله عليه وسلم - الباذق: (فما أسكر فهو حرام) قال: عليك بالشراب الطيب الحلال، ليس بعد الحلال الطيب إلا الحرام الخبيث). * الباذق: نوع من الشراب. * وقوله: (سبق محمد - صلى الله عليه وسلم - الباذق) أي سبق إلى كلام يشتمل على الباذق وغيره، وهو أن كل ما أسكر فهو حرام.

-1185 - الحديث العشرون بعد المائة: (عن أبي السفر قال: سمعت ابن عباس يقول: يا أيها الناس، اسمعوا مني ما أقول لكم، وأسمعوني ما تقولون، ولا تذهبوا فتقولوا: قال ابن عباس: من طاف بالبيت، فيلطف من وراء الحجر، ولا تقولوا الحطيم، فإن الرجل في الجاهلية كان يحلف، فيلقي سوطه أو نبله أو قوسه. زاد البرقاني: وأيما صبي حج به أهله فقد قضت حجته عنه مادام صغيرًا وإذا بلغ فعليه حجة أخرى. وأيما عبد حج به أهله فقد قضت حجته عنه مادام عبدًا، فإذا عتق فعليه حجة أخرى). * في هذا الحديث أن العالم ينبغي أن يفصح فيما يذكره ولا يحجم القول ولا يخفض الصوت إلا لحال يقتضي ذلك، كما أن السائل ينبغي له أن يصدع بالقول ويحسن السؤال. * وقد دل الحديث أن الحجر من البيت. * وقوله: (فقد قضت حجته) أي صحت إلا أنها صادفت زمانًا لم يفرض

عليه فيه الحج فكانت نافلة، فإذا فرض عليه الحج (53/أ) استأنف حجه لتعلق الفرض به فيما بعد، والعبد مثل الصبي في ذلك.

أفراد مسلم -1186 - الحديث الأول: (عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس: أرأيت هذا الرمل بالبيت ثلاثة أطواف، ومشي أربعة أطواف. أسنةٌ هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة. قال: فقال: صدقوا وكذبوا. قال: قلت: ما قولك: صدقوا وكذبوا؟ قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة. فقال المشركون: إن محمدًا وأصحابه لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيت من الهزال. وكانوا يحسدونهم، قال: فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرملوا ثلاثًا. ويمشوا أربعًا. قال: قلت له: أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبًا أسنة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة. قال: صدقوا وكذبوا. قال: قلت: ما قولك: صدقوا وكذبوا؟ قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثر عليه الناس، يقولون: هذا محمد، هذا محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى خرج العواتق من البيوت. قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثر عليه ركب، والسعي والمشي أفضل. وفي رواية فقلت لابن عباس: إن قومك يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمل بالبيت. وبين الصفا والمروة. وهي سنة. قال: صدقوا وكذبوا. ولم يزد. وفي رواية عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس: أراني قد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فصفه لي. قال: قلت: رأيته عند المروة على ناقة وقد

كثر الناس عليه. قال: فقال ابن عباس: ذاك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنهم كانوا لا يدعون عنه ولا يكرهون). * في هذا الحديث أن الإمام ينبغي أن لا يدفع الناس عنه ولا يكرهون إلا أن يخاف على نفسه فله الدفع عن نفسه. * وقد مضى الكلام في هذا الحديث. -1187 - الحديث الثاني: (عن عبيد الله بن عبد الله، قال: قال لي ابن عباس: تدري آخر سورة من القرآن نزلت جميعًا؟ قلت: نعم: {إذا جاء نصر الله والفتح}. قال: صدقت). * هذا الحديث يدل على أن آخر سورة أنزلت: {إذا جاء نصر الله}. وقد روى في حديث البراء أن آخر (53/ب) سورة نزلت براءة.

-1188 - الحديث الثالث: (عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها). وفي رواية: (والبكر يستأذنها أبوها في نفسها، وإذنها صماتها). قال: وربما قال: (وصمتها إقرارها). * هذا الحديث يحتج به أبو حنيفة رحمه الله في جواز نكاح المرأة بغير ولي، ووجه احتجاجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الأيم أحق بنفسها) فشارك بينها وبين الولي في ثبوت الحق ثم قدمها بقوله: (أحق). وأحق في لغة العرب في زون (أفعل) ولا يكون أحق إلا ممن له حق. -1189 - الحديث الرابع: (أن أبا الصهباء، قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر واحدة؟ فقال: قد كان ذلك. فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق، فأجازه عليهم. وفي رواية: كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من

خلافة عمر رضي الله عنه طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم. وفي رواية: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم أنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وثلاثًا من إمارة عمر، فقال ابن عباس: نعم). * هذا الحديث قد ورد هكذا وعمل الأمة على خلافه، وما عمله عمر قد تلقته الأمة بالقبول فأجمع الناس عليه إلا من لا يعتد بخلافه. -1190 - الحديث الخامس: (عن ابن عباس قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت). * في هذا الحديث دليل على وجوب طواف الوداع، وأن ينزل الحاج البيت

آخر مفارق، وذلك أجدر أن يكون من صفة للحنين. -1191 - الحديث السادس: (عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، فإذا استغسلتم فاغلسوا). * أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن العين قد يصيب بها الإنسان صاحبه وذلك واقع حقًا، جعله الله سببًا لما يريد إنفاذه (54/أ) فيه. * وقوله: (ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين) فالذي أرى في ذلك أن الأصل فيه أن الله سبحانه وتعالى خلق عباده ففضل بعضهم على بعض كما شاء، والمفضول يعرضه الحسد، والمتعين على الفاضل أن لا يتعرض لغيظ أخيه المفضول بإكثار عليه رؤية ما يغيظه من فضله أو ما يزيده من حسده إياه، ولكن ليكن ذلك على حسن تدبير، وليحرص في أن يتجاف هذه الحال مع الأقرب فالأقرب من أهله ومعارفه فإنهم له أحسد إلا من وقى الله، فإذا تظاهر الفاضل في حال أو جمال أو مال بما من الله تعالى به عليه غائظًا به المفضول تعرض من الله تعالى لإزالة ذلك الشيء، فيكون رؤية ذلك الناظر له قد كانت سببًا لأن غضب الله فأزال ذلك الذي كان الحاسد يحسد فيه. فإن العين لا تنال ذلك إلا من هذه الطريق.

* وعلى هذا أرى قوله تعالى: {وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد}؛ لأنه أراد أنكم إذا دخلتم وأنتم أحد عشر ولدًا ذكرًا في مرة كان ذلك جالبًا لتذكر الناس بالتعجب منكم، فإنكم ولد رجل واحد، فإذا دخلتم من أبواب متفرقة لم يكن ذلك من المثير لحسد الناس كما يكون إذا دخلتم من باب واحد، {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم} كان ذلك لبركة قبولهم منه داعية إلى زيادتهم وجدان يوسف فإنه جاءهم ملكًا، ولو قدر لهم أن يخالفوا يعقوب عليه السلام كانوا أقرب إلى النقص؛ فهذه الآية في العين. * وقوله: (فإذا استغسلتم فاغسلوا) يعني أن العين إذا نظر بها الشخص نظره إلى ذلك الحسن الذي قدمنا ذكره انتشرت من باطنه على ظاهره وأثرت في جميع أحواله، فإذا استغسل بالماء بردت زفرة حسرته. فقد روي في الحديث: (إذا اشتد غضب الإنسان فليغتسل)، وإنما كان ذلك ليذهب الغلي عنه فوضع الماء على الناظر تبريد لما غلى به قلبه فانتشر على بدنه وأعصابه، ثم أخذ ذلك ورميه على المنظور فيه نوع ألفة لأن النظر كان عن نوع فرقة فجمع الماء بينهما.

-1192 - الحديث السابع: (عن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا (54/ب) التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن. فكان يقول: (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله). * التحية في لسان العرب الملك، فلما ذكر التحيات وصفها فقال: (المباركات)، ثم عقبها وقال: (الصلوات)، ثم زاد في وصفها فقال: (الطيبات)، ثم قال: (لله) واللام هي لام الملك. * وقوله: (السلام علينا) لما كان الإنسان يدعو له في الصلاة كأنه قد أذن تغيبه عن الخلق ولقائه للأنبياء وعباد الله الصالحين، فيكون سلامه عليهم كأنه رآهم، ولذلك جعل في الجلوس من الصلاة فإن القراءة وتعظيم الله عز وجل أكثره في القيام، فإذا أسلم للخروج من الصلاة فكأنه أدهم القدوم من تلك الغيبة. -1193 - الحديث الثامن: (عن ابن عباس، أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فقالت: إني امرأة ثقيلة، وإني أريد الحج فما تأمرني؟ قال: (أهلي بالحج، واشترطي أن محلي حيث حبستني. قال: فأدركت). وفي رواية: أن ضباعة أرادت الحج فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تشترط ففعلت ذلك عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). * في هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم هذه المرأة ما تحتاط به. * وعند الشافعي وأحمد أن من شرط في ابتداء إحرامه أنه إذا مرض تحلل جاز له التحلل عند وجود الشرط. وعند أبي حنيفة ومالك أن اشتراطه لا تأثير له. فأبو حنيفة يقول: لا يحل إلا بالهدي، ومالك يقول: لا يستفيد التحلل أصلاً. والحديث حجة حلية لأحمد والشافعي رحمة الله عليهما. -1194 - الحديث التاسع: (عن طاوس قال: قلت لابن عباس في الإقعاء على القدمين. فقال: هو سنة. قلنا: فإننا نرى أن ذلك من الجفاء إذا فعله الرجل. قال: بل هو سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم -).

* الإقعاء: أن يضع إليتيه على عقبيه ويقعد مستوفزًا غير مطمئن إلى الأرض، وكذلك إقعاء السباع، إنما هو أن تقعد على مآخيرها وتنصب أفخادها. قال طاوس: رأيت العبادلة (55/أ) ابن عباس وابن عمر وابن الزبير يفعلون ذلك. وقال أحمد بن حنبل: أهل مكة يستعملون الإقعاء. وقد روي عن ابن عمر أنه قال لبنيه: لا تقتدوا بي في الإقعاء؛ فإني إنما فعلته حين كبرت. قال الخطابي: ويشبه أن يكون حديث ابن عباس منسوخًا؛ لأنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق أنه قعد بين الجلستين مفترشًا قدمه اليسري. والعمل على ما ذكره الخطابي. -1195 - الحديث العاشر: (عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن، قولوا: (اللهم، إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات).

* قد سبق تفسير هذا الحديث وبينا معنى الاستعاذة. -1196 - الحديث الحادي عشر: (عن كريب عن ابن عباس: أنه مات ابن له بقديد أو بعسفان. فقال: يا كريب! انظر ما اجتمع له من الناس. قال: فخرجت فإذا ناس قد اجتمعوا له. فأخبرته. قال: تقول هم أربعون؟ قال: نعم. قال: أخرجوه، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا، إلا شفعهم الله فيه). * هذا الحديث يدل على أن المصلين على الميت شفعاء فيه، وأنهم كلما كثروا كان أفضل عند الله عز وجل وما أخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - أكثر. وقد قال ابن عباس: (إن الله حييٌ كريم). وفي حديث آخر: (إن الله يستحي أن يمد العبد يده إليه فيردها

صفرًا). فإذا رأى الله عز وجل أربعين من عباده المؤمنين يشفعون في بعض عباده استحى أن لا يشفعهم. -1197 - الحديث الثاني عشر: (عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي ركبانًا بالروحاء. فقال: (من القوم؟) قالوا: المسلمون. فقالوا: من أنت؟ فقال: (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، فرفعت إليه امرأة صبيًا فقالت: ألهذا حجٌ؟ قال: (نعم، ولك أجر). * في هذا الحديث من الفقه أن صوت المرأة ليس بعورة، وأن للصبي حجًا. * وفيه اغتنام أوقات (55/ب) العلماء، وسؤال العالم على قدر ما يحتمل الوقت. * وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سألته عن شيء أجاب وضم إليه غيره. فقال: (نعم، ولك أجر). -1198 - الحديث الثالث عشر: (عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى خاتمًا من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه، وقال: (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده) فقيل للرجل- بعد ما ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خذ خاتمك لتنتفع به. قال: لا، والله لا

آخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). * في هذا الحديث من الفقه تحريم خاتم الذهب. * وفيه دليل على أن من رأى منكرًا في يد شخص جاز له نزع المنكر من يده، وإنما استجاز طرحه من مكان لا يعدم ملتقطًا ينتفع به؛ إذ لو كان رميه إياه في مضيعة لا يراه آدمي أو في بحر لا يمكن استخلاصه لم يجز لأنه مال، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال. -1199 - الحديث الرابع عشر: (عن كريب، عن ابن عباس قال: كانت جويرية اسمها برة فحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اسمها جويرية. وكان يكره أن يقال: خرج من عند برة). * إنما كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأن البر يدخل عليه، ولا يخرج عنه. -1200 - الحديث الخامس عشر: (عن كريب أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام،

فقضيت حاجتها، واستهل عليَّ رمضان وأن بالشام، فرأيت الهلال يوم الجمعة، وقدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه يوم الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ قلت: نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت ولا يزال الصوم حتى نكمل ثلاثين، أو نراه. فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. شكَّ يحيى في: نكتفي أو تكتفي). * في هذا الحديث ما يدل على أن لكل إقليم حكمه. -1201 - الحديث السادس عشر: (عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة). * هذا الحديث يحتج به أبو حنيفة؛ لأن عنده أن القصر متعين على المسافر ولا يجوز له الإتمام (56/أ). من خالفه أجاب بجوابين:

أحدهما: أن هذا من رأي ابن عباس لا من روايته. والثاني: أن الصلاة في السفر ركعتان فرض من اختار القصر. وعند أحمد والشافعي أن المسافر إذًا مخير بين القصر والإتمام. -1202 - الحديث السابع عشر: (عن ابن عباس قال: رآه بقلبه. يعني قوله: {ولقد رآه نزلة أخرى}. وفي رواية قال: رآه بفؤاده مرتين). * معنى قوله: (رآه بقلبه) أي أن قلبه كان ثابتًا وقت رؤية العين، وكذلك قوله: (رآه بفؤاده) أي كان فؤاده ثابتًا وقت الرؤية؛ وهذا لأن قلب الرائي إذا كان غائبًا لم يدر البصر ما يرى فإذا ثبت علم. -1203 - الحديث الثامن عشر: (عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: (اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض، وما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا

ينفع ذا الجد منك الجد). * قد سبق تفسير هذا في مواضع. -1204 - الحديث التاسع عشر: (عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمين وشاهد). * قد سبق الكلام في هذا الحديث. -1205 - الحديث العشرون: (عن ابن عباس، قال: أهدى الصعب بن جثامة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل حمار وحش.

وفي حديث شعبة: عجز حمار وحش يقطر دمًا. وفي رواية: شق حمار وحش فرده. وفي رواية: أهدى الصعب بن جثامة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حمار وحش وهو محرمٌ. قال: فرده عليه. وقال: (لولا أن محرمون لقبلناه منك). * قد مضى الكلام في هذا الحديث، وبينا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما رده عليه لأنه صاده لأجله، ولولا ذلك لقبله كما سبق في حديث أبي قتادة. -1206 - الحديث الحادي والعشرون: (عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {آلم (1) تنزيل} السجدة، و {هل أتى على الإنسان حين من الدهر}، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة والمنافقين). * هذا الحديث يدل على استحباب القراءة بهاتين السورتين، وقراءة السجدة و {هل أتى} في الفجر يوم الجمعة يناسب الشكر لله على ما خص به (56/ب) آدم عليه السلام من سجود الملائكة بعد أن لم يكن شيئًا مذكورًا،

ولأنه خُلق يوم الجمعة، وقراءة الجمعة والمنافقين تتناسب مع ذكر الجمعة وذم المتخلفين عنها. -1207 - الحديث الثاني والعشرون: (عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به). * أراد أن الله تعالى يظهر عنه ما ينطوي عليه من فتح السريرة. نقول: سمعت بالشيء إذا أشعته ففشى في الإسماع، وسمعت بالرجل إذا أشهرته. وفي معنى هذا من راءى راءى الله به. وقد سبق هذا الحديث بأتم من هذا. -1208 - الحديث الثالث والعشرون: (عن ابن عباس، قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: من يُعيرُني تطوافًا؟ تجعله على فرجها. وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله .... وما بدا منه فلا أحله.

فنزلت هذه الآية: {خذوا زينتكم عند كل مسجد}). * هذا شرح حال من قبائح أحوال الجاهلية التي أزالها الله عز وجل ونهى عنها. * وفيه حث على ستر العورة. -1209 - الحديث الرابع والعشرون: (عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضًا). * إنما نهى عن ذلك لإكرام ذوات الأرواح، وإنما أبيح الذبح للحاجة، وذلك بما يحصل الفائدة على وجه الرفق لا على وجه العنف. والغرض هي المرمى. -1210 - الحديث الخامس والعشرون: (عن ابن عباس، قال: بينما جبريل قاعد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع نقيضًا من فوقه، فرفع رأسه، فقال: هذا باب من السماء يفتح لم يفتح قط إلا اليوم،

فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزل قط إلا اليوم فسلم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك؛ فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة. لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته). * في هذا الحديث ما يدل على تكريم هذه الآيات بأن فتح لها باب لم يفتح قبل، وأرسل بها ملك لم يرسل قبل، وتسميتها بنورين وأنه لم يؤتها نبي قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -. * والنقيض: هو الصوت. * وفي الحديث إثبات الحرف لقوله: (لن تقرأ بحرف منهما). -1211 - الحديث السادس والعشرون: (عن ابن عباس، لما نزلت هذه الآية: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه (57/أ) يحاسبكم به الله} دخل قلوبهم منها شيء، لم يدخل قلوبهم من شيء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قولوا: سمعنا وأطعنا وسلمنا) قال: (فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله عز وجل: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: قد فعلت،

{واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا} قال: قد فعلت). * في هذا الحديث دليل على إجابة الدعاء، وقد سبق الكلام في هذه الآيات. -1212 - الحديث السابع والعشرون: (عن ابن عباس قال: كان رجل من أزد شنوءة يقال له (ضماد)، وكان يرقي ويداوي من الريح، فقدم مكة، فسمع السفهاء يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المجنون، المجنون) ثم قالوا: لو أتيت هذا الرجل فداويته لعل الله أن يشفيه وينفعه على يديك، فأتاه فقال: يا محمد إني رجل أداوي من الريح، فإن أحببت داويتك. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الحمد لله، أحمده وأستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد). فقال: أعد عليَّ، فما سمعت مثل هذا الكلام، لقد بلغ قاموس البحر، فهات فلأبايعك على الإسلام. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وعلى قومك؟) فقال: وعلى قومي، فبعث رسول الله جيشًا بعد مقدمه المدينة، فمروا بقلب البلاد، فقال أميرهم: هل أصبتم شيئًا؟ قال رجل منهم: إداوة. قال: ردوها، هؤلاء قوم ضماد).

* في هذا الحديث ما يدل على أن العاقل إذا كان خطيبه وجلساؤه أهل جهل ظنوا عقله جنونًا إلا أن العاقبة له؛ فإن ضماد جاء ليداوي- بزعم الجاهلية- داء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فداواه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من دائه وشفاه من مرض مهلك شنعاء لم يغادر سقمًا أبد الأبد. * وقاموس البحر: هو وسطه. -1213 - الحديث الثامن والعشرون: (عن أبي البختري قال: خرجنا للعمرة، فلما نزلنا ببطن نخلة تراءينا الهلال، فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين، قال (57/ب) فلقينا ابن عباس، فقلنا: إنا رأينا الهلال، فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين، فقال: أي ليلة رأيتموه؟ قلنا: ليلة كذا وكذا. فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله مده للرؤية فهو لليلة رأيتموه). وفي حديث شعبة: أهللنا رمضان ونحن بذات عرق، فأرسلنا رجلاً إلى ابن عباس يسأله. فقال ابن عباس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله قد أمده

لرؤيته، فإن أغمي عليكم فأكملوا العدة). * معنى الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مد الصوم إلى رؤية الهلال. -1214 - الحديث التاسع والعشرون: (عن ابن عباس قال: أخبرني رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار، أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمي بنجم فاستنار، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما كنتم تقولون في الجاهلية، إذا رمي بمثل هذا؟) قالوا: الله ورسوله أعلم، كنا نقول: وُلِدَ الليلة رجل عظيم، ومات رجل عظيم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فإنها لا يرمي بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا- تبارك اسمه- إذا قضى أمرًا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا. ثم قال الذين يلون حملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم. قال: فيستخبر بعض أهل السماوات بعضًا حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا. فتخطف الجن السمع، فيقذفون إلى أوليائهم، ويرمون فيما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون). وفي رواية يونس بن يزيد: رجال من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فزاد

وقال الله: {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق} [سورة سبأ: الآية: 23]). * هذا المعنى قد سبق ما قد تبين وثبت، وأن القرآن نزل بالدلالة على أن الكواكب إنما نقضت في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا قد ذكره عن رجل ولم يسمه، فإن صح فالمراد قوله: (وما كنتم تقولون في هذا؟) أي في هذا الجنس من الآيات، فلما قالوا: كنا نقول كذا وكذا وشرح لهم موجب انقضاض الكواكب بعد مبعثه. * وقوله: (يقرفون فيه) أي يزيدون فيه. ومعنى (58/أ) {فزع عن قلوبهم} خفف عنها الفزع. -1215 - الحديث الثلاثون: (عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في ركعتي الفجر: في الأولى منهما: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} الآية التي في البقرة، وفي الآخرة: {آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون}. وفي رواية: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في ركعتي الفجر: {قولوا آمنا بالله وما

أنزل ...} والتي في آل عمران: {تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم}) * إنما اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - هاتين الآتيين لما فيهما من الإيمان. -1216 - الحديث الحادي والثلاثون: (عن يزيد بن هُرْمُز: أن نجدة بن عامر الحروري كتب إلى ابن عباس يسأله عن خمس خصال. فقال ابن عباس: لولا أن أكتم علمًا ما كتبت إليه. كتب إليه نجدة: أما بعد، فأخبرني هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو بالنساء؟ وهل كان يضرب لهن بسهم؟ وهل كان يقتل الصبيان؟ ومتى ينقضي يتم اليتيم؟ وعن الخمس: لمن هو؟ فكتب إليه ابن عباس: كتبت تسألني هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهن فيداوين الجرحي، ويحذين من الغنيمة. وأما بسهم، فلم يضرب لهن. وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقتل الصبيان، فلا تقتل الصبيان. وكتبت تسألني: متى ينقضي يُتم اليتيم؟ فلعمري إن الرجل لتنبت لحيته وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء منها، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس، فقد ذهب عنه اليُتم.

وكتبت تسألني عن الخُمس لمن هو؟ وإنَّا نقول: هو لنا، فأبى علينا قومنا ذاك. وفي حديث خالد بن إسماعيل: فلا تقتل الصبيان إلا أن تكون تعلم ما علم الخضر من الصبي الذي قتل. وفي رواية: فتُميز المؤمن وتقتل الكافر وتدع المؤمن. وفي رواية: كتب نجدة بن عامر الحروري إلى ابن عباس يسأله عن العبد والمرأة يحضران المغنم، هل تُقْسَمُ لهما؟ وذكر باقي المسائل نحوه. فقال ابن عباس ليزيد: اكتب إليه، فولا أن يقع في أحموقة (58/ب) ما كتبت إليه. اكتب: تسألني عن المرأة والعبد يحضران المغنم، هل يقسم لهما بشيء؟ وإنه ليس لهما شيء إلا أن يُحْذيا. وهل في اليتم أن لا ينقطع عنه اسم اليتيم حتى يبلغ ويؤنس منه رشده. والباقي نحوه). * في هذا الحديث من الفقه أن ابن عباس أجاب الحروري على كونه خارجيًا إجابة رآها لأنه سأله عن العلم، والعلم لا يسغ منعه، ولكنه أجاب مثله لأن العلم ينتقل من السائل إلى غيره. * وقوله: (إن كنت تعلم ما علم الخضر) المعنى أنك لا تعلم ذلك ولا يجوز لك القتل، فمنعه بذلك عن القتل. و (الأحموقة) من الحمق. -1217 - الحديث الثاني والثلاثون: (عن ابن عباس أنه قال: نهيت أن أقرأ وأنا راكع.

وفي رواية: كشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الستارة- والناس صفوف خلف أبي بكر- فقال: (أيها الناس! إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو ترى له. ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا. فأما الركوع: فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء؛ فقمن أن يستجاب لكم). وفي رواية: كشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الستر، ورأسه معصوب في مرضه الذي مات فيه، فقال: (اللهم هل بلغت؟ - ثلاث مرات- إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا يراها العبد الصالح أو تُرى له) ... ثم ذكر مثله). * قد سبق الكلام في هذا الحديث. -1218 - الحديث الثالث والثلاثون: (عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع- يعني يوم عاشوراء-). وفي رواية عن ابن عباس، قال: حين صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى. فقال

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع). قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية: انتهيت إلى ابن عباس وهو متوسِّد رداءه في زمزم فقلت له: أخبرني عن صوم عاشوراء. فقال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدُد وأصبح يوم التاسع صائمًا. قلت: هكذا كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يصومه؟ قال: نعم). * وقد سبق الكلام (59/أ) في يوم عاشوراء. * ومذهب ابن عباس أن يوم عاشوراء هو اليوم التاسع. قال الأزهري: كأنه أخذه من ورد الإبل، فإنهم يقولون: أوردنا الإبل عشرًا إذا أوردوها يوم التاسع. -1219 - الحديث الرابع والثلاثون: (عن ابن عباس قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمارًا موسوم الوجه، فأنكر ذلك. قال: فوالله لا أسمه إلا أقصى شيء من الوجه، وأمر بحماره فكُوي في جاعرتيه، فهو أول من كوى الجاعرتين).

* السنة أن يكوى الغنم في آذانها، والإبل على أفخاذها، وأن لا يكون الوشم في الوجه. -1220 - الحديث الخامس والثلاثون: (عن ابن عباس قال: مُطِر الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر. قالوا: هذه رحمة من الله. وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا). قال: فنزلت هذه الآية: {فلا أقسم بمواقع النجوم} حتى بلغ: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}). * قد سبق بيان هذا الحديث في مسند أبي طلحة.

-1221 - الحديث السادس والثلاثون: (عن ابن عباس قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه. فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - يا نبي الله، ثلاث أعطينهن. قال: (نعم). قال: عندي أحسن العرب وأجمله، أم حبيبة بنت أبي سفيان، أزوجكها. قال: (نعم). قال: ومعاوية، تجعله كاتبًا بين يديك. قال: (نعم). قال: وتُؤمِّرني حتى أقاتل الكفار، كما كنت أقاتل المسلمين. قال: (نعم). قال أبو زميل: ولولا أنه طلب ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أعطاه ذلك؛ لأنه لم يكن يسأل شيئًا إلا قال: (نعم).

* في هذا الحديث وهم من بعض رواته بلا شك؛ لأن أهل التواريخ أجمعوا على أن أم حبيبة كانت عند عبيد الله بن جحش، وولدت له وهاجر بها إلى الحبشة وهما مسلمان، ثم تنصر وثبتت على دينها، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتزوجها، وذلك في سنة سبع من الهجرة. * ولا خلاف أن أبا سفيان أسلم في فتح مكة، ولا نحفظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا سفيان. -1222 - الحديث السابع والثلاثون: (عن ابن عباس قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك (59/ب) لك. فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قدْ قَدْ) إلا شريكًا هو لك، تملكه وما مَلَكَ، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت). * قول: (قَدْ قَدْ) أي حسبكم، لأنه قد علم أنهم يقولون بعد هذا: إلا شريكًا هو لك. -1223 - الحديث الثامن والثلاثون: (عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من الخلاء. فأتي بطعام فذكر له

الوضوء، فقال: (أريد أن أصلي فأتوضأ؟). وفي حديث سفيان بن عيينة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (لم؟ أأصلي فأتوضأ؟). وفي رواية: قضى حاجته من الخلاء، وقرب إليه طعام، فأكل ولم يمس ماء. وفي رواية: إنه قيل له: إنك لم تتوضأ؟ فقال: (ما أردت صلاة فأتوضأ). * فيه جواز أكل الطعام على غير وضوء، وأن الوضوء إنما هو للصلاة واستدامة الطهارة فضيلة وعزيمة، وفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا دليل على جواز ذلك. -1224 - الحديث التاسع والثلاثون: (عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا دُبغ الإهاب فقد طهر). وفي حديث أبي الخير، قال: رأيت على ابن وعلة السبئي فروًا فمسسته فقال: مالك تمسه؟ قد سألت عبد الله بن عباس، فقلت: إنا نكون ومعنا البربر والمجوس، يؤتى بالكبش قد ذبحوه، ونحن لا نأكل ذبائحهم، ويأتونا بالسقاء يجعلون فيه الوَدَكَ؟. فقال ابن عباس: قد سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك،

فقال: (دباغُهُ طهوره). * هذا الحديث يحتج به من يرى طهارة جلد الميتة بالدباغ، وهذا لا يمكن العمل بإطلاقه إلا عند أبي يوسف وداود؛ فإن عندهما أن كل إهاب دبغ فقد طهر. فأما الشافعي رحمه الله فإنه يستثني جلد الكلب والخنزير. وأبو حنيفة رحمه الله يستثني جلد الخنزير، وإذا لم يكن العمل بعمومه حمل على غير الميتة. * ويكون معنى طهارته بالدباغ: أن إزالة الأوساخ بدبغه مجزئ عن غسله بالماء. * وقوله: (يؤتى بالسقاء يجعلون فيه الودك) من الجائز أن يكون بين المجوس من قد أسلم أو من أهل الكتاب، فاحتمل أن يكون ذلك الجلد من المذبوح. -1225 - الحديث الأربعون: (عن ابن عباس أن رجلاً أهدى لرسول الله راوية خمر. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هل علمت أن الله حرمها؟) فقال: (60/أ) لا، فسار إنسانًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بِمَ سارَرْتَهُ) فقال: أمرته ببيعها. فقال: (إن الذي حرم شربها حرم بيعها)، ففتح المزاد حتى ذهب ما فيها).

* في هذا الحديث دليل على أن من أهدى المحرم لم تقبل منه. * وفيه أنه إذا رأى الرجل رجلاً يُسار في مجلسه أن يسأله عما ناجى به. * وفيه دليل على تحريم ثمن الخمر. * وفيه أن الشراب الحرام يهراق. * والمزاد: جلد محروز على هيئة ما يحمل الماء كالقربة والسقا. -1226 - الحديث الحادي والأربعون: (عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أهون أهل النار عذابًا أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه). * هذا الحديث يدل على أن أبا طالب قد خفف الله عنه من أجل مدافعته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن شركه بالله أبقى عليه باقي العذاب، ولما كان أسه على فساد لم ينتفع كل الانتفاع. -1227 - الحديث الثاني والأربعون: (عن موسى بن سلمة قال: انطلقت أنا وسنان بن سلمة معتمرين، قال:

فانطلق سنان معه ببدنة يسوقها، فأزحفت عليه بالطريق، فعيي بشأنها، إن هي أبدعت كيف يأتي بها؟ لئن قدمت يأتي البلد لأستحفين عن ذلك، قال: فأصبحت، فلما نزلنا البطحاء قال: انطلق إلى ابن عباس نتحدث إليه. قال: فذكر له شأن بدنته، فقال: على الخبير سقطت، بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ست عشرة بدنة مع رجل وأمَّرهُ فيها. قال: فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله! كيف أصنع بما أبدع عليَّ منها؟ قال: (انحرها، ثم اصبغ نعلها في دمها، ثم اجعله على صفحتها، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رُفقتك). * قوله: (أزْحفت) أي وقعت من الإعياء. وقوله: (عيي بشأنها) أي أنه لم يدر ما يصنع، يقال: عيي فلان بكذا إذا تحير فلم يدر كيف المخرج منه. وقوله: (لأستحفين في السؤال عنها) أي لأستقصين في السؤال عنه، والحفي بالشيء هو المعتني به والمستقصي في البحث عنه. وقوله: (فأصبحت) أي انقادت. وقوله: (فلما نزلنا البطحاء) البطحاء والأبطح كل مكان متسع منفسح تجعل فيه الحصى الصغار يُبطح به. وقوله: (اصبغ نعلها في دمها) أي اغمسه فيه، وألطخه به، ثم اجعله على صفحتها (60/ب) ليكون ذلك علامة يعرف بها الناظر أنها هدي.

* وفي هذا الحديث أن ما يقف من الهدي يصنع به الإنسان كذلك ثم يتركه للفقراء. * والنعال: هي أطراف القرب، وهي إذا قطعت لم تصلح لشيء. * وفيه تنبيه على أن ما لا يصلح لأشغال الناس قد يصلح في وقت لشيء ما. -1228 - الحديث الثالث والأربعون: (عن موسى بن سلمة قال: سألت ابن عباس: كيف أصلي إذا كنت بمكة، إذا لم أصل مع الإمام، قال: ركعتين سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -). * كأن الإشارة إلى قصر الصلاة في السفر. -1229 - الحديث الرابع والأربعون: (عن ابن عباس قال: صلي النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم عنها، وقلدها نعلين ثم ركب راحلته، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج). * قال أبو عبيد: إشعار الهدي هو أن يطعن في أسنمتها في أحد الجانبين

بمبضع أو نحوه بقدر ما يسيل الدم. وأصل الإشعار: العلامة، وكان ذلك إنما يفعل بالهدي ليعلم أنه قد جعل هديًا. -1230 - الحديث الخامس والأربعون: (عن بكر بن عبد الله قال: كنت جالسًا مع ابن عباس عند الكعبة، فأتاه أعرابي، فقال: ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن، وأنتم تسقون النبيذ؟ أمن حاجة بكم أم من بُخلٍ؟ فقال ابن عباس: الحمد لله ما بنا حاجة ولا بخل. قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - على راحلته وخلفه أسامة، فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب، وسقى فضله أسامة، وقال: (أحسنتم- أو: أجملتم- كذا فاصنعوا) فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). * هذا النبيذ هو تمر ينبذ في ماء، وليس بمسكر، وقد كانت المياه بمكة متغيرة فكانوا يطيبونها بالتمر. -1231 - الحديث السادس والأربعون: (عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير).

* المخلب للطائر وللسباع الظفر، وإنما سمي مخلبًا لأنه يخلب به، والخلب الشق والقطع. * وفي هذا الحديث دليل أن الشيء يذكر بأقوى أسبابه؛ ولذلك ذكر في هذين النوعين أقوى ما فيهما، وهو الذي يفترس به. -1232 - الحديث السابع والأربعون: (عن ابن عباس (61/أ) قال: أهلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعمرة وأهلَّ أصحابه بحج، فلم يحل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من ساق الهدي من أصحابه وحَلَّ بقيتهم، وكان طلحة بن عبيد الله فيمن ساق الهدي فلم يحل. وفي رواية: فكان مِمَّن لم يكن معه هدي طلحة بن عبيد الله ورجل آخر، فأحلا). * قد سبق الكلام في هذا الحديث. -1233 - الحديث الثامن والأربعون: (عن يحيى بن عبيد قال: سأل قوم ابن عباس عن بيع الخمر وشرابها

والتجارة فيها، فقال: أمسلمون أنتم؟ قالوا: نعم. قال: فإنه لا يصلح بيعها ولا شراؤها ولا التجارة فيها. قال: فسألوه عن النبيذ. فقال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر ثم رجع وقد نبذ ناس من أصحابه في حناتم ونقير ودُباء، فأمر به فأهريق، ثم أمر بسقاء فجعل فيه زبيب وماء فجعل من الليل فأصبح فشرب منه يومه ذلك وليلته المستقبلة ومن الغد حتى أمسى، فشرب وسقى، فلما أصبح أمر بما بقي منه فأهريق. وفي حديث معاذ العنبري عن شعبة: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُنْبذُ له أول الليل، فيشربه إذا أصبح يومه ذلك، والليلة التي تجيء، والغد والليلة الأخرى، والغد إلى العصر، فإن بقي منه شيء سقاه الخادم، أو أمر به فَصُبَّ). وفي حديث غندر: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتبذ له في سقاء. قال شعبة: من ليلة الاثنين، فيشربه الاثنين والثلاثاء إلى العصر، فإن فضل منه شيء سقاه الخادم أو صَبَّه). وفي حديث الأعمش: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينقع له الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة، ثم يأمر به فيسقى أو يُهراق). * إنما أمر به فأريق لأنه اشتد أو قارب، فكأنه كان إذا خاف منه مقاربة الاشتداد سقاه أو أراقه، ولو أنه تيقن اشتداده لم يجز أن يسقى منه أحدًا.

-1234 - الحديث التاسع والأربعون: (عن ابن عباس قال: كنت ألعب مع الصبيان، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوازيت خلف باب، قال: فجاء فحطأني حطْأةً، وقال: (اذهب فادع لي معاوية)، قال: فجئت فقلت: هو يأكل. قال: ثم قال لي: (اذهب فادع لي معاوية)، قال: فجئت فقلت: هو يأكل، فقال (61/ب): لا أشبع الله بطنه). الحطأ: الدفع. قال ابن قتيية: المعنى ضربني بيده مبسوطة. وفي الحديث قال محمد بن المثنى: قلت لأمية بن خالد: ما (حطأني)؟ قال: قفدني قفدة، وهذا نحو حطأني إلا أنه بالتواء رسغ الكف إلى الجانب الوحشي من الإنسان، والجانب الوحشي هو الذي فيه الخنصر، والأنسي هو الذي فيه الإبهام. * وقد جعل مسلم بن الحجاج هذا الحديث من فضائل معاوية - رحمه الله - لأنه أخرج متصلاً به الأحاديث في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن سبه من رواية أبي هريرة وجابر وأنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اللهم إنما محمد بشر يغضب كما

يغضب البشر وإني قد اتخذت عندك عهدًا لن تخلفنه. فأيُّما مؤمن آذيته، أو سببته، أو جلدته فاجعلها له كفارة، وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة). والذي أراه أنا في ذلك أن هذا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج مخرج الفضيلة، ولكنه يكون سؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل من سبه أو نهره أو ضربه فإنه يجعل ذلك كفارة لفعله الذي اقتضى ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وقوله: (قربة) يعني أنه بعد تكفيره بذلك الفعل عنه ما أوجب نيله به، فإنه يقرب من الله تعالى ويذهب عنه البعد، إلا أن مسلمًا وإخراجه لهذا في مخرج الفضيلة فما أراه رضي الله عنه إلا شدة عن موضع الفضيلة من هذا الحديث لمعاوية، أو لأنه لم يثبت السامع منه ما حوله عنه؛ فإن الفضيلة لمعاوية في هذا الحديث هو تكرير استدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه، وإفراده بالاستدعاء عن غيره، وهذا يدل على أنه كان ذا حال خاصة منه. * وقوله: (لا أشبع الله بطنه) فقد يحتمل أن لا يكون دعاء عليه من حيث أن المؤمنين يستحب فيهم قلة أكل بحيث يبلغ الشبع، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد به حال خواص المؤمنين، فقد روي لنا ما يدل على أن هذه الدعوة أجيبت فيه؛ فإن معاوية قال فيما بلغنا عنه: ما كنت أحسب أن مؤمنًا يشبع. ومعنى هذا الشبع المكروه: هو الذي لا يمكن فوقه تناول الطعام، فإن شبع المؤمنين غير الجوع، وكونهم لا يأكلون غالبًا إلا مع الإخوان والأضياف (62/أ) بالمواساة، فإنهم لا يكاد يشبع أحدهم حتى لا يمكنه أن يتناول طعامًا آخر. (آخر مسند ابن عباس رضي الله عنه)

المجلد الرابع

كلمة موجزة في ترجمة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وما أخرج له من الأحاديث * هو عبد بن الله عمر بن الخطاب بن عبد العزى ينتهي نسبه إلى لؤي بن غالب، أبو عبد الرحمن القرشي العدوي المكي ثم المدني، الإمام القدوة، شيخ الإسلام. * أسلم وهو صغير، ثم هاجر مع أبيه لم يحتلم، واستصغر يوم أحد، فأول غزواته الخندق، وهو ممن بايع تحت الشجر. روى علما كثيرًا نافعًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبيه، وأبي بكر، وعثمان، وعلي، وبلال، وصهيب وزيد بن ثابت، وحفصة أخته وعائشة وغيرهم. * روى عنه الكثير منهم: أسلم مولى أبيه، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، وعبد الله بن دينار ... قال عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن عبد الله رجل صالح) وكان ابن عمر يتيح أمر رسول الله وآثاره وحاله، ويهتم به، فقد نزل النبي تحت شجرة، فكان ابن عمر يتعاهد تلك الشجرة، فيصب في أصلها الماء لكيلا تيبس. * قال الإمام مالك: مكث عبد الله ستين سنة- في المدينة- يفتي الناس. وعده ابن حزم من المكثرين من الفتيا من الصحابة. * كان ابن عمر زاهدًا ورعًا، كثير القيام بالليل، والصيام بالنهار، وأعتق أزيد

من ألف إنسان توفي بمكة، ودفن بذي طوى، وكان عمره خمسًا وثمانين سنه رضي الله عنه وأرضاه. * قال ابن الجوزي: (جملة ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألفا حديث وستمائة وثلاثون حديثًا، أخرج لنا منها في الصحيحين مائتا حديث وثمانون). * * *

(62/أ) مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أخرج له في الصحيحين مائتا حديث وثمانون حديثًا. المتفق عليه منها مائة وثمانية وستون حديثًا. وانفراد البخاري بأحد وثمانين، ومسلم بأحد وثلاثين. -1235 - الحديث الأول: من المتفق عليه: [عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لاعدوى ولا طيرة. وإنما الشؤم في ثلاث: في الفرس، والمرأة، والدار). وفي رواية: (إن كان الشؤم ففي المرأة، والدار، والفرس) - وفي لفظ: (والمسكن). وفي رواية للبخاري من حديث عمرو بن دينار، قال: (كان ها هنا رجل اسمه (نواس)، وكان عنده إبل هيم، فذهب ابن عمر فاشترى تلك الإبل من شريك له، فجاء إليه شريكه، فقال: بعنا تلك الإبل. فقال ممن؟ فقال من شيخ كذا وكذا، قال: ويحك! ذاك والله ابن عمر، فجاءه فقال: إن شريكي باعك إبلا هيما ولم يعرفك ولم يعرفك. قال: فاستقها. فلما ذهب ليستاقها، قال:

دعها، رضينا بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا عدوى)]. * قد سبق الكلام في نفي العدوى والطيرة، وأن الجاهلية كانت تتوهم الفعل للأسباب كما تتوهم نزول المطر بفعل الأنواء، فنفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله: (لا عدوى). * (والتطير من الشيء): هو التشاؤم به. * (والإبل الهيم): التي يصيبها الهيام، وهو داء يكسبها العطش، ولا تروى من الماء. -1236 - الحديث الثاني: [عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من جاء منكم الجمعة فليغتسل)

وفي رواية (إنه إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل)]. * قد كان الغسل واجبًا في أول الإسلام فنسخ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسيل أفضل)، فبقي الغسل مستحبًا -1237 - الحديث الثالث: [عن ابن عمر، قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء، في آخر حياته. فلما سلم قام فقال: (أرأيتكم (62/ب) ليلتكم هذه؟ فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد)]. * فيه من الفقه أن الله تعالى أطلع رسوله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك الغيب. * وفيه تذكير بقصر الأعمار وقلة البقاء في الدنيا، وأن بيع مدة الآخرة التي لا يبلغ قدرها حد حاد، ولا عد عاد بحيث لو خلق الله تعالى دارًا مثل الدنيا

ألف مرة ملأها خردلًا، ثم خلق طائرًا وقال له: إن رزقك عندي هو هذا الخردل، فمتى نفد فهو آخر عمرك، وكان من حرص ذلك الطائر على البقاء أنه يأكل يوم خردلة، فنفد ذلك الخردل كله، وبقاء الإنسان في دار الخلد لا يفنى، فبيع ذلك بهذه المدة اليسيرة غبن فاحش، ولا سيما لكل من يقول: إني مؤمن بها، مصدق بالمعاد إليها، ثم يظهر عليه من تساهله- في بيع الكثير منها بالقليل من غيرها- ما يذل على كذبه في دعواه، لولا أن الغفلة تذهب بالإنسان كل مذهب، ويضطره إلى تعاهد التذكرة كل الاضطرار. -1238 - الحديث الرابع: [عن ابن عمر، قال: قام رجل فقال: يا رسول الله؛ كيف صلاة الليل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة). وفي رواية لأنس بن سيرين، قال: فقلت لابن عمر: أرأيت الركعتين قبل صلاة الغداة أأطيل فيهما القراءة؟ قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل مثنى مثنى ويوتر بركعة من آخر الليل، ويصلي الركعتين فيل صلاة الغداة وكأن الأذان بأذنيه) قال حماد: أي بسرعة. وفي رواية للبخاري: (أن عبد الله بن عمر كان يسلم من الركعتين في الوتر، حتى يأمر ببعض حاجته). وفي رواية لنافع، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (اجعلو آخر صلاتكم بالليل وترًا).

وفي رواية للقاسم بن محمد: (فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة، توتر لك ما صليت). قال القاسم: (ورأينا أناسًا منذ أدركنا، يوترون بثلاث، وإن لواسع أرجو ألا يكون بشيء منه بأس). وفي رواية لمسلم: (من صلى من الليل فليجعل آخر صلاته وترًا فبل الصبح). وفي رواية: (بادروا الصبح بالوتر). وفي رواية: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا رأيت الصبح يدرك فأوتر بواحدة. فقيل لابن عمر: ما مثنى مثنى؟ قال: تسلم في كل ركعتين)]. * في هذا الحديث جواز الوتر بركعة، وهو مذهب (63/أ) أحمد والشافعي، وهو صريح في الرد على من لا يرى جواز ذلك. * وفيه أن صلاة الليل مثنى مثنى، وهذا هو الأفضل في النوافل أن تسلم من كل ركعتين.

-1239 - الحديث الخامس: [عن ابن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن بلالًا يؤذن، بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم). وفي رواية: (كان ابن أم مكتوم رجلًا أعمى، لا يؤذن حتى يقول له الناس: أصبحت). وفي رواية: (كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤذنان، وأنه قال: (إن بلالًا يؤذن بليل)]. * قد دل هذا الحديث على جواز الأذان للفجر قبل طلوع الفجر. -1240 - الحديث السادس: [عن ابن عمر، قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة، رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه. ثم يكبر، فإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك، وإذا رفع رأسه من الركوع فعل مثل ذلك، ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود). وفي رواية: (وإذا رفع رأسه من الركوع، رفعهما كذلك، وقال: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد).

وفي رواية للبخاري: (أن ابن عمر كان إذا دخل الصلاة، كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال: (سمع الله لمن حمده) رفع، وإذا قام إلى الركعتين رفع يديه، ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -)]. * وقد سبق الكلام في رفع اليدين في مسند مالك بن الحويرث. -1241 - الحديث السابع: [عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (كلكم راع، ومسؤول عن رعيته، والإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته).

قال فسمعت هؤلاء من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحسب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (والرجل في مال أبيه راع، وهو مسؤول عن راعيته). وفي رواية: (كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته). وفي رواية للبخاري: (ألا فكلكم راع وكلكم مسؤل عن (63/ب) رعيته، الأمير الذي على الناس، والرجل على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته). وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كل مسترعى مسؤول عمن استرعى حتى إن الرجل ليسأل عن زوجته وولده وعبده)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الأمة على شبيه الشجرة، وصلاح كل أصل منها سبب لصلاح من بعده؛ فالإمام راع لجميع الأمة، وهو مسؤول عن رعيته، وهذا السؤال يتناول كل ما يقتضي السؤال عنه من أمر دينه ودنياه،

ومن مفهوم الخطاب ما يدل على أن الرعية مسؤولة عن إمامها عن كل ما يتعلق بهم من أمره من دين ودنيا، والرجل مسؤول عن رعيته من تعليم أهله ما يجب عليهم تعلمه وصونهم عن البذلة، والغيرة على النساء منهم، ومن تربية الأطفال وحفظهم فيما في أيديهم من ماله. * وقوله: (والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسؤولة) عن حفظ زوجها بالغيب، وأن لا تتصدق من ماله إلا بإذنه، فما ظنك بغير ذلك؟! * وقوله: (والخادم في مال سيده راع) يعني - صلى الله عليه وسلم - إن كان في يد هذا الخادم ماشية أحسن القيام عليها، من أن يهبط بها الخصب، ويجنبها الجدب، ويتبع شاذتها، ويهنأ جرباها. -1242 - الحديث الثامن: [عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل ملبدا: (لبيك اللهم! لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك). وفي رواية: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يركع بذي الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة، أهل بهؤلاء الكلمات، وكان عبد الله بن عمر يقول: (كان عمر بن الخطاب يهل بهؤلاء بإهلال رسول الله من هؤلاء الكلمات، ويقول: لبيك اللهم! لبيك وسعديك. والخير في يديك لبيك، والرغباء إليك والعمل). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة، أهل فقال: (لبيك اللهم! لبيك (64/أ) لا شريك لك

لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك). وكان عبد الله يقول تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال نافع: كان عبد الله يزيد مع هذا: لبيك! لبيك، لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل)]. * قال أبو عبيد: الإهلال هو التلبية، وأصله من رفع الصوت. وقد سبق ذكر التلبية في مسند ابن عباس، وسبق تفسير (اللهم) في أول مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه. * وقوله: (إن الحمد) قال ثعلب: من كسر (إن) فقد عم، ومن فتح فقد خص. والرغباء: هي المسألة، ومن الناس من يقول (الرغبى): بضم الراء مع القصر. -1243 - الحديث التاسع: [عن ابن عمر، قال: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يقدم مكة، إذا استلم

الركن الأسود، أول ما يطوف، يخب ثلاثة أطواف من السبع). وفٍي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول حب ثًلاثا، ومش أربعًا، وكان يسعى ببطن المسيل، إذا طاف بين الصفا والمروة، وكان ابن عمر يفعل ذلك). وفي رواية: (رمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحجر إلى الحجر ثلاًثا ومشي أربًعا، ثم صلى السجدتين، وفي الحج والعمرة)]. - الخب: هو ضرب من العدو فوق المشي ودون الجري. - والسعي: هو إسراع المشي حتى يقارب العدو. - والرمل: قد ذكرناه في مسند ابن عباس. -1244 - الحديث العاشر: [عن ابن عمر، قال: (لم أرى سول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلم من البيت، إلا الركنين اليمانيين). وفي رواية قتيبة: (يمسح) مكان (يستلم).

وفي رواية لمسلم: (لم يكن يستلم من البيت إلا الركن الأسود والذي يليه، من نحو دور الجمحيين). وفي رواية متفق عليها عن ابن عمر، قال: (وما تركنا استلام هذين الركنين: اليماني والحجر، في شدة ولا في رخاء، منذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمهما). وفي رواية عن نافع، قال: رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده، ثم يقبل يده، وقال: (ما تركته منذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله)]. - وقد سبق الكلام في هذا في مسند ابن عباس. -1245 - الحديث الحادي عشر: [عن سالم: أن عبد الله بن عمر كان (64/ب) يقدم ضعفة أهله فيقفون عن المشعر الحرام بالمزدلفة بالليل، فيذكرون الله تعالى ما بدا لهم ثم يدفعون قبل أن يقف الإمام، وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الحجرة.

وكان ابن عمر يقول: (أرخص في أولئك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)]. - قد سبق الكلام في هذا في مسند ابن عباس أيضًا. -1246 - الحديث الثاني عشر: [عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويهل أهل الشام من الجحفة، ويهل أهل نجد من قرن). وقال ابن عمر: ولم أسمع، وذكر لي أن سول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ويهل أهل اليمن من يلملم). وفي رواية عن ابن عمر: (أن رجلًا سأله من أين يجوز لي أن أعتمر؟ قال: فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل نجد: قرنًا، ولأهل المدينة: ذا الحليفة، ولأهل الشام: الجحفة)]. - وقد ذكرنا معنى الإهلال قبل هذا المكان بخمسة أحاديث، وذكرنا

المواقيت في مسند ابن عباس. -1247 - الحديث الثالث عشر: [عن ابن عمر، قال سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يلبس المحرم؟ قال: (لا يلبس المحرم: القميص، ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوًبا مسه ورس، ولا غفران، ولا الخفين، إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما، حتى يكونا أسفل من الكعبين). وفي رواية: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يلبس المحرم ثوبًا مصبوًغا بزعفران أو ورس). وقال: (من لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين). وفي رواية: قام رجل فقال: يا رسول الله، ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب

في الإحرام؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تلبسوا القمص ولا السراويلات، ولا العمائم، ولا البرانس، ولا الخفاف إلا أن يكون أحد ليست له نعلان؛ فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين). وفي رواية: قام رجل فقال: يا رسول الله ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تلبسوا القمص ولا السراويلات، ولا العمائم، ولا البرانس، ولا الخفاف إلا أن يكون أحد ليست له نعلان فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا شيئا مسه الزعفران (65/أ) والورس، ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين). وفي رواية: (ولا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفازين)]. *قوله: (ولا يلبس المحرم القميص) لا يجوز للمحرم لبس المخيط، ولا يجوز له تغطية رأسه، ولا لبس السراويل إلا عند عدم الإزار، وقد ذكرناها في مسند ابن عباس). *وقوله: (ولا تلبس القفازين)): قال أبو عبيد: (هما شيء يعمل لليدين، ويحشى بقطن، ويكون له أزرار تزر على الساعدين من البرد، وتلبسه النساء).

-1248 - الحديث الرابع عشر: [عن ابن عمر قال: (تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى، فساق معه الهدى من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدى، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للناس: (من كان منكم أهدى، فإنه لا يحل من شيء حرم منه، حتى يقضي حجة، ومن لم يكن أهدى، فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد هدًيا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلي أهله) وطاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة، فاستلم الركن أول شيء، ثم خب ثلاثة أطواف من السبع، ومشى أربعة أطواف، ثم ركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين، ثم سلم وانصرف؛ فأتى الصفا، فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف، ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضي حجة، ونحر هدية يوم النحر، وأفاض، فطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه، وفعل مثل فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهدي فساق الهدي من الناس). وأخرجا من حديث بكر عبد الله المزني عن أنس، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي بالحج والعمرة جميعًا. قال بكر: فحدثت بذلك ابن عمر فقال: لبى بالحج وحده، فلقيت أنًسا فحدثته فقال: ما تعدوننا إلا صبيانًا،

سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لبيك عمرة وحًجا). وفي رواية (65/ب) لمسلم عن ابن عمر، قال: (أهللنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج مفردًا). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل بالحج مفردًا)]. *هذا الحديث يتضمن ذكر التمتع، وقد مضى في مسند علي وسعد رضي الله عنهما. -1249 - الحديث الخامس عشر: [عن ابن عمر قال: (صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا، وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك، ثم صلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعة، ثم مضى هؤلاء ركعة ركعة). وفي رواية لمسلم: ((صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو، فصلى بالذين معه ركعة وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة، ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة). وقال ابن عمر: (إذا كان خوف أكثر من ذلك صلى راكبًا أو قائمًا.

يومئ إيماءة). وفي رواية للبخاري: أن ابن عمر: كان إذا سئل عن صلاة الخوف؟ قال يتقدم الإمام طائفة من الناس، فيصلي بهم الإمام ركعة، وتكون طائفة منهم بينه وبين العدو لم يصلوا، فإذا صلى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا، ولا يسلمون، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون معه ركعة، ثم ينصرف الإمام وقد صلى ركعتين، فيقوم كل واحدة من الطائفتين قد صلوا ركعتين، فإن كان خوف هو أشد من ذلك، صلوا رجالًا وقياًما على أقدامهم وركبابًا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها)]. *هذا الحديث يتضمن ذكر صلاة الخوف؛ وقد ذكرناها في مسند سهل ابن أبي خثمة.

-1250 - الحديث السادس عشر: [عن ابن عمر، (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه؛ يومئ برأسه، وكان ابن عمر يفعله). ولمسلم في رواية: (كان يسبح على الراحلة، وقيل: إلى أي وجه توجه، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة). وأخرجاه من حديث سعيد بن يسار، قال: (كنت أسير مع عبد الله بن عمر بطريق مكة، فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت، ثم لحقته، فقال عبد الله ابن عمر: أين كنت؟ فقلت: خشيت الصبح فنزلت فأوترت، فقال: أليس لك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (66/أ) أسوة حسنة؟ فقلت: بلى، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر على البعير. وأخرجه البخاري تعليًقا فقال: وقال الليث: حدثني عن ابن شهاب، قال سالم: كان عبد الله يصلي على دابته من الليل، وهو مسافر ما يبالي حيث كان وجهه. قال ابن عمر: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على الراحلة.

وفي رواية للبخاري عن ابن عمر (أنه كان يصلى على راحلته، ويوتر عليها، ويخبر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله). وفي رواية: (كان ابن عمر يصلي في السفر على راحلته حيث وجهت به، يومئ إيماًء، صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على راحلته). وفي رواية لمسلم: (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على حمار، وهو متوجه إلى خيبر). وفي رواية: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي علي دابته، وهو مقبل من مكة إلى المدينة، حيثما توجهت. وفيه نزلت: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115]. (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر على راحلته)]. *المراد بالتسبيح المذكور في هذا الحديث صلاة النافلة، ولما كان المسافر يضطر أن يمضي في جهات مختلفة أبيح له التوجه في تنقله إلى حيث توجهت به راحلته تخفيًفا عنه، كنا يخفف عنه بإسقاط شطر الفريضة، وإنما خفف عنه في التوجه لئلا يثقل عليه فرض استقبال القبلة، فيترك النوافل. قوله: (كان يوتر على البعير) دليل على أن الوتر ليس بواجب، وإنما هو جاري مجرى السنن؛ لأن الواجب لا يجوز فعله على البعير.

-1251 - الحديث السابع عشر: [عن ابن عمر، قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر وركعتين بعد الجمعة، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء. وفي رواية: وأما المغرب والعشاء والجمعة ففي بيته. وفي رواية للبخاري عن ابن عمر قال: وحدثتني حفصة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي سجدتين خفيفتين بعدما يطلع الفجر، وكانت ساعة لا أدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها. وفي رواية للبخاري عن ابن عمر، قال: (66/ب) (حفظت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الغداة، وكانت ساعة لا أدخل فيها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحدثتني حفصة: أنه كان إذا طلع الفجر، وأذن المؤذن، صلى ركعتين). وفي رواية لمسلم: أن عبد الله كان إذا صلى الجمعة، انصرف فسجد سجدتين في بيته. ثم قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك)].

*في هذا الحديث أن النوافل أفضل ما أتي بها في بيت الإنسان، وذلك به يخلص العبد من مداناة الرياء؛ لأن الفرائض تسلم من ذلك من أجل أنه يؤدي العبد بها حقًا واجبًا فهو كمن قضى دينًا، وأما النوافل فوضعها على التبرع والاختيار فإذا أتى بها ظاهرًا، أظهر ما إخفاؤه أفضل له وأحزم. -1252 - الحديث الثامن عشر: [عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إذا أستأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها). وفي حديث حرملة عن ابن وهب، قال: فقال بلال بن عبد الله (والله لنمنعهن، قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبًا سيئًا، ما سمعته سبه مثله قط، فقال: أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقول: لنمنعهن؟). وأخرجاه من حديث حنظلة عن سالم عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن). وحكى أبو مسعود: أنهما أخرجاه من حديث عبد الله عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله). وفي حديث أبي أسامة عن عبيد الله: (كانت امرأة لعمر، تشهد صلاة الصبح والعشاء في جماعة المسجد، فقيل لها: لما تخرجين، وقد تعملين أنه يكره ذلك ويغار؟ قالت: لم، قالت: فما يمنعه أن ينهاني؟. قالوا: يمنعه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله). قال: وأخرجاه من حديث مجاهد عن ابن عمر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا

تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل). وفي حديث شبابة عن ورقاء: (ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد). فقال ابن له يقال له (وافد): إذن يتخذنه دغلًا، قال: فضرب في صدره، وقال: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (67/أ) وتقول: لا. وفي رواية لمسلم: (لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنوكم)، فقال بلال: والله لنمنعهن؟ فقال له عبد الله: أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول أنت: لنمنعهن]. *قوله: (يتخذنه دغلًا)، الدغل: الفساد، وأصل الدغل الشجر الملتف الذي يستتر به. *وفي هذا الحديث من الفقه أنه لا يجوز أن تمنع إماء الله مساجد الله فربما كان ذلك منهن أدعى إلى حفظهن الصلاة، فأن جلهن يترك الاقتصاد لصلواتهن مضيعات. -1253 - الحديث التاسع عشر: [عن ابن عمر، قال: (لما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحجر، قال: لا تدخلوا

مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين، ثم قنع رأسه، وأسرع السير حتى أجاز الوادي). وفي رواية للبخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحاب الحجر: (لا تدخلوا علي هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم؛ أن يصيبكم مثل ما أصابهم). [وفي رواية لمسلم: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين)]. *أما الحجر: فقال قتادة: هو اسم الوادي الذي كانوا فيه. وقوله: (أن يصيبكم) فيه إضمار تقديره حذر أن يصيبكم. *وفيه من الفقه: أنه إذا مر إنسان بدار قوم كانوا قد عذبوا أسرع هاربًا عنهم لئلا يتأدى إليه شيء من العذاب الذي هم فيه، فأن من ذلك استمرار لعنة الله عز وجل لمن عذبه، فإذا أٌقام عليهم رجل من غيرهم لم يأمن أن يشتمله شر جوارهم، فيخسر دنياه وأخراه. *ومن مفهوم هذا الخطاب أن المسلم إذا مر بأرض مباركة قد كان الله تعالى رحم أهلها، فأنه يستحب له المكث بها، والوقوف على أطلالها، والتمسح بها، رجاء أن يصيبه من البركة المتصلة على أهلها والرحمة المستمرة نزولها على سكانها نصيب أيضًا.

-1254 - الحديث العشرون: [عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة)]. *في هذا الحديث من الفقه أن كل مسلم على الإطلاق أخ (67/ب) لكل مسلم. ولا يجوز لغنى أن يتعاظم على أخيه الفقير بأن يأنف من مجالسته أو يتكبر عن مؤاكلته، ولذلك يقبح بالمسلم أن يظلم بالإطلاق ثم إن بلي بأن يظلم قبيح أن يظلم أخاه الذي هو جدير بأن يرفده ويسعده، فإذا لم يكن هنالك فلا أٌقل من أن لا يظلمه. *وقوله: (ولا يسلمه): يعنى به أنه إذا كان معه في حرب ودهتهم القتال فغير جائز للمسلم أن يفر ويسلم أخاه فليصبر معه ليسلما جميعًا أو يواسي أخاه فيما يكون منه. *وقوله: (من كان في حاجة أخيه كان ربه عز وجل في حاجته)، فمن أراد أن يكون ربه في حاجته متوليا قضاء حوائجه دائمًا فليكن دأبه أن يقضي

حوائج إخوانه المسلمين بغير أجر من الدنيا بل راضًيا بما يعوضه الله من قضاء حوائجه. *وقوله: (من فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) فأنه يقتضي أن يعلم الإنسان أن الله تعالى هو الذي يفرج الكرب، وإنما من رحمته على عباده أنه يقضي فرج كربة عبد على يد عبد ليفرج هو سبحانه عن العبد المفرج كربة من كرب يوم القيامة، فهو سبحانه وتعالى الذي فرج الكربتين ورحم الاثنين. *وقوله: (ومن ستر مسلًما ستره الله يوم القيامة) فأنه مما يتعين على المسلم أن يستر أخاه المسلم في كل ما ظهر عليه له من عورة، ما دام صاحب العورة يخفيها من الناس، وليكن نصحه له سرًا ما استطاع، فأما إذا جاهره فاعله بها فليس إلا مجاهرته بالإنكار، وإني لأخاف على قوم يحملهم إنكار المنكرين والغيرة للدين على أن يخاصموا ذلك العاصي ثم يتخذونه عدوًا، ثم يحرصون على إظهار عورته فليتقوا الله. -1255 - الحديث الحادي والعشرون: (حديث الغار): [عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم، حتى آواهم المبيت إلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار. فقالوا: إنه لن ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم. قال رجل منهم: كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلًا ولا مالًا، فنأى بي

طلب شجر يوًما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق (68/أ) قبلهما أهلًا أو مالًا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما، حتى برق الفجر- زاد بعض الرواة: والصبية يتضاغون عند قدمي- فاستيقظا، فشربا غبوقهما. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفجرت شيئا لا يستطيعون الخروج. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال الآخر: اللهم كانت لي ابنة عم، كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها، فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومائة دينار، على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها، قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها، وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد، ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله، أد إلى أجري، فقلت، كل ما ترى من أجرك، من الإبل، والبقر، والغنم، والرقيق. فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيًئا. اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون). وأخرجاه من حديث عبد الله بن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون، إذ أصابهم مطر فأووا إلى غار،

فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق، فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه. فقال أحدهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فرق من أرز، فذهب وتركه، وإني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، فصار من أمره أني اشتريت منه بقرًا، وأنه أتاني يطلب أجره، فقلت له: اعمد إلى تلك البقر فسقها، فقال لي، إنما لي عندك من أرز، فقلت له: اعمد إلى تلك البقر، فإنها من ذلك الفرق فساقها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، فانساخت عنهم الصخرة ..). وذكر باقي الحديث بقريب من حديث سالم]. *قوله: (68/ب) (فنأى بي طلب الشجر): أي بعد بي طلب الشجر التي ترعاها الأبل. *وقوله: (ألمت بها سنة) يعنى الجدب، والملمة: النازلة من نوازل الدهر. *وقولها: (لا أحل لك أن تقض الخاتم) هو كناية عن الفرج، الفض: تفريق الشيء المجتمع. وقولها: (إلا بحقه) أي إلا بما يحل. وقوله: (فتحرجت) أي تأثمت ورأيت الحرج في اقتحام ما لا يحل.

*وقوله: (على فرق من أرز) قد سبق الفرق في مسند كعب بن عجزة. *قوله: (فانساحت عنهم الصخرة) أي انفسحت، ومثله قوله تعالى: {فسيحوا في الأرض} أي انفسحوا، وقد صحفه قوم فقالوا: فانساخت بالخاء المعجمة. *وفي هذا الحديث من الفقه أن الدعاء في الشدة أقمنه بالإجابة ما صدق داعيه فيه، وهو أن يدعو الله سبحانه وتعالى جاعلًا وسيلته ما كان من عمل صالح يذكر منه كلما لا يعلم الله تعالى خلافه، وليس هذا مما يخرج مخرج التمنن بالعبادة، ولكن هذا الداعي بذكره هذا قد استشهد إيمانه الماضي بإخلاصه فيه حيث ظهر منه ذلك الإيمان في حالة الرخاء؛ فكان هو الذي أنقذه الله به في الشدة. *وفيه أيضًا أن هؤلاء الثلاثة لما اشتدت بهم الأزمة لم يفزعوا إلى مخلوق بأن يقولوا: نحتال في قلع هذه الصخرة أو حفرها أو نقرها أو غير ذلك، بل فزعوا إلى الله تعالى، فكان عونه هو الأقرب الأرجى. *وفيه أيضًا أن المسلم إذا حاطت به الشدة فلا ينبغي له أن يستصرخ ويسقط في يديه، وتمتد عنقه للهلاك بل يلجأ إلى الدعاء فيكون هجيراه فإنه في ذلك الوقت الشديد يكون مخلصًا في الدعاء فليغتنمه. *وفيه أيضًا أن هؤلاء الثلاثة كانوا أصولًا في ثلاثة أمور كلها عظيم الشأن فسنوا

سنة الحسنى فيها إلى يوم القيامة، وهي التي شكر النعمة التي من أرفعها بر الوالدين، وكسر الشهوة التي من أشدها قذع النفس عن الجماع بعد جلوس الرجل من المنزلة ذلك المجلس، والأخرى أداء الأمانة لمن لا يخاف ولا يرجي. فكانت هذه الأصول الثلاثة إذا نظر فيها حق النظر، وجدت مشتملة على ثغور العبادة لله تعالى؛ فلذلك لما اجتمعت من الثلاثة في حال واحدة، ودعوا (69/أ) بها دعوة رجل واحد، رفع الله بها الصخرة الهابطة من الجبل، خارًقا سبحانه وتعالى العادة في مثلها، واستمر ذلك حديًثا تكلم به محمد صلى الله عليه وسلم، ورواه عنه الثقات ليعمل به لا ليتخد سمرًا فقط، ومما يحض على أن لا يستطرح الإنسان عند انقطاع حيلته بنزول البلاء واشتداده بل يفزع إلى الدعاء. فإنه كنت مرة في جوف الليل نائمًا في زمان مر أخال أنه في أول نصف الليل الثاني، فأيقظني الله سبحانه وتعالى وأوقع في نفسي أن الشيخ محمد ابن يحيى- رحمه الله- في مثل هذه الليلة الباردة مع قلة كسوته يخاف عليه من أذية البرد فناديت غلامًا لنا اسمه كان (يحيى) بيت في الدار عندي. وقلت له: خذ في شيء نارًا، وأقصد به إلى بيت الشيخ محمد بن يحيى فأخذ مجمرة وملأها نارًا من تنور هناك، وذهب بها إليه، فلما كان بعد ذلك بيوم أو يومين؛ وقد جلسنا في المسجد فقال الشيخ محمد بن يحيى: إني كنت قد غشيث أهلي ثم اغتسلت في الليل بالماء البارد فأصابتني وإياها ما تخيلت أن الموت قد دنا أو نحو ذلك، ثم قلت لنفسي: والله لا أستطرح هكذا بل أدعو الله سبحانه وتعالى قال: فمددت يدي ودعوت الله بأن يعيننا مما نحن فيه، فإذا الباب يدق، وإذا قد جاء (يحيى) الغلام بمجمرة نار من عندك، فلما

حدثني بذلك كثر تعجبي من إيقاظي لذلك، فكأنه وقت خروج الدعاء منه أيقظت لأجله، وقد كان الله تعالى قادرًا على إدفائه وأهله بغير نار، ولكن الله تعالى أراد بما قدره من ذلك إظهار كرامة الشيخ وما يتبع ذلك من فضله سبحانه، إذا دعاه المضطر أنه مجيب ليعرف سبحانه، فإنني لا أحقق أنني نفذت إليه نارًا قبل تلك الليلة ولا بعدها. *وفيه من الفقه: التنبيه على حسن تدبير المؤمن في إصلاح المال له ولغيره إذا كان ينمي اليسير منه، فيكثر ويتضاعف. -1256 - الحديث الثاني والعشرون: [عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كلوا من الأضاحي ثلاثًا) وكان عبد الله يأكل بالزيت حين ينفر من منى، من أجل لحوم (69/ب) الهدي. وفي حديث معمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث). قال سالم: فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث. وفي رواية لمسلم: (لا يأكل أحد من أضحيته فوق ثلاثة أيام). زاد أبو مسعود في حديث الضحاك عن نافع عن ابن عمر كان إذا كان بمنى فأمسى من اليوم الثالث من أيام منى سأل الذي يصنع طعامه: من أين لحمه الذي قدمه؟ فإن أخبره أنه من هديه، لم يأكله].

* إنما نهى عن ذلك من أجل قوم جاءوا إلى المدينة مضطرين فأحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يواسوا ثم أباح ذلك، وهذا يأتي مبيًنا إن شاء الله تعالى في مسند عائشة رضي الله عنها. -1257 - الحديث الثالث والعشرون: [عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تجدون الناس كإبل مائة لا يجد الرجل فيها راحلة)]. *فيه من الفقه أن الناس قد يكون منهم الجم الغفير، فلا يوجد فيهم من يضطلع بحمل أثقالهم كما تحمل الراحلة في الإبل المائة، فإنها تحمل الذنوب والحبل والمحالة وغير ذلك مما ترد الإبل به. *وأيضًا فإن المؤمن يكوم سهل المقامة على قائده غير قاٍس ولا صغر الجانب بل سهلًا قريًبا، كذلك الراحلة تسمح في يد قائدها، وتصحب لسائقها، حتى لو أناخها على صخرة لبركت، ولذلك فإن المؤمن من يكون في تحصيل منافع المؤمنين والقيام بمصالحهم، ويأتيه من ذلك ما لا يتأتى له جمهورهم فإنه على نحو الراحلة أيًضا التي يركبها راعي الإبل، فيرد بها

شاردة ويحبس بها الناده، ويرود عليها أجارع الخصب ليهبطها أماكن الجدب لتجتنبها، ولتسلم على المناهل ليورد إبله بها. فكذلك من يجمع هذه الخصال من الناس فإنه لا يكون من المائة في الغالب واحد. *والذي أراه أن حصر هذا العدد بمائة أي أن سلامة هؤلاء المائة واستقامتهم بهذا الواحد، فكأنه يكون في المعنى مائة إذا كانت حياة المائة واستقامة المائة به. -1258 - الحديث الرابع والعشرون: [عن ابن عمر (أن عمر، حمل على فرس في سبيل الله ثم رآها تباع، فأراد أن يشتريها، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تعد في صدقتك يا عمر)]. *قد فسرنا هذا في مسند (70 / أ) عمر رضي الله عنه. -1259 - الحديث الخامس والعشرون: [عن ابن عمر، قال: وجد عمر حلة من إستبرق تباع بالسوق، فأخذها فأتى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال يا رسول الله: ابتع هذه، فتحمل بها للعيد

والوفد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما هي لباس من لا خلاق له). قال: فلبث عمر ما شاء الله، ثم أرسل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجبة ديباج، فأقبل بها عمر، حتى أتى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، قلت ثم أرسلت إلي هذه؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تبيعها، وتصيب بها حاجتك). وفي رواية: (أن عمر رأى على رجل من آل عطار قباء من ديباج أو حرير، فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو اشتريته، فقال: إنما يلبس هذا من لا خلاق له. فأهدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلة سيراء، فأرسل بها إلي. قال: قلت: أرسلت بها إلى، وقد سمعتك قلت فيها ما قلت؟ قال: إنما بعثت بها إليك لتستمع بها). كذا هو عند مسلم بطوله، وهو عند البخاري مختصر (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى عمر بحلة حرير- أو سيراء- فرآها عليه، فقال: إني لم أرسل بها إليك لتلتبسها، إنما يلبسها من لا خلاق له، إنما بعثت بها إليك لتستمع بها. يعنى تبيعها). وأخرجاه من حديث يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي قال: (قال لي سالم في الإستبرق قال: قلت: ما غلظ من الديياج، وخشن منه، فقال: سمعت عبد الله بن عمر قال: رأى عمر على رجل حلة من إستبرق، فأتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ...)) فذكر نحو ذلك. وفي حديث ابن المثنى: (إنما بعثت بها إليك لتصيب بها مالُا). وفي رواية: (رأى عمر حلة سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة، وللوفد، فقال: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة. ثم جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها حلل، فأعطى عمر منها حلة، ثم ذكر قول عمر له وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إني لم أكسكها لتلبسها). فكساها عمر أًخا له مشرًكا بمكة. وفي رواية لمسلم: رأى عمر عطاردًا التميمي يقيم بالسوق حلة سيراء،

وكان (70/ب) رجلًا بغشى الملوك ويصيب منهم، فقال عمر: يا رسول الله، إني رأيت عطاردًا يقيم في السوق حلة سيراء، فلو اشتريتها فلبستها لوفود العرب إذا قدموا عليك- وأظنه قال: ولتلبسها يوم الجمعة- فقال: (إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة). فلما كان بعد ذلك أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحلل سيراء فبعث إلى عمر رضي الله عنه بحلة، وبعث إلى أسامة بن زيد بحلة، وأعطى علي بن أبي طالب حلة، وقال: (اشققها خمرًا بين نسائك)، فجاء عم بحلته يحملها، فقال: يا رسول الله، بعثت إلي بهذه، وقد قلت بالأمس في حلة عطارد ما قلت، فقال: (إني لم أبعث بها إليك لتلبسها؛ ولكني بعثت بها إليك لتصيب بها). وأما أسامة فراح في حلته فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرًا عرف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنكر ما صنع، فقال: يا رسول الله، ما تنظر إلي فأنت بعثت إلي بها، فقال: (إني لم أبعث إليك بها لتلبسها، ولكني بعثت بها لتشققها خمرًا بين نسائك)]. * قد سبق ذكر هذا الحديث في مسند عمر.

-1260 - الحديث السادس والعشرون: [عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالًا، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)]. *في هذا الحديث من الفقه أنه يجوز أن يكون قوله: (لا حسد) نهيًا عن الحسد على الإطلاق؛ ويكون قوله: (إلا) بمعنى لكن. كما قال الله عز وجل: {إلا من تولى وكفر}، يعني لكن من تولى وكفر، فيكون المراد لكن النعمة في اثنتين. *وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (يقوم به آناء الليل وآناء النهار) يعنى الأوقات التي يشار فيها إلى العبادة، وليس المراد التعبد بتلاوة القرآن جميع الليل والنهار. *وقوله: (ينفقه آناء الليل وآناء النهار) أي ينفق منه سرًا وينفق منه علانية، وقد زدنا هذا الحديث شرحًا في مسند ابن مسعود.

-1261 - الحديث السابع والعشرون: [عن ابن عمر، (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انطلق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رهط من أصحابه قبل ابن صياد، حتى وجدوه يلعب مع الصبيان، عند أطم بني مغالة، وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم، فلم يشعر حتى ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (71/أ) ظهره بيده، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن صياد: أتشهد أني رسول الله؟ فنظر إليه ابن صياد، فقال: أشهد أنك رسول الله الأميين، فقال ابن صياد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتشهد أني رسول الله؟ فرفضه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: (آمنت بالله وبرسله)، ثم قال له رسول الله: ماذا ترى؟ قال ابن صياد: يأتيني صادق وكاذب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خلط عليك الأمر)، ثم قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إني قد خبأت لك خبيئًا)، فقال ابن صياد: وهو الدخ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اخسأ، فلن تعدو قدرك). فقال عمر بن الخطاب: ذرني يا رسول الله أضرب عنقه؛ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لم تكنه فلا خير لك في قتله). قال سالم: فسمعت ابن عمر يقول: (انطلق بعد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بن كعب إلى النخل التي فيها ابن صياد، حتى إذا دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النخل، طفق يتقي بجذوع النخل، وهو يختل أن يسمع ابن صياد شيئًا قبل أن يراه، فرآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتقي بجذوع النخل، وهو يختل ابن صياد أن يسمع من ابن صياد شيئًا قبل أن يراه، وابن صياد مضطجع على فراشه في قطيفة له فيها رمرمة أو زمزمة، فرأت أم ابن صياد النبي وهو يتقي بجذوع

النخل، فقالت لابن صياد: يا صاف، وهو اسم ابن صياد، هذا محمد، فثار ابن صياد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو تركته بين). قال سالم: قال عبد الله بن عمر: فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فأثنى على الله بما هو له أهله، ثم ذكر الدجال فقال: (إني لأنذركموه، ما من نبي إلا قد أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومه، ولكني أقول لكم فيه قولًا لم يقله نبي لقومه: تعلمون أنه أعور، وإن الله تبارك وتعالى ليس بأعور). وفي رواية لمسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم حذر الناس الدجال: (إنه مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه من كره عمله- أو: يقرأه كل مؤمن - وقال: تعلموا أنه لن يري أحد منكم ربه حتى يموت)]. *الأطم: هو بناء من حجارة مرفوع كالقصر. *والأميون: جمع أمي، وهو الذي لا يحسن الكتابة. قال الزجاج: الأمي منسوب إلى الأمة، والأمة (71/ب) خلقت لا تحسن الكتابة فهو على جبلته. *وقوله: (فرفضه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -): أي أعرض عنه. وقال الخطابي: إنما هو فرفصه بالصاد المهملة، ومنه رص البناء كقوله تعالى: {كأنهم بنيان مرصوص}، والمعنى أنه ضغطه حتى ينم بعضه إلى بعض.

* والزمزمة: صوت متردد داخل الفم لا يكاد يفهم. ولما امتحن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الرجل علم أنه لا يعدو الكهانة أو السحر. *وطفق: معناه بدأ في الفعل. *وقوله: (نختل) الختل خديعة في استتار وطلب الغرض من غير علم المطلوب منه. *وقوله: (تعلموا أنه أعور) أي اعلموا ذلك. والعور قد يكون في العين وغيرها، وباقي الحديث قد تقدم تفسيره. -1262 - الحديث الثامن والعشرون: [عن ابن عمر قال: لا والله، ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعيسى أحمر ولكن قال: (بينما أنا نائم أطواف بالبيت، فإذا رجل آدم سبط الشعر، يهادى بين رجلين، ينطف رأسه ماًء، فقلت: من هذا؟ قالوا: ابن مريم، فذهبت ألتفت فإذا رجل أحمر جسيم جعد الرأس، أعور عينه اليمنى، كأن عينه عنبة طافية. قلت: من هذا؟ قالوا: هذا الدجال، وأقرب الناس به شبًها ابن قطن). قال الزهري: هو رجل من خزاعة هلك في الجاهلية. ليس عند مسلم قول الزهري. وأخرجاه من حديث موسى بن عقبة عن نافع، ورواية البخاري أتم قال: قال عبد الله بن عمر: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا بين ظهراني الناس المسيح الدجال،

فقال: (إن الله تعالى ليس بأعور، ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافئة): قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أراني الليلة في المنام عند الكعبة، فإذا رجل آدم، كأحسن ما يرى من أدم الرجال يضرب لمته بين منكبيه، رجل الشعر، يقطر رأسه ماء، واضعًا يديه على منكبي رجلين هو بينهما يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ فقالوا: المسيح بن مريم، ورأيت وراءه رجلًا جعدًا قطًطا، أعور العين اليمنى، كأشبه من رأيت من الناس بابن قطن، واضًعا يديه على منكبي رجل يطوف بالبيت. فقلت: من هذا؟ فقالوا: المسيح الدجال). وفي رواية البخاري: (رأيت عيسى (72/أ) بن مريم وموسى وإبراهيم، فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر، وأما موسى فآدم جسيم سبط، كأنه من رجال الزط). وفي رواية للبخاري: (إن الله تعالى ليس بأعور، ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأنها عنبة طافية)]. *الأدم: هو الأسمر. والشعر السبط: السهل على ضد الجعد. *ويهادى بين رجلين: يمشي بينهما معتمدًا عليهما. وينطف رأسه ماء: أي يقطر. والطافية من العنب: الخارجة عن حد نبات أخواتها. واللمة: شعر الرأس إذا جاوز شحمتي الأذنين وحاذاهما كأنه؛ لما ألم سمي بإلمامة لمة،

فإذا بلغت اللمة المنكبين فهي جمة، وقد سبق ذكر صفات الأنبياء وغيرها فيما تقدم. -1263 - الحديث التاسع والعشرون: [عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (يقاتلونكم اليهود فتسلطون عليهم حتى يقول الحجر: يا مسلم، هذا يهودي ورائي، فاقتله). وفي رواية: (فتعال فاقتله)]. *هذا مما وعد الله عز وجل فيجب اعتقاد أنه حق. *قوله: (يقاتلكم اليهود) فالمعنى أن من هو منهم في الذمة فينقضون الذمة ويقاتلون فيباح حينئذ قتالهم، وأما كون الحجر يدل على اليهودي؛ فلأن شؤم غدرهم أوجب أن تمت الحجارة بأخبارهم. -1264 - الحديث الثلاثون: [عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو على المنبر: (ألا إن الفتنة هنا، يشتر إلى المشرق، من حيث يطلع قرن الشيطان).

وفي حديث يونس قال: (وهو مستقبل المشرق- ها، إن الفتنة ها هنا ثلاثًا). وفي رواية للبخاري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: يا رسول الله، وفي نجدنا؟ فأظنه قال في الثالثة: هنا الزلازل والفتن، منها يطلع قرن الشيطان). وفي رواية مسلم عن سالم أنه قال: (يا أهل العراق، ما أسألكم عن الصغيرة، وأركبكم الكبيرة!! سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن الفتنة تجيء من ها هنا - وأومأ بيده نحو المشرق- من حيث يطلع قرن الشيطان). وأنتم يضرب بعضكم رقاب بعض (72/ب)، وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ، فقال الله له: {وقتلت نفسًا فنجيناك من الغم وفتناك فتونًا}] *وقد تقدم تفسير قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يزال أهل الغرب على الحق)، فيكون أهل المشرق على ضد أهل الغرب، فإن لسانهم على غير العربية فهم جديرون بالبدعة. قال الخطابي: نجد هي ناحية الشرق فمن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها. وأصل النجد: ما ارتفع من الأرض، والغور: ما انخفض

منها، وتهامة: كلها من الغور. والفتن تبدأ من المشرق، ومن نواحيها يخرج الدجال ويأجوج ومأجوج، وسيأتي في الحديث الحادي والستين من هذا المسند، بيان معنى قرن الشيطان فإن ذكره هناك أمس به من ها هنا. وقوله: (وفتناك فتونًا) قال ابن عباس: الفتون وقوعه في محنة بعد محنة، ثم يخلصه الله منها كولادته في وقت ذبح الأطفال، وقتله القبطي، وغير ذلك. -1265 - الحديث الحادي والثلاثون: [عن ابن عمر، قال: رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أرى رؤياكم في العشر الأواخر، فاطلبوها في الوتر منها). وفي حديث يونس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في ليلة القدر: (إن ناًسا منكم قد أروا أنها في العشر الأواخر الغوابر). وفي رواية: أن رجالًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر. فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر). وفي رواية للبخاري: أن ناسًا أروا ليلة القدر في السبع الأواخر، وأن أناسا أروا أنها في العشر الأواخر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (التمسوها في السبع الأواخر). وفي رواية لمسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تحروا ليلة القدر في السبع الأواخر).

وفي رواية: (التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز، فلا يغلبن على السبع البواقي). وفي رواية: (تحينوا ليلة القدر في العشر الأواخر. أو قال: في السبع الأواخر)]. *تواطأت: توافقت. *والتحين: طلب الشيء في حين مختص به. *وقد سبق (73/أ) الكلام في ليلة القدر. -1266 - الحديث الثاني والثلاثون: [عن ابن عمر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر رمضان فقال: لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه؛ فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين).

حديث معاذ بن معاذ: (الشهر كذا وكذا وكذا. وصفق بيديه مرتين كل أصابعهما، ونقص في الصفقة الثالثة، إبهام اليسرى أو اليسرى). وفي رواية أنه قال: (إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب. الشهر هكذا وهكذا وهكذا. بمعنى مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين). وفي رواية: (الشهر تسع وعشرون). وفي رواية عقبه وأحسبه قال: (الشهر ثلاثون. وطبق كفيه ثلاث مرات). وفي رواية عن ابن عمر أنه سمع رجلًا يقول: (الليلة النصف، فقال له: ما يدريك أن الليلة النصف)، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (الشهر هكذا أو هكذا وهكذا. وأشار بأصابعه العشر مرتين، وهكذا في الثالثة وأشار بأصابعه كلها وحبس أو خنس إبهامه)]. *في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالصوم لرؤية الهلال، ولا يلتزم الصوم حتى يرى الهلال إلا أنه إذا حال في مطلعه ما يجوز كونه تحته، فاحتياط للعبادة أن يصام. ومعنى (اقدروا له): ضيقوا له عددًا يطلع في مثله. وقوله: (إنا أمة أمية) كان - صلى الله عليه وسلم - الغاية في العلوم ثم نزل إلى هذه الدرجة ليعلم ضعفى الناس بما فعل من العد بالأصابع.

-1267 - الحديث الثالث والثلاثون: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على رجل من الأنصار، وهو يعظ أخاه في الحياء. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (دعه؛ فإن الحياء من الإيمان). وفي رواية: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء (73/ب) يقول: إنك تستحيي، حتى كأنه يقول: قد أضر بك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (دعه؛ فإن الحياء من الإيمان)]. *وقد سبق الكلام في الحياء في مسند عمران بن حصين. -1268 - الحديث الرابع والثلاثون: [عن ابن عمر (أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب على المنبر يقول: (اقتلوا الحيات، واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر، فإنهما يطمسان البصر، ويسقطان الحبل). قال عبد الله: فبينما أنا أطارد حية أقتلها، ناداني أبو لبابة: (لا تقتلها، فقلت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الحيات، فقال: إنه نهى بعد ذلك عن

ذوات البيوت، وهن العوامر). وفي رواية لمسلم: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يأمر بقتل الكلاب، يقول: (اقتلوا الحيات والكلاب، اقتلوا ذا الطفيتين والأبتر)]. *وقد سبق هذا الحديث الكلام عليه في مسند أبي لبابة. -1269 - الحديث الخامس والثلاثون: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه، ولا تبيعوا الثمر بالتمر). قال سالم: وأخبرني عبد الله عن زيد بن ثابت، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر، ولم يرخص في غيره. قال الليث عن يونس عن ابن شهاب: لو أن رجلًا ابتاع تمرًا قبل أن يبدو صلاحه ثم أصابته عاهة كان ما أصابه على ربه. أخبرني سالم عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تبتاعوا الثمر حتى يبدو صلاحه، ولا تبيعوا الثمر بالتمر).

وفي رواية لمسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن السنبل حتى يبيض، ويأمن من العاهة، نهى البائع والمشتري. وفي رواية: يبدو صلاحه: حمرته وصفرته. وفي رواية: قبل لابن عمر: ما صلاحه؟ قال: يذهب عاهته]. *قال أبو عبيد: زهو النخل، هو أن يحمر أو يصفر، والعاهة: هي الآفة تصبيه. وقد سبق بيان هذا الحديث في مسند زيد بن ثابت.

-1270 - الحديث السادس والثلاثون: [عن ابن عمر، قال: (رأيت الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ابتاعوا الطعام جزافا، يضربون أن يبيعوه في مكنه حتى يؤدوه إلى رحالهم). وفي حديث معمر: حتى يحولوه (74/أ). وفي رواية ابن عمر: كان يشتري الطعام جزاًفا فيحمله إلى أهله. وفي رواية: (من اشترى طعامًا فلا يبيعه حتى يستوفيه، وقال: وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه.

وفي رواية: من اشترى طعاًما فلا يبيعه حتى يستوفيه. وفي رواية: كنا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبتاع الطعام، فيبعث علينا من يأمر بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكن سواه قبل أن نبيعه. وفي رواية: فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتى ينقلوه)]. *استيفاء الطعام إن كان قد اشترى صبره بنقله، وإن كان بالكيل لم يجز بيعه حتى يعاد عليه الكيل على ما سبق في مسند ابن عباس مشروحًا. -1271 - الحديث السابع والثلاثون: [عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من ابتاع نخلًا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها، إلا أن يشترط المبتاع، ومن ابتاع عبدا فماله للذي باعه؛ إلا أن يشترط المبتاع). وفي رواية: (من باع نخلًا قد أبرت فتمرها للبائع إلا أن يشترط المبتاع)].

* أبرت النخل: أي لقحت، وتأبير النخل هو أن ينشق طلعها؛ فيوضع في أثنائه شيء من طلع فحال النخل؛ فيكون ذلك لقاحًا، فجعل - صلى الله عليه وسلم - الثمر المستكن في الطلع كالولد المستجن في بطن الحامل؛ فإنها إذا بيعت يتبعها الحمل في البيع فإذا ظهر تميز حكمه عن حكم أمه، فكذلك تمر النخل إذا تشقق وظهر فإنه ينفرد حكمه عن حكم أصله. * وقوله: (من ابتاع عبدًا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع)، وهذا يدل على أن العبد لا يملك بحال لأنه جعل في أقوى الحالات، وهي إضافة الملك إليه غير مالك. وقد سبق ذكر هذا الحديث. -1272 - الحديث الثامن والثلاثون: [عن ابن عمر، (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعًا) زاد البخاري من رواية أبي ذؤيب عن الزهري: وكل واحد منها بإقامة، ولم يسبح (74/ب) بينهما، ولا على أثر واحدة منها). وفي رواية لمسلم؛ قال: (جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الغرب والعشاء، بجمع، ليس بينهما سجدة، وصلى المغرب ثلاث ركعات، وصلى العشاء ركعتين، وكان عبد الله يجمع لذلك حتى لحق بالله) وفي رواية: (جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المغرب والعشاء بجمع: صلاة

المغرب ثلاثًا، والعشاء ركعتين بإقامة واحدة)]. * التسبيح: هاهنا النافلة. وقوله: (ليس بينهما سجدة) يعني ركعة. وقوله: (والمغرب ثلاثًا) لأنها لا تقصر، وقد سبق هذا الحديث والكلام عليه. -1273 - الحديث التاسع والثلاثون: [عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون)]. * إنما خيف من هذا لأنه ربما جرت الفارة الزبالة فأحرقت البيت؛ فأما إذا كانت سرج على رأس مفازة لا تقدر عليها الفأرة فلا أرى بذلك بأسًا -1274 - الحديث الأربعون: [عن ابن عمر، قال: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أعجله السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء، قال سالم: كان ابن عمر يجمع

بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، وأخر ابن عمر المغرب، وكان استصرخ على امرأته صفية بنت أبي عبيد- فقلت له: الصلاة؟ فقال: سر، فقلت: الصلاة؟ فقال: سر، حتى سار ميلين أو ثلاثة، ثم نزل فصلى ثم قال: هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي إذا أعجله السير، يقيم المغرب فيصليها ثلاثًا، ثم يسلم، ثم قلما يلبث حتى يقيم العشاء فيصليها ركعتين، ثم يسلم، ولا يسبح بعد العشاء حتى يقوم من جوف الليل). وفي رواية للبخاري: (أن ابن عمر بلغه عن صفية شدة وجع فأسرع السير حتى كان بعد غروب الشفق ثم نزل فصلى المغرب والعتمة وجمع بينهما، وقال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جد به السير أخر المغرب وجمع بينهما. وفي رواية: أن ابن عمر كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء)]. * قد سبق الكلام في الجمع بين الصلوات. (واستصرخ) بمعنى استغيث به ليكون عونًا على ما استصرخ به له. -1275 - الحديث الحادي والأربعون: [عن ابن عمر، أن (75/أ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة؛ سوى قسم عامة الجيش.

زاد في رواية الليث: والخمس في ذلك كله واجب. وفي رواية: نفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفلًا سوى نصيبنا من الخمس فأصابني شارف، والشارف: المسن الكبير. وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية إلى نجد، فخرجت فيها فبلغت سهماتنا اثني عشر بعيرًا، ونفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرًا بعيرًا. وفي رواية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بسرية قبل نجد، وفيهم ابن عمر، وأن سهامهم بلغت اثني عشر بعيرًا، ونفلوا بعيرًا بعيرًا فلم يغيره النبي - صلى الله عليه وسلم -]. * قد سبق في مسند سعد ما يتعلق بالأنفال. * وفي هذا الحديث من الفقه أن التنفيل لبعض أهل القوة في الحرب تحريض لهم على القتال جائز، وهذا التنفيل كالصلة لهم، وهو أسوة الجماعة في سهمان الغنيمة. -1276 - الحديث الثاني والأربعون: [عن ابن عمر، أنه طلق امرأة له وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتغيظ فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: (ليراجعها، ثم يمسكها

حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر؛ فإن بدا له أن يطلقها، فليطلقها قبل أن يمسها بيده، فتلك العدة كما أمر الله تعالى). وفي رواية: (مره فليراجعها، حتى تحيض حيضة مستقبلة، سوى حيضتها التي طلقها فيها، فإن بدا له أن يطلقها، فليطلقها طاهرًا من حيضتها من قبل أن يمسها. قال: والطلاق للعدة كما أمر الله عز وجل. وكان عبد الله طلقها تطليقة، فحسبت من طلاقها، وراجعها عبد الله كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية لمسلم: (أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا). وفي رواية: ذكر ذلك عمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (مره فليراجعها، ثم ليدعها حتى تطهر ثم تحيض حيضة أخرى؛ فإذا طهرت فليطلقها قبل أن يجامعها أو يمسكها؛ فإنها العدة التي أمر الله عز وجل أن يطلق لها النساء. قلت لنافع: ما صنعت التطليقة؟ قال: (75/ب) واحدة اعتدد بها). وفي رواية: (فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يطلق لها النساء). وفي رواية عن ابن سيرين، قال: (مكثت عشرين سنة يحدثني من لا أتهم: أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثًا وهي حائض؛ فأمر أن يراجعها، فجعلت لا أتهمهم ولا أعرف الحديث، حتى لقيت أبا غلاب فحدثني أنه سأل ابن عمر؟ فحدثه: أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض؛ فأمر أن يراجعها، قلت: أحسبت عليه؟ قال: فمه أو إن عجز واستحمق). وفي رواية: قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليراجعها)؛ فردها، وقال: (إذا طهرت فليطلق أو ليمسك). قال ابن عمر: وقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا أيها النبي إذا طلقتم

النساء فطلقوهن في قبل عدتهن)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الطلاق الذي أشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هو طلاق السنة، وهو الطلاق في الطهر، فيطلق الإنسان على ثبات من أمره، لا في حالة غضب لا يؤمن في عقيبه الندامة؛ ولا عن عجلة يستخف الحلم، وإنما أمره بالمراجعة لأن الطلاق في الحيض محرم إلا أنه يقع، ويستحب له أن يراجعها إن يراجعها إن كان الطلاق رجعيا، وهو قول أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك: يجب عليه الرجعة. * وقوله: (إن عجز واستحمق) المعنى أن كان عاجزا أو أحمق، يسقط حكم الطلاق عجزه. -1277 - الحديث الثالث والأربعون: [عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع عمر وهو يحلف بأبيه، فقال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم؛ فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت). وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع عمر يقول: وأبي وأبي، فقال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم؛ فمن كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله أو ليسكت).

وفي رواية: (من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله. وكانت قريش تحلف بآبائها، فقال: لا تحلفوا بآبائكم)]. * قد سبق هذا في مسند عمر رضي الله عنه. -1278 - الحديث الرابع والأربعون: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (رأيت كأني أنزع بدلو بكرة على قليب، فجاء أبو بكر فنزع ذنوبًا أو ذنوبين نزعًا ضعيفًا، والله يغفر له، ثم جاء عمر فاستحالت غربًا، فلم أر عبقريًا من الناس يفري فريه، حتى روى الناس وضربوا (76/أ) بعطن). وفي رواية قال: (رأيت الناس اجتمعوا، فقام أبو بكر فنزع ذنوبًا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف). وفي رواية: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (رأيت كأني أنزع بدلو بكرة على قليب، فجاء أبو بكر فنزع ذنوبًا أو ذنوبين). وفي رواية: (بينما أنا على بئر أنزع منها، إذ جاءني أبو بكر وعمر، فأخذ أبو بكر الدلو، فنزع ذنوبًا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، يغفر الله له،

ثم أخذها ابن الخطاب من يد بكر، فاستحالت في يده غربًا)]. * القليب: هو البئر قبل أن يطوى، فإذا طويت فهي طوى. * قوله: (في نزعه ضعف) أي أن الإسلام لم يقو في إمارة أبي بكر رضي الله عنه؛ قوته في زمان عمر رضي الله عنه، فإن الله تعالى أظهر بعمر الإسلام وفتح الفتوح. * والذنوب: هو الدلو العظيمة؛ وكذلك الغرب. وقوله: (فاستحالت غربًا) أي تحولت ورجعت إلى الكبر، والمعني أن عمر لما أخذ الدلو عظمن في يده، وكذا كان تأويلها، أن الفتوح في أيامه كانت أكثر من الفتوح في أيام أبي بكر رضي الله عنه. * وقوله: (فلم أر عبقريًا من الناس يفري فريه). العبقري: هو سيد القوم وكبيرهم وقيومهم. وقال أبو بكر الأنباري: عبقر قرية تسكنها الجن، وكل فائق جليل ينسب إليها. وقال الزجاج: عبقر بلد كان يوشي فيه البسط وغيرها، فينسب كل جيد إليه.

قال زهير: بخيل عليها جنة عبقرية جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا * وقوله: (حتى ضرب الناس بعطن): قال ابن الأنباري: حتى رووا، وأرووا إبلهم، وأبركوا، وضربوا لها عطنا يقال: أعطنت الإبل وعطنت. -1279 - الحديث الخامس والأربعون: [عن ابن عمر، قال: (ذكر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء، فاقل: ذاك يوم كان يصومه أهل الجاهلية، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه). وفي رواية: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان، فلما افترض رمضان، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه). وفي رواية للبخاري: (صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (76/ب) عاشوراء، وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك، وكان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صومه) وفي رواية لمسلم: (ذكر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان يومًا يصومه أهل الجاهلية، فمن أحب منكم أن يصومه فليصمه، ومن كره فليدع. وكان ابن عمر لا يصومه إلا أن يوافق صومه].

* قد سبق الكلام في عاشوراء. -1280 - الحديث السادس والأربعون: [عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، لأين الجبارون؟ أين المتكبرون؟). كذا في رواية مسلم وهي أتم. وفي رواية للبخاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله عز وجل يقبض يوم القيامة الأرضين، وتكون السموات بيمينه، ثم يقول: وأنا الملك). وفي رواية لمسلم: من حديث عبيد الله بن مقسم، أنه نظر إلي عبد الله بن عمر، كيف يحكي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضيه يبديه، يقول: أنا الله، ويقبض أصابعه ويبسطها، ويقول: أنا الملك، حتى نظر إلي المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى أنني أقول: أساقط هو يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! وفي رواية: (يأخذ الجبار عز وجل سماواته وأرضيه بيديه)].

* هذا الحديث يوافق قول الله عز وجل: {والسموات مطويات بيمينه}. إلا أنه قد تقدم في مسند ابن مسعود القول في هذا الكلام يتناول جميع أحاديث الصفات، وبينا أن الإجماع انعقد على جواز رواية هذه الأحاديث وإمرارها كما جاءت مع الإيمان بأن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأنه أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وينبغي لكل مؤمن أن يكون مثبتًا الله سبحانه من الصفات ما أثبته له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونافيا عنه من مشابهة الأجسام ما نفاه القرآن والسنة. * والقاعدة في هذا الحديث أن السموات والأرض في يد الله سبحانه وفي قبضته لا يفوته منها شيء ولا يخفى عن علمه منها شيء، ولا يعزب عن قدرته منها قليل ولا كثير (77/أ). -1281 - الحديث السابع والأربعون: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أعتق عبدًا بينه وبين آخر: قوم عليه في ماله قيمة عدل، لا وكس ولا شطط، ثم عتق عليه في ماله إن كان موسرًا). وفي حديث ابن المديني: (من اعتق عبدًا بين اثنين: فإن كان موسرًا قوم عليه، يوم يعتق).

وفي رواية: (من أعتق شركًا له في عبد فكان له مال فبلغ ثمن العبد: قوم عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق). وفي رواية للبخاري أن ابن عمر (كان يفتي في العبد أو الأمة يكون بين شركاء، فيعتق أحدهم نصيبه منه، يقول: قد وجبت عليه عتقه كله إذا كان للذي أعتق من المال ما يبلغ، يقوم من ماله قيمة العدل، ويدفع إلى الشركاء أنصباؤهم ويخلى سبيل المعتق، يخبره بذلك ابن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أعتق شركا في مملوك وجب عليه أن يعتق كله، إن كان له مال قدر ثمنه، يقام قيمة عدل، ويعطي شركاؤه حصصهم ويخلى سبيل المعتق)]. وفي رواية: (من أعتق شركًا له في عبد أقيم عليه قيمة العدل؛ فأعطى شركاءه حصصهم وعتق العبد)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الله تعالى يحب العتق وفك الرقاب؛ فلذلك إذا حصل في عبد حصة من الحرية، شرع سبحانه وتعالى تخليص الباقي من الرق فينبغي للمؤمن أن يلمح هذا المعنى، ويحرض في أن يغري رقه من أن يملكه غير ربه، وبيانه أن سراية العتق في العبد ينشأ منها الكثير عن القليل إلى أن يتحرر، فمن خلقه الله سبحانه وتعالى عريا من الرق الشرعي؛ فإن الإيمان يخاطبه ألا يهمل إيناسه بحصة رق معنوي فيه لطمع

في مخلوق أو اعتماد على فان أو تمليك قلبه لحب من يموت عن كشف، فإن هذه الأشياء إذا لمحت وجدت مسترقات للآدمي فبقدر ما يخلص منها يتحرر، وبقدر ما يتشبث في شيء منها يسترق. -1282 - الحديث الثامن والأربعون: [عن ابن عمر، أنه كان يقول: (ما كنا ندعو زيد بن (77/ب) حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزل في القرآن: {ادعوهم لآبائهم}]. * في هذا الحديث ما يدل على أن التسمية بالبنوة ما بين الناس لا يترتب عليها حكم، وعلي هذا فإن الرجل إذا قال لمن هو أصغر منه: يا بني، أو لمن هو أكبر منه: يا أبي وسامعه يفهم مقصودة في ذلك؛ فإن ذلك لا يسمى كذبًا. وقد كان الشيخ محمد بن يحيى إذا سمع من ينادي على ثمر الفرصاد أنه عسل بارد يقول: لا أراه كاذبًا؛ لأن سامعيه فهموا مقصوده منه. -1283 - الحديث التاسع والأربعون: [عن ابن عمر، قال: (بيداؤكم هذه، التي تكذبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، (ما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من عند المسجد، يعني: ذي الحليفة).

وفي رواية: (ما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من عند الشجرة، حين قام به بعيره). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل، فقال: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لا لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. قالوا: وكان عبد الله يقول: تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال نافع: وكان عبد الله يزيد مع هذا: لبيك لبيك، وسعديك والخير بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل). وفي رواية: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وضع رجله في الغرز، واستوت به راحلته قائمة، أهل من عند مسجد ذي الحليفة). وفي رواية عن عبيد بن جريح، أنه قال لعبد الله بن عمر: رايتك تصنع أربعًا لم أر أحد من أصحابك يصنعها. قال: وما هي يا ابن جريح؟ قال: رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانين، ورأيتك تلبس النعال السبتية، ورأيتك تصبغ بالصفرة، ورأيتك إذا كنت بمكة، أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهلك أنت حتى يكون يوم التروية. فقال عبد الله بن عمر: أما الأركان، فإني لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمس إلا اليمانين، وأما النعال السبتية، فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبس النعال التي ليس فيها شعر، ويتوضأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها، وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بها، (78/أ) فأنا أحب أن أصبغ بها، وأما الإهلال فإني

لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تنبعث به راحلته)]. * قد سبق أكثر هذه الكلمات الذي يحتوي عليها هذا الحديث في هذا المسند، وذكرنا معنى (لبيك) في مسند علي رضي الله عنه، وشرحنا في مسند ابن عمر قوله: (إن الحمد والنعمة لك). * وأما النعال، فإنها منسوبة إلى السبت، والسبت جلود البقر المدبوغة بالقرظ يتخذ منها النعال، وقد كان ابن عمر يؤثر موافقة السنة في كل شيء، وهذا من فعله بينه على أنه ينبغي الاقتداء بالسنة في كل حال. -1284 - الحديث الخمسون: [عن ابن عمر (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى وهو في معرسه من ذي الحليفة في بطن الوادي، فقيل له: إنك ببطحاء مباركة). قال موسي بن عقبة: (وقد أناخ بنا سالم بالمناخ من المسجد الذي كان عبد الله ينيخ به، يتحرى معرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أسفل من المسجد الذي

ببطن الوادي، بينهم وبين القبلة وسطًا من ذلك)]. * المعرس: هو موضع نزول القوم في سفرهم من آخر الليل للراحة والنوم. * والبطحاء: كل مكان متسع، ويتحرى: بمعنى يتوخى. * وهذا الحديث يدل على أن من الأرض ما يقع فيه من البركة ما لا يقع في غيره. -1285 - الحديث الحادي والخمسون: [عن ابن عمر، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من اقتنى كلبًا إلا كلب صيد أو ماشية؛ فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان). قال سالم: وكان أبو هريرة يقول: (أو كلب حرث. وكان صاحب حرث). وفي رواية: (كلب ماشية أو ضاريًا). وفي رواية: (من اقتنى كلبًا- ليس كلب ماشية أو صيد- نقص كل يوم من عمله قيراطان). وفي رواية: (قيراط). وفي رواية: (أيما أهل دار اتخذوا كلبا إلا كلب ماشية أو كلبًا صائدًا، نقص من عمله كل يوم قيرطان). وفي رواية: (من اتخذ كلبًا- إلا كلب زرع أو غنم أو صيد- نقص من

أجره كل يوم قيراط)]. * يقال: ضري الكلب يضرى ضراوة، إذا حرص على الصيد واعتاده، وفهم الزجر والإرسال، وأضريته أنا: علمته ذلك، ودربته عليه. * وإنما نهى عن اقتناء الكلب لنجاسته وترويع الضيف والمار، وقد سبق الكلام في هذا الحديث. * وأما قول ابن عمر: (وكان أبو هريرة صاحب حرث) فإنه جعل احتياجه إلى ذلك (78/ب) شاهدًا له على علمه؛ لأن من احتاج إلى شيء سأل عنه. -1286 - الحديث الثاني والخمسون: [عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (بينا أنا نائم أو تيت بقدح من لبن، فشربت منه، حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: فما أولته؟ قال: العلم)].

* فيه: ما يدل على فضل عبر الرؤيا. * وفيه: ما يدل على أن عمر كان في جميع أفعاله موفقًا وذلك من فضل الله، وفضل سؤر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الذي ناوله إياه العلم فأظهره في ولايته. -1287 - الحديث الثالث والخمسون: [عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أنزل الله بقوم عذابًا أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم)]. * هذا محمول على أن من هلك مع المهلكين يكون أجله قد قدر حينئذ، ثم يبعثون على أعمالهم؛ لأن الله تعالى قال: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}. ويجوز أن يكونوا لم ينكروا المنكر؛ فعو قبرا لما نزل بهم. -1288 - الحديث الرابع والخمسون: عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تزال المسألة بأحدكم، حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم). وفي رواية الليث: (حتى يأتي يوم القيامة)].

* فيه من الفقه كراهية المسألة، وذلك أن المؤمن ينبغي أن يكون أعز من أن يرضى لنفسه أن يسأل غير الله عز وجل؛ إلا أنه إن أحاجه الله تعالى إلى الحال التي ينتهي به إلى سؤال بمقدار الكفاية فذلك له جائز، فإن الله تعالى أخبر عن موسى الكليم وصاحبه أنهما استطعما أهل قرية فأبوا أن يضيفوهما، فمنصرف حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسألة التي يجد الإنسان عنها مندوحة فتلك التي يأتي به يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم. (والمزعة): هي القطعة من اللحم. -1289 - الحديث الخامس والخمسون: [عن ابن عمر، قال: (كنا نتحدث عن حجة الوادع، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا، ولا ندري ما حجة الوداع؟ حتى حمد الله ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأثنى عليه، ثم ذكر المسيح الدجال، فأطنب في ذكره، وقال: (ما بعث الله من نبي إلا أنذره أمته، أنذره نوح أمته والنبيون من بعده، وإنه يخرج فيكم، فما خفي عليكم من شأنه، فليس يخفي عليكم، أن ربكم ليس بالأعور، إنه أعور عين اليمنى (79/أ) كان عينية عنبة طافية، ألا أن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد- ثلاثًا، ويلكم- أو: ويحكم! انظروا، لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض). وفي رواية: (وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فيها، وقال: أي يوم هذا؟).

وفي رواية: (هذا يوم الحج الأكبر، فطفق النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (اللهم اشهد). ثم ودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع)]. * قد مضى الكلام في الدجال، وباقي الحديث مبين في مسند أبي بكر، وابن عباس. * وقد تكلمنا في قوله: (لا ترجعوا بعدي كفارًا) في مسند ابن مسعود. -1290 - الحديث السادس والخمسون: [عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه)]. * قد تقدم الكلام في حقوق الجار.

-1291 - الحديث السابع والخمسون: [عن ابن عمر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت أن أٌقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)]. *قد سبق في مسند عمر رضي الله عنه. -1292 - الحديث الثامن والخمسون: [عن ابن عمر، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار: جيء بالموت، حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة لا موت، يا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرًحا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزًنا إلى حزنهم). وفي رواية: (يدخل الله أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، كل خالد فيما

هو فيه)]. *في هذا الحديث دلالة على أن ما كان قد روع المؤمنين من الموت، فإن من تمام النعمة أن يصور لهم في صورة ثم يذبح، ومن تمام أهل النار أنهم لما تمنوا الموت لشدة ما يلقون من العذاب يأسوا منه عند ذبحه فلم يبق لهم طمع في فرج فازداد همهم وغمهم. -1293 - الحديث التاسع والخمسون: [عن ابن عمر، قال: (صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم أره يسبح في السفر، وقال (79/ب) الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}. وفي حديث يزيد بن زريع، قال: (مرضت فجاءني ابن عمر يعودني، فسألته عن السبحة في السفر؟ فقال: صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر فما رأيته يسبح، ولو كنت مسبًحا لأتممت). وفي رواية: (صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى صلاة المسافر، وأبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم ثماني سنين، أو قال: ست سنين، قال حفص: وكان ابن عمر يصلي بمنى ركعتين، ثم يأتي فراشه، فقلت لابن عمر: لو صليت بعدها ركعتين؟ قال: لو فعلت لأتممت الصلاة).

وفي رواية: (صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين، وأبو بكر رضي الله عنه بعده، وعمر رضي الله عنه بعد أبي بكر، وعثمان رضي الله عنه صدرًا من خلافته، ثم إن عثمان صلى بعد أربًعا، فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربًعا، وإذا صلاها وحده صلى على ركعتين). وفي رواية لمسلم عن ابن عمر: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة المسافر بمنى وغيره ركعتين، وأبو بكر وعمر وعثمان ركعتين صدرًا من خلافته ثم أتمها أربعًا). وفي رواية: (صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك رضي الله عنهم). وفي رواية لمسلم قال: (صحبت ابن عمر في طريق مكة، قال: فصلى بنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه، حتى جاء رحله وجلس، وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحو حيث صلى، فرأى أناسًا قيامًا، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون. قال: لو كنت مسبًحا لأتمتممت صلاتي، يا ابن أخي، إني صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر، فلم يزد على ركعتين، حتى قبضه الله تعالى، وصحبت أبا بكر رضي الله عنه، فلم يزد على ركعتين، حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان، فلم يزد على ركعتين، حتى قبضه الله، وقد قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}].

* (التسبيح) هو التنفل، (والأسوة) هي القدوة، وإنما كان ابن عمر رضي الله عنه مع الأثر. -1294 - الحديث الستون: [عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموهما فصلوا)]. *قد سبق (80/أ) في مسند ابن عباس وغيره. -1295 - الحديث الحادي والستون: [عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تبرز، وإذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب، لا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرني شيطان - أو: الشيطان- لا أدري أي ذلك. قال هشام.

وفي رواية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها). وفي رواية: (سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها). وفي رواية للبخاري: قال ابن عمر: (أصلي كما رأيت أصحابي يصلون، لا أنهى أحدًا يصلي بليل أو نهار، غير أن لا يتحرى طلوع الشمس ولا غروبها)]. * (حاجب الشمس): هو أول ما يبدو منها، وهذه أوقات النهي عن النفل، فأما الفرائض فتفعل فيها. * وقد بينا معنى: (تحينوا) قبل ثلاثين حديًثا، وقد تقدم معنى (قرن الشيطان).

-1296 - الحديث الثاني والستون: [عن ابن عمر، قال: وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - على قليب بدر؛ فقال: (هل وجدتهم ما وعدكم ربكم حقا)؟ ثم قال: (إنهم الآن يسمعون ما أقول لكم). فذكر لعائشة، فقالت: وإنما قال: إنهم ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق، ثم قرأت: {إنك لا تسمع الموتى}. وفي رواية: (قال ناس من أصحابه: يا رسول الله: تنادي أناًسا أمواًتا؟ قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما أنتم بأسمع لما قلت منهم). وفي رواية: (اطلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل القليب؛ فقال: وجدتم ما وعد ربكم حًقا؟ فقيل له: أتدعو أمواًتا؟ فقال: ما أنتم بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون)]. *وقد سبق هذا في مسند عمر رضي الله عنه. -1297 - الحديث الثالث والستون: [عن ابن عمر، قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لحون الحمر الأهلية).

وفي رواية: (من أكل من هذه الشجرة- يعني الثوم-؛ فلا يأتين المساجد). وفي رواية: (من أكل من هذه البقلة فلا يقربن مسجدنا حتى يذهب ريحها- يعني الثوم). وفي رواية: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (80/ب) عن أكل الحمار الأهلي يوم خيبر، وكان الناس احتاجوا إليها)]. *قد سبق تفسيره. -1298 - الحديث الرابع والستون: [عن ابن عمر، أن الناس نزلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحجر، أرض ثمود، فاستقوا من آبارها، وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يهريقوا ما استقوا، ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر الإبل التي كانت تردها الناقة). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل بالحجر في غزوة تبوك، أمرهم أن لا

يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطرحوا ذلك العجين، ويهرقوا ذلك الماء)]. *قد سبق بيان هذا، فإن البركة تؤثر في الأرض والماء؛ وكذلك اللعنة والعذاب. -1299 - الحديث الخامس والستون: [عن ابن عمر قال: (أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع؛ فكان يعطي أزواجه كل سنة مائة وست وثمانين وسًقا من تمر، وعشرين وسًقا من شعير، فلما ولي عمر، قسم خيبر، خير أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقطع لهن الأرض والماء، أو يضمن لهن الأوساق في كل عام، فاختلفن فمنهن من اختار الأرض والماء، ومنهن من اختار الأوساق كل عام، فكانت عائشة وحفصة ممن اختارتا الأرض والماء). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى خيبر اليهود أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها). وفي رواية: (أن عمر أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها، فسألت اليهود

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرهم بها، على أن يكفوا العمل ولهم نصف الثمر. فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (نقركم بها على ذلك ما شئنا)، فقروا بها حتى أجلاهم عمر في إمارته إلى تيماء وأريحاء). وفي رواية: (لما افتتحت حيبر سألت اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرهم فيها، على أن يعملوا على نصف ما خرج منها من الثمر والزرع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (81/أ): (أقركم فيها على ذلك ما شئنا). قال: (وكان الثمر يقسم على السهمان من نصف خيبر، فيأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخمس). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفع إلى يهود خير نخل خيبر وأرضها، على أن يعتملوها من أموالهم، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شطر ثمرتها)]. *وقد سبق؛ فإن هذا الحديث في مسند عمر رضي الله عنه. *والوسق: ستون صاعًا. وبينا بعض هذا الحديث في مسند رافع بن خديج. (وإجلاء القوم): إخرجهم عن منازلهم. *وأما الحجاز، فقال ابن فارس: قال قوم: إنما سمي حجازًا من قولهم حجز الرجل البعير إذا شده إلى رسغه فكان ذلك فيدًا له فالجبل حجازه.

ويقال: سمي حجازًا؛ لأنه احتجز بالجبال. يقال: احتجزت المرأة إذا اشدت ثيابها على وسطها. -1300 - الحديث السادس والستون: عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنهكوا الشوارب، وأعفوا اللحى). وفي رواية: (أحفوا الشوارب). وفي رواية: (خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب). وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه. وفي رواية للبخاري: (من الفطرة قص الشارب). وفي رواية: (من الفطرة: حلق العانة، وتقليم الأظفار، وقص الشارب). وفي رواية لمسلم: (أحفوا الشوارب، وأعفوا اللحى)]. *قوله: (أنهكوا الشوارب) أي بالغوا في الأخذ منها. قال أبو عبيد: يقال: عفى الشعر وغيره يعفو، فهو عاف، إذا كثر. ومنه قوله تعالى: {حتى عفوا} أي كثروا، وكثرت أموالهم. والفطرة ها هنا السنة.

-1301 - الحديث السابع والستون: [عن ابن عمر، قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة)]. *قد بينا علة تأخير الخطبة فيما تقدم، وسيأتي هذا الحديث مبينًا في مسند أبي سعيد الخدري. -1302 - الحديث الثامن والستون: [عن ابن عمر، قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة قائًما؛ ثم يجلس ثم يقوم كما تفعلون اليوم). وفي رواية: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب خطبتين يقعد بينهما)]. * القيام في الخطبة والقعود بين الخطبتين عند أحمد (81/ب) رضي الله عنه سنة، وعند الشافعي واجب.

-1303 - الحديث التاسع والستون: [عن ابن عمر، (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعرض راحلته فيصلي إليها). وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى إلى بعير)]. * معنى (يعرض راحلته) أي يفتحها في عرض القبلة، وفيه لغتان: بعرض، ويعرض (بفتح الراء وضمها)، وأراد أن يجعلها له ستره. -1304 - الحديث السبعون: [عن ابن عمر، (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة، فتوضع بين يديه، فيصلي إليها والناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر فمن ثم اتخذنها الأمراء). وفي رواية: (كان يركز الحربة قدامه يوم الفطر والنحر، ثم يصلي). وفي رواية: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغدو إلى المصلى، والعنزة بين يديه تجمل، وتنصب بالمصلى بين يديه، فيصلي إليها)]. * (العنزة) هي الحرية، وقد جاء في بعض الألفاظ الحربة. وقيل: هي عصا

تشبه العكاز -1305 - الحديث الحادي والسبعون: [عن ابن عمر، (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ القرآن، فيقرأ سورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه، حتى ما يجد بعضنا موضًعا لمكان جبهته). وفي رواية: (في غير وقت صلاة)]. *هذا دليل على سجود التلاوة، وقد اختلف الناس في وجوبه، وإنما يسجد السامع إذا قصد السماع وسجد القارئ: -1306 - الحديث الثاني والسبعون: [عن ابن عمر، أنه نادى بالصلاة في ليلة ذات وريح ومطر، فقال في آخر ندائه: ألا صلوا في رحالكم، ألا صلوا في الرحال؛ ثم قال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة أو ذات مطٍر في السفر أن يقول: صلوا في رحالكم)].

* هذا الحديث مؤذن بلطف الله عز وجل وتخفيفه عن عباده؛ وفيه تنبيه على وجوب الجماعة. -1307 - الحديث الثالث والسبعون: [عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورًا)]. *الإشارة بهذا إلى السنن والنوافل دون الفرائض. -1308 - الحديث الرابع والسبعون: [عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعشاء، ولا تعجب حتى تفرغ منه، وكان ابن عمر يوضع له الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها (82/أ) حتى يفرغ، وإنه يتسمع قراءة الإمام). وفي لفظ للبخاري: (إذا كان أحدكم على الطعام فعلا يعجل حتى يقضي حاجته منه؛ وإن أقيمت الصلاة)].

* في هذا الحديث أن الإنسان إذا أكل الطعام ثم قام إلى الصلاة كان قلبه أفرغ للصلاة. -1309 - الحديث الخامس والسبعون: [عن ابن عمر، قال: (فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر: صاًعا من تمر، أو صاًعا من شعير، على كل عبد أو حر، صغير أو كبير). وفي رواية: (على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين). وفي رواية أيوب: (فعدل الناس به نصف صاٍع بر). وفي رواية حماد عن أيوب: (فكان ابن عمر يعطي التمر، فأعوز أهل المدينة التمر، فأعطى شعيرًا. قال: فكان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير، حتى إن كان ليعطي عن نبي، وكان ابن عمر يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين). قال البخاري: (عن نبي، يعني عن بني نافع، ومعنى (يعطون) ليجمعوا فإذا كان يوم الفطر أخر جوه حينئذ. وفي رواية: (أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بزكاة الفطر: صاًعا من تمر، أو صاًعا من شعير. قال عبد الله: فجعل الناس عدله مدين من الحنطة).

وفي رواية للبخاري: (فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر: صاًعا من تمر، أو صاًعا من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة). وفي رواية لمسلم: عن ابن عمر (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر من رمضان على كل نفس من المسلمين). وفي رواية: (أمر بزكاة الفطر: أن يؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة)]. *وإنما شرع إخراج صدقة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة ليستغني الفقراء يوم العيد؛ فإن قدمها قبل الفطر بيوم أو يومين جاز؛ لأن الغناء يحصل بذلك، ولا تجوز الزيادة على ذلك. وقال الشافعي: يجوز من أول رمضان ولا يجوز قبله. وقال أبو حنيفة: يجوز تقديمها على رمضان. -1310 - الحديث السادس والسبعون: [عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تسافر المرأة ثلاثًا إلا ومعها ذو محرم).

وفي رواية لمسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال (82/ب) إلا ومعها ذو محرم)]. *في هذا الحديث من الفقه أن المحرم للمرأة ستر ونفي للتهمة، لأن المرأة عورة فإذا كان معها في السفر محرم قام بأمورها ووفرها على صونها. -1311 - الحديث السابع والسبعون: [(عن نافع أن عبد الله وسالم بن عبد الله كلما عبد الله حين نزل الحجاج لقتال ابن الزبير، قالا: لا يضرك أن لا تحج العام، فإنا نخشى أن يكون بين الناس قتال، يحال بينك وبين البيت، قال: إن حين بيني وبينه، فعلت كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا معه، حين حالت قريش بينه وبين البيت؛ أشهدكم أني قد أوجبت عمرة، فانطلق حتى إذا أتى ذا الحليفة فلبى بالعمرة، ثم قال: إن خلي سبيلي قضيت عمرتي، وإن حيل بيني وبينه فعلت كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم تلا: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} ثم سار، حتى إذا كان بظهر البيداء قال: ما أمرهما إلا واحد، إن حيل بيني وبين العمرة حيل بيني وبين الحج، أشهدكم: أني أوجبت حجة مع عمرة لي، فانطلق، حتى ابتاع بقديٍد هديًا، ثم طاف لهما طوافًا واحد.

وفي رواية عن ابن عمر أنه كان يقول: (من جمع بين الحج والعمرة كفاه طواف واحد، ولم يحل حتى يحل منهما جميعًا). وفي رواية: قال عبد الله بن عبد الله لأبيه: (أقم، فإني لا آمنها أن تستصد عن البيت، قال: إذا أفعل كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}. ثم ذكر إيجابه العمرة ثم الحج بعدها. وفيه: ثم قدم فطاف لهما طواًفا واحدًا، فلم يحل حتى حل منهما جميعًا). وفي رواية: (وأهدى هديًا اشتراه بقديد ثم انطلق يهل بهما جميعًا حتى قدم مكة وطاف بالبيت وبالصفا والمروة ولم يزد على ذلك، ولم ينحر ولم يحلق ولم يقصر، ولم يحلل من شيء حرم منه، حتى كان يوم النحر، فنحر وحلق، ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول، وقال ابن عمر: كذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية: (فطاف لهما طواًفا واحدًا، ورأى أن ذلك مجزئ عنه، وأهدى). وفي رواية: كان ابن عمر يقول: (أليس حسبكم (83/أ) سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا والمروة؛ ثم حل من كل شيء، حتى يحج عامًا قابلًا، فيهدي، أو يصوم إن لم يجد هديًا؟) وفي رواية: (أراد ابن عمر الحج عام حجة الحرورية، في عهد ابن الزبير، فقيل له: إن الناس كائن بينهم قتال، ونخاف أن يصدوك، فقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} إذن أصنع كما صنع، أشهدكم أني قد

أوجبت عمرة، حتى كان بظاهر البيداء قال: ما شأن الحج والعمرة إلا واحدًا، أشهدكم أني قد جمعت حجة مع عمرة، فأهدى هديًا مقلدًا اشتراه، حتى قدم، فطاف بالبيت وبالصفا، ولم يزد على ذلك، ولم يحلل من شيء حرم منه، حتى قدم النحر, فحلق ونحر, ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول، ثم قال: كذلك صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية: (خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتمرين فحال كفار قريش دون البيت، فنحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحلق رأسه)]. *في هذا الحديث من الفقه أن هذا الحكم باق إلى يوم القيامة في حق من جرى له مثل ما جرى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد زدنا هذا شرحًا فيما تقدم من مسند ابن عباس. -1312 - الحديث الثامن والسبعون: [عن ابن عمر، قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزور قباء، أو يأتي قباًء راكًبا وماشيًا). زاد ابن نمير: (فيصلي فيه ركعتين).

وفي رواية للبخاري عن ابن عمر: (كان لا يصلي من الضحى إلا في يومين: يوم يقدم مكة، فإنه كان يقدمها ضحى، فيطوف بالبيت؛ ثم يصلي ركعتين خلف المقام، ويوم يأتي مسجد قباء؛ فإنه كان يأتيه كل سبت، فإذا دخل المسجد كره أن يخرج منه حتى يصلي فيه، قال: وكان يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يزوره راكبًا وماشيًا، قال: وكان يقول لنا: إنما أصنع كما رأيت أصحابي يصنعون ولا أمنع أحدًا يصلي في أي ساعٍة شاء من ليل أو نهار، غير أن تتحروا طلوع الشمس ولا غروبها). وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأتي قباء راكبًا وماشيًا. وكان عبد الله يفعله)]. *في هذا الحديث من الفقه: استحباب عمارة المساجد (83/ب) وأن لا يهجر المسجد الذي غيره أفضل منه؛ فإن إتيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجد قباء للصلاة فيه مع كون مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل يدل على أن لا تهجر المساجد. -1313 - الحديث التاسع والسبعون: [عن ابن عمر: (أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه استأذن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له)]. *هذا كان خاصاً بالعباس من أجل سقايته، فأما غيره فإنه إذا بات بمكة ليالي منى وجب عليه دم. -1314 - الحديث الثمانون: [عن ابن عمر، (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج من طريق الشجرة، ويدخل من طريق المعرس). زاد البخاري: (وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة، فإذا رجع صلى بذي الحليفة ببطن الوادي، وبات حتى يصبح). وفي رواية لمسلم: (إذا دخل مكة دخل من الثنية العليا). وفي رواية زهير: (التي بالبطحاء، ويخرج من الثنية السفلى). وفي رواية: (دخل مكة من كذا من الثنية العليا التي عند البطحاء، وخرج من الثنية السفلى)].

* في هذا الحديث من الفقه أن يعرف الطريقين، وأنه يذكر أهل الطريق الأخرى فلو اقتصر على طريق واحد، فات أهل الطريق الأخرى ذلك. -1315 - الحديث الجادي والثمانون: [عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان). في حديث ابن نمير: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة: يرفع لكل غادر لواء). وفي رواية: (لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية، جمع ابن عمر حشمه وولده، فقال: (إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة). وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدراً أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه، ولا تابع في هذا الأمر، إلا كانت الفيصل بيني وبينه). وفي رواية: (لكل غادر لواء يوم القيامة (48/أ) يعرف به)].

* الفصل: فيعل من الفصل وهو القطع. * قد سبق كلامنا في حديث الغدر. * وفي هذا الحديث ما يدل على أن ابن عمر لم يوافق على خلع يزيد. * (والحشم):خدم الرجل وأتباعه. -1316 - الحديث الثماني والثمانون: [عن ابن عمر قال: (عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة، فلم يجزني، وعرضت عليه عام الفتح، وأنا ابن خمس عشرة فأجازني)]. *كذا وقع في كتاب الحميدي: وعرضت عليه يوم الفتح، وهو سهو من الحميدي رضي الله عنه، قلد فيه سواه لأنه كذلك ذكره أبو سعود في تعليقه، ثم تبعه خلف فذكره كذلك أيضاً، ثم تبعهما الحميدي في ذلك من غير تدبر للمنقول، فالعجب من يتكرر سماع هذا عليه ممن له عناية بالحديث كيف يخفى عنه هذا. والصحيح: وعرضت عليه يوم الخندق، ولذلك أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين يوم الخندق، وبيان الغلط الذي ذكرناه أن غزاه أحد كانت في سنة ثلاث، وغزاة الفتح كانت في سنة ثمان، فمن

يكون في غزاة أحد ابن أربع عشرة كيف يكون بعد خمس سنين ابن خمس عشرة؟! -1317 - الحديث الثالث والثمانون: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة). زاد أبو مسعود: (معقود في نواصيعها)]. *قد تقدم في مسند عروة البارقي. -1318 - الحديث الرابع والثمانون: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن العبد إذا نصح لسيده، وأحسن عبادة الله، فله أجره مرتين)].

*قد سبق هذا الحديث. -1319 - الحديث الخامس والثمانون: [عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة)]. *قد سبق تفسيره فيما تقدم. -1320 - الحديث السادس والثمانون: [عن ابن عمر، قال: (أجرى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ضمر من الخيل من الحفياء إلى ثنية الوداع، وأجرى ما لم يضمر: من الثنية إلى مسجد بني زريق. قال ابن عمر: وكنت فيمن أجرى). وفي رواية: (قال أبو إسحاق الفزاري، قلت لموسى: كم بين ذلك؟ يعني من الحفيات إلى ثنية الوداع؟ قال: خمسة أميال أو ستة، ومن ثنية الوداع

(48/ب) إلى مسجد بني زريق: ميل) وعن ابن عمر: (سابق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الخيل؛ فأرسلت التي ضمرت منها وأمدها الحفياء إلى ثنية الوداع، والتي لم تضمر أمدها من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق، وإن عبد الله كان فيمن سابق). وفي رواية: قال عبد الله: فجئت سابقاً، فطففت بي الفرس المسجد. وقال أبو مسعود في حديث إسماعيل بن أمية: (إن ابن عمر أجرى فرساً فاقتحم به في جرف فصرعه)]. *هذا الحديث يدل على جواز السباق بين الخيل. *وفيه ما يدل على أن غاية الفرس العتيق المضمر خلاف غاية غيره. (والأمد) هي الغاية. *وقوله: (فطفف بي الفرس المسجد) قال أبو عبيد: يعني أن الفرس وثب حتى كاد يساوي مسجد بني زريق، ومن هذا قيل إناء طفان، وهو الذي قرب أن يمتلئ ويساوي أعلى المكيال.

-1321 - الحديث السابع والثمانون: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قسم في النفل للفرس سهمين، وللراجل سهماً)]. *قد ذكرنا آنفاً معنى النفل. *قال الخطابي: في هذا الحديث بيان أن الفارس يأخذ ثلاثة أسهم في المغنم، سهماً باسم نفسه، وسهمين باسم فرسه، وذلك لما يلزمه من زيادة المؤنة للفرس. والذي أراه في ذلك أن ذلك إنما هو للتحضيض على رباط الخيل في الإسلام، ولكون الفرس له مؤنة كما ذكر. -1322 - الحديث الثامن والثمانون: [عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في غزوة خيبر: (فمن أكل من هذه الشجرة-يعني الثوم-فلا يقربن مسجدنا).

وفي حديث ابن نمير: (من أكل من هذه البقلة، فلا يقربن مسجدنا حتى يذهب ريحها)]. *في هذا الحديث زجر عن أذى الناس بكل حال، وأمر بتحسين الأدب في حضور مواطن الصلاة من تعاهد الإنسان نفسه بترك ما يؤذي ريحه. -1323 - الحديث التاسع والثمانون: [عن ابن عمر قال: (كان أهل الجاهلية يبتاعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة. وحبل الحبلة: أن تنتج الناقة ما في بطنها، ثم تحمل التي نتجت فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك). وفي رواية: (ثم تنتج التي في بطنها). وعن ابن عمر قال: (كانوا يبتاعون الجزور إلى حبل الحبلة، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه). ثم فسره نافع (85/أ): هو أن تنتج الناقة ما في بطنها. وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن حبل الحبلة].

* قد ذكر تفسير حبل الحبلة في الحديث فأغنى عن شرحه. فإذا لم يجز بيع الحبل الحاضر لأنه غرر فكيف بحبل الحبلة؟ وإنما كان ذلك غرراً لأنه لا يعلم أيكون ذلك أم لا. -1324 - الحديث التسعون: [عن عبد الله عن نافع عن ابن عمر: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشغار). قلت لنافع: ما الشغار؟ قال: ينكح ابنة الرجل وينكحه ابنته بغير صداق، وينكح أخت الرجل وينكحه أخته بغير صداق. وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشغار. والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته وليس بينهما صداق). وفي رواية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا شغار في الإٍسلام)]. *قال العلماء: صفة الشغار: أن يقول: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك بغير صداق. وقال الشافعي: هذه صفته، وأن يقول: بضع كل واحدة منهما مهر الأخرى، فإن لم يقل هذا فالنكاح صحيح، ولكل واحدة منهما مهر المثل. ونكاح الشغار باطل عند مالك والشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: ليس

بباطل ولكل واحدة منهما مهر مثلها. *وأضل الشغار: هو الرفع، يقال: شغر الكلب برجله إذا رفعها عند البول. فسمي هذا النكاح شغاراً لأنهما رفعاً المهر بينهما، وعلى الحقيقة إنما رفعا ما يجوز أن يكون مهراً، وجعلا ما ليس بمهر مهراً وهو البضع، فصار المعقود عليه معقوداً به، فكأنه زوجها واستثنى بضعها فجعله مهراً لصاحبها، فكان باطلاً لذلك. -1325 - الحديث الحادي والتسعون: [عن ابن عمر أن رجلاً رمى امرأته فانتفى من ولدها في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلاعنا كما قال الله عز وجل، ثم قضى بالولد للمرأة، وفرق بين المتلاعنين. وفي رواية لمسلم: (لاعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين رجل من الأنصار وامرأته، وفرق بينهما). وفي رواية: (لاعن بين رجل وامرأته، وانتفى من ولدها، ففرق - صلى الله عليه وسلم - (85/ب) بينهما وألحق الولد بأمه). وفي رواية عن سعيد بن جبير، قال: (سئلت عن المتلاعنين في إمرة مصعب ابن الزبير: أيفرق بينهما؟ فما دريت ما أقول، فمضيت إلى منزل ابن عمر بمكة، فقلت للغلام: استأن لي، قال: إنه قائل، فسمع صوتي، فقال: ابن

جبير؟ قلت: نعم، قال: ادخل، فوالله ما جاء بك هذه الساعة إلا حاجة، فدخلت فإذا هو مفترش برذعة له، متوسد وسادة حشوها ليف، قلت: يا أبا عبد الرحمن، المتلاعنان أيفرق بينهما؟ قال: سبحان الله، نعم، إن أول من سأل عن ذلك: فلان بن فلان، قال: يا رسول الله أريت لو أن رجلاً وجد امرأته على فاحشة، كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك، قال: فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يحبه، فلما كان بعد ذلك أتاه، فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات في سورة النور: {والذين يرمون أزواجهم ...} [النور: 6]. فتلاهن عليه ووعظه وذكره، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. فقال: لا، والي بعثك بالحق ما كذبت عليها، ثم دعاها فوعظها، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قالت: لا، والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، فبدأ بالرجل، فشهد أربع شهدات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ثنى بالمرأة، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة: أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ثم فرق بينهما). وفي رواية عن ابن عمر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمتلاعنين: (حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها)، قال: يا رسول الله: مالي؟ قال: (لا مال لك، إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منها).

وفي رواية: (فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أخوي بني العجلان، وقال: الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟). وفي رواية للبخاري عن ابن عمر: (أن رجلاً من الأنصار قذف امرأته، فأحلفهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم فرق بينهما)]. *قد سبق ذكر (86/أ) المتلاعنين في مسند ابن مسعود وأبي موسى. -1326 - الحديث الثاني والتسعون: [عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء). وفي رواية: (كان ابن عمر لا يأكل حتى يؤتى بمسكين يأكل معه، فأخذت رجلاً يأكل معه فأكل كثيراً، فقال: يا نافع، لا تدخل هذا علي، سمعت - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن المؤمن يأكل في معاء واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء). وفي رواية عن نافع قال: (رأى ابن عمر مسكيناً فجعل يضع بين يديه، ويضع بين يديه، قال: وجعل يأكل أكلاً كثيراً، فقال: لا تدخلن هذا علي). وذكر الحديث.

وفي رواية عن عمرو بن دينار قال: (كان أبو نهيك رجلاً أكولاً، فقال له ابن عمر: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء). قال: فأنا أومن بالله ورسوله]. *قد سبق هذا الحديث في مسند أبي موسى. -1327 - الحديث الثالث والتسعون: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اصطنع خاتماً من ذهب، فكان يجعل فصه في باطن كفه إذا لبسه، فصنع الناس، ثم إنه جلس على المنبر فنزعه، وقال: (إني كنت ألبس هذا الخاتم، وأجعل فصه من داخل، فرمى به ثم قال: والله، لا ألبسه أبداً. فنبذ الناس خواتيمهم). زاد في رواية: (وجعله في يده اليمنى).

وفي رواية: (اتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتماً من ورق؛ فكان في يده، ثم كان في يد أبي بكر، ثم كان في يد عمر، ثم كان في يد عثمان، حتى وقع في بئر (أريٍس)، نقشه: محمد رسول الله). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتماً من ذهب، وجعل فصه مما يلي بطن كفه، ونقش فيه: محمد رسول الله، فاتخذ الناس مثله، فلما رآهم قد اتخذوها رمى به، وقال: (لا ألبسه أبداً)، ثم اتخذ خاتماً من فضه، فاتخذ الناس خواتيم من فضة. قال ابن عمر: فلبس الخاتم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم، حتى وقع من عثمان في بئر أريس). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يلبس خاتماً من ذهب فنبذه، وقال: (لا ألبسه. فنبذ الناس خواتيمهم). وفي رواية: (86/ب) (اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتماً من ذهب، ثم ألقاه، ثم اتخذ خاتماً من ورق، ونقش فيه: محمد رسول الله، وقال: لا ينقش أحد على نقش خاتمي هذا، وكان إذا لبسه جعل فصه مما يلي بطن كفه، وهو الذي سقط من معيقيب في بئر أريس)]. *فيه من الفقه أن جعله النقش في باطن كفه أبعد من إظهار الزينة؛ لأنه يضم كفه عليه فيتوارى.

* وفيه من الفقه أن الشيء إذا كان قد علم الناس بإجازة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له، واستعماله إياه ثم شرع بعد ذلك تحريمه أو كراهيته-فإن الأولى في المنهي عنه أن يكون ظاهراً كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنه جلس على المنبر فنزعه. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إني كنت ألبس هذا الخاتم وأجعل فصه من داخل، والله لا ألبسه أبداً). *وفيه أيضاً دليل على أن المال لا يضاع، وقد تقدم في الحديث قبل هذا نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال، فدل عليه قوله: (فوضعه في يده اليمنى يحفظه). *وفيه أيضاً جواز اتخاذ الخاتم من ورق، لأنه مات - صلى الله عليه وسلم - وكان الخاتم من الورق في يده. *ويجوز أن يكون في جعله إياه في يده إشارة إلى تجويز اتخاذ المصوغ من غير استعمال له، وهو حجة لمذهب أبي حنيفة في جواز اتخاذ ذلك، وهو أحد قولي الشافعي؛ لأن إبقاءه في يده زماناً ما قد يستدل به على ذلك. -1328 - الحديث الرابع والتسعون: [عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه (نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه؛ ولكن تفسحوا وتوسعوا). وفي رواية: (لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه، ثم يجلس فيه. قلت: في يوم الجمعة: قال: في يوم الجمعة وغيرها). وفي رواية: (لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه، ثم يجلس فيه).

وفي رواية: (لا يقيمن أحدكم أخاه ثم يجلس في مجلسه). وكان ابن عمر إذا قام له رجل عن مجلسه لم يجلس فيه)]. *فيه من الفقه أنه من أتى إلى موضع فجلس فيه، فإن كان في مسجد فهو أحق به من غيره، ولا يجوز لغيره أن يقيمه منه ويجلس فيه، وكذلك إن كان في الأرض المباحة، فإن كان في منزل إنسان فسبق سابق وجلس (87/أ) بإذن صاحب المنزل؛ فإنه لا يجوز لغير ذلك المأذون له أن يفتئت على السابق إلى الموضع؛ وعلى صاحب المنزل معاً ويجلس هو فيه، فيكون غاصباً مفتئتاً سيء الأدب. *وفي هذا الحديث ما يصرح أن ذلك كان في يوم الجمعة، إلا أنه يقاس عليه ما كان في معناه في باقي الروايات جاء مطلقاً من غير ذكر يوم الجمعة. -1329 - الحديث الخامس والتسعون: [عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله-يعني: ابن أبي بن سلول-جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأله أن يعيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه؟ فقام رسول لله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه، فقام عمر رضي الله عنه، فأخذ بثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، تصلي عليه وقد نهاك ربك

أن تصلي عليه؟ فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما خيرني الله تعالى؛ فقال: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة} وسأزيد على السبعين)، قال: إنه منافق. فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فأنزل الله تعالى: {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون}. زاد في حديث يحيى بن سعيد: (فترك الصلاة عليه)]. *قد سبق تفسيره. -1330 - الحديث السادس والتسعون: [عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء). وفي رواية: (إن شدة الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء). وفي رواية: قال نافع: وكان عبد الله يقول: (اكشف عنا الرجز). وفي رواية: (الحمى من فيح جهنم، فأطفئوها بالماء)].

*وقوله: (من فيح جهنم) أي من سطوع حرها وظهوره. يقال: فاحت القدر تفيح إذا غلت. *وقد بق بيان هذا الحديث. -1331 - الحديث السابع والتسعون: [عن ابن عمر، أن رسول ا - صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم - قطع سارقاً في مجنٍ قيمته ثلاثة دراهم. وفي رواية: (ثمنه)]. *فيه من الفقه أن السارق إذا سرق ما قيمته أو ثمنه ثمن مجن فإنه يقطع، وثمن المجن قد ذكر في الحديث ثلاثة دراهم، وهذا محمول على أنه أخذه من وراء (87/ب) حرز، قال ابن عرفة: السارق عند العرب من جاء مستتراً إلى حرز فأخذ منه ما ليس له، فإن أخذ من ظاهر كان مختلساً ومنتهباً. *وأما الحكمة في قطع السارق؛ فإن الفقهاء قدروا الثلاثة الدراهم بربع دينار، وقيمة اليد خمسمائة دينار إذا قطعها من ليس له قطعها، فأما إذا قطعت بإذن مالكها سبحانه في جواب مخالفة أمره فلا دية لها، وإنما جعل تقديرها بربع

دينار لبيان حد ما يقطع به اليد لا على جهة أنه ثمن لها، والمراد أن ما دون هذا المقدار يترخص به نفوس الآدميين ولا يشاح في مثله. -1332 - الحديث الثامن والتسعون: [عن ابن عمر قال: (دخلت امرأة النار في هرة؛ ربطتها، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض). في رواية: (عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها، إذ هي حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)]. *خشاشا الأرض: دوابها وحشراتها وهوامها. *وهذا الحديث يتضمن التحري من صغار الذنوب، ويبين أن كل روح إذا عذبها الآدمي بغير إذن كان آثماً، وإذا رحمها ورفق بها متوخياً رضى الله تعالى كان له أجر. -1333 - الحديث التاسع والتسعون: [عن ابن عمر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الذين يصنعون هذه الصور

يعذبون يوم القيامة. يقال لهم: أحيوا ما خلقتهم). وفي رواية: (أن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم)]. *قد تقدم الكلام في الصور والنهي عنها في مواضع. -1334 - الحديث المائة: [عن ابن عمر قال: (كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال: (أخبروني بشجرة شبه-أو كالرجل-المسلم، لا يتحات ورقها ولا، ولا، ولا، تؤتي أكلها كل حين).-قال ابن عمر:- فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئاً، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هي النخلة). فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه، والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة، فقال: ما منعك أن تتكلم؟ قال: لم أركم تتكلمون، فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئاً، فقال عمر: لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا. وفي رواية: (88:أ): (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟). فوقع الناس في شجر البوادي. قال عبد الله: وقع في نفسي النخلة، فاستحييت، قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال:

(هي النخلة). وفي رواية: بينما نحن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - جلوس، إذا أتي بجمار نخلة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن من الشجر شجرة لها بركة كبركة المسلم)، فظننت أنه يعني النخلة، فأردت أن أقول: هي النخلة ثم التفت، فإذا أنا عاشر عشرة، أنا أحدثهم، فسكت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هي النخلة). وفي رواية عن مجاهد: (صحبت ابن عمر إلى المدينة، فما سمعته يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا حديثاً واحداً، قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتي بجمار. فذكر نحوه). وفي رواية: (مثل المؤمن كمثل شجرة خضراء، لا يسقط ورقها، ولا يتحات) فقال القوم: هي شجرة كذا، فأردت أن أقول: النخلة، وأنا غلام شاب، فاستحيين فقال: (هي النخلة). وفي رواية: (فحدثت به عمر فقال: لو كنت قلتها لكان أحب إلي من كذا وكذا)].

* في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب هذا مثلاً يستنبط منه أنه يرغب الإنسان في ابتغاء الولد، فإنه من حيث القياس يشبه بالشجرة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها من ثمارها التي ينتفع بها الناس، وظلها الذي يصد عنهم حر الشمس ويجدون روحه، وما يكون فيها من منافع خوصها وجريدها وغير ذلك؛ فإنها معرضة لأن تثمر ثمرة مشتملة على ما هو أصل لممثلها؛ فلو قدر مقدر أنه قد غرس نوى ثمرة هذه النخلة غارس من وقت حملها إلى آخر بقائها؛ ثم غرس ما تثمره كل نخلة تنبت من ذلك النوى، وامتد ذلك إلى يوم القيامة، فإنه يعلم به قدر الثواب ابتغاء الولد الذي يولد له ثم يولد لولده وولد ولده، هكذا ما تناسلوا حتى تكون سنة الأمة العظيمة، فهذا معنى قوله: (شجرة مثلها مثل الرجل المسلم). *وفي هذا الحديث ما يدل على فطنة عبد الله بن عمر؛ فإن الله تعالى جبله على الفطنة. * (88/ب) وفيه ما يدل أيضاً على أنه حيي في فطنته؛ فلم ينطق بما وقع له حين رأى الأكابر لم ينطقوا. *وفيه أيضاً ما يدل على أنه يجوز للوالد أن يظهر السرور بفطنة الولد وذكائه؛ لقول عمر: (لو قلتها لكان أحب إلي من حمر النعم). -1335 - الحديث الأول بعد المائة: [عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن أمامكم حوضاً ما بين ناحيتيه كما بين جربا وأذرح).

وفي رواية: (إن أمامكم حوضي) وفي رواية لمسلم: قال عبد الله: (فسألت نافعاً، فقال: قريتين بالشام، بينهما مسيرة ثلاث ليال). وفي رواية: (ثلاثة أيام). وفي رواية: (ما بين ناحيتيه كما بين حربا وأذرح). زاد في رواية: (فيه أباريق كنجوم السماء، من ورده فشرب منه لم يظمأ بعدها أبدا)]. *قد تقدم ذكر الحوض. وقد فسر في هذا الحديث قدر المسافة بين القريتين المذكورتين، وفي هذا شرف للعرب؛ لأنهم يعرفون الحوض، فوعد لناس بما تعرفه العرب. -1336 - الحديث الثاني بعد المائة: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة)]. * أما الواصلة؛ فإنها تغر بما تفعل، فكأنها شاد الزور فلعن التي تغر، والتي

وصلت لها؛ لأنها أعانت على ذلك. *وأما الواشمة والمستوشمة، فقد ذكر في مسند ابن مسعود. -1337 - الحديث الثالث بعد المائة: [عن ابن عمر، أن عمر قال: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام؛ قال: (فأوف بنذرك)، ومنهم من قال: (يوماً). وفي رواية: (أن عمر سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو بالجعرانة، بعد أن رجع من الطائف، فقال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوماً في المسجد الحرام، فكيف ترى؟ قال: (اذهب فاعتكف يوماً). قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أعطاه جارية من الخمس، فلما أعتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبايا الناس سمع عمر بن الخطاب أصواتهم يقولون: أعتقنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ما هذا؟ قالوا: أعتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبايا الناس. فقال عمر: يا عبد الله اذهب إلى تلك الجارية فخل سبيلها). وفي رواية: (ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (89/أ) نحن وهو بالجعرانة، بعد أن رجع من الطائف، فقال: يا رسول الله، قد نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوماً في المسجد الحرام فكيف ترى؟ قال: (اذهب فاعتكف يوماً). قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أعطاه جارية من الخمس، فلما أعتق

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبايا الناس سمع عمر بن الخطاب أصواتهم يقولون: أعتقنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما هذا؟ فقالوا: أعتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبايا الناس. فقال عمر: يا عبد الله، اذهب إلى تلك الجارية فخل سبيلها). وفي رواية: ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجعرانة، فقال: لم يعتمر منها، قال: وكان عمر نذر اعتكاف يوم في الجاهلية]. *قد سبق بيان هذا الحديث في مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه. -1338 - الحديث الرابع بعد المائة: [عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى. قال نافع: وكان ابن عمر يفيض يوم النحر، ثم يرجع فيصلي الظهر بمنى، ويذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله].

* ومعنى الحديث أنه أفاض يوم النحر ودخل مكة، وطاف طواف الزيارة ثم رجع إلى منى، وإنما وجب الاجتماع بمنى ليكثر الجمع هناك، فإذا رأى العدو كثرة المسلمين أو بلغته أخبارهم؛ كان ذلك مما يكسر قلوب الأعداء، فلو رخص لهم أن يدخلوا مكة متفرقين فات ذلك المقصود، وعلى هذا ينبغي لكل أمير أن يضبط حواشي عسكره ليجتمعوا. -1339 - الحديث الخامس بعد المائة: [عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن المتبايعين بالخيار في بيعهما ما لم يتفرقا، أو يكون البيع خياراً). قال نافع: وكان ابن عمر إذا اشترى شيئاً يعجبه فارق صاحبه. وفي رواية: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر، وربما قال: أو يكون بيع خيار). وفي رواية: (المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار). وفي رواية: (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار، ما لم يتفرقا، وكانا جميعاً، أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك، (89/ب) فقد وجب البيع، فإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك واحد منهما البيع، فقد وجب البيع). وفي رواية: (كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلى بيع الخيار). وفي رواية عن ابن عمر قال: (بعت من أمير المؤمنين عثمان مالاً

بالوادي بمال له بخيبر، فلما تبايعنا رجعت على عقبي، حتى خرجت من بيته، خشية أن يرادني البيع، وكانت السنة: أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا، فلما وجب بيعي وبيعه، رأيت أني قد غبنته بأني سقته إلى أرض ثمود بثلاث ليال، وساقني إلى المدنية بثلاث ليال). وفي رواية: (إذا تبايع المتبايعان بالبيع فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا، أو يكون بيعهما عن خيار، فإذا كان بيعهما عن خيار فقد وجب). قال نافع: فكان ابن عمر إذا بايع رجلاً؛ فإذا أراد ألا يقيله قام فمشى هنيهة، ثم رجع)]. *الحكمة في جعل الخيار للمتبايعين إلى أن يتفرقا أنه قد تستزل البادرة من كل واحد منهما لأجل تطلعه إلى ما في يد صاحبه استزلالاً لا يؤمن أن يندم على أثره، فجعل الشرع له مهلة ما داما في مجلسهما لينظر كل واحد منهما ما حصل في يده، ويتمكن من تقليبه، فإذا نهض من مجلسه وجب البيع؛ لأن ذلك المقدار من الزمان كاف في ترويه. * والتفرق في اللغة لا يحمل إلا على التفرق بالأبدان.

*وقوله: (إلا بيع الخيار) معناه أن يخيره قبل التفرق، وهما بعد في المجلس فيقول له: (اختر). *وهذا الحديث هو الحجة للشافعي وأحمد رضي الله عنهما في العمل به على أبي حنيفة ومالك رضي الله عنهما، وتتأكد الحجة فيه على مالك من حيث إنه راوية. -1340 - الحديث السادس بعد المائة: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى بصاقاً في جدار القبلة فحكه، ثم أقبل على الناس، فقال: (إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه؛ فإن الله تعالى قبل وجهه إذا صلى). وفي رواية: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في قبلة المسجد نخامة، فحكها بيده، وتغيظ) ثم قال: (إن أحدكم إذا كان في الصلاة، فإن الله تعالى حيال وجهه فلا يتنخمن حيال وجهه في الصلاة)]. *في هذا الحديث من الفقه أن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - أشعر أن (90/أ) الله تعالى يواجه عبده إذا قام في صلاته؛ فكما أنه يغلظ جرمه إذا بصق، فكذلك يتعرض

للإثم إذا التفت. *وفيه أيضاً تكريم المساجد وتنزيهها عن أن يجعل فيها البصاق أو النخامة على كونهما طاهرين أدل دليل على أنه لا يجوز أن يتعرض لهما بشيئ من النجاسات. -1341 - الحديث السابع بعد المائة: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة). وللبخاري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تفضل صلاة الجمع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءاً)، ثم قال: وقال شعيب: حدثني نافع عن ابن عمر، قال: (تفضلها بسبع وعشرين درجة). موقوف. وأخرجه مسلم عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل حديث مالك عن نافع]. *في هذا الحديث من الفقه أن صلاة الفذ لما كانت مفردة أشبهت العدد المفرد، فلما جمعت مع غيرها أشبهت ضرب العدد فكانت خمساً، فضربت في خمس فصارت خمساً وعشرين، وهي غاية ما يرتفع إليه ضرب العدد الذي هو الخمسة في نفسه، وهذا وجه الحكمة في كونها بخمس وعشرين صلاة.

*وأما بكونها بسبع وعشرين صلاة فإنها ارفع من هذه، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - وعد تلك الصلاة التي كان يصليها الرجل مفرداً بحالها، والصلاة التي كان يصليها الإمام مفرداً بحالها، وكان تضعيف الخمسة خارجاً عن هذين الأصلين؛ ليكون التضعيف موفراً لا يحسب فيه ما كان محسوباً، وهذا فإنه يكون لكل واحد من الإمام والمأموم فتخلص خمساً وعشرين مضاعفة، وتبقى الصلاتان لم تدخلا في الحساب. * (والبضع): ما بين الواحد إلى العشرة. -1343 - الحديث الثامن بعد المائة: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله)]. *والذي أرى أن الصلوات الخمس قد صرن للمؤمن مألوفاً فهو يتطلع إلى واحدة بعد واحدة، ويراعي الظلال كما جاء في الحديث. واحب (90/ب) عباد الله إلى الله. الذين يراعون الشمس والقمر؛ فهن مألوفة في الدنيا وأنيسة في القبر، وبضاعته في الآخرة، فإذا فاتته العصر-وهي الوسطى-فكأنما فاته أهله من حيث ألفه، وفاته ماله من حيث كون الصلوات بضاعة له في الآخرة، وهذا فيمن فاتته، ونطق فاتته يدل على أنه قد كان حريصاً عليها ففاتته وليس ذلك

تركاً، فإذا كان هذا فيمن فاتته مع الحرص عليها، فكيف بالتارك؟ ومنه قوله تعالى: {ولن يتركم أعمالكم}. والثاني: أنه ذهاب الكل من الوتر الذي هو الجناية المذهبة بجميع المال. وإعراب (الأهل والمال) النصب لأنه مفعول ثان لما لم يسم فاعله؛ لأن الضمير في وتر هو المفعول الأول الذي أسند الفعل إليه. -1343 - الحديث التاسع بعد المائة: [عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله تعالى إليه يوم القيامة)]. *فيه من الفقه أن عذاب القبر ونعيمه حق، فأما المؤمن فإن عرض مقعده كل يوم بالغداة والعشي، والذي أراه فيه أنه يعرض عليه ذلك تبشيراً له، ولينظر هل له فيه مستزاد فيستزيده أو أمنية فيعطاها، ولأنه أيضاً تعليل له

في البرزخ وليقتصر عليه مدة الانتظار بما يستسلفه من سرور التوقع، وأما الكافر فلترويعه؛ فإن الترويع منه ما يستراح إلى الألم منه إذا وقع فيكون مروعاً مدة الدنيا إلى أن يقع العذاب. -1344 - الحديث العاشر ببعد المائة: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وهو على المنبر، وذكر الصدقة والتعفف عن المسألة: (اليد العليا خير من اليد السفلى). واليد العليا: هي المنفقة، والسفلى: هي السائلة]. *في هذا الحديث من الفقه أن الإنفاق خير من الإمساك، وليس يدل على أن الغني خير من الفقير؛ فإن اليد المنفقة مخرجة للمال، والسائل قابل لذلك الإخراج، فكل منهما معاون لصاحبه على عقد هذه العبارة لله عز وجل. *وقوله: (السفلى هي السائلة) لا مدخل فيه من قبل ما أتاه من غير مسأله (91/أ) قال الخطابي: قد توهم كثير من الناس أن معنى العليا الاستعلاء، من علو الشيء، وليس ذلك عندي؛ فالوجه من علا: المجد والكرم يريد به الترفع عن المسألة. -1345 - الحديث الحادي عشر بعد المائة: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة

فصلى بها. وكان ابن عمر يفعل ذلك). وعن نافع: (أن عبد الله كان إذا صدر من الحج والعمرة أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة التي كان ينيخ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبين بذي طوى بين التلبيتين). وفي رواية للبخاري: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج إلى مكة صلى في مسجد الشجرة، وإذا رجع صلى بذي الحليفة ببطن الوادي وبات بها)]. *هذا الحديث يدل على اتباع ابن عمر سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقتفائه أثره في أفعاله، وسيأتي في حديث الحديبية طرف من هذا الحديث إن شاء الله تعالى. -1346 - الحديث الثاني عشر بعد المائة: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (اللهم ارحم المحلقين. قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: اللهم ارحم الحلقين. قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: والمقصرين). وفي رواية لمسلم: أن عبد الله قال: حلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحلق طائفة من أصحابه، وقصر بعضهم. قال عبد الله: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (رحم الله المحلقين) مرة أو مرتين، ثم قال: (والمقصرين). وفي رواية: أنه قالها ثلاثاً، فلما كان في الرابعة قال: (والمقصرين).

وفي رواية: (حلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطائفة من أصحابه. لم يزد)]. *إنما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحلقين؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - حلق رأسه فحلق قوم وقصر قوم، فقدم من وافقه وقصر بالدعاء عن المقصرين؛ لأن المقصرين قصروا باقتصارهم على التقصير، فيكون في نطق هذا الحديث إشارة إلى أن المحلق يتناول ذكره معنى في (91/ب) اللغة: وهو البالغ في الارتفاع، وذكر المقصر؛ فإنه يتناول ذكر المقصر في الحال إلا أن معناه المراد المحلقي رؤوسهم ومقصريها، وإنما النطق يوافق المعنى الآخر الذي يستشف منه. -1347 - الحديث الثالث عشر بعد المائة: [عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة، يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات، ثم يقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده). وفي رواية لمسلم: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اذا قفل من الجيوش أو السرايا أو الحج أو العمرة، إذا أوفى على ثنية أو فد فد. كبر ثلاثاً)].

* في هذا الحديث ما يدل من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا آب من سفر لم يلهه فرح الأوبة ولا دهشة الداخل ولا سرور القادم على الأهل بعد طول الغيبة عن شكر الله وحمده والثناء عليه، فكان يعلن بذلك على كل شرف: وهو المكان العالي. (والفدفد): أرض فيها غلظ وارتفاع. (والإياب): الرجوع من السفر، وقوله: (آيبون): خبر محذوف يقدر فيه نحن آيبون. * وقوله: (تائبون) بعد قوله: (آيبون)؛ فإن التوبة تتضمن معنى الأوبة، إلا أنها فيها زيادة تخليص لمعنى الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، فكان قوله - صلى الله عليه وسلم -: (تائبون) عند قفوله من عباده كالغزو والحج بعد قوله: (آيبون) على أثر ذلك نافياً للعجب من كل عبادة ليدحض العجب بالكلية. * وقوله: (ساجدون) الإشارة بذلك إلى الصلاة. وقوله: (لربنا حامدون) كان الوقوف على ربنا: إنا ساجدون لربنا، ثم عاد فابتدأ حامدون، ويكون هذا خبر أيضاً والمبتدأ محذوف؛ أي: ونحن حامدون. * وقوله: (صدق الله وعده) أي الذي وعد به، وهذا وإن كان في حج ولم يجر فيه حرب يقتصي ذكر النصر، فإنه يذكر - صلى الله عليه وسلم - بالنعمة المتأخرة النعمة المتقدمة، وهذا يتعين على كل منعم عليه أن تذكره النعمة المتأخرة المتقدمة ولا يكون سبباً في نسيانها؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - (92/أ) إنما دخل المسجد الحرام آمناً لا

يخاف شيئاً عن نصر الله له وإعلاء كلمته، فلم تنسه هذه المتأخرة النعمة المتقدمة بل كانت مذكرة بها. -1348 - الحديث الرابع عشر بعد المائه: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث). وعند مسلم: (دون واحد)]. *قد سبق هذا الحديث في حديث ابن مسعود. -1349 - الحديث الخامس عشر بعد المائة: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (خمس من الدواب، ليس على المحرم في قتلهن حرج: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور). وفي رواية لمسلم: (خمس من الدواب كلها فاسق؛ لا حرج على من قتلهن ...) وذكر الحديث.

وفي رواية: (في الحرام والإحرام). زاد أبو مسعود: (قلت لنافع: فالحية؟ قال: تلك لا يختلف فيها)]. *في هذا الحديث من الفقه: أنه كما كان الإحرام عبادة، وكان قتل هذه الأشياء المؤذية عبادة؛ لم تكن العبادة لتشغل عن العبادة، وأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتلها. *وقد نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بذكر هذه الخمس الفواسق على أن ما لا يؤكل لحمه لا يجب الجزاء بقتله، وهذا مذهب أحمد ومالك والشافعي رضي الله عنهم. قال سفيان بن عيينة: (الكلب العقور): كل سبع يعقر. -1350 - الحديث السادس عشر بعد المائة: [عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الوصال. قالوا: إنك تواصل؟ قال: (إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى). وفي رواية: لست مثلكم). وفي رواية للبخاري: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - واصل، فواصل الناس، فشق عليهم، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يواصلوا. قالوا: إنك تواصل، قال:

لست كهيئتكم، إني أظل أطعم وأسقى)]. *في هذا الحديث من الفقه: أنه يفهم من النهي عن الوصال كراهية التجوع وكل ما يهضم من قوى الإنسان التي يعبد الله عز وجل بها. *وهذا رد على ما يراه من لا علم له (92/ب) من التجوع المفضي بأهله إلى الأمراض وضعف القوى ووحشة الأخلاق؛ فإن الله سبحانه كما حرم الخمر من أجل أنها تفسد عقل المؤمن؛ فكذلك لا يستحب للمؤمن أن يتعرض لكل ما يكسب خلقه الفساد؛ فهو ضد ما أمر به - صلى الله عليه وسلم - من حسن الخلق. -1351 - الحديث السابع عشر بعد المائة: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حمل علينا السلاح فليس منا)]. *المراد من هذا الحديث: أن من حمل السلاح على المسلمين فليس منهم؛ لأنه ينبغي أن يحمل السلاح ليكون عوناً لهم على عدوهم، فإذا حمله عليهم خرج عن ناصر بهم منهم.

-1352 - الحديث الثامن عشر بعد المائة: [عن ابن عمر قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النجش)]. * (النجش): نوع من الخديعة والغبن، وهو أن يمدح سلعة، ويزيد في ثمنها وهو لا يريد الشراء؛ ولكن يقصد أن يسمعه غيره فيغتر فيزيد ويشتري. *وفي هذا الحديث من الفقه: أن المزايد في السلعة ولا أرب له فيها هو بين أن يريد أن يغر بها غيره ليوقعه فيها، فهذا لا يحل؛ أو يريد أن يخرج ذلك مخرج السحري والباطل، وهذا لا يجوز. -1353 - الحديث التاسع عشر بعد المائة: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يبع بعضكم على بيع بعض). وفي رواية: (نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه، أو يخطب). وفي رواية لمسلم قال: (لا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له).

وفي رواية: قال: (لا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطب أحدكم على خطبة بعض)، وزاد: (إلا أن يأذن له)]. *في هذا الحديث من الفقه: ألا يتعرض الإنسان للإفساد؛ وذلك أنه إذا تعرض لشيء قد اشترى فقد أفسد؛ لكن إن أراد الحق فليبتع تلك السلعة، ممن وجبت له. فأما المزايدة قبل وجوب البيع فإن ذلك لا يتناوله هذا النهي، ولذلك إذا أنعم للخاطب وأجيب إلى التزويج، فإن الذاكر نفسه حينئذ متعرض للإفساد؛ فإنه حيث رضي به فقد وضعت له مقدمات تنتهي إلى العقد، فلا يحل له ذلك، بل يجوز له ذلك قبل أن ينعم له أن يكون أسوة الخطاب، ويدل على ذلك قوله: (إلا أن يأذن له)، ومتى أذن له فقد نزل عن حقه (93/أ) من ذلك. -1354 - الحديث العشرون بعد المائة: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نهى أن يتلقى السلع حتى تبلغ بها الأسواق). قال فيه عبد الله بن يوسف عن مالك: (لا يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى السوق).

وفي رواية: (نهى عن التلقي). وفي رواية: (كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتى يبلغ به سوق الطعام)]. *في هذا الحديث ما يدل على رفق الشرع بالقادم بالسلع، وأن لا يتلقاه متلق فيخلوا به، فيبايعه بيعاً لو قد وصل إلى أسواق المسلمين ورأى كثرة الراغب في سلعته وعلم سعرها في سوق المسلمين لم يبع حينئذ. فينبغي لكل من يبغي التجارة أن يقف عند أوامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك؛ فإنها أرفق به وله، فإن هذا المشتري في وقت قد يكون بائعاً في وقت آخر، والمقدوم عليه في وقت قد يكون قادماً في وقت آخر، فليكن نظره إلى ما لاحظه الشرع من مصلحة الجمهور والعموم. -1355 - الحديث الحادي والعشرون بعد المائة: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن المزابنة. والمزابنة: بيع الثمر بالتمر كيلاً، وبيع الكرم بالزبيب كيلاً). وعن ابن عمر: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة؛ أن يبيع الرجل ثمر حائطه، إن كان نخلاً بتمر كيلاً، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً، وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله). وفي رواية: (وبيع الزرع بالحنطة كيلاً).

وفي رواية: وزاد فيه: (عن كل ثمر بخرصه ...). وفي رواية: (نهى عن المزابنة. قال: والمزابنة: أن يباع ما في رؤوس النخل بتمر مسمى، إن زاد فلي وإن نقص فعلي)]. *قد مضى هذا في مسند ابن عباس رضي الله عنه مفسراً. -1356 - الحديث الثاني والعشرون بعد المائة: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته، (93/ب) فينتثل طعامه؟ وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه فينثل طعامه)]. *في هذا الحديث: أنه لا يجوز لأحد أن يحلب ماشية أحد إلا بإذنه، وهذا إذا كان المالك مع الماشية؛ فأما إذا كانت الإبل والشاة هملاً؛ قد جاء في الحديث: (أن من مر بذلك، نادى: يا راعي الإبل، ثلاثاً، فإن أجابه وإلا

شرب)؛ وذلك أن الإسلام وضع على السماحة والتبادل؛ وأن الإنسان يتصرف في مال أخيه المسلم، وقد قال الله عز وجل: {أو صديقكم}. وعلى هذا أرى أن أبا بكر لما قال للراعي: لمن أنت؟ قال: لرجل من أهل المدينة. فقال له: أتحلب لي؟ فأراد تطييب ذلك بالإذن له فيه، ولم يذكر في الحديث هل كان صاحب الغنم مسلماً ولا كافراً؟ إلا أن الإٍسلام كان قد فشا بالمدينة، فرضي أبو بكر بإذن الراعي في ذلك؛ لأن الغالب في العادة أن مالك الشاة والإبل بتسليمه إياها إلى راعيها، فإنها مفوضة إلى ذلك الراعي، وأن إذن الراعي فيها يبيح تناول ما يتناول منها الشيء عن مكانه. *وينتثل: يفرق ويبدد، والنثل: نثر الشيء سرعة في مرة واحدة. -1357 - الحديث الثالث والعشرون بعد المائة: [عن ابن عمر، قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو). زاد أبو مسعود: قال مالك: (أرى ذلك مخافة أن يناله العدو). وفي رواية لمسلم نحو حديث مالك، وقال: (نخاف أن يناله العدو). قال أيوب: (فقد ناله العدو وخاصموكم به)].

* في هذا الحديث من الفقه النهي عن السفر بالمصحف. وقوله: (بالقرآن) دليل على أن القرآن في المصحف، وكذا ينبغي تنزيه القرآن أن يكون عند الكفار مخافة أن يناله ذلك بالوقيعة فيه؛ وإنما نهى عن المسافرة بالمصحف لموضع كرامته، قال عز وجل: {في صحف مكرمة}، وإنما يكرمها البررة من المؤمنين، ومن تكريمه لها لا يمكن أعداء الله أن ينالوها بعين ولا سمع. -1358 - الحديث الرابع والعشرون بعد المائة: [عن ابن عمر، (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب). وفي رواية: (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب، فأرسل في أقطار المدينة أن تقتل). زاد أبو مسعود: وقال: (من اقتنى كلباً نقص من أجره كل يوم قيراطان). وفي رواية لمسلم: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (94/أ) يأمر بقتل الكلاب، فننبعث في المدينة وأطرافها فلا ندع كلباً إلا قتلناه، حتى إنا لنقتل كلب المرية من أهل البادية يتبعها). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب، إلا كلب صيد، أو كلب غنم، أو ماشية. فقيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: أو كلب زرع. قال

ابن عمر: إن لأبي هريرة زرعاً)]. *إنما نقص الأجر في اقتناء الكلاب من أجل انتشار النجاسة عنها، وترويع المسلم بها سيما الغرباء من الضيوف والوفود. وقد سبق بيان هذا في هذا المسند، وكشفنا هنالك عن معنى قوله: إن لأبي هريرة زرعاً، وإنما أباح اقتناء كلب الماشية والصيد لما فيها من المنفعة، وقد قيل: إن الأمر بقتل الكلاب منسوخ بحديث ابن المغفل: (ما بالهم وبال الكلاب) وقد تقدم ذكره. *فأما الحكمة في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب التي لا تكون لزرع ولا ماشية ولا صيد؛ فالذي أرى فيه: أن العطش إذا اشتد بالكلب انتهى به إلى أن يعرض له علة الكلب، فيكون إذا عض حيواناً كلب ذلك الحيوان بعض الحيوانات وغيرهما، مما كل شيء تناله عضته؛ فإنه يكلب. والكلب داء لا دواء له غالباً، بل يستراح منه إلى الموت، فتكون كلب

الصيد والماشية والزرع مما يفشا، وأن الغالب من أصحاب الزروع والصيود والمواشي أن يتعاهدوا كلابهم بسقيها الماء، فلا ينتهي بها العطش إلى ذلك غالباً، بخلاف الكلاب التي لا منفعة فيها؛ فإنها معرضة لاشتداد العطش الذي يغضي بها إلى الكلب كما ذكرناه، فيكون في قتل تلك نظر تام لعباد الله سبحانه. -1359 - الحديث الخامس والعشرون بعد المائة: [عن ابن عمر، أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية فتعيقها، فقال أهلها: نبيعكها لك على أن ولاءها لنا، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (لا يمنعك ذلك، فإنما الولاء لمن أعتق). وفي رواية للبخاري: (إن عائشة ساومت بريرة، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة فلما جاء قالت: إنهم أبوا أن يبيعوها إلا أن يشترطوا الولاء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الولاء لمن أعتق).قلت لنافع: حراً (94/ب) كان زوجها أو عبداً؟ قال: ما يدريني)]. *هذا طرف من حديث بريرة، وسيأتي ذكره في مسند عائشة رضي الله عنها.

-1360 - الحديث السادس والعشرون بعد المائة: [عن ابن عمر، قال: (إن اليهود جاؤوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكروا له أن امرأة منهم ورجلاً زنيا، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما تجدون في كتابكم (التوراة) في شأن الرجم؟) فقالوا: نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم؛ إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم، فأمر بهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فرجما، قال: فرأيت الرجل يجنئ على المرأة يقيها الحجارة). وفي رواية: (أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل وامرأة من اليهود قد زنيا، فقال لليهود: (ما تصنعون بهما)؟ فقالوا: نسخم وجههما، ونخزيهما قال: (فائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين)، فجاؤوا بها، فقالوا لرجل ممن يرضون أعور: اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها، فوضع يده عليه، قال: (ارفع يدك) فرفع فإذا آية الرجم تلوح، فقال: يامحمد، إن فيها الرجم، ولكننا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما فرجما، فرأيته يجانئ). وفي رواية: (أن اليهود جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل وامرأة زينا فرجما قريباً من موضع الجنائز، قرب المسجد). وفي رواية: (أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيهودي ويهودية قد أحدثا جميعاً، فقال لهم: (ما تجدون في كتابكم)؟ قالوا: إن أخبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتجبيه. قال عبد الله بن سلام: ادعم يارسول الله بالتوراة، فأتى بها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، وجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له ابن سلام: ارفع

يدك؛ فإذا آية الرجم تحت يده، وأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجما. قال ابن عمر: فرجما عند البلاط، فرأيت اليهودي يحناً عليها). وفي رواية لمسلم: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جاء يهود، فقال: (ما تجدون في التوراة على من زنى؟) قالوا: نسود وجوهما ونحممهما، ونخالف (95/أ) بين وجوههما، ويطاف بهما، قال: (فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين)؛ فجاءوا بها فقرأوها، حتى إذا مروا بآية الرجم، وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال عبد الله بن سلام -وهو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مره-: فليرفع يده، فرفعها، فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمهما. قال عبد الله بن عمر: كنت ممن رجمها، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه)]. *في هذا الحديث أن اليهود إذا تحاكموا إلينا حكمنا عليهم يحكم الله عندنا، وإنما سألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما عندهم ليكون محتجاً عليهم بما في كتابهم. *وفيه دليل على قلة أمانة اليهود، وكتمانهم الحق جرياً على عادتهم السيئة؛ فإنهم بلغ بهم البهت إلى أن وضع واضع منهم يده على آية الرجم، حتى أظهرها عبد الله بن سلام، فاستدل بذلك على أنهم قد كتموا أمر

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصفته، وقد اعلم الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن القوم بدلوا التوراة، إلا أن هذا لم يكن قد حرفوه بعد. *وفيه أن الله تعالى أعان نبيه - صلى الله عليه وسلم - من عبد الله بن سلام بأحسن عون؛ لأنه شهد عليهم شاهد من أنفسهم. *وقوله: (يحنأ عليها) أي يكب، والحنأ: الاحديداب. *وفي هذه القصة تعيير لمن يتقي في الحرب بغيره، لأن هذا اليهودي وقي هذه الفاجرة بنفسه، فكيف يصلح أن يتقي شخص في طلب الحور العين بغيره، ويدافع بالآخر عن نفسه. *وفيه أن اليهود إنما كانوا يحتملون من أحكام الله ما يخفف عليهم دون ما يثقل، فقد حذرنا الله عز وجل بذكر هذا الحال عن أن نكون مثلهم، بل نحمل ما حملنا ربنا، ونسأله التخفيف. *والتجبيه أن يجبه بالسب. -1361 - الحديث السابع والعشرون بعد المائة: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يوم يقوم الناس لرب العالمين؛ حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه)].

* في هذا الحديث ما يدل على اجتماع الخلق في ذلك الموقف الاجتماع الذي لا يمكن أن يصفه من لم يشاهده بعد (95/ب) إلا أنه إذا قيس أهل الدنيا في وقت ثم ضوعف ذلك العدد في ذلك الوقت بما كان قبله منذ خلقت الدنيا، وبما يكون معه إلى يوم القيامة، وأن كل هؤلاء الخلائق يجمعون في يوم واحد ثم يضم إليهم ما كان من دابة وطائر وحشرات وهوام، وحوت في بحر وضب في بر، وغير ذلك مجموع كله فيما مضى، ومجموع كله فيما يأتي إلى يوم القيامة، وأنهم يطول بهم الوقوف على هذه الكثرة، فإن ما ذكره - صلى الله عليه وسلم - من الرشح لتلك الفكرة. -1362 - الحديث الثامن والعشرون بعد المائة: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعلقة: إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت). وفي رواية: (وإذا قام صاحب القرآن يقرأه بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقم به نسيه)]. * (المعقلة): المشدودة بالعقل، وهو جمع عقال، وهو الحبل التي تشد به.

* وقد سبق هذا الحديث والكلام عليه. - 1363 - الحديث التاسع والعشرون بعد المائة: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها). وفي رواية: (أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم لها). قال: وكان عبد الله يأتي الدعوة في العرس وغير العرس، ويأتيها وهو صائم. وفي رواية عن ابن عمر قال: (إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب). وفي رواية: (إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليجب) قال خالد: فإذا عبد الله ينزله على العرس. وفي رواية لمسلم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ائتوا الدعوة إذا دعيتم). وفي رواية: (إذا دعي أحدكم فليجب). وفي رواية: (أن ابن عمر كان يقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا دعا أحدكم أخاه فليجب، عرسا كان أو نحوه). وفي رواية: (من دعي إلى عرس أو نحوه فليجب). وفي رواية: (إن دعيتم إلى كراع فأجيبوا)]. * إذا صنع الطعام عند العرس فهو وليمة. وقد سبق الكلام على هذا الحديث

وبينا أنه إنما يجب إجابة الداعي إلى وليمة العرس. -1364 - الحديث الثلاثون بعد المائة: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها، حرمها في الآخرة). في رواية القعنبي: (فلم يسقها). وفي رواية: (من شرب الخمر في الدنيا، لم يشربها في الآخرة إلا أن يتوب). وفي رواية: (96/أ): (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا ومات وهو يدمنها لم يتب منها، لم يشربها في الآخرة). وفي رواية: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام)]. * في هذا الحديث دليل على أنه من مات مصرًا على شرب الخمر فدخل الجنة بأعمال خير كانت له؛ فإنه لا يشرب فيها الخمر، وذلك لأن الله عز وجل حرم هذا الخمر تكريمًا لعبده المؤمن عن أن يسفه رأيه أو يطيش حلمه، فكان من حقه أن يشكر الله عز وجل على هذا التحريم لهذه الخبيثة، وحيث لم يفعل وشربها على كونها غير مشتهاة الطعم، ولا حافظة للعقل، ولا خالية من المضار

لبدنه؛ إذ الميل إلى كل مطعوم لأجل استلذاذ طعمه أو لأجل منافعه أو لحفظ الصحة، وقد يؤذي وفيها مضار كثيرة من حيث علم الأبدان. فكان الذي يشربها على كونها تزيل عقله الذي يعبد به ربه، ويستضر بها في بدنه، وتكدر عيشه بمرارة طعمها؛ فإنه كالمعاند لربه إذا لم يتفق عليه النفاق، اغتفر له هذه المساوئ كلها إلا من حيث إن الله حرمها، فإذا آثر شربها شارب على اتباع أمر الله عز وجل - كان من جنس عقوبته أن يمنعه الله عز وجل منها حين يطلقها لعباده المؤمنين، على أنه قد ذكر بعض الناس أنه كان يوما في شرب فأنشد من أولئك الشرب بيت البحتري: وكم من أخ لو حرم الماء لم أكن له .... ولو أنني مت ظمآن شاربا قال: فسمعت ذلك البيت، فقلت في نفسي: أيقول هذا: إنه لو حرم أخوه الماء لمات ظمآن ولم يشربه، ويكون ربي عز وجل قد حرم علي هذه الخبيثة ثم أشربها، لا أشربها أبدا. فذكر أنه لم يشربها حتى لقيته، وأحسبه كان على ذلك حتى مات.

-1365 - الحديث الحادي والثلاثون بعد المائة: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء). وفي رواية: (يوم القيامة). وفي رواية: (إن الذي يجر ثيابه من الخيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة). وفي رواية: (من جر ثوبه من مخيلة لم ينظر الله إليه يوم القيامة). قلت لمحارب: أذكر إزاره؟ قال: ما خص إزارا ولا غيره. وفي رواية للبخاري عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (96/ب): (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة). قال أبو بكر: يا رسول الله، أحد شقي إزاري يسترخي، إلا أن أتعاهد ذلك منه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لست ممن تصنعه خيلاء). وعن ابن عمر: أنه رأى رجلا إزاره، فقال: ممن أنت؟ فانتسب له، فإذا رجل من بني ليث، فعرفه ابن عمر، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأذني هاتين يقول: (من جر إزاره، لا يريد بذلك إلا المخيلة؛ فإن الله لا ينظر إليه يوم القيامة). وفي رواية: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء). وفي رواية للبخاري: (بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء خسف به، فهو

يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)]. * في هذا الحديث شدة النهى عن إسبال الإزار. و (المخيلة): هو التكبر. * وفيه: أنه يجر ثوب الإنسان لا للخيلاء لم يدخل في هذا الوعيد؛ لقول أبي بكر رضي الله عنه، وجوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - له، ويدخل على ما قلنا قوله: (لا يريد به إلا المخيلة). والخيلاء والمخيلة: التكبر/ يقال: خال الرجل واختال، وأنشدوا: بأن الشباب وحب الخالة الخلبه .... وقد صحوت وما بالنفس من قلبه وقوله: (يتجلجل) التجلجل حركة مع صوت، والمعنى أنه يخسف به ولا يثبت ولا يزال منحدرا. -1366 - الحديث الثاني والثلاثون بعد المائة: [عن ابن عمر، أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني النضير، وأقر قريظة، ومن عليهم حتى حاربت

قريظة بعد ذلك، فقتل رجالهم، وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين، إلا بعضهم لحقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فآمنهم وأسلموا، وأجلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهود المدينة كلهم: بني قينقاع - وهم قوم عبد الله بن سلام، وبهود بني حارثة، وكل يهودي كان في المدينة. زاد أبو مسعود: (وكان اليهود والنصارى ومن سواهم من الكفار لا يقرون فيها ثلاثة أيام على عهد عمر)]. * في هذا الحديث من الفقه ما يدل على أن الإمام إذا حاربه قوم أن يقتل منهم من شاء، ويمن على من شاء؛ لأنه قال: (أجلى بني النضير، وأقر قريظة، ومن عليهم)، فإذا غدر الذين من عليهم استباح (97/أ) منهم ما كان قد حظره. * وفيه دليل على جواز إجلاء اليهود من المدينة، أنه إذا قدم منهم قادم بعهد لم يترك أن يقيم بالمدينة إلا ما دون ثلاثة أيام. -1367 - الحديث الثالث والثلاثون بعد المائة: [عن ابن عمر، (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع نخل بني النضير، وحرق). زاد ابن المبارك عن موسى: ولها يقول حسان بن ثابت:

وهان على سراة بني لؤي .... حريق بالبويرة مستطير وفي ذلك نزلت: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة} الآية. وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرق نخل بني النضير، وقطع، وهي البويرة. قال: فأنزل الله عز وجل: {ما قطعتم من لينة} ذكر الآية). وفي رواية: (حرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخل بني النضير). وفي رواية: (أنه حرق نخل بني النضير، وقطع، وهي البويرة، ولها يقول حسان بن ثابت: وهان على سراة بني لؤي .... حريق بالبويرة مستطير زاد حبان في روايته عن جويرية: فأجابه سفيان بن أبي حرب: أدام الله ذلك من صنيع .... وحرق في جوانبها السعير ستعلم أينا منها بنزه .... وتعلم أي أرضينا تضير]. * في هذا الحديث: جواز قطع النخل والتحريق والإثخان في العدو؛ وذلك أن من قطع النخل معتقدا بذلك أنه ينكأ في العدو، ويضعف قلبه، ويقطع داره ويجتث أصله؛ فإنه مقصد بالغ في الصلاح، ومن ترك النخل ليعود إلى

المسلمين ويبقى لهم؛ فهو مقصد صالح بالغ في الصلاح، ولأن مآلها إلى المسلمين فهو لثقته بأن الإسلام سيظهر تركها. * وهذه الآية، وهي قوله تعالى: {ما قطعتم من لينة} قد مضت على جواز اجتهاد المجتهدين. قال أبو عبيدة وابن قتيبة: اللينة هي ألوان النخل كلها إلا العجوة والبرنية. قال الزجاج: أصل لينة: لونة، قلبت الواو ياء؛ لانكسار ما قبلها. * وقول حسان: (سراة بني لؤي) سروات الناس: ساداتهم وأشرافهم، و (المستطير): المنتشر. * وقول أبي سفيان: (ستعلم أينا منها ينزه) أي يبعد، والتنزه: التباعد، أما فعل (97/ب) النبي - صلى الله عليه وسلم - ما فعل من ذلك ليتسع المكان للقتال، ومتى لم يقدر على العدو وإلا بذلك جاز، وهذا مذهب أحمد بن حنبل في خلق كثير. -1368 - الحديث الرابع والثلاثون بعد المائة: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر، وفي حجته حين حج، تحت سمرة في موضع المسجد الذي بذي الحليفة، وكان إذا رجع من غزو، فكان في تلك الطريق، أو في حج أو عمرة، هبط من بطن

واد، فإذا ظهر من بطن واد، أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية، فعرس ثم حتى يصبح، ليس عند المسجد الذي بحجارة، ولا على الأكمة التي عليها المسجد، كان ثم خليج يصلي عبد الله عنده، في بطنه كثب، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يصلي، فدحا السيل فيه بالبطحاء, حتى دفن ذلك المكان الذي كان عبد الله يصلي فيه. وأن عبد الله بن عمر حدثه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى حيث المسجد الصغير، الذي دون المسجد بشرف الروحاء، وقد كان عبد الله يعلم المكان الذي كان صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقول: ثم عن يمينك حين تقوم في المسجد تصلي، وذلك المسجد على حافة الطريق اليمنى، وأنت ذاهب إلى مكة، بينه وبين المسجد الأكبر رمية بحجر أو نحو ذلك. وأن ابن عمر كان يصلي إلى العرق الذي عند منصرف الروحاء، وذلك العرق انتهاء طرفه على حافة الطريق، دون المسجد الذي بينه وبين المنصرف وأنت ذاهب إلى مكة، وقد ابتني ثم مسجد، فلم يكن عبد الله يصلي في ذلك المسجد، كان يتركه عن يساره ووراءه، ويصلي أمامه إلى العرق نفسه. وكان عبد الله يروح من الروحاء، فلا يصلي الظهر حتى يأتي ذلك المكان فيصلي فيه الظهر، وإذا أقبل من مكة، فإن مر به قبل الصبح بساعة، أو مر آخر الليل السحر، عرس حتى يصلي بها الصبح. وأن عبد الله حدثه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينزل تحت سرحة ضخمة، دون الرويثة، عن يمين الطريق، ووجاه الطريق، في مكان بطح سهل، حتى يفضي من أكمة دوين بريد الرويثة بميلين، وقد انكسر أعلاها فانثنى في

جوفها، وهي قائمة على ساق، وفي ساقها كثب كثيرة. وأن عبد الله بن عمر حدثه: أن (98/أ) النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في طريق تلعة من وراء المعرج، وأنت ذاهب إلى هضبة عند ذلك المسجد قبران أو ثلاثة، على القبور رضم من حجارة عن يمين الطريق، عند سلمات الطريق، بين أولئك السلمات كان عبد الله يروح من العرج، بعد أن تميل الشمس بالهاجرة، فيصلي الظهر في ذلك المسجد. وأن عبد الله بن عمر حدثه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل عند سرحات عن يسار الطريق، في مسيل دون هرشي، ذلك المسيل لاصق بكراع هرشي، بينه وبين الطريق قريب من غلوة، وكان عبد الله بن عمر يصلي إلى سرحة، هي أقرب السرحات إلى الطريق، وهي أطولهن. وأن عبد الله بن عمر حدثه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينزل في المسيل الذي في أدنى مر الظهران، قبل المدينة حين ينزل من الصفراوات ينزل في بطن ذلك المسيل عن يسار الطريق، وأنت ذاهب إلى مكة، ليس بين منزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين ذلك الطريق إلا رمية حجر. وأن عبد الله بن عمر حدثه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينزل بذي طوى/ ويبيت حتى يصبح، يصلي الصبح حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أكمة غليظة، ليس في المسجد الذي بني ثم، ولكن أسفل من ذلك على أكمة غليظة. وأن عبد الله حدثه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استقبل فرضي الجبل الذي بينه وبين الجبل الطويل نحو الكعبة، فجعل المسجد الذي بني يسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسفل منه على الأكمة السوداء، تدع من الأكمة عشرة أذرع أو نحوها، ثم تصلي مستقبل الفرضتين من الجبل الذي

بينك وبين الكعبة). وفي رواية للبخاري من حديث موسى بن عقبة، قال: (رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في تلك الأمكنة). وفي رواية للبخاري عن نافع، قال ابن عمر: (إذا أراد الخروج إلى مكة ادهن بدهن ليس له رائحة طيبة، ثم يأتي مسجد ذي الحليفة، فيصلي، ثم يركب، فإذا استوت به (98/ب) راحلته قائمة أحرم، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل). وفي رواية: (كان ابن عمر إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى، ثم يصلي به ويغتسل، ويحدث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله). وفي رواية: (أن ابن عمر كان إذا صلى الغداة بذي الحليفة أمر براحلته فرحلت، فركب حتى إذا استوت به استقبل القبلة قائما ثم يلبي حتى إذا بلغ الحرم أمسك، حتى إذا أتى ذا طوى بات به، فيصلي الغداة، ثم يغتسل، وزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك). وفي رواية عن ابن عمر: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بات بذي طوى حتى أصبح، ثم دخل مكة، وكان ابن عمر يفعله)].

* في هذا الحديث ذكر السمرة: وهي شجرة الطلح. وشفير الوادي: طرفه، وقد سبق ذكر التعريس والأكمة. والخليج: جانب من النهر وكأنه مختلج منه أي مقتطع منه. والكثب: جمع كثيب وهو ما اجتمع من الرمل وارتفع. وقوله: فدحا السيل فيه بالبطحاء: أي بحصى البطحاء وترابه، أي دفعها إليه وبسطها فيه حتى خفي. وشرف الروحاء: هو ما ارتفع من ذلك المكان. وحافة الطريق: جانبيها. وقوله: كان يصلي إلى العرق قال ابن فارس: العرق من الأرض سبخه تنبت الطرفاء. والسرحة: نوع من الشجر له ثمر، قال الشاعر: فواعد به سر حتي مالك .... أما لربا بينهما أسهلا والرويثة: اسم موضع. ووجاه الطريق: مقابلها. والتلعة: مسيل الماء من فوق إلى أسفل. والهضبة: فوق الكثيب في الارتفاع ودون الجبل. والرضم: حجارة كبار. والسلمات: شجرات، واحدها سلمة وهي شجر ورقها القرظ الذي يدبغ به الآدم. وكراع هرشي: طرفها. وهرشي: اسم مكان.

والغلوة: قدر رمية. والسيل: مجرى الماء في منحدر الأرض. ومر الظهران: اسم موضع. وفرضة الجبل: مدخل الطريق إليه. * وفي هذا الحديث من الفقه استحباب تعاهد الرجل منزله الذي كان ينزل به قاصدا الخير؛ فإنه نزل به مطيعا لله ذاهبا في سبيله فيكون نزوله فيه مرة أخرى مجددا الحمد لله عز وجل. * وفيه أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توخى (99/أ) هذه المنازل أنها كانت كالأعلام؛ فإذا أتى الآتي عرف بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيستغني عن طلبه، ويستحب لمن عرف تلك الأماكن التي عرفها ابن عمر من مواطن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل بها ويتبرك بها ويتمسح بترابها، وقد أحسن المتنبي في قوله: نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة .... لمن بان عنه أن يلم به راكبا. -1369 - الحديث الخامس والثلاثون بعد المائة: [عن ابن عمر: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شغل عنها ليلة، يعني صلاة العتمة، فأخرها حتى رقدنا في المسجد، ثم استيقظنا، ثم رقدنا، ثم استيقظنا، ثم خرج علينا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: (ليس أحد من أهل الأرض الليلة ينتظر الصلاة غيركم). زاد البخاري: (وكان ابن عمر لا يبالي: قدمها أو أخرها، إذا كان لا

يخشى أن يغلبه النوم عن وقتها، وقلما ما كان يرقد قبلها). عن ابن عمر قال: وكنا ذات ليلة ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصلاة العشاء الآخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده، فلا يدرى أشيء شغله في أهله، أو غير ذلك؟ فقال حين خرج: (إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة، ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى)]. * هذا الحديث قد تقدم وسبق الكلام عليه. -1370 - الحديث السادس والثلاثون بعد المائة: [عن ابن عمر، قال: (كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون، فيتحينون الصلاة، وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يوما في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسا مثل النصارى، وقال بعضهم: قرنا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أفلا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا بلال، قم فناد بالصلاة)].

* قوله: (يتحينون الصلاة) أي يطلبون حينها بالتحري والاجتهاد. * وقد سبق هذا الحديث في مسند عبد الله بن زيد. -1371 - الحديث السابع والثلاثون بعد المائة: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال على المنبر: (غفار: غفر الله لها، وأسلم: سلمها الله، وعصية: عصت الله ورسوله)]. * قد سبق في مسند أبي ذر. -1372 - الحديث الثامن والثلاثون بعد المائة: [عن ابن عمر: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (99/ب) نهى عن القزع). وفي رواية عن عمر بن نافع قال: قلت: وما القزع؟ فأشار لنا عبيد الله إلى ناصيته وجانبي الرأس، قيل لعبيد الله: والجارية؟ قال: لا أدري؟). وفي رواية: (قلت لنافع: وما القزع؟ قال: حلق بعض رأس الصبي، ويترك بعض).

وحكى أبو مسعود: أن في حديث أيوب: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى غلاما قد حلق بعض رأسه، وترك بعض، فنهاهم عن ذلك، وقال: احلقوا كله، أو ذروا كله)]. * قد ذكر تفسير القزع في الحديث، ومنه: قزع السحاب، وهي قطعة. والسنة أن يترك الشعر كله. * وفي هذا الحديث جواز حلقه كله في غير منى؛ لأنه قال: (احلقوا كله أو ذروا كله). -1373 - الحديث التاسع والثلاثون بعد المائة: [عن ابن عمر، قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الأواخر من رمضان. وقال نافع: أراني عبد الله المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسجد)]. * فيه دليل على استحباب الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان؛ فإنه انقطاع إلى الذكر.

* ومن شرطه أن يكون في مسجد يقام فيه الجماعة، لئلا يعتكف في مسجد لا يقام فيه الجماعة فيفوته من فضيلة الجماعة ما لا يجبر بالاعتكاف. ومن شرطه ألا يشتغل إلا بقربة. * وينبغي للمعتكف أن يفهم معنى الاعتكاف وهو أن يكون كما يكف قدمه عن السعي في غير قربة؛ فكذلك يكف قلبه وخاطره عن الفكر في غير قربة. -1374 - الحديث الأربعون بعد المائة: عن ابن عمر، قال: (رأيت في المنام: كأن في يدي قطعة إستبرق، وليس مكان أريد من الجنة إلا طارت إليه، قال: فقصصتها على حفصة، فقصته حفصة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أرى عبد الله رجلا صالحا). وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أخاك رجل صالح. أو: أن عبد الله رجل صالح). وفي رواية: (رأيت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كأن بيدي قطعة إستبرق، وكأني لا أريد مكانا من الجنة إلى طارت إليه، ورأيت كأن اثنين أتياني أرادا أن يذهبا بي إلى النار؛ فتلقاهما ملك فقال: لم ترع، خليا عنه، فقصت حفصة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى رؤيتي فقال النبي (100/أ) - صلى الله عليه وسلم -: نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل. فكان عبد الله يصلي من الليل). قال: فكانوا لا يزالون يقصون على النبي - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا: أنها في الليلة السابعة من العشر الأواخر -يعني ليلة القدر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أرى رؤياكم

قد تواطأت في العشر الأواخر، فمن كان متحريها، فليتحرها في العشر الأواخر)]. * في هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول قطعة الإستبرق وكونها في يد عبد الله؛ بأنه رجل صالح لأن الإستبرق لباس أهل الجنة، وفرشهم. * وفي الحديث ما يحض على قيام الليل، والمراد به التهجد في النافلة لا الفريضة؛ فإن ابن عمر لم يكن يخل بصلاة الفريضة. -1375 - الحديث الحادي والأربعون بعد المائة: [عن ابن عمر، أن عمر رضي الله عنه أصاب أرضا بخيبر، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالا قط أنفس عندي منه، فما تأمر فيه؟ قال: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. قال: فتصدق بها عمر: أنه لا يباع ولا يوهب، ولا يورث، ويصدق بها الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضعيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متمول. قال ابن عون: فحدثت به ابن سيرين، فقال غير متأثل مالا. وفي رواية: (أن عمر تصدق بمال له على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يقال

له ثمغ، وكان نخلا، فقال عمر: يا رسول الله إني استفدت نخلا، وهو عندي نفيس، وأردت أن أتصدق به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تصدق بأصله؛ لا يباع، ولا يوهب ولا يورث؛ ولكن ينفق ثمره) فتصدق به عمر، فصدقته تلك في سبيل الله عز وجل، وفي الرقاب والمساكين، والضيف، وابن السبيل، ولذي القربى، ولا جناح على من وليه أن يأكل بالمعروف ويؤكل غير متمو لبه). وفي رواية للبخاري من حديث عمرو بن دينار، قال: (في صدقة عمر ليس على الوالي جناح أن يأكل ويؤكل صديقا غير متأثل. قال: فكان ابن عمر (100/ب) هو يلي صدقة عمر يهدي أناسا من أهل مكة كان ينزل عليهم)]. * وقال أبو عبيد: المتأصل: الجامع، ولكل شيء له أصل قد تم أو جمع حتى يصير له أصل، فهو مؤثل ومتأثل. وقال أمرؤ القيس: ولكنما أسعى لمجد مؤثل وقد .... يدرك المجد المؤثل أمثالي * وهذا الحديث قد تقدم في مسند عمر وتقدم الكلام عليه.

-1376 - الحديث الثاني والأربعون بعد المائة: [عن ابن عون، قال: كتبت إلى نافع، أسأله عن الدعاء قبل القتال؟ فكتب إلي: إنما كان ذلك في أول الإسلام، وقد أغار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بني المصطلق، وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلهم، وسبى ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية. وفي كتاب مسلم، قال يحيى: أحسبه قال: جويرية أو البتة ابنة الحارث]. * في هذا الحديث دليل على جواز أن يقاتل الكفار ولا يدعون لأن الدعوة انتشرت وبلغت فكفت. * ومعنى (غارون): غافلون لم يشعروا به، تقول: اغتررت فأنا غار ومغتر. -1377 - الحديث الثالث والأربعون بعد المائة: [عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أراني في المنام -أتسوك بسواك

فجاءني رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فناول الآخر، فناولت الأصغر منهما، فقيل لي: كبر فدفعته إلى الأكبر). قال أبو مسعود: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسير فأعطاه أكبر القوم، وقال: (أمرني جبريل أن أكبر)]. * الذي يقتضيه هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر هذه تبينا للتعليم للبداية بالأكابر في مناولة سواك أو سؤر شراب؛ لأنه أري في المنام، ومنامه - صلى الله عليه وسلم - وحي إن كبر. * والحديث الثاني على أثر هذا يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمل في اليقظة بما أشير عليه في المنام. -1378 - الحديث الرابع والأربعون بعد المائة: [عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لما رجع من الأحزاب: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بلى نصلي، لم يرد ذلك منا، فذكر ذلك

للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنف واحدا منهم.]. * في هذا الحديث من الفقه جواز الاجتهاد؛ وأنه إذا أفضى بالمجتهد اجتهاده إلى مفضى يراه الصواب كان ذلك فرضه، وإن كان يباين ظاهر الحديث؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قال: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة) (101/أ) فرأى بعض القوم: أن يمتثل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وإن تأخرت الصلاة عن فضيلتها في أول الوقت تمسكا بحدود نطق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ورأى الآخرون: أن وصيته - صلى الله عليه وسلم - بذلك إنما هي على سبيل الحث لهم في السير كما فهم بامتثال ما أمر به، فلما دخل عليهم وقت العصر، وعرفوا مقصود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، رأوا أن ينالوا فضيلة الصلاة في وقتها، وأن يذهبوا إلى بني قريظة ممتثلين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الوصول إليها، فذهب بهؤلاء اجتهادهم مذهبهم وبأولئك اجتهادهم مذهبهم فلم يعنف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا منهم، وعلى هذا كل ما يسوغ فيه الاجتهاد للفقهاء فهم مثابون في اجتهادهم. -1379 - الحديث الخامس والأربعون بعد المائة: [عن ابن عمر، فقال: ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -

أنه تصيبه الجنابة من الليل، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (توضأ، واغسل ذكرك، ثم نم). وفي رواية: استفتى عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: (نعم، إذا توضأ). وفي رواية: (أن عمر سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيرقد أحدنا، وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد)]. * قد سبق هذا في مسند عمر رضي الله عنه. -1380 - الحديث السادس والأربعون بعد المائة: [عن ابن عمر، قال: (بينما الناس في صلاة الصبح؛ إذا جاءهم آت فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه القرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة.].

* قد سبق هذا الحديث في مسند البراء. -1381 - الحديث السابع والأربعون بعد المائة: [عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الظلم ظلمات يوم القيامة)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الظلم؛ إنما كان من عدم نور الظالم وإبصاره الأشياء كما هي فإنه لو نظر بعين بصيرته إلى أنه عن قليل يخرج عن ما ظلم فيه إلى مقر آخر يجده المظلوم فيه فردا لا يحال بينه وبينه؛ لكان قد امتنع أن يظلم صاحبه. (101/ب) فلما لم ينته عن ظلم أخيه كان ذلك على مثل ظلمة الليل المتصل من دنياه إلى أخراه، وليس له هناك ما يجلو عن شيئا من

الظلمة فكان متنقلا من ظلمة إلى ظلمة، والنار مظلمة سوداء كما جاء في الحديث. -1382 - الحديث الثامن والأربعون بعد المائة: [عن ابن عمر، قال: (بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثا، وأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن بعض الناس في إمارته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال: (إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله، إن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده). وفي رواية: استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة؛ فقالوا فيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قد بلغني أنكم قلتم في أسامة، وإنه أحب الناس إلي). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو على المنبر: إن تطعنوا في إمارته -يريد أسامة بن زيد فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وايم الله، إن كان لخليقا لها، وايم الله إن كان لأحب الناس إلي، وإنه لأحب الناس إلي من بعده، وأوصيكم به، فإنه من صالحيكم)].

* قوله: (فقد طعنتم في إمارة أبيه (يعني لم يكن طعنكم في موضعه. * وفيه دليل على أن الرعية إذا طعنت في أمير جاز للإمام أن يناضل عنه، ويذكر من فضله حتى يثبت عند الناس مكانه، ولا يظن ظان أن ما عنده من الطعن لو قد تأدى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأثر على المطعون فيه به. * وفيه ما يدل على جواز ولاية المولى على الأحرار، وقد تقدم ذكر ذلك. * وقوله: (من أحب الناس إلي (في الرواية الأولى: ولم يقل أحب الناس؛ لأنه قد كان عنده من هو أفضل منه. وأما الرواية الثانية: من أنه أحب إليه فهي فرع على الرواية الأولى، لأن الرواية الأولى فيها زيادة إثبات والحال بعينها. * وقوله: (من صالحيكم (فيه دليل على أن الأخيار قد يرون الشيء في الإنسان فينقمونه أو يأخذونه في نفوسهم عليه وليس لذلك، وهذا قد كان في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينكشف عن القلوب بفتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما الآن فليس يمكن أن يعلم المفسد من المصلح إلا بأن من عدله الشرع فهو العدل، ومن وصمه الشرع فهو (102/أ) الموصوم. -1383 - الحديث التاسع والأربعون بعد المائة: [عن ابن عمر، قال: (ذكر رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يخدع في البيوع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من بايعت فقال: لا خلابة).

وزاد: (وكان إذا بايع قال: لا خلابة). وفي رواية: (فكان إذا بايع قال: لا خلابة)]. * في هذا الحديث ما يدل على أنه للرجل الضعيف في أمره أن يشترط عند مبايعته على من يبايعه أن لا يخلبه. * وقد دل الحديث على أن الغبن الفاحش يوجب الرد فأما غير الفاحش فلا. * وفيه دليل على أن الألثغ إذا أدى النطق بالمعنى قبل منه ورجع فيه إلى نيته، ويكون العمل على ما أراده لا ما نطق به. -1384 - الحديث الخمسون بعد المائة: [عن ابن عمر، قال: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيه الولاء وعن هبته)]. * وهذا الحديث دليل على أن الولاء لا يباع ولا يوهب.

-1385 - الحديث الحادي والخمسون بعد المائة: [عن ابن عمر، قال: (ارتقيت فوق بيت حفصة لبعض حاجتي، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته مستقبل الشام، مستدبر القبلة)]. * في هذا الحديث دليل على جواز استقبال القبلة بالغائط والبول في الأبنية دون الصحارى. * وفيه أيضا ما يدل على أن ابن عمر إنما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتفاقا ومصادفة ولم يقصد عبد الله بن عمر عند رقية أن ينظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على حاجته، وإنما رقى لغير ذلك فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد جاء في حديث آخر مفسرا. -1386 - الحديث الثاني والخمسون بعد المائة: [عن ابن أبي مليكة، قال: توفيت بنت لعثمان بن عفان بمكة، قال: فجئنا لنشهدها. قال: فحضرها ابن عمر وابن عباس، قال: وإني لجالي بينهما قال: فجلست إلى أحدهما، ثم جاء الآخر فجلس إلى جنبي، فقال عبد الله

ابن عمر لعمرو بن عثمان وهو مواجهة: ألا تنهى عن البكاء؟ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الميت معذب أهله عليه). وفي رواية: (إن الميت ليعذب ببكاء الحي)]. * قد سبق هذا في مسند عمر رضي الله عنه. -1387 - الحديث الثالث والخمسون بعد المائة: [عن عكرمة بن خالد (102/ب)، أن رجلا قال لعبد الله بن -عمر: ألا تغزو فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن الإسلام بني على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت). وفي رواية: (أن رجلا أتى ابن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما، وتترك الجهاد في سبيل الله، وقد علمت ما رغب الله فيه؟ قال يا ابن أخي: بني الإسلام على خمس: إيمان بالله ورسوله، والصلاة الخمس، وصيام رمضان، وأداء الزكاة، وحج البيت. فقال: يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله تعالى في كتابه: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا

التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}، وقال: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة}. قال: فعلنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان الإسلام قليلا، فكان الرجل يفتن في دينه: إما قتلوه وإما عذبوه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة. قال: فما قولك في علي وعثمان؟ فقال: أما عثمان فكان الله عفا عنه، وأما أنتم فكرهتم أن تعفوا عنه، وأما علي فابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وختنه، وأشار بيده، فقال: هذا بيته حيث ترون). وفي رواية لمسلم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان). وفي رواية: (بني الإسلام على خمس: على أن يوحد الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج.). فقال رجل: الحج والصيام فقال: لا، صيام رمضان، والحج. هكذا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي حديث سعد بن طارق: (بني الإسلام على خمس: على أن تعبد الله وتكفر بما دونه، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)].

قد سبق هذا الحديث وبيانه في مسند عمر رضي الله عنه. -1388 - الحديث الرابع والخمسون بعد المائة: [عن عمرو بن دينار، قال: (سألنا ابن عمر أيقع الرجل على امرأته في العمرة قبل أن يطوف بين الصفا والمروة؟ فقال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطاف بالبيت سبعا ثم صلى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة، وقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}). وفي حديث قتيبة (103/أ)، قال: سألت جابر بن عبد الله فقال: (لا يقرب امرأته حتى يطوف بين الصفا والمروة)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الرجل إذا سئل عن مسألة ليس عنده فيها شيء صريح سوى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم يذكر ما عنده فيها على وجهه؛

ليكون للسائل أن يستنبط من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يفهمه ولا يعلق على المسئول شيئا منه. * وظاهر قوله من هذا المنع في وقوع الرجل على امرأته قبل أن يطوف إلا أنه لما كان الوقوع على المرأة من الأمور التي لا يطلع عليها الرجال، ولم يعلم في ذلك محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا، أخبر بما رأى؛ وذلك يدل على ورع ابن عمر، وكشف هذا جابر بن عبد الله رضي الله عنه. -1389 - الحديث الخامس والخمسون بعد المائة: [عن ابن عمر، قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده، مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غاشية أهله فقال: (قد قضى (قالوا: لا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأى القوم بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بكوا، قال: (ألا تسمعون؟! إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم). عن ابن عمر، قال: (كنا جلوسا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ جاءه رجل من الأنصار، فسلم عليه، ثم أدبر الأنصاري. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أخا الأنصار، كيف أخي سعد بن عبادة؟ فقال: صالح: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من يعوده منكم؟ فقام وقمنا معه، ونحن بضعة عشر، ما علينا نعال ولا خفاف،

ولا قلانس ولا قمص، نمشي في تلك السباخ، حتى جئنا؛ فاستأخر من حوله قومه حتى دنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين معه)]. * في هذا الحديث من الفقه أن قوله: (اشتكى) أي مرض؛ وإنما المرض يسمى شكوى. * وفيه الحث على عيادة المرضى، وقوله: (قد قضى؟ (: استفهام ولذلك قالوا: لا يا رسول الله. * وفيه ما يدل على جواز البكاء. * وفيه (103/ب) أن البكاء يهج البكاء. وفيه: أن الإنسان لا يطالب بدمع العين، ولا بحزن قلبه، لأنهما لا يملكان. * وفيه: السؤال عن المريض. وفيه: تشريف سعد بأن قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حقه: أخي. إنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من يعوده منكم؟ (؛ لئلا يتبعوه بغير نية سوى اتباعه فيفوتهم أجر عيادة المريض؛ وإنما أعلمهم لينووا العيادة. * وفي الحديث جواز أن يمشي الرجل بغير قميص، ولا قلنسوة، وأن يمشي حافيا. * وفيه من الأدب أن يستأخر من حول المريض حتى يتقدم إليه زواره وعواده.

وفيه تحذير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حصائد الألسن، وشر ذلك، فإنه من أشد ما خيف على الإنسان منه. -1390 - الحديث السادس والخمسون بعد المائة: [عن ابن عمر، قال: لما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالطائف، قال: (إنا قافلون غدا إن شاء الله)، فقال ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا نبرح أو نفتحها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فاغدوا على القتال)، فغدوا فقاتلوهم قتالا شديدا وكثر فيهم الجراحات. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنا قافلون غدا إن شاء الله). قال: فسكتوا. قال: فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن الإمام إذا قال قولا ظاهره يقتضي إرجاء المشركين بحال يراها؛ أو تلوح له، فإنه ليس لأحد من أتباعه أن يراجعه في ذلك. على معنى أنه قد كان، فإنه ما يدركه تبعه لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قال لهم: (إنا قافلون غدا إن شاء الله)، قالوا: (لا نبرح أو نفتحها)، فتركهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وكان ذلك من فقهه - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لو رحل وهم يظنون أنهم لو قاموا لفتحوها لكان يبقى ذلك في قلوبهم، فوافقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن

تبين لهم صواب قوله وخطأ قولهم، فلما قال: (إنا قافلون (فسكتوا. ضحك لظهور حقه، وخطأ رأي من خالفه. -1391 - الحديث السابع والخمسون بعد المائة: عن سعيد بن جبير، قال: (مر ابن عمر بفتيان من قريش قد (104/أ) نصبوا طيرا، وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا. فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا). وعن ابن عمر، أنه دخل على يحيى بن سعيد - غلام من بني يحيى - رابط دجاجة يرميها، فمشى إليها ابن عمر حتى حلها، ثم أقبل بها إلي والغلام معه، فقال: ازجروا غلامكم عن أن يصبر هذا الطير للقتل، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (نهى أن تصبر بهيمة أو غيرها للقتل)]. * هذا الحديث يدل على أنه لا يجوز حبس البهائم للقتل. * وفيه ما يدل على أن اللعنة قد تسبق من فم المؤمن إلى غير كافر؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن من فعل هذا.

وقد تقدم الكلام في هذا. -1392 - الحديث الثامن والخمسون بعد المائة: [عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معه ناس فيهم سعد، وأتوا بلحم ضب، فنادت امرأة من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه لحم ضب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كلوا؛ فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامي). وفي رواية، قال الشعبي: أرأيت حديث الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وقاعدت ابن عمر قريبا من سنتين أو سنة ونصف، فلم أسمعه روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير هذا. قال: كان ناس من بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم سعد فذهبوا يأكلون من لحم، فنادته امرأة من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه لحم ضب، فأمسكوا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كلوا، أو: اطعموا؛ فإنه حلال. وقال: لا بأس به، ولكنه ليس من طعامي). وفي رواية للبخاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الضب فقال: (لا أحله ولا أحرمه). وفي رواية: (لا آكله ولا أنهى عنه)]. * قد تقدم الكلام في هذا الحديث في مواضع.

-1393 - الحديث التاسع والخمسون بعد المائة: [عن ابن عمر، قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرن الرجل بين التمرتين، حتى يستأذن أصحابه). قال شعبة: لا أرى هذه الكلمة إلا من كلام ابن عمر، يعني (104/ب) للاستئذان]. * إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، لأن الله تعالى خلق الرطبة على نحو اللقمة فنفس وضعها على ذلك مشير إلى أكلها أن يتناول الواحدة، فإذا قرن بين تمرتين أوهم في ذلك أن ما خلقه الله تعالى من مثل ذلك قد كان مفتقرا إلى أن يتممه بفعله. * ثم فيه أيضا غيبته لباقي الآكلين معه، فإنه إن كل يأكل وحده فالواحدة بالواحدة أسرع له، وإن كان مع آخرين فإنه إنما يقرن ليفضل عليهم بما يتناوله، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. وأما شعبة فما أبعد قوله: (لا أرى الاستئذان إلا من قول ابن عمر)؛ لأنهم لو أذنوا لم يكن أيضا يحسن ولا يجمل.

-1394 - الحديث الستون بعد المائة: [عن ابن عمر، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النذر، وقال: (إنه لا يرد شيئا، وإنما يستخرج به من البخيل). وفي رواية: أنه عليه الصلاة والسلام، إنما نهى عن النذر، وقال: (إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل). وفي رواية عن ابن عمر: أو لم ينهوا عن النذر، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخره، وإنما يستخرج بالنذر من البخيل)]. * المراد بقوله: (يستخرج به من البخيل (أنه إنما يعطى البخيل بعوض، وما عند الله سبحانه أقرب إلى سائله من أن لا يبذل إلا بعوض أو أن يجعل بإزائه جعالة، وكل ما يستخرج بجعالة فإنما يستخرج من البخيل، والله تعالى ليس ببخيل إلا أنه إذا نذرا الإنسان نذر ألزمه الوفاء به؛ وقد مدح عز وجل المؤمنين بالنذر فقال: {يوفون بالنذر}. -1395 الحديث الحادي والستون بعد المائة:

[عن صفوان ابن محرز المازني، قال: (بينما ابن عمر يطوف، إذ عرض رجل، فقال: يا أبا عبد الرحمن، أو يا ابن عمر، كيف سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى؟ فقال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يدنى المؤمن من ربه حتى يضع كنفه، فيقرره بذنوبه، تعرف ذنب كذا؟ يقول: أعرف رب، أعرف -مرتين فيقول: سترتها في الدنيا، وأغفرها لك اليوم، ثم يعطى صحيفة حسناته، وأما الكافر أو المنافق فيقول الأشهاد: {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين})]. * (النجوى): المحادثة في السر. (والكنف): الستر، وهو عز وجل يستر عبده حين يقرره بذنوبه لئلا يطلع على ما بينه (105/أ) وبين ربه من ذلك غير ربه. * وفيه أيضا من الفقه أن المؤمن ينبغي إذا بلي بشيء من هذه المعاصي أن لا يفضح نفسه بها، وينتظر ما يفعله الله عز وجل به، فإن سترها الله عليه كانت مستورة قد تناولها ستر من ستر، فإن أراد الله أن يفضحه بها في الآخرة فستلحقه الفضيحة فما له والاستعجال، وقد يكون في هذه الذنوب ما لو سمعه مخلوق لأخذ في قلبه على الذي قد وهب له ذنبه حزازة،

فيعظم نعمة الله على العبد حتى يستر معاصيه من أبيه وأمه وأخيه فإنهم لو اطلعوا عليها نقص من نفوسهم وهان عليهم، وأما الكافر والمنافق فيظهر حالهم في الخلائق ليستبقي بهم من عاداهم لأجل الله عز وجل. * (والأشهاد) جمع شاهد أو شهيد، وقال مجاهد: هم الملائكة. وقال مقاتل: جميع الناس. -1396 - الحديث الثاني والستون بعد المائة: عن زياد بن جبير، قال: كنت مع ابن عمر، فسأله رجل فقال: إني نذرت أن أصوم كل ثلاثاء أو أربعاء ما عشت، فرافقت هذا اليوم يوم النحر، قال: أمر الله بوفاء النذر، ونهينا أن نصوم يوم النحر، فأعاد عليه فقال مثله، لا يزيد عليه). وفي رواية: (أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوفاء النذر، ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم هذا اليوم). وفي رواية للبخاري عن ابن عمر: (في رجل نذر أن لا يأتي عليه يوم سماه إلا صام، فوافق يوم أضحى أو فطر فقال: {لقد كان لكم في رسول الله

أسوة حسنة} لم يكن يصوم يوم الأضحى والفطر، ولا يرى صيامهما)]. * في هذا الحديث دليل على ورع ابن عمر؛ لأنه كان يروي ما سمع وقد مضى مثل هذا. * والذي ذهب أبو حنيفة وأحمد إليه في هذا: أنه يفطر، ويقضي يوما ما مكانه: وقال الشافعي: إنه يفطر ولا يلزمه قضاء. -1397 - الحديث الثالث والستون بعد المائة: [عن زياد بن جبير، قال: رأيت ابن عمر أتى على رجل أناخ بدنته ينحرها، قال: (ابعثها قياما مقيدة، سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -)].

* في هذا الحديث ما يدل على أن السنة في الإبل النحر لا الذبح، وأن تكون قائمة غير باركة، وأن تكون مقيدة حتى لا يضطرب. -1398 - الحديث الرابع والستون بعد المائة: [عن خالد بن الحارث (105/ب)، سئل عبيد الله عن التحصيب؟ فحدثنا عن نافع قال: (نزل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن عمر). وعن نافع، أن ابن عمر: (كان يصلي بها -يعني بالمحصب الظهر والعصر -وأحسبه قال: والمغرب. قال خالد: لا أشك في العشاء، ويهجع هجعه، ويذكر ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا ينزلون الأبطح). وفي رواية عن ابن عمر: (كان يرى التحصيب سنة، وكان يصلي الظهر والعصر يوم النحر بالحصبة. وقال نافع: قد حصبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده). وفي رواية: (أن أبا بكر وعمر وابن عمر كانوا ينزلوا الأبطح)]. * قد بينا أن نزول المحصب ليس بسنة، وقول ابن عمر مذهب له.

-1399 - الحديث الخامس والستون بعد المائة: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما). وفي رواية: (أيما امرئ قال لأخيه: كافر، فقد باء بها أحدهما؛ إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه)]. * هذا الحديث قد تقدم شرحه في مسند ابن مسعود والكلام عليه. -1400 - الحديث السادس والستون بعد المائة: [عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن اليهود إذا سلموا على أحدكم -أنها تقول: سام عليك، فقال: وعليك). وفي رواية: (إن اليهود إذا سلموا عليكم إنما يقول أحدهم: السام عليكم، فقولوا: وعليكم)].

* في هذا الحديث ما يدل على أنه ينبغي للإنسان أن يتفقد من عدوه نطقه لأن العدو إذا عجز عن القتال باليد قاتل بالنطق وغيره؛ فاليهود كانوا يوهمون أنهم يسلمون فيقولون لفظا يوجب الدعاء. * وقوله: (عليكم)، فالمعني عليكم ما عليكم من اللعن، وعليكم السام. -1401 - الحديث السابع والستون بعد المائة: [عن ابن عمر، قال: كنا إذا بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة يقول لنا: (فيما استطعتم). وفي رواية: (يقول لنا: فيما استطعتم)]. * هذا من لطف الشرع ورفقه (106/أ) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقن المبايع وقوله: (ما استطعت). * وقد سبق هذا الحديث. -1402 - الحديث الثامن والستون بعد المائة: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي

فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده). وفي رواية: (يبيت ثلاث ليال). قال ابن عمر: (ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك إلا وعندي وصيتي). وفي رواية: يبيت ليلتين؛ وله شيء يريد أن يوصي فيه). وفي رواية: (ليلة)]. * في هذا الحديث ما يدل على استحباب الوصية، وأن لا يبيت الرجل حتى يقدمها، فإنه لا يدري ما يقضي الله فيه، وهي عند الموت كانت لم تزل خيرا مكتوبة عليه إلا أنه قد قضى الإسلام في تركه كل تارك بما قضى، وذلك مغن عن أن يغير المسلم فيه شيئا، وقد كانت وصية يعقوب عليه السلام لأولاده أنه قال له: {وما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك}. -1403 - الحديث التاسع والستون بعد المائة: [عن ابن عمر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يزال هذا الأمر في قريش، ما بقي

منهم اثنان)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الخلافة في قريش دائمة إلى يوم القيامة. * وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما بقي منهم اثنان (يجوز أن يكون إخبارا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ بأنه لا ينتهي بهم الأمر إلى أقل من هذا العدد، فيكون الواحد أميرا والآخر مؤتمرا له؛ والناس تبع لهم. -1404 - الحديث السبعون بعد المائة: [عن ابن عمر، قال: (وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنهى عن قتل النساء والصبيان)]. * إنما نهى عن قتل النساء؛ لأنهن لم يتعرضن للقتال ولأنهن يكن شيئا من جملة الغنيمة. أفراد البخاري -1405 - الحديث الأول

[عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر، وما سقي بالنضح نصف العشر). وفي رواية أبي بكر البرقاني: (فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان عثريا العشر، وفيما سقي بالناضح نصف (106/أ) العشر)]. * هذا الحديث يدل على أن العشر في كل شيء لم سيق بمؤونة، وما سقي بمؤونة فنصف العشر، وقد استنبط الفقهاء من هذا أنه إذا كان يسقى بعض الغامر بالمؤونة وبعضه بلا مؤونة ففيه ثلاثة أرباع العشر، فإن كان أحدهما أغلب كان الحكم له، فإن جهل أغلبهما غلب موجب العشر احتياطا للفقراء. والسماء هاهنا المطر. والمراد بالعيون: ما سقي من غير ترفيه الماء منه بكلفة. فأما العثري، فقال أبو عبيد: العثري هو العذي، والعذي ما سقته السماء، فأما ما يشرب بعروقه من الأرض من غير سقي سماء ولا غيرها فهو بعل. وقال أبو عبيد والكسائي: وما سقته السماء. وقال ابن قتيبة: لم أرهم يختلفون أن البعل العذي بعينيه. * والعذي: نوعان: أحدهما: العثري، وهو الذي يؤتى لماء المطر إليه حتى يسقيه؛ وإنما سمي عثريا، لأنهم يجعلون في مجرى السيل عاثورا، فإذا

صدمه الماء تراد فدخل في تلك المجاري حتى يبلغ النخل ويسقيه، ولا يختلف الناس في العثري أنه العذي. والنوع الآخر من العذي البعل فمن البعل ما يفتح إليه الماء عن مجاري السيول بغير عواثر، ومنه ما يبلغه الماء فالسماء تسقيه بالمطر. -1406 - الحديث الثاني: [عن ابن عمر، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم على المنبر يقول: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم، ما بين العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار، ثم عجزوا. فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا، فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتينا القرآن، فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: أي ربنا، أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطا قيراطا، ونحن كنا أكثر عملا؟ قال الله تعالى: هل ظلمتكم من أجوركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء). وفي رواية عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء فقال: من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود، ثم قال من (107/أ) يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى؛ ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين؟ فأنتم هم؛ فغضب

اليهود والنصارى فقالوا: ما لنا أكثر عملا وأقل عطاء؟!. فقال: هل نقصتكم من حقكم؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء). وفي رواية: (إنما أجلكم في أجل من خلاء من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى صلاة مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال: من يعمل إلى نصف النهار على قيراط قيراط. ثم ذكر نحوه، وفي آخره: ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ألا لكم الأجر مرتين، فغضب اليهود والنصارى. وذكر نحو ما قبله)]. * هذا الحديث قد سبق ذكره في مسند أبي موسى وشرحه هناك والحمد لله.

-1407 - الحديث الثالث: [عن ابن عمر، قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام؛ فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، صبأنا، فجعل خالد يقتل ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا له، فرفع يديه، فقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) مرتين]. * في هذا الحديث ما يدل على أن المتعين على أمير الجيش أن يتأنى في القتل بمن يلقي إليه بالسلم حتى يفهم عنه ما يريد من قوله. * وفيه أيضا ما يدل على أن الأمير إذا كان له مقصود عام فجرت منه هفوة خاصة؛ فإنها لا يقتص منه بها، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أبرأ إليك مما عمل خالد)، أي من أن أكون رضيت به لما بلغني؛ ثم لم يقتص من خالد

بما فعل لأن الأمر كان فيه نوع اشتباه. -1408 - الحديث الرابع: [عن ابن عمر، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع الآخرة من الفجر يقول: (اللهم العن فلانًا وفلانًا وفلانًا) بعدما يقول: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد)، فأنزل الله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء} إلى قوله: {فإنهم ظالمون}). وفي رواية: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن (107/ ب) عمرو، والحارث بن هشام؛ فنزلت {ليس لك من الأمر شيء} إلى قوله: {فإنهم ظالمون})]. * في هذا الحديث ما يدل على جواز الدعاء على أئمة الكفار وصناديد الضلال في الصلاة بحيث يسمعه المأمومون، فيكونوا شهداء على أن الله أهلك أولئك بالدعاء. * وقوله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء}، معناه ليس لك في دعائك عليهم

حظ لنفسك، ولا تقوله تشفيًا بهم، وإنما أفعالك كلها لله عز وجل لا لحظك. -1409 - الحديث الخامس: [عن ابن عمر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مفاتيح الغيب خمس: إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا، وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير)]. * هذا الحديث يدل على أن هذه الغيوب لا مفتاح لها إلا عند الله تعالى، فلا يمكن أن يطلع عليها بشر: وهي الساعة، ونزول المطر، وعلم ما في الأرحام، وما يكون في غد، وأين يكون الموت. -1410 - الحديث السادس: [عن ابن عمر، أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة ثم يتقدم فيبتهل؛ فيقوم مستقبل القبلة طويلًا، ويدعو يرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل، ويقوم مستقبل القبلة ثم يدعو

ويرفع يديه، ويقوم طويلا، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف، ويقول: هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل]. * في هذا الحديث ما يدل على أن من السنة أن يبدأ الجمرة الدنيا يعني القريبة إلى عرفات، ويستهل أي ينحدر إلى الأرض السهلة المنخفضة، وإنما يقف في الأخيرة لأنها آخر الجمار فهي كالتشهد في الصلاة، وإنما سمى الجمار جمارا فقد ذكر أبو عبيد الهروي: أن الجمار هي الأحجار الصغار، وبه سميت جمار مكة. -1411 - الحديث السابع: [عن سالم، قال: كتب عبد الملك إلى الحجاج: أن لا تخالف ابن عمر في الحج، فجاء ابن عمر -وأنا معه يوم عرفة- حين زالت الشمس، فصاح عند سرادق الحجاج فخرج وعليه ملحفة مصفرة، فقال: ما لك يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: الرواح؛ إن كنت تريد السنة. فقال: هذه الساعة؟ قال: نعم، قال: فأنظرني حتى أفيض على رأسي ماء (108/أ) ثم أخرج، فنزل حتى خرج الحجاج، فسار بيني وبين أبي، فقلت: إن كنت تريد السنة، فاقصر

الخطبة، وعجل الوقوف، فجعل ينظر إلى عبد الله، فلما رأى عبد الله ذلك، قال: صدق). وأخرجه تعليقا: (أن الحجاج عام نزل بابن الزبير فسأل عبد الله: كيف يصنع في الموقف يوم عرفة؟ فقال سالم: إن كنت تريد السنة، فهجر بالصلاة يوم عرفة، فقال عبد الله بن عمر: صدق؛ إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنة، فقلت لسالم: أفعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال سالم وهل يتبعون في ذلك إلا سنته؟!)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن الإمام يأمر صاحبه باتباع العالم في مناسك الحج والجهاد وغير ذلك؛ فإن عبد الله أمر الحجاج أن لا يخالف ابن عمر. * وفيه جواز أن يأتي العالم فيقف على باب الأمير، فقد وقف ابن عمر على باب الحجاج فانتظره حتى خرج. * وقوله: (فنزل حتى خرج الحجاج) فيه: بيان أنه إذا طال الانتظار لم يقف الراكب على دابته، وقد جاء في الحديث: (اركبوا هذه الدواب سالمة ولا تتخذوها كراسي).

* وفيه جواز أن يبتدئ الغلام بالكلام في حضرة أبيه إذا كان يقول ما لا يدفعه أبوه. * وفيه رد وأي رد على من يمتنع من إتيان أبواب الإمام وثوابه إلا أن يكون في حالة ضعف يبيح له ذلك. -1412 - الحديث الثامن: [عن ابن عمر، قال: دخلت على حفصة- ونوساتها تنظف- قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين؛ فلم يجعل لي من الأمر شيء؟ فقالت: الحق فأتيهم، فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة، فلم تدعه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية، فقال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال حبيب ابن مسلمة: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي، وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك، من قاتلك وأباك على الإسلام فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجميع، ويسفك الدم، ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان. قال حبيب: حفظت وعصمت)]. * ظاهر هذا الحديث يقتضي أن أوله: هو شرح ما جرى في (108/ ب) شورى عمر رضي الله عنه؛ لأن عمر قال: ليشهدكم عبد الله بن عمر؛ وليس له من الأمر شيء، فيكون هذا الحديث مشتملا بطرفيه على ذكر حالتين:

إحداهما: جرت في الشورى بعد موت عمر رضي الله عنه، والأخرى: جرت في زمن معاوية، وبينهما بون بعيد. * فأما قول معاوية: (من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه)؛ فإنه قول يحمل منه على صيال دون كلمة المسلمين لئلا نقول قولا واهيا، فتنبض نوابض الفتنة، وكان ذلك اجتهاده الذي انتهى إليه علمه. * وقول ابن عمر: (فهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك، من قاتلك وأباك على الإسلام) فإنه قال أيضا قولا أدى إليه اجتهاده مستندا إلى أصل من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تقديم الفاضل في الإمامة حتى انتهى ذلك إلى أن قال: (فأقدمهم هجرة). فيكون ما هم به ابن عمر عن اجتهاد أيضا إلا أنه حيث خاف أن يؤدي قوله ذلك إلى إثارة فتنة استعان على نفسه في ترك المراء ممن يرى أنه محق بتذكيرها ما أعد الله في الجنة حتى سكنت. ولهذا قال له حبيب بن مسلمة: (حفظت وعصمت) يعني أن الله تعالى عصمه من الخطأ، وحفظه من قول يثير فتنة. وقوله: (فلما تفرق الناس) أي في زمن معاوية على أن حفصة قد أدركت زمن معاوية، فإنها ماتت سنة خمس وأربعين وهي بنت ستين سنة. -1413 - الحديث التاسع: [عن ابن عمر، قال: (الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إلى يوم عرفة،

فإن لم يجد هديا، ولم يصم، صام أيام منى) وعن عائشة مثله]. * ومالا لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن يجد الهدي، في صيام أيام منى خلاف إذا كانت عن فرض؛ فأما عن نفل فلا يجوز صومها. -1414 - الحديث العاشر: [عن ابن عمر، قال: (وعد النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل، فراث عليه، أي أبطأ، حتى اشتد على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلقيه فشكا إليه، فقال: (إنا لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب)].

* قد سبق في مسند أبي طلحة. -1415 - الحديث الحادي عشر: [عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: (ربما ذكرت قول الشاعر، وأنا أنظر إلى وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - (109/أ) يستسقي، فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه .... ثمال اليتامى عصمة للأرامل وهو قول أبي طالب)]. * في هذا الحديث بيان أنه ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل من الاستسقاء حتى يجيش كل ميزاب، أي يغلي بالماء. * وفيه أيضا أن الإنسان يذكر الشيء بالشيء؛ فكان ابن عمر إذا رأي الغيث ذكر استسقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وقد دل الحديث على أن الشعر في مدح الإسلام والرسول ممدوح لا مذموم. * وقوله: (ثمال اليتامى) أي معتمدهم وملجؤهم.

الحديث الثاني عشر: [عن ابن عمر، في رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة قال: (رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس، خرجت من المدينة حتى نزلت بمهيعة، فتأولتها أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة، وهي الجحفة)]. * في هذا الحديث دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان الله تعالى يريه فيما يشاء من المنام وحيا، ولا يقصر الوحي على ما يأتي به جبريل عليه السلام. * وقوله: (سوداء ثائرة الرأس) يعني أن شعرها منتشر غير وجل. * (والجحفة): موضع كان يسكنه اليهود. * وقد جاء في الحديث عنه أن الطاعون شهادة، وقد عدها هنا انتقال الوباء عن المدينة نعمة. والذي أرى من الجمع بين الحالين أنه من كان في أرض وباء فصبر امتثالا لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمن تقلبه أن مقامه في الأرض الوبيئة لا يقرب له أجلا لم يكن قد قدره الله عز وجل فمات فموته شهادة له، وأن العافية التي أحلها الله بالمدينة وصرف عنها الوباء إلى اليهود حتى تكاملت الصحة للمسلمين فقووا على الجهاد ولم يشمت بهم الكفار، ولم يروا فيهم الوهن- أن ذلك نعمة.

-1417 - الحديث الثالث عشر: [عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أخذ من الأرض شبرا بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين)]. * قد سبق هذا الحديث في مسند سعيد بن زيد. -1418 - الحديث الرابع عشر: [عن ابن عمر، أنه كان يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أنه لقي زيد بن عمرو ابن نفيل بأسفل بلدح، وذلك قبل أن ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي، (109/ ب) فقدم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه). وفي رواية: (أن زيد بن عمرو، كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم أنتم تذبحونها على غير اسم الله. إنكارا لذلك وإعظاما له). وفي رواية: (أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام، يسأل عن الدين

ويبتغيه، فلقي عالما من اليهود، فسأله عن دينهم، فقال: إني لعل أن أدين دينكم فأخبرني، فقال: لا تكون على ديننا، حتى تأخذ نصيبك من غضب الله، قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا، وأني أستطيعه؟ فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا، قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله، فخرج زيد فلقي عالما من النصارى فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: ما أفر إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئا أبدا، وأنى أستطيع، فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا، قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم خرج، فلما برز رفع يديه، وقال: اللهم، اشهد أني على دين إبراهيم)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الشرع من بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزم ووجب، وما ذكره زيد بن عمرو بن نفيل فهو على ظن منه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأكل مما ذبح على الأصنام، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأكل من ذلك، عصمة من الله تعالى له. * وأما الدين الحنيف فإن الله تعالى هدانا له، وهدى إليه زيدا، وأما اليهودية والنصرانية فليسا من الله عز وجل ولم يبعث الله نبيا إلا بالإسلام ومنهم موسى

وعيسى عليهما السلام، فإنهما كانا مسلمين قال الله عز وجل هذا في غير موضع من كتابه، منه قوله تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا}، وقال الله تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لقومه {فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين}، وقال عز وجل في الآية الأخرى: {ووصى بها (110/ أ) إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمين}، وقوله: {واشهد بأنا مسلمون}. وإنما حديث اليهودية بعد موسى عليه السلام والنصرانية بعد عيسى عليه السلام. -1419 - الحديث الخامس عشر: [عن ابن عمر، قال: (كان أكثر ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحلف: (لا ومقلب القلوب)]. * هذه يمين إذا لهج بها الإنسان كانت مذكرة له بما يخافه من تقليب قلبه إلى الكفر، وإلى المعصية عن الطاعة، فإنه قد تتقلب القلوب فكأنه تارة مع الملائكة وتارة مع الشياطين، وينبغي أن لا ييأس الإنسان من تقليب قلبه إلى

الحق بعد أن أغرق في الباطل، ولا يأمن من انقلاب قلبه عن الحق إلى إيثار الضلال؛ وإن استمرت منه الاستقامة. -1420 - الحديث السادس عشر: [عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا)]. * قد سبق الكلام على هذا الحديث في مسند سعد. -1421 - الحديث السابع عشر: [عن ابن عمر، أنه كره أن تعلم الصورة، وقال: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تضرب)]. * ومعنى تعلم أي يجعل فيها علامة، وهي السمة يعني الوجه. -1422 - الحديث الثامن عشر: [عن ابن عمر، قال: (كانت الكلاب تقيل وقد ترقى المسجد في زمان

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك)]. * هذا الحديث محمول على أن الكلاب تكون يابسة وتمشي على الأرض اليابسة ولا تحتاج إلى تطهير ولا إلى رش. -1423 - الحديث التاسع عشر: [عن ابن عمر، قال: لما اشتد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعه، قيل له في الصلاة؛ فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس). قالت عائشة: إن أبا بكر رجل دقيق، إذا قرأ غلبه البكاء، فقال: (مروه فليصلي،)، فعاودته فقال: (مروه فليصلي، إنكن صواحب يوسف)]. * قد سبق هذا الحديث والكلام عليه.

-1424 - الحديث العشرون: [عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أن الناس يصيرون يوم القيامة جثى، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: اشفع يا فلان، اشفع. حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود)]. * قد تقدم الكلام في الشفاعة. * ومعنى جثى أي جماعات مجتمعة (110/ ب) الواحدة: جثوة بضم الجيم. -1425 - الحديث الحادي والعشرون: [عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، (أنه كان يرى عبد الله بن عمر يتربع في الصلاة إذا جلس، ففعلته، وأنا يومئذ حدث السن؛ فنهاني عبد الله بن عمر، وقال: إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى، فقلت:

إنك تفعل ذلك؟ قال: إنه رجلي لا تحملاني)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن الكبير إذا لم تحمله رجلاه كان له أن يتربع في صلاته في موضع التورك والافتراش. * وفيه أنه إذا رأى الإنسان رجلا صحيحا يفعل ذلك أنكر عليه. * ومن مفهوم خطابه ما يدل على أنه إذا رأى العالم قد كان يفعل شيئا ثم انتقل عنه لم يفعله المتعلم حتى يسأله عن موجبه وما الذي دعاه إلى ترك ذلك. -1426 - الحديث الثاني والعشرون: [عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم، ما سار راكب وحده بليل أبدا)]. * في هذا الحديث ما يدل علي كراهية أن يسير الرجل بالليل وحده، وعلى هذا فأرى أن هؤلاء الذين يخرجون في السياحة منفردين، ويسمونها سياحة؛ فكل واحد منهم معرض نفسه للسباع وغير ذلك، وتارك للصلوات في الجماعة؛ ولنفع الناس بالتعليم إن كان من أهل التعليم، والانتفاع بالتعلم إن كان من أهل التعلم، وأن يحظى بعيادة المريض وشهود الجنائز وعمارة المساجد وغير ذلك؛ فإنه يفئت نفسه ذلك فلو عرف ما في سير الوحدة من فوات هذه الخيرات لم يفعله. * وقد جاء النهي عن السياحة عن أكابر أهل العلم إلا أن ذلك إذا اضطر إليه

انسان أو كان على حال لم يقصد فاعله فعله توخيا لسير الوحدة بل كما اضطره إليه امرؤ أو سوء رفقة فإنه يستغفر الله تعالى من مخالفة السنة في ذلك ويعمل بحكم الضرورة. -1427 - الحديث الثالث والعشرون: [عن ابن عمر، أن أناسا قالوا له: إنا برجل يدخل على سلطاننا، فيقول لهم بخلاف ما نتكلم به إذا خرجنا من عندهم قال: (كنا نعد ذلك نفاقا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)]. * في هذا الحديث ما يدل المؤمن على أن لا يذكر السلطان في غيبته إلا بما يمكنه أن يذكره في حضرته. * وقوله: (كنا نعد ذلك نفاقا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فإنه لم يكن في زمنه سلطان إلا هو، فمن قال في غيبته ما لا يقول في حضوره فهو منافق. * واعلم أنها (111/ أ) واجبة لأمير المؤمنين، ولم ولاه فإذا احتاج الإنسان إلى المداراة بالكلمة اللينة والصبر على بعض ما يكره مداراة بذلك فإني أرجو أن لا يكون به بأس، وقد قال عز وجل لموسى عليه السلام في خطابه لفرعون: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}؛ فتكون كلمة المداراة أرجى لصلاحه.

-1428 - الحديث الرابع والعشرون: [عن ابن عمر، أنه ذكر الحرورية، فقال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية)]. * قد سبق في مسند علي رضي الله عنه. -1429 - الحديث الخامس والعشرون: [عن واقد بن محمد عن أبيه عن ابن عمر-أو ابن عمرو- قال: (شبك النبي - صلى الله عليه وسلم - أصابعه، وقال: كيف أنت يا عبد الله بن عمرو، إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم، وأمانتهم، واختلفوا فصاروا هكذا؟ قال: فكيف يا رسول الله؟ قال: تأخذ ما تعرف، وتدع ما تنكر، وتقبل على خاصتك، وتدعهم وعوامهم)]. * (حثالة كل شيء): رديئه وثفله، (ومرجت): اختلطت.

* وفي هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عبد الله عن مخالطة من هذه صفته، وأنذره بأنه يدركهم، وأشار عليه - صلى الله عليه وسلم - بأن يصلح خاصة نفسه ويترك العامة. * والذي أراه أنه أمره بذلك لحال رآها فيها، وإلا فالواجب على المؤمن في مثل تلك الحال أن يسعى في إصلاح الفاسد ما أمكنه بنص القرآن، قال الله عز وجل: {فأصلحوا بينهما}، ولا يترك الناس والهلاك وهو يقدر على إنقاذهم بنوع إنقاذ ما تبلغه قدرته، إلا أن يضعف عن ذلك فإن المتعين عليه حينئذ الاعتزال مخافة أن يفسد نفسه ولا يصلح به غيره فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: (إنك ضعيف). وقد فسرناه هناك فيكون قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذا الحال رآها فيه تخصه. -1430 - الحديث السادس والعشرون: [عن ابن عمر، (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ {والنجم} فسجد فيه)]. * قد سبق هذا الحديث.

-1431 - الحديث السابع والعشرون: [عن نافع، قال: أخيرني عبد الله: أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في (111/ ب) مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]. * في هذا الحديث جواز أن ينام الإنسان في المسجد، وإن جاز عليه حدوث الجنابة؛ فإن اجنب فارق. -1432 - الحديث الثامن والعشرون: [عن ابن عمر، أنه كان ينحر في المنحر، قال عبيد الله: منحر النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية: (أن ابن عمر كان يبعث بهديه من جمع من آخر الليل، حتى يدخل به منحر النبي - صلى الله عليه وسلم - مع حجاج، فيهم الحر والمملوك)]. * في هذا الحديث دليل على أن ابن عمر كان يتبع أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومواضعها. * وفيه دليل على صحة حج المملوك وإن كان الحج لم يجب عليه.

-1433 - الحديث التاسع والعشرون: [عن ابن عمر، (أن عبدا لابن عمر أبق فلحق بالروم، فظهر عليهم خالد فرده إلى عبد الله، وأن فرسا لعبد الله غار فظهروا عليه فردوه إلى عبد الله). وفي رواية: (عن نافع أن خالد بن الوليد حين بعثه أبو بكر اخذ غلاما كان فر من عبد الله بن عمر إلى الروم، وأخذه خالد فرده إليه)]. * في هذا الحديث أن ما يرجع إلى بلاد الكفار من المسلمين فهو على ملك صاحبه. * ومعنى (غار): ند وذهب. -1434 - الحديث الثلاثون: [عن ابن عمر، {فأتوا حرثكم أنى شئتم}، قال: يأتيها فيه. وفي رواية: (كان إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه، فأخذت عليه قوما، فقرأ سورة البقرة، حتى انتهى إلى مكان قال: أتدري فيما نزلت؟ قلت: لا. قال: أنزلت في كذا وكذا، ثم مضى).

وفي رواية عن ابن عمر: ({فأتوا حرثكم أنى شئتم} قال: يأيتها يعني في الفرج)]. * وإلى ذلك أشار البخاري لأنه أورد بعده في تفسير هذه الآية حديث جابر ابن عبد الله قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت: {نساؤكم حرث لكم}. * معنى قوله: (يأتيها فيه) أي في الفرج، ولا يجوز أن يصرف إلى غير ذلك، فإن الله تعالى علل في وطء الحائض أنه أذى أي قذر ولا يبلغ أذى الحائض هذا الأذى، ولأنه قال: {فأتوا حرثكم} فدل على موضع الحرث الذي تزكو فيه البذر. -1435 - الحديث الحادي والثلاثون: [عن ابن عمر، (أنه قرأ: {فدية طعام مساكين} فقال: هي منسوخة)].

* كان يجوز للإنسان أن يطعم ولا يصوم رمضان مع القدرة على (112/ أ) الصيام فنسخ بقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}. -1436 - الحديث الثاني والثلاثون: [عن ابن عمر، أنه (أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير، فقالا: إن الناس صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما يمنعك أن تخرج؟ قال: يمنعني أن الله حرم علي دم أخي المسلم، فقالا: ألم يقل الله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} قال: قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وكان الدين لله، وأنت تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله). وفي رواية: (خرج إلينا ابن عمر، ونحن نرجو أن يحدثنا حديثا حسنا، فبدأنا برجل يقال له حكيم فقال: يا أبا عبد الرحمن، كيف ترى في القتال في الفتنة؟ قال: ثكلتك أمك! إنما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يقاتل المشركين وكان الدخول في دينهم فتنة وليس بقتالكم على الملك)]. * هذا الحديث محمول من ابن عمر رضي الله عنه، على أنه لما رأى البيعة قد انعقدت لشخص علم أنه ليس لغيره أن يخرج عليه، وهذا هو الحق.

الحديث الثالث والثلاثون: [عن ابن عمر، قال: (لما قدم المهاجرون الأولون العصبة، موضعا بقباء، قبل مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فكان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآنا). وفي رواية: (كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد قباء، فيهم أبو بكر وعمر وأبو سلمة وزيد وعامر بن ربيعة رضي الله عنهم)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن القارئ أولى بالإمامة وإن كان مولى. -1438 - الحديث الرابع والثلاثون: [عن ابن عمر، قال: كنا في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نعدل بأبي بكر رضي الله عنه أحدا، ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم، ثم نترك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نفاضل بينهم). وفي رواية: (كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنخير أبا بكر،

ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان)]. * هذا الحديث هو الذي يحج به من يعدل بأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم غيرهم وليس لهؤلاء رابع إلا علي رضي الله عنه؛ وإن لم يكن مذكورا في هذا الحديث. * وهؤلاء الأربعة أفضل الصحابة (112/ ب)، وأفضلهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم. -1439 - الحديث الخامس والثلاثون: [عن ابن عمر، (أنه ذكر له أن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل-وكان بدريا- مريض في يوم جمعة، فركب إليه بعد أن تعالى النهار، واقتربت الجمعة وترك الجمعة)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن من له نسيب مريض فإنه يجوز له ترك الجمعة اشتغالا بالقيام على مريضه. * وفيه ما يدل على أن العالم إذا عرض له في وقته ما يستدل منه على مسألة من العلم ولا سيما مثل هذه؛ فإنه يستحب له أن يأتي الرخصة منها ويترك

العزيمة ليقتدي به المسلمون فيكون مقصده في ذلك أفضل من إتيانه العزيمة. -1440 - الحديث السادس والثلاثون: [عن ابن عمر، قال: (إذا مضت أربعة أشهر، يوقف حتى يطلق، ولا يقع عليه الطلاق، حتى يطلق، يعني المؤلي. قال: ويذكر ذلك عن عثمان رضي الله عنه، وعلي رضي الله عنه، وأبي الدرداء، وعائشة رضي الله عنهما، واثني عشر رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -). وعن ابن عمر، كان يقول في الإيلاء الذي سمى الله عز وجل: (لا يحل لأحد بعد الأجل، إلا أن يمسك بالمعروف، أو يعزم الطلاق كما أمر الله تعالى)]. * في هذا الحديث أن الرجل إذا آل من زوجته مدة هي أكثر من أربعة أشهر، ترك حتى تمضي عليه أربعة أشهر ثم يؤمر بالفيئة، والفيئة: الجماع: فإن هو جامع وإلا أمر بالطلاق كما قال ابن عمر، ولا يقطع الطلاق إلا بتطليقة، وعند غيره إن لم يطلق طلق عليه الحاكم. * والحكمة في ذلك أنه إذا آلى أكثر من أربعة أشهر؛ جوز الشرع أن يموت قبل أن تأتي الأربعة الأشهر ولا يكون لإيقافه قبل ذلك فائدة، فإن عاش حتى مضى من مدة الإيلاء أربعة أشهر وقف لها حينئذ ليفئ أو يطلق. * وفيه ما يدل على أن غير المؤلي أيضا يكره له أن يرجي جماع زوجته أكثر من

ذلك، ولذلك فلا يستحب للمسافر أن يتجاوز سفره عن أهله أكثر من أربعة أشهر. -1441 - الحديث السابع والثلاثون: [عن ابن عمر، كان يعطي زكاة رمضان بمد النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو قتيبة: قال لنا مالك: (مدنا أعظم من مدكم، ولا نرى الفضل إلا (113/ أ) في مد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ثم قال: وقال لي مالك: أو جاءكم أمير، فضرب مدا أصغر من مد النبي - صلى الله عليه وسلم - على أي شيء كنتم تعطون؟ قلنا: كنا نعطي بمد النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أفلا ترى أن الأمر إنما يعود إلى مد النبي - صلى الله عليه وسلم -)]. * في هذا الحديث أن السنة العمل على مد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو رطل وثلث، وهذا هو الذي عليه الجمهور. -1442 - الحديث الثامن والثلاثون: [عن ابن عمر، (أنه كان يبيت بذي طوى بين الثنيتين، ثم يدخل من الثنية التي بأعلى مكة، وكان إذا قدم حاجا أو معتمرا لم ينخ ناقته إلا عند باب المسجد، ثم يدخل فيأتي الركن الأسود فيبدأ به، ثم يطوف سبعا: ثلاثا سعيا، وأربعا مشيا، ثم ينصرف فيصلي سجدتين قبل أن يرجع إلى منزله، فيطوف

بين الصفا والمروة، وكان إذا صدر عن الحج أو العمرة أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة، التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينيخ بها). وعن ابن عمر: (أنه كان إذا أقبل بات بذي طوى، حتى إذا أصبح دخل، وإذا نفر مر بذي طوى وبات بها حتى يصبح، وكان يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك)]. * في هذا الحديث أن ابن عمر رضي الله عنه كان يتتبع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع أفعاله وأقواله رضي الله عنه. -1443 - الحديث التاسع والثلاثون: [عن ابن عمر، قال: (إن الناس كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية، تفرقوا في ظلال الشجر؛ فإذا الناس محدقون بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال -يعني عمر-. يا عبد الله، انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فوجدهم يبايعون؛ فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع). وفي رواية عن نافع: (أن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر، وليس كذلك ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار، يأتي ليقاتل عليه، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبايع عند الشجرة، وعمر لا

يدري بذلك، فبايعه عبد الله ثم ذهب إلى الفرس، فجاء به إلى عمر، وعمر يستلئم للقتال، فأخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبايع تحت الشجرة (113/ ب)، قال: فانطلق، فذهب معه حتى بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو الذي يتحدث الناس أن ابن عمر بايع قبل عمر) أخرجه البخاري تعليقا]. * في هذا الحديث كشف ما توهمه الناس من تقديم إسلام ابن عمر على إسلام أبيه، وإنما كان ذلك يوم الحديبية. * ومعنى قوله: (يستلئم) أي يلبس اللأمة بالهمز، وهي الدرع. -1444 - الحديث الأربعون: [عن ابن عمر: (أن المسجد كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبنيا باللبن وسقفه بالجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه عمر، وبناه على بنيانه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باللبن والجريد، وأعاد عمده خشبا، ثم عمره عثمان فزاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن كل عمارة كانت في وقتها على مقتضى

الحال واتساع الأيدي؛ فإن عثمان رضي الله عنه لما أمكنه ذلك شيد المسجد وعمده. * وأما قوله: (بالحجارة المنقوشة) فإن من البناء ما يضطر الصانع فيه إلى أن يؤلف بين صغار الحجارة وكبارها، فإذا تألفت بين صغار الحجارة وكبارها، فإذا تألفت على نسق واحد أشبه ذلك النقش؛ ولعل هذا من ذاك، وإلا فعثمان رضي الله عنه لم يكن ليفعل من زخرفة المساجد المكروهة ما قد نهي عنه لا سيما ما يلي المصلي. * والقصة: هي الجص. قال الخطابي: رواشي تشبه الجص وليس به. * وقد يحتج بظاهر هذا الحديث من يبيح زخرفة المساجد. -1445 - الحديث الحادي والأربعون: [عن نافع، أن ابن عمر كان إذا سئل عن نكاح النصرانية واليهودية؟ قال: (إن الله حرم المشركات على المؤمنين، ولا أعلم من الإشراك شيئا أكثر من أن تقول المرأة: ربها عيسى، وهو عبد من عباد الله عز وجل)]. * هذا محمول على أن ابن عمر كان يكره ذلك، لأنه ينبغي أن يعاشر أهل الدين، فأما تحريم ذلك فليس هو بمذهب معمول عليه.

-1446 - الحديث الثاني والأربعون: [عن ابن عمر، (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته، مردفا (114/ أ) أسامة، ومعه بلال، ومعه عثمان بن طلحة من الحجبة، حتى أناخ في المسجد، فأمره أن يأتي بمفتاح البيت فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه أسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة، فمكث فيها نهارا طويلا، ثم خرج فاستبق الناس، فكان عبد الله أول من دخل، فوجد بلالا وراء الباب قائما، فسأله: أين صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فأشار إلى المكان الذي صلى فيه. قال عبد الله: فنسيت أن أساله كم صلى من سجدة)]. * في هذا الحديث ما يدل على جواز صلاة النافلة في البيت. * وفيه دليل على حسن اتباع ابن عمر أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإنما قال: (فنسيت أن أساله كم صلى) لأنه أراد أن يتبين عدد الركعات التي صلاها. -1447 - الحديث الثالث والأربعون: [عن ابن عمر، قال: (كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا

نرفعه)]. * في هذا الحديث دليل على أنه يجوز للمجاهد أن يأكل مثل هذه الأشياء ولا يرفعها إلى المقسم إلا أنه إذا قطف من ذلك شيئا يفضل عن مأكوله؛ فإنه يرده في مقسم المسلمين. -1448 - الحديث الرابع والأربعون: [عن نافع، قال: (كان ابن عمر يجمع بين المغرب والعشاء بجمع، غير أنه يمر بالشعب الذي أخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فينتفض ويتوضأ ولا يصلي حتى يصلي بجمع)]. * في هذا الحديث تتبع ابن عمر لآثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * والشعب: كالزقاق بين الجبلين، أو كالدرب بين الدور إلا أنه لا ينفذ. * وقوله: (فينتقض) وهو كناية عن الحركة لقضاء الحاجة. -1449 - الحديث الخامس والأربعون: [عن نافع، قال ابن عمر: (رجعنا من العام المقبل، فما اجتمع منا اثنان على

الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله، فسألت نافعا: على أي شيء بايعهم؟ على الموت؟ قال: لا، بايعهم على الصبر)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن العهد بالشيء إذا مضى عليه عام فإنه جدير أن ينسى. * وقوله: (كانت رحمة من الله) يعني البيعة تحت الشجرة. -1450 - الحديث السادس والأربعون: [عن ابن عمر، قال: (لقد حرمت الخمر، وما بالمدينة منها شيء). وعن ابن عمر قال: (نزل تحريم الخمر، وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة، ما فيها شراب العنب)]. * هذا الحديث قد سبق وتقدم الكلام (114/ ب) عليه. -1451 - الحديث السابع والأربعون: [عن ابن عمر، قال: (أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بيت فاطمة رضي الله عنها فلم يدخل

عليها، وجاء علي رضي الله عنه فذكرت ذلك له، فذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إني رأيت على باباها سترا موشيا. وقال: مالي والدنيا. فأتاها علي رضي الله عنه فذكر ذلك لها، فقالت: ليأمرني فيه بما شاء، قال: ترسل به إلى فلان. أهل بيت بهم حاجة)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى مقام فاطمة رضي الله عنها أرفع من أن تضع من الدنيا بستر مخطط إلا أنها لشرف مقامها عنده لم يفاجأها بالإنكار عليها؛ لكنه رجع فدل ترك إنكاره على جواز استعمال ذلك إذ لو كان حراما لهتكه، فلما سأله علي عليه السلام عن موجب إعراضه قال: (ما لي والدنيا) أي أن فاطمة مني. وكان من فقهها وعقلها أنها لم تبادر إلى تحريقه ولا إلى إفساده كما يفعله الجهال؛ ولكنها قالت: ليأمرني فيه بما شاء. فقال: (أن تبعث به إلى قوم ذوي حاجة) أي لينتفعوا به في وقاية برد من فراش أو وطاء أو لبس؛ إذ هي لم تستعمله في مثل ذلك إنما كان سترا معلقا في موضع لا يضر زواله، فأمرها أن تبعثه إلى من ينتفع به انتفاعا لازما. * والموشي: هو المخطط بألوان شتى، وكل منسوج على لونين فصاعدا موشي. -1452 - الحديث الثامن والأربعون:

[عن ابن عمر، (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج معتمرا، فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه، وحلق رأسه بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحا عليهم إلا سيوفا، ولا يقيم إلا ما أحبوا، فاعتمر من العام المقبل، فدخلها كما كان صالحهم، فلما أن أقام بها ثلاثا، أمروه أن يخرج، فخرج)]. * هذا طرف من حديث الحديبية، وسيأتي مشروحا إن شاء الله تعالى. -1453 - الحديث التاسع والأربعون: [عن ابن عمر، قال: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفناء الكعبة محتبيا بيديه، هكذا)]. * هذا يدل على قلة لحم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الرجل السمين لا يمكنه الاحتباء باليدين. * ويدل على جواز الجلوس بحيال الكعبة؛ فإن قوما كانوا يعظمونها فوق الحد المشروع ويقولون: لا نجلس عندها بل نقف.

-1454 - الحديث الخمسون: (115/ أ) [عن ابن عمر، قال: (أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فقال: (إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة). قال ابن عمر: فكنت معهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفرا فوجدناه في القتلى، ووجدنا فيما أقبل من جسده بضعا وسبعين بين طعنة ورمية). وفي رواية للبخاري عن ابن عمر: (أنه وقف على جعفر يومئذ، وهو قتيل قال: فعددت به خمسين، بين طعنة وضربة، ليس منها شيء في دبره)]. * في هذا الحديث دليل على أنه يستحب للإمام أن يعين على شخص إن هلك الأمير كان هو إلا أني أرى أن يسر لهذا في مثل زماننا لئلا يتوقع الناس حادثة للأول. * وفيه أيضا ما يدل على شجاعة جعفر، وأنه كان به بضع وسبعون جراحة كلها ليست في ظهره، فانظر إلى عزم ثبت عليه قلب حتى صبر على مثل هذا فما انثنى ولا انهزم، ومن روى خمسين فإنه ما استوفى العدد. -1455 - الحديث الحادي والخمسون:

[عن ابن عمر، قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عسيب الفحل)]. * قال أبو عبيد: العسيب، الكراء الذي يؤخذ على ضراب الفحل. قال: وإنما نهى عن هذا لأنه يكون تبعا لشيء ما وجد بعد، ولا اجتمع؛ ولأن مثل هذا يتسامح به الناس فبيع مثله من اللوم. -1456 - الحديث الثاني والخمسون: [عن ابن عمر، قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فمسحه). وفي حديث عثمان بن عمر: (فالتزمه). وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أسن وكبر، قيل: ألا نتخذ لك منبرا ... وذكر الحديث وفيه: فلما صعد حن الجزع، فنزل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فاحتضنه وساره بشيء)]. * في هذا الحديث من الفقه ما يدل على صحة نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه ما يحض المؤمنين على شوقهم إليه - صلى الله عليه وسلم - وألفهم إياه؛ لأنه إذا حن

الجذع إليه، فهم أحص بالشوق إليه، وإنما ضمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسكينا له؛ وذلك أنه كان يذكر الله عنده فلما ذكر الله عند غيره صاح. -1457 - الحديث الثالث والخمسون: [عن أسلم مولى عمر، قال: (سألني ابن عمر عن بعض شأنه؟ -يعني عمر- فأخبرته، فقال: ما رأيت أحدا قط بعد رسول (115/ ب) الله - صلى الله عليه وسلم - من حين قبض كان أجد وأجود حتى انتهى- من عمر رضوان الله عليه)]. * في هذا الحديث من الفقه أن عبد الله سأل أسلم عن حال عمر، ولا أراه سأله إلا عن الأشياء التي ربما خفيت على عبد الله. * ومعنى قوله: (كان أجد وأجود) فمعنى أجد أي أنه ما زال يلازم الجد ولا يروغ عنه إلى أن مات، ومعنى (أجود) فيحتمل معنيين: أحدهما: أجود من الجودة وهذا يتناول معاني كثيرة، والآخر: أجود من الجود السماح. -1458 - الحديث الرابع والخمسون: [عن ابن عمر، قال: (قدم رجلان من المشرق فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن من البيان لسحرا- أو إن بعض البيان

لسحرا)]. * في هذا الحديث دليل على فضل البيان، وأنه يبلغ في استجلاب القلوب إلى ما يشبه السحر. * وقد ذكر بعض العلماء أن البيان أفضل العلوم من حيث أن كل العلوم لا تدرك إلا به. قال الله عز وجل: {الرحمن (1) علم القرآن (2) خلق الإنسان (3) علمه البيان}؛ فبين بهذا الفرق بين المخلوق وغير المخلوق؛ لأنه لما ذكر القرآن فقال: {علم القرآن}، ولما ذكر الإنسان قال: {خلق الإنسان}؛ فبين أن الفرق بين المخلوق وغير المخلوق؛ ثم قال بعد ذلك: {علمه البيان}، والقرآن هنا هو البيان. قال سبحانه: {هذا بيان للناس}. وقوله: (لسحرا) وليس هو السحر الذي يأثم من يأتي به إلا أن يكون ذلك البيان في باطل، فأما إذا كان لحق فهو المبارك. -1459 - الحديث الخامس والخمسون: [عن ابن عمر، (أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان يبايعه: وأقر لك بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما استطعت).

وفي رواية عن عبد الله بن دينار، قال: (شهدت ابن عمر حيث اجتمع الناس على عبد الملك، كتب: إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الله بن عبد الملك أمير المؤمنين، على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت، وإن بني قد أقروا بمثل ذلك)]. * في هذا الحديث دليل أنه من الفقه جواز إمامة المفضول؛ فإن ابن عمر أفضل من عبد الملك بن مروان، وقد أقر له بالسمع والطاعة وكاتبه بذلك، وما كان ليفعل إلا ما له فعله. * وفيه جواز الاستثناء في الاستطاعة في (116/ أ) البيعة لقوله: (فيما استطعت). * وفيه أيضا أنه أخذ البيعة على بنيه، وهذا فلم يكن واجبا عليه ولا ضرورة؛ وإنما يعتبر فيه على مثل عبد الله بن عمر إذ كان صدرا في وقته؛ لأن ابن عمر الذي كان أبوه علما في الخلفاء إلى يوم القيامة، وكان عبد الله رضي الله عنه من أزهد الصحابة فإقراره هو كإقرار ألوف. -1460 - الحديث السادس والخمسون:

[عن عبد الله بن دينار، قال: (نظر ابن عمر إلى رجل يسحب ثيابه في ناحية المسجد، فقال: انظروا من هذا؟ قال إنسان: هذا محمد بن أسامة، فطأطأ رأسه وقال: لو رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأحبه)]. * في هذا الحديث دليل على أن من جر ثوبه لا للخيلاء لم يتناوله الوعيد الذي ورد في ذلك. * وفيه أيضا أنه إذا رأي أحدا على منكر في مثل ذلك المقام الذي يجمع الأشراف والأفاضل أن يسأل عنه قبل أن ينكر عليه ألا ترى إلى ابن عمر لما عرف أنه ابن أسامة أمسك عنه. -1461 - الحديث السابع والخمسون: عن ابن عمر قال: (كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - هيبة أن ينزل فينا شيء، فلما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلمنا وانبسطنا)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الرجل الصالح على ما كان من صلاحه في دينه

فهو ينبسط إلى أهله، وأنهم كانوا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخافون أن يفضي بهم ذلك الانبساط إلى بعض ما لا يسوغ فينزل القرآن في الواحد منهم. على أن انبساط الرجل إلى زوجته من مداعبة ولعب يظهر لها به رغبته فيها وحبه إياها مباح، وهو فيما أرى إذا حسن القصد به عبادة إن شاء الله. -1462 - الحديث الثامن والخمسون: [عن ابن عمر، قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضر لبادٍ)]. * وقد تقدم هذا الحديث في مسند ابن عباس. -1463 - الحديث التاسع والخمسون: [عن ابن عمر، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم)]. * في هذا الحديث من الفقه ما يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيقظ بهذا الكلام

همم الأبناء ليكونوا على آثار الآباء في المآثر والمناقب (116/ ب) من طاعة الله وعبادته، وأنه لما كان نبيا كريما تابعا في ذلك أباه يعقوب نبيا كريما، وكان يعقوب تابعا في ذلك أباه إسحاق نبيا كريما، وكان إسحاق تابعا في ذلك أباه إبراهيم نبيا كريما. كان يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم). -1464 - الحديث الستون: [عن ابن عمر، قال: (ما شبعنا حتى فتحنا خيبر)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن الصحابة كانوا في شدة وكانوا يجوعون ضرورة فلما أمكنهم شبعوا. -1465 - الحديث الحادي والستون: [عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أفرى الفرى: أن يري الرجل عينيه ما لم تريا)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الذي يكذب في منامه، يكذب لنفسه، فيكون قد بالغ في الكذب حتى كذب لنفسه؛ ونفسه تعلم أنه كاذب.

-1466 - الحديث الثاني والستون: [عن ابن عمر، قال: (أول مشهد شهدته الخندق)]. قد ضبط الخندق ابن عمر أول مشاهده، فلو نسب إليه مشهد قد كان قبله، كان بذكر ذلك باطلا. -1467 - الحديث الثالث والستون: [عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما). قال: وقال ابن عمر: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله)]. * في هذا الحديث ما يدل على تعظيم أمر الدم، وقد ذكرناه في مسند ابن مسعود وغيره. * وقوله: (إن من ورطات الأمور) الورطات: جمع ورطة، وهي كل بلاء لا يكاد صاحبه يتخلص منه.

-1468 - الحديث الرابع والستون: [عن ابن عمر، قال: (رأيتني مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، بنيت بيدي بيتا يكنني من المطر، ويظلني من الشمس، ما أعانني عليه أحد من خلق الله عز وجل). وعن ابن عمر، قال: (ما وضعت لبنة على لبنة منذ قبض النبي - صلى الله عليه وسلم -)]. * في هذا الحديث ما يدل على جواز البناء، ويدل على أن المستحب الاقتصار منه على ما يكفي. ويدل على أنه قد كان في ابن عمر من التأني ما يعمل كلما يصلح للبيت. * وقوله: (ما وضعت لبنة على لبنة منذ قبض النبي - صلى الله عليه وسلم -) يدل على زهده واقتناعه (117/ أ) بما كان يسكنه. -1469 - الحديث الخامس والستون: [عن سعيد بن عمرو، قال: (دخل الحجاج على ابن عمر، وأنا عنده، فقال: كيف هو؟ قال: صالح؟ قال: من أصابك؟ قال: أصابني من أمر بحمل السلاح، في يوم لا يحل فيه حمله. يعني الحجاج). وعن سعيد بن جبير، قال: (كنت مع ابن عمر حين أصابه سنان الرمح في أخمص قدمه؛ فلزقت قدمه بالركاب، فنزلت فنزعتها، وذلك بمنى فبلغ الحجاج فجاء يعوده، فقال الحجاج: لو نعلم من أصابك؟ فقال ابن عمر:

أنت أصبتني، قال: وكيف؟ قال: حملت السلاح في يوم لم يكن يحمل فيه، وأدخلت السلاح الحرم، ولم يكن السلاح يدخل الحرم)]. * في هذا الحديث ما يدل على كراهة حمل السلاح في الحرم؛ لأنه لا يؤمن أن يجري منه مثل هذا. * وفيه أيضا أن من شرع في شيء فتطرق منه أذى جاز أن ينسب ذلك الأذى إلى من شرع ذلك. -1470 - الحديث السادس والستون: [عن مجاهد، قال: (قلت لابن عمر: أريد أن أهاجر إلى الشام، قال: لا هجرة، ولكن جهاد، فانطلق فاعرض نفسك، فإن وجدت شيئا وإلا رجعت). وفي رواية: (لا هجرة بعد الفتح)]. * في هذا الحديث المنع من أن يسمى الجهاد هجرة. * وفيه أيضا أن الغازي يذهب قاصدا بذهابه إلى أن تكون كلمة الله هي العليا؛ فإن وجد موادعة أو لم يصادف قتالا رجع معدا بفيئه لغير تلك الجهة.

-1471 - الحديث السابع والستون: [عن مجاهد عن ابن عمر، قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي، وقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر (يقول): وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.]. * في هذا الحديث ما يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حض على التشبه بالغريب؛ لأن الغريب إذا دخل بلدة لم ينافس أهلها في مجالسهم ولم يخرج من أن يروه على خلاف عادته في الملبوس، ولا يكون متدبرا معهم، وكذلك عابر السبيل فإنه لا يتدبر ولا يلج في الخصومات مع الناس ولا يشاحهم ناظرا إلى أن لبثه معهم أياما يسيرة. (117/ ب) فكل أحوال الغريب وعابر السبيل في الدنيا مستحبة أن يكون للمؤمن، لأن الدنيا ليست وطنا له، لأنها تحبسه عن داره، وهي الحائلة بينه وبين قراره. * وقول ابن عمر: (وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح) أي لا ينتظر بأعمال الليل الصباح بل بادر بالعمل؛ وكذلك (إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء) أي لا تؤخر أعمال الصباح إلى الليل، (وخذ من صحتك) أي اغتنم زمن القوة فاستسلف منك لك، واعلم أنه سيأتي عليك زمان طويل وأنت تحت

الأرض لا يمكنك أن تذكر الله عز وجل فبادر في زمن سلامتك. -1472 - الحديث الثامن والستون: [عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة (أن بني صهيب مولى بني جذعان ادعوا بيتين وحجرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى ذلك صهيبا، فقال مروان: من يشهد لكم على ذلك؟ قالوا: ابن عمر، فدعاه، فشهد لأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صهيبا بيتين وحجرة. فقضى مروان بشهادته لهم)]. * في هذا الحديث ما يدل على وجوب إقامة الشهادة، وقد يحمل على أنه يكون قد قضى بشهادته من بين القوم. -1473 - الحديث التاسع والستون: [عن عكرمة بن خالد، قال: سألت ابن عمر عن العمرة قبل الحج؟ قال: (لا بأس، اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الحج)]. * فيه ما يدل على جواز العمرة قبل الحج.

-1474 - الحديث السبعون: [عن ابن عمر، (أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فكان على بكر لعمر صعب، فكان يتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول أبوه: يا عبد الله، لا يتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بعنيه) فقال عمر: هو لك، فاشتراه، ثم قال: هو لك يا عبد الله بن عمر، فاصنع به ما شئت). وفي رواية: (كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فكنت على بكر صعب لعمر، فكان يغلبني فيتقدم أمام القوم، فيزجره عمر ويرده، ثم يتقدم، فيزجره عمر فيرده، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو لك يا عبد الله بن عمر، فاصنع ما شئت)]. * في هذا الحديث من الفقة أن عمر إنما كان يمنع ابنه من التقدم تصرفا في الجمل الذي هو ملكه؛ فاشتراه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووهبه لعبد الله، ليصنع بملكه ما شاء؛ ثم صار لابن عمر إذن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التقدم. -1475 - الحديث الحادي والسبعون: [عن ابن عمر، قال: (118/ أ) لما أسلم عمر، اجتمع الناس عند داره، فقالوا: صبأ عمر، وأنا غلام فوق ظهر بيتي، فجاء رجل عليه قباء ديباج،

فقال: صبأ عمر، فما ذاك؟ فأنا له جار، قال: فرأيت الناس تصدعوا عنه؛ فقلت: من هذا؟ قالوا: العاص بن وائل)]. * هذا الحديث قد تقدم في مسند عمر رضي الله عنه. -1476 - الحديث الثاني والسبعون: [عن الشعبي، قال: (كان ابن عمر إذا سلم على ابن جعفر- يعني عبد الله- قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين)]. * في هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سمى رجلا باسم كان ذلك الاسم أحسن أسمائه، ولذلك دعاه عبد الله بن عمر. -1477 - الحديث الثالث والسبعون: [عن ابن عمر، قال: (جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان فذكر محاسن عمله فقال: لعل ذلك يسوءك؟ قال: نعم. قال: فأرغم الله أنفك؛ ثم سأله عن علي فذكر محاسن عمله. فقال: هو ذاك بيته أوسط بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم -

ثم قال: لعل ذلك يسوءك؟ قال: أجل. قال: فأرغم الله أنفك. انطلق فاجهد على جهدك). وفي رواية: (جاء رجل من أهل مصر يريد حج البيت، فرأى قومًا جلوسًا، فقال: من هؤلاء القوم؟ قالوا: هؤلاء قريش، قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر، قال: ابن عمر، إني سائلك عن شيء فحدثني؛ هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: نعم، قال: تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد؟ قال: نعم، قال: تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال: الله أكبر. قال ابن عمر: تعال أبين لك، أما فراره يوم أحد، فأشهد أن الله عفا عنه، وأما تغيبه عن بدر؛ فإنه كانت تحته بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت مريضة. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن لك أجر رجل ممن شهد بدرًا وسهمه). وأما تغيبه عن بيعة الرضوان؛ فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده اليمنى: (هذه يد عثمان) فضرب بها على يده، وقال: (هذه لعثمان). ثم قال ابن عمر: اذهب بها (118/ب) الآن معك)]. *في هذا الحديث من الفقه ما يدل كل مؤمن على أن المتعين ذكر محاسن الصحابة ومناقبهم ومآثرهم دون ما شجر بينهم؛ كما فعل عبد الله بن عمر في ذلك، فهذه علامة من أراد الله به خيرًا من كل مسئول يسأل عن الصحابة؛ إذ الصحابة قد قضى الله لهم بالجنة؛ فلا يضرهم ما يقوله أحد

من ورائهم، وإنما ضر القائل نفسه، وأنه من أراد به شقاء أن يلهج بذكر ما شجر بينهم، متتبعًا فلتات عساها أن تكون جردت، أو شرارات قد كانت عن بعض ما يجده الإنسان في وقت موجدة أو مغيظة، فليس يضر الشقي إلا نفسه، ولا ينحس إلا حظه. - 1478 - الحديث الرابع والسبعون: [عن وبرة عن عبد الرحمن، قال: سألت ابن عمر متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارمه، فأعدت عليه المسألة؟ قال كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا)]. *هذا الحديث يدل على اتباع الإمام، وعلى أن الرمي بعد الزوال. - 1479 - الحديث الخامس والسبعون: [عن حرملة، (أن الحجاج بن أيمن بن أم أيمن، وكان أخا أسامة لأمه من الأنصار، فرآه ابن عمر لا يتم ركوعه، قال: أعد). زاد بن نمير: (فلما ولى قال ابن عمر: من هذا؟ قلت: الحجاج بن أيمن.

قال: لو رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا لأحبه)]. إنما قال: لأحبه لمكان أم أيمن، وهي حاضنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومولاته. -1480 - الحديث السادس والسبعون: [عن أبي عثمان النهدي، قال: (سمعت ابن عمر يغضب إذا قيل له: إنه هاجر قبل أبيه). قال ابن عمر: (قدمت أنا وعمر على النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة فوجدناه قائلًا؛ فرجعنا إلى المنزل، فأرسلني عمر، فقال: اذهب فانظر هل استيقظ فوجدته قد استيقظ فبايعته ثم انطلقت إلى عمر فجئنا نهرول فبايعه ثم بايعته)]. *إنما هاجر عمر إلى المدينة قبل هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكان قد خرج في عشرين راكبًا، وهاجر جهرًا، وإنما الإشارة بهذا الحديث إلى المبايعة بعد القدوم، وقد تقدم ذكرها. -1481 - الحديث السابع والسبعون: [عن عبد الرحمن بن أبي نعم، قال: كنت شاهدًا لابن عمر، وسأله رجل

عن دم البعوض؟ (119/أ) قال: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: انظروا إلى هذا، يسألني عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: هما ريحانتاي من الدنيا). وفي حديث شعبة، قال: (وأحسبه سأله عن المحرم يقتل الذباب؟ قال: يا أهل العراق، تسألونا عن قتل الذباب، وقد قتلتم ابن ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وذكره)]. *وفي هذا الحديث من الفقه احتفال ابن عمر بما جرى من قتل الحسين رضي الله عنه؛ حتى أنه لم يجب السائل عن مسألة من الفقه، بل قال له من التقريع ما قال، وإن كان ابن عمر قد علم أن ذلك الشخص بعينه ليس هو القاتل، وإنما يعني أنكم يا أهل العراق أزعجتموه عن قراره حتى إذا وصل إليكم خذلتموه وحاربتموه. -1482 - الحديث الثامن والسبعون: [عن خالد بن أسلم، قال: (خرجنا مع عبد الله بن عمر فقال أعرابي: أخبرني عن قول الله عز وجل:} والذين يكنزون الذهب والفضة {، فقال ابن

عمر: من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة؛ فلما نزلت جعلها الله طهرًا للأموال)]. *قد سبق شرح هذا في مسند أبي ذر، وبينا أن المال إذا أخرجت زكاته لم يلم صاحبه على جمعه. -1483 - الحديث التاسع والسبعون: [عن ابن عمر، أنها قد نسخت:} وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه {الآية3)]. *وقد روي عن: ابن مسعود، وأبي هريرة، وابن عباس، والحسن، وابن سيرين، وسعيد بن جبير في جماعة: أن هذه الآية نسخت بقوله تعالى:} لا يكلف الله نفساً إلا وسعها {. وقد ذهب آخرون إلى أنها محكمة، وفسروا هذا الذي يبدى ويخفى أنه الشك واليقين.

* وقد سبق ذكر هذه الآية وتفسيرها في مسند ابن عباس. -1484 - الحديث الثمانون: [عن مورق، قال: (قلت لابن عمر: وتصلي الضحى؟ قال: لا: قلت: فعمر؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر؟ قال: لا، قلت: فالنبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا إخاله)]. *إنما أخبر ابن عمر عما علم، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى الضحى، وهي من أفعال الخير فمن فعلها فهو خير له؛ ومن تركها فلا لوم عليه. -1485 - الحديث الحادي والثمانون: [عن الزبير بن عربي، قال: سأل رجل ابن عمر عن استلام (119/ب) الحجر؟ فقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبله. قال: أرأيت إن زحمت؟ أرأيت إن غلبت؟ قال: اجعل أرأيت باليمين، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبله].

*في هذا الحديث من الفقه أن السائل إذا كرر على العالم مسائل تتناول الاحتمالات جاز له أن يقطعه عن ذلك بقول يقوله. كما قال ابن عمر: (اجعل أرأيت باليمين) وقد سبق ذكر الاستلام وشرح معناه. * * *

أفراد مسلم من هذا المسند -1486 - الحديث الأول: [عن ابن عمر، (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعطي عمر بن الخطاب رضي الله عنه العطاء، فيقول له عمر: أعطه يا رسول الله أفقر إليه مني. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خذه فتموله أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك). قال سالم: فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحداً، ولا يرد شيئًا أعطيه)]. *قد سبق هذا الحديث في مسند عمر. -1487 - الحديث الثاني: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يأكلن أحد منكم بشماله،

ولا يشربن، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بها). وفي رواية: (إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل ويشرب بشماله). *في هذا الحديث من الفقه أن الله عز وجل لما خلق لابن آدم يدين، وكانت له أعماله الصالحة كتناول الغذاء وغيره جعل ذلك من شغل اليمنى، وكانت له أعمال لابد له منها تنفر النفس عنها كإزالة الأنجاس ومس الفرج وإماطة الأذى وغير ذلك؛ فجعل ذلك من شغل اليسرى؛ فإذا خالف الإنسان وأشغل اليسرى فيما خلقت له اليمنى كان ذلك مخالفًا لموضع الحكمة، وذلك من موافقة الشيطان، والشيطان يدعو من اتبعه إلى عمله. -1488 - الحديث الثالث: [عن ابن عمر، قال: (بات النبي - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة مبدأه وصلى في مسجدها)]. *ذو الحليفة: هو ميقات أهل المدينة، وهذا طرف من ذكر حج النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وسيأتي في مسند جابر مشروحًا إن شاء الله تعالى.

-1489 - الحديث الرابع: [عن ابن عمر، قال: (غدونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منى إلى عرفات، منا الملبي، ومنا المكبر). وفي رواية: (فمنا المكبر ومنا المهلل (120/أ)، فأما نحن فنكبر، قال: قلت: والله، لعجبًا منكم؛ كيف لم تقولوا له: ماذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع؟)]. *كأنه يشير بالتكبير إلى أنه يذكر الله عز وجل فإذا رأى شيئًا من البدن يساق للهدى كبر الله. والتلبية: هي شأن المحرم. -1490 - الحديث الخامس: [عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، وهو يأزر بين المسجدين كما تأزر الحية إلى جحرها)]. *في هذا الحديث من الفقه ان الله تعالى أظهر الإسلام غريبًا؛ وكان في نأنأة، ثم إنه أظهره على الدين كله والمشركون راغمون. فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه سيعود غريبًا

كما بدأ غريبًا، وهذا إنما يكون إذا انقلبت الأمور، ومات العلماء، ودرست السنن، وظهرت البدع، وكانت أشراط الساعة، وإن آثار ذلك ومقدماته لائحة بادية، والله تعالى يتدارك عباده برأفته. *وقوله: (يأزر بين المسجدين). قال أبو عبيد: يأزر يعني ينضم ويجتمع بعضه إلى بعض. قال رؤبة: فذاك بخال أروز الأرز. أي لا ينبسط للمعروف ولكن ينضم بعضه إلى بعض. وقوله: (بين المسجدين) قد وعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الدجال لا يدخل مكة ولا المدينة، وهما الكعبة ومسجده، فلعله يعني بذلك سلامة البلدين من الفتن. -1491 - الحديث السادس: [عن ابن عمر، قال: (مررت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي إزاري استرخاء، فقال: (ياعبد الله، ارفع إزارك) فرفعته. ثم قال: (زد) فزدت، فما زلت أتحراها بعد. فقال بعض القوم: إلى أين؟ فقال: أنصاف الساقين)]. *في هذا الحديث حد المكان الذي هو نهاية رفع الثوب.

-1492 - الحديث السابع: [عن نافع، قال: (جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع، حين كان من أمر الحرة ما كان من زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثًا، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: من خلع يدًا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة- مات ميتة جاهلية). وفي رواية: (من نزع يدًا (120/ب) من طاعة؛ فإنه يأتي يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وهو مفارق للجماعة فإنه يموت ميتة الجاهلية)]. *في الحديث ما يدل على أن العالم إذا أكرمه متسلط لا عن إذن إمام استحب للعالم أن يظهر إباء تلك الكرامة لقول ابن عمر: (لم آتك لأجلس). *وقوله: (من خلع يدًا من طاعة) فإن طاعة هنا نكرة إلا أن المراد بها طاعة الإمام فهي في معنى المعرفة. *وقوله: (من مات وليس في عنقه بيعة) أي لا إمام له، وهذا يدل على أنه لا يسوغ أن يظل المسلمون أكثر من ثلاثة أيام مدة الشورى إلا وفي أعناقهم بيعة لإمام يرجعون إليه.

*وفي هذا ما يدل على أن جمع كلمة المسلمين بإمامهم. -1493 - الحديث الثامن: [عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير اسم عاصية، وقال: (أنت جميلة). وفي رواية: (أن ابنة لعمر كان يقال لها عاصية فسماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميلة)]. *في هذا الحديث ما يدل على أن الأسماء التي تنصرف إلى ما تنفر القلوب عنه كعاصية ونافرة ونحو هذا؛ فإن المستحب العدول عنها إلى مثل جميلة وصالحة ونحو ذلك. -1494 - الحديث التاسع: [عن ابن عمر (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه، ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام، فدعا بها، ويده اليسرى على ركبتيه باسطًا عليه) وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان إذا قعد في التشهد وضع يده

اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثة وخمسين وأشار بالسبابة). ومن حديث: علي بن عبد الرحمن، قال: (رآني عبد الله بن عمر وأنا أعبث بالحصباء في الصلاة، فلما انصرف نهاني؛ فقال: اصنع كما كان - صلى الله عليه وسلم - يصنع، قال: كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى)]. *في هذا الحديث من الفقه أن تكون اليسرى مبسوطة؛ لأنها في وضعها معدة لما تقدم ذكره من إماطة الأذى ونحوه، واليمنى في الصلاة مشغولة بالإشارة في التشهد، وذلك فوق ما بين اليمنى واليسرى. *وفيه أيضًا دليل على الحساب بالأصابع (121/أ) جائز، ويتأتى بالأصابع في اليدين عشرة آلاف. -1495 - الحديث العاشر: [عن ابن عمر، قال: (خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه؛ فقال ابن عمر:

فأقبلت نحوه، فانصرف قبل أن أبلغه؛ فسألت: ماذا قال؟ فقالوا: نهى أن ينتبذ في الدباء والمزفت). وفي رواية: عن ثابت، قال: (قلت لابن عمر: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نبيذ الجر؟ قال: قد زعموا ذلك) قلت: أنهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: قد زعموا ذلك. وفي رواية: عن طاووس، (قال: كنت جالسًا عند ابن عمر فجاءه رجل فقال: أنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نبيذ الجر والدباء والمزفت؟ قال: نعم) وفي رواية قال: (وأراه قال: والنقير). وفي رواية: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحنتمة، قال: وما الحنتمة؟ قال: الجرة). وفي رواية: (عن زياد أن قال: قلت لابن عمر: حدثني بما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأشربة بلغتك، وفسره لنا بلغتنا، فإن لكم لغة سوى لغتنا! قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحنتم، وهي الجرة، وعن الدباء، وهي القرعة. وعن المزفت، وهو المقير، وعن النقير، وهي النخلة تنسج نسجًا، وتنقر نقرًا، وأمر ان ينتبذ في الأسقية). وعن سعيد بن المسيب قال: (سمعت ابن عمر، عند هذا المنبر، وأشار إلى منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألوه عن الأشربة؟ فنهاهم عن الدباء والنقير والحنتم، فقلت: يا أبا محمد! والمزفت؟ وظننا أنه نسيه، فقال: لم أسمعه يومئذ من ابن عمر، وقد كان يكره هذا).

قال أبو مسعود: وأخرجه مسلم أيضًا من حديث أبي الزبير عن ابن عمر قال: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الجر والدباء والمزفت). قال أبو الزبير: (وسمعت جابر بن عبد الله يقول: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجر والمزفت والنقير. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يجد شيئًا ينبذ له فيه، نبذ له في تور من حجارة). ومنه حديث سعيد بن جبير، قال (أشهد على ابن عمر وابن عباس أنهما شهدا أن رسول (121/ب) الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير). وعن ابن جبير قال: (سألت ابن عمر عن نبيذ الجر؟ فقال: حرم - صلى الله عليه وسلم - نبيذ الجر، قال: صدق ابن عمر، حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبيذ الجر، قلت: وأي شيء نبيذ الجر؟ قال: كل شيء يضع في المدر). وفي رواية عن ابن عمر: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجر والدباء والمزفت. وقال: انتبذوا في الأسقية)]. *هذا الحديث قد تقدم، وبينا أن النهي عن هذه الظروف كان لأجل خوف الاشتداد.

-1496 - الحديث الحادي عشر: [عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءًا من النبوة). وحكى أبو مسعود: أن مسلمًا أخرجه، وحكى أنه أخرجه أيضًا وفيه: (الرؤيا الصالحة من العبد الصالح)]. *هذا يختص بالرؤيا الصالحة من العبد الصالح. *وقوله: (سبعين جزءًا) من أفراد مسلم، وقد تقدم في المتفق عليه من حديث (عبادة) أنها ستة وأربعون جزءًا، وبينا هنالك وجهه.

* وأما قوله في هذا الحديث: (سبعون جزءًا)، فالذي أراه فيه أن السبعين هو العدد الذي انتهت إليه الكثرة من أعداد العرب، وقد تقدم شرحنا لذلك، فيكون قوله جزءًا من سبعين يعني به أقل من أكثر فليعلم أنها أمر شرعي، وأنها من أجزاء النبوة ودلائلها فهو رد على من ادعى غير ذلك. -1497 - الحديث الثاني عشر: [عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمتين، تعبر إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة). زاد أبو مسعود: (لا تدري أيها تتبع)]. *هذا الحديث يدل على أن المنافق ليس له أس يبني عليه؛ ولا عزيمة يثبت فيها، فهو يصير مع المسلمين باللفظ ويرجع إلى المشركين بالعقد. -1498 - الحديث الثالث عشر: [عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)].

*هذا الحديث يدل على فضل مسجده على جميع المساجد ما خلا المسجد الحرام؛ وإنما نقصت رتبة مسجده بالإضافة إلى الكعبة لموضع إضافة الكعبة إلى الله عز وجل. -1499 - الحديث الرابع عشر: [عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أحب أسمائكم إلى الله عز وجل" عبد الله وعبد الرحمن)]. *إنما كان هذان (122/أ) الاسمان أحب الأسماء إلى الله لما فيهما من ذكره أولًا؛ ولكونهما صدقًا؛ لو سمي الرجل شجاعًا ونحو ذلك فإنه اسم قد يصدق وقد يكذب بخلاف الاسمين، فإنهما صدق إذ كل تسمية إذا سميتها بعبد الله أو عبد الرحمن فقد صدقت في تسميتها بذلك. -1500 - الحديث الخامس عشر: [عن نافع، قال: (كان ابن عمر يستجمر بالألوة غير مطراة، وبكافور يطرحه مع الألوة، ويقول: هكذا كان يستجمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)].

يستجمر: بمعنى يتدخن، والألوة: العود، ويقال: ألوة وألوة (بفتح الألف وضمها). وما جعل الكافور معه؛ فأنه يزيده طيبًا ويعدل من حر ببرده. -1501 - الحديث السادس عشر: [عن ابن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صبر على لأوائها- يعني المدينة- كنت له شفيعا - أو شهيدًا- يوم القيامة). وأخرجه من حديث يحنس (إنه كان جالسًا عند عبد الله بن عمر في الفتنة، فأتته مولاة تسلم عليه، فقالت: إني أردت الخروج يا أبا عبد الرحمن، اشتد علينا الزمان، فقال لها عبد الله: اقعدي يا لكاع، فإني س-معت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يصبر على لأوائها وشدتها بعد، إلا كنت له شهيدًا- أو: شفيعا- يوم القيامة (يعني المدينة)]. *اللأواء: الشدة. وقد سبق شرح هذا الحديث، والمراد به أنه من أقام صابرًا فله هذا الأجر، فأما من أقام ولم يصبر فليس هذا له، وذلك أن المدينة لو أنها ذات

ثمار وكسب وتجارة وأنهار لكان المجاور بها يتهم فيقال: هذا لطيب المكان؛ فلما كانت ليس فيها ذلك خلصت نية المقيم فيها لأجل جوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة. *وقوله: (يا لكاع): يقال للرجل: يا لكع، ولكع الرجل إذا لؤم، واشتقاقه من اللكع وهو الوسخ. -1502 - الحديث السابع عشر: [عن ابن عمر: (أن رجلًا مر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبول، فسلم عليه، فلم يرد عليه)]. *هذا الحديث يعلم البائل حسن الأدب؛ فإنه ليس موطن كلام؛ وكذلك كل شيء يكون في معنى البول. -1503 - الحديث الثامن عشر: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحل للمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام)].

*قد سبق هذا الحديث في مسند أبي أيوب. -1504 - الحديث التاسع عشر: (122/ب) [عن ابن عمر، قال: (كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك)]. *في هذا الحديث من الفقه أن الداعي إذا دعى الله عز وجل واستعاذه من زوال نعمته؛ فإنما في ضمن دعائه أن يستعيذ بالله من أن يغير ما بنفسه لأن

القرآن نزل: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}؛ فيستعيذ من أن يغير ما بنفسه لئلا يزيل الله عز وجل ما أنعم به عليه. *وقوله: (وتحول عافيتك): أي أنك قد عودتني منك العافية، فلا تحولني إلى البلاء، ويكون في ضمن هذا أن من العافية التي يعافي الله بها عبده أن يسامحه ويساهله ولا يناقشه؛ وقد عود الله عبده ذلك فإذا أمر وقت عبده في عافية منه؛ فإنما ذلك عن مساهلة الله وسماحته لا عن براءة العبد وسلامته، فإذا استعاذ العبد من أن يحول عنه ما عوده إياه من هذه العافية؛ فقد احتظى بحظار من فضله عن سخطه. *وقوله: (وفجاءة نقمتك): أن النقمة إذا جاءت فجأة بغتة لم يكن هناك زمان يستدرك فيه، ولا وقت لإعتاب. *وأما قوله: (وجميع سخطك): ففي ذلك أنه لما كان في تعديد مساخط الله سبحانه نوع ترويع تستجدي له قلوب المؤمنين لإعتاب أجمل - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وعدل عن تفصيله إلى قوله عليه السلا: (وجميع سخطك). *ثم من حسن الترتيب، وبديع التصريف أن بدأ في الاستعاذة من تحول العافية؛ لأنه من لطف الله تعالى به إدامة العافية عليه، وقد حرس خصاله من الالتفات ثم اتبع ذلك بالتعوذ من فجاءة النقمة، وهي أن يفجأ بالنقمة من قبل منذرات تنذر ومؤذنات تؤذن وتشعر، فتسبق الاستغفار وتعجل عن الاعتاب؛ ثم اتبع ذلك بالتعميم من الاستعاذة من جميع سخطه أعاذنا الله سبحانه من ذلك وإياكم. -1505 - الحديث العشرون: [عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يا معشر النساء، تصدقن وأكثرن من

الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار. قال امرأة منهن جزلة: ما لنا أكثر أهل النار؟ قال: (تكثرن اللعن، وكفرن العشير، ما رأيت من (123/أ) ناقصات عقل ودين أغلب لذي اللب منكن، قالت: ما نقصان العقل والدين، قال: شهادة امرأتين بشهادة رجل، وتمكث الأيام لا تصلي)]. *قد سبق هذا الحديث في مسند ابن عباس. *وأما الجزلة: فإنه يقال رجل جزل وامرأة جزلة إذا كانت لهما قوة في الخطاب والرأي. -1506 - الحديث الحادي والعشرون: [عن ابن عمر، أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروح عليه إذا مل ركوب الراحلة؛ وعمامة يشد بها رأسه، فبينما هو يومًا على الحمار، إذ مر به أعرابي؛ فقال: ألست فلان بن فلان؟ قال: بلى، فأعطاه الحمار، وقال: اركب هذا، والعمامة، وقال: اشدد بها رأسك، فقال له بعض أصحابه غفر الله لك! أعطيت هذا الأعرابي حمارًا كنت تروح عليه، وعمامة كنت تشد بها رأسك فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن من أبر صلة الرجل أهل ود أبيه، بعد أن يولى). وأن أباه كان صديقًا لعمر رضي الله عنه)].

*في هذا الحديث من الفقه استحسان سؤال الرجل عن الرجل إذا لقيه في الطريق، فإنه لا يعدم من سؤاله فائدة من أن يعرف نسبه هل يتصل به أو يبعد عنه؛ أو يكون في نسبه من بينه وبينه دم ينحدر منه. *وفيه أيضًا إحسان الرجل إلى من بينه وبين أبيه معرفة ومودة، وإن بعد ذلك فإن ابن عمر أكرم هذا الأعرابي لأن أباه كان صديقًا لعمر. *وقوله: (بعد أن يولي) كناية عن الموت. *وفيه: إن وضع العمائم إنما كان لشد الرؤوس؛ ولأنها نفاية من الحرب والحر والبرد؛ لأنها إذا شدت بها الرؤوس كان منها شيء تحت الحنك، كان الفارس إذا ركض غير مشدودة بما ينتشر منها أو يخاف من سقوطها فتكون حافظة محفوظة. *وفيه أيضًا أنه من جنس تدبير الرجل أن يكون له ما يستريح به إلى ركوبه عن ركوب راحلته فيجمع في ذلك بين أن يريح بدنه من نفض الراحلة وبين ترويح راحلته في وقت ركوب حماره أو بغله. -1507 - الحديث الثاني والعشرون: [عن طاوس، قال: (أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس (123/ب) والعجز)].

*في هذا الحديث إثبات القدر، وأنه ليس للإنسان من الحيلة أن يدفع ما قدر عليه حتى العجز والكيس؛ فمن قدر له أن يكون كيسًا كان، ومن قدر له أن يكون عاجزًا كان؛ فهذا ينبغي أن يعمل به الرجل المسلم في أنه لا يلوم عاجزًا على عجزه ولا يحسد ذا كيس على كيسه إلا أنه في نفسه أن كان ممن قد بلي بالعجز فلا يستطرح إلى أنه قد قدر ذلك فيه فيترك الحيلة؛ بل ينبغي له أن يحرص على الانتقال إلى الكيس؛ لأن النفوس قد تحتج بهذا ومثله، ويأبى بذكر الإيمان بالقدر من عجزها، ويبين ذلك عليها بأنها لا تكون مستطرحة في الكسب والتطلع إلى الشهوات وغيرها محيلة بها على القدر، وإن كان قد قدر له الكيس فيحمد الله عز وجل. -1508 - الحديث الثالث والعشرون: [عن ابن عمر، قال: انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقتين، فستر الجبل فلقة، وكانت فلقة فوق الجبل، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم اشهد)]. *قد سبق هذا الحديث في مسند ابن مسعود. *وفيه أيضًا أن الله سبحانه وتعالى لما فلق القمر فلقاه فلقًا ظاهرًا بحيث حصل الجبل بين فلقتيه؛ لئلا يظن ظان أن ذلك كان على سبيل توهم أو

تحيل؛ لأن الحيل قد تكون سمكة الفراسخ الكثير فإذا حصل في كل جانب منه فلقة من القمر ثبت عند كل ناظر له بعينه وسامع لذلك عنه من الثقة عنده مما لا يتمارى فيه ولا يشك من أجل بعد ما بين الفلقتين. -1509 - الحديث الرابع والعشرون: [عن وبرة بن عبد الرحمن، قال: (كنت جالسًا عند ابن عمر، فجاءه رجل فقال: أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف؟ فقال: نعم. فقال: ابن عباس يقول: لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف، فقال ابن عمر: قد حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف فبقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تأخذ أو بقول ابن عباس، إن كنت صادقًا؟). وفي رواية: (سأل رجل ابن عمر: أطوف بالبيت وقد أحرمت بالحج؟ فقال: وما يمنعك؟ فقال: إني رأيت ابن فلان يكرهه، وأنت أحب إلينا منه. رأيناه قد فتنته الدنيا، فقال: وأينا- أو قال: وأيكم لم تفتنه الدنيا؟ ثم قال: رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحرم بالحج، وطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة؛ فسنة الله ورسوله (124/أ) أحق أن تتبع، من سنة فلان، إن كنت صادقًا)].

* في هذا الحديث جواز القدوم قبل الإفاضة. *وأما قول القائل: (فتنته الدنيا) فغير مستقيم؛ لأن ابن عباس كان من أعلم الناس وأفضلهم؛ والقائل عنه هو المفتون. *وقول ابن عمر: (وأينا لم تفتنه الدنيا) ليس هنا وفاقًا للذاكر عن ابن عباس ما ذكر؛ ولكنه آنس منه أن القائل أراد بذلك تزكية ابن عمر على ابن عباس، فقال: (وأينا لم تفتنه الدنيا)، وعلى نفس الفتنة ينصرف إلى الامتحان فقد يخلص الانسان منها ما لم تزراه، وقد يهلك بها كثيرًا إلا أن ابن عباس وابن عمر كان بحمد الله مما لم يفتتن بحال. -1510 - الحديث الخامس والعشرون: [عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، ألا إنها العشاء، وهم يعتمون بالإبل). وفي حديث وكيع، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء؛ فإنها في كتاب الله العشاء، وإنها تعتم بحلاب الإبل). وفي رواية البخاري من حديث عبد الله بن مغفل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاة المغرب. قال: والأعراب تقول: هي العشا)].

*في هذا الحديث ما يدل على أنها لا تسمى العشاء العتمة. قال ابن قتيبة: عتمة الليل هو ظلامه، وإنما سميت عتمة باسم عتمة الليل وهي ظلامه، نقول: إنما يقع هذا الاسم على حلاب الإبل لا على الصلاة. -1511 - الحديث السادس والعشرون: [عن مصعب بن سعد، قال: دخل ابن عمر على ابن عامر يعوده، وهو مريض، فقال: ألا تدعو الله لي يا ابن عمر؟ قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)، وكنت على البصرة]. *في هذا الحديث من الفقه أن عبد الله بن عمر لما عاد عبد الله بن عامر كان راضيًا عنه إن شاء الله؛ فلذلك عاده في مرضه. *وفيه أيضًا من الفقه أنه لما سأله أن يدعو له حذره من أشياء يدخل مثلها كثيرًا على الأمراء، فمنها، أنه ذم عنده الغلول، فلم يقل له إنك قد غللت؛ فالذي قاله على سبيل الموعظة؛ لا على سبيل الشهادة عليه، وعلى (124/ب) هذا فإن الاستحباب لكل عامل يكون على عمل من الأعمال للمسلمين أن يكون ذا عيش مقتصد لئلا يتسع من ماله فتسبق الظنون إلى أنه

قد اتسع من مال المسلمين. -1512 - الحديث السابع والعشرون: [عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدًا يمر بين يديه؛ فإن أبى فليقاتله؛ فإن معه القرين)]. *هذا الحديث قد تقدم الكلام عليه، والمراد بالقرين الشيطان. -1513 - الحديث الثامن والعشرون: [عن ابن عمر، قال: (بينما نحن نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ قال رجل في القوم: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرًة وأصيلًا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من القائل كلمة كذا وكذا؟) قال رجل من القوم: أنا يا رسول الله قال: (عجبت لها فتحت لها أبواب السماء). قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك)]. قد سبق هذا الحديث. وأشير إليه هاهنا فأقول: إن قوله: (الله أكبر كبيرًا)

قد تقدم قولنا فيه، وإنما مما ذكر سيبويه: أن تعني قول الله أكبر أي الله كبير، فإذا قلت: الله أكبر كبيرًا، فإنما تنصب كبيرًا مصدرًا وقوله الحمد لله كثيرًا، فإن كثيرًا هاهنا صفة لمصدر، كما أن كبيرًا يجوز أن يكون صفة أو صفة لمصدر أيضًا، فيكون معناه مسمى كبيرًا. * (ويكون الحمد لله حمدًا كثيرًا) يريد به أن الحمد لله حمدًا كثيرًا من حيث استحقاقه فلا يزل استحقاقه لذلك يتصل النطق به، ويكثر فبهذا يكون الحمد أبدًا كثيرًا، وكثيرًا فعيل، وقد تأتي بمعنى فاعل فيكون كثيرًا بمعنى كاثر. *وقوله: (سبحان الله بكرة وأصيلًا) أي ليلًا ونهارًا، وذلك لأن سواد الليل يسبح لله بلسان حاله، وبياض النهار يسبح لله أيضًا بحاله عند مشاهدة اختلافهما، إذ كل منهما يدع عند إخفاء الآخر موصمين بوصمات الحدث، مشوهين بتشويهات التبدل والاختلاف، ويجدد كل واحد منهما عند فناء الآخر في محله كله فهما بتبيان بنقصهما فضل خالقهما، وبالعزة فيهما كان مبدعهما والبكرة والأصيل: فهما أطيب أوقات الليل والنهار، وإذا اشرأبت النفوس إلى ذين الوقتين دعتها العقول إلى ما في مطاويهما من العور (125/أ) والعيوب والنقص، فكان التسبيح لله بكرًة وأصيلًا من أحسن ما تنهض إليه عقول المؤمنين وأفهام الصديقين.

-1514 - الحديث التاسع والعشرون: [عن علي بن عبد الله البارقي، أن ابن عمر علمهم؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفر، كبر ثلاثًا، ثم قال: {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. وإنا إلى ربنا لمنقلبون}، اللهم؛ إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا مشقة سفرنا، واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل). وإذا رجع قالهن، وزاد فيهن: (آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون)]. *قوله: {سبحان الذي سخر لنا هذا} أي ذلل لنا هذا المركوب. *وقوله: {مقرنين} أي مطيقين، {إنا إلى ربنا لمنقلبون} أي راجعون للآخرة. *إنما بتكبيره ثلاثًا، فإنه عليه السلام لما كبر ثلاثًا شرع التكبير لكل مسافر عند توجهه إليه ليصدم بقوله: (الله أكبر) ما يتهجسه في سره من هذه المشقة، وحوادث السفر، وأخطاره والبعد عن الوطن وإنهاره، فاستعان على ذلك كله بتكرير التكبير، فإنه إذا قال: (الله أكبر) عندما يتهجسه من مخاوف

السفر صغر كل ذلك، وكل كثير منها عند قول المؤمن: (الله أكبر)، ولذلك إذا ذكر ما وراءه من الأهل والوطن ورأى أن سفره لله في سبيله، فقال: (الله أكبر مما نزلت وأرى، والله أكبر مما أخاف من بين يدي) فقد تدرع بدرع حصينة في ذلك، فأما تكريره التكبير ثلاثًا: فواحدة لما بين يديه، وواحدة لما وراءه، وواحدة لحاله في نفسه. *وقوله: {سبحان الذي سخر لنا هذا} أي ذلل لنا هذا المركوب، وذلك أن أول نعم الأسفار أن ذلل الله تعالى حيوانًا ذا أبد يحمل نقل الآدميين ولا يتجاوز أبده إلى الحد الذي يقهر راكبه، فجعل الله عز وجل ما سخر من الدواب بقوة تنفع راكبها ولا تبلغ إلى الحد الذي يقهره عن إذلاله. *وقوله: {مقرنين} مطيقين، {وإنا إلى ربنا لمنقلبون} أي راجعون في الآخرة، ومعناه إنه لما توجه إلى السفر كان من أعظم (125/ب) الأشياء خطورًا في قلبه ذكر انقلابه إلى أهله في الغالب، فأنزل الله عز وجل ما أنزل في هذه الآية من ذكره. {وإنا إلى ربنا لمنقلبون} يعني أن المؤمنين إذا ذكروا منقلبهم إلى ربهم كان ذلك متلاشيًا معه ذكر ميلهم إلى أهلهم وأوطانهم في هذه الدنيا، ولذلك فلم يقل الله: فإنا إلى مواطننا في الآخرة منقلبون؛ لأن تلك المواطن مخلوقة أيضًا فأنزل الله سبحانه، وإنما إلى ربنا لمنقلبون أي حالتنا إذ لا مساواة بين الخالق والمخلوق عند المؤمن في حال. *وأما قوله بعد هذا: (نعوذ بك من وعثاء السفر) بعدما قدم تقدم ذكره؛ فإن ذلك يدلل على إحكام القاعدة في العقيدة، وبناء الأمر على أساس الحق لا يمنع الاستعاذة من كل مكروه، ألا تراه - صلى الله عليه وسلم - بعدما كرره من التكبير

الذي هدم به كل خاطر يعرض من الوسواس فيما بين يدي المسافر وما وراءه. وذكر الإيمان بالمنقلب إلى الآخرة بعد شكر الله على ما أحال له من الدواب التي لم يكن مقرونًا لا يدها أتبع ذلك بأن قال: (أعوذ بك من وعثاء السفر)، وعثاء السفر: هي شدته. (وكآبة المنظر): سوء الهيئة والانكسار من الحزن، و (المنقلب): هو الرجوع. *وفي هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليغفل عن ربه في حال سفره، ولا في حال قدومه، ولا مقامه ولا ظعنه؛ ولا ليله ولا نهاره، وكان في كل حال من حاله له ذكر يخصه، وهكذا ينبغي لكل مسلم؛ فإن الله تعالى هو الصاحب في السفر، وهو الخليفة في الأهل، والسلامة في السفر منه سبحانه وهذا معنى ما تقدم. -1515 - الحديث الثلاثون: [عن ابن عمر، (أنه أمر رجلًا؛ إذا أخذ مضجعه، قال: اللهم أنت خلقت نفسي، وأنت تتوفاها، لك مماتها ومحياها، إن أحييتها فاحفظها، وإن أمتها فاغفر لها. اللهم إني أسألك العافية). فقال له رجل: أسمعت هذا من عمر؟ قال: من خير من عمر، من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)].

*في هذا الحديث من الفقه أن الإنسان إذا أوى إلى فراشه فينبغي له أن يجدد الإيمان قبل نومه كما أنه إذا استيقظ من نومه يجدد الإيمان عند هبوبه. *وقوله: (اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها) فيؤمن في نفسه أنه ذو (126/أ) أول وآخر، وأن الله خلقه أولًا وهو يتوفاه آخرًا. *وقوله: (لك مماتها ومحياها) أي لك محياها ومماتها؛ غير أنه أراد استواء القرائن. وقد بينا هذا المعنى فيما سبق. -1516 - الحديث الحادي والثلاثون: [عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ضرب غلامًا له حدًا لم يأته، أو لطمه، فإن كفارته أن يعتقه). وفي رواية: (من لطم مملوكه فكفارته أن يعتقه)]. *المراد بهذا الحديث من ضرب عبدًا ظلمًا في غير موضع الضرب؛ فإن كفارة ذلك أن يحرره، فلا يجعل عليه يدًا أخرى فيما بعد من أجل ظلمه مكانه لما بسط يده إليه ظالماً له، كانت الكفارة رفع يديه عنه. -1517 - الحديث الثاني والثلاثون: [أخرجه أبو مسعود بكماله فيما انفرد به مسلم عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -

أنه قال: (إن الفتنة تجيء من هاهنا. وأومأ بيده نحو المشرق لا من حيث يطلع قرن الشيطان). وهذا المعنى قد أخرجه البخاري من طرق عن ابن عمر ثم زاد مسلم: (وأنتم يضرب بعضكم رقاب بعض، وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ، فقال الله له: {وقتلت نفسًا فنجيناك من الغم وفتناك فتونًا}]. *هذا الحديث يتضمن التهديد والوعيد لمن أقدم على القتل بغير حق؛ لأن موسى عليه السلام قتل نفسًا تستحق القتل لكن بغير إذن فعوتب، فالمعنى إذا كان هذا نبيًا معظمًا، وقد عوتب على هذا، فكيف بكم وأنتم يضرب بعضكم رقاب بعض؟!. آخر مسند عبد الله بن عمر رضي الله عنه

مسند أنس بن مالك رضي الله عنه

(126/ أ) مسند أنس بن مالك رضي الله عنه أخرج له في الصحيحين ثلاثة مائة حديث وثمانية عشر حديثا المتفق عليها منها مائة وثمانية وستون حديثا وانفرد البخاري بثمانين، ومسلم بسبعين -1518 - الحديث الأول: (من المتفق عليه): [عن أنس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من سره أن يبسط عليه رزقه، أو ينسأ في أثره، فليصل رحمه)]. في هذا الحديث من الفقه: * أن الرحم هي أولى الخلق بالبر؛ فإذا أبرها الإنسان فقد وضع البر في موضعه، فرجا منه أن يضع فيما وراء الرحم مثل ذلك من البر، وكان جديرا بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بسط الرزق وطول العمر، ولما كان هذا البار حافظا للأمانة التي كلفها من بر الرحم ناسب هذا أن يوسع له رزقه،

(126/ ب)، وأن يؤتمن على كثرة ليصرفه في وجوهه، ويضعه في مواضعه. * وقوله: (أو ينسأ في أثره) إنما زادت صلة الرحم في العمر لأنه إذا جماعة من ذوي رحمه كان حفظ أعمارهم بسببه، فكأنه قد طال عمره بطول تلك الأعمار؛ لأنه من القوم. -1519 - الحديث الثاني: [عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة). وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال -يعني بالمدينة-: (بارك لهم في صاعهم، وبارك لهم في مدهم)]. * قد تقدم هذا الحديث في مواضع.

-1520 - الحديث الثالث: [عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا قدم العشاء فابدءوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم)]. * قد سبق بيان هذا الحديث. -1521 - الحديث الرابع: [عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا). زاد ابن عيينة وغيره: (ولا تقاطعوا). وفي رواية: (ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث). وفي رواية: (لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا)].

* قال أبو عبيد: المدابرة: المصارمة والهجران، مأخوذ من أن يولي الرجل صاحبه دبره ويعرض عنه، وهو التقاطع، وقد سبق في مسند أبي أيوب بيان هذا الحديث. -1522 - الحديث الخامس: [عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاءه رجل، فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: (اقتلوه)]. * كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعث ابن خطل مع رجل من الأنصار في وجه من الوجوه، فقتل الأنصاري، فأهدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دم ابن خطل. * وقد اختلف أهل العلم هل يعصم الحرم من القتل الواجب وإقامة الحد على الجاني؟ فإن قلت: إنه يعصم كان ما جرى من قتل ابن خطل خاصا

بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وإن قلت: إنه لا يعصم فلا كلام. * وأما دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه المغفر، وذلك ينافي حال الحرمين، فإن العلماء اختلفوا فمن أراد دخول مكة لحاجة لا تتكرر، هل يجب عليه دخولها بإحرام أم لا؟ وعن الشافعي قولان، وعن أحمد روايتان. -1523 - الحديث السادس: (127/ أ): [عن أنس، قال: (قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وأنا ابن عشر، ومات وأنا ابن عشرين، وكن أمهاتي يحثثنني على خدمته، فدخل علينا دارنا، فحلبنا له من شاة داجن، وشيب له من بئر في الدار، فشرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له عمر وأبو بكر عن شماله: يا رسول الله، أعط أبا بكر، فأعطاه أعرابيا عن يمينه، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الأيمن؛ فالأيمن). وفي رواية: (أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرب لبنا، وأتى داره، فحلبت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاة، فسقيت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتناول القدح فشرب، وعن يساره أبو بكر، وعن يمينه أعرابي، فأعطى الأعرابي فضلته، ثم قال: (الأيمن؛ فالأيمن). وفي حديث آخر: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بلبن قد شيب بماء، وعن يمينه أعرابي، وعن يساره أبو بكر، فشرب ثم أعطى الأعرابي وقال: (الأيمن؛ فالأيمن). وفي رواية: (أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دارنا هذه، فحلبنا له شاة لنا، ثم شبته من ماء بئرنا هذه، فأعطيته، وأبو بكر عن يساره، وعمر تجاهه، وأعرابي عن يمينه، فلما فرغ قال عمر: هذا أبو بكر، فأعطى الأعرابي وقال:

(الأيمنون، الأيمنون، الأيمنون). قال أنس: فهي سنة، فهي سنة، فهي سنة)]. * في هذا الحديث دليل على جواز رواية الصبي، لقول أنس: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وأنا ابن عشر سنين. * وقوله: (وكن أمهاتي) إنما قال: (وكن) فأتى بضمير النسوة قبل ذكرهن على معنى أنه قد كان في وهمه أن يذكرهن فلذلك أتى بقوله: (كن) ويعني بأمهاته: أمه، ومن كان في معناها كالخالة، والعمة، والجدة، على أنه قد كان يدعو سائر النساء بالأم. * وقوله: (يحثثنني على خدمته) فهذا إخبار عن دينهن، وأنهن كن من الذين بحيث تود كل واحدة منهن خدمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسها لو أمكنها؛ فلما كن ممنوعات بالشرع حثثن الأبناء على خدمته. * وفيه ما يدل على أن الصبي يذكر الشيء يتفق فيه علامة أو أمارة تذكره ذلك الأمر لقوله: (فحلبنا له من شاة داجن)، والداجن: الشاة المقيمة في المنزل. * وفيه أيضا الندب إلى شوب اللبن بالماء، والذي أراه في هذا (127/ ب) أنه نوع من التداوي؛ فإنه شرب اللبن بالماء يخفف غلظه، ويذهب به إلى أعماق البدن لأن الماء مركب للغذاء. * وفيه أيضا الحجة على أن صاحب اليمين أحق بالسؤر، ولما اتفق الأعرابي صاحب ذلك الحق قدمه على أبي بكر في تلك المرة، وذلك من أجل أن أبا بكر

في الغالب هو صاحب اليمين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو يتناول سؤره دائما، فأراد - صلى الله عليه وسلم - أن يعطي الأعرابي لكونه جلس في مكان أبي بكر مرة، فإن أبا بكر يسبق الناس إلى اليمين مرات كثيرة؛ فلا أرى أن الأعرابي جلس عن يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك إلا لكونه سبق إلى الجلوس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أو لأنه قد وفد من مكان بعيد أو نحو ذلك، وإلا فيمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل المجالس عنده، ومن عدله - صلى الله عليه وسلم - أنه يخص بالأفضل من مجلسه الأفضل من أصحابه، وهذا مقام أبي بكر رضي الله عنه. -1524 - الحديث السابع: [عن أنس، أنه كان ابن عشر سنين، مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: (وكن أمهاتي يواظبنني على خدمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخدمته عشر سنين، وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن عشرين سنة، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل، وكان أول ما أنزل في مبتنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزينب بنت جحش: أصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - بها عروسا، فدعا القوم فأصابوا من الطعام، ثم خرجوا وبقي رهط منهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأطالوا المكث، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا، فمشي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومشيت، حتى جاء عتبة حجرة عائشة، ثم ظن أنهم خرجوا، فرجع ورجعت معه، حتى إذا دخل على زينب إذا هم جلوس لم يقوموا، فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجعت معه، حتى إذا بلغ حجرة عائشة وظن أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه، فإذا هم قد خرجوا، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بيني وبينه الستر، وأنزل الحجاب).

وفي رواية: (أنا أعلم الناس بالحجاب، كان أبي بن كعب يسألني عنه). وفي رواية: (وكان تزوجها بالمدينة). وفي رواية: (لما تزوج (128/ أ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون، قال: (فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من كان وقعد ثلاثة نفر، ثم أنهم قاموا فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ذكر في رجوعه، وأرخى الستر، ونزول الآية نحو ما تقدم). وفي رواية: عن أنس قال: (ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لم على امرأة من نسائه، ما أولم على زينب بنت جحش، فإنه ذبح شاة). وفي رواية: (ما أولم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة من نسائه أكثر أو أفضل مما أولم على زينب). قال ثابت البناني: بم أولم؟ قال: (أطعمهم خبرا ولحما حتى تركوه). وفي رواية: (مر بنا أنس في مسجد بني رفاعة، فسمعته يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ مر بجنبات أم سليم، دخل فسلم عليها، ثم قال (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عروسا بزينب، فقالت لي أم سليم: لو أهدينا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدية؟ فقلت لها: افعلي، فعمدت إلى تمر وسمن وأقط، فاتخذت حيسة في برمة، فأرسلت بها معي إليه، فانطلقت بها إليه، فقال: (ضعها) ثم أمرني، فقال: (ادع لي رجالا سماهم، وادع لي من لقيت)، قال: ففعلت الذي أمرني، فرجعت، فإذا البيت غاص بأهله، ورأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع يده على تلك الحيسة، وتكلم بما شاء الله، ثم جعل يدعو عشرة عشرة، يأكلون منه،

ويقول: (اذكروا اسم الله، وليأكل كل رجل مما يليه)، حتى تصدعوا كلهم عنها، فخرج من خرج، وبقي نفر يتحدثون، ثم خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو الحجرات، وخرجت في إثره، فقلت: إنهم قد ذهبوا، فرجع فدخل البيت، وأرخى الستر، وإني لفي الحجرة، وهو يقول: ({يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) إلى قوله: (والله لا يستحيي من الحق). وفي رواية لمسلم: (تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدخل بأهله، قال: فصنعت له أمي أم سليم حيسا، فجعلته في تور، وقالت: يا أنس، اذهب بهذا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقل: بعثت بهذا إليك أمي، وهي تقرئك السلام وتقول: إن هذا لك منا قليل يا رسول الله، قال: فذهبت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إن أمي تقرئك السلام وتقول: إن هذا لك منا قليل، قال: (128/ ب) (ضعه)، ثم قال: (اذهب فادع لي فلانا وفلانا وفلانا، ومن لقيت). قال: فدعوت من سمى، ومن لقيت. قال: قلت لأنس: عددكم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة. وقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا أنس، هات التور) قال: فدخلوا حتى امتلأت الصفة والحجرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ليتحلق عشرة عشرة، وليأكل كل إنسان مما يليه) قال: فأكلوا حتى شبعوا، قال: فخرجت طائفة، ودخلت طائفة، حتى أكلوا كلهم، فقال لي: (يا أنس ارفع) قال: فرفعت، فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت؟ قال: وجلس طوائف منهم يتحدثون

في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، وزوجته مولية وجهها إلى الحائط، فثقلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلم على نسائه، ثم رجع، فلما رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه، فابتدروا الباب، فخرجوا كلهم، وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أرخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الستر ودخل، وأنا جالس في الحجرة، فلم يلبث إلا يسيرا حتى خرج علي، وأنزلت هذه الآية، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قرأها على الناس: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أني يؤذن لكم) إلى آخر الآية. قال الجعد: قال أنس: (أنا أحدث الناس عهدا بهذه الآيات، وحجبن نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية: (أنا أعلم الناس بهذه الآية، آية الحجاب، لما أهديت زينب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت معه في البيت، صنع طعاما، ودعا القوم فقعدوا يتحدثون، وقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فخرج، ثم رجع وهم قعود يتحدثون فأنزل الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) إلى قوله: (من وراء حجاب)، فضرب الحجاب وقام القوم. وفي رواية قال: (بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزينب، فأولم بخبز ولحم، فأرسلت على الطعام داعيا، فيجئ قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجئ قوم فيأكلون ويخرجون، فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوا، فقلت: يا نبي الله ما أجد أحدا أدعوا، قال: (ارفعوا طعامكم)، وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت،

فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: (السلام عليكم أهل البيت (129/ ب) ورحمه الله)، فقالت: وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك؟ بارك الله لك، فتقرى حجر نسائه كلهن، يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة، ثم رجع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا رهط ثلاثة يتحدثون في البيت، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - شديد الحياء، فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة، فما أدري أخبرته أو أخبر أن القوم قد خرجوا، فرجع حتى وضع رجله على أسكفة الباب داخله، والأخرى خارجه، وألقى الستر بيني وبينه وأنزل الحجاب). وفي رواية: (أولم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بنى بزينب بنت جحش، فأشبع الناس خبزا ولحما، وخرج إلى حجرات أمهات المؤمنين، كما كان يصنع صبيحة بنائه، فيسلم عليهن، ويدعو لهن، ويسلمن عليه، ويدعون له، فلما رجع إلى بيته رأى رجلين، جرى بينهما الحديث، فلما رآهما رجع عن بيته، فلما رأى الرجلان نبي الله رجع عن بيته وثبا مسرعين، فما أدري أنا أخبرته بخروجهما أو أخبر، فرجع حتى دخل البيت؛ فأرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب). وفي رواية: (نزلت آية الحجاب في بيت زينب بنت جحش، وأطعم عليها يومئذ خبزا ولحما، وكانت تفخر على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقول: (إن الله أنكحني من السماء). وفي رواية: (جاء زيد بن حارثة يشكو فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (أمسك عليك زوجك واتق الله). قال: لو كان كاتما شيئا لكتم هذه الآية. قال: وكانت تفخر على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول: (زوجكن أهاليكن

وزوجني الله من فوق سبع سموات). وعن أنس: ({وتخفي في نفسك ما الله مبديه}: نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة). وفي رواية لمسلم: (لما انقضت عدة زينب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزيد: اذهب (فاذكرها علي) فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرها فوليتها ظهري ونكصت على عقبي، فقلت لزينب: أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرك. فقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن، وجاء (129/ ب) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليها بغير إذن، قال: فلقد رأيتنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطعمنا الخبر واللحم حتى امتد النهار؛ فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتبعته، فجعل يتبع حجر نسائه ويسلم عليهن، ويقلن: يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟ قال: فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو غيري. قال: فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب، قال: ووعظ القوم بما وعظوا به)].

* في هذا الحديث ما يدل على استحباب وليمة العرس. * وفيه دليل على استحباب تخفيف الزيارة للزائر ولاسيما عقب الطعام؛ فإذا طعم الضيف انتشر. * وفيه ما يدل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان حييا في التماس حقه؛ فخرج ولم يقل شيئا. * وفيه ما يدل على أنه ينبغي لمن أراد أن يكثر من الدخول على الكبير القدر أن يكون ذا فطنة وتلمح، فإن خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ضيفه، وهم في داره، كان كافيا لهم في التنبيه على الخروج، وتخلية ما بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أهله. * وفيه ما يدل على أن الصبي وإن كان قد كان له عادة في الدخول؛ فإنه إذا بلغ إلى حد المراهقة حجب فلم يدخل إلا بإذن كالكبير. * وفيه أيضا دليل على أن العالم الكبير قد يسترشد في العلم الصبي والحدث فيما تخفي عنه مما قد اطلع الصبي عليه، لقول أنس: فكان أبي يسألني عنه. *وفيه أن الوليمة في العرس تجوز أن تكون أقل من شاة، كما أنه يستحب أن تكون أكثر من ذلك؛ لقول أنس: ما رأيته أولم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب، فإنه ذبح شاة. * وفيه أيضا أنه يستحب لمن أضاف ضيفا أن يكون ما يقدمه إليهم فاضلا عن حاجاتهم إذا أمكنه ذلك لقول أنس: (أطعمهم خبزا ولحما حتى تركوه). * كما أنه يستحب للمسلم أن لا يحقر شيئا يقدمه إلى أخيه إذا كان منتهى وسعه في وقته ذلك ولو تمرة. * ويستحب أيضا للضيف أن لا يحقر شيئا يقدمه إليه أخوه لقوله عز وجل:

(خذ العفو) فإن منه لو كان العفو الذي هو الفضل فاضلا فلو كان كثيره بمساحة قدر لم يستكف عنها. * وفيه من الفقه أن الطعام إذا كان لا يتسع للضيف: إما لصغر إنائه (130/ أ) عن مقاعد الضيفان في دفعه، وإما لضيق المكان بهم فإنه يستدعي منهم رهطا على حسب مقدار الإناء والموضع، فإذا أكلوا خرجوا، ودخل رهط آخرون بعدهم، فينال المتأخرون بركة سؤر المتقدمين، هكذا فوجا بعد فوج، وكل منهم لدخوله وذكر اسم الله عند أول الطعام اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما فعله في حيسة أم سليم، وإن كان ما كان في الحيسة من الآيات التي خص الله رسوله بها. والحيس: أصله الخلط، وبه سمي الحيس الذي كانوا يخلطونه ويصنعونه وكانوا يأخذون السمن والأقط والتمر فيطحنونه. * في هذا الحديث استحباب أن لا يأكل الإنسان إلا ما يليه، وهذا إذا كان الطعام كله شيئا واحدا كالثريد ونحوه، وأما إذا كان أنواعا مختلفة جاز له أن يمد يده إلى غير ناحيته. * وفيه دليل على أن الوحي كان لنزوله عند تجدد الأحداث حلاوة؛ فلو قد كان نزل جملة واحدة لفات منه مثل نزول آية الحجاب. * وفيه استحباب استقلال ما يهديه الإنسان أو يقدمه للضيف وإن كثر، مع أنه لا يحقر ما يقدمه إلى الضيف فيحرمه لقول أم سليم: (إن هذا لك منا قليل). * وفيه أن المضيف ينبغي أن يوسع صدره، وإن كثر الضيف متوكلا على الله

في أن يبارك في القليل، ويعم باليسير، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (وداع من لقيت) ولا يبعد أن يكون المعنى: (فإن لم تجد من عينت لك فادع من لقيت). * وفي قوله: (كانوا زهاء ثلاثمائة) من أكبر دليل على نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - لأنه إذا أكل ثلاثمائة رجل من حيسة في تور، وصدورا شباعا، والحيسة مما يتناول الإنسان منه أكثر من غيره، وحتى يقول أنس: فما أدري أهي أكثر حين رفعت أم حين وضعت؟ فذلك أكبر دليل على معجزة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن البركة ظهرت متظاهرة. * وفيه أن البركة إنما كانت في الغذاء بين الطعام والشراب وبذلهما أفضل (130/ ب) الجود، والشح بهما أقبح الشح؛ ولاسيما ما قد صنع، فإنما إذا ترك فسد، فإذا سمح بهما المؤمن فقد تأسى بنبيه - صلى الله عليه وسلم - وتبع سنته، وكان ما ينال المسلمون منه مقر ضامن فضل الله لبركة تغني الناس ولا تزرأه شيئا. * وقوله: (وزوجته مولية وجهها إلى الحائط)، وهذا لأنها استحيت من الرهط حبا من الله عز وجل في صون أهل الرجل وأسراره في بيته. * وفيه أيضا ما يدل على إيمان عائشة رضي الله عنها وحسن أدبها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه حين سلم عليها قالت له: (كيف وجدت أهلك، بارك الله لك)، وإن كان قولها: (بارك الله لك) يشتمل على نوع مداعبة إلا أن الأشبه بها أنها قصدت الدعاء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبركة في أهله. (وأسكفة الباب): هي عتبته. * وفيه أيضا جواز أن يفخر الرجل بنعمة ربه عز وجل لا من عند نفسه؛ لأن زينب كانت تفخر على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقول: (إن الله أنكحني من السماء).

* فأما قوله: (لو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كاتما شيئا لكتم هذه الآية) يعني قوله تعالى: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله} فالذي أراه في ذلك، وكان الشيخ محمد بن يحيى رحمه الله يشير إلى بعضه، أنه لم يكن الذي كتمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر زينب حتى قال لزيد لما أراد أن يطلقها: (أمسك عليك زوجك واتق الله) ما يستبق إلى خواطر الجهال من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وحاش له من ذلك، هوى بها، بل إنها كانت من الصلاح والزهد في الدنيا وإرادة ما عند الله عز وجل صالحة؛ لأن تكون زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان من المتعين أن يقول لزيد: إن زوجك هذه لا تصلح إلا لي لينزل عنها زيد وتكون زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما وقف عن الصدوع لهذا الحق مراعيا لقلوب الآدميين من أجل ما عساه أن يقذفه الشيطان في نفوسهم من ذلك نزل القرآن بقوله: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه} أي من هذا الأمر غير ذلك، فكان هذا من بركة تزويج زينب بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت فيها سنن منها: أن العرب تأنف من نكاح الحرة إذا وطئها عبد بنكاح، فبين الله عز وجل، إنما أنزل في هذه القصة من نكاح النبي (131/ أ) - صلى الله عليه وسلم - لزينب إبطال ما كانت عليه العرب من ذلك فقال الله تعالى: {لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا}. * وفي الحديث ما يدل على أن تزويجها من فوق سبع سموات. * وفيه ما يدل على أن زيدا لما عرف أنها من حاجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عظمت في صدره.

* وفيه أيضا أن الاستخارة لله تعالى في أقضية مستحبة، فإن زينب تقول: ما أنا بصانعة أمرا حتى أؤامر ربي، وهو دليل على ما قلناه من أنها لم تكن تصلح إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا جرم أنها لما آمرت ربها، تولى هو جل جلاله إنكاحها، ولم يفوض ذلك إلى ملك ولا غيره. * ويستحب أن يتقدم الصلاة على الدعاء لقوله: فقامت إلى مسجدها. * وقوله: (فدخل عليها بغير إذن) يدل على حسن ائتمار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفهمه عن ربه عز وجل حين قال له: {زوجناكها}. * ومعنى تخمر عجينها يحتمل وجهين: أحدهما: أنها تجعل فيه الخمير. والثاني: تغطيه. * وقولها: (أؤامر ربي) أي أستخيره. -1525 - الحديث الثامن: [عن أنس، قال: سقط النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فرس فجحش شقه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده؛ فحضرت الصلاة فصلى بنا قاعدا، فصلينا وراءه قعودا، فلما قضى الصلاة قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعين).

روى بعض الرواة: (إذا صلى قائما فصلوا قياما). زاد البخاري. قال الحميدي: (قوله: (إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا) هو في مرضه القديم، وقد صلى في مرضه الذي مات فيه جالسا، والناس خلفه قيام لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر النبي)]. * في هذا الحديث دليل على أن للإمام إذا مرض صلى جالسا وصلى من وراءه جلوسا إذا مرض مرضا يرجى برؤه، وهذا مذهب أحمد رضي الله عنه. * والذي أراه هو الذي ذكره الحميدي من أنهم يصلون قياما لأن العذر إنما هو للإمام خاصة، والمأمومون لا عذر لهم؛ فأشبه كما لو عاق الإمام عن تمكنه من الجلوس بين السجدتين أو غيره من أوصاف الصلاة عائق، فإن ذلك لا يسقط عن المأمومين فعله. -1526 - الحديث التاسع (131/ ب): [عن أنس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج حين زاغت الشمس، فصلى الظهر، فقام على المنبر، فذكر الساعة، وذكر أن فيها أمورا عظاما، ثم قال: (من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل، فلا تسألون عن شيء إلا أخبرتكم، مادمت في مقامي هذا)؟ فأكثر الناس البكاء، وأكثر أن يقول: (سلوا)، فقام عبد الله بن

حذافة السهمي، فقال: من أبي؟ فقال: (أبوك حذافة)، ثم أكثر أن يقول: (سلوني)، فبرك عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، فسكت ثم قال: (عرضت على الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط، فلم أر كاليوم في الخير والشر). قال ابن شهاب: (فأخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة: ما سمعت قط أعق منك، آمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما يقارف أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس؟ فقال عبد الله بن حذافة: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته). وفي رواية: (خطب فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة ما سمعت مثلها قط، فقال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا). قال: فغطى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوههم لهم خنين، فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان، قال: فنزلت هذه الآية: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}). وفي رواية: (بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أصحابه شيء، فخطب فقال: (عرضت علي الجنة والنار، فلم أر كاليوم في الخير والشر، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا). قال: فما أتى على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أشد منه. قال: غطوا رؤوسهم، ولهم خنين- ثم ذكر قيام عمر وقوله، وقول الرجل: من أبي؟ ونزول الآية). وفي رواية: (سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أحفوه في المسألة فصعد ذات يوم المنبر، فقال: (لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم)، فجعلت أنظر يمينا وشمالا فأرى كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل- كان إذا لاحى

يدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبي الله، من أبي؟ فقال: (أبوك حذافة). ثم أنشا عمر، فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، نعوذ بالله من الفتن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط، إني صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط). قال قتادة: يذكر هذا الحديث (132/ أ) عند هذه الآية: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم})]. * في هذا الحديث بعد ما قد مضى شرحه، منه أن غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كان لتكثيرهم الأسئلة عما لا يصلح، فظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر ظهورا قال فيه قولا يستدل به كل عاقل على أنه لم يمسك عما كانوا يسألونه عنه إلا لمصلحتهم فحسب، وقد نطق القرآن في قوله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}. * وفي هذا الحديث أيضا ما يدل على أن الله تعالى أراد أن يبرئ أم عبد الله بن حذافة من التهمة. وقولها: (قارفت)، الاقتراف هو الاكتساب، وإنما أشارت إلى الزنا. * وفيه ما يدل على فقه عمر لأنه انتبه لما قصده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا.

* وقوله: (فغطى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوههم لهم خنين)، والخنين: كالبكاء مع مشاركة في الصوت من الأنف، وهذا يدل على رقة قلوب الصحابة. * وقوله: (كان إذا لاحى) الملاحاة المنازعة والمخاصمة. وأحفوه في المسألة: استقصوا عليه. -1527 - الحديث العاشر: [عن أنس، قال: (لما قدم المهاجرون من مكة إلى المدينة؛ قدموا وليس بأيديهم شيء، وكانت الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام، ويكفونهم العمل والمؤونة، وكنت أم أنس بن مالك، وهي تدعى أم سليم، وكانت أم عبد الله بن أبي طلحة، وكان أخا لأنس لأمه، وكانت أعطت أم أنس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عذاقا لها، فأعطاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم أيمن مولاته- أم أسامة بن زيد-، فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة، رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم، قال: (فرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أمي عذاقها، وأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم أيمن مكانهن من حائطه). وفي رواية ابن خالصة، زاد مسلم قال ابن شهاب: (وكان من شأن أم أيمن إنها أم أسامة بن زيد، أنها كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب، وكانت (132/ ب) من الحبشة، فلما ولدت آمنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما توفي أبوه كانت أم أيمن تحضنه، حتى كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعتقها، ثم أنكحها زيد ابن حارثة، ثم توفيت بعدما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمسة أشهر).

وفي رواية: (كان الرجل يجعل للنبي - صلى الله عليه وسلم - النخلات من أرضه حتى افتتح قريظة والنضير، فجعل بعد ذلك يرد عليهم، وأن أعلي أمروتي أن أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسأله ما كان أهله أعطوه [أو] بعضه؟ وكان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قد أعطاه أم أيمن، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعطانيهن، فجاءت أم أيمن فحطت الثوب في عنقي، وقالت: والله لا يعطيكهن وقد أعطانيهن. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا أم أيمن، اتركيه، ولك كذا وكذا)، وتقول: كلا، والله الذي لا إله إلا هو، فجعل يقول: (كذا)، حتى أعطاها عشرة أمثاله، أو قريبا من عشرة أمثاله)]. * في هذا الحديث ما يدل على كرم الأنصار؛ وحسن جزاء المهاجرين، فإن أولئك لما جعلوا لهم نصف ثمارهم، جزاهم المهاجرون بأن يكفوهم العمل في أرضهم، فكان هذا وهذا مكتوبا للفريقين في باب الجود والسماحة؛ إذ لم ينقل أنه كان ذلك عن مشارطة متقدمة ولا عقد معاوضة. * وفيه أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل منيحة أم سليم في العذاق. * وفيه أن المنحة من النخل ليست صدقة، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل الصدقة؛ وإنما هي على نحو الهدية. * وفيه أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبله ثم أعطاه أم أيمن ليضاعف الثواب لأم سليم. والعذاق: جمع عذق، وهي النخل.

* وفيه أيضا أن المنيحة إذا استغني عنها أعيدت إلى أصحابها لقوله: (فلما فتحت خيبر اعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أم سليم عذاقها). * وفيه أيضا أن الرجل إذا أعطى فقيرا منيحة كانت عنده ثم أراد رد المنيحة إلى مالكها لاستغنائه عن قبول المنايح، عوض ذلك الفقير من غيرها، ورد المنيحة إلى أصحابها لأنها لم تكن تمليكا للأصول، واستساغ الفقير قبولها في حالة الفقر، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لما ردها عوض أم أيمن من عنده لئلا يقطع برا قد كان بدأ به. -1528 - الحديث (133/ أ) الحادي عشر: [عن أنس، أن ناسا من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل، فقالوا: (يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم). قال أنس: (فحدث ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قولهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم، ولم يدع معهم غيرهم. فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ما حديث بلغني عنكم؟)، فقال له فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا يا رسول الله، فلم يقولوا شيئا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به). قالوا: بلى، يا رسول الله، قد رضينا، قال: (فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة؛ فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض)، قالوا: سنصبر).

وفي رواية: قال أنس: (فلم نصبر). وفي رواية: (جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأنصار، فقال: (أفيكم أحد من غيركم؟)، فقالوا: لا، إلا ابن أخت لنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ابن أخت القوم منهم)، فقال: إن قريشا حديث عهد بجاهلية ومصيبة، فإني أردت أن أجبرهم وأتالفهم، أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا، وترجعون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيوتكم؟)، قالوا: بلى، قال: (لو سلك الناس واديا، وسلك الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار). وفي رواية عن أنس، قال: (لما فتحت مكة قسم الغنائم في قريش، فقالت الأنصار: إن هذا لهو العجب، إن سيوفنا تقطر من دمائهم، وإن غنائمنا ترد عليهم، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجمعهم، فقال: (ما الذي بلغني عنكم؟)، قالوا: هو الذي بلغك، وكانوا لا يكذبون، فقال: (أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا إلى بيوتهم، وترجعون برسول الله صلى الله (133/ ب) عليه وسلم إلى بيوتكم؟)، قالوا: بلى، فقال: (لو سلك الناس واديا أو شعبا، وسلكت الأنصار واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار وشعب الأنصار). وفي رواية: (لما كان يوم حنين أقبلت هوزان وغطفان وغيرهم بذراريهم ونعمهم، ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ عشرة آلاف، ومعه الطلقاء، فأدبروا عنه، حتى بقي وحده، قال: فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما شيئا، قال: التفت عن يمينه، فقال: (يا معشر الأنصار)، قالوا: لبيك يا رسول الله، أبشر نحن معك، قال: وهو على بغلة بيضاء، فنزل فقال: (أنا عبد الله ورسوله)، فانهزم المشركون، وأصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائم كثيرة، فقسم في المهاجرين والطلقاء، ولم يعط الأنصار شيئا، فقالت الأنصار: إذا كانت الشدة فنحن

ندعى، وتعطى الغنائم غيرنا، فبلغه ذلك، فجمعهم في قبة، فقال: (يا معشر الأنصار ما حديث بلغني عنكم؟)، فسكتوا، فقال: (يا معشر الأنصار، أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون بمحمد تحوزونه إلى بيوتكم؟)، فقالوا: بلى يا رسول الله، رضينا، قال: فقال: (لو سلك الناس واديا، وسلكت الأنصار شعبا، لأخذت شعب الأنصار)، قال هشام، فقلت: يا أبا حمزة أنت شاهد ذلك؟ قال: وأنى أغيب عنه؟). وفي رواية لمسلم عن أنس قال: (افتتحنا مكة، ثم إنا غزونا حنينا، قال: فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت، قال: فصفت الخيل، ثم صفت الخيل ثم صفت المقاتلة، ثم صفت النساء من وراء ذلك، ثم صفت الغنم، ثم صفت النعم، قال: ونحن بشر كثير، قد بلغنا ستة آلاف، وعلى مجنبة خيلنا خالد ابن الوليد، قال: فجعلت الخيل تلوي خلف ظهورنا، فلم يلبث أن انكشف خيلنا، وفرت الأعراب، ومن نعلم من الناس، قال: فنادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يا آل المهاجرين، يا آل المهاجرين)، ثم قال: (يا للأنصار، يا للأنصار). قال أنس: هذا حديث عميه- قال: قلنا: لبيك يا رسول الله، قال: فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: وايم الله، ما أتيناهم حتى هزمهم الله، قال: فقبضنا ذلك المال، ثم انطلقنا إلى الطائف، فحصرناهم أربعين ليلة، ثم رجعنا إلى مكة، فنزلنا، قال: فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي الرجل المائة) ..].

* في هذا (134/ أ) الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم على الأنصار حكم الواثق بمتانة دينهم، وأن ذوي آرائهم فهموا ذلك فلم يقولوا إلا خيرا، فأما الأحداث: فإنهم قالوا ما قالوا عن غير فهم لمقصود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى صرح لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما فهموا به هم وغيرهم، فأحوجوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن أظهر من السر في تكثير المؤلفة قلوبهم ما لم يكن يريد إظهاره. * وفيه أيضا أن الكلام كان يخص الأنصار فلم يكن يقتضي أن يسمعه غير الأنصار؛ فذلك لم يدع معهم غيرهم. * وأما قوله: (ابن أخت القوم منهم) فإنه يعني أنه منهم في النصر والترافد لا أنه يلحق بنسبهم. * وفيه أيضا أنه عرفهم قدر نعمة الله عليهم في تميزهم دون أهل الأرض برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي مثل هذا الموضع يحسن الاعتداد بالنعمة مخافة أن تفضي الغفلة عنها إلى نسيانها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أما ترضون أن تذهب الناس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به). * وقوله: (ستجدون بعدي أثرة) أي استيثار عليكم، وقد دل هذا على أن الصبر على الأثرة من أبواب البر العظام؛ لأنه يستأثر على المسلم بما يرى أنه حقه فصبره عنه أفضل من صبره عن شيء لا يرى أن له فيه حقا. وقول أنس: (فلم نصبر)، يعني أنه ربما يكون قد قال كلمة أو تأثر بحال فلم يستجز عند هذه الحالة أن يسكت فيكون متأنيا لما يأخذ به نفسه من الصدق فقال: فلم نصبر.

* وفيه جواز أن يجبر الحديث العهد بالكفر من مصابه بقتلاه المشركين وهذا مما كان في أول الإسلام. * وقوله: (لسلكت شعب الأنصار) يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - ضرب لهم مثلا فصدق فيه فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما انقلب الناس فذهبت كل طائفة إلى أرضها، انقلب - صلى الله عليه وسلم - مع الأنصار إلى أرضهم. * وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار) يعني به - صلى الله عليه وسلم - إني كنت أسلك شعب الأنصار مع ضيقه وأختاره (134/ ب) على الوادي مع سعته. * وقوله: (وكانوا لا يكذبون) وهذا لأن المؤمن لا يعتمد الكذب في حال غضبه ولا رضاه. والطلقاء: هم الذين من عليهم يوم الفتح. * وفي الحديث ما يدل على شجاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكونه أشجع أهل الأرض؛ لأنه بقي وحده ولا نزل عن بغلته في وقت الشدة. * وفيه أن الأمير يدعو في صلاة الحرب قوما بعينهم؛ ليكون أقوى لشوكتهم، وأجمع لكلمتهم كدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأنصار مرتين، ويستجيب للصاحب أن يركز الكلمة الدالة على قوة رجائه بانكسار عدوه لقول الأنصار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أبشر)، وقولهم: (ونحن معك)، أي لسنا نبشرك بالبشرى إلا ونحن معك فيها. * وفيه أيضا دليا على أن القباب قد كانت في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبارا حتى

أن منها واحدة اجتمع فيها الأنصار وهو مئون. * وفيه أيضا أن تمحيص العسكر وتخليصه من أوباش تختلط به أولى؛ فإن طالوت عليه السلام لما أراد أن يمتحن عسكره قال: {إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني}. أراد أننا نعبر إلى أرض مصر فمن كان معه إيمان لم يتزود من الماء، وأراد بذلك أن يمتحن إيمانهم ويبلوا يقينهم فشرب أصحابه كلهم من النهر إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدة أصحاب بدر، فقال الله عز وجل: {فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا}، إلى قوله: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله}، وكذلك كان يوم هوازن فإنه لم يكسر العدو إلا تلك الفئة القليلة التي ثبتت؛ وذلك أن العدو لا يحارب بعدو مثله. * وفيه أيضا جواز أن يحاصر الإمام بلدا ثم يرحل عنه ولم يفتح. -1529 - الحديث الثاني عشر: [عن أنس، قال: (إن الله عز وجل تابع الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل

وفاته، حتى توفاه أكثر ما كان الوحي، ثم توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده)]. * في هذا الحديث من الفقه أن تتابع الوحي عليه كان منذرا له بالتأهب لأنه لم يكن ليقبض - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد إنزال الوحي كله. * وفيه أيضا ما يدلك على أن الوحي هو هذا الذي نزل؛ وذلك أنه لما بقي من مدة (135/ أ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى وقت قبضه الزمن اليسير توبع الوحي وولى إنزاله ليكمل قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم -. -1530 - الحديث الثالث عشر: [عن أنس، قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن ترتفع الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاعت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب). وفي حديث الليث: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر، حتى يدخل أول وقت العصر). وفي حديث حاتم: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا عجل عليه السير يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر، فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء)]. * في هذا الحديث جواز الجمع بين الصلاتين بتأخير الأولى إلى وقت الثانية

وقد سبق الكلام في الجمع بين الصلاتين. -1531 - الحديث الرابع عشر: [عن أنس قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي العصر والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالي، فيأتيهم والشمس مرتفعة، وبعد العوالي من المدينة: على أربعة أميال أو نحوه). وفي رواية: (يذهب الذاهب منا إلى قباء). وفي رواية: (كنا نصلي العصر، ثم يخرج الإنسان إلى بني عمرو بن عوف، فيجدهم يصلون العصر). وأخرجاه من حديث أبي أمامة قال: (صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر، ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس فوجدناه يصلي العصر، فقلت: يا عم، ما هذه الصلاة التي صليت؟ قال: العصر، وهذه صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي كنا نصلي). ولمسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن، أنه دخل على أنس بن مالك في داره بالبصرة حين انصرف من الظهر وداره جنب المسجد، قال: فلما دخلنا عليه وسجد قال: (أصليتم العصر؟ فقلنا: إنما انصرفنا الساعة من الظهر، قال: فصلوا العصر فقمنا فصلينا فلما انصرف قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني

شيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا). وليس للعلاء عن أنس في الصحيح غير هذا الحديث الواحد. ولمسلم وحده من حديث حفص بن عبد الله عن أنس بن مالك أنه قال: (صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر، فلما انصرف أتاه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله، إنا نريد أن ننحر (135/ ب) جزورا لنا، ونحن نحب أن تحضرها؟ فقال: (نعم)، فانطلق وانطلقنا معه، فوجدنا الجزور ولم تنحر، فنحرت، ثم قطعت، ثم طبخ منها، ثم أكلنا قبل أن تغيب الشمس)]. * هذا الحديث يدل على فضل تقديم صلاة العصر. * ومعنى (حية) هو أن يكون لها حر. * وفيه ما يدل على أن آخر وقت الظهر يلاحق أول وقت العصر لقولهم: (صلينا مع عمر الظهر ثم دخلنا على أنس فوجدناه يصلي العصر). *وفيه أن الصلاة عند غروب الشمس نقرات لا يذكر الله فيها إلا قليلا من آيات النفاق. * وفي قوله: (نريد أن ننحر جزورا، ونحب أن تحضرها) فيه دليل على أن يحسن بالكبير القدر أن يجبر قلب صاحبه بأن يقصده في منزله أو بأن يشهد

نحر جزوره ويجيبه إلى دعوته، ويجوز أن يكونوا أرادوا بحضوره أن يعلمهم كيف نحر الجزور. -1532 - الحديث الخامس عشر: [عن أنس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تنبذوا في الدباء، ولا في المزفت). وكان أبو هريرة يلحق معهما: (الحنتم والنقير)]. * وقد سبق الكلام في هذا في مواضع. -1533 - الحديث السادس عشر: [عن أنس، (أن رأى في يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتما من ورق يوما واحدا، ثم إن الناس اصطنعوا خواتيمهم). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبس خاتم فضة في يمينه، فيه فص حبشي، كان يجعل فصه مما يلي كفه). وفي رواية: (سئل أنس: أتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتما؟ قال: أخر ليلة العشاء إلى شطر الليل، ثم أقبل علينا بوجهه، فكأني أنظر إلى وبيض خاتمه، وقال: (إن الناس قد صلوا وناموا، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتموها).

وفي رواية: (أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان خاتمه من فضة، وكان فصه منه). وفي رواية: (انتظرنا الحسن، وراث علينا حتى قريبا من وقت قيامه، فجاء فقال: دعانا جيراننا هؤلاء، ثم قال: قال: نظرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة حتى كان شطر الليل فبلغه فجاء فصلى بنا ثم خطبنا فقال: (ألا إن الناس قد صلوا ورقدوا، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة). قال الحسن: (إن القوم لا يزالون في خير ما انتظروا الخير). وفي رواية: (كأني أنظر إلى وميض خاتمه ليلتئذ). وعن أنس قال: (نظرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة حتى كان (136/ أ) قريبا من نصف الليل ثم جاء فصلى ثم أقبل علينا بوجهه فكأنما أنظر إلى وميض خاتمه في يده). وفي رواية لمسلم: (كان خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه، وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى). وفي رواية عن ثابت: (إنهم سألوا أنسا عن خاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: أخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء ذات ليلة إلى شطر الليل، أو كاد يذهب شطر الليل، ثم جاء فقال: (إن الناس قد صلوا وناموا، وإنكم لا تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة). قال أنس: (كأني أنظر إلى وبيص خاتمه من فضة، ورفع إصبعه اليسرى بالخنصر). وعن أنس، قال: (كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابا أو أراد أن يكتب فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتابا إلا مختوما، فاتخذ خاتما من فضة، ونقشه: محمد رسول الله،

كأني أنظر إلى بياضه في يده، قلت لقتادة: من قال: نقشه: محمد رسول الله، قال: أنس. وفي رواية: (اتخذ خاتما من فضة، ونقش فيه: محمد رسول الله، وقال للناس: (إني اتخذت خاتما من فضة، ونقشت فيه: محمد رسول الله، فلا ينقش أحد على نقشه). وفي رواية عن أنس، قال: (اصطنع النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتما، فقال: (إنا اتخذنا خاتما، ونقشنا فيه نقشا، فلا ينقش عليه أحد)، قال: فإني لأرى بريقه في خنصره). وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يكتب إلى رهط، أو ناس من العجم، فقيل: إنهم لا يقبلون كتابا إلا عليه خاتم، فاتخذ خاتما من فضة، نقشه: محمد رسول الله، كأني بوبيص-أو بصيص- الخاتم في إصبع النبي - صلى الله عليه وسلم - وكفه). وفي رواية: (أن أبا بكر لما استخلف كتب له، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر). ومن حديث ثمامة عن أنس قال: (كان خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - في يده، وفي يد أبي بكر، وفي يد عمر بعد أبي بكر، فلما كان عثمان جلس على بئر أريس، وأخرج الخاتم يعبث به، فسقط، فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان، ننزح البئر فلم نجده)]. * يعني من صفاء ورقه.

* فأما كونه ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر، فإنه يقتضي أنه جعل اسم الله آخر سطر ليدل بذلك على أنه إليه المنتهى في كل أمر من أمور الدنيا والآخرة، وإن كان ليس في هذا الحديث نص على الترتيب، وقد (136/ ب) تكلمنا على وقوع الخاتم في بئر أريس في موضعه. * وفيه ما يدل على أن مما أعان الله ورسوله به على الأعداء، هو الكتب والرسائل مقدمة بين يدي الحرب والقتال. -1534 - الحديث السابع عشر: [عن أنس، (أن المسلمين بينما هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين، وأبو بكر يصلي بهم، لما يفجأهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم في صفوف في الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه، ليصل الصف، وظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يخرج إلى الصلاة، قال أنس: وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، فرحا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأشار إليهم بيده: أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر). وفي رواية: (فكشف ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه صورة مصحف فتوفي من يومه).

وفي حديث سفيان بن عيينة: (آخر نظرة نظرها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كشف الستارة يوم الاثنين) وذكره نحو. وفي رواية: (لم يخرج إلينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا، فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بالحجاب فرفعه، فلما وضح لنا وجه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ما نظرنا منظرا قط كان أعجب إلينا من وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - حين وضح لنا. قال: فأومأ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بيده إلى أبو بكر رضي الله عنه أن يتقدم، وأرخى نبي الله الحجاب، فلم نقدر عليه حتى مات - صلى الله عليه وسلم -)]. * في هذا الحديث دليل على شدة حب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له. * وفيه أن المريض قد يعامل ربه عز وجل بالحمل على نفسه بأن ينتصب أو يجلس أو يقوم ليراه أصحابه فيجبر بذلك قلوبهم، ويسر به نفوسهم. * وفيه أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب أن ينظر كيف صلاة أبي بكر بهم مع غيبته - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه أيضا جواز أنه لما رآهم على تلك الحالة من استواء الصفوف وصلاة الجماعة سره ذلك فضحك - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه أيضا جواز تأخير الإمام عن موقفه من غير بطلان الصلاة إذا اقتضى

الحال ذلك مثل هذه الحالة التي جرت لأبي بكر رضي الله عنه، فإذا أراد ذلك تأخر ناكصاُ على عقبيه (137/ أ) كما فعل أبو بكر رضي الله عنه ولم يلتفت. * وقوله: (فهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم): - فيه ما يدل على أن الصلاة يحافظ عليها، ولا يحل قطعها لشيء ما؛ فإن المسلمين كادوا يفتتنون لرؤية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقطعوا الصلاة. - وفيه ما يدل على اهتمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة والمسلمين حتى آخر يوم من أيام حياته في الدنيا. - وفيه أيضا استحسان التشبيه للفاضل بشيء فاضل فإن قوله: كأن وجهه ورقة مصحف أحسن من أن يشبهه بشيء له مثل في الدنيا، فإن ورقة المصحف أشرف شيء في الوجود. * وفيه أيضا دليل على جواز اتخاذ الستر والحجاب على الباب. * وقوله: (أشار إلى أبي بكر رضي الله عنه) فيه ثلاثة أشياء: أحدهما: جواز الإشارة إلى المصلى. والثاني: جواز تهيؤ المصلي أن يفهم الإشارة. والثالث: أنه لما أشار إلى أبي بكر رضي الله عنه بتقدمه في الصلاة كان ذلك مما يفهم منه إشارته إلى تقدمه في الخلافة. -1535 - الحديث الثامن عشر: [عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب

أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب). وفي رواية شعبة: (فلا أدري أشيء ترك أم شيء كان يقوله). وفي رواية عن أنس عن أبي: (كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت {ألهاكم التكاثر})]. * قد سبق الحديث والكلام عليه. -1536 - الحديث التاسع عشر: [عن أنس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن). وفي رواية: (ما بين لابتي حوضي). وفي رواية: (يرى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء). وفي رواية: (أكثر من عدد نجوم السماء)]. * قد سبق الحديث والكلام عليه.

-1537 - الحديث العشرون: [عن أنس، قال: لولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يتمنين أحدكم الموت)؛ لتمنيته). وفي رواية: (لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لابد فاعلا، فليقل: اللهم أحيني مادامت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي)]. * في هذا الحديث من الفقه أنه لا يجوز أن يتمنى الموت أحد من (137/ ب) أجل ضيق نزل به لأن طلبه الموت فرار من قدر الله، ويقاس على هذا أنه من تمناه من غير ضر لم يستحب له ذلك؛ لأن المؤمن إن كان على سبيل عمل صالح فإنه كل وقت في زيادة، وإن كان على غير عمل صالح فإنه يستعجل بتمني الموت ما هو شر له، فأما تمني الموت لخوف الفتنة فقد ذكر عن جماعة من الأخيار إلا إني أخاف أن يكون نفس تمنيهم الموت فتنة، وليس إلا الرضا بما يريد الله عز وجل به عبده، فإن كان الإنسان لابد متمنيا: (فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي).

-1538 - الحديث الحادي والعشرون: [عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله وكل بالرحم ملكا، يقول: أي رب نطفة؟ أي رب علقة؟ أي رب مضغة؟ فإذا أراد أن يقضي خلقا. قال الملك: أي رب ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه)]. * في هذا الحديث من الفقه أنه سبق في علم الله عز وجل لكل من الخلق ما سبق من سعادة أو شقاوة إلا أنه في علم الله عز وجل، فإذا استقرت النطفة في الرحم، استطلع ملك الأرحام ذلك العلم من قبل الله عز وجل فيقول الله عز وجل فيه: الحق الذي قد سبق علمه به، فذلك الوقت الذي يعلم به الملك، فأما قبل ذلك الوقت فلم يعلمه إلا الله وحده. * في هذا الحديث من الفقه أن ينبغي لكل مؤمن أن يعلم أن أجله قد كان في علم الله عز وجل مذكورا معينا في مدة معلومة، أظهره الله تعالى بعد ذلك إلى الملك فكتبه وأثبته، فليس يمكن أهل السموات وأهل الأرض أن يزيدوا فيه لحظة ولا ينقصوا منه لحظة، فمقتضى هذا يجب أن لا يخاف على حياته ما لم يقدر لها في علم الله عز وجل ولا يختلج في قلبه أن الله عز وجل ينقصه شيئا من

أجله الذي كتب له بحال من الحال؛ فإنه جل جلاله قد تمت كلمته ومضى أمره. وهو سبحانه وتعالى كان قد سبق لعدوه إبليس منه نظرة وطول أمد وفسحة أجل إلى وقت معلوم، ثم إنه جاهر بالمعصية، وبادر بالمخالفة، وأضل من الخلق من أضل، وطمع في أن يفتن الأنبياء، وقد أوجب الله عز وجل عليه لعنته ووجه إليه غضبه، وهو مع ذلك فلا ينقصه من عمره الذي (138/ أ) كان قد قسم له لحظة فما دونها، فكيف يظن ظان أن الله سبحانه ينقص عبده من أجل كان قد قسمه له. * وقوله: (ما رزقه): المعنى أنه كان قد سبق له في علم الله تعالى رزق معلوم بحساب محسوب، فاستعمله الملك على ما سبق شرحه، فلا يقدر أهل السموات وأهل الأرض أن ينقصوا من رزق العبد الذي سبق في علم الله حبة خردل ولا أن يضعوها فوقه، فإذا أيقن العبد بذلك أجمل في الطلب وتنكب الحرص. * فأما السعادة والشقاوة، فإن من سبقت له السعادة فإن الله سيوفقه لعمل أهل السعادة إلا أنه لا يؤمن عليه، فإن عمله لا يؤمن عليه آفات عمله إلى وقت موته أن ينقلب حاله فيختم له بعمل الأشقياء، ويكون قد كان سبق في علم الله تعالى الذي أظهره إلى الملك أن هذا يعمل أولا بعمل أهل الخير، ثم يختم له بعمل أهل الشر حتى لا يركن أحد إلى عمل فيكون هذا ممن كتب شقيا إلا أنه نادر في الأشقياء. ويكون السعيد قد يسر لعمل أهل السعادة إلا أنه قد يعمل الواحد منهم بعمل أهل الشقاء فأدركته الرحمة فلم يقنط من رحمة ربه وتاب إلى الله عز وجل عند آخر نفس فتختم له بالسعادة، وهذا مما يكون سابقا في العلم أنه

يجري لذلك، إلا أن هذا يكون نادرا في السعداء أيضا. * ومفهوم الحديث التحذير من الإعجاب بالعمل، كما هو أيضا تحذير من القنوط من الرحمة. -1539 - الحديث الثاني والعشرون: [عن أنس، قال: (ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبائر وسئل عن الكبائر، فقال: الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين وقال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور، أو شهادة الزور)]. * في هذا الحديث من الفقه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الكبائر وسئل عن الكبائر، فقال: الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين وقال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور؟، أو شهادة الزور)]. * في هذا الحديث من الفقه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الكبائر أو سئل عنها فعد منها: الشرك بالله، الذي أراه في هذا الحديث أن الشرك بالله من حيث أنه أعظم الأشياء عنادا لله سبحانه وتعالى قد لا يشرك بالله إلا من قد اضطرته الحجة إلى أن يقر بالله ثم يشرك به، فإن الجحد لله خالق المخلوقات لا يتصور من ذي لب أبدا، وإنما يشركون به سبحانه أشياء من خلقه إما تسمية لأجسام نحو الكواكب ظانين أن لها تأثيرا، والشمس والقمر، والليل والنهار؛ أو (138/ ب) معاني نحو الطبيعة والعلة، وما يسمونه كونا وفسادا، فإنهم كاذبون، فإن فاعل الأشياء سبحانه وتعالى، هو الذي فعلها أولا، ثم فعل فيها ما ظهر للخلق عنها كالغيث عن السحاب، والنبات عن المطر، ثم لم يترك شيئا منها إلا موصوما بوصمة الحدث، يقر جملته وإبعاضه بأنه مخلوق فلا

يمكنه ما دام موجودا أن يجحد ذلك، فكان من أشرك بالله لصريح جهله الذي ليس له به علم قد أتى فعلة شنعاء كبيرة في مقام البعد عن الله سبحانه، وتحزى به عند أهل الإيمان به، فلهذا كانت هذه الغفلة القبيحة أكبر الكبائر وأصلها. * ثم تعبها في ذلك قتل النفس، من حيث أنه إذا أجرى الحيوان الناطق إلى قتل مثله من الحيوان الناطق، من علمه أنه يحس منه كما يحس، ويألم منه كما يألم، فاستشاط عليه استشاطة خرج فيها عن جميع الحيوان في جنسه، فكان ما أودعه الله فيه من العقل لم يزده إلا شرا، فاض فغلب ما جبل عليه الحيوان الذي لا تمييز له حتى أزهق نفسا مثل نفسه عامدا قاصدا، وأفات أخاه حياته، وأفسد بنيته التي جعلها الرب سبحانه وتعالى بما فيها من الإتقان وعجيب الصنعة دليلا على وجوده سبحانه، فلما هدمها هذا الهادم، كان في معنى من قصد إلى طريق يسلك فيها إلى ملك، وفي تلك الطريق أعلام يستدل بها على سلوك تلك الطريق إلى ذلك الملك، فهدم تلك الأعلام أو علما منها فصار خائنا بتضليل. فضاد الملك عند التوجه إلى قصده بما جمع فيه بينه الخزي المتقدم، وبين أن قطع مادة نسل ذلك القتيل الذي يجوز أن يكون نسله أمة تعبد الله عز وجل في أرضه، وتجاهد من حاده في أمره، مع علم كل عالم أن ذلك المقتول يجوز أن يودع الله لنسله من البركة والكثرة ما تكون ذريته هي ساكنة الأرض كلها مع تنقيص البركة من نسل غيره؛ فيكون من ذريته من يسكن الأرض ويعمر الدنيا إلى يوم القيامة، فإذا قتله القاتل كان بمنزلة من قتل الناس جميعا كما قال الله عز وجل؛ من حيث أنه قتل من يجوز أن يكون أبا لناس كلهم، فإن الناس

كلهم بأسرهم (139/ أ) ذرية رجل واحد، وهو آدم - صلى الله عليه وسلم -، والعرب كلهم ولد إسماعيل. فليس قتل الإنسان للرجل الواحد قتلا لواحد؛ ولكن قتلا يجوز أن يتناول بالتقدير أهل الأرض كلهم؛ فيتضاعف الحوب والجرم بمقدار ذلك، كما أنه لو قد أحياها كان التقدير يتناول له أن يكون بهذه الطريق من أن ذلك الشخص يجوز أن يكون أبا لولد يتوالدون ويتناسلون حتى يكونوا ساكني الأرض كلها فيكون الله سبحانه وتعالى كاتبا له كأنه أحيا الناس جميعا كما قال الله عز وجل، وهذا فإنما ينصرف إلى من قتل نفسا لم يأذن مالكها في قتلها، فأما إذا أذن المالك في القتل يكون عبادة، إلا أن القتل في هذا الحديث لا ينصرف إلا إلى القتل المحرم لأنه ذكره بعد الشرك بالله. * وتلاه ثم أتبعه بعقوق الوالدين، فأما عقوق الوالدين فقد تقدم تفسيره في مواضع وأشير إليه هاهنا، فأقول: إن العقوق أصل اشتقاقه من العق، وهو القطع، فلما جرى هذا الولد أوصل الخلق له بالبر الذي لم يعفا فيه عند غاية من جهدهما في حالة ضعف لهذا الولد وعجز منه، فلما قطع أوصل الخلق له فيما كان أحوج الناس إليه في وقته مع تكرر وصية الموجد سبحانه بحفظ عهدهما منه؛ كان ذلك عظيما في جنسه فظيعا في مقامه فكانت هذه الغفلة ثالثة الكبائر. * فأما الرابعة: وهي قول الزور أو شهادة الزور أنها أكبر الكبائر، فإنها من حيث أن الحيوان الذي خلقه الله سبحانه وتعالى صامتا عن النطق، فإنه جل جلاله قد آمن عباده من أن يقول ذلك الحيوان عليهم ما لم يكن، وفضل الآدمي بأن جعله ناطقا ليكون نطقه بالحق ليبين عما في ضميره، ويفصح عما

في قلبه، ليكون واصفا من أمر الله ووجوب حقه وعجائب خلقه، وكلما يطلع الله عز وجل قلبه عليه، فإذا شهد بالزور قال ما لم يكن، عرض إحسان الله عز وجل إلى خلقه في إنطاقه الآدمي إلى أن يكون في غير موقع الاعترف به لأن شاهد الزور (139/ ب) يكون من بعض شهادته الشرك بالله الذي تقدم وكذلك ما بعده حتى تنتهي إلى حقوق الناس، والقول عليهم ولهم، فهو من أكبر الكبائر كما قال - صلى الله عليه وسلم -. * وإن من أعظم شهادة الزور ادعاء الولد فيه سبحانه وتعالى، ولذلك الذين قالوا: ما وصف الله سبحانه عنهم في كتابه فقال عز وجل: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقر ونحن أغنياء}، وغير ذلك من كل ما يقشعر جلود المؤمنين إذا حكي نطقه عن قائله، فكيف بمن يقوله عن نفسه، ولذلك إذا شهد الرجل على الرجل المسلم بما لا علم له عنده منه، باهتا له فيه كاذبا عليها؛ فإنه قد جمع في ذلك بين الكذب في خبره, والخيانة في أمانته والظلم لأخيه، والإعانة على الباطل، وإطعام رجل مسلم مال رجل مسلم بغير حق، غار الحاكم الذي حكم بشهادته. فكان كل واحد من هؤلاء خصمه إلى الله تعالى، فلذلك كانت شهادة الزور رابعة هذه الخلال. -1540 - الحديث الثالث والعشرون: [عن أنس، (أن رجلا اطلع من بعض حجر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقام إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بمشقص -أو قال: بمشاقص- فكأني أنظر إليه يختل الرجل ليطعنه). وعن أنس (أن رجلا اطلع في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسدد إليه شقصا)، زاد في مسند سهل بن سعد: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)].

* هذا الحديث قد سبق في مسند سهل بن سعد. * والمشقص: سهم عريض النصل، ويختله: بمعنى أنه يترقب الفرصة فيه. -1541 - الحديث الرابع والعشرون: [عن أنس، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم). وفي رواية لمسلم: (أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن أهل الكتاب يسلمون علينا، فكيف نرد عليهم؟ قال: (قولوا: وعليكم)]. * قد سبق الكلام في هذا إلا أنه قد جاء في هذا الحديث: (وعليكم) بالواو في بعض طرقه، ولا أرى معناه إلا وعليكم بما ذكرتم من السوء مع ما عليكم من الأسواء.

-1542 - الحديث الخامس والعشرون: [عن أنس (140/ أ) (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتنفس في الإناء ثلاثا). وعن أنس قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتنفس في الشراب ثلاثا فيقول: إنه أروى، وأبرأ، وأمرأ). قال أنس: (وأنا أتنفس في الشراب ثلاثا)]. * في هذا الحديث من الفقه أن السنة إذا تنفس الإنسان في الإناء ثلاثا فإنه كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (فإنه أروى، وأبرأ، وأمرأ) وصدق - صلى الله عليه وسلم -. * فأما كونه (أروى) فإن الشديد العطش إذا التهبت معدته فإنه لا يصرف عطشه مثل أن يجرع من الماء جرعة بعد جرعة قليلا قليلا، حتى أنه ربما كفاه لديه نصف المقدار الذي يعبه عبأ. * فأما قوله: (وأبرأ) فإنه يعني - صلى الله عليه وسلم - أن الشديد العطش إذا جرع إنما قليلا قليلا في مرات متفرقة أقلهن ثلاث كما ذكرنا فإنه يأمن من نكايته، فكثيرا ما اشتد بقوم العطش، فلما وردوا واستوفوا شرب الماء عبا فماتوا مكانهم. قال الرازي: لو اشتد العطش بإنسان فورد الماء بعطشه، فشرب منه

مقدار ريه دفعة، مات مكانه. * وأما قوله: (وأمرأ) فإنه يعني به - صلى الله عليه وسلم - أن الماء إذا شرب عبا على طعام قد أكله الآكل طفا الطعام على رأس المعدة فلم يستمر به أكله، ولو كان قد شرب في المرات المتفرقة لكان قد حصل في بدن الغذاء فأثقله فحطه إلى قعرها الذي يهضم به فكان يكون أمرأ. -1543 - الحديث السادس والعشرون: [عن أنس قال: (أنفجنا أرنبا بمر الظهران، فسعى القوم، فلغبوا، وأدركتها فأخذتها، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها، وبعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوركها وفخذيها فقبله)]. * قد تقدم هذا الحديث، ومعنى (أنفجنا أرنبا) ذعرناها فعدت. ومعنى

(لغبوا): تعبوا. * وفيه من الفقه أنه لا يجوز للرجل أن يحقر شيئا يحمله إلى من يعز عليه؛ لأن أبا طلحة أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وركها وفخذيها. * وفيه استحباب أن لا يرد الرجل الكبير القدر قليل الهدية لقبول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك. -1544 - الحديث السابع والعشرون: [عن هشام بن زيد (140/ ب) قال: (دخلت مع جدي أنس بن مالك دار الحكم بن أيوب، فإذا قوم قد نصبوا دجاجة يرمونها، فقال أنس: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تصبر البهائم)]. * هذا الحديث قد تقدم في مسند ابن عمر رضي الله عنه. -1545 - الحديث الثامن والعشرون: [عن هشام بن زيد (أن امرأة يهودية أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألها عن ذلك؟ فقالت: أردت لأقتلك. فقال: (ما كان الله ليسلطك على ذلك أو قال: علي قالوا: ألا نقتلها؟ قال: (لا). قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)].

* فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل السم فدفع الله عنه عاجل شره. * وفيه جواز أكل المسلم من طعام اليهود. * وفيه جواز أكل ذبائحهم. * وأما قول أنس: ما زلت أعرفها في لهوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. اللهوات: جمع لهاة، وهي اللحمة المتدلية من الحنك الأعلى فهي حمراء متعلقة، والمعمول عليه هو قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما كان الله ليسلطك علي) وهذا كان في غزاة خيبر. * واسم هذه اليهودية زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم. وقال محمد بن سعد: التثبت عندنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتلها، وإنما قتلها لأنها نقضت العهد بذلك، وإن كان هو قد سلمه الله عز وجل، وقد اتفق المسلمون على أنه من سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل فكيف بمن سمه؟! -1546 - الحديث التاسع والعشرون: [عن أنس، (أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها، فقتلها بحجر، فجيء بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبها رمق، فقال لها: (أقتلك فلان)؟ فأشارت برأسها: أن لا، ثم سألها (الشاشة)، فقالت: نعم، وأشارت برأسها، فقتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحجرين).

وفي حديث ابن إدريس: (فرضخ رأسه بين حجرين). وفي رواية: (أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين، فأخذ اليهودي فأقر، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرض رأسه بالحجارة). وقد قال همام: (بحجرين). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل يهوديا بجارية، قتلها على أوضاح لها). وفي رواية لمسلم: (أن رجلا من اليهود قتل جارية على حلي لها، ثم أكفاها في القليب، ورضخ رأسها (141/ أ) بالحجارة، فأخذ، فأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات)]. * في هذا الحديث جواز التوصل إلى العلم بالجاني من المجني عليه إذا كان قد عجز عن النطق بأن يسمى له من يتهم به إلى أن يشير إلى قاتله، وهذا فإنما يقوي الحال فإن القتيل في بني إسرائيل لما ضرب ببعض البقرة فأحياه الله تعالى فذكر قاتله، فعرفوا القاتل، وكان نفس ذكره للقاتل هو الحجة على القاتل.

وهذه المرأة قريبة من حاله لأنها عجزت عن النطق حتى لم يبق معها أداة النطق إلا الإيماء ففوت الظن بما أشارت إليه في حالتها تلك. * وفي الحديث أن اليهودي أقر، وبذلك لزمته الحجة. * وقد دل الحديث على المماثلة في القصاص. * وقوله: فقالت ثم قالت: لا، يعني أنها سئلت عن شخص بعد شخص إلى أن عين لها القاتل. * وأما ما روي من رضخ رأسه ومن رجمه فكله قتل بالحجارة. -1547 - الحديث الثلاثون: [عن هشام بن زيد قال: سمعت أنس بن مالك يحدث أن أمه حين ولدت: (انطلقوا بالصبي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لحنكه فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - في مربد يسم غنما). قال شعبة: (وأكبر علمي أنه قال في آذانها). وفي رواية: (كان ابن لأبي طلحة يشتكي، فخرج أبو طلحة فقبض الصبي، فلما رجع أبو طلحة، قال: ما فعل ابني؟ قالت أم سليم: هو أسكن ما كان، فقربت إليه العشاء فتعشى، ثم أصاب منها، فلما فرغ، قالت: واروا الصبي، فلما أصبح أبو طلحة أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال: (أعرستم الليلة؟)، قال: نعم، قال: (اللهم بارك لهما)، فولدت غلاما، فقال لي أبو طلحة: احمله حتى تأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعثت معه بتمرات فأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - فمضغها، ثم أخذها من فيه: فجعلها في في الصبي، ثم حنكه، وسماه عبد الله).

وفي رواية: (غدوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعبد الله بن أبي طلحة ليحنكه، فوافيته، في يده الميسم يسم إبل الصدقة). وفي رواية: (لما ولدت أم سليم، قالت: يا أنس، انظر إلى هذا الغلام، فلا يصيبن شيئا، حتى تغدو به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحنكه، فغدوت، فإذا هو في الحائط، وعليه خميصة جونية، وهم يسم الظهر (141/ ب) الذي قدم به يوم الفتح). وفي رواية للبخاري قال: (اشتكى ابن لأبي طلحة، قال: فمات وأبو طلحة خارج، فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئا ونحته في جانب البيت، فلما جاء أبو طلحة قال: كيف الغلام؟ قالت: قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح، فظن أبو طلحة أنها صادقة، قال: فبات؛ فلما أصبح اغتسل، فلما أراد أن يخرج: أعلمته أنه مات، فصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما كان منهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لعله أن يبارك لهما في ليلتهما). قال سفيان بن عيينة: (فقال رجل من الأنصار: فرأيت لهما تسعة أولاد، كلهم قد قرأ القرآن). وفي رواية: (مات ابن لأبي طلحة من أم سليم، فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه، حتى أكون أنا أحدثه، قال: فجاء فقربت إليه عشاء، فأكل وشرب، قال: ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك، فوقع بها، فلما رأت أنه قد شبع، وأصاب منها، قالت: أبا طلحة، أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت، فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا. قالت: فاحتسب ابنك، قال: فغضب، وقال: تركتيني حتى إذا تلطخت، ثم

أخبرتني بابني. فانطلق حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما كان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بارك الله لكما في ليلتكما) قال: فحملت، قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، وهي معه وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى المدينة من سفر لا يطرقها طروقا، فدنوا من المدينة، فضربها المخاض، فاحتبس عليها أبو طلحة، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول أبو طلحة: إنك لتعلم يارب أنه يعجبني أن أخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج، وأدخل معه إذا دخل، وقد احتبست بما ترى، قال: تقول أم سليم: يا أبا طلحة ما أجد الذي كنت أجد، انطلق، فانطلقنا، وضربها المخاض حين قدما، فولدت غلاما، فقالت لي أمي: يا أنس لا يرضعه أحد حتى نغدو به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلما أصبح احتملته فانطلقت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فصادفته معه ميسم، فلما رآني قال: (لعل أم سليم ولدت؟) قلت: نعم. قال: وضع الميسم، قال: وجئت به، فوضعته في حجره، ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعجوة من عجوة المدينة، (142/ أ) فلاكها في فيه حتى ذابت، ثم قذفها في في الصبي، فجعل الصبي يتلمظها، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (انظروا إلى حب الأنصار التمر)، قال: فمسح وجهه وسماه عبد الله. وفي رواية لمسلم: (ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة الأنصاري إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ولد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ولد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عباءة يهنأ بعيرا له، فقال: هل معك تمر؟ فقلت: نعم، فناولته تمرات، فألقاهن في فيه فلاكهن، ثم فغر فا الصبي فمجه في فيه، فجعل الصبي يتلمظه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (حب الأنصار التمر،

وسماه عبد الله)]. * في هذا الحديث من الفقه حمل الصبي إلى الإمام أو العالم تبركا به ليحنكه اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه أيضا أن سيمه الغنم على آذانها. * وفيه أيضا ما يدل على حسن التوصل في تسكين القلوب المنزعجة، كما فعلت أم سليم من توصلها حتى أعلمت أبا طلحة بعد أن قضت هي أربها، فإن أرب أم سليم كان أن تجاهد نفسها حتى تكون مع بعلها، وفي دارها، وولدها ميت. فإن هذا من المقامات العجيبة ولو كانت قد أعلمت أبا طلحة من قبل أن يقضي أربها لما تم لها مرادها، ومما يدل على أن الإيمان هو ثمرة العقل. * والثاني أن هذه أم سليم توصلت بحسن عقلها ونياتها ومجاهدتها نفسها وإعراضها عما يستحسنه أراذل الناس، وسمو همتها إلى ما يكون هو الحسن عند الله، وعند خيار المسلمين، فآثرت الأعلى حتى قاربت بمقام جمع لها من حسن الصبر، وكريم العزاء، وتجهيل الرجال الذين لا يكونون مثلها، وحسن القول التي توصلت به إلى غرضها به من التعريض العجيب الذي سلمت به من الكذب؛ فقالت رضي الله عنها قول رضي الله ورضي رسوله - صلى الله عليه وسلم - ورضي كل مؤمن يسمع بهذا الحديث إلى يوم القيامة. * وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لها بالبركة، والبركة في دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنصرف إلى الدين، فإن الولد الذي ولد لهما كان عالما قارئا؛ لهذا قال الأنصاري: (

فرأيت تسعة من الأولاد كلهم قد قرأ القرآن). * والخميصة الجونية: كساء أسود معلم، فإذا لم يكن معلما فليس بخميصة. * وقوله: لا يطرقها (142/ ب) طروقا. الطروق: إتيان المنازل ليلا. والعجوة: نوع من التمر. والتلمظ: إدارة اللسان في ذوق ما يؤكل، كالاستطابة له. * وفيه أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهد له بتصديق نسبه يقول: انظروا حب الأنصار التمر، لأن التمر أكثر أكل الأنصار. * وقوله: (في عباءة) دليل على جواز لبس العباء. * وفيه أن الكبير القدر لا ينبغي له أن يتكبر لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يهنأ بعيرا له، والهناء ضرب من القطران يتداوى به الإبل من الجرب: وفغر فاه: بمعنى فتحه. -1548 - الحديث الحادي والثلاثون: [عن أنس، قال: (جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعها صبي لها يكلمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: (والذي نفسي بيده إنكم لأحب الناس إلى- مرتين). وفي رواية: (ثلاث مرات)].

* في هذا الحديث دليل على فضيلة الأنصار. * وقوله: (إنكم أحب الناس إلى) أي بعد المهاجرين لأن الناس إنما ينصرف إلى البعداء والمهاجرون قومه، فلو أراد قومه لقال: أحب قومي، فلما قال: الناس؛ علم أنه أراد غير قومه. -1549 - الحديث الثاني والثلاثون: [عن أنس، أنه قال: (كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح، وأبا طلحة، وأبي ابن كعب شرابا من فضيخ زهو وتمر، فأتاهم آت، فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم إلى هذه الجرة فاكسرها، فقمت إلى مهراس لنا، فضربتها بأسفله حتى تكسرت). وفي رواية: (كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، فكان خمرهم يومئذ الفضيخ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مناديا ينادي ألا إن الخمر قد حرمت، قال: فجرت في سكك المدينة، فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فخرجت فأهرقتها، فجرت في سكك المدينة، فقال بعض القوم: قد قتل قوم وهي في بطونهم، فأنزل الله عز وجل: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا}. وفي رواية: (سألوا أنس بن مالك عن الفضيخ، فقال: ما كانت لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي تسمونه الفضيخ، إني لقائم أسقي أبا طلحة وأبا أيوب

ورجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتنا، إذ جاء رجل، فقال: هل بلغكم الخبر؟ قالوا: لا، قال: فإن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: يا أنس، أرق هذه القلال، قال: فما راجعوها ولا سألوا عنها بعد خبر الرجل). (143/ أ) وفي رواية: (كنت أسقي عمومتي من فضيخ لهم، وأنا أصغرهم سنا، فجاء رجل فقال: إنما حرمت الخمر، فقالوا: ألقها يا أنس، فكفأتها. قال: قلت لأنس: ما هو؟ قال: بسر ورطب). وفي رواية: (أني لأسقي أبا طلحة، وأبا دجانة، وسهيل بن بيضاء، من مزادة فيها خليط بسر وتمر، فدخل داخل، فقال: حدث خبر، نزل تحريم الخمر، فأكفأناها يومئذ). وفي رواية للبخاري: (حرمت علينا الخمر حين حرمت، وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا، وعامة خمرنا البسر والتمر). وفي رواية: (أن الخمر حرمت، والخمر يومئذ البسر والتمر). وفي رواية: (لقد أنزل الله هذه الآية التي حرم فيها الخمر، وما بالمدينة شراب إلا من تمر)].

* في هذا الحديث ما يدل على إيمان القوم بحسن مسارعتهم إلى امتثال أمر الشرع. * وفيه ما يدل على قبول خبر الواحد. * وفيه دليل على جواز كسر الأواني التي فيها الخمر إلا أن هذا الحديث يتضمن أن أبا طلحة أمر بكسر آنية غير الإنسان فليس له أن يكسرها بل يريق ما فيها، ويتركها لصاحبها، وينبهه على غسلها ليمكنه الانتفاع بها. والفضيخ: هو البسر يفضخ أي يشدخ ويترك في وعاء حتى ينبذ. والقلال: جمع قلة، وهي الآنية التي كانوا يشربون فيها. * وفيه أيضا أن ما كان من الفضيخ أو التمر يسمى خمرا لأنه لما حرمت الخمر أرادوا الفضيخ. * وفيه دليل على أن الخمر لا يجوز استصلاحها بالعلاج لتصير خلا، إذ لو جاز لما أضاعوها. -1550 - الحديث الثالث والثلاثون: [عن أنس (أن جدته مليكة دعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطعام صنعته، فأكل منه، ثم قال: (قوموا فأصلي لكم)، قال أنس بن مالك: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس، فنضحته بماء، فقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من وراءنا، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، ثم انصرف). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى به وبأمه- أو خالته- قال: فأقامني

عن يمينه، (143/ ب)، وأقام المرأة خلفنا). وفي رواية: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقا، فربما يحضر الصلاة وهو في بيتنا، قال: فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس، ثم ينضح، ثم يؤم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونقوم خلفه، فيصلي بنا، قال: وكان بساطهم من جريد النخل)]. * في هذا الحديث بيان موقف الصبي مع الإمام. * وفيه بيان أن موقف المرأة خلف الصف. * ومعنى يكنس: ينفض لنزول ترابه، ثم ينضح أي يرش عليه الماء ليلين ولو نضح قبل كنسه لصار الماء والتراب طينا فوسخ ثياب المصلي. -1551 - الحديث الرابع والثلاثون: [عن أنس، قال: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحانت صلاة العصر، فالتمس الناس الوضوء، فلم يجدوه، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوضوء، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

في ذلك الإناء يده، وأمر الناس أن يتوضؤوا، فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه، فتوضأ الناس، حتى توضؤوا من عند آخرهم). وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا بماء، فأتي بقدح رحراح، فجعل القوم يتوضؤون، فحزرت ما بين السبعين إلى الثمانين قال: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من أصابعه). وفي رواية: (حضرت الصلاة، فقام من كان قريب الدار إلى أهله، وبقي قوم، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمخضب من حجارة فيه ماء، فصغر المخضب عن أن ينبسط فيه كفه، فتوضأ القوم كلهم، فقلنا: كم كنتم؟ قال: ثمانين وزيادة). وفي رواية: (خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض مخارجه، ومعه ناس من أصحابه، فانطلقوا يسيرون، فحضرت الصلاة، فلم يجدوا ما يتوضؤون به، فانطلق رجل من القوم فجاء بقدح من ماء بسير، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ، ثم مد أصابعه الأربع على القدح، ثم قال: (قوموا توضؤوا)، فتوضأ القوم حتى بلغوا فيما يريدون من الوضوء، وكانوا سبعين أو نحوه). وفي رواية: (عن أنس قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بإناء وهو بالزوراء، فوضع يده في الإناء، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ القوم). قال قتادة: (قلت لأنس: كم كنتم؟ (144/ أ) قال: ثلثمئة، أو زهاء ثلثمئة). وفي رواية: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالزوراء. قال: والزوراء بالمدينة

عند السوق والمسجد في ماء ثمة- دعا بقدح فيه ماء، فوضع كفه فيه فجعل ينبع من بين أصابعه، فتوضأ جميع أصحابه، قال: قلت: كم كانوا يا أبا حمزة؟ قال: كانوا زهاء ثلثمئة). * قد سبق شرح هذا الحديث. والقدح الرحراح: الواسع، المخضب: شبه المركن وقد ذكرنا مقداره. فقال: لم يكن يتبسط يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه، فظاهر الأمر أنه نحو من صاع، والوضوء للرجل فعلى المعهود مد، فإذا كانوا ثمانين كان ثمانين مدا أو إن كانوا ثلثمائة كان ثلثمائة مدا، وإنما العددان كانا في حالين، ولم يتنبه الراوي، وهو على ما قدرا أنه يكون أربعة أمداد، فإذا بلغ إلى ثمانين في حالة وإلى ثلثمائة في حالة أخرى، فإن هذا إيجاد من الله عز وجل للماء في تلك الحال، وهو أبلغ من إيجاده من الصخر وأعجب.

-1552 - الحديث الخامس والثلاثون: [عن أنس، قال: قال أبو طلحة لأم سليم: (قد سمعت صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضعيفا، أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ فقالت: نعم، فأخرجت أقراصا من شعير، ثم أخذت خمارا لها، فلفت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت ثوبي، وردتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فذهبت به، فوجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا في المسجد، ومعه الناس، فقمت عليهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أرسلك أبو طلحة)؟ فقلت: نعم، فقال: (الطعام)؟ فقلت: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن معه: (قوموا)، قال: فانطلقوا، وانطلقت بين أيديهم، حتى جئت أبا طلحة، فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سليم، قد جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس، وليس عندنا ما نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم. قال: فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه، حتى دخلا، فقال رسول (144/ ب) الله - صلى الله عليه وسلم -: (هلمي ما عندك يا أم سليم)، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففت، وعصرت عليه أم سليم عكة لها، فآدمته، ثم قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقول، ثم قال: (ائذن لعشرة)، فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: (ائذن لعشرة)، فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: (ائذن لعشرة)، حتى أكل القوم كلهم وشبعوا، والقوم سبعون رجلا- أو ثمانون). وفي رواية: (أن أم سليم عمدت إلى مد شعير جشته، وجعلته معه خطيفة، عصرت عليه عكة لها، ثم بعثتني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتيته وهو في

أصحابه، فدعوته، فقال: (ومن معي؟) فجئت فقلت له: يقول ومن معي، فخرج إليه أبو طلحة، فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما هو شيء صنعته لك أم سليم، فدخل فجيء به، وقال: (أدخل علي عشرة)، حتى عد على أربعين، ثم أكل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعلت أنظر: هل نقص منها شيء؟). وفي رواية لمسلم: (بعثتني أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأدعوه، وقد جعل طعاما، قال: فأقبلت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الناس، فنظر إلي، فقلت: أجب أبا طلحة، فقال الناس: قوموا، فقال: أبو طلحة: يا رسول الله، إنما صنعت لك شيئا، قال: فمسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعا فيها بالبركة، ثم قال: (أدخل على نفرا من أصحابي عشرة)، وقال: (كلوا)، وأخرج لهم شيئا من بين أصابعه، فأكلوا حتى شبعوا وخرجوا، فما زال يدخل عشرة، ويخرج عشرة، حتى لم يبق منهم أحد إلا دخل فأكل حتى شبع، ثم هيأها، فإذا هي مثلها حين أكلوا منها). وفي رواية: (ثم أخذ ما بقي، فجمعه ثم دعا فيه بالبركة، قال: فعاد كما كان، فقال: دونكم هذا). وفي رواية: (أمر أبو طلحة أم سليم أن تصنع للنبي - صلى الله عليه وسلم - طعاما لنفسه خاصة، ثم أرسلتني إليه، وقال فيه: فوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده، وسمى عليه، وقال: (ائذن لعشرة)، فأذن لهم، فدخلوا، فقال: كلوا وسموا الله تعالى، فأكلوا حتى فعل ذلك ثمانين رجلا، ثم أكل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك وأهل البيت، وتركوا سؤرا) (145/ أ). وفي رواية: (فقام أبو طلحة على الباب، حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:

يا رسول الله إنما كان شيئا يسيرا، فقال: هلمه فإن الله سيجعل فيه البركة). وفي رواية: (ثم أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأكل أهل البيت، ثم أفضلوا ما بلغوا جيرانهم). وفي رواية: (رأى أبو طلحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مضطجعًا في المسجد يتقلب ظهرًا لبطن، فظنه جائعًا. وذكر نحوه). وفي رواية عن أنس، قال: (جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فوجدته جالسًا مع أصحابه وقد عصب بطنه بعصابة- قال أسامة بن زيد: وأنا أشك: على حجر- قال: فقلت لبعض أصحابه: لم عصب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطنه؟ فقالوا: من الجوع، فذهبت إلى أبي طلحة- وهو زوج أم سليم بنت ملحان- فقلت: يا أبتاه، قد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عصب بطنه بعصابة، فسألت بعض أصحابه فقالوا: من الجوع، فدخل أبو طلحة على أمي، فقال: هل من شيء؟ فقالت: نعم، عندي كسر من خبز وتمرات، فإن جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده أشبعناه، وإن جاءنا آخر معه قل عنهم)]. * في هذا الحديث أن المؤمن ينبغي له أن يكون متفقدًا لأحوال المؤمن، إذا

كان صاحبه، ولا يحوجه أن يطلب نعمة مما يحتاج إليه من طعام أو شراب فإن أبا طلحة لما رأى أثر الجوع في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم أم سليم بذلك فصنعت الطعام. * وفيه أن أم سليم أرسلت إليه بما أرسلت من ذلك مع أنس، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأله عما أرسلت به، فلما أخبره به وأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا إطعام الجماعة في بيت أبي طلحة أهيأ لما كان يريده من إدخال عشرة عشرة، فيأكلون حتى إذا شبعوا خرجوا، ودخل غيرهم، وهذا لم يكن يتهيأ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث كان لأنه إنما ثرد الزاد بعينه الذي كان مع أنس. * وفيه دليل (145/ ب) على استحباب تطيب الزاد للضيف لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (عندك ما تأدمينه؟ فآتت بعكة سمن فجعلته عليه، والعكة: الزق. * وفيه أيضًا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما جاء إلى بيت أبي طلحة جاء بالناس معه، ولم يستأذن أبا طلحة في ذلك، لأنه إنما أطعمهم القدر الذي أرسل به إليه بعينه، وذلك القدر قد كان جعل لحكمة. * وفيه أيضًا ما يدل على إيمان أم سليم وثبات عقلها حين قال لها أبو طلحة: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجاء الناس معه. فعلمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليأتي على ذلك الوجه إلا لحكمة وسر، فقالت: الله ورسوله أعلم. * وفيه أن السنة في إطعام الضيف إذا كثروا عن مقدار المكان أو الإناء أن يدخل قوم بعد قوم، الذي جرى من ذلك كان من آية الله عز وجل لنبيه.

* وفيه أن مقدار ما أطعم الناس منه كان مدًا من شعير، وقد ذكر أنه أكل منه سبعون أو ثمانون. والظاهر أن كل شخص منهم يأكل المد. * والحيس: هو الدق، والخطيفة: أن يؤخذ لبن ثم يدر عليه الدقيق، ثم يطبخ فيلعقه الناس، ويختطفونه بسرعة. والعكة: زق السمن، والسؤر: البقية، يقال: أسار في الإناء، أي أبقى. -1553 - الحديث السادس والثلاثون: [عن أنس، قال: (كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بئر (حاء) وكانت مستقبلة المسجد، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها، ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}. فقام أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إن الله تعالى يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وإن أحب مالي إلى بئر حاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله عز وجل، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بخ، ذلك مال رابح، وقد (146/ أ) سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)، فقال: أبو طلحة: أفعل، يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه). وفي رواية: (ربح أو رابح). وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي طلحة: اجعلها لفقراء أقاربك،

فجعلها لحسان وأبي بن كعب). وفي رواية: (قال أنس: فجعلها لحسان وأبي بن كعب وكانا أقرب إليه مني، وكانت قرابة حسان وأبي من أبي طلحة واسمه: زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد بن مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام يجتمعان إلى حرام، وهو الأب الثالث). وفي رواية عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة- لا أعلمه إلا عن أنس- قال: (لما نزلت: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} جاء أبو طلحة، ثم ذكر نحو ما تقدم إلى أن قال: فهي إلى الله عز وجل، وإلى رسوله، أرجو بره وذخره، فضعها أي رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بخ يا أبا طلحة، ذاك مال رابح، قبلناه منك، ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين. فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه، قال: وكان منهم أبي وحسان، قال: فباع حسان حصته منه من معاوية، فقيل له: تبيع صدقة أبي طلحة؟ فقال: لا أبيع صاعًا من تمر بصاع من دراهم؟ قال: وكانت تلك الحديقة في موضع قصر بني جديلة الذي بناه معاوية). وفي رواية لمسلم: (لما نزلت هذه الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} قال أبو طلحة: أي ربنا يسألنا من أموالنا، فأشهدك أني قد جعلت أرضي ببئر حاء لله تعالى، فقال: اجعلها في قرابتك- قال: فجعلها في حسان ابن ثابت وأبي بن كعب)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الأضداد يبين ببعضها بعض، فإذا أراد الإنسان

فجعلها لحسان وأبي بن كعب). وفي رواية: (قال أنس: فجعلها لحسان وأبي بن كعب وكانا أقرب إليه مني، وكانت قرابة حسان وأبي من أبي طلحة واسمه: زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد بن مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام يجتمعان إلى حرام، وهو الأب الثالث). وفي رواية عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة- لا أعلمه إلا عن أنس- قال: (لما نزلت: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} جاء أبو طلحة، ثم ذكر نحو ما تقدم إلى أن قال: فهي إلى الله عز وجل، وإلى رسوله، أرجو بره وذخره، فضعها أي رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بخ يا أبا طلحة، ذاك مال رابح، قبلناه منك، ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين. فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه، قال: وكان منهم أبي وحسان، قال: فباع حسان حصته منه من معاوية، فقيل له: تبيع صدقة أبي طلحة؟ فقال: لا أبيع صاعًا من تمر بصاع من دراهم؟ قال: وكانت تلك الحديقة في موضع قصر بني جديلة الذي بناه معاوية). وفي رواية لمسلم: (لما نزلت هذه الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} قال أبو طلحة: أي ربنا يسألنا من أموالنا، فأشهدك أني قد جعلت أرضي ببئر حاء لله تعالى، فقال: اجعلها في قرابتك- قال: فجعلها في حسان ابن ثابت وأبي بن كعب)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الأضداد يبين ببعضها بعض، فإذا أراد الإنسان

البر كان معيار ذل: إخراجه ما يحب لقوله الله تعالى: {لن تنالوا البر} فذكر البر (بالألف واللام) المستغرق للجنس أو المعهود، وهذا من جوده فلو أنه عز وجل قال: (لن تنالوا برًا حتى تنفقوا كل ما يحبون، ولكن لما قال سبحانه: {لن تنالوا (146/ ب) البر}، بان أنه أراد البر المعهود، والمستغرق للجنس حتى ينفقوا مما يحبون، أي شيئًا مما يحبون يعني شيئًا ما، تخفيفًا وتيسيرًا من الجهتين. وإنما كان لهذا الإنفاق مزية لأن المنفق آثر الله تعالى فيه على هواه، وأبو طلحة وإخراجه بئر (حاء) في سبيل الله فإنه أنفقها نفقة دارة، ورد تعيين مصرفها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاختار له - صلى الله عليه وسلم - أحسن المصارف لأنه - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يجمع له بين الصلة والصدقة، فقال: (اجعلها في الأقارب) ليكون متصدقًا وواصلًا رحمه. * وقوله: (فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويشرب من ماء فيها) يدل على جواز دخول الإنسان بستان الصديق وإن لم يأذن.

* وقوله: (ويشرب من ماء فيها طيب) يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختار شرب الماء الطيب على غيره، وذلك أن الماء القراح أوفق المياه للأبدان. * وقوله: (ذلك مال رابح) أي مربوح فيه، كما يقال ليل قائم ونهار صائم، أي ليل يقام فيه ونهار يصام فيه، ولما عين له - صلى الله عليه وسلم - الأقارب خص به أقربهم حتى أن أنسأ وهو ابن امرأته لم يسهمه شيئًا. * وقوله: (قبلناه منك) هذا لأنه نبي الله عز وجل فقبله عن الله تعالى. وقوله: (ورددناها عليك) أي رددنا هؤلاء به فجعلناها في الأقربين فجمع له فيها بين ثواب الصدقة وثواب صلة الرحم وثواب الولاية عليها. * فأما بيع حسان لها فإنه يجوز أن يكون أبو طلحة قد أعطاها على وجه الهبة، فكان للموهوب له أن يبيعها. -1554 - الحديث السابع الثلاثون: [عن أنس، قال: (كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأردكه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة. قال أنس: فنظرت إلى صفحة عاتق النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء). وفي رواية: (جبذه إليه جبذة رجع نبي الله في بحر الأعرابي). وفي رواية: (فجاذبه حتى انشق البرد حتى بقيت حاشيته في عنق رسول الله صلى الله (147/ أ) عليه وسلم)].

* في هذا الحديث ما يدل على حلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعليمه السؤدد من أراده، وأنه صبر على سوء أدب هذا الأعرابي ونحوه، ولم يجازه - صلى الله عليه وسلم - إلا بأن ضحك؛ وإنما ضحك سرورا بحلمه من جهل الأعرابي، وتوفيق الله إياه - صلى الله عليه وسلم - لذلك، ولأن الأعرابي كان طالب رفد والكريم لا يجازي الخشن القول في الطلب بمثله؛ فيكون دالا على أنه قد كان منتظرًا ذلة السائل فيحتج بها في دفعه، فإذا صبر على خشونة السائل كان ذلك كرمًا فوق الكرم. * ولأنه أيضًا يخلص فيه البذل لله عز وجل، فإنه لو لطف له السائل وتملقه فأعطاه صار العطاء مشوبًا بحظ النفس، ولم يتم الخلوص لله عز وجل كما يتم وإعطاء مثل هذا المسيء أدبه، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح)، ولعله تبسم لما رأى من أمارة الإخلاص في العطاء، وإن كان - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل إلا بالإخلاص لكنه قدوة لغيره فيكون سروره كيف وقع في أفعاله ما يكون مقتدى لغيره.

-1555 - الحديث الثامن والثلاثون: [عن أنس، (أن خياطا دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطعام صنعه، قال أنس: فذهبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك الطعام، فقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبزا من شعير ومرقًا فيه دباء وقديد، قال أنس: فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتتبع الدباء من حوالي الصحفة، فلم أزل أحب الدباء من يومئذ). وفي رواية: (دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غلام خياط، فقدم إليه قصعة فيها ثريد، وعليه دباء، قال: وأقبل على عمله- يعني: الغلام- قال: فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يتتبع الدباء، قال أنس: فجعلت أتتبعه وأضعه بين يديه، قال: ومازالت بعد أحب الدباء). وفي رواية لمسلم: (دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل، فانطلقت معه، فجيء بمرقة فيها دباء، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل من ذلك الدباء، ويعجبه، قال: فلما رأيت ذلك، جعلت ألقيه إليه، ولا أطعمه، قال أنس: فما زلت بعد يعجبني الدباء). وفي رواية عن أنس (147/ ب) (فما صنع لي طعام بعد أقدر أن يصنع فيه دباء إلا صنع)].

* في هذا الحديث ما يدل على أن من المستحسن إجابة العظيم القدر دعوة الفقير من الناس. * وفيه استحباب أكل الدباء، وذلك لأنه أخف الأطعمة على المعدة، وهو كاسر للصفراء لمصادته إياها، وهو من أصلح الأطعمة لأهل الحجاز ليبسها وحرارتها، فإنه بارد رطب، وهذا يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليميل إلى طعام وغيره إلا لمعنى راجع إليه ومصلحة ومنفعة أودعها الله فيه. * وفيه أيضًا أن الأجير المشترك الذي لا يعقد مع الاجراء عقودًا على يوم معلوم ولكن على عمل معين، فإن ذلك جائز لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل من طعام الخياط، وهو أجير مشترك، وعلى أن الخياطة سبب يتمكن من كمال ستر العورة ففضلت لذلك. *وفيه أن أنسا كان يتعلم من مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعاله لقوله: (فما صنع لي طعام أقدر أن يصنع فيه دباء إلا صنع). -1556 - الحديث التاسع والثلاثون: [عن أنس قال: (دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين صباحا يدعو على رعل وذكوان ولحيان وعصية، عصت الله ورسوله. قال أنس: أنزل الله عز وجل في الذين قتلوا بئر معونة قرآنًا قرأناه، حتى نسخ بعد: أن بلغوا أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا، ورضينا عنه).

وفي رواية: (بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أقوامًا من بني سليم إلى بني عامر في سبعين). وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث خاله- أخًا لأم سليم- واسمه: حرام في سبعين راكبًا). وفي رواية: (فلما قدموا قال لهم خالي: أتقدمكم، فإن آمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلا كنتم مني قريبًا، فتقدم فآمنوه، فبينما هو يحدثهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أومؤوا إلى رجل منهم، فطعنه فأنفذه، فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة، ثم مالوا على بقية أصحابه، فقتلوهم إلا رجلًا أعرج صعد الجبل، قال همام: وأراه آخر معه، فأخبر جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم قد لقوا ربهم، فرضي عنهم وأرضاهم، قال: فكنا نقرأ: (أن بلغوا قومنا (148/ أ) أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا وأرضانا)، ثم نسخ بعد، فدعا عليهم أربعين صباحًا على رعل وذكوان وبني لحيان, وبني عصية، الذين عصوا الله ورسوله). وفي رواية للبخاري: (لما طعن حرام بن ملحان- وكان خاله- يوم بئر معونة، قال: بالدم هكذا، فنضحه على وجهه ورأسه، ثم قال: فزت ورب الكعبة). وفي رواية عن أنس قال: (بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعين رجلًا لحاجة، يقال لهم: القراء، فعرض لهم حيان من سليم: رعل وذكوان، عند بئر يقال لها: بئر معونة، فقال القوم: والله ما إياكم أردنا، إنما نحن مجتازون في حاجة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقتلوهم، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم شهرًا في صلاة الغداة، وذلك

بدء القنوت، وما كنا نقنت. قال عبد العزيز: فسأل رجل أنسا عن القنوت بعد الركوع أو بعد فراغ القراءة؟ فقال: لا بل عند فراغ القراءة). وفي رواية عن أنس قال: (قنت النبي - صلى الله عليه وسلم - شهرًا بعد الركوع، يدعو على أحياء من العرب). وفي رواية عن أنس: (أن رعلًا وذكوان وبني لحيان استمدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عدوهم، فأمدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم: القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، حتى إذا كانوا ببئر معونة قتلوهم، وغدروا بهم، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقنت شهرًا يدعو في الصبح على أحياء من العرب على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان، قال أنس: فقرأنا فيهم قرآنًا، ثم إن ذلك رفع: (بلغوا قومنا) وذكره). وأخرجا من حديث محمد بن سيرين قال: (قلت لأنس: هل قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة؟ قال: نعم، بعد الركوع يسيرًا). وفي رواية عن أنس قال: (قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا بعد الركوع في صلاة الصبح، يدعو على رعلٍ وذكوان، ويقول: عصية عصت الله ورسوله). وفي رواية لمسلم: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قنت شهرًا بعد الركوع في صلاة الفجر يدعو على بني عصية). وفي رواية عن عاصم بن سليمان عن أنس قال: (سألته عن القنوت قبل الركوع أو بعد الركوع؟ قال: قبل الركوع، قلت: فإن ناسًا يزعمون أن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قنت بعد الركوع، قال: (148/ ب) إنما قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا، يدعو على أناس قتلوا أناسًا من أصحابه يقال لهم: القراء، زهاء سبعين رجلًا). وفي رواية: (وكان بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد). وفي رواية ابن عيينة: (أصيبوا يوم بئر معونة). وفي رواية: (بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية يقال لهم: القراء، فأصيبوا، فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد على شيء ما وجد عليهم، فقنت شهرًا في صلاة الفجر يدعو، ويقول: إن عصية، عصت الله ورسوله). وأخرج البخاري من حديث أبي قلابة عن أنس قال: (كان القنوت في المغرب والفجر). ولمسلم: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قنت شهرًا يدعو يلعن رعلًا وذكوان وعصية عصت الله ورسوله). ولمسلم عن أن أنس قال: (جاء أناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: إن أبعث معنا رجالًا يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلًا من الأنصار يقال لهم: القراء، فيهم خالي حرام، يقرؤون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء، فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل الصفة والفقراء، فبعثهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فعرضوا لهم، فقتلوهم قبل أني يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك، فرضينا عنك، ورضيت عنا، قال: وأتى رجل حرامًا- خال أنس- من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه، فقال حرام: فزت ورب الكعبة، فقال

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: إن إخوانكم قد قتلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا: أنا قد لقيناك، فرضيت عنا، ورضينا عنك)]. * في هذا الحديث دليل على استحباب الدعاء وتكريره وإظهاره؛ لأنه دال على يقين العبد المسلم بربه، ودال على أن العبد المؤمن إذا انتظر النصر على عدوه من الله سبحانه، ودال على أن ما كان يراه الجاهلية من الأنفة من الدعاء ويرونه ذلًا مما قد كانوا مخطئين فيه ليكون إذا أجيب الدعاء مما يحتج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على منكري الحق به، وإنما شدد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدعاء على أهل بئر معونة لأنهم (149/ أ) جمعوا بين الكفر بالله والغدر بمن آمن إليهم، وبين اللؤم في قتل رجل واحد يذكر لهم الله عز وجل ويدعو إليه. * وأما قول حرام بن ملحان حين طعن: (فزت ورب الكعبة) فإنه كلام يدل على أن قائله قد كان حريصًا على الشهادة؛ فلما قضيت له تحقق الفوز بها فقال: فزت، وقوله: ورب الكعبة: يمين نشأت عن إيمان منه، بأن الشهادة في سبيل الله فوز، وعلى أن الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى هو من أقوى الأدلة على وجوده جل جلاله لقوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب

دعوة الداع إذا دعان}، وقوله: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه}. * وكان يقول الشيخ محمد بن يحيى رحمه الله: لا أدل على وجود موجود أعظم من أن يدعا فيجيب، وقد كنت جرى لي مرة في زمن الإمام المقتفي رضي الله عنه أنه لما تطاول علينا أصحاب مسعود بن محمد المسمى سلطانًا، وأساؤا الأدب، وفجروا بأقوالهم، وخف جماعة ممن يتظاهر بالفقه يومئذ بمدرسة الحسن بن محمد بن إسحاق، وبلغ ذلك منهم كل مبلغ، فكاتبني وكاتبته في ذلك أن نعمل الفكرة في محاربة مسعود حينئذ ومجاهرته، ثم إني أنكرت بعد ذلك، ورأيت أنه ليس بصواب مجاهرته لقوة شوكته وكثرة عتاده، وقلة ما عندنا من أمور ذلك وعدده، واتفق بكورة إليه في يوم الجمعة فدخلت إليه رضي الله عنه، وهو قد ظهرت الموجدة عليه كل الظهور، وبلغ منه الغيظ كل مبلغ، وكأنه يستطعمني الرأي، فقلت: إنه أني فكرت ثم إني رأيت أن لا وجه في هذا الأمر إلا اللجأ إلى الله تعالى وصدق

الاعتماد عليه، فبادر رضي الله عنه إلى تصديقي في ذلك. وقال: ليس إلا هذا. ثم خرجت من بين يديه من معين على ذلك، فجئت الجامع، وصليت الجمعة ثم إني كتبت إليه مطالعة بعد صلاة الجمعة أذكر له فيها أن تلك العزيمة التي وقع الاتفاق عليها، ينبغي أن يرتب لها ترتيب يعرف لها، وقد دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رعل وذكوان شهرًا، وينبغي أن ندعو نحن شهرًا على هذا الإنسان، وأنا منذ ليلتي هذه المقبلة لا أخل بذلك في كل ليلة، وكان قولي هذا في يوم جمعة ليلة تسع وعشرين من جمادى الأولى من سنة سبع وأربعين (149/ ب). ثم عرضت المطالعة مختومة، فعاد إلى جوابها مختومًا أيضًا، يشير إلى ذكر الدعاء إشارة خفيفة، احترز فيها من أن يصرح بذكر ذلك مراقبة لأولئك الظلمة، ثم أنني لازمت الدعاء في كل ليلة وقت السحر شهرًا فلم أخل بزمان كنت أجلس وادعو الله سبحانه وتعالى، وكان يوم تسع وعشرين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة تتمة الشهر موت مسعود بن محمد على سريره ولم يزد عن الشهر يومًا ولا نقص عنه يومًا. ثم إن الله سبحانه وتعالى نصرنا على أثر ذلك؛ بأن أجاب الدعاء، وأزال يده عن العراق ويد أتباعه وأصحابه، وأورثنا أرضهم وديارهم، وكنت فيما أدعوا به في بعض الليالي أن يسرع الله بخبره إلى قبل أن يعلم صاحبه المقيم ببغداد المعروف (بالبلالي)، وهو الذي كان يتولى كبر القول من أصحابه،

فلما مات مسعود خرج ودفن قصادنا من بلده همذان، فساروا السير العتيد حتى وصلوا إلى (خانقين) في خمسة أيام، فأتوا إلى شيخنا فقالوا له: إنا قد جئنا في كيت وكيت، فأقم لنا شخصًا مستريحًا يأخذ الكتب ويحملها إلى (شهرابان)، فأقام لهم من حملها إلى شهرابان، فسار قاصده من خانقين إلى شهرابان طول ليله، فأصبحت الكتب بشهرابان. ثم إن الذي وصل إلى شهرابان، أتى إلى شحنتها، وقال له: خذ هذه الكتب ففيها كيت وكيت، وأسرع فركب شحنة شهرابان فرسًا وجنب أخرى، وأسرع حتى قتل أحد الفرسين ونجا على الآخر، فوصل إلينا الخبر بعد العصر يوم السادس من همذان، وكان ذلك من آيات الله سبحانه وإجابة الدعاء، وقد أورث الخليفة المقتفي رضي الله عنه في طول تلك الليلة مرارا في أن ائت ذلك البلالي فأتى ذلك علي، فلما كان في غد تلك الليلة وقت الظهر وصل ذلك الخبر إلى البلالي، فكان الخبر عندنا في سادس رجب من سنة سبع وأربعين، فتبارك الله رب العالمين مجيب دعاء الداعين.

* وقد دل هذا الحديث على أن القنوت عند فراغ القراءة، وإنما كان القنوت في الدعاء على أولئك. وقول أنس: (قنت شهرًا) فالظاهر أنه أراد في هذه المدة التي دعا فيها على هؤلاء. والذي أرى في هذا أنه متى حدث للمسلمين (150/ أ) ما يقتضي مثل هذا جاز أن يفعلوا مثل ما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - من القنوت في الصبح، ويدعو لأنه لم يأت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه منع من ذلك، ولا أنه خض ذلك بأولئك القوم بأعيانهم. * وقد دل الحديث على أن الفقر غير مانع من عبادة الله عز وجل، بل ربما كان معينًا عليها، فإن هؤلاء كانوا يحتطبون بالنهار، ويقرؤون بالليل. * وفي الحديث جواز أن يجد المؤمن على فقدان أخيه المؤمن استيحاشًا لفقده، وإن كان المفقود من أهل الجنة، ولاسيما إذا كان قد اغتيل فقتل به خداعًا وغاب عنه ناصره، ولم يحضر الفتك به وليه؛ إذ لو حضره لقد كان يبلي في الانتصار له فيشفي بذلك صدره. * وقوله: (وكانوا يأتون بالماء فيضعونه في المسجد) فيه حث للفقير إذا وفقه الله أن يثابر على اصطناع المعروف كما يثابر عليه الغني، فإن هؤلاء كانوا يحتطبون ويبيعونه ويتصدقون بثمنه على أهل الصفة، وكانوا يتصدقون بنقل الماء إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليشرب منه المسلمون، وكانوا من الذين لا يجدون إلا جهدهم. * وفيه أيضًا دليل على أن أهل الحق قد ينال منهم المبطلون، ولا يكون ذلك دالًا على فساد ما عليه أهل الحق، بل كرامة لهم وشقاء لأهل الباطل، فإن هؤلاء حين بعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأصيبوا كلهم كان ذلك فتنة للكافرين، ثم إن

الله عز وجل أظهر دينه، وأعلا كلمته، ولم يضر ذلك الحق شيئًا، وإن القوم لما لقوا من فضل الله من ثواب الشهادة، ما لم يفتقر فيه شيء إلى زيادة إلا أنهم تمنوا لو قد علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما أكرمهم الله به ليكون ذلك داعيًا إلى طيب نفسه - صلى الله عليه وسلم - من أجلهم، وإلى رغبة إخوانهم من المسلمين في مثل حالهم، فقالوا في الجنة ما قالوا، فتولى الله عز وجل إبلاغ نبيه - صلى الله عليه وسلم - عنهم، وكفى بذلك شرفًا. -1557 - الحديث الأربعون: [عن أنس (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يطرق أهله ليلًا وكان يأتيهم غدوة أو عشية)]. * في هذا الحديث أن الكامل في أحواله يحترز من النقائص؛ ليكون ذلك مما يقتدى به (150/ ب) فيه، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على طهارة أهله ونفسه بأمانة أزواجه، كان لا يطرقهن ليلًا حتى يقتدي به غيره فلا يطرق أحد أهله ليلًا؛ فجأة من أجل أنه ربما يكون من ذلك ما يكره. *وأيضًا فإن المرأة إذا كان زوجها مسافرًا قد لا تهتم بنفسها كما يكون حاضرًا من الطيب وغسل الثوب وغير ذلك؛ فلو قد أتى الإنسان أهله وهي على ذلك الشعث والتفل لم يكن بعيدًا من أن يبقى في نفسه مرارة ذلك

الاجتماع دهرًا، فإذا شعرن بقدوم بعولتهن افتقدن أنفسهن، وغسلن أثوابهن، وتطيبن، وكان اجتماع بعولتهن بهن أدعى للألفة وأعمر لمواطن المحبة. -1558 - الحديث الحادي والأربعون: [عن أنس، قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه، إلا أم سليم، فإنه كان يدخل عليها، فقيل له في ذلك فقال: (إني أرحمها، قتل أخوها معي)]. * قد ذكر العلماء أنه كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أم سليم نسب من الرضاعة؛ ثم قد كان يدخل إليها لدينها وصلاحها. * وقوله: (قتل أخوها معي) يعني به أخاها حرامًا، وهو الذي تقدم ذكره في الحديث الذي قبل هذا. - وقوله: (معي) فيه وجهان: أحدهما: أنه قتل وهو باق على الكون معي لم يتردد ولم يتلوم في الكون معي على شريعتي وديني حتى قتل. والثاني: أنه قتل في نصرتي، وهذا حرام كان قد كان قدر أن يسمى حرامًا لينطوي في ذلك معنى هو أن ما جرى من قتله حرام فكانت حاله تستشف وهو حي لمكان أنه سيقتل مظلومًا.

-1559 - الحديث الثاني والأربعون: [عن أنس، قال: (أصابت الناس سنة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده، ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت السحاب يتحادر على لحيته، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، ومن بعد غد، والذي يليه، حتى الجمعة الأخرى، فقام ذلك الأعرابي، أو قال: غيره، فقال: يا رسول الله، تهدم البناء وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه فقال: (اللهم حوالينا ولا (151/ أ) علينا)؛ فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجوبة، وسال الوادي قناة شهرًا، ولم يأت أحد من ناحية إلا حدث بالجود). وفي رواية: (أن رجلًا دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب، فاستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا قال: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: (اللهم أغثنا، اللهم أغثتنا، اللهم أغثنا)، قال أنس: ولا والله، ما نرى في السماء من سحاب، ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار. قال: فطلعت من ورائه سحابه مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت، ثم أمطرت. قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتًا، قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب، فاستقبله قائمًا، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطع

السبل، فادع الله يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه، ثم قال: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر). قال: فانقطعت، وخرجنا نمشي في الشمس. قال شريك: فسألت أنس بن مالك: أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري). وفي رواية: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة، فقام الناس فصاحوا فقالوا: يا رسول الله، قحط المطر، وأحمرت الشجر، وهلكت البهائم، فادع الله أن يسقينا، فقال: (اللهم اسقنا) مرتين .. وايم الله، ما نري في السماء من قزعة من سحاب، فنشأت سحابة فأمطرت، ونزل عن المنبر فصلى بنا، فلما انصرف، لم يزل المطر إلى الجمعة التي تليها، فلما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب صاحوا إليه: تهدمت البيوت، وانقطعت السبل، فادع الله يحبسها عنا، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: (اللهم حوالينا ولا علينا) وتكشطت (151/ ب) المدينة، فجعلت تمطر حولها، ولا تمطر بالمدينة قطرة، فنظرت إلى المدينة وإنها لفي مثل الإكليل). وأخرجه البخاري تعليقًا وفيه: (رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه حتى رأيت بياض إبطيه). وفي رواية: (عن أنس بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله، قحط المطر، فادع الله أن يسقينا، فدعا فمطرنا فما كدنا أن نصل إلى منازلنا، ومازلنا نمطر إلى الجمعة المقبلة)، قال: فقام ذلك الرجل- أو غيره- فقال: يا رسول الله، ادع الله يصرفه عنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم حوالينا ولا علينا)، قال: فلقد رأيت السحاب يتقطع يمينًا وشمالًا،

يمطرون ولا يمطر أهل المدينة). وفي رواية: (بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة، إذ قام رجل فقال: يا رسول الله، هلك الكراع، هلك الشاء، فادع الله أن يسقينا، فمد يديه فدعا). وفي رواية: (فرأيت السحاب يتمزق كأنه الملاء حين تطوى). وفي رواية: (فألف الله السحاب وملأتنا، حتى رأيت الرجل الشديد تهمه نفسه أن تأتي أهله)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الله سبحانه جعل الدلالة على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أحاج الخلق بانقطاع المطر ودوام الجدب إلى أن ضرعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء، فكان من كمال دلالته الجدب الذي عقبه هذا الخصب، فصار

ذلك كله بمجموعه آية على نبوته، فاستدل من هذا على أن الله في كل أقضيته أسرارا يفهمها العلماء من عباده. فأما كونه لما طلب منه الاستسقاء بادر إلى الطلب ولم يتوقف، لأنه فهم - صلى الله عليه وسلم - أن ما يقدم من جنس المطر كان لإثارة للهمم لهذا السؤال، فلما فزع الطالبون إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يطلبون منه الغوث، لم ير أن يؤخر ذلك حينئذ لحظة؛ فطلب الخير من أهله. * وفيه أيضًا ما يدل على أن المسجد لم يكن ذا سقف أو قد كان من جريد يمنع الشمس ولا يمنع المطر لقوله: (فرأيت أثر الماء في جبهته وأنفه). * وفيه دليل على أنه كان ذلك في وقت لم يكن في السماء قزعة من غيم، وأن الله تعالى أوجده في ذلك الوقت، ثم استمر مستهلًا ذلك اليوم وما يليه وما بعده (152/ أ) إلى الجمعة الأخرى حتى خيف من زيادته، وأنه قام ذلك الرجل خائفًا من تهدم البنيان وتعطل السبل فطلب كشفه. * وفيه دليل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع استجازته دعا الله في كف الأذى من زيادة المطر، فإنه أحسن القول، بأن طلب سلام المدينة التي فيها الجدران الجائز عليها أن يتهدم، والسقوف الممكن فيها أن تهبط، وطلب من الله تعالى أن يعدل به إلى بطون الأودية ومنابت الشجر مما لا يضر فيه الإكثار من الغيث، فكان ذلك أيضًا جمعًا بين ما أنعم الله به لعموم الناس وبين إجابة سؤال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة من أجل جدرانهم وطرقهم. * وفيه أيضًا ما يدل على رفع اليدين إلى السماء في السؤال، وأنه لم

يضعهما حتى كان السحاب، فيدل على استحباب رفع اليدين إلى السماء في السؤال في الاستسقاء. * وفيه ما يدل على أن الله سبحانه وتعالى أذن للسحاب أن تأتمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوله: فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت. * وفيه أيضًا ما يدل على أن المدينة صارت في مثل الجوبة أي ما عليها مصحي، وهذا السؤال عم الخلق لقوله: (فلم يأت أحد من ناحية إلا حدث بالجود). * وفيه أيضًا أنه يستحب تكرار الدعاء ثلاثة لقوله: (اللهم أغثنا) ثلاثًا. والجود: المطر الكثير، والآكام: جمع أكمة، والظراب: دون الجبال، واحدها ظرب، وتكشطت المدينة: أي انكشفت. * وقوله: (فما كدنا نصل إلى منازلنا) لم يرد أن المطر لم ينزل حتى وصلنا منازلنا إنما أراد أنه لشدة المطر وكثرته لم نكد نصل إلى منازلنا، ويدل على ذلك قوله: حتى رأيت الرجل الشديد تهمه نفسه أن يأتي أهله. * وقوله: (هلك الكراع)، والكراع: هو اسم واقع على جملة الخيل وغيرها من ذوات الحافر. * وقوله: (كأنه الملاء) وهو جمع ملاءة، وهي الرداء.

-1560 - الحديث الثالث والأربعون: [عن أنس قال: (كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء رجل، فقال: يا رسول الله، إني أصبحت حدا فأقمه علي، ولم يسأله، قال: وحضرت الصلاة، فصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - (152/ب) فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة، قام إليه الرجل، فقال: يا رسول الله إني أصبحت حدا، فأقم في كتاب الله، قال: (أليس قد صليت معنا؟ قال: نعم، قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك-أو حدك -)]. * في هذا الحديث دلالة على أن الصلاة تكفر كبار الذنوب، فإن الرجل قال: (أصبحت حدا) فلما صلى جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة مكفرة عنه ذلك الحد، وإنما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك من أجل أن الرجل لم يقر بذلك الحد، ولا عينه، ولم يفصح بأمر يلزمه شيئا في الحكم، فكانت الصلاة مكفرة، ورأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن إقراره به والتماسه منه إقامة الحد عليه يعد ندما صريحا، قد هدم ذنبه الذي أتى به، فلما لم يعينه ولم يثبت عليه حد معين اكتفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له بالصلاة مكفرة.

-1561 - الحديث الرابع والأربعون: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال، إلا مكة والمدينة، وليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين، يحرسونها، فينزل السبخة، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل كافر ومنافق). وفي رواية: (فيأتي سبخة الجرف فيضرب رواقه)، قال: (ويخرج إليه كل منافق ومنافقة)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن الله تعالى حمى البلدين من أن يسلط عليها الدجال، وأن المدينة خاصة ترجف بأهلها فيخرج منها كل كافر ومنافق، وذلك لأنهما في معنى قلب الأرض ولسانها، فإن اللسان من المدينة لأن لسان الشرع إنما نطق مفصحا بالمدينة، وقلب الإسلام بمكة لأن بها بيت الله فكما أنه ليس للإنسان إلا قلب واحد، فلذلك ليس في الأرض بت إلا الكعبة، فكأنه يسلط الدجال على جثث الأرض كلها ويستثنى منها قلبها ولسانها، فيكون على نحو ما سلط إبليس على أيوب واستثنى منه قلبه ولسانه. * والنقب: الطريق في الجبل، والجمع: نقاب. * والرجفة: حركة كالنازلة.

* والرواق: كالفسطاط على عماد واحد في وسطه، والجمع أروقة. -1562 - الحديث الخامس والأربعون: [عن أنس (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى أعرابيا يبول (153/أ) في المسجد، فقال: دعوه، حتى إذا فرغ دعا بماء فصبه عليه). وفي رواية: (بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: مه مه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تزرموه، دعوه، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه، فقال له: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنما هي لذكر الله والصلاة، وقراءة القرآن)، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: وأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فسنه عليه). وفي رواية عن أنس: (أن أعرابيا قام إلى ناحية في المسجد، فبال فيها، فصاح به الناس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (دعوه، فلما فرغ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذنوب، فصب على بوله). وفي رواية: (فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى بوله أمر بذنوب من ماء، فأهريق عليه)].

* في هذا الحديث ما يدل على أن المنكر لا ينبغي أن يستجف المنكر، بل يثبت ثباتا تتمكن معه من استئصاله فإن استجفاف المنكر قد يراه المسلم غضبا لله عز وجل فيسرع فيه إسراعا نزل به فيه عجلته، والصواب التثبت فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى الأعرابي قد بال في المسجد، وإنما حمله على ذلك جهله، وقد كان من الناس من ربما ينهره فيزرمه إزراما ربما آل إلى تلف نفسه، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يمهل حتى إذا فرغ من ذلك، كفى أن يصب عليه ذنوبا أو ذنوبين من ماء، ثم نهاه بعد ذلك نهيا يتمكن من إفهامه الحق منه، فيجمع - صلى الله عليه وسلم - في ذلك بين طهارة المسجد، وحفظ الآدمي، وتعليم الحاضرين، إذ لو لطمه لاطم لم يبعد أن يجيبه بمثل فعله بجهله، ويتصل الشر، وأن يقوم بنجاسته فينجس منه غير المخرج، ولا يؤمن أن يتعدى ذلك إلى غيره، وأن يقول المنكر أو المنكر عليه كلمة مثل أن يلعنه المنكر عليه أو يسبه أو يقول هو كلمة في جواب الإنكار، وكل كلمة من ذلك لو كانت أعظم من بوله. * وهذا الحديث أصل في هذا الباب. ومعنى تزرموه: (153/ب) أي لا تقطعوا عليه بوله. قال أبو عبيد: الإزرام هو القطع. وقوله: فسنه عليه: أي فرقه عليه، الذنوب: هو الدلو العظيمة. * وقد دل هذا الحديث على أن النجاسة إذا كانت على الأرض فغمرت بالماء

استهلكت فطهر المكان، ولولا أنه يطهر لم يأمن بذلك؛ لأنه كان يكثر التنجيس. -1563 - الحديث السادس والأربعون: [عن أنس، قال: (صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر بالمدينة أربعًا؛ وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين). وفي رواية: (صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أربعًا وبذي الحليفة ركعتين، ثم بات حتى أصبح بذي الحليفة، فلما ركب راحلته واستوت به: أهل). وفي رواية: (بات بها حتى أصبح). وفي رواية: (وسمعتهم يصرخون بهما جميعًا)]. * هذا الحديث يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر مقيمًا، ثم سافر ولذلك قصر العصر. * وفيه من الفقه أن الإهلال بالحج أو بالعمرة يكون عند ركوب المحرم راحلته؛ فذلك أنه أبعد للصوت، وأظهر للحال، وأحسن في الإعلان بذكر

الله عز وجل، وأدعى إلى أن يذكر به من لم يذكر حتى يتبعه فيه. -1564 - الحديث السابع والأربعون: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (خير دور الأنصار: بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير)]. * قد مضى هذا الحديث. -1565 - الحديث الثامن والأربعون: [عن أنس قال: (ما صليت وراء إمام أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية: (وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتتن أمه). وفي رواية: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوجز الصلاة ويكلمها).

وفي رواية: (كان من أخف الناس صلاة في تمام). وفي رواية: (إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه). وفي رواية: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع بكاء الصبي وهو في الصلاة، فيقرأ بالسورة الخفيفة أو (154/أ) بالسورة القصيرة). وفي رواية: (ما صليت خلف أحد أوجز صلاة ولا أتم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت صلاته متقاربة، وصلاة أبي بكر متقاربة، فلما كان عمر مد في صلاة الصبح)]. * هذا الحديث قد تقدم وسبق الكلام عليه. -1566 - الحديث التاسع والأربعون: [عن أنس قال: (ليلة أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مسجد الكعبة: أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه، وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك

الليلة، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى، فيما يرى قلبه، وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلموه حتى احتملوه، فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل، فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته، حتى فرع من صدره وجوفه، وغسله من ماء زمزم بيده، حتى أنقى جوفه، ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب، محشو إيمانًا وحكمة فحشى به صدره ولغاديده، يعني عروق حلقه ثم أطبقه. ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابًا من أبوابها، فناداه أهل السماء: من هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمد، قالوا: أو قد بعث؟ قال: نعم، قالوا: فمرحبًا به وأهلًا، يستبشر به أهل السماء، لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم، فوجد في السماء الدنيا آدم، فقال له جبريل: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فرد عليه آدم عليه السلام، وقال: مرحبًا وأهلًا يا بني، نعم الابن أنت. فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان، فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟ قال: هذا النيل والفرات عنصرهما، ثم مضى به في السماء فإذا هو بنهر آخر، عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب بيده، فإذا هو مسك أذفر قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك. ثم عرج به إلى السماء الثانية، فقالت الملائكة مثل ما قالت الأولى: من هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: أو قد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبًا وأهلًا، ثم عرج به إلى السماء الثالثة، وقالوا له (154/ب) مثل ما قالت الأولى والثانية. ثم عرج به إلى الرابعة، فقالوا له مثل ذلك، ثم عرج به إلى الخامسة،

فقالوا مثل ذلك، ثم عرج به إلى السادسة، ثم إلى السابعة، فقالوا له مثل ذلك، كل سماء فيها أنبياء قد سماهم، فوعيت منهم إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة -لم أحفظ اسمه-وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله تعالى، فقال موسى: رب، لم أظن أن ترفع علي أحدًا. ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه أحد، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة، فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله فيما أوحى إليه: خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى، فاحتبسه موسى فقال: يا محمد، ماذا عهد إليك ربك؟ قال: عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة، قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم، فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار إليه جبريل: أن نعم، إن شئت، فعلا به إلى الجبار، فقال وهو مكانه: يا رب خفف عنا، فإن أمتي لا تستطيع هذا). فوضع عنه عشر صلوات. ثم رجع إلى موسى فاحتبسه، فلم يزل يردده إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات، ثم احتسبه موسى عند الخمس فقال: يا محمد، والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من ذلك فضعفوا وتركوه، فأمتك أضعف أجسادًا وقلوبًا وأبدانًا وأبصارًا وأسماعًا، فارجع فليخفف عنك ربك، كل ذلك يلتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جبريل يشير عليه، ولا يكره ذلك جبريل، فرفعه عند الخامسة فقال: (يا رب إن أمتي ضعفاء، أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم، فخفف عنا).

فقال الجبار: يا محمد، قال: (لبيك وسعديك)، قال: إنه لا يبدل القول لدي، كما فرضت عليك في أم الكتاب، قال: فكل حسنة بعشر أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب، وهي خمس عليك. فرجع إلى موسى فقال: كيف فعلت؟ فقال: (خفف عنا، أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها)، فقال موسى: قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك، فتركوه، فارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا موسى قد والله استحييت من ربي مما اختلفت إليه) (155/أ) قال: فاهبط باسم الله، فاستيقظ وهو في المسجد الحرام). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أتيت بالبراق-وهو دابة أبيض طويل، فوق الحمار ودون البغل-يضع حافره عند منتهى طرفه. قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس، قال: فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، قال: ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، قال جبريل: اخترت الفطرة. وقال: ثم عرج بنا إلى السماء، فاستفتح جبريل عليه السلام، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه: قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بآدم، فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل عليه السلام، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة عيسى بن

مريم، ويحيى بن زكريا عليهما السلام، فرحبا ودعوا لي بخير. ثم عرج إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن، قال: فرحب بي، ودعا لي بخير. ثم عرج إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بإدريس، فرحب بي ودعا لي بخير. قال الله تعالى: {ورفعناه مكانًا عليًا}. ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بهارون، فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بموسى، فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث (155/ب) إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه.

ثم ذهب إلى سدرة المنتهى، فإذا أوراقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشي، تغيرت، فما أحد من خلق الله تعالى يستطيع أن ينعتها من حسنها، فأوحى إلي ما أوحى، فعرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك، فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم. قال: فرجعت إلى ربي، فقلت: يا رب، خفف عن أمتي، فحط عني خمسًا، فرجعت إلى موسى، فقلت: حط عني خمسًا، فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. قال: فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى، حتى قال: يا محمد، إنهن خمس صلوات في كل يوم وليلة، بكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت عشرًا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئًا، فإن عملها كتبت سيئة واحدة، قال: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى، فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه). وفي رواية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أتيت، فانطلقوا بي إلى زمزم فشرح عن صدري، ثم غسل بماء زمزم، ثم أنزلت). زاد البرقاني: (ثم أنزلت طست من ذهب ممتلئة إيمانًا وحكمة، فحشي بها صدري، ثم عرج بي الملك إلى السماء الدنيا، فاستفتح الملك فقال: من

ذا؟ فقال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قال: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، ففتح فإذا آدم، فقال: مرحبًا بك من ولد، مرحبًا بك من رسول. ثم عرج إلى السماء الثانية، فاستفتح، فقال: من هذا؟ قال: جبريل. ومن معك؟ قال: محمد، وقد بعث؟ قال: نعم، قال: ففتح، فإذا عيسى ويحيى، فقالا: مرحبا بك من رسول. ثم عرج بي الملك إلى السماء الثالثة، ثم استفتح فقال: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد. قال: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قال: ففتح لنا (156/أ) فإذا يوسف، فقال: مرحبًا بك من أه، مرحبًا بك من رسول. ثم عرج بي إلى السماء الرابعة، ثم استفتح فقال: من ذا؟ قال: جبريل. قال: ومن معك؟ قال: محمد. قال: وقد بعث؟ قال: نعم. قال: فإذا إدريس في الرابعة، فقال: مرحبًا بك من أخ، ومرحبًا بك من رسول. قال: ثم عرج بي إلى السماء الخامسة، ثم استفتح، فقال: من ذا؟ قال: جبريل. قال: ومن معك؟ قال: محمد. قال: وقد بعث؟ قال: نعم، قال: ففتح فإذا هارون فقال: مرحبًا بك من أخ، مرحبًا بك من رسول. ثم عرج بي إلى السماء السادسة ثم استفتح، فقال: من ذا؟ قال: جبريل. قال: ومن معك؟ قال: محمد. قال: وقد بعث؟ قال: نعم، ففتح فإذا موسى، فقال: مرحبًا بك من أخ، ومرحبًا بك من رسول. قال: ثم عرج إلى السماء السابعة، ثم استفتح فقال: من ذا؟ قال: جبريل. قال: ومن معك؟ قال: محمد. قال: وقد بعث؟ قال: نعم، ففتح

فإذا إبراهيم، فقال: مرحبًا بك من ولد. ومرحبًا بك من رسول. قال: فانتهيت إلى بناء فقلت للملك: من هذا؟ فقال: هذا بناء بناه الله للملائكة، يدخل فيه كل يوم سبعون ألف ملك يقدسون الله ويسبحونه لا يعودون فيه، قال: ثم انتهيت إلى السدرة، وأنا أعرف أنها سدرة أعرف ورقها وثمرها، قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشيها، تحولت حتى ما يستطيع أحد نعتها. قال: وفرض علي خمسون صلاة، فأتيت موسى فقال: بكم أمرت؟ قلت: بخمسين صلاة. قال: إن أمتك لا تطيق هذا، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فرجعت إلى ربي فوضع عني عشرًا، قال: فما زلت بين ربي عز وجل وموسى، حتى جعلها خمس صلوات، فأتيت على موسى فقال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف، قال: لا، بل أسلم لربي فنوديت أني قد كملت فريضتي، وخففت عن عبادي، فكل صلاة عشر صلوات)]. * قد سبق ذكر المعراج، ما قد سبق في مسند أبي ذر وغيره. * وهذا الحديث من كلام أنس حاكيًا حال المعراج، وقد صرح أنه كان منامًا، فلعله رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل معراجه. وقد دل على هذا قول أنس: (قبل أن

يوحى إليه) فكأنه رآه قبل النبوة وإنما كان معراجه يقظة (156/ب) إلا أن منام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحي. وهذا فهو في أسلوب ما رواه أبو ذر من أمر إخراج يقظة فإنه ذكر فيه شق صدره، وغسله من ماء زمزم في طست من ذهب، وركوبه البراق، ورقيه إلى السماء، ولقاء الأنبياء، فيجوز أن يكون هذا قد رآه منامًا - صلى الله عليه وسلم - بين يدي اليقظة مقدمة لها، وتأنيسًا بها فكانت يقظته، وفق رؤياه، فإن كان في إحدى الحالين زيادة نطق فلعله من راو حفظ ما لم يحفظه غيره. * وذكر هاهنا عيسى ويحيى ابني الخالة، وذكر يوسف أنه أعطي شطر الحسن. والذي أرى أن كل الحسن ما شمل الخلق والخلق في المعنى والصورة فلما كان يوسف عليه السلام قد ملك أحد قسمي الحين وهو الصورة كان ذلك شطر الحسن، والذي أراه أنه جمع لمحمد - صلى الله عليه وسلم - الحالان في الخلق والخُلق، المعنى والصورة، فأعطي الحسن كله، فلذلك أروى قوله في حسن يوسف: أعطي شطر الحسن). * وفي بعض طرق هذا الحديث أن موسى في السماء السابعة، وفي باقي طرقه أنه في السادسة، وأن إبراهيم عليه السلام في السابعة، والحكمة في ترديد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه إشارة موسى عليه السلام، فإنه إذا قلنا أن موسى كان في السماء السابعة فهو يكون أول الأنبياء لقاءً له عند عوده، فما كان ليترك موسى عليه السلام هذه النصيحة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته تجوزه وهو يعلمها حتى يؤديها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقبول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من موسى عليه الصلاة والسلام لأنه - صلى الله عليه وسلم - عرف

نصح موسى وإشفاقه على أمته، وإذا قلنا إن موسى في السماء السادسة، وإن فوقه إبراهيم عليه السلام فيكون عبور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إبراهيم عليه السلام فلا أراه إلا لأن إبراهيم مقام الخلة ووالد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال الله تعالى: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي)، ولأن إبراهيم في مقام الخلة وقد سبق قولنا: إنها تفضي إلى اتحاد الإرادة فلا يكون في مناسبة الخلة الإشارة إلى مراجعة الله تعالى في أمر يأمر به، ويكون هذا القول من موسى عليه السلام هو الذي (157/أ) يناسب حاله. * فأما قوله: (ثم علا به فوق ذلك ما لا يعلمه أحد إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى)، وإنها المنتهى في كل شيء، لأن النطق ورد بالإطلاق فتحتمل أن يكون انصرافه إلى كل شيء، ينتهي إليه يديه حتى الكبر من المخلوقات فإن الله تعالى يقول: {عندها جنة المأوى}، فأضاف جنة المأوى على سعتها وعظمها إليها. وهذا المعنى مما يذكره شيخنا محمد بن يحيى. * وقوله: (ثم علا به) فلا أظنه يعني إلا أن الله تعالى علا به. * وقوله: (ودنا الجبار فتدلى) بالفاء فإنها تقتضي العطف بلا مهلة في كلام العرب. وهذا يدلك على أنه جل جلاله رب العزة في دنوه إلى رسوله غير مشابه لتدلي الأجسام، وأما دنو الله سبحانه إلى عبده فهو معروف في لغة العرب، وكذلك التدلي فهو من الأعلى إلى الأدنى في التقريب غير خاف معناه، ولا يحمل شيء من ذلك على صفة الخالق لا حقيقة ولا مجازًا. ومما يدل على أدب موسى أنه لم يسأل عليه السلام ماذا أوحى إليك ربك

على الإطلاق، فكان يكون في ذلك وحاشا موسى عليه السلام سوء أدب، ولكنه سأله عما يعلم أن مقتضاه الانكشاف، وأنه ليس مما يخفى فإنه يفرض على الأمة كلها. * وفي هذا من الفقه أن الله سبحانه وتعالى علم أن موسى عليه السلام سيسأل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - عما فرض عليه ربه، وأنه سيتردد محمد - صلى الله عليه وسلم - فيما بينهما، فيضع الله عن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خمسًا وأربعين صلاة في العدد وتكملة في التضعيف ليجعل ذلك سببًا قويًا في تأنيس موسى عليه السلام إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، لئلا يظن ظان أن موسى عليه السلام يغش على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتجاوزه مقامة. * وقول موسى: (رب لم أظن أن ترفع علي أحدًا) فهذا يجوز أن يكون قاله اعتذارًا من سؤاله الرؤيا قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنه سأل الرؤيا ظانًا منه أنه لا يرفع عليه أحدًا، فلما رأى محمدًا قد رفع عليه اعتذر عن سؤاله ذلك، وهذه النصيحة من موسى عليه السلام تدل على زوال المنافسة فيما بينهما، وما كان موسى عليه السلام إلا ليحب ما أحب الله تعالى من رفع محمد - صلى الله عليه وسلم - عليه، وما أحبه الله تعالى فهو إلى موسى أحب مما يحب. * فأما استشارة النبي صلى الله (157/ب) عليه وسلم لجبريل عليه السلام فيما ذكره موسى له؛ فإنه مما يدل على كمال أدب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث لم يسرع العود إلى ربه مراجعًا في إسقاط فرضة فرضها على أمته حتى ينظر ما عند جبريل عليه السلام في ذلك، فلما رأى من جبريل عليه السلام سهولة ذلك عنده، رجع - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك كله بتيسير من الله تعالى وتقدير، حتى كمل المثوبة، وخفف العبادة، وساق إلى موسى عليه السلام المحمدة، وزاد موسى ومحمد عليهما السلام كل واحد منهما ودًا لصاحبه، وإلى جبريل

حسن المساعدة. وكل من أولئك فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتد لهما بذلك. * وقوله: (به إلى الجبار تعالى وهو مكانه) فيجوز أن يكون أن جبريل مكانه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - علا بمفرده، وقال لديه ما قال في ذلك من الكلام، وتأخر على قدر حفظ الراوي. * وفيه أيضًا من السر أن الله تعالى كان قادرًا في أول مرة أن يضع عن محمد - صلى الله عليه وسلم - الخمس والأربعين ولا يردده، ولكن أراد الله عز وجل تدريب محمد - صلى الله عليه وسلم - في المراجعة بالسؤال والطلب لأجل أمته، فالرحمة الحقيقية هي من الرب تعالى لعباده، وإنما هو جل جلاله يرتبها في الوسائط حفظًا لما بينه وبين خلقه من ستور الهيبة، وإلا فهو سبحانه خلق محمدًا رحمة للعالمين من رحمته بهم، فكيف تتطاول رحمة مخلوق إلى بلوغ رحمة خالق للرحمة سبحانه وتعالى، وقد افتتح كتابه جل جلاله بأن قال: {بسم الله الرحمن الرحيم}. فهي تبشرة لكل ناطق بها أنه لا يرى بعدها إلى الخير، ولما كان من قضاء الله تعالى وقدره أن يجعلها خمسًا بخمسين، أوقع في قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحياء من رجوعه مرة أخرى، فإنه سبحانه سبق في فضله تضعيف هذه الخمس ليكون سعر الحسنات كلها، فكان تسمية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للنزول بعد أن ثبت ذلك له في سعر الحسنات لأمته أولى. * أما البراق: فقد سبق الكلام عليها.

فأما الحكمة في أنه عرج به من بيت المقدس، ولم يعرج به من مكة، ومكة أفضل من بيت المقدس؛ فالذي أراه في ذلك أنه لو عرج به من مكة لفاتته مشاهدة بيت المقدس، ولما كان يقوم الحجة على قريش بصفة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كما ثبتت حجته عليهم (158/أ) حين وصف لهم بيت المقدس والنظر إليه، فلما عرج به من بيت المقدس اجتمع له الحالان، وليكون أيضًا خطاه إلى قصد ربه سعيًا وعروجًا. * وإنما ذكر ابني الخالة في هذا الحديث عيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام، وكونهما في مقام واحد وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو ذر فهو من رواية أنس عنه أيضًا، ولم يذكر فيه يحيى عليه السلام إلا أنه قد كان يحيى صديق عيسى عليهما السلام لقوله عز وجل: {مصدقًا بكلمة من الله} والكلمة هي عيسى. * وقوله في البيت المعمور، وإن إبراهيم مسندًا ظهره إليه، وأنه يدخله كل يوم سبعون ألفًا لا يعودون إليه، فلا أرى في ذلك إلا إعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بكثرة جنود الله تعالى، وتضاعف عدد ملائكته حتى أن هذا البيت المعمور في كل يوم يدخله سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه، فانظر ما قد مضى من الدنيا من الأيام، وهو على ما قد مضى من ألوف السنين كل سنة ثلثمائة وستون يومًا، وهكذا إلى يوم القيامة في كل يوم سبعون ألف ملك ولم تفرغ النوبة حتى تنتهي إلى الأول. * وأما إسناد إبراهيم ظهره إليه، فالذي أراد في ذلك أنه لم يبق بعد الموت عبادة ولا تكليف ولا توجه إلى قبله بل أسند ظهره إلى البيت لأن الدار

الآخرة، دار راحة. * وقوله عز وجل: {ومن هم بحسنة} إلى آخر الكلام في ذلك فقد تقدم الكلام عليه. * وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في سدرة المنتهى في بعض طرق هذا الحديث: (ثم انتهيت إلى السدرة، وأنا أعرف أنها سدرة، أعرف ثمرها وورقها؛ فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تحولت حتى ما يستطيع أحد نعتها)، فقد سبق قولنا لما تكلمنا عن سدرة المنتهى. * وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا النطق: (أعرف أنها سدرة، أعرف ثمرها، وورقها)، أي إني أعرف ورقها ورق السدر، ثم ذكر أنها تحولت إلى ما لا يستطيع أحد نعته إلى أن الذي أرى في ذلك أن تخصيص شجرة المنتهى بأن جعلها سدرة؛ لأن السدر شجر العرب، فلما كان آخر الأنبياء نبي العرب فهي منتهى الأنبياء وأمته منتهى الأمم، وهي مقام مناجاته كان ذلك سابقًا في علم الله تعالى، (158/ب) جعل سبحانه وتعالى الشجرة التي يناجيه عندها سبحانه وتعالى عربية. فإن شجرة موسى عليه السلام على ما ذكر شجرة عوسجة. والشجرة التي تبايع المسلمون تحتها سمرة، وهذه الشجرة فهي سدرة، فهي عربية قد كان يستشف منها علماء الملائكة أنها مقام مناجاة للنبي العربي.

* والنحر: أول الصدر، وهو موضع القلادة. * واللغاديد: لحمات في اللهوات، واحدها لغدود. -1567 - الحديث الخمسون: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)]. * هذا الحديث قد مضى في مسند أبي موسى بزيادة، وأشير إليه فيما تقدم من تفسيره. * فأما قوله عليه السلام لعائشة: (فضلك على سائر النساء) يدل على تصريحه بفضلها على سائر النساء، ثم أتبع ذلك بأن ضرب له قياسا بتثنيه ودليلا يستند إليه، وهو قوله: (كفضل الثريد على سائر الطعام)، قد تقدم ذكرنا له أنه يكون من عدة وجوه.

-1568 - الحديث الحادي والخمسون: [عن أنس، قال: (دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أم حرام بنت ملحان، قال بعض الرواة: وهي خالة أنس، فاتكأ عندها ثم ضحك، فقالت: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: (ناس من أمتي يركبون البحر الأخضر في سبيل الله، مثلهم مثل الملوك على الأسرة)، فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: (اللهم اجعلها منهم) ثم عاد فضحك، فقالت له مثل ذلك، أو مم ذلك؟ فقال لها مثل ذلك، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم فقال: (إنك من الأولين، ولست من الآخرين). قال أنس: فتزوجت عبادة بن الصامت، فركبت مع بنت قرظة، فلما قفلت ركبت دابتها، فوقصت بها، فسقطت عنها فماتت)]. * كانت أم حرام من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمحرم، ولهذا جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه في حجرها. * وفي هذا الحديث أن من وقص عن دابته كان شهيدا كالمقتول بالسيف.

* وفيه أن لله تعالى استجاب دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حقها. * وفيه جواز تمني الشهادة ولا يكون ذلك تمنيا للموت، فإن تمني الموت بتنقيص العسكر الإسلام، وتمني الشهادة إعزاز للإسلام. * وفيه ما يدل على فضيلة معاوية رضي الله عنه وصحة إمارته، وأنه من (159/أ) الغزاة في سبيل الله، وأن الغزاة الذين كانوا تحت يده كانوا كالملوك على الأسرة. -1569 - الحديث الثاني والخمسون: [عن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يتبع الميت ثلاث: أهله، وماله، وعمله، فيرجع اثنان، ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله)]. * معنى هذا الحديث أنه يتبع الميت ثلاث صور من صور الأحوال فيما أرى، ومعناها أن الإنسان إذا مات تبعه في زوال الحال أهله وقد ينصرف هذا إلى الزوجة. وقد تكون هي وغيرها، فإن موسى عليه السلام لم يكن معه إلا ابنة شعيب {فقال لأهله امكثوا}. وإنما الذي رأيت في قوله موسى عليه السلام لأهله {امكثوا} أنه خاطبها بخطاب الجماعة ولم يقل امكثي ليكون ذكر الجمع أقرب إلى الخفر؛ لأنه لو

قال: امكثي لتعينت للسامع، وخرجت من شياع الجمع إلى انفراد الوحدة. * وكذلك المال فإنه ينتقل بموته إلى الوارث، والعمل ينتقل عن استمراره إلى الانقطاع. * وقوله: (فرجع عنه) الذي أرى فيه أنه من رجوع الخذلان، كما يقال رجع فلان عن فلان أي خذله، فالمعنى أنه خذله أهله وماله ولا يخذله عمله. -1570 - الحديث الثالث والخمسون: [عن أنس أنه وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (كان ربعة من القوم، ليس بالطويل ولا بالقصير، أزهر اللون، ليس بأبيض ولا آدم، ليس بجعد قطط، ولا سبط رجل، أنزل عليه، وهو ابن أربعين، فلبث بمكة عشر سنين ينزل عليه، وبالمدينة عشر سنين، وتوفاه الله على رأي ستين، وليس في رأسه - صلى الله عليه وسلم - ولحيته عشرون شعرة بيضاء، قال ربيعة: فرأيت شعرا من شعره - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو أحمر، فسألت؟ فقيل: احمر من الطيب). وفي رواية عن أبي هريرة قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضخم القدمين، حسن الوجه، لم أر بعده مثله - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية: (وكان شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا، لا جعدا ولا سبطا). وفي رواية: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضخم الرأس والقدمين، لم أر قبله ولا بعده مثله، وكان سبط الكفين).

وفي رواية (159/ب): (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - شثن الكفين والقدمين). وفي رواية عن أنس أو جابر قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ضخم الكفين والقدمين، لم أر بعده شبيها له). وفي رواية عن أنس: (ما مسست حريرا ولا ديباجا ألين من كف النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا شممت ريحا قط ولا عرقا أطيب من ريح أو عرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية لمسلم: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزهر اللون، كان عرقه اللؤلؤ، إذا مشى تكفأ، وما مسست ديباجة ولا حريرة ألين من كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا شممت مسكة ولا عنبرة أطيب من رائحة النبي - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية: (ما شممت عبيرا قط ولا مسكا ولا شيئا أطيب من ريح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا مسست شيئا قط ديباجا ولا حريرا ألين مسا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)]. * قد سبق شرح صفات النبي - صلى الله عليه وسلم -. * وقوله: (كان ربعة) أي ليس هو بالطويل ولا بالقصير. * وقوله: (أزهر اللون) أي هو نير اللون.

والآدم: الأسمر، والجعد القطط: الجعودة في الشعر انثناء وانقباضه، والقطط الذي قد زادت جعودته، والسبط: هو السهل المسترسل، وشثن الكفين: غليظهما. والعرف: الطيب، والعنبر: أخلاط من الطيب تجمع. * أما حسن وجهه - صلى الله عليه وسلم - فإنه يدل على أن الخير يكثر في كل صبيح الوجه. * وقد دل الحديث على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان كثير الطيب حتى احمر شعره على أن الله تعالى خلقه طيبا - صلى الله عليه وسلم - وإنما استعمل الطيب للتشريع. -1571 - الحديث الرابع والخمسون: [عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة: (التمس بنا غلاما من غلمانكم يخدمني) عند خروجه إلى خيبر، فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما نزل، فكنت أسمعه يكثر أن يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين وغلبة الرجال) فلم أزل أخدمه حتى ابتلينا من خيبر، وأقبل بصفية بنت حيي قد حازها، فكنت أراه نحوي وأراه يحوي وراءه بعباءة أو بكساء (160/أ)، ثم يردفها وراءه حتى إذ كنا بالصهباء، صنع حيسا في نطع، ثم أرسلني فدعوت رجالا فأكلوا، وكان ذلك بناءه بها، ثم أقبل حتى إذا بدا له أحد قال: (هذا جبل يحبنا ونحبه) فلما أشرف على المدينة، فقال: (اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مدهم

وصاعهم). وفي رواية: (أن أنسا قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر، فلما فتح الله عليه الحصن، ذكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب، وقد قتل زوجها، وكانت عروسا، فاصطفاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه، فخرج بها حتى بلغ سد الروحاء، فحلت، فبنى بها، ثم صنع حيسا في نطع صغير، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (آذن من حولك)، فكانت تلك وليمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صفية، ثم خرجنا إلى المدينة، قال: فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحوي لها وراءه بعباءة، صم يجلس عند بعيره، فيضع ركبته، فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب). وفي رواية: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات). وفي رواية: (وأرذل العمر). وفي رواية: (قلت لأنس: أحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة؟ قال: نعم ما بين كذا إلى كذا، فمن أحدث فيها حديثا، ثم قال لي: هذه شديدة من أحدث فيها حدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا). وفي رواية: (سألت أنسا أحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة؟ قال: نعم هي حرام لا يختلى خلالها، فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين). وفي رواية: (عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الصبح بغلس، ثم ركب، فقال: (الله أكبر، خربت خيبر، إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)،

فخرجوا يسعون في السكك، يقولون: محمد والخميس. قال (160/ب): والخميس: الجيش-فظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم، فقتل المقاتلة، وسبى الذراري، صارت صفية لدحية الكلبي، وصارت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم تزوجها، وجعل عتقها صداقها، فقال عبد العزيز لثابت: يا أبا محمد، أنت سألت أنسا ما مهرها؟ قال: أمهرها نفسها، فتبسم). وفي رواية: (فحرك ثابت رأيه تصديقا له). وفي رواية: (سبى النبي - صلى الله عليه وسلم - صفية، فأعتقها وتزوجها). وفي رواية: (أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها، قال ثابت لأنس: ما أصدقها؟ قال: نفسها، فأعتقها). وفي رواية: (أن صفية كانت في السبي، فصارت إلى دحية، ثم صارت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية: (أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا خيبر، قال: فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس، فركب النبي - صلى الله عليه وسلم - وركب أبو طلحة وأنا رديف أبي طلحة، فأجرى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في زقاق خيبر، وإن ركبتي لتمس فخد نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، وانحسر الإزار عن فخد نبي الله، فإني لأرى بياض فخد النبي - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية: (حسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإزار عن فخده، حتى إني أنظر إلى بياض فخد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما دخل القرية، قال: (الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذرين) قالها ثلاث مرات-قال: وقد خرج القوم إلى أعمالهم، فقالوا: محمد، والله. قال عبد العزيز: وقال بعض أصحابنا: والخميس قال: وأصبناها

عنوة، وجمع السبي، فجاءه دحية، فقال: يا رسول الله، أعطني جارية من السبي، فقال: (اذهب فخذ جارية)، فأخذ صفية بنت حيي، سيد قريظة والنضير؟ ما تصلح إلا لك، قال: (ادعوه بها)، فجاء بها، فلما نظر إليها - صلى الله عليه وسلم - قال: (خذ جارية من السبي غيرها)، فأعتقها وتزوجها، فقال له ثابت: يا أبا حمزة ما أصدقها؟ قال: نفسها، أعتقها وتزوجها. حتى إذا كان بالطريق جهزتها له أم سليم، فأهدتها له من الليل، فأصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - عروسا، فقال: (من كان عنده شيء فليجئ (162/أ) به) وبسط نطعا، فجعل الرجل يجيء بالأقط، وجعل الرجل يجيء بالتمر، وجعل الرجل يجيء بالسمن، فحاسوا حيسا فكانت وليمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى خيبر ليلا، وكان إذا أتى قوما بليل لم يغر حتى يصبح، فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم؛ فلما رأوه قالوا: محمد والخميس. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذرين). وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام على صفية بنت حيي بطريق خيبر ثلاثة أيام حتى أعرس بها، وكانت فيمن ضرب عليها الحجاب). وفي رواية: (فأصبنا من لحوم الحمر، فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله ورسوله ينهاكم عن لحوم الحمر فإنها رجس). ومنهم من قال عنه: إنها رجس أو نجس، وإن المنادي كان أبا طلحة. وفي رواية: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، فأكفئت

القدور وإنها تفور باللحم). وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بين خيبر والمدينة ثلاث ليال فبنى بصفية، فدعوت المسلمين إلى وليمته - صلى الله عليه وسلم -، وما كان فيها من خبز ولا لحم قط، وما كان فيها إلا أن أمر بالأنطاع فبسطت فألقى عليها التمر والأقط والسمن فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه. فقالوا: إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه، فلما ارتحل وطأها خلفه ومد الحجاب. وف رواية: (لما أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر قال: إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين). وفي رواية: (كنت ردف أبي طلحة يوم خيبر، وقدمي تمس قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فأتينا حين بزغت الشمس، وقد أخرجوا مواشيهم، وخرجوا بفؤوسهم ومكاتلهم، ومرورهم، فقالوا: هذا محمد والخميس، قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)، قال: وهزمهم الله، ووقعت في سهم دحية جارية جميلة، فاشتراها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبعة أرؤس، ثم دفعها (161/ب) إلى أم سليم تصنعها وتهيئها، (قال: وأحسبه قال) وتعتد في بيتها، وهي صفية بنت حيي، قال: فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليمتها التمر والأقط والسمن فحصت الأرض أفاحيص، وجيء بالأنطاع، فوضعت فيها، وجيء بالأقط والسمن، فشبع الناس قال: وقال الناس: لا ندري أتزوجها، أم اتخذها أم ولد؟ قالوا: إن حجبها فهي امرأته، وإن لم يحجبها فهي أم ولد، فلما أراد أن يركب حجبها، فقعدت على عجز البعير، فعرفوا أنه قد تزوجها، فلما دنوا من المدينة دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودفعنا، قال:

فعثرت الناقة العضباء، وندر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وندرت، فقام فسترها، وقد أشرفت النساء، فقلن: أبعد الله اليهودية، قال: قلت: يا أبا حمزة، أوقع برسول الله؟ قال: إي والله لقد وقع. قال أنس: (وشهدت وليمة زينب، فأشبع الناس خبزا ولحما، وكان يبعثني فأدعو الناس، فلما فرغ قام وتبعته، فتخلف رجلان استأنس بهما الحديث، لما يخرجا، فجعل يمر على نسائه، فيسلم على كل واحدة منهن: (سلام عليكم، كيف أنتم يا أهل البيت)؟ فيقولون: بخير يا رسول الله، كيف وحدت أهلك؟ فيقول: (بخير)، فلما فرع رجع، ورجعت معه، فلما بلغ الباب إذا هو بالرجلين قد استأنس بهما الحديث، فلما رأياه قد رجع قاما فخرجا، فوالله ما أدري: أنا أخبرته، أم أنزل عليه الوحي بأنهما قد خرجا؟، فرجع ورجعت معه، فلما وضع رجله في أسكفة الباب أرخى الحجاب بيني وبينه، وأنزل الله تعالى هذه الآية: {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} [الأحزاب: 53] وفي رواية: (صارت صفية لدحية في مقسمه، وجعلوا يمدحونها عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويقولون: ما رأينا في السبي مثلها، قال: فبعث إلى دحية، فأعطاه بها ما أراد، ثم دفعها إلى أمي، فقال: (أصلحيها)، ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر، حتى إذا جعلها في ظهره نزل، ثم ضرب عليها القبة، فلما أصبح قال: (من كان عنده فضل زاد فليأتنا به)، قال: فجعل الرجل يجيء بفضل التمر، وفضل السويق، حتى جعلوا من ذلك سوادا حيسا، فجعلوا يأكلون من ذلك الحيس، ويشربون من حياض إلى جنبهم من ماء السماء. قال: فقال أنس: فكانت تلك وليمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها، قال

(162/أ): فانطلقنا حتى إذا رأينا جدر المدينة هششنا إليها، فرفعنا مطينا، ورفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مطيته، قال: وصفية خلفه قد أردفها، قال: فعثرت مطية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصرع وصرعت، قال: فليس أحد من الناس إلا ينظر إليه ولا إليها، حتى قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسترها قال: فأتيناه فقال: (لم نضر). قال: فدخلنا المدينة، فخرج جواري نسائه، يتراءينها ويشمتن بصرعتها). وفي رواية للبخاري: (كنا مع النبي مقفله من عسفان، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته، وقد أردف صفية بنت حيي، فعثرت ناقته، فصرعا جميعا، فاقتحم ألو طلحة، فقال: يا رسول الله، جعلني الله فداءك، هل أصابك شيء؟ قال: لا، ولكن عليك بالمرأة، فقلب أبو طلحة ثوبا على وجهه وقصد قصدها، فألقى ثوبه عليها، فقامت المرأة، وأصلح لهما مركبهما فركبا، واكتنفنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أشرفنا على المدينة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون). قال: فلم يزل يقول ذلك حتى دخل المدينة)].

* قد تقدم شرح هذا الحديث متفرقا في مواضع. * وفيه جواز الاستخدام لقوله: (التمس لي غلاما يخدمني). * وقوله: كانت صفية تضع رجلها على ركبته، وإنما كان ذلك لأنه كان يرى أن مثل هذا لا يتولاه من أهله سواه، لأن وضع الرجل على ركبة الرجل يكون طريقا إلى الإحساس ببدن المرأة من خفتها، وذلك مما يستحب ستره. * وقوله: (خربت خيبر)، كلام موقن بالنصر. * وقوله: (وجعل عتقها صداقها) فيه دليل على جواز أن يعتق الرجل أمته ويجعل عتقها صداقها؛ وذلك لا يتنافى؛ لأن العتق عبادة والنكاح عبادة. * وقوله: (أرى بياض فخد النبي - صلى الله عليه وسلم -): إنما رأى ذلك لا عن قصد؛ لأنه لا يحل له أن يقصد رؤية ذلك، وإنما ذكر مخبرا عن نفسه بما اتفق له. * وفي الحديث دليل على أن للإمام أن يأمر لبعض الغزاة بجارية (162/ب) غير معينة؛ إلا أنه إذا أخذ خير الجواري، كان للإمام أن يعترض عليه، لأنه قال له: خذ جارية، على لفظ النكرة فلم ينصرف إلى خير الجواري. * وفيه أيضا أنه يجوز للإمام إذا اتفق له مثل ذلك أن يقيم بالناس أياما لأجل غرضه.

* وفيه ما يدل على أنه إنما كان يحجب الزوجات لا ملك اليمين. * وقوله: (فيجوز أن يباع البعير) بالأبعرة. * وقوله: (وتعتد في بيتها) دليل على أنه لم يطأها حتى قضت عدتها. * وأما عثور الناقة فإن الله تعالى قدر ذلك ليظهر له، يحفظه في حالة العثور كما يحفظه في حالة السلامة. فإذا جرى مثل ذلك من هذه العثرة فلا يجوز أن يرتاع متطيرا بذلك كما يفعل الجهال. * وأنا قوله: (اصطفاها) فالمعنى انه أخذها صفيا، والصفي سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المغنم، وكان إذا غنم الجيش غنيمة أخذ له من رأس المال قبل أن يقسم ما يختاره. * والحيس: أخلاط من تمر وأقط وسمن، وقد سبق ذكره. * وقول النساء: (أبعد الله اليهودية) وقد جاء في الحديث أن جواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شمتن بصرعتها، فأما نساؤه فقد نزهن الله عن ذلك، ومما يدل على تمس حفاظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولطفه أنه قال لأبي طلحة عليك بالمرأة ومما يدل على تأتي أبي طلحة وحسن أدبه أنه جعل على وجهه ثوبا لئلا ينظر إلى المرأة. -1572 - الحديث الخامس والخمسون: [عن محمد بن أبي بكر بن عوف، قال: (سألت أنس بن مالك، ونحن غاديان من منى إلى عرفات عن التلبية: كيف أنتم تصنعون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: مان يلبي الملبي فلا ينكر عليه، ويكبر المكبر فلا ينكر عليه). وفي رواية: (قلت لأنس-غداة عرفة-: ما تقول في التلبية هذا اليوم؟

قال: سرت هذا المسير مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فمنا المكبر، ومنا المهلل، فلا يعيب أحدنا على صاحبه)]. * السنة (163/أ) في هذا المقام التلبية، وأن لا تقطع حتى ترمي أول حصاة من جمرة العقبة يوم النحر. * وقول أنس يحتمل أن من كبر كان يدخل التكبير في خلال التلبية. -1573 - الحديث السادس والخمسون: [عن معبد بن هلال، قال: (انطلقنا إلى أنس بن مالك، وتشفعنا بثابت، فانتهينا إليه، وهو يصلي الضحى، فاستأذن لنا ثابت، فدخلنا عليه؛ فجلس ثابتا معه على سريره، فقال له: يا أبا حمزة، إن إخوانك من أهل البصرة يسألونك أن تحدثهم حديث الشفاعة، فقال: حدثنا محمد - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذ كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض، فيأتون آدم عليه السلام، فيقولون له: تشفع لذريتك، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم، فإنه خليل الله، فيأتون إبراهيم فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله، فيؤتى موسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى، فإنه روح الله وكلمته، فيؤتى عيسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد، فيأتوني فأقول: أنا لها، فأنطلق فأستاذن على ربي، فيؤذن لي، فأقوم بين يديه،

فأحمده بمحامد لا أقدر عليها إلا أن يلهمنيها الله، ثم أخر ساجدا، فيقول: يا محمد، ارفع رأسك، وقل: يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقول: انطلق، فمن كان في قلبه حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا فيقول لي: يا محمد، ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: رب أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق، فمن كان في قلبه حبة خردل من إيمان فأخرجه مناه، فأنطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربي أحمد بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك. وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق، فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل). هذا حديث أنس الذي أنبأنا به، فخرجنا من عنده فلما كنا بظهر الجبان، قلنا: لو ملنا إلى الحسن، فسلمنا عليه، وهو مستخف في دار أبي خليفة؟ قال: فدخلنا (163/ب) عليه، فسلمنا عليه، فقلنا: يا أبا سعيد، جئنا من عند أخيك أبي حمزة، فلم نسمع بمثل حديث حدثناه في الشفاعة، فقال: هيه، فحدثتناه الحديث، فقال: هيه، قلنا: ما زادنا؟ قال: قد حدثنا هو منذ عشرين، وهو يومئذ جميع، ولقد ترك شيئا ما أدري: أنسي الشيخ، أم كره أن يحدثكم فتتكلوا؟ قلنا له: حدثنا، فضحك فقال: خلق الإنسان من عجل، ما ذكرت لكم هذا إل وأنا أريد أن أحدثكموه. قال: (ثم أرجع إلى ربي في الرابعة، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول: يا رب، ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، قال:

فليس ذلك-أو قال: ليس ذلك إليك-ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله) قال: فأشهد على الحسن أنه حدثنا به أنه سمع أنس بن مالك أراه قال: قبل عشرين وهو يومئذ جميع). وفي رواية (عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يجمع الله الناس يوم القيامة، فيهتمون لذلك فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، حتى يريحنا من مكاننا هذا؟ قال: فيأتون آدم، فيقولون أنت آدم أبو الخلق، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم، فيذكر خطيئته التي أصاب، فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. قال: فيأتون نوحا، فيقول: لست هناكم، فيذكر خطيئته التي أصاب، فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا، فيأتون إبراهيم، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا موسى الذي كلمه الله، وأعطاه التوراة. قال: فيأتون موسى فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته، فيأتون عيسى روح الله وكلمته، فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمدا، عبدا قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فيأتونني، فأستأذن على ربي، فيؤذن لي، فإذا أنا رأيته وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله (164/أ)، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، اشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي، ثم أشفع، فيحد لي حدا، فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة، ثم أعود فأقع ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني،

ثم يقال لي: ارفع رأسك يا محمد، قل يسمع، سل تعطه، اشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع، فيحد لي حدا، فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة-قال: فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة-فأقول: يا رب، ما بقى في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود). وأخرجه البخاري تعليقا وفيه: (يحبس المؤمنون يوم القيامة ... وفي آخره ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن إي وجب عليه الخلود-ثم تلا هذه الآية: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}). قال: (وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم - صلى الله عليه وسلم -). زاد في حديث هشام فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه ما يزن ذرة). وفي رواية شعبة: (ذرة)، قال يزيد: صحف فيها أبو بسطام، وفي رواية: (ذرة من إيمان، مكان خير). وفي رواية: (فيأتوني فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه). وفي رواية: (إذا كان يوم القيامة شفعت، فقلت: يا رب، أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة، فيدخلون، ثم أقول: أدخل الجنة من كان في قلبه أدنى شيء، قال أنس: كأني أنظر إلى أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).

* قد مضى الكلام في ذكر الشفاعة. * فأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فأقوم بين يدي ربي فأحمده بتحميد لا أقدر عليها إلا أن يلهمنيها). فالذي أراه فيه أن الله سبحانه يعلم من المحامد وحسن الأسولة بحسب ما يعلم أنه جل جلاله يقتضي (164/ب) زيادة المسئول فيه؛ لأنه لما كانت المسألة يومئذ في الخلق أجمعين، وما يسكن غضب الرب جل جلاله ويستدعي اللطف الذي يلحق الأعداء بالأولياء، علم جل جلاله لذلك المقام حمدا يناسبه وسؤالا يلائمه، فلا يعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا، ولا يقدر عليه ليعلم الناس أنه هو جل جلاله الذي يثير سؤال السائلين لينعم، فتجمع في كل نعمة من نعمه يوصلها إلى عباده، وبين محمدة يسوقها إلى حبيبه محمد - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الموقف، وعلى هذا فإن إحسانه موجود هكذا أبدا. * وفي هذا الحديث ما ينبغي لمن سمعه أن يشتد خوفه، فإن آدم صلوات الله وسلامه عليه ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام كل منهم على شرف مقامه ومنزلته، واستمرار الإحسان منه، وندور الهفوة التي غفرت لهم، على كون كل منها لم يكن إل في طريق الجد في أمر الله تعالى، وإنهم كانوا على ذلك في يوم القيامة كل منهم ينسى كل حسنة كانت منه، ويذكر سيئة الواحدة، فما الظن لغيرهم في ذلك اليوم ممن مضى جل عمره وغالب دهره في السيئات وفظيع الزلات، وهو لا يذكر عند تقلبه إلا أنه ممن يشفع ويخاطب حتى مع كون أولئك قالوا ذلك في الدار الآخرة.

وقد علم كل منهم أن أعماله ختمت بالسعادة، ونجا من دار الفتنة، وإن من عداهم غير مأمون عليه، ولا هو على يقين من أمره، بل إن قدر له في عمره أو في عامه أو شهره فعلة صالحة ذكرها خاصة؛ ونسي باقي العمر والعام والشهر، وما كان فيه من الخطيئات، فأما كون الحبة والشعيرة من الإيمان في القلب، فقد تقدم قولنا في ذلك. * وأما قوله: (أدنى أدنى أدنى) ثلاثا مكررا، فإنه أنما يستعمل ذلك فيما لا يوجد له اسم في القلة، فإن الذرة لها اسم، وعشر معشار الذرة لها اسم فهذا أدنى أدنى أدنى، وذلك فيما أراه لقد سكت واحد في عمره كله عن كلمة سيئة لأجل الله أو قال في عمره كله كلمة حسنة لأجل الله أو نظر لأجل الله سبحانه نظرة أو خطا خطوة، فإن قوله: أدنى أدنى أدنى يكون أول من ذلك فإنه يخرج من النار. * وفيه أيضا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - من حسن أدبه لم يقل يا رب أخرج من النار من قال: (165/أ) لا إله إلا الله محمدا رسول الله؛ بل قال: من قال لا إله إلا الله، فكان إخلال النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك من حسن الأدب، ومن زيادة الفقه والعلم؛ لأنه من قال: لا إله إلا الله لزمه بأن يعترف بأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لو لم يكن أمره من عند الله سبحانه وتعالى لم يتم، فإنه من قال: لا أله إلا الله، فقد اعترف أنه ليس في الوجود قادر على ما يشاء، قاهر لكل أحد إلا الله، فمن ظن أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - افترى على الله وتم له ذلك؛ فقد نقص قول لا إله إلا الله من حيث أنه جعل إلها مع الله سبحانه يفعل في الأرض ما لا يريده الله سبحانه. * وفي هذا الحديث جواز تشفع القوم إلى الرجل الكريم في طلب العلم.

* وفيه جواز إكرام الرجل زيادة عن رفقائه، لقوله: فأجلس ثابتا معه على سريره. * وفيه جواز الاستخفاء مما يخاف لقوله: (وكان الحسن مستخفيا في دار أبي خليفة). * وقوله: (ليس ذلك لك)، وإنما لم يذكر مع هذه الكلمة محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه يترتب منها ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من جهة أن من اعترف أن لا إله إلا الله فإنه لم يعترف إلا بدليل، والدليل قد أثبت جواز بعثة الرسل، ودل على صحة نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنه أظهر الحق وغلب الخلق، وأذل جبابرة الأرض، وشرع الشرع، ونسخ الشرائع الأول، ووعد بما ظهر صدقه، ولم يقابله إلا من أظهره الله تعالى عليه، واستخلف الله أمته في الأرض كما وعده؛ فدل هذا على أنه رسول حق يلزم الإقرار به، على أن الذي يعني بالدين يقولون لا إله إلا الله خالصا لأن الله تعالى أخبرنا فقال: {وقالت اليهود عزيز ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله}. * وقوله: (ليس ذلك لك) أي قد ثبت أنك ما تريد ذاك لنفسك، ولك في الشفاعة منهم حظ ترجع إليك، ولذلك معنى ليس إلك أي ليس يصل إليك من هذا الأمر شيء معناه ليس لك حظ في فعل، وإنما تفعل الأشياء لنا لا لك، وكنت قد خطر لي هذا فنظرت فإذا قوم من المفسرين ذكروا ذلك. * وأما المقام المحمود فسمي بذلك لأنه لا ينفصل عنه أحد إلا ومحمده - صلى الله عليه وسلم -.

* وقوله: (في داره) الهاء (165/ب) هاء إضافة ملك، ولتخصيصها بذلك تشريف كما قال عز وجل: {ناقة الله}. -1574 - الحديث السابع والخمسون: [عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر: (من كان ذبح قبل الصلاة فليعد، فقام رجل قال: يا رسول الله، هذا يوم يشتهى فيه اللحم. وذكر هنة من جيرانه-يعني فقراء وحاجة-وأنه ذبح قبل الصلاة وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقه قال: وعندي جذعة هي أحب إلي من شاتي لحم، أفأذبحها، فرخص له، فقال: لا أدرى أبلغت رخصته من سواه أم لا؟ قال: وانكفأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كبشين فذبحهما، فقام الناس إلى غنيمه فتوزعوها أو قال: فتجزعوها). وفي رواية: (ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين، فرأيته واضعا قدمه على صفاحهما، يسمي ويكبر، فذبحهما بيده). وفي رواية: (أقرنين، ويضع رجله على صفحتهما، ويذبحهما بيده). وفي رواية: يقول: (بسم الله، والله أكبر). وفي رواية: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحي بكبشين، وأنا أضحي بكبشين). وفي رواية: (أنكفأ إلى كبشين أملحين أقرنين، فذبحهما بيده)].

* في هذا الحديث من الفقه استحباب أن يذبح الرجل نسيكته بيده، وفي ذلك إيمان بالله عز وجل ومخالفة للكفر الذي لا يرون ذبح الحيوان، وإظهار الشجاعة في ذبح ما أباح الله ذبحه، فإنه من ترك الذبح جبنا عنه فهو جائر ذليل، ومن تركه تابعا رأي الكفار الذين لا يرون إفساد الصورة فهو كافر. * فيستحب للمسلم أن يذبح نسيكته بيده إلا أنه إذا استناب في ذبحها غيره جاز؛ إذ لم يكن عن جبن أو سوء عقيدة، ومن أحسن النسيكة: الكبشان الأقرنان الأملحان، والأملح: هو الأبيض، وهو الذي لا يتوارى فيه عيب، الأقرن ينتصف في مرعاه. والسنة أن يضع قدمه على صفحة عنق الكبش، فإنه أمكن له ولئلا يضطرب برأسه فيرشش الدم على الذابح. * وقوله: (فتجزعوها) أي اقتسموها، حصصا وأصله من الجزع، وهو القطع. -1575 - الحديث الثامن والخمسون: [عن أنس قال: (نهينا أن يبيع حاضر لباد).

وفي رواية: (وإن كان أخاه لأبيه وأمه)]. * قد مضى هذا الحديث. -1576 - الحديث التاسع والخمسون: [عن أنس أن رسول (166/أ) الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنه لما حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى، وتحر، ثم قال للحلاق: خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس). وفي رواية: (أنه قال للحلاق: ها، وأشار بيده إلى الجانب الأيمن، فقسم شعره بين من يليه، ثم أشار إلى الحلاق إلى الجانب الأيسر، فخلعه، ثم أعطاه أم سليم). وفي رواية: (فبدأ بالشق الأيمن، فوزعه: الشعرة، والشعرتين بين الناس، ثم قال: بالأيسر، فصنع مثل ذلك، ثم قال: هاهنا أبو طلحة؟ فدفعه إلى أبي طلحة). وفي رواية: (أنه رمى جمرة العقبة، ثم انصرف إلى البدن فنحرها،

والحجام جالس، وقال بيده يمين رأسه فحلق شقه الأيمن فقسمه بين من يليه، ثم قال: احلق الشق الآخر، فقال: أين أبو طلحة؟ فأعطاه إياه). وفي رواية: (أنه لما رمى الجمرة، ونحر نسكه وحلق، ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر، فقال: احلق، فحلقه، فأعطاه أبا طلحة، قال: أقسمه بين الناس)]. * لما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشعر بين أصحابه، بدأ بتفريق الشعرة والشعرتين استظهارا للتفريق لئلا يبقى في الصحابة من يعوزه فشمل التفريق الناس، فلما بقى نصف رأسه - صلى الله عليه وسلم - أعطاه أبا طلحة حيث كان هو الباقي، والنطق الأخير من الحديث يدل على أنه أكرم أبا طلحة بتوفير نصيبه ثم أعطاه النصف الآخر، فأكرمه بأن أمره بتفريقه بين الناس، * وفيه أيضا أنه بدأ برمي جمرة العقبة ثم نحر وحلق. * وفيه من الفقه أنه يبدأ في الحلق بالأيمن من جانبي الرأس. -1577 - الحديث الستون: [عن محمد بن سيرين، قال: (سألت أنسا: أخضب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: لم يبلغ الشيب إلا قليلا).

وفي رواية: (وقد خضب أبو بكر وعمر بالحنا والكتم). وفي رواية: (سئل أنس عن خضاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لو شئت أن أعد شمطات كن في رأسه فعلت (166/ب)، قال: ولم يخضب). وفي رواية: (وقد اختضب بالحناء والكتم، واختضب عمر بالحناء بحتا). وفي رواية: (أنه توفي - صلى الله عليه وسلم -، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء). وفي رواية عن قتادة: (قال سألت أنسا هل خضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لم يبلغ ذلك، إنما كان شيئا يسيرا في صدغيه). وفي رواية عن أنس، قال: (يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ومن لحيته. قال: ولم يخضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنما كان البياض في عنفقته، وفي الصدغين، وفي الرأس نبذ). وفي رواية: (أنه سئل عن شيب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: ما شانه الله ببيضاء)]. * في هذا الحديث استحباب الخضاب بالحناء والكتم؛ لأن أبا بكر وعمر فعلا ذلك، وكلام أنس يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغ من الشيب إلى الحد الذي يختضب فيه، وإنما خضب أبو بكر وعمر بالحناء لغير الشيب لأجل

لقاء الحروب، فإن الشيوخ يستضعفون في الحرب، وإنما نهى عن التغيير بالسواد لأن فيه تغريرًا للنساء في النكاح. * وفي هذا الحديث من الفقه كراهته نتف الشعرة البيضاء من الرأس واللحية؛ لأن الشيب نور للمسلم؛ ولأنه إذا نتف شيبة تعرض لأن يغر عن سنه. * فأما قوله: (ما شانه الله ببيضاء) مع قوله: (لم يكن في رأسه عشرون شعرة بيضاء)؛ فهذا غير مناف لأن المعنى أن تلك الشعرات البيض لم يشنه شيء منها. -1578 - الحديث الحادي والستون: [عن أنس بن سيرين، قال: استقبلنا أنسًا حين قدم من الشام، فلقيناه بعين التمر، فرأيته يصلي على حمار، ووجهه من ذلك الجانب -يعني عن يسار القبلة-فقلت: رأيتك تصلي لغير القبلة، فقال: لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله لم أفعله)] * قد تقدم الكلام على هذا في مسند ابن عمر، وأن الصلاة النافلة يجوز إلى غير القبلة في السفر.

-1579 - الحديث الثاني والستون: [عن حفصة بنت سيرين قالت: قال لي أنس بن مالك بم مات يحيى بن أبي عمرة؟ قلت: بالطاعون، فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الطاعون شهادة لكل مسلم)]. * وفي هذا الحديث من الفقه أن الموت (167/أ) بالطاعون شهادة لمن مات به؛ ذلك لأنه إذا كان الوباء وكثر الموت، وجد الشيطان أبوابًا يدخل منها على قلب الآدمي، ويوسوس في صدور الناس وأن هذا من فساد الهواء أو الماء أو غير ذلك موهمًا أن موتهم من تلك العلة لا عن قدر سابق وآجال محسوبة معلومة، فيستزل القلوب إلا من عصم الله؛ فمن ثبت إيمانه حينئذ؛ وأيقن أنه لا يموت في الطاعون إلا من سبق القدر أنه يموت بالطاعون، وأنه لا ينقص ذلك من عمر سبق بمقداره القدر ثم مات؛ مات شهيدًا كما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. -1580 - الحديث الثالث والستون: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه ما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه

إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر -بعد أن أنقذه الله منه-كما يكره أن يقذف في النار). وعند مسلم: (ثلاث من كن فيه وجد طعم الإيمان). وفي رواية: (ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع يهوديًا أو نصرانيًا)]. * هذه الخصال الثلاث المذكورة في هذا الحديث مرتبة على الترتيب الصحيح المستقيم؛ لأنه بدأ أولًا بحب الله تعالى، وحب رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن يكون الله ورسوله أحب إلى الإنسان مما سواهما، ولفظه يعم ما يعقل وما لا يعقل، فيشمل الآدميين بمن يدخل فيهم من الأهل والولد والحميم وغير ذلك. * ثم نزل من هذه الطبقة إلى الطبقة المماثلة وهو أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وذلك أنه لما كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، كان من شرط هذا أن لا يحب المؤمن أحدًا يرى أنه بغيض إلى الله وإلى رسوله، بل يكون من شرط حب العبد ربه سبحانه وحبه نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن لا يحب المرء إلا لله وهذا النطق في قوله المرء يشمل الذكور من الآدميين. فإذا أردت أن يسمى به أنثى قلت: المرأة، فأضفت إليه علامة التأنيث فيكون هذا النطق (167/ب) مشيرًا إلى أن لا يحب الرجل ولدًا ولا صاحبًا

ولا صديقًا ولا منعمًا ولا محسنًا إلا لله سبحانه وتعالى، فإن جعلنا هذا النطق كافيًا بجنسه المذكر عن كشف المؤنث فهو كذلك، وإن أخرجنا ذكر التأنيث منه، فإن لطف الله تعالى غير مستبعد فيه أن يكون أنطق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الكلام وهو قوله: (المرء مع من أحب)، المرء مختص بالمذكر رفقًا لعباده لعلمه بما لا ينضبط فيه نفوس الآدميين لهم من حيث الميل إلى النساء كما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - من قوله (هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك). * فأما حب الرجل الرجل المنعم عليه؛ أو ذا الخلة الحسنة، أو المحسن إليه لله سبحانه، فلأن أصل النعم منه سبحانه، وهو خالق الخلة الحسنة جل جلاله، فهذا كاف في مقامه. * ثم أتبع ذلك بما هو من أوصاف الإنسان، وهو أن يود أن يلقى في النار ولا يرد إلى الكفر، فالمعنى فيه ظاهر، وذلك أن المؤمن إذا ألقي في النار، نار هذه الدنيا وهو مؤمن كان كالخائض بها إلى الجنة فلا يباليها، لأنه يعلم أن خوض النار إلى الجنة ربما استطابه خائضه من حيث أن يتيقن أن كل ما قطع خطوة قرب إلى الجنة مرحلة، ولو قد كان عوده إلى الكفر لكان ذلك مؤديًا إلى نار لا

خلاص منها أبدًا. * فهذه آيات المؤمن وعلاماته التي يعرف بها، وهي جامعة لحب الله وحب رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وحب المؤمنين، وحب الإيمان على الكفر، فهذا الحديث جامع لأوصاف الحب. -1581 - الحديث الرابع والستون: [عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن لكل أمة أمينًا، وإن أميننا، أيتها الأمة، أبو عبيدة بن الجراح). وفي رواية: (أن أهل اليمن قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: ابعث معنا رجلًا يعلمنا السنة والإسلام، فأخذ بيد أبي عبيدة بن الجراح فقال: هذا أمين هذه الأمة)]. * في هذا الحديث من الفقه أنه لم يقل أمينكم، وإنما قال أميننا فتحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون أراد نفسه، ويكون لفظ الجمع للتعظيم. والثاني: أن يكون أراد نفسه ومن معه - صلى الله عليه وسلم - (168/أ) ثم قال: أيتها الأمة

فيكون الخطاب للأمة إلى يوم القيامة إخبارًا لهم بأمانة هذا الرجل. -1582 - الحديث الخامس والستون: [عن أنس قال: (لما كثر الناس، ذكروا أنه يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه، فذكروا أن يوروا نارًا، أو يضربوا ناقوسًا، فأمر بلال أن يشفع الآذان، ويوتر الإقامة). وفي رواية: (يوتر الإقامة إلا الإقامة)]. * هذا الحديث قد سبق. * وقوله: (إلا الإقامة) يريد قوله قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة وهو يدل على أن الأفضل في الإقامة الإفراد، وهو مذهب الخلفاء الأربعة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم. كان يقام لهم مرة مرة، وعليه جمهور العلماء. -1583 - الحديث السادس والستون: [عن أنس قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، وغلام أسود يقال

له: أنجشة يحدو، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ويحك يا أنجشة، رويدك سوقك بالقوارير). قال أبو قلابة: يعني النساء). وفي رواية: (كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - حاد يقال له: أنجشة، وكان حسن الصوت فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: رويدك يا أنجشة، لا تكسر القوارير). قال قتادة: يعني ضعفة النساء). وفي رواية: (كانت أم سليم في الثقل، وأنجشة غلام النبي - صلى الله عليه وسلم - يسوق بهن، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا أنجش، رويدك سوقك بالقوارير). قال أبو قلاية: تكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكلمة لو تكلم بها بعضكم لعبتموها عليه). وفي رواية: (ارفق يا أنجشة، ويحك بالقوارير). وفي رواية: (كانت أم سليم مع نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يسوق بهن سواق، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أنجشة، رويدك سوقك بالقوارير)]. * في هذا الحديث من الفقه جواز الحداء. * وفيه أنه إذا أراد الحداء الحث بجهد الإبل، فإنه يشار إلى الحادي بالرفق.

* وقوله: (سوقك بالقوارير) يعني بالنساء يشير بذلك إلى أنه ينبغي أن يكون السير على قدر سير الأضعف (168/ب)، وأضعف الرفاق النساء؛ فإن كن حاملات، فينبغي أن يزيد في الرفق بهن، وإنما سماهن قوارير؛ لأن الحمل يستقر في بطن المرأة. * وقول أبي قلابة: (لو تكلم بها بعضكم لعبتموها عليه) أي لجهلكم بلغة العرب، لأن هذه اللفظة من أحسن ما عبر بها عن النساء لقوله تعالى: {ونقر في الأرحام ما نشاء} ولا أشرف من الآدمي فشرف مقره على مقدار شرفه. -1584 - الحديث السابع والستون: [عن أنس قال: (من السنة إذا تزوج البكر على الثيب: أقام عندها سبعًا وقسم، وإذا تزوج الثيب: أقام عندها ثلاث ثم قسم). قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت: إن أنسًا رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية سفيان: (إن خالدًا قال هذا القول المنسوب إلى أبي قلابة)]. * في هذا الحديث ما يدل على التفاوت بين البكر والثيب، وذلك لأن البكر تحتاج إلى مداراة فزيد لها في الأيام لذلك، ولم يحتسب به عليها. والثيب فقد كانت بكرًا مرة، فهي غير محتاجة إلى المداراة كما تحتاج إليها البكر.

-1585 - الحديث الثامن والستون: [عن أبي قلابة، أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يومًا للناس، ثم أذن لهم فدخلوا، فقال لهم: ما تقولون في القسامة؟ فقالوا: نقول في القسامة القود بها الحق، وقد أقادت الخلفاء. فقال لي: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونصبني للناس، فقلت: يا أمير المؤمنين، عندك رؤوس الأجناد وأشراف العرب، أرأيت لو أن خمسين منهم شهداء على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى، ولم يروه، أكنت ترجمه؟ قال: لا، قلت: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه قد سرق، أكنت تقطعه ولم يروه؟ قال: لا. قلت: فوالله ما قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدًا قط إلا في ثلاث خصال: رجل قتل بجريرة نفسه، أو رجل زنى بعد إحصان، أو رجل حارب الله ورسوله، وارتد عن الإسلام. فقال القوم: أو ليس قد حدث أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع في السرق وسمر الأعين، ونبذهم في الشمس؟ قلت: أنا أحدثكم حديث أنس، حدثني أنس: أن نفرًا من عقل ثمانية، قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (169/أ) فقال: (ألا تخرجون مع راعينا في إبله، فتصيبون من أبوالها وألبانها). قالوا: بلى، فخرجوا فشربوا من ألبانها وأبوالها، فصحوا، فقتلوا راعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأطردوا النعم، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسل في آثارهم، فأدركوا، فجيء بهم، فقطعت أيديهم وسمر أعينهم، ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا.

قلت: وأي شيء أشد مما صنع هؤلاء، ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا وسرقوا. فقال عنبسة بن سعد: والله إن سمعت كاليوم قط، قلت: أترد على حديثي يا عنبسة؟ قال: لا، ولكن جئت بالحديث على وجهه، والله لا يزال هذا الجند بخير ما عاش هذا الشيخ بين أظهركم. قلت: وقد كان في هذا سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دخل عليه نفر من الأنصار فتحدثوا عنده، فخرج رجل منهم بين أيديهم فقتل، فخرجوا بعده، فإذا هم بصاحبهم يتشخط في الدم، فرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله، صاحبنا كان يتحدث معنا، فخرج بين أيدينا، فإذا نحن به يتشخط في الدم، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (من تظنون -أو من ترون-قتله) قالوا: نرى أن اليهود قتلته، فأرسل إلى اليهود فدعاهم، فقال: (آنتم قتلتم هذا؟) قالوا: لا، قال: (أترضون نفل خمسين من اليهود ما قتلوه)، قالوا: ما يبالون أن يقتلونا أجمعين، ثم ينتفلون، قال: (أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم) قالوا: ما كنا لنحلف، فوداه من عنده. قلت: وقد كنت هذيل قد خلعوا خليعًا لهم في الجاهلية، فطرق أهل بيت بالبطحاء فانتبه رجل منهم، فحذفه بالسيف فقتله، فجاءت هذيل، وأخذوا اليماني فرفعوه إلى عمر بالموسم، وقالوا: قتل صاحبنا، فقال: إنهم قد خلعوه، فقال: يقسم خمسون من هذيل ما خلعوه، قال: فأقسم تسعة وأربعون رجلًا، وقدم رجل منهم من الشام، فسألوه أن يقسم، فافتدى يمينه منهم بألف درهم. فأدخلوا (169/ب) مكانه رجلًا آخر، فدفعه إلى أخي المقتول، فقرنت يده بيده، قال: فانطلقا والخمسون الذين أقسموا، حتى إذا

كانوا بنخلة، أخذتهم السماء، فدخلوا في غار في الجبل، فانهجم الغار على الخمسين الذين أقسموا فماتوا جميعًا، وأفلت القرينان، واتبعهما حجر فكسر رجل أخي المقتول، فعاش حولًا ثم مات. قلت: وقد كان عبد الملك بن مروان أقاد رجلًا بالقسامة، ثم ندم بعد ما صنع، فأمر بالخمسين الذين أقسموا، فمحوا من الديوان وسيرهم إلى الشام). وفي رواية: (أن ناسًا من عكل وعرينة قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتكلموا بالإسلام فقالوا: يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع، ولم نكن أهل ريف، واستوخموا بالمدينة، فأمر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه، فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستاقوا الذود، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبعث الطلب في آثارهم، فأمر بهم فسمروا أعينهم، وقطعوا أيديهم، وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم). وفي رواية: (أن ناسًا من عرينة اجتووا المدينة، فرخص لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فقتلوا الراعي، واستاقوا الذود، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، وتركهم بالحرة يعضون بالحجارة). وفي رواية البخاري: (أن ناسًا كان بهم سقم فقالوا: يا رسول الله، آونا وأطعمنا، فلما صحوا قالوا: إن المدينة وخمة، فأنزلهم الحرة في ذود له فقال: (اشربوا من ألبانها)، فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستاقوا ذوده،

فبعث في آثارهم، وقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، فرأيت الرجل منهم (170/أ) يكدم الأرض بلسانه حتى يموت. قال سلام: فبلغني أن الحجاج قال لأنس: حدثني بأشد عقوبة عاقب بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحدثه بهذا، فبلغ الحسن فقال: وددت أنه لم يحدثه). وفي رواية: (كان قد وقع بالمدينة المروم، وهو البرسام، وكان عندنا شباب من الأنصار قريب من عشرين، فأرسلهم إليهم، وبعث قائفًا يقتضي آثارهم). وفي رواية عن أنس قال: (إنما سمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء)].

* قد سبق ذكر القسامة. * وأما العرنيون: فإنهم غدروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وارتدوا عن الإسلام، وذهبوا بإبله، فجمعوا بين الكفر والغدر والغصب، فلذلك قطع أيديهم في جزاء السرقة، وسمر أعينهم قصاصًا لأنهم سمروا أعين الرعاء؛ لئلا يدلوا على صوبهم؛ الذي ذهبوا فيه، وقتلهم في جواب شركهم بالله. * وقوله: (استوخموا المدينة) أي لم توافقهم. وفي لفظ (اجتووا) قال أبو عبيد: يقال اجتويت البلاد إذ كرهتها، وإذ كانت موافقة لك في بدنك، واستويلتها إذا لم توافقك في بدنك وإن كنت محبًا لها. واللقاح: الإبل

ذوات الدر. * وقوله: (وأطردوا الإبل) يقال: طرده السلطان وأطرده إذا أخرجه عن مستقره. * وقوله: (سمل أعينهم) قال أبو عبيد: والسمل أن تفقأ العين بحديدة محماة أو بغير ذلك، وقد يكون السمل بغير ذلك مثل الشوك وغيره. قال الخطابي: وسمر لغة في سمل، والراء واللام قريبتا المخرج، وقد يكون السمر من المسمار، يريد أنهم كحلوا بأميال قد أحميت بالنار. * وقوله: (أترضون نفل خمسين) أي أيمانهم بالبراءة من قتله. * وقوله: (قد خلعوا) أي انتفوا منه. والريف: الخصب. والذود من الإبل: هو من الثلاثة إلى العشرة. والكدم: العض بأدنى الفم. * وفيه من الفقه ما يدل على أن التداوي جائز. * وفيه دليل على أن الرجل إذا استوخم أرضًا له الخروج عنها. * وفيه دليل على جواز التداوي بأبوال الإبل على ما فيه من الخلاف في نجاسته أو طهارته. * وفيه ما يدل على (170/ب) عظم شأن اليمين الفاجرة، وأن الله تعالى أحل بهم من المثلات ما يعتبر به كل معتبر.

-1586 - الحديث التاسع والستون: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الحب المحمود بالشرع لا بالطبع، وأنه لا ينبغي لمؤمن أن يحب إلا لله ولا يبغض إلا لله تعالى. فعلى هذا لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين. * ثم ينزل المؤمن من الصحابة والأخيار على ذلك، فإن الحب في الله والبغض في الله، أوثق عرى الإيمان، فأما من يحب ولده فإن ذلك مما قد جبل عليه الله البشر، من حيث أن الله سبحانه جعله سببًا لرعاية النسب وإلا فلو آفاق الوالد لمعنى الولد وإنه خلف منه يسلبه ماله وداره ومكانه لكان من أبغض الأشياء إليه؛ ولكن الله تعالى جبل الخلق على الغفلة على هذا حتى ربى الأطفال في حجور آبائهم؛ فإن عرض للمؤمن الحب الطبعي اعتراضًا يؤثر عنده في الحب الشرعي فمتعين عليه أن يجاهده ويدفعه. -1587 - الحديث السبعون: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما

يحب لنفسه). وفي رواية لمسلم: (لأخيه أو قال: لجاره-ما يحب لنفسه). وفي رواية لهما: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره -أو لأخيه-ما يحب لنفسه)]. * في هذا الحديث من الفقه أن المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة، فينبغي له أن يحب له ما يحب لنفسه من حيث أنهما نفس واحدة، ومصداقه الحديث السابق: (المؤمنون كالجسد الواحد)، ومن أفحش الأحوال أن يرى في موطن ضانًا على أخيه بأعمال الخير، إذا لم يوفق هو لها كما جرى لابني آدم، فإنه قتله من أجل أن تقبل الله قربانه، فإنه قال له: {لأقتلنك} فلم يجبه المؤمن إلا أن أخبره بالعلة التي رد قربانه هو لأجلها ما هي؟ وهي وقوله: {إنما يتقبل الله من المتقين} أي فلو اتقيت الله لتقبل منك قربانك، ثم قال له: {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني (171/أ) ما أنا ببساط يدي إليك لأقتلك}. يعني إن بسطت يدك لم أبسط يدي ليثبت عندك أني من المتقين دونك، فإنك لم تقتلني إلا من أجل أن الله قبل قرباني. وعلى هذا خرج قوله: {إني

أريد أن تبوء بإثمي وإثمك} ليظهر للناس إلى يوم القيامة أن الله سبحانه لم يرد قربانك إلا لعلمه فيك أنك مستحق للرد عليك، وقد رضيت أن أقتل أنا في إقامة عذر القدر في أنه لم يقبل قربانك لكونك أهلا للرد. -1588 - الحديث الحادي والسبعون: [عن أنس، قال: (ألا أحدثكم حديثًا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يحدثكم أحد بعدي سمعته منه، أن من أشراط الساعة: أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزنا، ويشرب الخمر، ويذهب الرجال ويبقى النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد). وفي رواية: (ويقل الرجال ويكثر النساء)]. * في هذا الحديث من الفقه أن قدر الله تعالى قد سبق أن يكون خراب الأرض عقيب كثرة الفساد فيها، وأنه إذا رفع العلم ووضع الجهل، ومعنى رفع العلم هو إطراح العمل به وهجرانه، وأن توضع قوانين الجهل في أمكنة العلم، فيكون العمل بها لا به، والتحكيم لها لا له، وأن تشرب الخمور ويكثر

الزنا فتختلط الأنساب، وتضيع الحقوق، وتكون الأحوال والأمور صادرة عن آراء النساء، فيقل الرجال في الرجال أن يقل الرجال الذين يستحقون تسمية الرجال، قال الشاعر: وإنما رجل الدنيا وواحدها .... من لا يعول في الدنيا على رجل فإذا قل الرجال وكثر النساء .... فترحمن فذلك حين خرب الأرض * وأشراط الساعة: علاماتها. -1589 - الحديث الثاني والسبعون: [عن أنس، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن المؤمن إذا كان في الصلاة فإنما يناجي ربه، فلا يبزقن بين يديه، ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه). وفي رواية: (أو تحت رجله، ولكن عن شماله تحت قدمه). وفي رواية للبخاري: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأي (171/ب) نخامة في القبلة، فشق عليه ذلك، حتى رئي في وجهه، فقام فحكه بيده، فقال: إن أحدكم إذا قام في الصلاة فإنما يناجي ربه، فإن ربه بينه وبين القبلة، فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته، ولكن عن يساره أو تحت قدمه. ثم أخذ طرف ردائه، فبصق فيه، ورد بعضه على بعض، فقال: أو يفعل هكذا). وفي رواية: (بزق النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثوبه). وفي رواية: (أن أحدكم إذا صلى يناجي ربه، فلا يتفلن عن يمينه؛ ولكن تحت قدمه اليسرى).

وفي رواية: (اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه كالكلب، وإذا بزق فلا يبزقن بين يديه، ولا عن يمينه؛ فإنه يناجي ربه)]. * قد سبق الكلام في هذا الحديث، وفيه ما يدل على طهارة البزاق لأنه رد بعض الثوب على بعض وفركه حتى لا يبقى له جرم. * وفيه من الفقه أن السجود إنما هو مقام تذلل وحرمة فإذا اعتمد الإنسان فيه على الأرض، وبسط ذراعيه فقد أراح ذراعيه من نصب الانتصاب. -1590 - الحديث الثالث والسبعون: [عن أنس، قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها)]. * قد ذكر هذا آنفًا، وإنما قال كفارتها دفنها، فإن الكفارات عن الخطايا

بحسبها، فإن هذا الذي يبصق في المسجد إذا تدارك ما فعل إما أن يكون فعله ناسيًا فلما ذكر عظم ذلك عنده أو أن يكون فعله مع الذكر فهو خطأ يكفي في كفارته دفنه. -1591 - الحديث الرابع والسبعون: [عن أنس، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (سووا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة). وفي رواية: (أتموا الصفوف، فإني أراكم خلف ظهري) ومنهم من قال فيه: (أقيموا الصفوف). وفي رواية: (أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهه، فقال: (أقيموا صفوفكم، وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري). قال أنس: (وكان الرجل يلزق منكبه بمنكب، وقدمه بقدمه)]. * أما تسوية الصفوف فقد سبق الكلام فيها.

* وقوله: (أراكم من وراء ظهري) خصيصة خص بها النبي - صلى الله عليه وسلم -. -1592 - الحديث الخامس والسبعون: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (أقيموا الركع والسجود، فوالله إني لأراكم من بعدي -وربما قال: من بعد ظهري إذا ركعتم (172/أ) وسجدتم). وفي رواية: (أتموا الركوع والسجود، فوالذي نفسي بيده إني لأراكم من بعد ظهري، إذا ما ركعتم وإذا ما سجدتم). وفي رواية لمسلم: (أتموا الركوع والسجود). وفي رواية: (أقيموا الركوع والسجود فإني أراكم)]. * قد سبق هذا الحديث في الذي قبله. -1593 - الحديث السادس والسبعون: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (اعتدلوا في السجود، ولا يبسطن

أحدكم ذراعيه انبساط الكلب)]. * هذا بعض الحديث الثاني والسبعين، وقد سبق قبل ثلاثة أحاديث. -1594 - الحديث السابع والسبعون: [عن أنس أن عبد الرحمن بن عوف تزوج امرأة على وزن نواة من ذهب؛ وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أولم ولو بشاة). وفي رواية: (قدم عبد الرحمن بن عوف، فآخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد ابن الربيع الأنصاري، وعند الأنصاري امرأتان، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال له: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فأتى السوق، فربح شيئًا من أقط، أو شيئًا من سمن، فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أيام وعليه وضر من صفرة، فقال: مهيم، يا عبد الرحمن؟ فقال: تزوجت أنصارية، قال: فما سقت؟ قال: وزن نواة من ذهب، قال: (أولم ولو بشاة). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة، قال: ما هذا؟ قال: يا رسول الله، إني تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب، قال: فبارك الله لك أولم ولو بشاة)].

* هذا الحديث قد تقدم في مسند عبد الرحمن بن عوف. * وقد ذكر أبو عبيد: إن النواة في الوزن خمسة دراهم. وقال الخطابي: هو اسم معروف لمقدار معلوم، قال: ويشبه أن تكون النواة ووزن خمسة دراهم ذهبًا كان أو فضة. والوليمة: الإطعام عند العرس. * وقوله: (يناصفه أهله وماله) أي يأخذ نصف ذلك. والوضر: لطخ من خلوق أو طيب له لون؛ وذلك من فعل العروس إذا بنى بأهله، وقد يكون الوضر من الصفرة والحمرة والطيب والزهومة، وقوله: (مهيم): قال أبو عبيد: هي كلمة يمانية، ومعناها ما أمرك، وما الذي

أرى بك؟ -1595 - الحديث الثامن والسبعون: [عن أنس، (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (172/ب) رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير، لحكه بهما). وفي رواية: (أن عبد الرحمن والزبير شكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القمل، فرخص لهما في قمص الحرير في غزاة لهما). وفي رواية: (أنهما شكيا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القمل، فرخص لهما في الحرير فرأيته عليهما في غزاة). وفي رواية: (رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في القمص الحرير في السفر من حكة كانت بهما أو وجه كان بهما)]. * إنما حرم الحرير لأجل الخيلاء والزينة، وهو لبس النسوان، فإذا عرض للرجل مرض كالحكة صار يلبسه تداويًا، فذهب المعنى الذي حرم لأجله، وكذلك في القتال، فإنه يشغل الإنسان تلك الحال عن النظر إلى نفسه، ولكونه أقوى الثياب حرمًا في الحرب، فهو أدفع للأذى.

* وفي هذا الحديث ما يبيح التداوي. -1596 - الحديث التاسع والسبعون: [عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بلحم تصدق به على بريرة، فقال: (هو عليها صدقة، وهو لنا هدية). وفي رواية: (أهدت بريرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحمًا تصدق به عليها، فقال: (هو لها صدقة، ولنا هدية)]. * هذا حديث بريرة سيأتي مشروحًا في مسند عائشة رضي الله عنها. -1597 - الحديث الثمانون: [عن أنس، (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكر، وعمر رضي الله عنهما، كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين). وفي رواية: (صليت مع أبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم).

وفي رواية لمسلم: (أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات، يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك). وفي رواية لمسلم: (صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم؛ فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون: بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا آخرها)]. * قوله: (كانوا يفتتحون بالحمد لله) أي بهذه السورة. * وقوله: (فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم) فهذه حجة من لا يرى الجهر بها. ويحتمل أن يكون ذلك قصد به أنس أنهم كانوا إذا قرأوا من أثناء السورة، ولم يقرؤا بسم الله الرحمن الرحيم. وأما الرواية التي انفرد بها مسلم فهي حجة لمن يرى الجهر بها أيضًا، وقيل: إن ذلك كان كتابًا من قتادة إلى الأوزاعي (173/أ) من غير مشابهة. -1598 - الحديث الحادي والثمانون: [عن انس، قال: (كان فزع بالمدينة، فاستعار النبي - صلى الله عليه وسلم - فرسًا من أبي طلحة، يقال له: المندوب، فركب، فلما رجع، قال: (ما رأينا من شيء، وإن وجدناه لبحرًا). وفي رواية: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحسن الناس وجهًا، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس

قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد سبقهم إلى الصوت). وفي رواية: (وقد استبرأ الخبر، وهو على فرس لأبي طلحة عري، في عنقه السيف، وهو يقول: (ما تراعوا) فقال: وجدناه بحرًا-أو أنه لبحر) قال: (وكان فرسًا يبطأ). وفي رواية: (استقبلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على فرس عري، ما عليه سرج، في عنقه سيف). وفي رواية: (أن أهل المدينة فزعوا مرة، فركب النبي - صلى الله عليه وسلم - فرسًا لأبي طلحة كان يقطف -أو كان فيه قطاف-فلما رجع قال: وجدنا فرسكم هذا بحرًا، وكان بعد لا يجارى). وفي رواية: (فزع الناس، فركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسًا لأبي طلحة بطيئًا، ثم خرج يركض وحده، فركب الناس يركضون خلفه، فقال: لم تراعوا، إنه لبحر، فما سبق بعد ذلك اليوم)].

* في هذا الحديث من الفقه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أشجع الناس، كما كان أجود الناس؛ مثل ما كان أحسن الناس، فيجمع الله تعالى له المحاسن في الخلق والخلق. * فأما خروجه بنفسه عند فزع أهل المدينة وإسراعه حتى ركب فرس أبي طلحة، فإنني أرى فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد بذلك أن يشعرهم أن الحال في مثل هذه على مثال النفير، فلا يحبس أحد نفسه على إخراج رجل، ولا استصحاب خيمة، ولا إسراج فرس، لأنه ركب الفرس معروريًا. ومثل هذا الفزع إنما يكون في الغارات، وإذا مكث الإنسان في الغارة نال المغير ما يبغيه، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشعر المسلمين إلى يوم القيامة أن تدبير مثل هذا الحال هذا التدبير، وهو أن يركب كل إنسان من مكانه، وإن لم يكن الفرس مسرجًا ركبه معروريًا. * وعلى أن الله تعالى جعل معارف الخيل قائمة لفرسانها مقام (173/ب) لجمها، بل أوكد فهي يستمسك بها الفارس عند اقتضاء الحال زيادة الإسراع ولو لم يكن بدأ بالخروج لظن ظان في مثل هذه الحال هذا التدبير، وهو أن يركب كل إنسان من مكانه تمييز لقومه دون قوم فأشعر بما صنع أن هذا تدبير مثل هذه الحال، ومن إبانة الدلالة على صدق نبوته إسراع الفرس وسبقه وقد كان يبطأ. * وقوله: (وجدناه بحرًا) وصف للفرس بسرعة الجري، وإنما أسرع العود إلى الناس، ليعلمهم أنه ليس ثم روع فيسكنوا.

-1599 - الحديث الثاني والثمانون: [عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا؛ وله على الأرض من شيء، إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة). وفي رواية: (لما يرى من فضل الشهادة)]. * في هذا الحديث من الفقه، أن الشهيد قد بلغ من فضل الله تعالى إلى أن تقطعت الأماني فلم يبق لأمنية تمناها بشر عنده منفذة، لذلك لما كرر عليه السؤال، وقيل: لابد أن يسأل لم تبق له أمنية فعدل إلى أن يرجع إلى الدنيا فيستشهد ليشكر بذلك بعض ما عنده من النعم؛ وذلك أن الشهيد رأى من كرامة الله تعالى ما لا قبل له بشكره، ثم ذكر حينئذ قتله في سبيل الله فوجد لذة وروحًا؛ لأنه اتخذ تسليم نفسه للقتل في سبيل الله عند الله تعالى يدًا، فرفعت هذه الحالة رأس خجلة من قلة الشكر، فلم يجد غير طلب الإعادة؛ فلما رأى الله عز وجل أنه إنما يطلب شيئًا لأجل الله لا لأجله لم يجبه إليه، ورده ردًا لطيفًا: بأن قال: سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. * وفي هذا الحديث من الفائدة أن الله تعالى أعلمنا أن الشهداء أعطوا حتى لم يبق لواحد منهم في الوجود أمنية لها منفذ.

-1600 - الحديث الثالث والثمانون: [عن أنس (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الأنصار كرشي وعيبتي، وإن الناس سيكثرون ويقلون، فاقلبوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم). وفي رواية: (مر أبو بكر والعباس بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منا، فدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد عصب على رأسه حاشية برد، قال: (174/أ) فصعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر-ولم يصعده بعد ذلك اليوم-فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم)]. * الكرش: الجماعة من الناس، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: الأنصار جماعتي الذين أثق فيهم، وأعتمد عليهم في أموري. * وهذا دليل على فضيلة الأنصار. * وفيه إشارة إلى أنهم ليس لهم في الخلافة شيء، لأنه أوصى بهم لا إليهم. * وقوله: (وعيبتي) أي موضع سري؛ لأن الإنسان يضع في عيبته خير متاعه.

-1601 - الحديث الرابع والثمانون: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة). ومنهم من قال: (فأصلح الأنصار والمهاجرة). ومنهم من قال: (فأكرم الأنصار والمهاجرة). وفي رواية: (عن أنس، قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخندق، فإذا المهاجرين والأنصار يحفرون في غداة باردة، ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع، قال: اللهم إن العيش عيش الآخرة .... فاغفر للأنصار والمهاجرة فقالوا مجيبين له: نحن الذين بايعوا محمدا .... على الجهاد ما بقينا أبدا وفي رواية: (كانت الأنصار يوم الخندق، تقول: نحن الذين بايعوا محمدا .... على الجهاد ما بقينا أبدا فأجابهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة .... فأكرم الأنصار والمهاجرة وفي رواية: (جعل المهاجرون يحفرون الخندق حول المدينة، وينقلون التراب على متونهم، وهم يقولون:

نحن الذين بايعوا محمدا .... على الجهاد ما بقينا أبدا قال، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم لا خير إلا خير الآخرة .... فبارك في الأنصار والمهاجرة قال: فيؤتون بملء كف من الشعير، فيصنع لهم بإهالة سنخة توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق ولها ريح منكرة)]. * قال أبو عبيد: الإهالة: كل شيء من الأدهان مما يؤتدم به خاصة مثل الزيت والألية المذابة، والسنخة: المتغيرة. والبشع: الكريه الطعم. * والمراد أنهم كانوا يأكلون على الجوع ما (174/ب) حضر لموضع الأعواز، فإذا لم يعوز فلا ينبغي أكل السنخ من الأدهان لأنه يقارب السموم، وإن بم يقتل فإنه يؤذي لاسيما إذا أفرد فأما إذا كان مع طعام غيره قرب أمره.

* وما فيه من استشهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشعر، تقدم تفسيره. -1602 - الحديث الخامس والثمانون: [عن أنس قال: (جمع القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة كلهم من الأنصار: أبي، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وزيد-يعني: ابن ثابت، قلت لأنس: من أبو زيد؟ قال: بعض عمومتي). وفي رواية: (مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، ونحن ورثناه). وفي رواية: (مات أبو زيد، ولم يترك عقبا، وكان بدريا)]. * لم يختلف الرواة في أن الذين جمعوا القرآن في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أربعة رجال، وهي غاية الشهادة، وقد ألحق قوم بهم غيرهم، والصحيح هذا. -1603 - الحديث السادس والثمانون: [عن أنس، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي: (إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لم

يكن الذين كفروا} قال: وسماني. قال: نعم، فبكى). وفي رواية: (أنه لم يسم سورة، وقال: الله سماني لك؟ قال: لله سماك لي؟ قال: فجعل أبي يبكي). وفي رواية للبخاري: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بن كعب: (إن الله أمرني أن أقرئك القرآن، قال: الله سماني لك؟ قال: نعم، قال: وقد ذكرت عند رب العالمين؟ قال: نعم، فذرفت عيناه)]. * في هذا الحديث ما يدل على أنه لا يجوز أن يتكبر كبير أن يقرأ على صغير، ولأن سماع القرآن عبادة؛ كما في القراءة له، ويجوز أن يكون مراد الله عز وجل من قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أبي أن يعلمه كيف يقرأ؛ ولهذا جاء في نطق له: قرأ عليه. وفي رواية: (أن أبيا قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم -). وقد ذكر-هناك-فإن أبيا استعظم عظيما، وهو أنه فهم من هذه الحال أن الله سبحانه وتعالى أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرأ على أبي، وذلك فيه من تخصيص أبي بأن يقرأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون غيره من الصحابة، وهذا فإنه إذا كان ليعلمه كيف يقرأ أبي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه من جهة التصوير في (175/أ) التعليم بالغ في التشريف

من حيث أنه قد رأى حال أبي مكتفية في تعلم الدراسة والتجويد التي منها: الإثبات، والحذف، والحركة، والسكون، والروم، والإشمام، والتحقيق، والتسهيل، والإمالة، والإدغام، والمد، واللين، والترقيق، والتفخيم، والإظهار، والإخفاء، وجميع وجوه القراءات فإنها أربعة عشر تجري مجاري التصريف-أنه يقنعه من تعلم ذلك كله أن يقرأ ذلك عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيتعلم ذلك مرة واحدة. -1604 - الحديث السابع والثمانون: [عن أنس، قال: (انشق القمر فرقتين). وفي رواية: (سأل أهل مكة أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر)]. * قد سبق ذكر انشقاق القمر في مسند ابن مسعد وغيره. -1605 - الحديث الثامن والثمانون: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل،

قال: وما الفأل؟ قال: كلمة طيبة). وفي رواية: (ويعجبني الفأل الصالح: الكلمة الحسنة). وفي رواية: (الكلمة الحسنة، الكلمة الطيبة)]. * لا يجوز أن يقول قائل: أعداني مرض فلان، ولا يجوز التطير وكل ذلك تخيلات فاسدة. * وأما الفأل فقد فسره أن الكلمة الطيبة يسمعها المسلم فيستدل بها على ما يسره، والمعنى في ذلك أن الشرع نهى عن الطيرة والتشاؤم، واستحب التفاؤل لأن الفأل حسن ظن بالله تعالى، والطيرة سوء ظن به عز وجل. قال الله تعالى مخبرا عن نبيه صالح عليه السلام أنه قال: {لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة} فأجابوه: {قالوا اطيرنا بك}، وكل أمارة دلتك على خير من عند الله فاقبلها فإنه أهل كل خير، وكل أمارة أوهمك الشيطان أنها تدل على خلاف الجميل من ربك سبحانه وتعالى فلا تركن إليها، فإنه لا يحل لمؤمن أن يسيء الظن بربه عز وجل.

-1606 - الحديث التاسع والثمانون: [عن أنس، قال: قالت أم سليم: يا رسول الله، خادمك أنس، ادع الله له، فقال: (اللهم أكثر ماله، وولده، وبارك له فيهما أعطيته). وفي رواية: (دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على أم سليم، فأتته بتمر وسمن، فقال: أعيدوا سمنكم في سقائه، وتمركم في وعائه، ثم قام إلى ناحية البيت فصلى غير المكتوبة، فدعا لأم سليم وأهل بيتها، فقالت أم سليم: (175/ب) يا رسول الله، إن لي خويصة، قال: ما هي؟ قالت: خادمك أنس، فما ترك خير آخره ولا دنيا إلا دعا به: اللهم ارزقه مالا، وولدا، وبارك له) فإني لمن أكثر الأنصار مالا، وحدثتني ابنتي أمينه: أنه دفن لصلبي إلى مقدم الحجاج البصرة: بضع وعشرون ومئة). وفي رواية: (أن أم سليم قالت: يا رسول الله، خادمك أنس، ادع الله له). وفي رواية: (دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا، وما هو إلا أنا، وأمي، وأم حرام خالتي، فقال: قوموا، فلأصلي لكم، في غير وقت صلاة، فصلى بنا-فقال رجل لثابت: أين جعل أنسا منه؟ قال: جعله على يمينه ثم دعا لنا أهل البيت بكل خير من خير الدنيا والآخرة، فقالت أمي: يا رسول الله، خويدمك، ادع الله له، قال: فدعا بكل خير، وكان في آخر ما دعا لي أن قال: (اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيه).

وفي رواية: (جاءت بي أمي-أم سليم-إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أزرتني بنصف خمارها وردتني بنصفه، فقالت: يا رسول الله، هذا أنيس ابني، أتيتك به يخدمك، فادع الله له، فقال: (اللهم أكثر ماله وولده. قال: فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المئة اليوم). وفي رواية: (مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسمعت أم سليم صوته، فقالت: بأبي وأمي يا رسول الله، أنيس، فدعا لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاث دعوات، قد رأيت منها اثنتين في الدنيا، وأنا أرجو الثالثة في الآخرة)]. * في هذا الحديث من الفقه جواز الدعاء لشخص معين، كما سألت أم سليم أن يدعو لولدها أنيس. * وفيه ما يدل على كثرة المال والولد ليس بمكروه على الإطلاق؛ ولكنه قد يكون سبيل خير وبركة وفلاح، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يدعو لأنس إلا لما فيه الخير لدينه، ولاسيما قد بلغ ولده على ما يزيد على مئة مسلم، فهؤلاء يدخل الوالد بواحد منهم الجنة. * وفيه دليل على أن أنسا من المغفور لهم لأنه قال: أرجو الثالثة في الآخرة،

وما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخيب. * وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا لأنس بما رآه هو - صلى الله عليه وسلم - ولم يكله إلى اختيار غيره، فإنه لم يأت عن أن سليم أنها التمست الدعاء لولدها لولد ولا بمال، ولكن فوضت ذلك إلى اختيار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (176/أ) بدعوات فيها ذلك، فكان من بركة دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يضره المال والولد. * وفيه أيضا جواز أن يصلي النافلة في جماعة. وقولها: خويصة أي حاجة تخصني. -1607 - الحديث التسعون: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين، يعني إصبعيه). وفي رواية: (قال قتادة في قصصه: كفضل إحداهما على الأخرى، فلا أدري أذكره عن أنس، أو قاله قتادة). وفي رواية: (بعثت أنا والساعة كهذا، وقرن شعبة بين إصبعيه: المسبحة والوسطى، يحكيه). وفي رواية: (وضم السبابة والوسطى)].

* قد سبق هذا الحديث والكلام عليه. -1608 - الحديث الحادي والتسعون: [عن أنس، (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين). وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي برجل قد شرب الخمر، فجلده بجريد نحو أربعين، قال: وفعله أبو بكر؛ فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر)]. * أما الكلام في الحدود فقد سبق، وأما الضرب بالجريد والنعال فإنه كان في أول الإسلام على وجه التأنيب والتوبيخ، ثم استقرت الحدود بالسياط.

-1609 - الحديث الثاني والتسعون: [عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يهرم ابن آدم وتشيب فيه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر). وفي حديث هشام: (يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنتان: حب المال، وطول العمر)]. * إنما يشيب مع الآدمي هاتان الخصلتان لطول صحبته إياهما، وكثرة أنسه بهما، فكلما طال صحبتهما عسر الخلاص من حبهما، فيكون معنى قوله: تشبت أي تقوى فكأنه لما كبر هو ضعف، وكلما زادت صحبتهما له قويا. -1610 - الحديث الثالث والتسعون: [عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم عز وجل ليس بأعور، مكتوب بين عينيه (ك ف ر)). وفي رواية: (الدجال مكتوب بين عينيه (ك ف ر) أي كافر). وفي رواية: (الدجال ممسوح العين مكتوب بين عينيه (كافر) ثم

تهجاها (ك ف ر) يقرؤه كل مسلم)]. * قد سبق الكلام في هذا الحديث وذكر الدجال (176/ب)، وقد تقدم قولنا في على وجه الدجال بأنه كافر، وأنه يجوز أن يكون من الكتابة التي تقرأ بالحروف، وأنه يجوز أن يكون المعنى أن حاله من كفره بالله سبحانه، وعظيم أمره فيه يعرفه كل من يستقرأ أحواله أنه: كافر. * وفي هجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كافر بقول (ك ف ر) وأسقط الألف هاهنا قارئ في ذلك أنه لو كان المتهجي في ذلك بإثبات الألف لكان يدل على أنه كافر أي في المستقبل، لأن كافر اسم فاعل؛ وذلك يخص الاستقبال في الغالب، فلما أسقط الألف بقى كفر، فدل على أنه حكم - صلى الله عليه وسلم - بكفره. -1611 - الحديث الرابع والتسعون: [عن أنس، أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (يجاء بالكافر يوم القيامة، فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: لقد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك). وفي رواية: (يقول الله عز وجل لأهون أهل النار عذابا: لو كانت لك الدنيا وما فيها، أكنت مفتديا؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون

من هذا، وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك فأبيت إلا الشرك)]. * هذا الحديث يدل ويتضمن زيادة توبيخ الكافر، وتضعيف حسرته، فليحذر المؤمن من أن يرتكب ما يوجب حسرة، وذلك لأن الإيمان لا ضرر على المؤمن فيه؛ فإنه آمن العاجل والآجل قال الله تعالى: {وماذا عليهم لو آمنوا بالله} فلما أشرك هذا العبد المشرك بربه مستعجلا بذلك الشر وعداوة المؤمنين، ومتأجلا شر الوعيد في غير ما بينة ولا متابعة هدى، كان خاسرا نفسه خسرانا؛ لما انكشف له في صورته كان يود أن لو كانت الدنيا كلها له لافتداه بها، وقد كان في الدنيا يمكنه أن يسلم من ذلك كله باختيار الأجود، وما تدعو إليه ضرورة العقل من تحصيل الأمن كما قال تعال: {فأي الفريقين أحق بالأمن}. وقد شرحنا هذا مستقصى في حديث عياض بن حمار رضي الله عنه،

إلا أن هذا على ما تدعو إلية ضرورة العقل فإنه يؤمن من سيوف المسلمين في الدنيا، ومن عذاب الله تعالى في الآخرة إذا كان إيمانا في إسلام، فأما إن كان إسلاما فقط بمعنى الاستسلام؛ فإنه يحتمي به من سيوف المسلمين في الدنيا (177/أ) ويكون غير محمي من عذاب الله في الآخرة إلا أن يتيقن صدق المرسلين فحينئذ تتم له السعادتان، وليس في ذلك خفاء على من أراد الله هدايته. -1612 - الحديث الخامس والتسعون: [عن أنس (كان أحب الثياب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يلبسها الحبرة). وفي رواية همام: قلنا لأنس: (أي اللباس كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أعجب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: الحبرة)]. * الحبرة: ما كان من البرود مخططا موشيا. وإنما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبس ما قدر له فأخبر أنس لكثرة ما رآه يلبس ذلك أنه كان يحبه.

* والذي أراه أن كان يحبه - صلى الله عليه وسلم - لقوة هذا الجنس من الثياب، وصبره على الاستعمال؛ ولكونه أيضا ليس بالغاية في البياض، فيؤثر فيه القليل من الدنس، ويحتاج إلى معاناة في غسله، فمفهوم هذا الكلام أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه من الثياب ما ينافي أثواب المترفين. -1613 - الحديث السادس والتسعون: [عن أنس، (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ رديفه على الرحل، قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، ثلاثا قال: (ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، صدقا من قلبه، إلا حرمه على النار، قال: يا رسول الله، أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا؟ قال: إذا يتكلوا، فأخبر بها معاذ عند موته تأثما). وفي رواية: (عن أنس قال: ذكر لي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، قال: ألا أبشر الناس؟ قال: أخاف أن يتكلوا)]. * هذا الحديث قد تقدم في مسند معاذ، وتكلمنا عليه هنالك.

-1614 - الحديث السابع والتسعون: [عن أنس، قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع يديه في شيء من دعائه، إلا في الاستسقاء، فإنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه). وفي رواية لمسلم: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطيه). وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى، فأشار بظهر كفيه إلى السماء)]. * هذا الحديث (177/ب) يدل على أن رفع اليدين في الدعاء مستحب،

ورفع اليدين مناسب لذل الطالب ولإظهار فاقته وحاجته. -1615 - الحديث الثامن والتسعون: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى وذهب عنه أصحابه، حتى إنه ليسمع قرع نعالهم،-وفي رواية: خفق نعالهم-إذا انصرفوا، أتاه ملكان فأقعداه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل، محمد؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعدا من الجنة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فيراهما جميعا. قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره-ثم نرجع إلى حديث أنس: وأما الكافر-أو المنافق-وفي رواية: وأما المنافق والكافر-فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس فيه، فيقال: لا دريت، ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين). وفي رواية قال قتادة: (وذكر لنا: أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا، ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون)]. * في هذا الحديث دليل على وجوب الإيمان بمنكر ونكير، وأنهما ينزلان إلى كل عبد في قبره، وهو أول بلوى الآخرة.

* وفيه ما يدل على أن من كان إيمانه تقليدا، وأنه كان يقول كلمة الحق كما يقول الناس من غير تيقن بها، فإن ذلك لا ينفعه في الآخرة. * وقوله: (لا تليت) قال ابن السكيت: بعضهم يقول: فلا تليت ترويحا للكلام، وقال ابن قتيبة: هو غلط، قال يونس البصري: إنما هو فلا أتليت يدعو عليه أن يبلى إبله، أي لا يكون لها أولاد تتلوها أي تتبعها، قال: وقال غيره: ولا أتليت على وزن اعتليت من قولك: ما ألوت هذا ولا استطعته. * قوله: (يسمع قرع نعالهم) أي إذا بعدوا عنه، لأنه قد نهي عن لبس النعال بين القبور. * وقوله: (ومن يليه) يعني من الأموات، إذا لو سمع ذلك الأحياء لم يبق للإيمان بالغيب معنى. قوله: (وتملأ عليه خضرا) الخضر: كل شيء ناعم غض طري. -1616 - الحديث التاسع والتسعون: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا تزال جهنم يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العرش-وفي رواية: رب العزة-فيها قدمه (178/أ)، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط، بعزتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل، حتى ينشئ الله فيها خلقا، فيسكنهم فضل الجنة).

وفي رواية: (لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها رب العزة قدمه، فتقول: قط قط وعزتك، ويزوى بعضها إلى بعض). وفي رواية لمسلم: (يبقى في الجنة ما شاء الله أن يبقى، ثم ينشئ الله لها خلقا مما يشاء)]. * قد سبق هذا الحديث، وتكلمنا عليه وعلى أمثاله، وبينا أن الأصوب إمرار هذه الأحاديث كما جاءت من غير تمثيل ولا تشبيه ولا مساكنة خيال، إلا أن هذا الحديث يدل على أن الله سبحانه وتعالى يسلط النار في الآخرة تسليطا لولا أنه سبحانه ينزعها هو جل جلاله، لأكلت جميع الوجود من السموات والأرض والجن والإنس وسائر الجميع. -1617 - الحديث المائة: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها، فلا كفارة لها إلا ذلك). وفي رواية: (قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: (من نسي صلاة أو نام عنها، فكفارتها

أن يصليها إذا ذكرها، فإن الله عز وجل يقول: {أقم الصلاة لذكري} (سورة طه: الآية 14))]. * قد سبق هذا الحديث في مواضع. -1618 - الحديث الأول بعد المائة: [عن أنس (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتمر أربع عمر، كلها في ذي القعدة، إلا التي مع حجته، عمرة من الحديبية-أو زمن الحديبية-في ذي القعدة، وعمرة في العالم المقبل في ذي القعدة، وعمرة في حجته). وفي رواية عن قتادة قال: (سألت أنسا، كم حج النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: حج حجة واحدة، واعتمر أربع عمر)]. * هذا الحديث يدل على استحباب الاعتمار في ذي القعدة، ليتبع المعتمر

عمرته بالحج في الشهر التالي. -1619 - الحديث الثاني بعد المائة: [عن أنس: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يضرب شعره منكبيه). وفي رواية عن قتادة قال: سألت أنسا، كيف كان شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: (كان شعرا رجلا، ليس بالجعد ولا بالسبط، بين أذنيه وعاتقه - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية لمسلم: (كان شعر (178/ب) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أنصاف أذنيه)]. * قد سبق هذا الحديث في مسند ابن عمر وبينا أن السنة ترك الشعر أن حلقه جائز، وإنما المكروه أن يحلق بعضه ويترك بعضه. -1620 - الحديث الثالث بعد المائة: [عن أنس قال: قال رسول لله - صلى الله عليه وسلم -: (لله أفرح بتوبة أحدكم، من رجل

سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة). وفي رواية: (لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلت منه وعليها طعامه وشرابه فآيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظليها-قد أيس من راحلته-فبينما هو كذلك، إذا هي بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي أنا ربك، فأخطأ من شدة الفرح)]. * قد يبق هذا الحديث في مسند ابن مسعود وغيره. * وقوله: (أيس)، كذا وقع في الرواية والصواب فأيس، وهذا يدل على أن الفرح قد يستزل صاحبه حتى يقول غير ما في قلبه إلا أنه يعذر للعلم بأن حاله تلك مغيرة عملهم. * وهذا قد تقدم ما ذكرنا فيه من أنه إذا نظر منه صيغة الحديث فإنه لا يمكن أن يحمل إلا على ما ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التمثيل إلا أنه مقام عظيم، وكل من فاء إلى طاعة الله سبحانه-بعد مروق منها-فإنه يأتي ذلك من فرح ربه سبحانه بعوده إلى طاعته إلى المبلغ الذي يمثل الإنسان نفسه له لو لم يكن له في الوجود عبد غيره؛ كما أن المضل راحلته لم يكن له في مقامه في حالته تلك سوى راحلته تلك، وأنه قد كان بإباقه على ربه قد أشعر ظن إبليس بتصديقه له، فكان ذلك في مقام فلح إبليس حيث: {قال أرأيتك هذا الذي كرمت على}

فصار هذا الآبق شمتا إبليس بآدم الذي خلقه الله سبحانه بيده، وأسجد له ملائكته، ونفخ فيه من روحه، فكان حال كل مؤمن في وفد إباق من يأنف من ذرية آدم عن طاعة ربهم سبحانه بمرى من العدو الذي قد أخبر الله عز وجل فإن النظرة له إلى يوم القيامة سبقت فيعود حالهم في مثل الفرية والمصيبة للمؤمنين كلهم؛ فإذا رجع كان (179/أ) في المعنى، وتلك الضالة الذي يفرح المؤمنون كلهم بعودها إليهم ووجدانهم لها؛ فلذلك الذي يفرح الله عز وجل به. -1621 - الحديث الرابع بعد المائة: [عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: (أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة). قال قتادة: بلى، وعزة ربنا)]. * في هذا الحديث دليل على أن العالم يتوصل إلى تفهيم المتعلم بالنزول من رتبة فصاحته إلى مقدار فهم السائل المتعلم، فإن هذا الجواب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تضمن إقامة دليل على أن من استبعد الحشر على الوجه؛ فإما أن يكون قد حضر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأعراب من استبعد الحشر على الوجه؛ فسأل عنه،

فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك جوابا عنه، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن هذا الحديث سينقل عنه إلى يوم القيامة، وقد سمعه من يقف على الحشر، ويستبعد الأمر فيه، فأودع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث الدواء للمرض الذي جوز حدوثه في قلوب سامعيه، وذلك أنه قل: (أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة)، وذلك أن مشي الإنسان على رجليه إذا نظر الإنسان فيه، وفكر في القدرة في مطاويه سلم لفاعلها جل جلاله نفاد القدرة على كل شيء على الإطلاق. -1622 - الحديث الخامس بعد المائة: [عن أنس قال: (أهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبة من سندس-وكان ينهي عن الحرير-فعجب الناس منها، فقال: (والذي نفس محمد بيده، إن مناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا). وفي رواية: (أن أكيدر ردومة أهدى)]. * قد سبق هذا الحديث والكلام عليه، ولم يختلف المفسرون أن السندس

هو رقيق الديباج. -1623 - الحديث السادس بعد المائة: [عن أنس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (179/ب): (ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل من طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الله تعالى يحتسب للعبد أعمال البر مضاعفة وبما ينتهي إليه، وكل ما يبلغ من مبالغها، فإن من غرس شجرة كان له ثواب كل من أكل منها، واستظل بظلها، أو اهتدى في الطريق بها أو غير ذلك، فكذلك إذا زرع زرعا. * وفيه أيضا أنه إن أكل من ذلك آدمي حسب بذلك صدقة؛ وكذلك إن أكل منه طائر أو بهيمة؛ لأن الكل خلق الله تعالى، وقد اعتدوا من شيء قد كان للآدمي فيه نية صالحة فربح هو في ذلك.

* قوله: (يهادى بين اثنين)، أي يمشي معتمدا عليهما لضعفه، وهذا الرجل قد كان نذر أن يمشي، ولم يرد في هذا الحديث مشيه إلى أمد معلوم كالكعبة ونحوها، بل نذر أن يمشي فلما رآه قد مشى ما ينطق عليه اسم المشي أمره بالركوب لخلوصه من نذره بموجب كلامه، وأنه قد خرج منه. -1626 - الحديث التاسع بعد المائة: [عن أنس، قال: (واصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر شهر رمضان، فواصل ناس من المسلمين، فبلغه ذلك، فقال: (لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا، يدع المتعمقون تعمقهم، إنكم لستم مثلي-أو قال: لست مثلكم-إني أظل يطعمني ربي ويسقيني). وفي رواية: (لا تواصلوا، قالوا: إنك تواصل؟ قال: إني لست كأحد منكم، إني أطعم أسقى-أو: أني أبيت أطعم وأسقى). وفي رواية عن أنس قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في رمضان، فجئت فقمت إلى جنبه، وجاء رجل فقام أيضا، حتى كنا رهطا، فلما أحس النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا خلفه جعل يتجوز في الصلاة، ثم دخل رحله يصلي صلاة لا يصليها عندنا، قال: فقلنا له حين أصبحنا: أفطنت لنا الليلة؟ قال: فقال نعم، ذلك الذي حملني (180/أ) على الذي صنعت، قال: فأخذ يواصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذاك في آخر الشهر، فأخذ رجال من أصحابه يواصلون،

فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما بال رجال يواصلون، إنكم لستم مثلي، أما والله لو تمادى لي الشهر لواصلت وصالا، يدع المتعمقون تعمقهم)]. * هذا الحديث قد سبق، والتعمق: طلب عمق الشيء بمكان ما لا يلزم. -1627 - الحديث العاشر بعد المائة: [عن ثابت، قال: (مر أنس على صبيان فسلم عليهم، وقال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله)]. * في هذا الحديث دليل على استحباب تسليم الرجل على الصبيان إذا مر عليهم، وإذا سلم عليهم قال: سلام عليكم يا صبيان. والمراد من التسليم عليهم أنه لا يحقر الصبي ربما خرج عالما أو عابدا، وكأن المسلم رأى بعين إيمانه منتهى أحدهم، ثم إن ذلك يكون سببا لتعلم الصبي ذلك، فكأنه أودع تلم السنة من يغلب على ظنه أنهم أطول منه عمرا. -1628 - الحديث الحادي عشر بعد المائة: [عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف

به)]. * قد سبق هذا الحديث في مسند ابن مسعود وغيره -1629 - الحديث الثاني عشر بعد المائة: [عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الصبر عند الصدمة الأولى). وفي رواية: (أنه عليه الصلاة والسلام أتى على امرأة تبكي على صبي لها، فقال لها: اتق الله واصبري، فقالت: وما تبالي لمصيبتي، فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذها مثل الموت، فأتت به، فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله، لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عن أول صدمة-أو عند الصدمة الأولى-). وفي رواية: (إليك عني، فإنك لم تصب مصيبتي، ولم تعرفه، وأنه قال لما جاءته وقالت: لم أعرفك، قال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى)].

* قال يحيى بن محمد رحمه الله تعالى: الصدمة الأولى هي فجاءة المصيبة، ومعنى الكلام أن الصبر الذي هو صبر حقيقة عند الصدمة الأولى؛ لأن مرور الزمان يهون المصاب، وإنما القوة في مقاومة البلاء في مبدئه. -1630 - الحديث الثالث عشر بعد المائة: [عن أنس قال: (إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت (180/ب) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا، قال ثابت: فكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما، حتى يقول القائل (قد نسي، وإذا رفع رأسه في السجدة مكث قلت حتى يقول القائل: قد نسي). وفي رواية: (إذا رفع رأسه بين السجدتين). وفي رواية عن ثابت، قال: (كان أنس ينعت لنا صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان يصلي، فإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول: قد نسي)]. * في هذا الحديث دليل على إتمام الركوع والسجود وتطويل التسبيح. -1631 - الحديث الرابع عشر بعد المائة: [عن أنس، قال: (مر على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأثنوا عليها خيرا، فقال: (وجبت). ثم مر بأخرى فأثنوا عليها شرا، أو قال: غير ذلك، فقال:

(وجبت). فقيل: يا رسول الله، قلت لهذا وجبت ولهذا وجبت؟ قال: (شهادة القوم، المؤمنون شهداء الله في الأرض). وفي رواية. (مروا بجنازة فأئنوا عليها خيرًا، فذكره نحوه. وفيه قال عمر رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: (هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض). وفي رواية لمسلم: (مر بجنازة فأثني عليها خيرًا، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: وجبت، وجبت، وجبت. ومر بجنازة فأثني عليها شرًا فقلت: وجبت، وجبت، وجبت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرًا وجبت له [النار]، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض)]. * هذه كرامة كرم بها المؤمنين، وهي قبول شهادتهم، وهذا لأنهم كانوا: أمناء، علماء، فهماء، فأما كونهم أمناء فإن الأمين لا يشهد لأحد بخير حتى يتحقق أنه على خير، وكذلك لا يشهد على أحد بالسوء حتى يتيقن أنه قد كان ذا سوء. * وأما كونهم علماء، فأنهم كانوا يفرقون بين الخير والشر، فلا يلتبس عليهم الباطل بالحق، ويعرفون السنة وأهلها، ويعرفون الخير والعاملين به، وكانت شهادتهم معبرة. * وأما كونهم فهماء، فأنهم كانوا أولي فهم واطلاع، يذوقون طعم الإيمان من المؤمن، ويذوقون طعم النفاق (181/أ) من المنافق، فإن للإيمان أرجًا

وعرفًا على نحو المسك، وللنفاق والكفر ثقلًا ودفرًا يفهمه كل ذي لب، فكانت شهادتهم على هؤلاء وهؤلاء عن أمانة وعلم فلذلك قال: (وجبت، وجبت، وجبت) فوجبت من حيث الأمانة، ووجبت من حيث العلم، ووجبت من حيث الفهم، فكل واحدة واجبة في فيها. -1632 - الحديث الخامس عشر بعد المائة: [عن أنس (أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة؟ فقال: وما أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت، قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنت مع من أحببت)، قال أنس: فأنا أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وأرجو أن أكون معهم، بحبي إياهم، وإن لم أعمل أعمالهم). وفي رواية: (ما أعددت لها من كبير أحمد عليه نفسي). وفي رواية: (متى الساعة؟ قال له: ما أعددت لها؟ قال: حب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت). وفي رواية عن أنس قال: (بينما أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - خارجان من المسجد، فلقينا رجل عند سدة المسجد، فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: ما أعددت لها؟ فكأن الرجل استكان ثم قال: يا رسول الله، ما أعددت له كثير صيام ولا صلاة ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله قال: (أنت مع من أحببت).

وفي رواية: (أن رجلًا من أهل البادية أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، متى الساعة قائمة؟ قال: ويلك، وما أعددت لها، قال: ما أعددت إلا أني أحب الله ورسوله، قال: (إنك مع من أحببت)، قال: ونحن كذلك؟ قال: نعم، ففرحنا يومئذ فرحًا شديدًا، فمر غلام للمغيرة، وكان من أقراني، فقال: (إن أخر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة). وفي رواية لمسلم: (أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: متى تقوم الساعة وعنده غلام من الأنصار، يقال له: محمد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن يعش هذا الغلام، فعسى أن لا يدركه الهرم حتى تقوم (181/ب) الساعة). وفي رواية: (أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: متى الساعة؟ قال: فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هنيهة، ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزد شنوءة، فقال: إن عمر هذا، لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة، قال أنس: ذلك الغلام من أترابي يومئذ)]. * في هذا الحديث من الفقه أن من أحب قومًا كان معهم، ومعنى ذلك أنه أحبهم على الإيمان لعملهم بالحق فصار ذلك من محبي الحق وحزبه، فكان به بمحبة الحق درجة الذين يؤثرون نصر الحق وظهوره، فألحقه الله تعالى بفضله بأهل الحق. * وأما قوله: (إن يعش هذا الغلام أو يؤخر أو يعمر) فإن هذه الزيادة انفرد بها قتادة، ومعبد بن هلال الغزي، ولم يوافقهما عليها جميع من يروي هذا

الحديث، ومذهب أهل العراق في الزيادة إذا رويت في حديث من ترك الاعتداد بها معروف، إلا أن وجه هذه الزيادة عندي أن أقول عليه الصلاة والسلام لما ذكر له السائل متى الساعة؟ رده إلى الاشتغال بما ينفعه، فقال له: ما أعددت لها؟ فلما قال: حب الله ورسوله، قال له: المرء مع من أحب. * ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى من كلام ذلك السائل ما يدل على أنه كان قد استبعد قيام الساعة ضرب له مثلًا على نهاية الحسن، وهو أنه قال له: إن أخر هذا الغلام أو إن يعش أو يعمر -كله بلفظ الاستقبال-لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة، يعني به - صلى الله عليه وسلم - أن جواز التعمير على الأرض غير ممتنع خلافًا للذين يزعمون من أهل الطبائع أن الآدمي ينتهي إلى عمر معلوم لا يتجاوزه، وهو عندهم مائة وعشرون سنة، وقد أكذبهم الله تعالى في قوله: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا}، فأجاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه مسألة عنها وعن مسألة أخرى فقال: (إن عمر هذا الغلام لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة)، وأراد - صلى الله عليه وسلم - بذلك أيضًا أن يعلم أمته أن الموت هو حكم، حكم الله به على خلقه، وليس هو فسادًا كما يزعمه الطبائعية.

والمعنى أن الله قادر أن (182/أ) يمد عمر هذا الغلام إلى قيام الساعة فما هذا الاستبعاد لما يكون بمقدار عمر واحد، ولقد أحسن الشاعر حيث يقول: دع النفس تأخذ وسعها قبل بينها .... فمقترن جاران دارهما عمر فكان هذا الجواب مزيلًا عن قلب السائل ما استبعده من أمر القيامة وردًا على الطبائعيين الذين لا يجوزون على الآدمي أن يعيش أكثر من مائة وعشرين سنة، على أن الظاهر في الحديث أنه قد اختلف على راويه. * وقد بينا أنه قد تفرد به من روى أصل الحديث أثبت منه وإلا فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ ما أنزل عليه إلى الناس، وشهد عليه به المسلمون من أنه صرح لسائله عن الساعة بأن قال: {إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو}، وقال: {عنده علم الساعة}. وقال - صلى الله عليه وسلم - لجبريل لما سأله-: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، فكيف يجوز لعاقل أن يظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ما ثبت عنه هذه الأقوال أن يقدر ذلك بعمر واحد، إذ لو كان كذلك كان قد أحاط بعلمها، وحاش لله من هذا القول، وقد أنكر ما أنكرناه: أبو بكر بن إبراهيم الإسماعيلي في كتابه

(المخرج على الصحيح) ثم تأول الحديث، وكذلك أبو محمد علي بن أحمد ابن حزم الأندلسي الفقيه في كتابه الذي صنفه: (في تبديل اليهود والنصارى ما بأيديهم) ونص على أن قتادة ومعبد بن هلال غلطا فيه، وكان إنكاري له قبل أن أرى ما ذكره هذان الشيخان؛ فلما رأيت ما ذكراه حمدت الله تعالى إذ وافق إنكارهما ما أنكرته. -1633 - الحديث السادس عشر بعد المائة: [عن أنس، قال: (خدمت النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، والله ما قال لي أفٍ قط، ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا، وهلا فعلت كذا؟). وفي رواية: (أنه لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فأخذ أبو طلحة بيدي، فانطلق بي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إن أنسًا غلام كيس، فليخدمك، قال: فخدمته (182/ب) في السفر والحضر، والله ما قال لي

لشيء صنعته: لم صنعت هذا، ولا شيء لم أصنعه: لم لم تصنع هذا هكذا؟). وفي رواية: (قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي، فانطلق بي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية: (خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين، فما أعمله قال لي قط: لم فعلت كذا وكذا؟ ولا عاب علي شيئًا قط). وفي رواية: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خلقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فخرجت حتى أمر على صبيان، وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قبض على قفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أنيس، ذهبت حيث أمرتك؟ قال: قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله، قال أنس: والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته: لم فعلت كذا وكذا؟ ولا لشيء تركته: هلا فعلت كذا وكذا؟)]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان كما يرضي الخادم لحسن الأدب في خدمة سيده، كذلك يعلم السادة كيف يستخدمون أتباعهم فإن أنسًا قال: فخدمته عشر سنين فلم يقل لي أف قط، ولا قال: لم فعلت هذا؟ وذلك

يدل على توفيق أنس، وعلى تجاوز رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو تعليم لمن أراد أن يستخدم خادمًا إلا أنه إذا ساء الخادم فمباح مقابلته على إساءته بحسب ذلك من غير أن ينتهي به إلى حد، وليكن قاصدًا في مقابلته تعليمه ولئلا يعود إلى مثل ذلك الذنب. * وليحذر من مقابلة عبيده أو خادميه على أثر معصية أو بغضب موجده، فإنه في ذلك الوقت لا يصلح له تدبير نفسه فربما تقابل مقابلة يندم عليها في تأني الحال، أو يكون القصد فيها غير وجه الله عز وجل، وليكن ذلك مما يعامل به ربه عز وجل في تقويم عوج الخادم والرفق به، كما أنه قد يعامل الله عز وجل في أخذه اتباعه وعبيده بالجد في الأمور، وأن لا يهملهم، ومما يدل على حكمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه وكأنه قال له حين قبض على عنقه من ورائه وما أتركك إلا عن قدرة عليك؟ * وقوله: والله لا أذهب لم يقصد (183/أ) عقد اليمين، فلا تجب عليه كفارة، لأنه قال: وفي نفسي أن أذهب. -1634 - الحديث السابع عشر بعد المائة: [عن أنس (أنه سئل عن أجر الحجام؟ فقال: احتجتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حجمه أبو طيبة، وأعصاه صاعين من طعام، وكلم مواليه فخففوا عنه، وقال: (إن أمثل ما تداويتم به الحجامة، والقسط البحري)، وقال: (لا تعذبوا صبيانكم بالغمز من العذرة، وعليكم بالقسط). وفي رواية: (دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلامًا حجامًا، فأمر له بصاع أو

صاعين، أو مدًا أو مدين، وكلم فيه فخفف من ضريبته). وفي رواية: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتجم، ولم يكن يظلم أحدًا أجره)]. * قد سبق في مسند ابن عباس ذكر الحجامة، وأن أبا طيبة حجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وقوله: (لا تعذبوا صبيانكم بالغمز من العذرة)، العذرة وجع الحلق، وسيأتي هذا مشروحًا في مسند أم قيس إن شاء الله تعالى. -1635 - الحديث الثامن عشر بعد المائة: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنه نهى عن بيع التمر حتى تزهو. فقلنا لأنس: ما زهوها؟ قال: تحمر، وتصفر. قال: أرأيت لو منع الله الثمرة. فيم تستحل مال أخيك؟. وفي رواية: (إن لم يثمرها الله تعالى، فيم تستحل ما أخيك؟)].

* وقد سبق في مسند ابن عمر بيان هذا الحديث. * وقد دل هذا الحديث على أن ما تهلكه الجوائح فهو من مال البائع. -1636 - الحديث التاسع عشر بعد المائة: [عن أنس قال: (كنا نسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم). وفي رواية عن حميد قال: (خرجت فصمت، فقالوا: أعد، فقلت: إن أنسًا أخبرني أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يسافرون، فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، فلقيت ابن أبي مليكة، فأخبرني عن عائشة مثله). وفي رواية: (كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر: فمنا الصائم، ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلًا في يوم حار أكثرنا ظلًا صاحب الكساء، فمنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوام، وقام المفطرون فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب (183/ب) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذهب المفطرون اليوم بالأجر)].

* قد سبق هذا الحديث وتفسيره. -1637 - الحديث العشرون بعد المائة: [عن أنس قال: نادى رجل رجلا بالبقيع، يا أبا القاسم فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقل: يا رسول الله، إني لم أعنك، وإنما دعوت فلانا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تسموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي)]. * في هذا الحديث ما يدل على النهي أن يجمع الإنسان بين كنية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واسمه؛ وذلك شديد في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك كنيته في زمنه، وعلى أنه ينبغي أن يكرم كل متسم باسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يسمي الإنسان ولده محمدا، أو لا يكتني بأبي القاسم ثم يسبه، ولكن ليمتنع عن ذلك مهما استطاع.

-1638 - الحديث الحادي والعشرون بعد المائة: [عن أنس، قال: (قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - لو أتيت عبد الله بن أبي؟ فانطلق إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وركب حمارا، وانطلق المسلمون يمشون معه، وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إليك عني، لقد آذاني حمارك، فقال رجل من الأنصار منهم: والله لحمار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجال من قومه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنها نزلت فيهم: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} (سورة الحجرات: الآية 9))]. * في هذا الحديث جواز أن يعود الإمام الرجل الذي لا ترضى ناحيته. * وفيه جواز ركوب الحمار؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركبه. * وفيه جواز أن يركب الإمام والمسلمون يمشون معه. * وفيه أيضا استحسان حضور الجواب من المؤمن، إذا كان صاحب الحق فيه كرم وحياء يمنعه من إجابة السفيه، فأن المؤمن يجيب عنه كما قال الأنصاري لابن أبي: لحمار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطيب ريحا منك، ولم ينكر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ولا أحد ممن سمعه.

* وفيه أن الرجل الصالح قد يلتبس عليه الأمر فيغضب للباطل كما جرى في هذا الحديث الذي غضب (184/أ) لابن أبي. * فأما قوله: (ونزلت فيهم هذه الآية) فأن المعول عليه أنها عامة في كل طائفة تبغي، فإنه يباح قتالها حتى تفيء إلى الحق. * وقد مضى فيما تقدم شرح هذا المعنى وأغنى عن الإعادة. -1639 - الحديث الثاني والعشرون بعد المائة: [عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: (من ينظر لنا ما صنع أبو جهل؟ قال: فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد، قال: فأخذ بلحيته، فقال: أنت أبو جهل؟ في كتاب البخاري من حديث ابن علية: أنت يا أبا جهل؟ قال سليمان: هكذا قالها أنس: أنت أبا جهل؟ فقال: وهل فوق رجل قتلتموه؟ أو قال: قتله قومه). وفي رواية: (ولو غير أكار قتلني؟)]. * الأكار: الزراع. * فأما قوله: (أنت أبا جهل)، فإن وجهه أنت يا أبا جهل كأنه يناديه،

وحذف حرف النداء فهذا وجه مستقيم في النحو، وهو الأولى. -1640 - الحديث الثالث والعشرون بعد المائة: [عن أنس قال: (عطس رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فشمت أحدهما، ولم يشمت الآخر، فقال الذي لم يشمته: عطس فلان فشمته، وعطست فلم تشمتني فقال: (إن هذا حمد الله، وإنك لم تحمد الله)]. * قد سبق هذا الحديث في مسند أبي موسى.

-1641 - الحديث الرابع والعشرون بعد المائة: [عن أنس، قال: (أسر النبي - صلى الله عليه وسلم - سرًا، فما أخبرت به أحدًا بعده، ولقد سألتني عنه أم سليم، فما أخبرتها به). وفي رواية لمسلم: (أتى علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ألعب مع الغلمان، قال: فسلم علينا، فبعثني إلى حاجة، فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تخبرن بسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدًا. قال أنس: والله لو حدثت به أحدًا لحدثتك به يا ثابت)]. * في هذا الحديث ما يدل على حسن عهد أنس وحفظه للسر إلا أن هذا السر فيما أراه لم يكن كتمانه إلا ليكون أثقل في ميزان إخلاصه إذ لا يجوز على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون من أعماله ما يكتمه إلا لذلك، وإنه قد كان (184/ب) راجعًا إلى شيء في بعض أصحابه في سبيل خير أو صدقة مما لم يكن الصواب ظهوره. -1642 - الحديث الخامس والعشرون بعد المائة: [عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (لكل نبي دعوة دعاها لأمته، وإني

اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة). وفي رواية: (أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: (لكل نبي دعوة). وفي رواية: (أنا أول الناس يشفه في الجنة، وأنا أكثر الأنبياء تبعًا). وفي رواية: (وأنا أول من يقرع الجنة). وفي رواية: (أنا أول شفيع في الجنة لم يصدق نبي ما صدقت، وإن من الأنبياء نبيًا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد)]. * قوله: (إن لكل نبي دعوة لأمته) أي لعموم الأمة: إنا بالنصر أو بإعطائهم بلدًا من البلاد أو نحو ذلك. فلما كفى الله أمة محمد بأن وعدهم بالنصر بقوله تعالى: {ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم}، فاختيار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوته لهم إلى يوم القيامة أحوج ما كانوا إليها، وهي الشفاعة. * وقوله: (أنا أول شفيع في الجنة) أي في دخول الجنة. * ومن فضائله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان أخيرًا في البعث، فإنه أول داخل إلى الجنة. * وقوله: (من الأنبياء من لا يصدقه إلا واحد) في ذلك أسوة لكل من يدعو الناس إلى الحق فيعرضون عنه ويهجرونه؛ فلا ينبغي أن يستدل بذلك على أنه ليس بحق، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد صرح بأن النبي من الأنبياء كان يبعثه الله

فيذهب عمره في الدعاء إلى الله تعالى فلا يتبعه إلا الرجل الواحد. * وفيه أيضًا من الفقه أن من هدى الله على يديه رجلًا واحدًا فلا ينبغي أن يحقره ولا يستقله، وليعلم أن النبي الكريم قد كان يذهب أكثر عمره في هداية رجل واحد. -1643 - الحديث السادس والعشرون بعد المائة: [عن أنس، قال: (كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فيسجد عليه)]. * في هذا الحديث دليل على جواز السجود على بعض الثياب. -1644 - الحديث السابع والعشرون بعد المائة: [عن بكر عن أنس، قال: (سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي بالحج والعمرة (185/أ) جميعًا، قال بكر: فحدثت بذلك ابن عمر، فقال: لبى بالحج وحده، فلقيت أنسًا فحدثته بقول ابن عمر، فقال أنس: ما تعدونا إلا صبيانًا، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لبيك عمرة وحجًا). وفي رواية لمسلم: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أهل بهما جميعًا: لبيك

عمرة وحجًا، لبيك عمرة وحجًا). وفي رواية: (لبيك بعمرة وحج)]. * قد مضى هذا الحديث والكلام عليه في مسند علي رضي الله عنه. -1645 - الحديث الثامن والعشرون بعد المائة: [عن أنس، قال: (أقيمت الصلاة ورجل يناجي النبي - صلى الله عليه وسلم - فما زال يناجيه حتى نام أصحابه، ثم قام فصلى). وفي حديث عبد الوارث: (فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم). وفي رواية: (فلم يزل يناجيه حتى نام أصحابه فصلى بهم). وفي رواية للبخاري من حديث حميد، قال: (سألت ثابتًا عن الرجل يكلم الرجل بعد ما تقام الصلاة، فحدثني عن أنس قال: أقيمت الصلاة، فعرض للنبي - صلى الله عليه وسلم - رجل، فحبسه بعدما أقيمت). وفي رواية: (أقيمت الصلاة والنبي - صلى الله عليه وسلم - نجي رجل فذكره). وفي رواية: (كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون؛ ثم يصلون ولا يتوضؤون. قال: قلت: سمعته من أنس قال: إي والله).

وفي رواية: (أقيمت صلاة العشاء، فقال رجل: لي حاجة، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يناجيه، حتى نام القوم، أو بعض القوم، ثم صلوا)]. * في هذا الحديث دليل على أنه إذا أقيمت الصلاة فعرض مهم جاز للإمام أن يقف لاستماع ذلك. * وفيه أن النائم وهو جالس لا ينتقض وضوؤه. -1646 - الحديث التاسع والعشرون بعد المائة: [عن عبد العزيز قال: قيل لأنس: ما سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الثوم. قال: (من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا)]. * قد سبق هذا الحديث. -1647 - الحديث الثلاثون بعد المائة: [عن أنس، قال: (لما كان يوم أحد: انهزم الناس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبو

طلحة بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - مجوب به عليه بجحفة، وكان أبو طلحة رجلًا راميًا، شديد النزع، لقد كسر يومئذ قوسين، أو ثلاثة، وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل، فيقول: انثرها لأبي طلحة. قال: ويشرف النبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: يا نبي الله، (185/ب) بأبي أنت وأمي، لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك، ولقد رأيت عائشة وأم سلمة لمشمرتان، أرى خدم سوقهما تنقلان القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان، فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم، ولقد وقع السيف من يد أبي طلحة: إما مرتين، أو ثلاثًا). وفي رواية: (كان أبو طلحة يتترس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بترس واحد، وكان أبو طلحة حسن الرمي، فكان إذا رمى يشرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فينظر إلى موضع نبله)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثبت يوم أحد حين ولى من ولى ثم عفى الله عنهم، وأن أبا طلحة ثبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفديه بنفسه، وكان يرى من فقهه أنه لو لم يجد له من الوقاية إلا نحره لفداه به.

* وفيه أيضًا أنه كان مع دينه هذا باسلًا راميًا، شديد النزع، وهكذا ينبغي أن يكون المجاهد: إن كان راميًا كان شديد النزع، وإن كان سايفًا كان شديد الضربة، وإن كان رامحًا كان شديد الطعنة وسديدها. ومع ذلك فإن أبا طلحة أشفق على النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قال: لا تشرف، والمعنى لا تشرف من وراء الجحفة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبصر مواقع نبل أبي طلحة ليعلم ما أصاب من سهامه. * وفيه دليل على أن الإمام إذا رأى راميًا باسلًا شديد النزع، ورأى مع غيره نبلًا وليس بمنزلته، أمره أن ينثرها له. * وفيه أن الإمام يعد من السلاح ما يمكنه فإنه لو لم يكن لأبي طلحة عوض لقوسه لبقي بغير قس: ألم تسمع في هذا الحديث أنه كسر قوسين أو ثلاث، وأما وقوع السيف من يده فلأجل النعاس الذي اعتراهم. * وفيه أيضًا ما يدل على أن أبا بكر قوام إذا الأمر اشتد أو الحرب، كان سادة القوم خادمهم ألا ترى إلى خروج عائشة رضي الله عنها وهي حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين اشتد الأمر قبضت الحذر، وخرجت برزة في سبيل الله تحمل القربة حتى تفرغ في أفواه المجاهدين، ثم تعود فتملأها. * الحجفة: ترس صغير، والجعبة: خريطة النشاب من جلود. * والسوق: جمع ساق، والخدم: جمع خدمة وهي الخلخال.

-1648 - الحديث الحادي والثلاثون بعد المائة: (186/أ) [عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليردن على الحوض رجال ممن صاحبني، حتى إذا رأيتهم ورفعوا إلي، اختلجوا دوني، فلأقولن: أي رب، أصيحابي، أصيحابي، فليقالن لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك). وفي رواية لمسلم: (بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسمًا، قلنا: ما أضحك يا رسول الله؟ قال: نزلت علي آنفا سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: {إنا أعطيناك الكوثر (1) فصل لربك وانحر (2) إن شانئك هو الأبتر} ثم قال: تدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم فيختلج العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك). وفي رواية قال: (فهو نهر وعدنيه ربي في الجنة عليه حوضي ولم يذكر آنيته عدد النجوم)]. * قد سبق هذا الحديث في مواضع أقربها أوائل مسند أنس. * واختلجوا بمعنى اقتطعوا.

-1649 - الحديث الثاني والثلاثون بعد المائة: [عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا دعا أحدكم فليعزم في المسألة، ولا يقولن: اللهم، إن شئت فأعطني، فإنه لا مستكره له). وفي رواية: (إذا دعوتم الله عز وجل فاعزموا في الدعاء)]. * في هذا الحديث أن الداعي ينبغي أن يعزم في السؤال ولا يردد؛ فإن التردد في المسألة نذير التردد في الإيمان، فإن الله تعالى كما قال رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يكره ولا يغيض ما عنده سبحانه. * ومعنى قوله عليه السلام: لا مكره له، فإنه يعني به - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يكن ما وعد به جل جلاله من قوله تعالى: {ادعوني أستجب لكم} عن سبيل إكراه لكنه عن فضل منه ولا يغيض، وجود لا يقلع، فإذا قال العبد في دعائه: إن شئت يا رب، فإنه كلام من لم يفهم أن الله سبحانه استدعى سؤال كل طالب بقوله تعالى: {ادعوني أستجب لكم}، فهو قد شاء وسبق استدعاؤه الطلب من الطالبين والسؤال من السائلين حتى أنه سبحانه وتعالى قد جعل إجابته الداعين باب معرفة معروفة منه؛ فإنه سبحانه وتعالى يجيب الدعاء حتى أنه قد يجيب

الكافر إقامة للحجة عليه، وليكون المؤمن عظيم (186/ب) الوثوق بإجابة دعائه إذا رأى الطلب من الله سبحانه لا يكدى بأحد. -1650 - الحديث الثالث والثلاثون بعد المائة: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا). وفي رواية: (وسكنوا ولا تنفروا)]. * قد سبق هذا الحديث في مسند أبي موسى. * والمراد التسهيل والتيسير، فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يسروا) في إطلاق وتعميم، يتناول كل شيء يقبل التعسير، فلم يقصر ذلك على تيسير شيء بعينه، كما أنه لم يقصر النهي عن التعسير في شيء بعينه، فكل شيء يكون فيه الأمر بين أمرين فإن الأحسن بمن يريد توخي أوامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يختار أيسرهما على أعسرهما. * وهذا فإني أراه على ما فيه من هذا التعميم فإنه يفهم منه أنه أمر لكل امرئ

وكبير وسيد لقوله: (يسروا) أي أمروا بالتيسير، ولا تعسروا أي لا تأخذوا بالمأمورين في التعسير، وأن من أولي الأمر: العلماء، وأنهم من أول من امتثل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تيسيرهم على المتعلمين بأقوالهم وأحوالهم، فإن ذلك مما يسهل العلم والعمل على عباد الله، ومما يحبب إليهم دوام صحبته، ألا ترى إلى قوله: (وبشروا ولا تنفروا). * وفي الرواية الأخرى: (وسكنوا ولا تنفروا) يعني به - صلى الله عليه وسلم - بشروا معاملي الله بقبض الأرباح ومضاعفة الحسنات، وبشروا المعرضين بحسن القبول لكل آيب منهم، وبشروا المجدين بقرب أمد الراحة، وبشروا المنفقين بحسن الخلف في المقرين معًا، فإن الله عز وجل يقول: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه}، وقوله تعالى فهو يخلفه ثم لم يتبع هذه بأن قال في الدنيا دون الآخرة والآخرة دون الدنيا بل أطلق فتناول الدنيا والآخرة. * وأما من روى (سكنوا) فمعناه سكنوا المنزعجين عند مقارفتهم شيئًا من الزلل، فإن نفس انزعاجهم له بشر، ولذلك سكنوا الخائفين فإنه لا خوف على مؤمن بالله، وسكنوا الفتن مهما استطعتم فلا توقظوا منها نائمًا، ولا تنفروا منها كامنًا، حتى إن من ذلك أن لو تلاحا رجلان فقصد منكم إصلاح ما بينهما فينبغي أن لا ينطق بكلمة حتى يراها مسكنة للنفرة. * فأما قوله صلى الله عليه (187/أ) وسلم: لا تنفروا؛ فإن التنفير أن تحكي للناس العزائم دون الرخص بقصد تحريج كلما ذكر. وذكر عن رجل صالح كانت له أحوال فلا يخرج منها إلا الأشد الأحمر، وكذلك ما عساه يتبعه القصاص من حكايات وردت شاذة كالإسرائيليات

وغيرها من تعذيب النفوس وتكليفها المشاق والشديد من الأحوال، والغلو هو ترك المباحات ما تنفر الخلق عن عبادة الله، ويبغض إليهم طاعته، فإن ادعى منهم واحد أنه سلك ذلك وتمشى له فأحسن أحواله أنه ترك الأفضل. * وجمع هذا الكلام كله: أن الحق هو الشرع المشروع؛ فكل من غلا فيه فهو بمنزلة من قصر عنه. -1651 - الحديث الرابع والثلاثون بعد المائة: [عن أنس قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في مرابض الغنم، ثم سمعته بعد يقول: كان يصلي في مرابض الغنم قبل أن يبنى المسجد). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة، فنزل في علو المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملأ من بني النجار، فجاؤوا متقلدين سيوفهم، قال: فكأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته، وأبو بكر ردفه، وملأ من بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب، قال: فكان يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، قال: ثم إنه أمر بالمسجد، قال: فأرسل إلى بني النجار فجاءوا. فقال: (يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا)، قالوا: لا والله، ما نطلب ثمنه إلا إلى الله. قال أنس: فكان فيه نخل، وقبور المشركين، وخرب، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بالنخل فقطع، وبقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، قال: فصفوا النخل قبلة له، وجعلوا عضادتيه حجارة، قال: فكانوا يرتجزون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -

معهم وهم يقولون: اللهم لا خير إلا خير الآخرة .... فاغفر للأنصار والمهاجرة وفي رواية: جعلوا ينقلون الصخر، وهم يرتجزون، والنبي - صلى الله عليه وسلم - معهم وهو يقول: اللهم إن الخير خير الآخرة .... فاغفر للأنصار والمهاجرة)]. * قد سبق الكلام في هذا الحديث. * وقوله: (ثامنوني بحائطكم) هو كناية عن بيعه وتقدير ثمنه. -1652 - الحديث الخامس والثلاثون بعد المائة: [عن أنس، قال: (كان (187/ب) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير -قال: أحسبه قال: فطيمًا-قال: وكان إذا جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآه قال: يا أبا عمير، ما فعل النغير، نغر كان يلعب به). وفي رواية: (فربما حضرت الصلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الذي

تحته فيكنس وينضح، ثم يقوم ونقوم خلفه فيصلي بنا)]. * في هذا الحديث ما يدل أنه كان - صلى الله عليه وسلم - رحمة لصغيرهم وكبيرهم، وكان لكل الخلق منه راحة وله به سرور، وأنه كان ينزل عن رتبته العليا في الفصاحة والمكانة إلى مناطقة الصبي والطفل ليوجده روحًا فيسر بذلك قلوب الأطفال وقلوب آباء الأطفال بإباحته لهم ذلك فيقتدون به في ملاطفتهم صبيانهم، وليخرج أيضًا بذلك من حيز الجبارين والمتكبرين. * وفيه دليل على أن ذلك مشروع في كل من له صبي فيستحب أن يلاطفه. * وفيه جواز الكنية للصغير الذي لم يولد لمثله ويكون ذلك على وجه التفاؤل أنه سيولد له. -1653 - الحديث السادس والثلاثون بعد المائة: [عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (البركة في نواصي الخيل). وفي رواية: (معقود في نواصيها الخير)].

* وهذا الحديث أيضًا قد مضى شرحه، وأشير إليه هاهنا، فأقول إن الخير والخيل إلا ما بين الراء واللام، وأقرب المخارج من الراء اللام والنون، ولم يأت في القرآن لام إلا ومعها ميم أو راء، فالخيل الخير، والخير الخيل، وأي خير أفضل وأعظم مما كانت توصله عباد الله سبحانه المؤمنين إليه من الشهادة في سبيله، وكانت وصلة إلى خير لا ينقطع أبدًا. -1654 - الحديث السابع والثلاثون بعد المائة: [عن أنس قال: (خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة فصلى ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة فقلت: أقمتم بها شيئًا؟ قال: أقمنا بها عشرًا). وفي رواية: (أقمنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرة نقصر الصلاة)]. * قد سبق الكلام في قصر الصلاة في مواضع. -1655 - الحديث الثامن والثلاثون بعد المائة: [عن عاصم بن سليمان قال: قلت لأنس: أكنتم تكرهون السعي بين

الصفا والمروة؟ قال: نعم، لأنها كانت من شعائر الجاهلية، حتى أنزل الله عز وجل: (188/أ): {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما}. وفي رواية: (كنا نرى ذلك من أمر الجاهلية فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله، وذكر الآية)]. * وهذا الحديث قد مضى أيضًا. -1656 - الحديث التاسع والثلاثون بعد المائة: [عن عاصم، قال: (قلت لأنس: أبلغك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا حلف في

الإسلام؟ قال: قد حالف النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار في داري)]. * حالف بمعنى آخى، وإنما سماهم أنس محالفة لأن معناها معنى المؤاخاة، يقال: فلان خلف فلان وحليفه إذا لازمه، فكأنها من الملازمة، فعلى هذا يخرج كلام أنس. والأصل المنع من ذلك كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا حلف في الإسلام). قال الشيخ محمد بن يحيى رحمه الله قال: المحالفة حرام، لأنه إن كان يتحالفان على حق، فلأن الله تعالى أمرهما به، فلأن يأتيانه امتثالًا لأمر الله تعالى خيرًا لهم من إتيانه من أجل أنهما كانا تحالفا عليه، وإن كانا يتحالفان على فعل باطل فذلك لأجل الوفاء به، ولا عقده إلا أنه جهل جاهل حلف ثم حنث كان عليه كفارة يمين. * ولقد كنت مرة جالسًا في الترب الشريفة على ساكنها السلام في زيارة، فقسمت فينا ربعة، فكان الجزء الذي في يدي فيه سورة النور، فقرأته حتى أتيت على قوله سبحانه: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة} فأثار الله سبحانه همي لتدبر هذه الآية فقلت: وما

الحكمة في قوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة} فشرعت في تدبر ذلك. ثم رأيت أنه إن استمررت على التدبر طال على الآخرين انتظاري، فرأيت أن أقرأ معهم، ثم أتدبر هذه الآية فيما بعد، فأتممت القراءة معهم، ثم ختمت الختمة، وخرجنا فركبت وجئنا ففي طريقي تدبرت هذه الآية فوجدت فيها ما أنا ذاكره؛ وهو أني كنت عرفت أن سيبويه، قال: إن قوله: {طاعة معروفة} مبتدأ وخبره محذوف، وإن (188/ب) الفراء قال: هو خبر ومبتدأ محذوف، لأن المرفوع إذا انفرد جاز أن يكون مبتدأ والخبر محذوف وجاز أن يكون خبرًا والمبتدأ محذوف. فشرعت في تدبير معنى ذلك على رأي سيبويه، وهو أن جعلها مبتدأ والخبر محذوف، وتقديره طاعة معروفة أمثل، فنخرج من ذلك أنه لما أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم لما أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخروج إلى قتال العدو فحلفوا فإنهم يخرجون فقال عز وجل: {لا تقسموا}، فرأيت أن في ذلك من

الحكمة أنكم إذا أقسمتم ثم خرجتم كان خروجكم وفاءً بالأيمان لا انقيادًا لموجب الإيمان، وإذا لم تقسموا ثم خرجتم كان ذلك دليل أمارة إيمانكم ومغنى عن تقديم إيمانكم هذا وجه. ثم رأيت فيه وجهًا آخر، وهو أنه إذا أقسمتم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع علمكم أن الله سبحانه يطلعه على الغيب فيكم، وأنكم إن كنتم مؤمنين فإن الله تعالى يعلم ذلك أيضًا، فإذا أقسمتم على ما لا يستند إلى الأيمان فقد أشعرتم بأنكم لم تؤمنوا بأن الله يعلم ما في الصدور، فكيف يحلف العبد لربه أني مؤمن بك؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورًا}، وقوله سبحانه: {إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورًا} يعني أنه سبحانه أن الأواب هو الرجاع الذي يرجع إلى التوبة بعد الذنب، ثم يتكرر ذلك منه، ولذلك قيل له: أواب أي رجاع. فإذا كان سبحانه للأوابين غفورًا، فكيف بالصالحين، ولم يقل فإنه كان للصالحين غفورًا، وفي هذا زيادة فائدة، وهو أن الغفر في حال الأوابين أوقع منه في حال الصالحين، فإن الله سبحانه إذا شهد لقوم بالصلاح فإن حالهم يقتضي رفع المنازل والدرجات على أن فيها إشارة إلى أن كل صالح غير آمن من حال يصدر عنه تتبعها الأوبة فيلحقها المغفرة فسبحان المتكلم بهذا القرآن. والغفر: هو الستر للهفوة والزلة، فهذا وجه.

ثم (189/أ) رأيت فيها وجهًا ثالثًا، وهو أن قول الله عز وجل: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا} يعني جل جلاله أن نفس إقسامكم يشعر بسوء ظنكم في ظننا فيكم، ويفصح عن قلة وثوقكم به توثقنا بكم، إذ لو لم تروا أننا نراكم بعين المتهمين لما أقسمتم على البراءة من التهمة فلا تقسموا. ثم رأيت أبا الطيب قد أخذ هذا المعنى فنظمه في قوله: عقبى اليمين على عقبى الوفى ندم .... ماذا يزيدك في إقدامك القسم وفي اليمين على ما أنت واعده .... ما دل أنك في الميعاد متهم فنظرت فإذا هذه الوجوه الثلاثة تخرج على قول سيبويه أن يكون الخبر محذوفًا، وهو قولنا أمثل وأحق. -1657 - الحديث الأربعون بعد المائة: [عن أنس قال: (قدم علي رضي الله عنه على النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليمن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بما أهللت يا علي؟ فقال: أهللت بإهلال كإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لولا أن معي الهدي لأحللت)].

* قد سبق بيان هذا الحديث في مسند أبي موسى رضي الله عنه. -1658 - الحديث الحادي والأربعون بعد المائة: [عن أبي مسلمة، قال: (سألت أنس بن مالك: أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في نعليه؟ قال: نعم)]. * في هذا الحديث جواز أن يصلي الرجل في نعليه إذا كانتا طاهرتين. -1659 - الحديث الثاني والأربعون بعد المائة: [عن أنس قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج لحاجته تبعته أنا وغلام منا، معنا إداوة من ماء -يعني: يستنجي به).

وفي رواية: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الخلال، فأحمل أنا وغلام إداوة من ماء، وعنزة، يستنجي بالماء). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل حائطًا، وتبعه غلام ومعه ميضأة، وهو أصغرنا، فوضعها عند سدرة، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجته، فخرج علينا وقد استنجى بالماء)]. * أما حمل صاحبه الماء فإنه يحمله إلى موضع الاستنجاء، وأما حمل العنزة (189/ب) معه فلئلا يخل بحمل السلاح. -1660 - الحديث الثالث والأربعون بعد المائة: [عن أنس، قال: قال أبو جهل: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجرة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم)، فنزلت: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون (33) وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام} إلى آخر الآية].

* في هذا الحديث من الدليل على أن الله ينطق الكافر والفاسق بما يأخذه به. وقوله: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} المعنى إنما امتنع العذاب عنهم بمكة لكونك فيهم. * وقوله: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} أي لو استغفروا لما عذبوا. * وقوله: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} فكانوا يظنون أن هذه عبادة عند البيت. والمكاء: التصفير، والتصدية: التصفيق. فأخبر الله عز وجل بذلك منذرًا لكل من يظن أن التصفيق يكون عبادة وهذا التصفيق والشبابة لا يحل لمؤمن من أن يسمي ذلك عبادة وأنه الباطل، ولم يكتف متخذه أن يستعمل الباطل حتى جر إليه طائفة من أهل الحق فيلبسها لباس الباطل ليكون بذلك خارجًا عن حد إغواء المعتدين إلى إغواء أهل الدين. -1661 - الحديث الرابع والأربعون بعد المائة: [عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد تمرة فقال: (لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها).

ومنهم من قال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بتمرة في الطريق، فقال: لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها)]. * في هذا الحديث أن الشيء قد يجوز أن يكون مما لا يصلح فيترك احتياطًا كرجل يؤتى بماء لوضوءه من دار مجهولة، وإن سأل عن طهارته أمن بذلك أن يقال له بعد إن الإناء الذي أعطيناك منه كانت فيه نجاسة فيقدم الاحتراز خوفًا من مثل هذا إلا أن هذا إذا فعله الإنسان فهو الأولى، وإن لم يفعله فلا بأس عليه، فإن الأصول تستصحب، ومتى يطلع الإنسان على ما يخالف ذلك الأصل استدرك، وإن لم يطلع عليه استصحب الحال. -1662 - الحديث الخامس والأربعون بعد المائة: [عن عبد العزيز بن رفيع قال: سألت أنس بن مالك، قلت: أخبرني بشيء عقلته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أين صلى الظهر والعصر يوم التروية؟ قال: بمنى. قلت: فأين صلى العصر يوم النفر؟ قال: بالأبطح. ثم قال: أفعل كما يفعل أمراؤك؟). وفي رواية (190/أ) (خرجت إلى منى يوم التروية، فلقين أنسًا ذاهبًا على حمار، فقلت: أين صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر هذا اليوم؟ قال: انظر، حيث

يصلي أمراؤك)]. * قد سبق هذا الحديث والكلام عليه إلا أني أشير إليه، وأقول إنه يدل على اتباع الأئمة والتمسك بالجماعة والتحذير من الفرقة. -1663 - الحديث السادس والأربعون بعد المائة: [عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (آية الإيمان: حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)]. وفي رواية: (آية المنافق بغض الأنصار، وآية المؤمن حب الأنصار)]. * فيه من الفقه أن الأنصار هم الذين اتخذوا البيضاء عند كل مسلم بما فعلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم آووا ونصروا وآثروا، فكل مؤمن يعتقد عنده لهم يدًا وصنيعة بإحسانهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، وكل كافر يكون عدوًا لله وعدوًا للإسلام يبغض ما فعله الأنصار ويشنأهم على ذلك إلا أنه لم يقدر لظهور كلمة الحق وعلو الإسلام أن يظهر بغض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل يسر ذلك ويظهر بغض من آواه ونصره، فلذلك كان حب الأنصار آية الإيمان وبغض الأنصار آية النفاق. * الآية: العلامة والأمارة.

-1664 - الحديث السابع والأربعون بعد المائة: [عن أنس قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد). وفي رواية: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل بخمس مكاكيك، ويتوضأ بمكوك). وفي رواية ابن مهدي: (بخمس مكاكي)]. * المراد من هذا الحديث أنه يستحب للمتوضئ أن لا ينقص عن ذلك المقدار، فإن زاد أو نقص مع الإسباغ جاز له ذلك، إلا أن الإسراف في الماء مكروه منهي عنه؛ لأن الذي يفرط فيه من الماء وإن قل، يجوز أن يكون فوت نفس قد أشرفت على الموت، فيكون إذا منحه الرجل أخاه المسلم لم يكن في الميزان على مقدار جرعة من ماء، ولكنه يكون في مقدار الموازنة أنه لو قد سقاه ظمآن قد قارب التلف، فإن الله سبحانه وتعالى يكتب له إحياء نفس يكون في التضعيف من حيث إنها يتأتى منها أن يكون أصلًا لأمة أو للناس جميعًا، فيكون الاعتداد له بإحياء نفس هي أصل لأمة أو للناس جميعًا يتناسلون ويعبدون الله إلى يوم القيامة (190/ب)، فهذا يكون من بركة حسن التقدير في الوضوء.

-1665 - الحديث الثامن الأربعون بعد المائة: [عن أنس قال: كان رجل نصرانيًا فأسلم، وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فعاد نصرانيًا، فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله، فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، لما هرب منهم، نبشوا عن صاحبنا، فألقوا، فحفروا له فأعمقوا، فأصبحوا وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، نبشوا عن صاحبنا، فألقوه، فحفروا له وأعمقوا في الأرض ما استطاعوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس، فألقوه). وفي رواية لمسلم قال: (كان منا رجل من بني النجار، وقد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانطلق هاربًا حتى لحق بأهل الكتاب. قال: فرفعوه، قالوا: هذا قد كان يكتب لمحمد، فأعجبوا به، فما لبث أن قصهم الله عنقه فيهم، فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له، فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهه، فتركوه منبوذًا)]. * في هذا الحديث ذكر آية من آيات الله عز وجل وهي أن هذا الرجل لما كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وادعى خلاف ما كان يمليه عليه، وكانت دعواه على السر

الذي لولا استدناء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له لم يقدر على تلك الدعوى، فأظهر الله تعالى فيه تلك الآية وهي لفظ الأرض له. وذلك أنه لما أظهر سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عقوبته من جنس ذنبه كما قدمناه فأظهرت الأرض من سوأته ما توار به من كل أحد. -1666 - الحديث التاسع والأربعون بعد المائة: [عن أنس قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم، آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار). وفي رواية: (كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم، آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار). وفي رواية عن عبد العزيز: أنه سأل أنسًا: (أي دعوة كان يدعو بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر؟ قال: كان أكثر دعوة يدعو بها يقول: اللهم، آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار). قال: (191/أ) وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه)].

* في هذا الحديث من الفقه هو أن هذه الكلمات جامعة لخير الدنيا والآخرة، لأنه إذا طلب في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة فقد طلب الحسنين في الدنيا والآخرة، وحسنة صفة لموصوف محذوف وفي حذفه فوائد: وهي أن كل مطلوب من النعمة والقربة والحياة والعافية والنصرة والبركة والكفاية والإصابة وغير ذلك -يجوز أن يكون في الموصوف، فلما حذف الموصوف وذكر الصفة جاز أن ينصرف ذلك إلى ذلك كله. * وقوله: (آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة) دعاء عارف أن أقل قليل من آلاء الله عز وجل في الدنيا والآخرة لا يقوم له العبد، فمن طلب أن يؤتيه الله عز وجل في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة فقد طلب أن ينقله من عافية إلى عافية، ويقلبه من نعمة إلى نعمة، فلم يبق في ذلك ما يخاف على هذا العبد إلا ما عساه أن يتوجه إليه من عقوبة على خطاياه، ولما كان من الجائز أن ينال حسنة الآخرة بعد مسيس شيء من عذاب النار، فقال بعد السؤالين: وقنا عذاب النار، فتم له الدعاء وشمله الاحتياط. -1667 - الحديث الخمسون بعد المائة: [عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لن يبرح الناس يسألون، حتى يقولوا: هذا الله خلق كل شيء، فمن خلق الله). في رواية لمسلم: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أمتك لا يزالون يقولون: ما كذا؟ ما كذا؟ حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله)].

* في هذا الحديث من الفقه كراهية تخريج المسائل المتناقضة وتشكيك المقالات المتنافية، وأنها إنما تعترض في قلب كل شاك يرتاب فيقول القائل: من خلق الله بعد أن ثبت أنه لا أمارة للحدث فيه تعالى، كلام مختل، لأن قوله: {الله خالق كل شيء} إقرار بأنه أحدث الأشياء وتسليم أنه لا تسلط للحدث عليه، فإذا عاد وقال: (فمن خلق الله) ناقض قوله بقوله. (191/ب) * وفي هذا الحديث من فضل الله سبحانه وحكمته على ما في قلوب المؤمنين لتجرع نطقه من مرارته أن أنطق الله جل جلاله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليكون عند الأمة شيئًا من مثل الداء العضال، استحالة إذا عرض تناقضه، وليعلموا أن الشيطان ينتهي في إغواء الخلق وإلقاء الوساوس الخبيثة في قلوبهم إلى هذا الحد، ولو لم يذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا، حتى يطرح الشيطان مثله في قلب من القلوب لم يكن مقدمًا على أن يفضح عما قذفه الشيطان في ضميره منه، فكان يموت العبد بدائه، ويفضي بغصته، ويبقى على كفره. -1668 - الحديث الحادي والخمسون بعد المائة: [عن أنس (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يسوق بدنة، فقال: اركبها، فقال: إنها بدنه، فقال: اركبها، فقال: إنها بدنه. فقال: اركبها -ثلاثًا).

وفي رواية: (فقال في الثالثة أو الرابعة: اركبها، ويلك! أو-ويحك!). وفي رواية عن أنس قال: (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل يسوق بدنة فقال: (إنها بدنة. فقال: اركبها -مرتين أو ثلاثًا). وفي رواية: (مر على النبي - صلى الله عليه وسلم - ببدنة -أو هدية-فقال: اركبها، فقال: إنها بدنة -أو هدية-قال: وإن)]. * قد دل الحديث على جواز ركوب البدنة من الهدي. * وفي أيضًا دليل على أن الأعرابي لما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالركوب فقال: إنها بدنة. فقال له: اركبها، وقوله: (وإن)، يعني وإن كانت بدنة، فإنه قد كان له أن يركبها في وقته فلما راجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثانية وثالثة أغلظ له، بأن قال: (ويلك-أو: ويحك) في جواب جهله، وعلى هذا فإنه إذا كان المخاطب بليدًا ولا يفهم إلا بالزجر والقول الخشن، فإنه يستعمل معه مثل هذا. -1669 - الحديث الثاني والخمسون بعد المائة: [عن أنس قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا: أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -،

وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا. وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني (192/أ) أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)]. * في هذا الحديث من الفقه أن معنى العبادة امتثال أمر المعبود، ومن ذلك فضل الصلاة وقت الأمر بفعلها، وتركها وقت الأمر بتركها، وكذلك سائر العبادات، وقد جاءت شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعبادات كثيرة من صوم، وصلاة، وحج، وجهاد، وإنفاق، وابتغاء ولد يخلف أباه في عبادة ربه وبره، وقراءة، وتعلم وتعليم إلى غير ذلك، فمتى مد العابد الزمان في عبادة واحدة أضر بباقي العبادات فبحسب ما يزيد في شيء ينقص من غيره وذلك لا يصلح. * وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له) فإنه قاله جوابًا للقائلين، إنا لسنا كرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فأعملهم أنه لم يزده ذلك إلا خشية من الله وانفا له؛ لئلا يظنوا أنه خفف عبادة ربه اتكالًا

على أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولم يكن كذلك بل الذي فعله هو الغاية القصوى في الجمع بين العبادات كلها وعمارة الأرض بأسرها، ولا يكون الإنسان قادرًا على اتباع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمارة الطرق بأسرها حتى يكون وفق الشرع فيرى النكاح عبادة والنظر عبادة إلى غيرهما من الأحوال التي يقوى على عمارة جميع الطرق. -1670 - الحديث الثالث والخمسون بعد المائة: [عن أنس (أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو، فأبوا، فعرضوا الأرش، فأبوا، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبوا القصاص، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله، أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا أنس، كتاب الله القصاص، فرضي القوم فعفوا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره). (192/ب) وعن أنس (أن أخت الربيع أم حارثة: جرحت إنسانًا، فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: القصاص، القصاص، فقالت أم الربيع: يا رسول الله: أيقتص من فلانة؟ والله لا يقتص منها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: سبحان الله، يا أم الربيع، القصاص كتاب الله، فذكره، وفيه: إنهم قبلوا الدية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)].

* في هذا الحديث من الفقه أن السن بالسن. * وفيه أن العبد الصالح قد تعتريه الغيرة فيقول: ما ليس له قوله، نحو قول أنس بن النضر، وقول أمه. * وفيه أيضًا أن العبد الصالح والأمة الصالحة إذا وثقا من الله عز وجل يوفق عودهما فأقسما عليه ثقة بكرمه سبحانه مع العلم بأنه يقدر على تيسير ما استضعب على غيره فإن إيمانهما يشفع لهما، فإنني لا أرى أنسًا رضي الله عنه قال ما قال، وحلف عليه حين تسدد الخصوم ولم يبق في الأمر مطمع من جهة الخلق، فاعتمد على الله عز وجل وحلف على أنه لا تكسر سن الربيع، فأبر الله يمينه وأوقع في قلوب الخصوم العفو، ومثل هذا القسم المذكور لا يصلح لغير أنس أن يتسوغ إليه، ولا سيما إن كان المقسم في مقام مدل فيدعو بشيء لا يصلح مما يستعجل به الشر من إهلاك شخص ونحو ذلك، فمن قمين أن يكذبه الله تعالى فيما تألى عليه به، فأما من رجاء رحمة الله فطمع لعصاة عباده في غفرانه فآمل لخطائي خلقه عفوه فلا لوم عليه. -1671 - الحديث الرابع والخمسون بعد المائة: [عن أنس قال: (غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا

رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون، فقال: اللهم أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه-وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين-ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد، فقال سعد: فما استطعت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما صنع، قال أنس: فوجدناه (193/أ) به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس: كنا نرى -أو نظن-أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} الآية). وفي رواية لمسلم: (قال أنس: عمي سميت به، لم يشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدرًا، فشق عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غبت عنه، ولئن أراني الله مشهدًا فيما بعد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليرين الله ما أصنع! قال: وهاب أن يقول غيرها، فقال: فشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، قال: فاستقبل سعد بن معاذ، فقال له أنس: يا أبا عمرو، أين؟ ثم قال: واهًا لريح الجنة، أجده دون أحد، قال: فقاتلهم حتى قتل، قال: فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة ورمية وطعنة، ثم ذكر نحو ما تقدم)].

* في هذا الحديث من ذكر بلاء أنس بن النضر وعلو مقامه في جهاد الأعداء ما تبين ما ذكرناه في الحديث الذي قبله من استيهاله إبرار قسمه، وأنه لما غاب عن بدر، وهي أول المشاهد استدرك أي استدراك بفعلته هذه حتى قال سعد بن معاذ -الذي اهتز العرض عند موته-الذي قال: إني ما استطعت ما صنع، وحتى توجد فيه بضع وثمانون بين رمية وضربة وطعنة. * وفيه أيضًا أن الله سبحانه وتعالى قد يبلغ من لطفه بعبده المؤمن إلى أن يرزقه الله زيادة الحرص على الخير بأن يفوته من شيء من الخير قد كان أدركه غيره، فإن أنس بن النضر حين فاتته بدر أزاد حرصه حتى بات الناس في يوم أحد فاستدرك ما فاته وجعل حسن بلائه مقتدى لكل من أراد أن يستدرك فائتًا من أمره أن يفعل كفعله. * وفيه أيضًا مما يدل على إيمانه أنه قال: ليرين الله، ولم يقل ليرين غيره، فدل قوله هذا على لباب إخلاصه، وأنه لم يرد أن يرى ما فعله غير الله عز وجل ولا جرم أن الله سبحانه وتعالى أظهر بركة إخلاصه عليه. * وفيه أيضًا أنه لما انكشف من المسلمين من انكشف انحيازًا (193/ب) إلى فيئهم لم يقنع بأن يأخذ بالرخصة بل رجع عن صف المنكشفين من المسلمين مستقبلًا صف المشركين بمفرده فقاتل حتى قتل في موطن وأي موطن.

-1672 - الحديث الخامس والخمسون بعد المائة: [عن انس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لغدوة في سبيل الله، أو روحة، خير من الدنيا وما فيها)]. * قد سبق هذا الحديث والكلام عليه. -1673 - الحديث السادس والخمسون بعد المائة: [عن أنس قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفطر من الشهر، حتى نظن أنه لا يصوم منه، ويصوم حتى نظن لا يفطر منه شيئًا، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليًا إلا رأيته، ولا قائمًا إلا رأيته). وفي رواية: (سألت أنسًا عن صيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: ما كنت أحب أن أراه من الشهر صائمًا إلا رأيته، ولا مفطرًا إلا رأيته، ولا من الليل قائمًا إلا رأيته، ولا نائمًا إلا رأيته، ولا مسست خزة ولا حرير ألين من كف

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا شممت مسكة ولا عبيرة أطيب من رائحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية: (كان يصوم حتى يقال: قد صام، ويفطر حتى يقال: قد أفطر أفطر)]. * قد سبق ذكر هذا الحديث في مواضع. -1674 - الحديث السابع والخمسون بعد المائة: [عن أنس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة)]. * قد سبق هذا الحديث في مواطن وشرحناه مستوفيًا. -1675 - الحديث الثامن والخمسون بعد المائة: [عن أنس قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلال، قال: (اللهم إني أعوذ

بك من الخبث والخبائث). وفي رواية: (إذا أراد أن يدخل الخلاء). وفي رواية: (إذا دخل الكنيف). وفي رواية: (أعوذ بك من الخبث والخبائث)]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعاذ بالله لما دخل الخلاء؛ لأنه مقام كشف العورة وانقطاع عن ذكر الله عز وجل، المحصن من شياطين الجن والأنس، وحالة استيحاش من العبد لذكر ربه إلى حين عوده. قال أبو عبيد: الخبث: الشر، والخبائث الشياطين. -1676 - الحديث التاسع والخمسون بعد المائة: [عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من لبس الحرير في الدنيا (194/أ)، فلن يلبسه في الآخرة).

* قد سبق هذا الحديث والكلام عليه. -1677 - الحديث الستون بعد المائة: [عن أنس قال: أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءً وصبيانًا مقبلين من عرس، فقام فقال: (اللهم أنتم من أحب الناس إلي). وفي رواية: (رأي صبيانًا ونساءً مقبلين من عرس فقام - صلى الله عليه وسلم - فقال: (اللهم إنهم من أحب الناس إلي، اللهم إنهم من أحب الناس إلي، اللهم إنهم من أحب الناس إلي. يعني الأنصار)]. * قد سبق هذا الحديث، وهو مشتمل على فضيلة الأنصار، وتكريره لذلك ثلاثًا، فهو تأكيد إلا أنه مع كونه يعلم أن الله تعالى يعلم منه مثل ما أخبر به، فإن الذي أرى فيه أن قوله ذلك - صلى الله عليه وسلم - جهرًا غير سر فإنما أراد أن يعلم الخلق أنه قد أشهد الله على ما أخبر به من ذلك.

-1678 - الحديث الحادي والستون بعد المائة: [عن أنس قال: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزعفر الرجل)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الزعفران هو من طيب النساء؛ وليس من طيب الرجال، فعلى هذا أرى أن لا يتطيب الرجل بطيب فيه زعفران. والتزعفر: هو استعمال الزعفران. -1679 - الحديث الثاني والستون بعد المائة: [عن أنس قال: (كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السواري حتى يخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم كذلك يصلون ركعتين قبل المغرب، ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء). وفي رواية: (لم يكن بينهما إلا قليل). وفي رواية: (كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري، فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد، فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليها). وفي رواية عن المختار بن فلفل، قال: (سألت أنس بن مالك عن التطوع بعد العصر، فقال: كان عمر يضرب الأيدي على صلاة بعد العصر، وكنا نصلي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب

فقلت له: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاهما قال: كان يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا)] (194/ب). * قد سبق الكلام على هذا الحديث وبينا أنه إذا غربت الشمس جاز التنفل، وإنما ترك ذلك لضيق وقت المغرب. -1680 - الحديث الثالث والستون بعد المائة: [عن أنس: {إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا} [الفتح: 1] قال: هو الحديبية، فقال أصحابه: هنيئًا مريئًا، فما لنا. فأنزل الله عز وجل: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات} [الفتح: 5]. قال شعبة: فقدمت الكوفة، فحدثت بهذا كله عن قتادة، ثم رجعت فذكرت له، فقال: أما {إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا}، فعن أنس، أما (هنيئًا

مريئًا) فعن عكرمة. وفي رواية: (لما نزلت: {إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا (1) ليغفر لك الله} إلى قوله: {فوزًا عظيمًا} مرجعه من الحديبية، وهم يخالطهم الحزن والكآبة، وقد نحر الهدي بالحديبية. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعًا)]. * وفي هذا الحديث أن سورة الفتح نزلت مبشرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفتح من قبل كونه. * وفيه أيضًا أن الله تعالى بشر المؤمنين بما وعدهم به في الجنة. * وفيه أيضًا جواز أن يهنأ الرجل بنعم الله ويقال له: هنيئًا. * وفيه أيضًا دليل على جواز تلفيق الراوي الحديث إذا سمعه من رجلين أو ثلاث ليتضح معناه.

-1681 - الحديث الرابع والستون بعد المائة: [عن أنس (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فأتاه، فوجده جالسًا في بيته منكسًا رأيه، فقال: ما شأنك؟ قال: شر، كان يرفع صوته فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد حبط عمله، وهو من أهل النار، فأتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره أنه قال كذا وكذا، قال موسى بن أنس: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: اذهب إليه، فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة). وفي رواية: (لما نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} الآية [الحجرات: 2]، جلس ثابت في بيته، وقال: أنا من أهل النار، (195/أ) واحتبس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو، ما شأن ثابت؟ اشتكى؟ فقال سعد: إنه لجاري، وما علمت له شكوى، قال: فأتاه سعد، فذكر له قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال ثابت: أنزلت هذه الآية، وقد علمتم أني من أرفعكم صوتًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنا من أهل النار، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: بل هو من أهل الجنة). وفي رواية: (كان ثابت بن قيس بن شماس خطيب الأنصار، فلما نزلت هذه الآية. وذكر الحديث. وفي رواية: (فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة)].

* في هذا الحديث من الفقه أن الرجل الصالح قد يشتد خوفه من صغائره أضعاف ما يكون من غير الرجل الصالح عند فعله الكبائر. * وفيه أيضًا دليل على استحباب السؤال عن الصاحب إذا انقطع. * وفيه أيضًا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى شدة خوفه بلغ منه إلى الانقطاع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أظهر له ما أخفاه عن غيره من بشراه بالجنة، وعلى ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشره بالجنة في جواب شدة خوفه من رفع صوته على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لم يفسح له فيه. -1682 - الحديث الخامس والستون بعد المائة: [عن أنس (أن أم سليم كانت تبسط للنبي - صلى الله عليه وسلم - نطعًا، فيقيل عندها على ذلك النطع، فإذا قام النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذت من عرقه وشعره، فجمعته في سك، قال: فلما حضر أنس بن مالك الوفاة أوصى أن يجعل في حنوطه من ذلك السك، قال: فجعل في حنوطه). وفي رواية: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل ويبيت عند أم سليم، فينام على فراشها، وليست فيه، قال: فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فأتيت، فقيل لها: هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - نائم في بيتك على فراشك! قال: فجاءت وقد عرق، واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عتيدتها، فجعلت تنشف ذلك العرق، فتعصره في قواريرها، ففزع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ماذا تصنعين يا أم

سليم؟ فقالت: يا رسول الله، نرجو بركته لصبياننا، قال: أصبت). وفي رواية لمسلم: (دخل علينا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال عندنا، فعرق وجاءت أمي بقارورة (295/ب)، فجعلت تسلت العرق فيها، فاستيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أم سليم، ما هذا الذي تصنعين؟ قالت: هذا عرقك نجعله في طيبنا وهو أطيب الطيب)]. * قد سبق أن أم سليم كانت ذا محرم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويقال أن ذلك من الرضاعة. * وفيه جواز أخذ عرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير استئذانه لعلمها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمنع ذلك. * وفيه أيضًا أن القيلولة سنة لقوله: (يقال عندها). * وفيه أيضًا جواز النوم على النطع لقوله: (كان يدخل فينام على نطع لنا). * وفيه أيضًا أنها كانت تلتقط شعرات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه أيضًا جواز أن يجعل من عرق النبي - صلى الله عليه وسلم - وشعره مع الميت لقوله: (فأوصى أنس أن يجعل في حنوطه). * وفيه أيضًا جواز النوم على فراش الغير بغير إذن منه؛ إن كان يعلم أن ذلك يسرح ويفرح به. * وقوله: (ففزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أحسب معناه فانتبه بانزعاج.

-1683 - الحديث السادس والستون بعد المائة: [عن أنس قال: (دخلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سيف-القين-وكان ظئرًا لإبراهيم، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم، فقبله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تذرفان، فقال عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ قال: (يا ابن عوف، إنها رحمة، ثم أتبعها بأخرى، فقال: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون). وفي رواية لمسلم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ولد لي الليلة غلام، فسميته باسم أبي إبراهيم، ثم دفعه إلى أم سيف-امرأة قين، يقال له: أبو سيف-فانطلق يأتيه فاتبعته، فانتهينا إلى أبي سيف-وهو ينفخ بكيره، وقد امتلأ البيت دخانًا-فأسرعت المشي بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا أبا سيف، أمسك، جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمسك، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصبي، فضمه إليه، وقال: ما شاء الله تعالى أن يقول، فقال أنس: لقد رأيته وهو يكيد بنفسه-بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدمعت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (196/أ) فقال: (تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إل ما يرضي ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون)].

* في هذا الحديث من الفقه جواز البكاء على الميت من غير نياحة. * وفيه أيضًا استحباب رحمة الأطفال. * الظئر: هي الحاضن والقين: هو الحديد. * وفيه جواز أن يسمى المولود ليلة ولادته لقوله: (ولد لي غلام فسميته باسم أبي إبراهيم). * ويستحب للرجل أن يسمى ولده باسم أبيه إذا كان قد مات أبوه. -1684 - الحديث السابع والستون بعد المائة: [عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح، جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة). وفي رواية عن أنس: (من رآني في المنام فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يتمثل بي، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة)]. * في هذا الحديث دليل على أن الرؤيا الصالحة بشرى من الله دون الرؤيا السيئة.

* فأما قوله: (ستة وأربعين) فقد ذكر العلماء فيها أنه أقام بمكة ثلاث عشرة وبالمدينة عشرا، وأنه كان بها ستة أشهر يوحى إليه في المنام، هي جزء من ستة وأربعين على ما بينا في مسند عبادة بن الصامت. -1685 - الحديث الثامن والستون بعد المائة: [عن أنس، قال: (بنما نحن جلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، إذ دخل رجل على جمل، ثم أناخه في المسجد، ثم عقله، ثم قال: أيكم محمد؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم -

متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له: ابن عبد المطلب؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قد أجبتك). فقال له الرجل: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد علي في نفسك، فقال: (سل عما بدا لك). فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال: (اللهم نعم). قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: (اللهم نعم)، قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: (اللهم نعم) قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم نعم)، فقال (196/ب) الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة، أخو بني سعد ابن بكر). وفي رواية لمسلم: (نهينا في القرآن أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل، فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية، فقال: يا محمد، أتانا رسولك، فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك؟ قال: (صدق)، قال: فمن خلق السماء؟ قال: (الله)، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: (الله)، قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: (الله)، قال: فبالذي خلق السماء والأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال: (نعم)، قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا؟ قال: (صدق)، قال: فبالذي أرسلك، آلله أمر بهذا؟ قال: (نعم). قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا؟ قال: (صدق)، قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال:

(نعم)، قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا؟ قال: (صدق). قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك هذا؟ قال: (نعم)، قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلًا؟ قال: (صدق). قال: ثم ولى، وقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن، ولا أنقص منهن، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن صدق ليدخلن الجنة)]. * في هذا الحديث من الفقه أن هذا السائل وهو ضمام لما ثبت عنده الحق بطريق سكن إليها قلبه، وحصل له الإيمان رضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك منه إيمانًا، وشهد له بدخول الجنة إن صدق، وهذا الاشتراط للصدق إنما هو في الأعمال التي ذكر له يؤديها على أنه قد كلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكلام عالم بخالق الخلق، عارف بقدر فخامة اليمين به سبحانه وتعالى عند من يؤمن به. * وفي هذا الحديث أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يجلسون معه، ولا يقوم واحد منهم على رأسه كما يفعل الأعاجم في غير حاجة، إلا أنه إن كان قيام القائمة لحاجة أو لتنفيذ في أمر أو ليستعان به فله حكم آخر. * وفيه أيضًا جواز الاتكاء بين القوم الجلوس. * وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: (قد أجبتك)، فإنه لما لم يدعه بالنبوة لم يجبه بالجواب المرضي، ولهذا جاء في حديث آخر أن رجلًا قال: يا محمد، فأجابه بأن قال:

(هاؤم). -1686 - الحديث الأول من أفراد البخاري: (197/أ) [عن الزهري، قال: (دخلت على أنس بن مالك بدمشق، وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئًا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت). وفي رواية: (ما أعرف شيئًا مما كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الصلاة، قال: أليس قد صنعتم ما صنعتم فيها). وفي رواية: (أنه قدم للمدينة، فقيل له: ما أنكرت منا منذ عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: ما أنكرت شيئًا، إلا أنكم لا تقيمون الصفوف)]. الإشارة من أنس إلى مثل ما كان يفعل الحجاج من تأخير الصلاة. * وقد سبق هذا في مسند أبي الدرداء شرح هذا المعنى.

-1687 - الحديث الثاني: [عن أنس، قال: (لم يكن أحد أشبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من الحسن بن علي عليهما السلام). وفي رواية عن ابن سيرين قال: (أتي عبد الله بن زياد برأس الحسين رضي الله عنه، فجعل في طست فجعل ينكت، وقال في حسنه شيئًا، فقال أنس: كان أشبههم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان مخضوبًا بالوسمة)]. * قد سبق الكلام في أنه كان الحسن يشبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسند أبي بكر رضي الله عنه. * وقوله (في حسنه شيئًا) المعنى أنه مدحه بالحسن، وينكت: يقرع شيئًا يؤثر. * فأما القول فيما جرى على الحسين بن علي رضي الله عنه فإن قولنا فيه ما قال الربيع بن خثيم: فإنه لما قيل له: قد قتل الحسين عليه السلام؟! قال: اللهم، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، ونحن غير راضين بما جرى إلا أن إظهار النكير في هذا الأمر يوجب ما يستحقه، إلا من بعد فوته وذهاب زمانه وموت فاعله

لا يثير إلا ما يتعلق به جهال هذا الزمان ويجدونه سلمًا إلى سب غير الجاني وتعميم الكل بالأقوال التي ليست بجائزة؛ فكان الإمساك عن ذلك اتباعًا للعلماء، وذلك هو الحق. -1688 - الحديث الثالث: [عن أنس أن رجالًا من الأنصار استأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه، (197/ب) فقال: (لا تدعون منه درهمًا)]. * هذا الفداء إنما كان عن العباس حين أسر يوم بدر. * وقول الأنصار ذلك أرادوا به التقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإكرام العباس. * وقولهم: (ابن أختنا) لأن هاشمًا كان قد تزوج امرأة من بني النجار، يقال يها: سلمى، فولدت له عبد المطلب. فلذلك قالوا: ابن أختنا. * وقوله: (لا تدعون) بالنون فإنه إخبار يتضمن الحث على الترك؛ فكأنه قال: ما تدعون، ويجوز أن يكون الراوي قد لحن بإثبات النون فيكون نهيًا لهم عن أن يدعوه، وقد كان جرى من قبول الفداء منهم ما قد جرى. * وفيه من حسن الأدب أنهم قالوا: (ابن أختنا) ولم يقولوا: (عمك) لتكون

المنة بالترك عليهم لا عليه. -1689 - الحديث الرابع: [عن أنس، (أنه رأى على أم كلثوم بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برد حرير سيراء)]. * قد سبق شرح هذا في مسند ابن عمر. -1690 - الحديث الخامس: [عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إن كان ظالمًا: كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره). وفي رواية: (كيف ننصره ظالمًا؟ قال: تأخذ فوق يده)]. * هذا الحديث قد سبق وتقدم الكلام عليه.

-1691 - الحديث السادس: [عن أنس، (قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل التمرات). وفي رواية: (يأكلهن وترًا)]. * هذا الحديث يدل على استحباب الفطر قبل الصلاة وبخلاف الأضحى لأنه قد كان صائمًا فأمر أن يفطر بخلاف الأضحى، وذلك أن الناس يعتادون الصوم في رمضان فإذا أصبحوا تفرغوا من الأكل والعادة، فأكل - صلى الله عليه وسلم - لتغير العادات. * وفيه ما يدل على استحباب التمر عند الفطر، وقد تقدم اختيار الوتر؛ لكونه يذكر بالوتر، الوتر سبحانه. -1692 - الحديث السابع: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنه كان إذا تكلم بكلمة: أعادها ثلاثًا حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم سلم عليهم سلم (198/أ) عليهم ثلاثًا)].

* أما إعادته الكلمة فذلك يدل على أنه كلام محق غير مغالط ولا من يخاف أن يؤخذ عليه ما يقول ولا أن ينقض عليه قول. * وأما التسليم ثلاثًا فلتكثير البركة؛ أو يسمع من لم يسمع فيرد السلام فتجب له الرحمة. -1693 - الحديث الثامن: [عن أنس، قال: (يرى هذه الآية نزلت في أنس بن النضر: {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه})]. * هذا الحديث طرف من حديث تقدم في مسند أنس أيضًا، وقد سبق الكلام عليه هنالك. -1694 - الحديث التاسع: [عن ثمامة، قال: (حج أنس على رحل، ولم يكن شحيحًا، وحدث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج على رحل وكانت زاملته)].

* هنا يدل على أن الحج على الرحل أفضل من الحج على المحمل. * وقوله: (لم يكن شحيحًا) يدل على أن مقصوده اتباع السنة. -1695 - الحديث العاشر: [عن أنس، (أن قيس بن سعد بن عبادة: كان يكون بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، بمنزلة صاحب الشرط من الأمير)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن ما قلنا من أمر صاحب الشرطة في الاثني عشر الذين تقدم ذكرهم. -1696 - الحديث الحادي عشر: [عن ثمامة قال: (كان أنس لا يرد الطيب، قال: وزعم أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

كان لا يرد الطيب)]. * ويدل على قبول الهدية، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرد الطيب خاصة وإنما غير فربما رده. -1697 - الحديث الثاني عشر: [عن أنس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنكم ستلقون بعدي أثره، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض). وفي رواية: (دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين فقالوا: لا، إلا أن يقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها). فقال: (أما لا، فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة بعدي)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد إيثار الأنصار بإقطاع البحرين حكمًا منه على المهاجرين، لأن المهاجرين منه وأهله فلما فهمت الأنصار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد ذلك (198/ب) إيثارًا لهم، وجزاء بإحسانهم بما آثروا به

من أموالهم حتى نزل فيهم: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}؛ قالوا: لا، أي ما نريد أن يقطع لنا وحدنا، فيكون جزاء عن أعمالنا، ولكن إن سويت بيننا وبين المهاجرين أخذنا، فتكون تلك القسمة عامة للمسلمين فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أما لا) أي إذا لم تريدوا إيثاري لكم فاصبروا ليكون إعطاؤكم ما لا يفنى. -1698 - الحديث الثالث عشر: [عن أنس، قال: (مر يهودي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: السام عليكم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وعليك، أتدرون بما يقول؟ قال: السام عليك. قالوا: يا رسول الله ألا تقتله، قال: لا، إذا سلم عليكم أهل الكتاب، فقولوا: وعليكم)]. * هذا الحديث قد مضى والكلام عليه. -1699 - الحديث الرابع عشر: [عن أنس: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين هاتين الصلاتين في السفر

يعني المغرب والعشاء)]. * قد سبق الكلام في الجمع في السفر وغيره. -1700 - الحديث الخامس عشر: [عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس قال: (خط النبي - صلى الله عليه وسلم - خطوطًا فقال: هذا الأمل، وهذا أجله، فبينما هو كذلك إذا جاء الخط الأقرب)]. * قد سبق هذا الحديث في مسند عبد الله بن مسعود بتمام نطقه. * وفي هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقل التصوير عن الفهم إلى ما تدركه الأبصار ليكون تمثيله - صلى الله عليه وسلم - أدعى إلى تعليم السامعين في سرعة ليدرك ذلك من سمعه بسمعه وبصره. * فأما قوله - صلى الله عليه وسلم - حين خط الخطوط: (هذا الأمل)، ثم قال: (وهذا أجله)، ثم جعل الأمل أبعد عنه، والأجل أقرب إليه، فإنه يعني - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يزال كل قريب الأجل بعيد الأمل، وأن أجله أدنى إليه، وأمله أبعد عنه، وأن يكون الأجل قاطعًا بين الإنسان وبين أمله. وهذه الهاء فهي راجعة إلى ما استقر في

النفوس، فإنه لا يكون الأمل إلا للآدمي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (199/أ): (وهذا أجله) يعني الآدمي، والضمائر فهي تعود على شاهد وغائب، ثم ينقسم عود الضمائر في الغالب على وجوه: منها ما تقرر في النفوس وهو هذا. ومنه قول الله عز وجل: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} يعني القرآن. * وفي هذا الحديث من التنبيه على أن الأجل مقسوم معلوم لا يتجاوزه متجاوز. * وفيه أيضًا دليل على أنه لا يعلمه أحد إلا الله سبحانه وتعالى، وأنه غيب عن الآدميين، ولذلك تجاوزته الآمال وبعدته الأطماع. * وفيه أيضًا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أطلق القول في أن الآجال تقصم عرى الآمال أشار بذلك إلى مصالح كثيرة منها: أن لا يجمع الإنسان ما لا يأكله، ولا يعد من العتاد لعمر لا يبلغه، ولا يرجأ أعماله من الخير بالتسويف إلى أجل لا يصل إليه، ولا يدافع بالإنابة انتظارًا لأمد ينتهي إليه، ولئلا يستبطأ أحد نزول الموت به نائيا ذلك على ما يلاحظه من أمل بعيد، فإن الأجل أقرب إليه منه. ل5 وعلى أن هذا الحديث هو أصل من أصول الحق المبدي عورة الدنيا؛ فإن مدارها على طول الأمل، وهو الذي يثمر التسويف بأعمال الخير والصبر على أعمال الشر.

-1701 - الحديث السادس عشر: [عن أنس قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن: المحاقلة، والمخاضرة، والملامسة، والمنابذة)]. * قد سبق الكلام في تفسير هذه الألفاظ سوى المخاضرة وهي اشتراء الثمار وهي مخضرة، لم يبد صلاحها. -1702 - الحديث السابع عشر: [عن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه، ثم صبر، عوضته منهما الجنة) يريد: عينيه)]. * في هذا الحديث من الفقه ما يدل على أن العينين أحب أعضاء الإنسان إليه، فإن الإنسان يقول لواحد إذا أراد أن يخبره بغاية المحبة فإنه يقول له: أنت

عندي كعيني، وذلك أن العين (199/ب) تشهد عنده بوجود الأحداث في خلق السموات والأرض فيكون طريقًا إلى إيمانه بخالق السموات والأرض، ثم إنها تسافر به إلى المكان البعيد، وهو جالس فإذا أخذ الله عز وجل عيني عبده لحكمة اقتضاها أمره، مما قد أظهرنا نحن على بعضها، فإنه قد ألهج الذين تذهب أبصارهم بقراءة القرآن وتلقينه الناس. * وقد جاء الحديث الذي تقدم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) فلما أذهب عنهم أحب الأعضاء إليهم، عاضهم الله عز وجل بأن شغلهم بأحب الأشياء وأشرفها من تلاوة كتابه، ثم جعل سبحانه وتعالى في الجنة عوضًا لهم عما فقدوه، ولا يبعد أن يكونوا من أول الناظرين إلى الله تعالى. -1703 - الحديث الثامن عشر: [عن محمد بن سيرين، قال: (قلت لعبيدة: عندنا من شعر النبي - صلى الله عليه وسلم -، أصبناه من قبل أنس، أو من قبل أهل أنس. قال: لأن تكون عندي شعرة منه أحب إلي من الدنيا وما فيها)]. * هذا الحديث يدل على قوة إيمان القوم في التبرك بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن كلًا منهم كان إذا حصل له شيء من شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - تحصن به وتبرك به.

-1704 - الحديث التاسع عشر: [عن أنس، قال: (قال رجل من الأنصار، وكان ضخمًا، للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني لا أستطيع الصلاة معك، فصنع النبي - صلى الله عليه وسلم - طعامًا، فدعاه إلى بيته، ونضح له طرف حصير بماء، فصلى عليه ركعتين، فقال فلان بن فلان بن الجارود لأنس: أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى؟ قال: ما رأيته صلى غير ذلك اليوم). وفي رواية: (زار أهل بيت من الأنصار، فطعم عندهم طعامًا فلما أراد أن يخرج أمر بمكان من البيت فنضح له على بساط فصلى عليه ودعا لهم)]. * قد سبق بيان هذا الحديث وشرحنا له. * والكلام في صلاة الضحى، وفيه صلاة النافلة في البيت. -1705 - الحديث العشرون: [عن أبي قلابة، عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا نعس في الصلاة فلينم، حتى يعلم ما يقرأ)].

* في هذا الحديث من الفقه أنه لا ينبغي للإنسان أن يقرأ حتى يعلم ما يقرأ؛ لأن المراد من القراءة تدبرها؛ فإذا غلب النوم حال بين التالي وبين المقصود. -1706 - الحديث الحادي والعشرون: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا وضع العشاء وأقيمت (200/أ) الصلاة، فابدؤوا بالعشاء)]. * قد تقدم هذا الحديث والكلام عليه، وأشير إليه فأقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أمر حين اتفق عرض العشاء وإقامة الصلاة، أن يبدأ بالعشاء ويؤخر الصلاة؛ فإن ذلك من قوله منبهه للمصلين أن يكونوا متفرغي القلوب لفهم أذكار الصلاة وتدبرها وإيفائها حسن الأدب، وأن لا يطلع الله عز وجل على قلب مصل فيراه متطلعًا إلى انقضائها عجلًا فيها، فلذلك ما أمر به - صلى الله عليه وسلم - من تقديم العشاء على الصلاة ليدخل في الصلاة وهو فارغ القلب من التطلع. * وفيه أيضًا دليل على خلاف ما يزعمه المتعمقون من أنهم إذا كانوا على شدة الجوع كانوا أصفى أذهانًا كما يزعمون؛ فإنه لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يختار للمصلي تقديم ما يكدر صفاء فهمه قبل دخوله إلى صلاته. * وفيه أيضًا دليل على أن الضعف في الآدميين شائع، وينبغي له أن يعرف ضعف نفسه فيداريها مداراة الضعفاء لتبلغه المحل.

-1707 - الحديث الثاني والعشرون: [عن أنس (أن أبا طلحة وأنس بن النضر كوياه، وكواه أبو طلحة بيده). وفي رواية: (أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل بيت من الأنصار أن يرقوا من الحمة والأذن، قال أنس: كويت ذات الجنب ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي، وشهدني أبو طلحة، وأنس بن النضر، وزيد بن ثابت، وأبو طلحة كواني)]. * قد سبق الكلام في الكي وفي الرقية في مسند عمران بن حصين وغيره.

-1708 - الحديث الثالث والعشرون: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (المدينة يأتيها الدجال، فيجد الملائكة يحرسونها، فلا يقربها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله تعالى)]. * قد سبق ذكر فضيلة المدينة وامتناع هذه الأشياء منها. -1709 - الحديث الرابع والعشرون: [عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (رفعت لي السدرة، فإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران، ونهران باطنان، فأما الظاهران: فالنيل (200/ب) والفرات، وأما الباطنان: فنهران في الجنة، وأتيت بثلاثة أقداح: قدح فيه لبن، وقدح فيه

عسل، وقدح فيه خمر، فأخذت الذي فيه اللبن فقيل لي: أصبت الفطرة)]. * هذا بعض حديث المعراج، وقد سبق الكلام عليه في مسند مالك بن صعصعة. -1710 - الحديث الخامس والعشرون: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرويه عن ربه عز وجل-قال: (إذا تقرب العبد إلي شبرًا، تقربت إليه ذراعًا، وإذا تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيته هرولة)]. * قد سبق كلامنا في هذا الحديث وبيناه بيانًا مشروحًا في أماكن. -1711 - الحديث السادس والعشرون: [عن أنس قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدور على نسائه في الساعة الواحدة،

من الليل والنهار، وهن إحدى عشرة. قلت لأنس: وكان يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين). وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، وله يومئذ تسع نسوة). وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطوف على نسائه بغسل واحد)]. * والظاهر أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بين الوطئين أو يستنجي لأنه هو الذي يليق بمكارمه وطهارته. -1712 - الحديث السابع والعشرون: [عن أنس: (أن رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خرجا من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة مظلمة، ومعهما مثل المصباحين [يضيئان] بين أيديهما، فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحد، حتى أتى أهله). وفي رواية: (أن أسيد بن حضير ورجلًا من الأنصار). وفي رواية: (كان أسيد بن حضير وعباد بن بشر عند النبي - صلى الله عليه وسلم -)].

* هذه كرامة من كرامات الله عز وجل لأوليائه، وأفضل الأولياء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكراماتهم من أدلة نبوته - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم أتباعه على شريعته. -1713 - الحديث الثامن والعشرون: [عن أنس قال: (ولقد رهن النبي - صلى الله عليه وسلم - درعه بشعير، ومشيت (201/أ) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبز شعير وإهالة سنخة، فلقد سمعته يقول: (ما أصبح لآل محمد إلا صاع، ولا أمسى، وإنهم لتسعة أبيات)]. * قد سبق ذكر الإهالة السنخة في هذا المسند. * وقد دل الحديث على شدة عيشه بالقلة لا على وجه الشكوى. * وفيه جواز الرهن لعدة السلاح وإن كان يحتاج إليه. -1714 - الحديث التاسع والعشرون: [عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليصيبن أقوامًا سفع من النار، بذنوب

أصابوها عقوبة، ثم يدخلهم الله إلى الجنة بفضل رحمته، فيقال لهم: الجهنميون)]. * قد تقدم حديث الشفاعة، والسفع من النار هو أثر لهبها. -1715 - الحديث الثلاثون: [عن أنس، قال: (ما نعلم حيًا من أحياء العرب أكثر شهداء من الأنصار، قال قتادة: وحدثنا أنس بن مالك: أن قتل منهم يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون)]. * قد مضى هذا الحديث، وهو يدل على فضيلة الأنصار، فإن الله تعالى أكرمهم بالشهادة كما أكرموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. -1716 - الحديث الحادي والثلاثون: [عن أنس: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم

رقد مدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به)]. * قد ذكر المحصب والإشارة إلى الجمع، وقد تقدم ذلك. -1717 - الحديث الثاني والثلاثون: [عن أنس (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزيد بن ثابت تسحرا فلما فرغا من سحورهما، قام نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة يصلي، قلنا لأنس: كم بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية)]. * قد سبق هذا الحديث في مسند زيد بن ثابت، وأوضحنا الكلام عليه وهو مما يسند ما ذكرنا من الله عز وجل شرع تأخير السحور وتعجيل الفطر؛ فلم يكن قصد الشرع من الصيام زيادة تجوع كما يذهب إليه من يرى ذلك أخذًا له من الترهب.

-1718 - الحديث الثالث والثلاثون: [عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم) (201/ب) فاشتد قوله في ذلك حتى قال: (لينتهن أو لتخطفن أبصارهم)]. * قد تقدم هذا في مسند أبي قتادة، وتكلمنا عليه هنالك. -1719 - الحديث الرابع والثلاثون: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إن في الجنة شجرة، يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها)]. * قد تقدم هذا، والكلام في ظلها في مسند سهل بن سعد، وأشير إليه

فأقول: إنه - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر أن الراكب يسير في ظلها مائة عام قال بعد ذلك: (لا يقطعها) فدل على أن سير مائة سنة في ظل شجرة واحدة من أشجار الجنة لا يقطعها ولا ينفذها، فإنما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر في هذه الشجرة ليستدل بذكرها على سعة الحدائق التي فيها النخل والأشجار التي هذه الشجرة واحدة منها، وعلى سعة الأماكن التي فيها تلك الحدائق فهو مما لا يمكن أن يعبر عنه إلا بما قال الله تعالى: {وإذا رأيت ثم رأيت نعيمًا وملكًا كبيرًا}. * وذكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليعلم أمته بسعة الآخرة بتمثيل من أمثال ضيق الدنيا توصلًا بذلك إلى تبليغه إلى المفهوم، وهو كما قال سبحانه: {في جنات ونهر} أي سعة، فكان الشيخ محمد بن يحيى يقول في قول الله عز وجل: {وجنة عرضها كعرض السماء والأرض} إن ذلك من حيث تكسيره في ضرب الحساب فهو ينتهي إلى ما لا يمكن العقول الوقوف على حده وتجسر على إدراكه. -1720 - الحديث الخامس والثلاثون: [عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد أحدًا وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال: (اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان).

وفي رواية: (اثبت فما عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد)]. * ارتجاج الجبل لصعودهم عليه كان آية من آيات الله عز وجل. وقد بلغنا عن ابن سمعون، أنه قال: ما أرى الجبل رجف بهم إلا عجزًا عن حملهم أو طربًا لاجتماعهم على ظهره. -1721 - الحديث السادس والثلاثون: [عن قتادة، قال: (لم يأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خوان حتى مات، وما أكل خبزًا مرققًا حتى مات). وفي رواية: (كنا نأتي أنا وخبازه قائم، فيقول: كلوا، فما أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى له رغيفًا مرققًا حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطًا بعينه قط). وفي رواية: (ما علمت النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل على سكرجة قط، ولا خبز له مرقق قط، ولا أكل على خوان قط، قيل لقتادة: فعلام كانوا يأكلون؟ قال: على السفر)].

* الخوان: المائدة أو ما يقوم مقامها، وإنما السنة الأكل على السفرة لأنها أقرب إلى التواضع؛ ولأنها متاع المسافر، ولأنها أشمل لحفظ ما عساه أن يسقط عليها من فتات الخبز الذي لا يأمن الآكل أن يقع عليها منه شيء فيداس، فهي تجمع ذلك المتبدد. * وأما الخبز المرقق: فهو الخفيف، وهو يخبز في التنور، فأما العرب فقد كانوا يجعلون العجين على الأحجار ونحوها فلا يرق. * وأما الشاة السميط: فهي التي تشوى من غير سلخ، وهذا لا يكون في الأكثر إلا فيما صغر من الضأن، وذلك من طعام المترفين، وقد كان عيشه - صلى الله عليه وسلم - على ضد ذلك الترفه، والمراد أنه لم يكن له لكل طعام إناء معروف؛ بل كان يأكل في الإناء الواحد مما يتفق. * وهذا فلا أراه إلا لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في نأنأة الإسلام وشدة العيش؛ فاختار الله سبحانه ذلك له؛ وإلا فهو مباح لمن رزقه الله تعالى إياه، والدليل عليه قول أنس لأصحابه: كلوا ولو قد توخى الإنسان تطيب الطعام لضيفه وترقيقه الخبز ليبلغ منه النضج أو غير ذلك لكان ذلك مما يعتد الله سبحانه وتعالى له به عبادة إن شاء الله تعالى.

-1722 - الحديث السابع والثلاثون: [عن قتادة، قال: (سئل أنس: كيف كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: كانت مدًا، ثم قرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم}: يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم). وفي رواية: (كان يمد مدًا)]. * في هذا الحديث من الفقه أنه كان لا يدع مدة في التلاوة وذلك تمامها. * والمد في حروف وهي: الألف، والواو، والياء إذا كان قبلها حركاتها متى ولي واحدًا منها همزة، فإنها تمد، أو ولي واحدًا منها ساكن فإنها تمد أيضًا، لئلا يجتمع ساكنان إلا مع مد. فقوله يمد: (بسم الله) وأن الألف في اسم الله ساكنة والهاء ساكنة فلا ينطق بهما إلا مع مد، وهكذا في الرحمن، وهكذا في الرحيم، لمن يقف على النون والهاء. * وهكذا الهمزات متى وليت ألفًا كقوله عز وجل: {بما أنزل إليك وما (202/ب) أنزل من قبلك}، وهكذا إن وليت الياء كقوله: {وفي آذانهم}، وهكذا الواو لقوله تعالى: {قالوا آمنا}.

* وهذا هو حق القراءة، وكان - صلى الله عليه وسلم - بقراءته ذلك يكون قارئًا لنفسه، معلمًا لغيره، مؤديًا كلام الله كما أنزل الله عز وجل. -1723 - الحديث الثامن والثلاثون: [عن أنس: (أن نعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له قبالان). وفي رواية: (أخرج إلينا أنس نعلين جرداوين لهما قبالان، فحدثني ثابت عن أنس: أنهما نعلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لنعليه قبالان، والقبال: هو زمام النعل، وهو أمكن للقدم، وأحفظ للنعل في الرجل، من أن يكون ذلك في قبال واحد. -1724 - الحديث التاسع والثلاثون: [عن قتادة قال: قلت لأنس: (أكانت المصافحة في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن المصافحة سنة، وذلك عند اللقاء لقوله - صلى الله عليه وسلم -:

(إذا التقى المسلمان)، ولهذا لأنه إذا انقطع أحدهما عن لقاء الآخر فلقيه فصافحه كان آكد للأنس. -1725 - الحديث الأربعون: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (بينما أنا أسير في الجنة إذا بنهر حافتاه قباب الدر المجف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا هو الكوثر؛ الذي أعطاك ربك، فإذا طيبه-أو طينته-مسك أذفر). وفي رواية: (لما عرج بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء قال: أتيت على نهر حافتاه الدر المجوف. فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر)]. * قد مضى ذكر الكوثر في أحاديث فأغنى عن الإعادة. * وقد جاء في الحديث ذكر القباب، وهذا يدل على أنه لا يقتصر منه لواردته على الشربة فقط ولكن فيه القباب للاستراحة والاستظلال. -1726 - الحديث الحادي والأربعون: [عن أنس أن أم الربيع بنت البراء-وهي أم حارثة بن سراقة-: (أتت النبي

- صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا نبي الله، ألا تحدثني عن حارثة -وكان قتل يوم بدر، أصابه سهم غرب- فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان (203/ أ) غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء؟ فقال: يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى)]. * قال ابن قتيبة: العامة تقول سهم غرب بتسكين الراء، والأجود سهم غرب بفتحها، قال يعقوب بن السكيب: يقال أصابه سهم غرب؛ إذا لم يدر من أي جهة رمي به. قال أبو داود: فألحقه وهو سلط بها كما .... يلحق القوس سهم الغرب يصف فرسًا يعدو خلف عانة من حمير الوحش ألحقه فارسه الغابة،

والفرس سلط بها أي غالب. * وفي هذا الحديث من الفقه أن من أصابه سهم غرب فقتله فهو شهيد لا ينقصه ذلك عن نيل الفردوس الأعلى. * وفيه أيضًا أن أم حارثة لعزة حارثة عليها أرادت أن تعلم حاله في آخرته، فإن كان قد فاز بالدخول إلى الجنة لم يكن لحزنها موقع، وإن كان ضد ذلك كان حزنها عليه في موضعه، فأخبرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنها جنات. * وهذا كما تقدم ذكرنا له في مسند أبي موسى، أن كل مؤمن له أربع جنات وذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (جنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما)، وقد نطق القرآن بذلك فقال: {ولمن خاف مقام ربه جنتان}، ثم قال عز وجل: {ومن دونهما جنتان}. -1727 - الحديث الثاني والأربعون: [أخرجه البخاري تعليقًا عن أنس، قال: (كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به، افتتح: {قل هو الله أحد} حتى يفرع منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه فقالوا: إنك تفتتح بهذه

السورة، ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى، فإما تقرأ بها أو تدعها وتقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم، فكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبروه الخبر، فقال: (يا فلان، ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصاحبك، وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة)، قال: إني أحبها قال: (حبك إياها أدخلك الجنة)]. * في هذا الحديث من الفقه جواز أن يقرأ الإنسان بالسورتين في الركعة الواحدة. * وفيه دليل على أن حب {قل هو الله أحد} أدخل هذا الرجل الجنة من جهة إنها تنزيه لله تعالى، ونفي الأضداد والأولاد. وقد مضى الكلام في هذه السورة مشبعًا إلا أن هذا الرجل أحب تكريرها في كل ركعة لتكون جالية عن قلبه أوساخ التخيلات دائمًا فلم تطب نفسًا عن أن يتراخى به مدة انقطاع خلا تلاوتها عن قلبه بحال. -1728 - الحديث الثالث والأربعون: [عن أنس قال: (كان أبو طلحة قل ما يصوم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رأيته مفطرًا إلا يوم فطر أو أضحى)].

* في هذا الحديث من الفقه أنه لما كان الجهاد متصلًا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان أبو طلحة لا يفتر، فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام خلق بفروضه، وعلت سن أبي طلحة فوفر عبادته على الصوم. -1729 - الحديث الرابع والأربعون: [عن ثابت قال سئل (أنس بن مالك: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف)]. * في هذا الحديث من الفقه إباحة التداوي، وأن يعتبر المتداوي حال الأدوية فإن الحجامة قد أمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غير هذا الحديث، وذكر أنها من خير ما تداوى به الناس إلا أنه إذا اتفق للصائم ما تقتضي الحجامة أخرها إن كان داؤه يحتمل تأخيرها؛ وإلا أفطر وقضى إن كان صومًا واجبًا؛ وذلك لأن الحجامة تضعف المحجوم، والصوم يضعف الإنسان لئلا يجتمع عليه مضعفان من جهتين، فكرهت الحجامة للصائم من أجل ذلك. -1730 - الحديث الخامس والأربعون: [عن أنس قال: (كان غلام يهودي يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمرض، فأتاه

النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم، (204/ أ) فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه من النار)]. * في هذا الحديث جواز استخدام المسلم اليهودي. * وفيه جواز عيادة المسلم لليهودي. * وفيه أنه إذا عاده أو لقيه فليدعه إلى الإسلام. * وفيه أن الإسلام في مثل هذه الحال يقبل، وهذا الرجل كان في عزمه تردد؛ فلذلك شاور أباه. * والذي أراه في هذا أنه كان مريدًا للإسلام، وإنما كان يخاف من أبيه فلذلك التفت إليه حين دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبوه ينظر فلما رآه قال: أطع أبا القاسم، بادر إلى الإسلام فرضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلامه ذلك، وشهد له أنه منقذ له من النار. * وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الحمد لله الذي أنقذه من النار) فيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رعا له عهد خدمته فسر بإسلامه؛ حيث كانت صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نافعة له مباركة عليه.

-1731 - الحديث السادس والأربعون: [عن أنس قال: (لما ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم -، جعل يتغشاه الكرب، فقالت فاطمة رضي الله عنها: واكرب أبتاه؟ فقال: ليس على أبيك كرب بعد اليوم، فلما مات قالت: يا أبتاه، أجاب ربًّا دعاه، يا أبتاه، جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه، فلما دفن قالت فاطمة عليها السلام: أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التراب؟)]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على علو شأنه وشرف مكانته انتهى الأمر في مرضه إلى أن ثقلت حاله، وذلك من حكمة الله عز وجل ليكون لكل من ثقلت حاله به أسوة فلا يستدل بثقل حال مؤمن على غير الخير. * وأما قول فاطمة رضي الله عنها: (واكرب أبتاه؟) فإن هذه الألف والهاء في كلام العرب يسميان حرفي ندبة فلو قال غير فاطمة عليها السلام مثل هذا القول الجميل على ميت جاز، ما لم تقل شيئًا يسخط الرب أو يتبع ذلك بنوح أو لطم خد أو شق ثوب، ولتقل هذا المرأة إذا قالته وهي جالسة لئلا (204/ ب) تتشبه بالنادبة في قيامها. * وفي كلام فاطمة عليها السلام دليل على فصاحتها وصدقها؛ لأنها لم تقل واكرباه بل قالت: واكرب أبتاه، يعني الذي منه كربي.

* فأما قولها: (يا أبتاه)، فليست يا ها هنا للنداء، بل هي حرف ندبة. * وقولها: (يا أبتاه)، ثم قالت: (أجاب ربًّا دعاه)، فخرجت من المواجهة بالنداء إلى الإخبار والتقدير أن أجاب ربًّا دعاه. * وقولها: (جنة الفردوس مأواه)، كانت موقنة بذلك فلم تقله جزعًا بل قالته وحشة لفراقه وتبرمًا بتخلفها بعده. * وقولها: (إلى جبريل ننعاه)، تشير بذلك إلى انقطاع نزول جبريل بوقوع الفرقة بينهما في الدنيا فكأنها تقول: أو أنعي الناس الميت إلى أمثالهم، ننعيه إلى جبريل من أهل السماء، وهذا منها عليها السلام نعت محزون وقولها: ننعاه، فكأنها تقول: لست أنا وحدي أنعاه؛ ولكن أنا والأمة ننعاه. -1732 - الحديث السابع والأربعون: [عن ثابت قال: كنت عند أنس وعنده بنت له فقال أنس: (جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعرض عليه نفسها، فقالت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألك بي حاجة؟ فقالت بنت أنس: ما أقل حياءها، واسوأتاه، فقال أنس: فهي خير منك، رغبت في النبي - صلى الله عليه وسلم - فعرضت عليه نفسها)]. * في هذا الحديث أن دين العارضة نفسها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أكثر من

دين الذي زعمت أنها قليلة الحياء من جهة صدوع المرأة بالحق يدل على دينها؛ كما أن تلوي كثير من النساء فيما يسمونه حياء يدل على قلة دينهن لأن حياء الجهال من النساء قحة بين يدي من يعلم ما تخفي الصدور. -1733 - الحديث الثامن والأربعون: [عن أنس قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إن أقوامًا خلفنا بالمدينة، ما سلكنا شعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا، حسبهم العذر)]. * في هذا الحديث أنه من أراد الغزو، وعزم عليه، وحبسه في عذر؛ فإن له ن الثواب مثل ثواب المجاهدين حتى في نزوله ورحيله وقطعه الأودية وغير ذلك. * وقوله: (ولا واديًا)، إشارة من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن التفاوت فيما بين الشعب والوادي في المشقة في صعود الوادي ونزوله، يحتسب بكثرة الخطا فيه الله عز وجل لهم بذلك فوق احتسابه به لهم بقطع الشعب الذي هو أسهل من الوادي. -1734 - الحديث التاسع والأربعون: [عن أنس قال: كانت (205/ أ) ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال لها: العضباء،

ولا تسبق، قال حميد: ولا تكاد تسبق؛ فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه، فقال: (حق على الله تعالى أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه)]. * في هذا الحديث من الفقه جواز السبق في الخف كجوازه في الحافز. * وفيه أن ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العضباء لما سبقت الإبل قدر لها بعير سبقها ليكون اعتماد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل شيء على الله وحده؛ حتى لا يعتمد على جري فرس ولا سبق بعير ولا غير ذلك مما قد يغوى به المخلوقون على ما أربهم ليكون الله تعالى هو كافيه وحده. * وفيه أيضًا دليل على أن كل شيء يرتفع من الدنيا فإن حقًّا على الله أن يضعه. يرتفع في كلام العرب يفتعل، ولم يقل في هذا الحديث ما رفع الله شيئًا إلا وضعه؛ لأن ما رفعه الله فلا واضع له في الدنيا ولا في الآخرة. -1735 - الحديث الخمسون: [عن أنس (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم من سفر، فنظر إلى جدرات المدينة، أوضع راحلته، وإن كان على دابة حركها من حبها)].

* في هذا الحديث من الفقه جواز إعداد السير وإنضاء الدواب لتعجيل الورود على الأهل، وقد يجوز أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك رعاية لقلوب أصحابه؛ لأنه قد يكون فيهم المشتاق إلى أهله والحديث العهد ببنائه أهله، فكان الإسراع في السير عند العود نزولًا عن قوته إلى رتبة الضعفاء المشتاقين إلى أهليهم، وكان هذا الإسراع في المعنى متناولًا نطقه - صلى الله عليه وسلم -: (سيروا سير أضعفكم) أي سير أضعفكم في العجز عن إطاقة الحث وتطويل المنازل فكان ضعف القلوب في التأخير لأجل الاشتياق إلى الأهل نظير الضعف في الأبدان عند الحث في السير. -1736 - الحديث الحادي والخمسون: [عن أنس، قال: (آلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نسائه شهرًا، وكانت انفكت قدمه، فجلس في علية له، فجاء عمر، فقال: أطلقت نساءك؟ قال: لا، ولكن آليت منهن شهرًا، فمكث تسعًا وعشرين يومًا ثم نزل، فدخل على نسائه). وفي رواية: (فقالوا: يا رسول الله، آليت شهرًا؟ فقال: إن الشهر يكون تسعًا وعشرين). وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (205/ ب) صرع من فرسه، فجحش شقه، أو كتفه، وآلى من نسائه شهرًا، فجلس في مشربة له، درجتها من جذوع، فأتاه أصحابه يعودونه، فصلى بهم جالسًا وهم قيام، فلما سلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإن صلى قائمًا، فصلوا قيامًا، وإن صلى قاعدًا فصلوا

قعودًا، ولا تركعوا حتى يركع، ولا ترفعوا حتى يرفع). وقال: ونزل لتسع وعشرين، فقالوا: يا رسول الله، إنك آليت شهرًا، فقال: (إن الشهر تسع وعشرون)]. * قد تقدم الكلام في هذا الحديث في مسند عمر. * وأما انفكاك قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلس لذلك موليًا عن نسائه جامعًا في ذلك بين معالجة الكريمة بالراحة، وبين معالجة، أخلاق النساء بالإيلاء. -1737 - الحديث الثاني والخمسون: [عن أنس، قال: (أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب مسجده، فكره

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تعرى المدينة، فقال: يا بني سلمة، ألا تحتسبون آثاركم؟ فأقاموا)]. * في هذا الحديث أن الاحتساب بالخطا إلى المساجد فكلما كثرت زاد ثوابها. * وفيه دليل على أن الإمام إذا نظر مصلحة راجعة إلى بلد من البلاد أخرج الأمر بها مخرجًا صالحًا في الدين، لأن في الحديث وكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تعرى المدينة أي لا تكون حولها من البيوت ما يشبهه الكسرة، فقال النبي: (يا بني سلمة، ألا تحتسبون آثاركم؟) فأخرج ذلك مخرجًا جميلًا كريمًا، ولم يظهر عنه مبالاة بما يكره لأجله أن تعرى المدينة ممن يكون حولها، وليكون أصحابه في لزومهم أبنيتهم حول المدينة لأجل الاحتساب بكثرة الخطا مأجورين، وإن انضم إلى ذلك عمارة ما حول المدينة. -1738 - الحديث الثالث والخمسون: [عن أنس، قال: (كنا نبكر إلى الجمعة؛ ثم نقيل بعدها). وفي رواية: (كنا نبكر بالجمعة، ونقيل بعد الجمعة)].

* التبكير هو التقديم، وباكورة كل شيء أوله. * وفيه استحباب القيلولة، ويستحب أن تكون بعد الجمعة. * وقد مضى هذا الحديث في مسند سهل بن سعد وذكرنا تفسيره. -1739 - الحديث الرابع والخمسون: [عن أنس، قال: (كانت الريح إذا هبت عرف ذلك في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)]. * فيه من الفقه الخوف من الريح، لأنها إذا جاءت رعرعًا فقل ما ينتفع بها، وإنما الريح المنتفع بها هي المرسلات عرفًا، فكان (206/ أ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخاف من ذلك لتجويزه أن تأتي بالعذاب. -1740 - الحديث الخامس والخمسون: [عن أنس، قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتها يد الخادم، فسقطت

الصحفة، فانفلقت، فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: (غارت أمكم)، ثم حبس الخادم، حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت)]. * في هذا الحديث استحباب مداراة النساء، وعلى هذا الحديث اعتراض لقائل أن يقول الصحفة من ذوات القيم فكيف غرمها؟ الجواب أن الظاهر فيما يحويه بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه ملكه فنقل من ملكه إلى ملكه لا على وجه الغرامة بالقيمة. -1741 - الحديث السادس والخمسون: [عن أنس قال: (بلغ عبد الله بن سلام مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة -فقال عبد الله بن بك عن بكر عن حميد: وهو في أرض يحترف- فأتاه، وقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؛ ما أول طعام يأكله أهل الجنة؛ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه، ومن أي شيء ينوع الولد إلى أخواله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خبرني بهن آنفًا جبريل) قال: فقال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة.

زاد في رواية عبد الله بن بكر عن حميد فقرأ هذه الآية: (من كان عدوًّا لجبريل فإنه نزل على قلبك} فقال رسول الله ?: (أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما الشبه في الولد: فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبقت كان الشبه لها). قال: أشهد أنك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فجاءت اليهود ودخل عبد الله البيت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أي رجل فيكم عبد الله بن سلام) فقالوا: أعلمنا (206/ ب)، وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أفرأيتم إن أسلم عبد الله). قالوا: أعاذه الله من ذلك). زاد في رواية: (فأعاد عليهم- فقالوا مثل ذلك- فخرج عبد الله إليهم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فقالوا: شرنا، وابن شرنا، ووقعوا فيه. قال يعني ابن سلام-: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله). وفي رواية: (أقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وهو مردف أبا بكر رضي الله عنه، وأبو بكر يعرف، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاب لا يعرف، قال: فليقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر، من هذا الرجل بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير.

فالتفت أبو بكر رضي الله عنه فإذا هو بفارس قد لحقهم، فقال: يا رسول الله، هذا فارس قد لحق بنا. فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (اللهم اصرعه) فصرعه فرسه، ثم قامت تحمحم، فقال: يا نبي الله، مرني بما شئت، فقال: (قف مكانك، لا تترك أحدًا يلحق بنا)، قال: فكان أول النهار جاهدًا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان آخر النهار مسلحة له. فنزل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - جانب الحرة، ثم بعث إلى الأنصار فجاؤوا إلى نبي الله وأبي بكر فسلموا عليهما، وقالوا: اركبا آمنين مطاعين. فركب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، وحفوا دونهما بالسلاح، قيل في المدينة: جاء نبي الله، جاء نبي الله، وأقبل يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب، فإنه ليحدث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام، وهو في نخل له يخترف لهم، فعجل أن يضع الذي يخترف لهم فيها، فجاء وهي معه، فسمع من نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم رجع إلى أهله. فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: (أي بيوت أهلنا أقرب)، فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله، هذه داري، وهذا بابي، قال: (فانطلق فهيئ لنا مقيلًا)، قال: قوما على بركة الله. فلما جاء نبي الله - صلى الله عليه وسلم - جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنك جئت بحق، وقد علمت اليهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ما ليس في. فأرسل نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا معشر اليهود، ويلكم، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو، إنكم (207/ أ) لتعلمون

أني رسول الله حقًّا، وأني جئتكم بحق، فأسلموا)، فقالوا: ما نعلمه، قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقالها ثلاث مرار، قال: (فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام) قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا. قال: (أفرأيتم إن أسلم)، قالوا: حاشى لله ما كان ليسلم، قال: (أفرأيتم إن أسلم)، قالوا: حاشى لله ما كان ليسلم، قال: (أفرأيتم إن أسلم) قالوا: حاشى لله ما كان ليسلم، قال: (يا ابن سلام اخرج عليهم)، فخرج فقال: يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو، إنكم لتعلمون أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه جاء بالحق، قالوا: كذبت، فأخرجهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)]. *قد سبق تفسير هذا الحديث في غير موضع. *ومعنى يخترف يجتني الثمر. وقوله: ينزغ الولد أي يميل ويرجع في الشبه. *وقوله: بهتوني عندك أي كذبوا علي كذبًا فاحشًا. وقوله: مسلحة أي

حارسًا بسلاحه. - 1742 - الحديث السابع والخمسون: عن أنس، قال: (إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتنطلق به حيث شاءت)]. * في هذا الحديث صفة حسن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه لم يكن ممتنعًا ولا بعيدًا عن من يريد أن يكلمه، ويدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان من الأمانة وبعد الظنة بحيث لا يتأثر عرضه - صلى الله عليه وسلم - بأن تذهب به الأمة حيث شاءت، ولأن للنساء حوائج كما للرجال، وللإمام من إنصافه وإنعامه كما للحرائر لأنه أبو الأمة. -1743 - الحديث الثامن والخمسون: [عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا صلاتنا، حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها). وفي رواية: (وحسابهم على الله).

وفي رواية: (سأل ميمون بن سياه أنسًا: ما يحرم دم العبد وماله؟ فقال: من شهد أن لا إله إلا الله، واسقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم)]. * هذا الحديث موقوف قد تقدم في مسند عمر رضي الله عنه. -1744 - الحديث التاسع والخمسون: [عن أنس، قال: (لم يبق ممن صلى (207/ ب) القبلتين غيري)]. * هذا يدل على أن من صلى القبلتين أفضل من غيره، والمراد بالقبلتين قبلة بيت المقدس والكعبة. -1745 - الحديث الستون: [عن سليمان التيمي، قال: (رأيت على أنس برنسًا أصفر من خز)]. * في هذا دليل على جواز لبس البرانس التي من خز؛ لأنه ليس بلباس كامل.

-1746 - الحديث الحادي والستون: [عن أنس قال: (كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي ?: (أميطي عني فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي)]. * قد سبق في ذكر الصور ما سبق إلا أن في هذا الحديث ما يدل على أن المصلي إذا عرض له في صلاته خيالات وذكر محرم لو غيره لم تفسد صلاته. * والقرام: هو الستر الرقيق، والإماطة: هي الإزالة. -1747 - الحديث الثاني والستون: [عن عبد العزيز، قال: (دخلت أنا وثابت على أنس بن مالك، قال ثابت: يا أبا حمزة، اشتكيت، فقال أنس: ألا أرقيك برقية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: بلى قال: (اللهم رب الناس مذهب الباس، اشف، أنت الشافي، لا

شافي إلا أنت، شفاء لا يغادر سقمًا)]. * في هذا الحديث من الفقه أن هذه رقية. * فأما قوله: رب الناس، فإن المعنى يا رب الناس، فحذف منه حرف النداء لاستشعار قرب المنادى؛ وكذلك قوله: مذهب الباس فحذف منه حرف النداء لذلك. وقوله: مذهب نكرة عرفها الإضافة، والمعنى أن الله تعالى معروف بإذهاب الباس، فدعاه باسم يناسب المسألة التي يريد السائل أن يسألها، وهي قوله: اشف أنت الشافي، يعني إن أشفيت بسبب فأنت الشافي بغير سبب. * وقوله: لا شفاء إلا شفاؤك، يعني أن الشفاء من كل طريق وعلى كل وجه فإنه منك. * وقوله: شفاء لا يغادر سقمًا، شفا مصدر لقوله اشف، يعني اشف شفاء لا يغادر سقمًا أي لا يخلف سقمًا، وسقمًا ها هنا مصدر نكرة فهو في هذا الموضع أبلغ من المعرف أي لا يغادر سقمًا من الأسقام. -1748 - الحديث الثالث والستون: [عن أنس قال: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ فقالوا: هذا (208/ أ) حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد)]. * في هذا الحديث من الفقه أن لا يجوز للعبد أن يعرض نفسه لأن يضجر من

عبادة الله تعالى، وقد تقدم الكلام في هذا. * وفيه أيضًا أنه إذا رأى العالم إنسانًا قد تعرض بذلك نهاه. * وفيه أيضًا أن الإنسان إذا نشط للصلاة فصلى بمقدار نشاطه لم يقدح ذلك في جده وإخلاصه وإن كان للنفس فيه مراد. * وفيه أن من فتر عن العبادة قعد ولم يكابد نفسه. -1749 - الحديث الرابع والستون: [عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث، إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم)]. * هذا الحديث قد سبق وشرح مستوفى، ومعناه أنه يزيد إيمانه. -1750 - الحديث الخامس والستون: [عن أنس، قال: (أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بمال من البحرين، فقال: انشروه في

المسجد - وكان أكثر مال أتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة، ولم يلتفت إليه فلما قضى الصلاة، جاء فجلس إليه فما كان يرى أحدًا إلا أعطاه، إذ جاء العباس رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، أعطني، فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خذ، فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله، فلم يستطع، فقال: يا رسول الله مر بعضهم يرفعه إلي، قال: لا، قال: فارفعه أنت على، قال: لا، فنثر منه ثم احتمله، فألقاه على كاهله، ثم انطلق، فما زال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبعه بصره حتى خفي علينا، عجبًا من حرصه، فما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثمَّ منها درهم)]. * في هذا الحديث من الفقه أن إذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعباس بالأخذ، ينصرف إلى ما يطيق حمله، فلما أخذ ما لم يطق حمله لم يعنه عليه، لأنه أخذ أكثر من المأمور به. * وقوله: تعجبًا من حرصه، هو من كلام الراوي، وليس هو من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. -1751 - الحديث السادس والستون: [عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله (208/ ب) عليه وسلم:

(اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة). وفي رواية قال لأبي ذر: (اسمع وأطع، ولو لحبشي، كأن رأسه زبيبة)]. * في هذا الحديث أنه لو قد ولي على الأشراف ذوي القدر والمآثر عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، يعني بذلك - صلى الله عليه وسلم - سواد رأسه وقماءته، وأنه لا ينبغي أن ينظر إلى صورته ولا إلى كونه حبشيًّا فقال غيره أولى منه، وهذا فإنه إنما يكون في الولاة بين الخلفاء، فإن الأئمة من قريش كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يزال هذا الأمر في قريش). -1752 - الحديث السابع والستون: [عن عاصم بن سلمان قال: (رأيت قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع، فسلسله بفضة، قال: وهو قدح جيد عريض من نضار. قال أنس: (لقد سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا القدح أكثر من كذا وكذا)، قال: وقال ابن سيرين إنه كان فيه حلقة من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة، فقال له أبو طلحة: لا تغير شيئًا صنعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتركه). وفي رواية: (أن قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة، قال عاصم: رأيت القدح وشربت فيه).

وفي رواية لمسلم: (لقد سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدحي هذا الشراب كله، العسل، والنبيذ، والماء واللبن)]. * في هذا الحديث جواز تضبيب القدح بالفضة، ولا يكون ذلك من متاع الدنيا المذموم؛ بل هو من المعاون على العبادة. * وفيه أنه يستحب اتخاذ القدح من الشيء الخالص لأن النضار هو الخالص من كل شيء، وقيل النضار: أقداح حمر شبهت بالذهب، ويقال للذهب: النضار. وهذا يدل على أنه يستحب للإنسان أن لا يستعمل ألا الأجود من كل شيء، فإن ذلك أبلغ لما يراد في جنسه، وأما الحلقة التي اتخذت فيه من حديد فلا أرى ذلك إلا ليعلقه الراكب معه إذا ركب فيكون أحفظ له وأصون للراكب عن الاشتغال به في غير وقت الحاجة إليه. * وأما قوله: قد (209/ أ) سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدحي هذا الشراب كله، فإنه عنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من المنعمين المترفين الذين عندهم لكل شراب آنية مفردة، وأنه كان يشرب كل الشراب في هذا القدح، ويعني بالنبيذ النبيذ من الماء والتمر قبل أن يشتد أو يعود إلى حال يسكر كثيره، فإن ذلك لا يجوز شربه وقد سبق بيان هذا فيما تقدم.

-1753 - الحديث الثامن والستون: [عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أكثرت عليكم في السواك)]. * في هذا الحديث من الفقه أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أمر بالسواك وحض عليه، وتابع ذلك خاف أن يكون أمره بذلك يبعث بعض الناس على الإلحاح عليه إلى الحد الذي يزعزع الأسنان، فقد قال ابن زكريا في كتابه المعروف (بالحاوى) في باب: حفظ الأسنان: ولا تلح على الأسنان بالسواك، ويريد بذلك أن خير الأمور أوساطها كما أن هجر السواك وإطراحه يعفن الأسنان ويفسدها، وأن الإلحاح المتجاوز حده فيما يزعزعها ويضعف أصول منابتها. -1754 - الحديث التاسع والستون: [نظر أنس إلى الناس يوم الجمعة، فرأى طيالسة، فقال: (كأنهم الساعة يهود خيبر)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن الطيالسة محدثة، وليست بالأردية، فإن الرداء للمسلم سنة، وقد تقدم ذكره.

-1755 - الحديث السبعون: [عن أنس، قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والمرأة من نسائه، يغتسلان من إناء واحد). وفي رواية: (من الجنابة)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن الجنب إذا وضع يده في الماء لم ينجسه والمرأة أيضًا. * وفيه جواز أن ينظر كل واحد من الزوجين إلى جميع الآخر. -1756 - الحديث الحادي والسبعون: [عن أنس، قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة، قلت: كيف كنتم تصنعون في ذلك؟ قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث)]. * في هذا الحديث أن الفضيلة في الوضوء لكل صلاة؛ فإن الجمع بين الصلوات بالوضوء الواحد مجزئ، ومن توضأ وهو على وضوء فإنما ينوي بوضوئه تجديد الوضوء (209/ ب) إلا أن صلاته إنما تؤدى بالوضوء الأول؛ وهذا الوضوء الثاني محسن ومقو للوضوء الأول، وإنما يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك

لكونه أفضل الخلق فناسب حاله أفضل الحالات والأعمال. -1757 - الحديث الثاني والسبعون: [عن ابن سيرين وابن عدي قالا: أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج فقال: (اصبروا؛ فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه، حتى تلقون ربكم. سمعته من نبيكم - صلى الله عليه وسلم -)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن الدنيا إلى انقضاء وتول، ولعله أراد - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث أهل موضع بعينه، إلا فالأحاديث التي قدمت منها حديث حذيفة: (هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم) أوضح من هذا، فإنه حديث مجمل تلك مفسرة فتعين ما تناولناه من أنه تحض موضعًا يعينه أو قومًا بأعيانهم. -1758 - الحديث الثالث والسبعون: [عن أنس: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس)]. * هذا الحديث يدل على أنه كان يصلي صلاة الجمعة في أول الزوال؛ لأن

الصلاة في أول الوقت أفضل، فقدم هذه لفضلها. -1759 - الحديث الرابع والسبعون: [عن أنس، قال: شهدنا بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تدفن، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان، فقال: (هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة؟) فقال أبو طلحة: أنا، قال: (فانزل في قبرها،) فنزل في قبرها)]. * في هذا تفسير للراوي، وهو فليخ فإنه قال: أراه الذنب. والذي أراه أنا أنه أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يتولى إلحادها الكبير السن، لأن الكبير السن يخل بالمقارفة، وهي المجامعة، وإنما أراد به أن لا يكون قريب عهد بجماع من حيث أنه يكون حديث عهد بتقليب امرأة في انبساط غير خاشع ولا متحازن، فينافي حاله حال امرأة ميتة لا سيما ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يقتضي حمله لها أن يكون في حال اجتماع واحتشام وخشوع وإعظام، ولأن الجماع في الجملة يبسط النفس. -1760 - الحديث الخامس والسبعون: [عن أنس، قال: (لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشًا، ولا لعانًا، ولا سبابًا،

كان يقول عند المعتبة: (ما له تربت يمينه)]. * في هذا (210/ أ) الحديث ما يدل على أن الفحش واللعن لم يكن من أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا رأيته الغالب على كلام شخص فلا تقتد به. * وقوله: (عند المعتبة) أي أنه إذا أراد أن يعاتب شخصًا قال: (ما له)، فيذكره بلفظ الغيبة ولا يواجهه فيقول: مالك * وقوله (ترتب يمينه) كلمة قد تكون دعاء عليه أحيانًا، وقد تكون جارية مجرى التخصيص فكانت فائدة هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بلغت منه الموجدة يقول كلمة محتملة لمعنيين، يكون الخيار في توجيهها إلى أحدهما عن طريق المعاتبة لا المواجهة. -1761 - الحديث السادس والسبعون: [عن أنس، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى لنا يومًا الصلاة، ثم رقى إلى المنبر، فأشار بيده إلى قبل قبلة المسجد فقال: (قد رأيت الآن، منذ صليت لكم الصلاة، الجنة والنار ممثلتين في قبل هذا الجدار، فلم أر كاليوم في الخير

والشر)]. * قد سبق هذا الحديث والكلام عليه في مواضع -1762 - الحديث السابع والسبعون: [عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أخذ الراية زيد، فأصيب، ثم أخذها جعفر، فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة، فأصيب -وإن عيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتذرفان- ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة، ففتح له). وفي رواية: (خطب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أخذ الراية زيد فأصيب. وذكر نحوه). وفى رواية: (ما يسرنا أنهم عندنا- قال أيوب: أو قال: -ما يسرهم أنهم عندنا- وعيناه تذرفان). وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى زيدًا وجعفرًا وابن رواحة للناس، قبل أن يأتيه خبرهم، فقال: أخذ الراية زيد فذكرهم. وقال في آخره: حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم)].

*في هذا ما يدل على أن الله تعالى كشف لنبيه - صلى الله عليه وسلم - عن أهل مؤتة، وهم منه على منازل حتى نظر من أخذ الراية منهم واستشهد وعد الأمراء واحدًا بعد واحد على ما كانوا عليه. * وقوله: (ثم أخذ الراية خالد من غير إمرة) يعني - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما عين أولئك فلما استشهدوا (210/ ب) اجتمع المسلمون فولوا خالد بن الوليد، فقوله (من غير إمرة) أي من غير إمرة سبقت مني. * وأما بكاؤه - صلى الله عليه وسلم - فيجوز أن يكون للاستيحاش لفراق ابن عمه وأصحابه، ويجوز أن يكون من طريق الرحمة؛ لأنه لما بكى على ابنه قال: (إنما رحمة وضعها الله تعالى في قلوب عباده). * وفيه دليل على أنه إذا عين الإمام أمراء مخصوصين فاستشهدوا كلهم وأصيبوا، فإن للمسلمين أن يجتهدوا في نصب أمير يجمع كلمتهم ويقول بالأمر فيهم، ويثبت له الإمارة وإن لم يكن ذلك من نص متقدم من الإمام. -1763 - الحديث الثامن والسبعون: [عن أنس، قال: (كأني أنظر إلى غبار ساطع في سكة بني غنم، موكب جبريل عليه السلام، حين سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني قريظة)].

* في هذا الحديث ما يدل على رؤية أصحابه آثار الملائكة. * وفيه ما يدل على أن جبريل سعى في موكب لنفسه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني قريظة. -1764 - الحديث التاسع والسبعون: [عن أنس، قال: (إنكم لتعملون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات). قال البخاري: يعني المهلكات)]. * قد سبق شرح هذا الحديث. والمراد أنكم تحقرون تلك العمال لقلتها، وقلة الحذر من عاقبتها، وهي مهلكة. -1765 - الحديث الثمانون: [عن غيلان بن جرير، قال: (قلت لأنس: أرأيت اسم الأنصار، أكنتم

تسمون به، أم سماكم الله تبارك وتعالى؟ قال: بل سمانا الله عز وجل، وقال غيلان: كنا ندخل على أنس، فيحدثنا بمناقب الأنصار ومشاهدهم، ويقبل علي، أو على رجل من الأزد، فيقول: فعل قومك يوم كذا: كذا وكذا)]. في هذا الحديث أن تسمية الأنصار بالأنصار اسم شرف الله به ذلك الحي، فقال عز وجل فذكرهم أنصارًا على الإطلاق، وهذا الإطلاق يتناول أن يكونوا أنصار الله، وأنصار كتابه، وأنصار رسوله، وأنصار دينه، فهو أشرف الأسماء. -1766 - الحديث الحادي والثمانون: [عن أنس، قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتد البرد بكر الصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة -يعني الجمعة- قال: (211/ أ) وقال بشر بن ثابت: حدثنا أبو خلدة، قال: (صلى بنا أمير الجمعة ثم قال لأنس: كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر؟ فذكره)]. * قد سبق بيان الإبراد بالصلاة لشدة الحر في مواضع، وتكلمنا عليها، والتبكير: التقديم.

-1767 - الحديث الثاني والثمانون: [عن أنس قال: (قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس في أصحابه أشمط غير أبي بكر رضي الله عنه فغلفها بالحناء والكتم)]. * الشميط: هو اختلاف الشيب بسواد الشعر، وكل خليطين خلطتهما فقد شمطتهما. وغلفها يعني عمها بذلك، وسمي غلاف الشيء لإحاطته به. * وفي هذا استحباب تغيير الشيب بالحناء والكتم. -1768 - الحديث الأول من إفراد مسلم: [عن أنس، قال: (ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا على الإسلام إلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم، أسلموا، فإن محمدًا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة). وفي رواية: (أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - غنمًا بين جبلين، فأعطاه إياه، فأتى قومه فقال: يا قوم، أسلموا، فوالله إن محمدًا يعطي عطاء ما يخاف الفقر). فقال أنس: (إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى

يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها)]. * في هذا الحديث دليل على أن إجزال العطاء هو حقيقة الجود، وإنما يكون ذلك إما من مؤمن لا يخشى الفاقة، لأنه يعطي مما أعطاه الله تعالى، فهو لا يتوهم قطع الله عطاءه ولا انزراره أو من رجل على غير بينه من أمره يعطي سرفًا في الباطل فيكون من المبذرين، الذين قال الله تعالى فيهم: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين}، فعطاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عطاء من لا يخشى الفاقة. * وفي قوله: (لا يخشى الفاقة) وجهان: أحدهما: لا يخشى الفاقة معطيه. والثاني: لا يخشى الفاقة معطاه بعده، أي أنه يغني السائل إلى آخره عمره ويكون قوله: (يخشى)، عائدًا إلى العطاء في الوجهين، والمعنى أن (211/ ب) العطاء لكثرته لا يخشى الفاقة؛ فإن خشى معطاه فذلك لبخل نفسه وإلا فالعطاء فوق الكفاية. * وإن عرض للمؤمن في وقت مكان استحقاق وليس عنده إلا زهيد من البر ولو ظلف محرق فلا ينبغي أن يحقر ذلك، بل يخرجه في سبيل الله كما يخرج الكثير إذا أمكنه، فيكون بهذين الأمرين جامعًا لمقامين شريفين وهما: جوده بالكثير وتواضعه في بذل اليسير، فيبين أن بذله للكثير كان لله، وأن بذله

لليسير كان من تواضعه في سبيل الله. * وقوله: (إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا) هذا يحض على تحصيل القلوب بكل ما يستطاع أولًا، وأنها إذا حصلت رجي لها أن تعي الحق ويعود ما كان نافرًا إلى الطمأنينة وقبول الهدى. * وفي هذا الحديث أيضًا نهي عن التنفير عن مقاصد التائبين والاقتناع منهم بما يظهرونه، ثم التلطف في غرس الإخلاص في قلوبهم بالتدريج والتعليم رجاء أن يصيروا إلى ما يحب المؤمن. وقد لا يفطن إبليس لإفساد هذا التوصل الحسن لأن الشيطان يرى إسلام من يسلم أو توبة من يتوب لملاحظة حال من الدنيا يوهن إسلام المسلم وتوبة التائب فلا يحرص على إغواء المسلم أو التائب عن هذا الإسلام والتوبة المعروفين، ويرى العالم أن يغش حصولهما في قربهما منه بحيث تنالهما سهام الموعظة، وتبلغهما قوارع تذكيره، وتبصيرهما الحق بعينه، فإذا بدا لهما الحق في كمال صورته وصباحة وجوهه، عاد كل واحد منهما خصمًا للشيطان مخلصًا في خصومته له فحينئذ يرى الشيطان خسران صفقته في كونه رضي منهما بذلك الإسلام والتوبة الموسمين، راجيًا أن يهلكهما بما جعله الله عز وجل سبب فلاحهما فهذا معنى قولنا: وقد لا يفطن إبليس لإفساد هذا التوصل الحسن، وهذا دليل على أن المسلم لعاجل الدنيا يسمى مسلمًا، ومثل هذا إن مات في مهلة النظر فإن له ما للمسلمين. - 1769 - الحديث الثاني: [عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم

القيامة أنا وهو، وضم أصابعه)]. * في هذا الحديث (212/ أ) ما يدل على شرف الإنفاق على العيال ولا سيما البنات؛ فإنهن لا يتعلق طمع الأب منهن من الاعتضداد بهن والصول على الأعداء بقوتهن وإحياء اسمه واتصال نسبه وغير ذلك كما يتعلق بالذكر، فلما زاد الإناث على الذكور في درج إخلاص المنفق عليهن لله، فإنه يستر منهن عورات في البيوت، ويرزق منهن حرمًا لا يطقن الكسب على أنفسهن. * فإذا بلغن فصلحن للرجال كانت أنساب أولادهن لعصبات أزواجهن فكان العول للجاريتين منهن يبلغ بحسن النية من العبد المؤمن إلى أن يكون فاعل ذلك منضمًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انضمام الأصبع إلى الأصبع ليس بينهما حائل. ولأن العرب كان من شأنهم الأنفة من البنات حتى كان منهم الوأد الذي أخبر الله عز وجل به عنهم من قتلهم البنات، فإذا كان المؤمن على خلاف ما كانوا عليه وصبر على أن يعول بناته كان متمسكًا بشرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راغبًا عما كانت الجاهلية عليه فلما انضم إلى شرعه انضم في القيامة إليه. * وقوله: (من عال جاريتين)، كأنه إذا كان للرجل البنت الواحدة وكان مع ذكر لم يكن تبرمه بها كما إذا كانتا اثنتين، فالاثنتان على الرجل أشد من الواحدة، وهذا إنما ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه جمع أنثى إلى أنثى فهو ضم شيء إلى شيء حتى قال فيه قوم إنه أقل الجمع. فيدل نطق هذا الحديث أن من كان

له ثلاث بنات أو أربع أو أكثر كان قربه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنسبة ذلك إذا عالهن. - 1770 - الحديث الثالث: [عن أنس، قال: (كانت عند أم سليم يتيمة، وهي أم أنس فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليتيمة فقال: أنت هيه!؟ لقد كبرت، لا كبر سنك، فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي، فقالت أم سليم: مالك يا بنية؟ فقالت الجارية: دعا علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يكبر سني، فالآن لا يكبر سني أبدًا، أو قالت: قرني، (212/ ب) فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها، حتى لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما لك يا أم سليم؟ قال: فقالت، يا نبي الله، أدعوت على يتيمتي، قال: وما ذاك يا أم سليم؟ قالت: زعمت أنك دعوت أن لا تكبر سنها، ولا تكبر قرنها، قال: فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه- وقال: يا أم سليم، أما تعلمين أن شرطي على ربي؟ إني اشترطت على ربي، فقلت: إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها له طهورًا وزكاة وقربة تقربه بها يوم القيامة)]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان على شرف مقامه وحفظه

حواشي قوله؛ قد طلب من ربه جل جلاله له أنه إذا دعى أو سب أحدًا، وذلك المسبوب أو المدعو عليه غير مستحق لذلك؛ أن يجعله الله طهرة له، فبان من هذا أن المؤمن قد يقول القول في محل لا يكون ذلك المحل متأهلًا لذلك القول فيه، فإذا صدقه الله عز وجل عن دعائه إلى غير محله تعين عليه أن يعلم أن الله تعالى قد سوى له سهامه التي رمى بها صيدًا عن أن تصيب مسلمًا فلا يكره ما يحب الله من سؤال ما لا يصلح، وهذا فإنما ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليكون أصلًا يقاس عليه أمثاله وإلا فإنه لم يكن قوله ليتيمة أم سليم ذلك القول على جهة الدعاء عليها، وإن كان نطقه نطق الدعاء إذ مثله يقال للجواري كثيرًا ولا يراد به الدعاء عليهن، ولهذا تميز الدعاء المحتفل به برفع اليدين فيه وبالتوجه إلى الكعبة، ورفع الطرف إلى السماء، وأن يتطهر الداعي إلى غير ذلك من آداب الدعاء ليتبين صميم الدعاء على ما يطلبه دون ما يقوله على سبيل عوائده. * وقوله: تلوث خمارها أي تلويه على رأسها. -1771 - الحديث الرابع: [عن أنس، قال: (جارت أم سليم -وهي جدة إسحاق- إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له وعائشة عنده: يا رسول الله، المرأة ترى ما يرى الرجل في المنام، فترى من نفسها ما يرى الرجل من نفسه، فقالت عائشة: يا أم سليم، فضحت النساء (21/ أ) تربت يمينك، فقال لعائشة: بل أنت فتربت يمينك، نعم، فلتغتسل يا أم سليم، إذا رأت ذلك).

وفي رواية البرقاني: (أن أم سليم حدثت أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل؟ فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا أم سليم، إذا رأت المرأة ذلك فلتغتسل). فقالت أم سليم: واستحييت من ذلك، وهل يكون هذا؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نعم، فمن أين يكون الشبه؟ إن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه). وأخرجه مسلم عن أنس قال: (سألت امرأة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل في منامه، فقال: إذا كان منها ما يكون من الرجل فلتغتسل)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن المرأة تحتلم في المنام كما يحتلم الرجل، وأنه يجب عليها الغسل إذا رأت الماء، وإنه من الدين السؤال عن ذلك. * وقوله: (فمن أين يكون الشبه؟) يدل على أن شبه الولد بوالده يكون على قدر غلبة مائه لماء المرأة أو سبقه إياه. * وقوله لعائشة رضي الله عنها: (فتربت يمينك) قد سبق ذكره. - 1772 - الحديث الخامس: [عن أنس (أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجرًا، فكان معها، فرآها

أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، هذه أم سليم معها خنجر؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما هذا الخنجر؟ قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك، قالت: يا رسول الله، اقتل من بعدنا من الطلقاء انهزموا بك -تعني يوم هوازن-، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أم سليم، إن الله قد كفى وأحسن)]. * في هذا الحديث من الفقه ما يدل على جواز خروج المرأة إلى الجهاد مع زوجها وحملها السلاح، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك لذلك ولم ينكره. وفيه أنه لما غضب علي المنهزمين، وأشارت فيهم بما أشارت رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المعهود من سجاياه الكريمة فقال لها: (إن الله قد كفى وأحسن) (213/ ب)، يعني أن الله تعالى قد كفانا أمرهم وأحسن في ذلك فلا نسيء نحن. * وبقرت بطنه: أي شققتها، والطلقاء: من أطلق ومُنَّ عليه من مسلمة الفتح. - 1773 - الحديث السادس: [عن أنس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يتبع الدجال من يهود أصبهان ألف عليهم الطيالسة)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن الدجال يخرج من قبل المشرق. * ويريد بقوله عليهم الطيالسة أنهم من المتظاهرين بالدين فيكون ذلك أشد في

إضلال الخلق. - 1774 - الحديث السابع: [عن أنس (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: استغفر للأنصار، قال: وأحسبه قال: (ولذراري الأنصار، ولموالي الأنصار- لا شك فيه)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الإحسان من الكريم إذا شمل قومًا لم يرض أن يقتصر بهم على نفوسهم دون أن يشتمل ذراريهم ومواليهم فيكون ذلك حينئذ إنعامًا صافيًا وكرمًا سابغًا. - 1775 - الحديث الثامن: [عن محمد بن سيرين، قال: سألت أنس بن مالك، وأنا أرى أن عنده منه علمًا فقال: (إن هلال بن أمية، قذف امرأته بشريك بن سحماء -وكان أخا البراء بن مالك لأمه-، فكان أول رجل لاعن في الإسلام، قال: فلاعنها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أبصروها، فإن جاءت به أبيض سبطًا قضيء العينين، فهو لهلال بن أمية، وإن جاءت به أكحل جعدًا، حمش الساقين فهو لشريك بن سحماء -قال: فأنبئت أنها جاءت به أكحل جعدًا حمش الساقين)]. * قد سبق تفسير هذا الحديث فيما مضى.

* والسبط: هو السهل الشعر وهو ضد الجعد. * وقضيء العينين: فاسدهما. يقال في فلان قضأة أي فساد. * والكحل: سواد العين خلقة. وقد بينا هذا في مسند ابن عباس. * وقوله: حمش الساقين أي دقيقهما، وامرأة حمشاء الساقين، والمراد بذلك الدقة. - 1776 - الحديث التاسع: [عن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إن الكافر، إذا عمل حسنة، أطعم بها طعمة من الدنيا، وأما المؤمن فإن الله تعالى يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقًا في الدنيا، على طاعته). وفي رواية: (أن الله لا يظلم مؤمنًا (214/ أ) حسنة، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم يكن له حسنه يجزى بها)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الله تعالى لا يضيع عمل عامل فمن أحسن وهو

غير موقن بالآخرة؛ فإن الله يطعمه في الدنيا طعمة تكون عوض إحسانه ذلك. وأما المؤمن فإنه يجمع له بين الدنيا والآخرة إلا أنه يقدم له سبحانه ما يعده في الآخرة لأنه أشرف العناوين وأكرم الخزائن، فكان هو المقدم، ثم قوله بعد ذلك: (ويعقبه رزقًا في الدنيا) وذلك يدل على مدح الرزق، وأما ما يتعلق بالكافر فإنه جعله طعمة له لأن الكافر لم ينشأ ما نشأ منه إلا على فرع من فوق الأرض. فأما المؤمن فإنه نشأ منه إحسانه في الدنيا عن نظره إل الآخرة فقدم إعداد الله تعالى له ما أعد في الآخرة ثم بما رزقه في الدنيا ليكون هذا الخير الذي له في الدنيا ناشئًا من تلك الجهة، فلا يكون عليه عقوبة لأن عطاء الآخرة كله هني العاقبة. * وفي هذا الحديث ما يدل على أن المؤمن يعطى على نية الآخرة الدنيا والآخرة كما قال الله عز وجل: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا} يعني في الدنيا والآخرة، وقال سبحانه وتعالى: {من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة}، وقال تعالى: {وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين}، وقال تعالى: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء}، فعد نعمته على يوسف من نصره له وتمكينه ثم قال بعد ذلك: {ولأجر الآخرة خير} أي ثواب دار الآخرة

خير من هذا الخير، والله سبحانه وتعالى له الدنيا والآخرة يعطيها من يشاء من عباده، وأما الدنيا فقد يعطيها كافرًا ويمنعها كافر آخر فيجعل إعطاءها للكافر عذابًا عليه. لقوله: {ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا} الآية. -1777 - الحديث العاشر: [عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن (214/ ب) يسمعكم عذاب القبر)]. * هذا الحديث يدل على وجوب الإيمان بعذاب القبر، وأنه لولا خوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا سمعه الخلق تركوا موتاهم على وجه الأرض، لا يوارون سوءاتهم لذلك لكان - صلى الله عليه وسلم - دعا الله أن يسمعهموه. * والفقه في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشتد حرصه على أن يبين للمسلمين كلهم عذاب القبر يقينًا لا يتمارون فيه حتى كاد يدعو الله أن يسمعهموه. * وفيه أيضًا أن من كان لا يؤمن للآن بعذاب القبر فإنه هو الذي كان الغالب عليه أن لا يدفن ميته، وأن من يؤمن بعذاب القبر قد ثبت عنده كما لو سمعه بأذنه ثم أنه بعد ذلك يدفن ميته صابرًا لما حكم الله به من ذلك.

-1778 - الحديث الحادي عشر: [عن أنس: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زجر عن الشرب قائمًا). وفي رواية عن قتادة: (فقلنا: فالأكل؟ فقال: ذلك أشر وأخبث)]. * وإنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشرب قائمًا لأن الشارب على تلك الحال غير متمكن من تقطيع الأنفاس في الشرب كما يتمكن الجالس إلا أنه على ذلك أخف من الأكل قائمًا، فإن ذلك يجمع مع ترك الأصلح للبدن، ترك الأحسن للمروءة، فإن الأكل قائمًا يشير إلى أنه مستوفر حتى أنه إن كان معه من يطعمه أذنه بالاقتصار والتقليل فهو غير جميل في ذلك ولا في مصلحة البدن، فإن أجود الطعام ما أكله الإنسان في عقيب حركة ثم تبعه السكون، فإذا أكل وهو قائم لم يكن فيما أعرف صالحًا لبدنه فإن من وصايا أهل علوم الأبدان أن لا يتحرك الإنسان بعد غذائه، فإن اضطر إلى الحركة فليجتهد في الراحة عقب الغذاء ولو بأيسر زمان، فإن لم يمكنه فليتوخ الهوينا من السير دون العنيف، على أن من كان سائرًا على ظهر فأكل وهو يسير فلا أراه داخلًا في هذا النهي من حيث كراهية أكل الإنسان وحده، فإن كان معه رفيق زالت الكراهية على أن أكل الماشي فعل جائز. -1779 - الحديث الثاني عشر: [عن أنس: (أن نبي الله ? - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كسرى، وإلى قيصر، وإلى

النجاشي، وإلى كل جبار (215/ أ) يدعوهم إلى الله، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية: (أنه أراد أن يكتب إلى قيصر وكسرى والنجاشي فقيل إنهم لا يقبلون كتابًا إلا بخاتم، وأنه - صلى الله عليه وسلم - صنع خاتمًا)]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينذر قبل القتال بالكتب والرسائل. *وقيل أن أهل الحبشة يسمون كل ملك لهم بالنجاشي. * وقيل أن أهل فارس يسمون كل ملك لهم كسرى. * وأن الروم يسمون كل ملك لهم قيصر. * وأما الخاتم فقد سبق الكلام عليه. -1780 - الحديث الثالث عشر: [عن أنس، أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: -وجنازته موضوعة- (اهتز لها عرش الرحمن) يعني به سعد بن معاذ)].

* في هذا الحديث ما يدل على شرف سعد بن معاذ. * وقد سبق ذكرنا العرش، وأنه أكبر مخلوقات الله عز وجل إذ كلها فيه وهو محيط بها، فقدرها بالقياس إليه كالحلقة في جنب الفلاة وأما اهتزازه لجنازة سعد يدل على حركته لاستقبال روحه أو سرورا بقدومها عليه اهتشاشًا بها. -1781 - الحديث الرابع عشر: [عن أنس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد رجلًا من المسلمين، قد خفت فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سبحان الله! لا تطيقه -أو لا تستطيعه- ألا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار؛ قال: فدعا الله له، فشفاه)] * في هذا الحديث ما يدل على أنه لا يدعو الإنسان بدعاء حتى يكون ذلك الدعاء قد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ هو بحمد الله مؤيد بالعصمة مسدد من قبل الرب سبحانه وتعالى، يرى من ورائه كما يرى من بين يديه وهذا الداعي لم

يؤت إلا من سوء اختياره، ولو كان قد دعا بدعاء قد آثره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يحترز فيه لكل داع في حاضره (215/ ب) ومستقبله وشاهده وغائبه لكان قد وفق، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى من مرض هذا الشخص الذي كان ببدنه ناشئًا عن مرضه الذي هو سوء تدبيره لنفسه، داواه بما علمه من سؤال الحسنة في الدنيا حسنة وفي الآخرة، فجمع له بين الحسنتين، ينقل إحداهما إلى الآخرى فشتان ما بين الاختيارين. * وفيه دليل على أنه لا يتعرض الإنسان لربه تبارك وتعالى بإظهار الجلد على سوط من سياط عذابه، ولا التقاوي لنفخة من نفخات انتقامه بل يسأل الله العافية، وليكن في عافيته كالمحسن أشد عذاب في كل نوع من أنواع الانتقام لتلا يكون ممن لا يعرف العذاب حتى يقع فيه، ولا يصدق بكونه حتى ينزل به. -1782 - الحديث الخامس عشر: [عن أنس: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يخلط التمر والزهو ثم يشرب، وإن ذلك كان عليه عامة جمهورهم يوم حرمت الخمر)]. * هذا الحديث قد سبق الكلام عليه.

-1783 - الحديث السادس عشر: [عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله الله). وعن أنس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله)]. * في هذا الحديث من الفقه أنه مادام في الأرض ذكر الله عز وجل واسمه الأعظم الذي هو الله، يتزاحم به أهلها، ويتساءلون به، ويتناشدون به، ويخوف به الظالم، ويسلى به المظلوم، ويرجو معه المتصدق الخلف، ويخاف منه المتعدي العقوبة، فإن الكون في مدة بقاء ومهلة تأخير فإذا بلغ الأمر إلى أن لا يذكر في الأرض هذا الاسم، الذي هو الله لعدم من يعرفه أو من يصدق به أو من ينزع عن شر أو يرغب في خير أو يأمل خلفا، ويكف عن ظلم لأجل هذا لأسم الكريم الشريف فحينئذ يعلم أنه قد حان خراب الأرض، وجاء وقت انقلاب هذا المقر بأهله. -1784 - الحديث السابع عشر: [عن أنس: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر)].

* قد سبق هذا الحديث والكلام عليه. -1785 - الحديث الثامن عشر: [عن أنس: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل عليه السلام -وهو يلعب مع الغلمان- (216/ أ) فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حط الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه -يعني ظئره- فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره)]. * قد سبق الكلام في نحو هذا الحديث، وهذا كان في حال صغره، ولأمه: بمعنى جمع بينه، والمنتقع اللون هو المتغير اللون، والمخيط: الإبرة التي يخاط بها، وإنما بقي أثر ذلك ليذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، ويذكره من يراه، ويعلم أن حظ الشيطان قد نزع من قلبه، فلا يكون عنده - صلى الله عليه وسلم - ريب فيما يقذفه الله تعالى من حق في قلبه، وهذا المعنى قد شر حناه فيما تقدم، وأشير إليه هاهنا فأقول: إن هذا الحديث هو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صورة ومعنى.

* وفيه أيضًا تنبيه لأمته أنهم إنما يخلصون من أن يكون للشيطان فيهم حظ بأن يغسلوا بيد الشرع مواضع آثار وساوسه، فإذا عرض الشيطان لأحدهم بوسواس أزال نجاسة الشيطان من قلبه بالطاهر من ماء الشريعة، والشريعة إنما سميت شريعة من حيث إن الماء إذا كان حياة الأنفس في هذه الدار الدنيا، وكان لا يواصل إليه في الأنهار إلا من شرائعها فسميت الشريعة شريعة من حيث إنها موصلة للخلق إلى الحق، كما كانت شريعة الماء موصلة للخلق إلى الماء. * فثمرة هذا أن المسلم إذا أفتاه الشرع بحل سيء وإباحته فأوهمه الشيطان أو خوفه من استباحة ذلك أو استحلاله بما يريه فيه أنه باب تحرج في الدين أو تورع عن المشتبه، فيترك تناول الحلال فإن هذا التورع مما ينبغي للمسلم أن يتورع من هذا التورع، ويتنزه من هذا التنزه فإنه ليس في الإعراض عما أباح الله تعالى من حيث أن الله تعالى أباحه لمعرض ثواب بل عليه عقاب وإنما (216/ ب) أن كان لا يستكثر من تناول المباح توقيرا له على سبيل بر أو ضر ناله إلى وجه حق فذلك عن هذا المعنى الذي أشرنا إليه، وما يروى أنا كنا نترك سبعين بابا من الحلال مخافة الحرام فإن هذا غير معمول به، ولا يحل أن يترك شيء من الحلال على أنه حلال، بل الترك للحرام فريضة، والترك للأمور المشتبهات هو الورع والفضيلة فأما ترك ما يصدع الشرع حله من سائر وجوهه، فلا يحل أن يعبد الله بترك ما أباحه. - 1786 - الحديث التاسع عشر: [عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يخرج من النار أربعة، فيعرضون

على الله). زاد في رواية البرقاني: (ثم يؤمر بهم إلى النار، فيلتفت أحدهم فيقول: أي رب، إذ أخرجتني منها فلا تعدني فيها فينجيه الله منها)]. * هذا الحديث يفيد أن حسن الظن بالله عز وجل خير متعلق، وبينه على أن المنعم بالنعمة لا يعقبها بضدها، ويحث الكرماء على اتمام ما انعموا به. * وفيه من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما ذكره تنبيهًا به على عجز هؤلاء الثلاثة وعدم معرفتهم بالله عز وجل، فإنه حيث أخرجهم من النار وعرضهم لأن سألوه، فلما عرضوا عليه سبحانه وقدروا على أن يسألوه كان كل منهم به الخذلان وعدم التوفيق، ما إنه لما عرض على ربه لم يغتنم ذلك الوقت فيسأل الله عز وجل فيه بغير واسطة ولكنهم لعجزهم وركة طباعهم وخذلانهم لم يفطنوا إلى أن الله سبحانه وتعالى لم يخرجهم من النار ويعرضهم عليه ثم يعيدهم إليها لغير معنى، وإنما أراد سبحانه وتعالى تذكيرهم وتعرضهم لأن يسألوه، ويقربهم لأن يطلبوا منه العفو والإقالة فلما أبت شقوتهم والظلمة التي في قلوبهم من شؤم اكتسابهم إلا العي والخذلان والحصر وعدم الفطنة أعيدوا إلى النار ما عدا ذلك المتيقظ منهم قال: رب إذا أخرتني منها فلا تعدني فيها. * وقوله: رب إذ أخرجتني منها، وهذا كلام موفق لأنه اعترف لربه باستحقاقه (217/ أ) بالمكث فيها لكنه قال: إذا أخرجتني يا رب أنت منها فلا تعدني فيها، فإنك أهل لأن تتبع النعمة النعمة، وتنقذ من السوء إلى الراحة

فلا تعدني فيها، فأعود في العذاب من الراحة بعد عرضي إليك فأنجاه الله منها، وإنما أنطق الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث ذاكرًا له لأمته ليعرفهم سوء نتائج العجز ومرارة إضاعة انتهاز الفرص في مواطن العناية لئلا يعز أحد عن تناول فائدة، وقد بقي في قوس حيلته منزع ولا سيما عند الفرص التي تذهب كما تذهب الرياح. - 1787 - الحديث العشرون: [عن أنس، أن رجلًا قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: (في النار). فلما قضى دعاه فقال: (إن أبي وأباك في النار)]. * في هذا الحديث من الفقه أن هذا الرجل سأله وهو مؤمن عن أبيه المشرك سؤالًا لم يكن -فيما أرى-في موضعه لأن المؤمن لا يشك في أن المشرك في النار، ولا يحتاج أن يسأل عن ذلك لأن الله تعالى: {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية}، إلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سأله هذا السائل أجابه بمر الحق في ذلك، فلما ولى عنه أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يلقنه أن يتأسى به في الرضا بأمر الله سبحانه عنه في أقضيته فقال له: وأبي أنا أيضًا في النار، فيكون هذا الجواب كافيًا لكل من يختلج من ذلك في صدره أمر بعده، فإنه

لو كان ولد ينفع والدًا مشركًا لكان الأولى بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما صرح بأن أباه في النار قطع بهذه الكلمة ظنون الظانين إلى يوم القيامة. - 1788 - الحديث الحادي والعشرون: [عن أنس: (أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فأنزل الله عز وجل: {ويسألونك (217/ ب) عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} إلى آخر الآية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشير، فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أو لا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلتهما هدية من لبن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفا أنه لم يجد عليهما)]. * في هذا الحديث ما يدل على استحباب مخالفة أهل الكتاب إلا أن تكون

في مخالفتهم مخالفة شرعنا، فإن الوطء في الحيض أذى جر المتلبس به، وذلك أن الإنسان في هذه الدنيا مع زوجته التي أباحها الله له وما ملكت يمينه إذا نظر إلى حكمة الله تعالى في منعه من وطئها في وقت الحيض، نظر إلى أنه سبحانه كالمهدي لها إليه في كل وقت من كمال حسن الهدية أن تزف على أحسن حالاتها في طيب ريحها وطهارة باطنها وظاهرها ليستدل بذلك على احتفال مهديها بالمهدى إليه. * فإذا عرض للمرأة من حيض قدره الله لحكمة أخرى وهي أن الحيض قضاه الله على النساء دون الرجال من أجل أن دم الحيض إذا حملت المرأة كان هو بعينه قوتا للجنين يتغذى منه في حال كونه في البطن على جهته، وعند خرجه إلى الدنيا من الثدي مقلوبا إلى اللبن عن أصل خلقة، فلو قد كان هذا الغذاء للطفل من جملة غذاء المرأة المعهود لكان يضر بها ويسقمها في الزمن اليسير، ولكن لما كان مما جبلها الله تعالى عليه أنها في كل شهر يفضل منه عن حد ما يفتدى به بدنها مبلغا ترميه عنها في مجاري الحيض دائمًا حتى إذا حملت انقلب غذاء للجنين لم يتجدد على مادة قواها ما ينقصها ولا يزال تحيض هكذا حتى إذا بلغت من السن ما لا يحيض معه لضعف هضمها (218/ أ) قطع الله حينئذ الحبل عنها، فمن لا تحيض لا تحبل إلا ما ذكره الله عز وجل آية في زوجتي إبراهيم وزكريا. * وكان اشتغال النساء زمانًا بالحيض للاستعداد بحملهن، وزمانًا بالحمل مشغولات بالأجنة في بطونهن، وزمانًا بالرضاع وتربية الأطفال في حجورهن؛ فلذلك أباح الله عز وجل للرجل من النساء أربعًا، ولم يبح

للواحدة منهن إلا الرجل الواحد إلا أن الله عز وجل عاضهن في الدماء أضعافها عند إنزالهن وإنزال الرجل معهن. فكانت حال المرأة في مدة الحيض حالة تلوث بأذى فلم يصح لمن يراد إكرامه بإهدائها إليه أن يتعرض بها غير تامة الأحوال فإنه مما نرضي به المهدي ليكون ما هداه في مقام الكمال فلذلك لما غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا: ألا نجامعن يا رسول الله. * فأما إرساله إلى الرجلين وسقيه إياهما اللبن، فإنه لا يدل على أنه لم يغضب في مثل ذلك السؤال إلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بلغ منه الغضب إلى أن يمنع السائل من طعامه أو يشركه في زاده. * وأما الذي صنعه أهل الكتاب من مجانبة الحائض إلى أنهم لا يباشرونهن ولا يضاجعوهن، ولا يشربون مما يضعن أيديهن فيه، فإن ذلك مما كذبوا فيه وغلوا، وزادوا على الواجب، وإنما الحق اجتنابهم في مواضع الحيض خاصة دون المؤاكلة والمشاربة والمضاجعة إذ ليس حيضتها في غير موضع حيضتها. - 1789 - الحديث الثاني والعشرون: [عن أنس، قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذانًا أمسك، وإلا أغار، فسمع رجلًا يقول: الله أكبر، الله أكبر. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (على الفطرة)، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خرجت من النار)، فنظروا فإذا هو راعي معزى)].

* في هذا الحديث من الفقه أن الغارة يستحب أن يتوخى لها ما بعد طلوع الفجر، (218/ ب) وتدبير ذلك أن يكون على ما قال الله عز وجل فيما أقسم به سبحانه وتعالى في قوله: {والعاديات ضبحًا} فإن العاديات جمع عادية، وهي الخيل تعدو بفرسانهن، قال: {فالموريات قدحًا} يعني أنهن يسار عليهن في الليل حتى يورين حوافرهن إذا ضربن بهن الحجارة، فيصخب الموضع الذي يممنه. * وقد سبق شرح هذه السورة فيما تقدم، وذلك أني تدبرت آيات هذه السورة فوجدت قوله سبحانه: {والعاديات ضبحًا} ثلاثة عشرة حرفًا، {فالموريات قدحًا} ثلاثة عشرة حرفًا أيضًا، {فالمغيرات صبحًا} ثلاثة عشرة حرفًا، فرأيت أن هذا العدد وهو ثلاثة عشر من الأعداد الصم التي لا تقبل الكسر، فنظرت أن الله تعالى أشار بهذا العدد في هذه الآيات أنه يستحب أن يكون عدد السرايا من الأعداد الصم التي لا تقبل الكسر تفاؤلًا بذلك. * ثم إني نظرت في عدد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر فوجدته ثلثمئة وثلاثة عشر، عددًا أصم لا يقبل الكسر، كما كان عدة أصحاب طالوت حين جازوا معه النهر ثلثمئة وثلاثة عشر، وهو جزء أصم لا يقبل الكسر، فلما

أقسم الله تعالى بهذه الخيل عادية في سبيله، ساهرة في نصر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، قد أورت القدح في الليل فوافت المغار عند الصبح؛ فأتبع ذلك بأن قال سبحانه: {فأثرن به نقعًا} لأنهن خرجن من ظلمة الليل إلى ضياء الصبح، ويجوز أن يعود إلى المغار فقوله سبحانه: {فأثرن به نقعًا} أي العجاج. * {فوسطن به جمعًا}، ومعنى وسطن أي أثرن به العجاج حتى صار بينهن وبين الناظرين، فادر عنه عوضًا من ادراعهن الليل حتى وسطن الجمع، ثم كان عدد ما بين الاثنين كل آية منهما أحد عشر حرفًا، وهو جزء أصم أيضًا إلا أنه لما كانت الآيات الأول في صفات الخيل نفسها كانت ثلاثة عشر، فلما كانت الآيتان اللتان بعدها في صفات ما فعلت الخيل نقصت صفاتها عن ذاتها لحروب إلا أنه جزأ أصم أيضًا لا يقبل الكسر. * وقوله (219/ أ) سبحانه: {إن الإنسان لربه لكنود (6) وإنه على ذلك لشهيد (7) إنه لحب الخير لشديد} فهي ثلاثة فصول، كل منها مؤكد بإن، ثم أجيبت بثلاثة على عددها فقال سبحانه: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور (9) وحصل ما في الصدور (10) إن ربهم بهم يومئذ لخبير}؛ فكانت هذه الثلاثة أجوبة للفصول الثلاثة. * وأما قوله: (فإن سمع أذانا أمسك) فإن الأذان إذا أعلن به معلن في حي

فقد دل على أن أهل ذلك الحي راضون ذلك الإعلان، فتحرم دماؤهم وأمواهم. * وقوله: (على الفطرة) يجوز أن يريد به أن هذا كلام يقوله كل من هو على الفطرة ممن لم يبتدع. ويجوز أن يكون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - على الفطرة أي يكون إن شاء الله عليها، كما تقول من لاح له شخص فلان أرجو أن يكون فلانا. *وقوله: (خرجت من النار)، قد جاء فيما تقدم أن الشهادة لله بالتوحيد من ضرورتها الشهادة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة والنبوة. * وفيه أنه يستحب للراعي وإن كان وحده أن يؤذن، وكذلك كل من كان في البادية. - 1790 - الحديث الثالث والعشرون: [عن ثابت، عن أنس: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي نحو بيت المقدس، فنزلت: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام} فمر رجل من بني سلمة، وهم في ركوع في صلاة الفجر، وقد صلوا ركعة، فنادى: ألا إن القبلة حولت، فمالوا كما هم نحو القبلة)].

* قد سبق هذا الحديث في مسند ابن عمر وغيره وشرحناه هنالك. - 1791 - الحديث الرابع والعشرون: [عن أنس قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، إذ جاء رجل وقد حفزه النفس فقال: الله أكبر، والحمد لله كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: (أيكم المتكلم بالكلمات؟)، فأرم القوم، فقال: (إنه لم يقل بأسًا)، فقال الرجل: أنا يا رسول الله قلتها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لقد رأيت اثني عشر ملكا يبتدرونها، أيهم يرفعها)]. * قال يحيى بن محمد رحمه الله: الذي أخطر الله في قلبي وقت إملاء الكلام على هذا (219/ ب) الحديث أن قوله: الله أكبر، فصل، وقوله: الحمد لله فصل، وقوله: كثيرًا طيبًا فصل، وقوله: مباركًا فيه فصل، فلما كانت أربعة فصول لم يحمل كل فصل إلا جمع من الملائكة، وكان أقل الجمع ثلاثة، وثلاثة في أربعة باثني عشر، فيكون اثني عشر ملكاً، وإنما لم يحمل كل كلمة منها إلا جمع لأن كل فصل منها يكمل معناه بالنيابة فهو قائم بنفسه، ولما كان كل فصل منها جمعا لم يكن ليحمله إلا جمع من الملائكة فحمل كل فصل جمع.

* وقوله: أيهم يرفعها أي أي هذه الجموع الأربعة تسبق بها إلى الله تعالى متقربًا برفعها إليه. وأرم القوم: سكتوا، وحفزه: أي جهده من شدة السعي. - 1792 - الحديث الخامس والعشرون: [عن أنس: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول يوم أحد: (اللهم إنك إن تشأ، لا تعبد في الأرض)]. * قد سبق في مسند عمر الكلام في هذا. ومعناه إن فإن بمعنى ما، أي ما تشاء لا تعبد.

- 1793 - الحديث السادس والعشرون: [عن أنس: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، قال: فتكلم أبو بكر، فأعرض عنه، ثم تكلم عمر، فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة، فقال: إيانا تريد يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا، قال: فندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس فانطلقوا، حتى نزلوا بدرًا، ووردت عليهم روايا قريش وفيهم غلام أسود لبني الحجاج، وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه؟ فيقول: مالي علم بأبي سفيان، ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف، فإذا قال ذلك ضربوه، وإذا قال: نعم أنا أخبركم، هذا أبو سفيان، فإذا تركوه فسألوه، قال: مالي بأبي سفيان علم ولكن هذا أبو جهل، وعتبة، وشيبة، وأمية بن خلف في الناس، فإذا قال هذا أيضًا ضربوه، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي، فلما رأى ذلك انصرف، وقال: (والذي نفسي بيده، لتضربونه إذا صدقكم، وتتركونه إذا كذبكم، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (220/ أ): (هذا مصرع فلان-ويضع يده على الأرض ها هنا- قال: فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)].

* في هذا الحديث من الفقه ما يدل على أن الله ملأ قلوب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إيمانًا ويقينًا، فإن هؤلاء النفر الذين وقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفوسهم، وفدوه بأرواحهم واحد بعد واحد، ولم يتردد فيهم متردد، ولا تلوم منهم متلوم، بل أقدموا إقدامًا على الموت ورضى بالجنة ثمنًا من الدنيا، وهذا مما يدل كل الدلالة على أن الله تعالى خصهم من الإيمان واليقين بنا كانوا له أهلًا. * فأما يوم أحد فقد كانت فيه لله سبحانه وتعالى أسرار كثيرة إلا أن منها فعل هؤلاء الرهط الذين بان فضلهم بأن جمعهم على ذلك الماقط حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأكب المشركون عليهم، ظهرت منهم هذه الجواهر التي يبقى عرف طيبها على المسلمين كافة إلى يوم القيامة. * وفيه أن المصلي إذا كان في صلاته فتكلم عنده القوم ففهم ما يقولونه لم تبطل صلاته، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم ما جرى لأصحابه مع الغلام، وأجابهم بعد انقضاء صلاته بما دل على أنه فهم ما جرى لهم. - 1794 - الحديث السابع والعشرون: [عن أنس: (أن قريشًا صالحوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيهم سهيل بن عمرو، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي رضي الله عنه: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: أما بسم الله فما ندري (بسم الله الرحمن الرحيم)؟ ولكن أكتب ما نعرف: باسمك اللهم، فقال: اكتب من محمد رسول الله، قالوا: لو علمنا

أنك رسول الله لا تبعناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اكتب من محمد بن عبد الله، فاشترطوا على النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن من جاء منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا، فقالوا: يا رسول الله، أنكتب هذا؟ قال: نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجًا ومخرجًا)]. * قد سبق تفسير هذا الحديث فيما مضى.

- 1795 - (220/ ب) الحديث الثامن والعشرون: [عن أنس: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار، ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: من يردهم عنا وله الجنة؟ -أو هو رفيقي في الجنة- فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصاحبيه: ما أنصفنا أصحابنا)]. * أما قول رسول الله ?: ما أنصفنا أصحابنا، كأنه كالعتب على المهاجرين إذ تقدم الأنصار فقاتلوا دونهم. * وفيه الفضيلة العظمى للأنصار رضي الله عنهم. - 1796 - الحديث التاسع والعشرون: [عن أنس: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم، فأنزل الله عز وجل: {ليس لك من الأمر شيء} [3 آل عمران: 128]].

* قد سبق الكلام في هذا، وقدمنا تفسير الآية، وأن هذا اعتداد من الله تعالى لرسوله بإخلاصه فيه، وأنه ليس له في حربهم وشنآنهم شيء راجع إلى نفسه بل كله لله عز وجل فكان من أحسن مواقعه عند شج وجهه وكسر رباعيته أن يقال له: (ليس لك من الأمر شيء)، أو أن هذا جرى عليك ليس لك فيه شيء فإنما هو لأجلنا وفينا ومن جرانا ونحن المجازون عليه. - 1797 - الحديث الثلاثون: [عن أنس: (أن فتى من أسلم قال: يا رسول الله، إني أريد الغزو وليس معي ما أتجهز به فقال: ائت فلانًا فإنه قد كان تجهز فمرض، فأتاه فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرئك السلام ويقول: أعطني الذي تجهزت به، فقال: يا فلانة، أعطيه الذي تجهزت به، ولا تحبسي عنه شيئًا، فو الله لا تحبسي منه شيئًا فيبارك لك فيه)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن المجهز للغازي كالغازي، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر من تجهز ليغزو فانقطع بمرض أن يعطيه من يغزو ليكون كأنه غزا، ولذلك فهم الرجل هذا المقصود فقال لزوجته: لا تحبسي من جهازي شيئًا.

* وأما قوله: فيبارك لك فيه، يكون على وجه الغلول إذ أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإعطاء الكل. - 1898 - الحديث الحادي (221/ أ) والثلاثون: [عن أنس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه)]. * معنى الحديث أنه من طلب الشهادة صادقًا في طلبها لا يذكرها ليسمعه غيره فيظن به الخير وليس به لكن يسألها ربه صادقًا في السؤال والطلب. - 1899 - الحديث الثاني والثلاثون: [عن أنس: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أكل طعامًا لعق أصابعه الثلاث، قال: وقال: إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى، وليأكلها، ولا يدعها للشيطان، وأمرنا أن نسلت القصعة، قال: (فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة)]. * في لعق الأصابع معان منها: زوال الكبر، وحفظ بعض أجزاء الزاد وإن

قل، لأن الكثير يجتمع من القليل، ومتى لم يلعق الأصابع ويمسح القصعة ضاع ما فيها، وقد نهي عن إضاعة المال. * وقوله في اللقمة: (فليمط عنها الأذى) وذلك لئلا يكون مضيعًا للمال من جهة أن تلك اللقمة قد تكون سادة جوع مسلم أو مثقلة للميزان، ميزان متصدق بها أو ببعضها، فلا معنى في إضاعتها؛ فربما تكون ميزانه في القيامة قد وقفت على أن ترجح تلك اللقمة، وذا رجحت بها دخل الجنة، وإن لم تكن اللقمة فرجحت سيئاته دخل النار، فيكون إهماله لتلك اللقمة تكبره عن أن يزيل عنها الأذى قد أدخله النار؛ ولو فعل لأدخله الجنة، وهذه اللقمة أمر ظاهر وميزانها مكشوف، والوزن فيها بين، وكم فيها من ذرة، وقد قال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره}. [* وقوله: (ولا يدعها للشيطان) بمعنى من أجله. * وقوله: (فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة) وهذا لأن البركة ربما تكون في الجزء الملقى. - 1800 - الحديث الثالث والثلاثون: [عن أنس: (أن جارًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارسيًّا، كان طيب المرق، فصنع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعامًا، ثم جاء يدعوه، فقال: (وهذه) لعائشة. فقال: لا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا) ثم عاد يدعوه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وهذه؟)

قال: نعم (221/ ب) في الثالثة، فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله)]. * في هذا الحديث من الفقه إجابة الدعوة. * وفيه أنه لا يجوز للمدعو أن يضم إليه غيره إلا بإذن، فإن لم يأذن صاحب المنزل لم يجز، فإن لم تكن الدعوة وليمة عرس لم تجب الإجابة ولهذا قال له: ولهذه فقال: لا، فقال: لا. * وفيه دليل على أن الكريم النفس إذا كان معه صاحب له أو رفيق جالس فإنه لا يستحب له أن ينفرد عنه بطعام طيب دون أن يشركه فيه، لأن ذلك الفارسي لما أراد أن يستدعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده وقد كان عند عائشة لم يذهب حتى أخذ رفيقته معه. * وفيه دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بريئًا من الكبر، ومن نخوة الجاهلية؛ فإنه بعد أن رده الرجل مرتين أجابه في الثالثة. -1801 - الحديث الرابع والثلاثون: [عن أنس: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مع إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه، فقال: يا فلان، هذه زوجتي، فقال: يا رسول الله، من كنت أظن به، فلم أكن أظن بك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى

الدم)]. * في هذا الحديث دليل على أنه يحب على كل مسلم أن يتباعد عن مواقف الريب، وأن لا يقنع ببراءة نفسه عند نفسه حتى يكون دليله على ذلك برهانًا واضحًا ينوب عن مقاله ولا يحوجه إلى بسط عذره، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يظن به الشر مسلم إلا أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد بذلك أن يسلم ذلك الشخص الناظر من أن يعرض له الشيطان في تخييل ما لم يكن، وأن يقتدي به كل مؤمن إلى يوم القيامة، فلا يخلون رجل بامرأة ليست له بمحرم فرأى خاليًا بها عرف الناظر إليه ذلك. -1802 - الحديث الخامس والثلاثون: [عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (رأيت- ذات ليلة- فيما يرى النائم كأنا في دار عقبة بن رافع، فأتينا برطب من رطب ابن طاب، فأولت الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب)]. * في هذا الحديث من الفقه أن يستفاد تعلم عبر الرؤيا من هذا الأسلوب،

وهو أسلوب من أساليب عبر الرؤيا (222/ أ) واستخراجها من النطق والتسمية، وهو أن يذكر العاقبة بعقبة، والرفعة بذكر رافع، والطيبة بذكر طاب، وعلى هذا في كل الأسماء إلا أن هذا مهما عبر الإنسان به الرؤيا فيما يكون بشرى وإيذان بالخير فهو في موضعه، فأما إن عبره بما يكون محزنًا لقلوب المؤمنين أو ذاهبًا إلى طيرة أو إنذار بسوء فلا يقطعن به، فإن ذلك من الشيطان ويدفع بذكر الله والصلاة. -1803 - الحديث السادس والثلاثون: [عن أنس (أن امرأة كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة، فقال: (يا أم فلان، أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك)، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها)]. * في هذا الحديث جواز أن يخلو الرجل بالمرأة في الطريق لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: انظري أي السكك شئت، وذلك لأن الخلوة في الطريق ليست خلوة. * وفيه دليل على حسن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتواضعه ورفقه. -1804 - الحديث السابع والثلاثون: [عن أنس، عن عائشة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر يقوم يلقحون، فقال: لو لم يفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصًا، فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت

كذا وكذا. قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم)]. * قد سبق هذا الحديث واستوضحنا الكلام عليه. * والشيص: هو أردأ التمر. -1805 - الحديث الثامن والثلاثون: [عن أنس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره)]. * قد سبق هذا الحديث، وإنما مربه في حالة الإسراء إلى بيت المقدس ثم جمع الله بينه وبينه في السماء السادسة أو السابعة، والله على كل شيء قدير. * وفيه من فضل الله سبحانه لأنه أرى رسول - صلى الله عليه وسلم - موسى عليه السلام يصلي في قبره؛ ليعرف - صلى الله عليه وسلم - أنه ليس في دفنه هو في الأرض غضاضة، ولا نزول عن مرتبة موسى؛ ولتكون قبورهم أمانًا لأهل الأرض، ويثاب قاصدوها من فجاجها.

* فأما رؤيته له في السماء السادسة فيدل أنه انهز من قبره قاصدًا لأجل مقدم رسول (222/ ب) الله - صلى الله عليه وسلم - وتلقيه والاجتماع به، حيث يعرف به محمد - صلى الله عليه وسلم - مقام موسى ومنزلته، ويعرف موسى مقام محمد - صلى الله عليه وسلم - وتجاوزه إلى ربه. * فأما صلاة موسى في قبره فالذي أرى في ذلك أن دار الآخرة هي دار نيل الملاذ، وأن المؤمن قد يجد في صلاته وفي عبادته من اللذة ما لا توازيه لذة في الدنيا، فكيف بالأنبياء، فإن الله صلاته عليه السلام مما قد التذ بها فشرع فيها التذاذًا بها لا تكليفًا فغير بعيد، ولأن الأنبياء عليهم السلام أحياء في قبورهم. -1806 - الحديث التاسع والثلاثون: [عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (دخلت الجنة، فسمعت خشفة، قلت: من هذا؟ قالوا: هذه الغميصاء بنت ملحان أم أنس بن مالك)]. * هذا الحديث يدل على تبشير أم سليم بالجنة. * وقوله سمعت خشفة: الخشفة: وهو الصوت والحركة، وتعني أنها أن لها ضبنة وجمعًا عند دخولها الجنة. -1807 - الحديث الأربعون: [عن أنس: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ سيفًا يوم أحد، فقال: من يأخذ مني

هذا؟ فبسطوا أيديهم- كل إنسان منهم يقول: أنا، أنا، قال: فمن يأخذه بحقه؟ فأحجم القوم، فقال سماك أبو دجانة: أنا آخذه بحقه، قال: فأخذه ففلق به هام المشركين)]. * في هذا الحديث من الفقه استحباب توصل الإمام إلى كل ما يشد به عزائم المجاهدين، ويحمي به أنوفهم للحق، فأما ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرض هذا السيف على القوم متخيرا من يتناوله منهم بحقه حتى انتدب له سماك ففلق به هام المشركين. * وفيه أيضًا أن المستحب للإمام أن يختار أجود السلاح لأجود الرجال، ولا يترك السلاح الأجود مع الرجل الأدون حتى إن كان ملكًا للرجل، فرأى الإمام أنه لا يغني به صاحبه شيئًا، وغيره يغني به الغناء الواسع وليس ذا سلاح، أمر صاحب السلاح أن يدفع سلاحه إلى هذا الأعزل قصدًا بذلك مصلحة الجميع متوصلًا إلى طيب نفس صاحبه في ذلك، فإنه الأولى كما كان يقول لمن مر به انثر كنانتك لأبي طلحة. -1808 - الحديث الحادي والأربعون: [عن أنس: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بين أبي طلحة وبين أبي عبيدة)].

* قد سبق ذكر الأخوة في مسند عبد الرحمن (223/ أ) بن عوف. وفيما مضي من مسند أنس، وبينا أن المراد تعيين كل اثنين في التعاون وإلا فكل المسلمين أخوة لقوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة}. -1809 - الحديث الثاني والأربعون: [عن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لما صور الله آدم في الجنة تركه كما شاء أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به، وينظر إليه، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق لا يتمالك)]. * الذي أراه في ترك آدم مدة طويلة؛ أنه يوطئه للملائكة على تفضيله عليهم، لينظروا في تلك المدة إلى الحكم التي وضع عليها إلى أن نفخ فيه الروح، فأما ظن إبليس أنه لا يتمالك لكونه أجوف، فتشتبه الروح التي فيه بشمس الملكوت وقمره، يظهر عند استيقاظه من منامه وقت طلوع الشمس الملكوت؛ كما أنها يخلفها الحياة فيه دون الروح في منامه كما يخلف القمر والكواكب الشمس في الليل، وعزوفه شبيه بالأودية التي في فجاج الأرض، وعظامه شبيه بالجبال التي فيها، وكل شيء من الملكوت ففي الآدمي شبيهه. * وما فيه من الشعر فعلى شبه نبات الأرض فكان من حسن صنعة الخالق

سبحانه أن بسط الملكوت ثم قبضه في خلقه الآدمي، فلم يخل بشيء مما أودعه في المبسوط إلا وجعل مثاله في المقبوض؛ بل إن المقبوض يزيد عليه بأن فيه من معرفة الله سبحانه، والعلم به والفهم عنه، وأهليته للخطاب والتكليف ما يفضل به المبسوط كله. * ولأن المبسوط كله خلق له، ومن أجله، وكله في خدمته، ويسخر له فهل يغفل عن هذه في مواقع الحكم في خلقه هذه البنية إلا أعمى البصيرة، جهل إبليس ظن أنه لا يتمالك، وإنما كانت الحكم المودعة جوف الآدمي وباطنه مثمرات ما كان من بدائع الحكم في ظاهره من علقه وتمييزه وإدراكه وفهمه وذوقه ولمسه وإحساسه. * ولأن ما خلق الله سبحانه وتعالى في أرضه من بدائع الثمار، واختلاف الطعوم، وما ضمن الحشائش والنباتات من المنافع والمضار، لو لم يخلق الآدمي، أجوف؛ ليدرك بحاجته إلى الطعام ما خلق الله تعالى من عجائب صنعته فيما أودعه الثمار، مما لا يمكن أن يصفه شخص لشخص (223/ ب)؛ فإنما يدرك بالذوق لا يمكن أن يوصف، حتى إن في المطعم الواحد الحلو مثلًا من التفاوت الذي أودعه الله عز وجل في كل جنس من أجناس مخلوقاته ما ليس في الآخر، على نحو حلاوة الرطب التي هي غير حلاوة العنب، التي هي غير حلاوة الرمان؛ التي هي غير حلاوة التفاح؛ التي هي غير حلاوة البطيخ؛ التي هي غير حلاوة المن؛ التي هي غير حلاوة السكر؛ التي هي غير حلاوة الفرصاد؛ حتى إن في طعم الحل خاصة ما يزيد عن عشرين جنسا؛ كل واحد منها في حلاوته بينه وبين الآخر في حلاوته تفاوت لا يمكن واصف

أن يصفه لمن لا يذوقه. وكذلك في الحامض والقوابض والمز والمالح والعفص لا يمكن صفاته في تفاوت طعومه إلا بالذوق، فكيف كان يمكن أن تدرك هذه الحكم من بدائع خلق الله سبحانه وتعالى لو لم يجعل الآدمي أجوف مضطرًا إلى تناول هذه الأشياء قال الله سبحانه وتعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر}. * وهكذا لما جعله أجوف ليعرض في باطنه من الأمراض ما قد جعل الله عز وجل شفاءه في الأدوية التي خلقها وأودعها ذلك؛ فلو لم يكن هذا على ما فعله الله سبحانه لم يطلع على هذه أبدًا، حتى إن الإنسان ليتناول من بعض الأطعمة ما لا يصلح له، فخلق الله له طعامًا آخر إذا تناوله دفع ضرر ذلك الطعام الذي تناوله من قبل، فكيف كان يتطلع على هذه الحكم كلها لولا أن الله سبحانه وتعالى خلقه أجوف. * وإنما أتي إبليس من نظره بعين العداوة، فعمي عما في الآدمي من حكم وأنه مخلوق على ترتيب مهيئ للعلوم والأعمال، وملك الحيوان كله بأمر خالقه عز وجل، وهو دليل على خالقه سبحانه بباطنه وظاهره وكونه لم ينظره دليلًا، ودليلًا لمن يلمسه، ودليلًا لمن يسمع منه، ودليلًا لمن يروي عنه لغيره، فهو مستدل على خالقه بجميع أحواله وحركاته وسكناته، فهو دال على خالقه بجميع أجزائه. * وأتي إبليس أيضًا لعنه الله من حيث أنه رأى التمالك والاستمساك (224/ أ) في الخلق من حيث الخلق، فلذلك دخل الجهل عليه ونسي خالقه،

وإنما تماسك الآدمي وتمالكه بأمر خالقه، ولذلك قال أهل الحق: إن الاستطاعة مع الفعل لا قبله ولا بعده، وإن العبد لا يقدر على شيء إلا بإقدار الله له فهو سبحانه يمده به حالًا فحالًا. * ولا جرم أنه ثبت قدمه حين زلت قدم إبليس، ورسخ في العلم حين طاش إبليس جهله، فإن الله تعالى سمى الراسخين في العلم من بني آدم راسخين لثباتهم فيه، وكان طيش إبليس أنه رأى نفسه لجهله في مقام الاعتبار على الله سبحانه وتعالى لما صنعه في آدم حتى قال مخاطبًا لربه سبحانه: {أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين}. وكما روي عن ابن سمعون رحمه الله أنه قال: رأيت إبليس لعنه الله في المنام على صورة كنا عنها. قال ابن سمعون: وكنت قد سمعت عن إبليس أنه قال: علام يلومني اللائمون، وإنما المعصية وصفي والرحمة وصفه فأتيت وصفي؛ وتعلقت بوصفه؟ قال ابن سمعون: فسألته في المنام عن هذا الكلمات التي بلغتني عنه في اليقظة. قلت له: أأنت قلت هذا الكلام؟ فقال: نعم. فقلت له: هذا من جهلك يا جاهل. ثم تجاوز ابن سمعون إلى باقي الكلام في المنام، فقلت أنا: ما الذي أنكر ابن سمعون على إبليس من هذه الكلمات، وظاهرها فيه رسومة، فنظرت فإذا إنكار ابن سمعون في موضعه، وذلك أن قول إبليس المعصية وصفي والرحمة وصفه، فإنه جيء بهذا القول من حيث إنه ظن أنه فلج، بالحجة لأني قلت له

ومثلته كأنه جالس بين يدي، يا عدو الله: ما وصفك إلا المعصية خاصة أو ليس من وصفك الطاعة أيضًا، وربك أليس من وصفه الانتقام أيضًا كما من وصفه الرحمة، فلم اخترت من وصفك وصفاك لربك أقبحها واخترت لنفسك من وصفي ربك أرفقهما فحينئذ قاتلك الله، لو أن الخلق يقتدون بك لما كان يكون (224/ ب) لله سبحانه على وجه الأرض طائع، ولا من انتقامه خائف، فعرفت أن ابن سمعون إنما أنكر عليه في موضعه. ثم ذكر ابن سمعون بقيه المنام فقال: إني قلت له: يا جاهل تدري أي عذاب أنت معذب؟ فقال لي: نعم، فقلت له: بأي عذاب أنت معذب؟ فقال: بعذاب المخالفة، قال: فقلت له أيضًا: وهذه أيضًا مما تدل على زيادة جهلك أما ما خالفه غيرك، أما خالفه آدم فتاب عليه واجتباه وهداه، قال: فقال لي فبأي عذاب أنا معذب؟ قال: فقلت له: أنت معذب بعذاب المقت. قال: فصرخ صرخة فاستحال قردًا قال: ثم قلت له: إنما سميت إبليس؛ لأن اشتقاق معناك كان مودعًا في نسمتك أو نحو هذا الكلام، قال: فقال لي: شيخ، فماذا يكون تدبيري؟ قال: فقلت له: يا هذا تنزلك مع أمره، وتسلمك إلى حكمه. قال: ثم قلت له: يا جاهل، يا عديم العلم لأجهل منك من ظن أنك شممت ريح العلم، أليس بلغ من جهلك أنك لما قال لك ربك اسجد لآدم ابيت، ثم عللت إباءك أن قلت أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين، ويلك بلغ من أمرك أنك تسوي أنت لربك تدبيره وتتم له أموره. قلت أنا عند هذا الكلام: يا جاهل، أنت بزعمك خير من آدم جنسًا في ضمن اعتراضك هذا، وممن هو خير تدبيرًا.

قال ابن سمعون: فاستخذى واستسلم، ثم قال لي بعد ذلك: يا شيخ، اتركني وأهل البدع، ثم انقطع منام ابن سمعون. * فرأيت أنا في المنام شرح الحال أنه قال له: دعني وأهل البدع، أن معناه أنه أراد أن أهل البدع يأتون ما يأتون من مساخط الله سبحانه في مقام لا يتوبون منه، ولا يعتذرون عنه، فأراد الفاسق من ابن سمعون أن لا ينبه على ما عليه أهل البدع من الضلالة، ظنا منه أن ابن سمعون قد بلغ بغضه لأهل البدع وشنآنه إياهم إلى الحد الذي لا يستنقذهم بعمله من يده، فيتركهم معه. * وكان مقام ابن سمعون رحمه الله وإن كان له مبغضًا من حيث البدعة؛ فإنه لهم راحمًا من حيث المعرفة، فهو يحرص على هداهم فقد كان أحمد رضي الله عنه أعلا مقامًا (225/ أ) من ابن سمعون حيث كان من دعائه: (اللهم ما كان من هذه الأمة على غير الحق وهو يظن أنه على الحق فرده إلى الحق حتى لا يضل من هذه الأمة أحد). * فأما إبليس فإنما من جهله من حيث أنه لم يستيقظ المعنى الذي خلق له، فإنه لما كان من صفات الله سبحانه اللوازم أن يكون سبحانه وتعالى عفوا غفورًا صفوحًا، منتقمًا معاقبًا، لم يكن بد مع هذه الصفات من خلق يذنبون فيغفر ويسيئون فيعفو، ومن خلق يأتون الموبقات، ويصرون على المقمحات؛ فينتقم ويعاقب، وكان من رحمته لآدم وذريته أنه سبحانه وتعالى لما خلق إبليس مزينا للضلالة، وداعيًا إليها، كان متصرفًا للمذام، ومحققًا في مواقع العذر لبني آدم، وكان إبليس ومن تبعه من ذريته آدم من خلقه الله أحطبًا للنار؛ التي هي محل نقمة الله سبحانه فكان من حيث تنافي الأحوال واختلافها، كان الله سبحانه الحمد أولًا وآخرًا، وبدءًا وعودًا، وقولًا وعقدًا؛ ولأن في باطن

الآدمي حكمًا من نسج العروق، وتركيب العظام حتى كأنه على شكل السفينة، فإن أول ما تمد من السفينة الخشبة التي هي حرزة ظهر الآدمي، ثم تبنى الألواح التي هي كأضلاع الآدمي ثم تبنى عليها، إلا أن خلق الآدمي تستنبط منه صورة الملكوت. * ويتمالك: يتفاعل فهي مفاعلة تملك، كما أن يتماسك مفاعلة يمسك يعني لا يمكنه تنفعل الملك. * وبعد هذا فإن الله تعالى خلق الآدمي على صورة يطمع فيها إبليس، وهذه الصورة بعينها قد يمر ببعض أصحابها إبليس، وهو يذكر الله عز وجل فيصرع الشيطان كعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (ما لقيك الشيطان سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فجك). -1810 - الحديث الثالث والأربعون: [عن أنس: (أن ثمانين رجلًا من أهل مكة، هبطوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جبل التنعيم متسلحين، يريدون غرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخذهم سلمًا، فاستحياهم، وأنزل الله تعالى عز وجل: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم} [الفتح: 24]].

* في هذا الحديث ما يدل على أن لا يؤتمن إلى المشركين في وقت (225/ ب) معاهدتهم كل الأمن، وعلى ذلك فليف لهم معتمدا على الله عز وجل في كف أذاهم، فإن هؤلاء الرهط اهتبلوا غفلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسلطه الله عليهم فأخذهم سلمًا أي لا عن حرب فاستحياهم أي استبقاهم، والمراد أنه وفى لهم إذا غدروا ولم ينقض عهدهم بما مكروا، ولم يجازهم على غدرهم بالفتك بهم. -1811 - الحديث الرابع والأربعون: [عن أنس: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوى إلى فراشه قال: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الإنسان في غالب أمره وأكثر حاله إنما يأوي إلى فراشه لينام عليه بعد أن يأكل ويشرب وذلك من حكمته عز وجل في عباده، فإنه يلذ له النوم ويلطف الله حرارته على باطنه فتهضم غذاءه فيخلف على بدنه ما تملك في يقظته، فلما أوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الفراش ذكر النعمة التي تقدمت على الفراش من الطعام والشراب وقال: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وآوانا) يعني - صلى الله عليه وسلم - أنه من أسدي إليه نعمة على أثر نعمة فلا ينبغي له أن

يشكر إحداهن ولا أن يذكر الأخرى وينسى الأولى بل يعددهن يتمامهن عند تكاملهن، فكان من تمام النعمة على من أكل وشرب أن يسهل له مكانًا يأوي إليه، فكم من آكل لا يجد ماء بشربه، وكم من آكل شارب لا يجد ما يأوي فيه، فقال (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وآوانا)، ثم قال: (فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي). * وفيه ما يستدل به على أن الإنسان إذا أنعم عليه بنعمة كان من أحسن الأشياء له أن يذكر من حرم تلك النعمة فيشكر المنعم عليها بما حرمه الله أخاه. -1812 - الحديث الخامس والأربعون: [عن أنس: (أن رجلًا كان يتهم بأم ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي رضي الله عنه: اذهب فاضرب عنقه، فأتاه علي رضي الله عنه فإذا هو في ركي يتبرد، فقال له علي: اخرج، فناوله يده، فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر، فكف علي رضي الله عنه، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله (226/ أ): إنه مجبوب ماله ذكر)]. * في هذا الحديث من الفقه أن هذا الرجل إنما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله من غير بينة من حيث تطريقه على نفسه التهمة بدخوله على أم ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،

ولم يكن له ذلك وإن كان مجبوبًا، فاستدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هتكه حرمة بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنقضه العهد؛ لأنه كان في كفره على عهد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى أن دخوله بيته بغير إذنه نقض عهده فأمر بضرب عنقه. * وفيه من الفقه أن الله سبحانه كان حافظًا لأوامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يقع شيء منها غلطَا بل هو محفوظ معصوم، فإذا أمر بشيء على قضية تستدعي ذلك الأمر بموجب الحق، وإن كان في باطن تلك القضية ما لو علم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغير ذلك الأمر، جعل الله عز وجل الأقدار حائلة دون إنفاذ ذلك المقدم حتى تكشف له - صلى الله عليه وسلم - عن عواقب الأمور، كما جرى من أن عليًّا عليه السلام لما أراد أن ينفذ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل ذلك الإنسان وجده في ركي. والركي: هي البئر التي لم تطو فأمره بالخروج فرآه حينئذ مجبوبًا، ولو كان قد رآه وعليه ثيابه لم يبن لعلي عليه السلام أنه مجبوب إلا بعد قتله، فحفظ الله ذمة رسول - صلى الله عليه وسلم - من أن يجري فيها غلط يشبه الغدر، كما حفظها من أن يجري فيها حقيقة الغدر، ولما انكشف لعلي عليه السلام أنه مجبوب لم يتعرض له بالقتل، لأنه علم أن ذلك الإنسان لم يحمله على دخول بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا علمه بنفسه أنه لا يتهم لكونه مجبوبًا، فغلط على نفسه ولو فهم أنه لا يكفي براءة الإنسان عند نفسه حتى تكون براءته عند غيره ظاهرة معلومة لم يفعل ذلك، يدل عليه ما سبق من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إنها صفية. -1813 - الحديث السادس والأربعون: [عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل

النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرًا (226/ ب) قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن مقدار نعيم الإنسان من أول عمره إلى يوم موته، وإن عاش أطول الأعمار، ويغمره ويغلب عليه _حتى ينسى كل شيء كان منه- صبغة واحدة في النار، وكل بؤس يناله الآدمي في الدنيا على طول عمره يغمره ويغلب عليه -حتى ينسى ذكره- غوطة واحدة في الجنة فلا أغبن من يبيع تلك الحسنة بشيء من هذه السيئة، فالله سبحانه وتعالى يعيذنا ويسلمنا من آفات هذه الدنيا، إنه على كل شيء قدير. -1814 - الحديث السابع والأربعون: [عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)]. * قوله: حفت الجنه أي أحيطت بالمكاره، وذلك أن المكاره هي ما يكرهه

الآدمي من خروج مال عن يده في صدقة، أو فجعة بحميم له، أو خروج نفسه بالجهاد في سبيل الله أو ذهاب عرضه مع من يعضهه، أو صبر على لذة محرمة لأجل الله، أو احتساب طعام وشراب وفراق زوجة في صيام لأجل الله تعالى، أو رغبة من وطء وأهل بقصد إلى الحج، أو صبر على برد ماء في إسباغ وضوء في شدة برد لأجل الله تعالى، إلى غير ذلك. * كما حفت النار أي أحيط بها بالشهوات، فجعل جانب منها يدخل إليه من شهوة الزنا، وجانب يدخل إليه بأكل الربا، وجانب منها بشرب الخمر، وجانب منها بالغدر، وجانب بالنميمة، وجانب بالغيبة إلى غير ذلك. -1815 - الحديث الثامن والأربعون: [عن أنس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن في الجنة لسوقًا يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال، فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادوا حسنًا وجمالًا فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالًا، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالًا، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم حسنا وجمالا)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن نعيم الجنة لا يزال (227/ أ) أبدًا في الزيادة، وهذه السوق التي ذكرت فيها فهي من ذلك لأنها زيادة على نعيمهم

وليست بسوق بيع ولا شراء، وإنما جعلت سوقًا من حيث إن السوق موضوع للمرابحة، فهؤلاء يربحون فيها، ويعودون وقد ربحوا من بيوتهم أيضًا ذلك الحسن في الزوجات، وهذا يدل على أن أهل الجنة يزدادون في كل لحظة حسنًا إلى حسنهم وجمالًا إلى جمالهم زيادة لا تزال تنمي بنفس خروجهم إلى تلك السوق، ومقامهم فيها يزيد نساؤهم وأهلوهم حسنًا في تلك الساعة. * وفيه دليل على أن ربح الشمال مباركة في الدنيا والآخرة. -1816 - الحديث التاسع والأربعون: [عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من يدخل الجنة ينعم، لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه)]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يرض أن يصف أهل الجنة بالنعيم فحسب حتى نفى عنهم البؤس، لأن الإنسان قد ينعم ثم يبؤس فاخبر بنفي ما يؤدي لو عرض مع حصول النعيم. والبؤس: هو الشفاء وسوء العيش. * قوله: لا تبلى ثيابه يعني أن ثيابهم ليست قابلة للبلاء. * وإن شبابهم ليس له غائلة ينتهي إليها، لأنه أحسن عمر الإنسان، فعمرهم كله من أوله إلى ما لا نهاية له: شباب كله.

-1817 - الحديث الخمسون: [عن أنس: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك قتلى بدر ثلاثًا، ثم أتاهم، فقام عليهم، فناداهم فقال: يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا، فإني قد وجدت ما وعدني حقًّا؟ فسمع عمر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، كيف يسمعون؟ أو أني يجيبون، وقد جيفوا؟ قال: والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع ما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا، ثم أمر بهم فسحبوا، فألقوا في قليب بدر)]. * هذا الحديث قد سبق في مسند عمر رضي الله عنه. -1818 - الحديث الحادي والخمسون: (227/ ب) [عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك)].

* قد مضى هذا الحديث والكلام عليه؛ إلا أن فيه ما ينبه على معنى منع موسى في الرؤية لأنه - صلى الله عليه وسلم - إذا كان لا يفتح باب الجنة لأحد قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه يعرف من هذا أن نظر الله عز وجل أولى أن لا يبدأ به لأحد قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ النظر إلى الله عز وجل لحظة واحدة أفضل من الجنة كلها وأشرف. -1819 - الحديث الثاني والخمسون: [عن أنس، قال: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - تسع نسوة، فكان إذا قسم بينهن لا ينتهي إلى المرأة الأولى إلا في تسع فكن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها، فكان في بيت عائشة، فجاءت زينب، فمد يده إليه، فقالت: هذه زينب، فكف النبي - صلى الله عليه وسلم - يده عنها فتقاولتا حتى استحثتا، وأقيمت الصلاة، فمر أبو بكر على ذلك، فسمع أصواتها فقال: اخرج يا رسول لله إلى الصلاة، واحث في أفواههن التراب، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت عائشة: الآن يقضي النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته، فيجيء أبو بكر فيفعل بي ويفعل، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته أتاها أبو بكر فقال لها قولًا شديدًا. وقال: أتصنعين هذا؟)]. * في هذا الحديث أن عماد القسم الليل، وأن زيارة المرأة زوجها في ليلة الأخرى جائز، وكانت زيارة أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له للشوق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليتعلمن الحكمة ولئلا تمكث المرأة تسع ليال لا تراه ولا تسمع كلامه. * وفيه أيضًا أنه مد يده ظانًّا أنها عائشة فلما قيل له هذه زينب كف يده عنها.

* وفيه أنه يجري بين المرأتين الصالحتين ما يندمان على أثره بدليل قوله: حتى استحثتا أي رمت كل واحدة صاحبتها بالتراب، وإنما قال أبو بكر: يا رسول الله اخرج واحث في أفواههن التراب لأنه كان ذلك في بيت ابنته (288/ أ) عائشة أراد زجرهن بذلك. * وقد دل الحديث على حسن مداراة النبي - صلى الله عليه وسلم - أزواجه وصبره عليهن، فيعلم كل إنسان أن هذا من أفضل العبادة فإن بلي رجل بمثل هذا بين امرأتين له فلا ينبغي أن يخرج ذلك عن مقدار جده؛ حيث قد جرى لنساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن من أفضل نساء العالمين بما تقدم ذكره. * والقول الشديد الذي قاله أبو بكر رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها هو التوبيخ فإنه شديد على مثلها. * وفي هذا الحديث ما يدل على أن بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن فيه ليلتئذ مصباح لكونه جعل يده على زينب ظانًّا أنها عائشة فقالت: أنا زينب. -1820 - الحديث الثالث والخمسون: [عن أنس، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبسة عينًا ينظر ما فعلت عير أبي سفيان، فجاء وما في البيت غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيري، قال: لا أدري ما استثني بعض نسائه، قال: فحدثه الحديث، قال: فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتكلم، فقال: إن لنا طلبة، فمن كان ظهره حاضرًا فليركب معنا، فجعل رجال يستأذنونه في ظهرهم في علو المدينة، فقال: لا إلا من كان ظهره حاضرًا، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا أوذنه، فدنا المشركون فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: نعم، قال: بخ بخ يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يحملك على أن تقول: بخ بخ؟ قال: لا والله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها. قال: فاخترج تمرات من قرنه، قال: فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه (288/ ب) إنها لحياة طويلة، قال: فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل رضي الله عنه)]. * في هذا الحديث دليل على استحباب إرسال العيون والطلائع. * وفيه كتمان الأحوال وترك الإشاعة للأمور. * وفيه أن من صحب الإمام لم يجز له أن يتقدم على أمر إلا بإذنه. * وفيه أنه يستحب في موطن الحرب أن يحض الناس بتحسين الصفات للجنة، فإن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض من أحسن ما وصفت به. * وفيه أيضًا أن التصديق بها تبين إشارة تمثل حال عمير بن حمام، وقوله: بخ بخ كلمة تقال عند المدح، قال ابن الأنباري: معناها تعظيم الأمر وتفخيمه.

* وفيه أن زاد القوم كان يسيرًا حتى اخترج تمرات من قرنه، واخترج بمعنى أخرج. والقرن: جعبة صغيرة تضم إلى الجعبة الكبيرة. -1821 - الحديث الرابع والخمسون: [عن أنس، قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيها، فربما جاؤوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها)]. * في هذا الحديث دليل على قوة إيمان الصحابة وتبركهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه دليل على حسن خلقه وكرم سجيته في موافقتهم وحمل ما يكره من برودة الماء ليبلغوا مرادهم. * وفيه جواز فعل مثل هذا العالم والصالح والمسلم تبركًا به.

-1822 - الحديث الخامس والخمسون: [عن أنس، قال: (لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحلاق يحلقه، وأضاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل)]. * قد سبق هذا الحديث. وقد شرحناه في هذا المسند أيضًا. -1823 - الحديث السادس والخمسون: [عن أن قال: (انطلق - صلى الله عليه وسلم - إلى أم أيمن، فانطلقت معه، فناولته إناء فيه شراب، قال: فلا أدري أصادفته صائمًا، أو لم يرده، فجعلت تصخب عليه، وتذمر عليه)]. * الصخب: الصوت والجلبة، والمعنى: تصيح. تذمر: تغضب. وإنما انبسطت بهذا لأنها حاضنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

-1824 - الحديث السابع والخمسون: [عن أنس، أنه قال: ليمنعني أن أحدثكم حديثًا كثيرًا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من تعمد علي كذبًا فليتبوأ مقعده من النار)]. * قد مضى هذا الحديث في مسند علي عليه السلام. -1825 - الحديث الثامن والخمسون: [عن أنس، قال: وقت لنا، وحكى أبو مسعود وقت لنا -رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة؛ ألا يترك أكثر من أربعين ليلة)]. * هذا الحديث هو الغاية في تأخير ذلك، والأولى أخذ ذلك فيما قبل هذه الغاية.

-1827 - الحديث التاسع والخمسون: [عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا بني)]. * في هذا الحديث جواز أن يقول الرجل لغير ولده من الصبيان يا بني؛ ولا يكون ذلك كذبًا. -1827 - الحديث التسعون: [عن أنس، قال: (قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث وستين، وأبو بكر وهو ابن ثلاث وستين، وعمر وهو ابن ثلاث وستين)]. * في هذا الحديث أصح ما روي في عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر، فتوافقوا في الأعمار والأحوال والأخلاق والمدفن والمبعث والمقيل. -1828 - الحديث الحادي والتسعون: [عن أنس، قال: (كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فضحك، فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: من مخاطبة العبد ربه،

يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا. قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدًا لكن وسحقًا، فعنكن كنت أناضل)]. * في هذا الحديث من الفقه إظهار الله سبحانه لعباده عدله، ومن عدله أنه لم يجر على تثبيت الحقوق بين يديه أن تكون قضية من قضاياه يحكم فيها بالشهود العدول، ثم إن جاحد الجحد فلا يظهر الله على رؤوس الأشهاد كذب ذلك الجاحد وافتراه؛ فأنطق الله سبحانه جوارح الإنسان بما جحده مزكية للشهود. ولو قد كان معه الشقي توفيق نطق بفيه، وهو يقدر أن ينطق معترفًا لله عز وجل، فكان لا يجمع بين فعل ما لا يجوز له فعله وبين أن يجاحد الله عز وجل ذلك، ومن أن يجهل أن الله قادر على أن يظهر كل خفي، فاجتمع لهذا الشفي معصية وكذب وجهل بربه. والأركان: الأعضاء، وأناضل: بمعنى أدافع واعتذر. * فأما قوله: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا وبالكرام الكاتبين شهودًا؛ فإن فيه أن الله سبحانه أنطق جوارحه لتزكية الشهود لا لارتياب بهم ولا لتتميم شهادتهم.

-1829 - الحديث الثاني والستون: [عن أنس: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الخمر: تتخذ خلًّا؟ فقال: لا)] * في هذا الحديث حجة لمن يرى أن الخمر إذا خللت لم تطهر. وأما إذا تخللت بنفسها فذلك جائز بالإجماع. -1830 - الحديث الثالث والستون: [عن إسماعيل السدي، قال: (سألت أنس بن مالك: كيف أنصرف إذا سلمت: عن يميني أو عن يساري؟ قال: أما أنا فأكثر ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن يمينه)]. * قد سبق بيان هذا، وذكرنا أن هذا الفعل كيف اتفق جاز. -1831 - الحديث الرابع والستون: [عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تعالى ليرضى عن العبد

يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها)]. * في هذا الحديث حب الله عز وجل الحمد، وهذا مما رفق فيه تعبده، فإنه لو قال: الأكلة (بضم الألف) كانت اللقمة، فقد رضي بالحمد، وهي كلمة على الأكلة التي هي مرة، وهي تتضمن لقمات كثيرة، وفي النعم في الأكل أن جعل المأكول وإن كان حلالًا وإن ساغ تناوله، وأن جعل له مخرجًا ريح من أثقاله، وأن أودعه لك عند تناوله، وأعقب عنه قوة عند انهضامه وراحة عند خروج أثقاله وغيره في أثناء ذلك مما كان عند تناوله وهضمه والخلاص منه إلى غير ذلك، فرضي الله عن عبده في النعم الكثيرة بالمرة الواحدة من الحمد. -1832 - الحديث الخامس والستون: [عن أنس، قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا خير البرية. قال: (ذاك إبراهيم عليه السلام)]. * هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باب من أبواب البر، فإن الوالد إذا فضل عليه ولده قد يسره ذلك، فأما إذا قال الولد لنفسه: أنا خير من أبي، لم يسره ذلك، فلم يرد عليه السلام أن يفضل نفسه على أبيه وإنما الله عز وجل فضله. * وهذا التواضع إلى هذا الحد من جملة فضل نبينا - صلى الله عليه وسلم -.

-1833 - الحديث السادس والستون: [عن أنس، قال: (صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات اليوم، فلما قضى الصلاة، أقبل علينا بوجهه، فقال: أيها الناس، إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع، ولا القيام، ولا بالانصراف، فإني أراكم أمامي ومن خلفي، ثم قال: والذي نفس محمد بيده، لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: الجنة والنار)]. * قد مضى هذا في مسند أبي قتادة وغيره وشرحناه هنالك. -1834 - الحديث السابع والستون: [عن أنس، قال: أتي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمر، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسمه وهو محتفز، يأكل منه أكلًا ذريعًا).

وفي رواية: (أكلًا حثيثًا). وفي رواية: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقعيًا يأكل تمرًا)]. * في هذا الحديث دليل على استحباب أكل التمر. * والمتحفز: المستعجل الذي ليس بمتمكن. والذريع: السريع. وإنما استعجل لئلا يضيع الزمان في الأكل؛ وعلى أن أهل علم الأبدان يرون أن العجلة في الأكل أجود لتجميع الطعام فيهضم دفعة. * وأما الإقعاء، فقال النضر بن شميل: الإقعاء أن يجلس على وركيه، وهو الاحتفاز. -1835 - الحديث الثامن والستون: [عن أنس في الرقى، قال: (رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرقية من العين والحمة والنملة)]. * في هذا الحديث إباحة الرقية، وقد مضى الكلام في العين والحمة.

* فأما النملة: فقال أبو عبيد: هي قروح تخرج بالجنب وغيره. وإنما رخص رسول لله - صلى الله عليه وسلم - في الرقية من هذا لكون كل منها يمتد إلى جنسه، فإذا أمن العبد أن بركة كلام الله وأسمائه الحسنى بلغ في الشفاء إلى إزالة هذه الأمراض؛ فقد اعترف لله سبحانه بالقدرة على كل شيء وكفر بالطاغوت في مذهب الطبائعيين. -1836 - الحديث التاسع والستون: [عن أنس، قال: (ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان إبراهيم مسترضعًا له في عوالي المدينة، فكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت وإنه ليدخن، وكان ظئره قينًا، فيأخذه فيقلبه، ثم يرجع، قال عمرو: فلما توفي إبراهيم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين يكملان رضاعه في الجنة)]. * أما حديث الرضاع فقد مضى وشرحنا قصة إبراهيم عليه السلام. فأما كونه - صلى الله عليه وسلم - أرحم بالعيال فإنه من المقامات التي لها تبين حسن خلق المؤمن، فإن العيال في المعنى غرماء يقتضون المؤمن بأنواع هي الديون ما بين قوت ومسكن وكسوة وحوائج شتى على كونهم فهم الأطفال، ولهم زيادة اشتطاط في الطلب، وفيهم النساء المتنوعات الإرادة، والخادم الجاهل فالصبر عليهم من

أفضل الصبر، فإذا كان خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عياله أحسن الخلق، فهو أحسن الناس خلقًا مع جميع الناس. * والظئر: المرضعة، وأما رضاع إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة، فإنه من حيث إن الطفل وقت رضاعه أول مرارات الدنيا عنده الفطام، فلما خرج إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الدنيا وهو يرضع، وأبدله الله عز وجل من لذات الجنة بتكميل رضاعه لتخلف عليه بذلك مرارة الفطام، فيكون هذه أول ما تخلف عليه مما فاته من الدنيا، ثم تنتقل الأحوال به حينئذ في ملاذ الجنة. -1837 - الحديث السبعون: [عن يحيى بن يزيد النهائي قال: (سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة؟ فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ -شعبة الشاك- صلى ركعتين)]. * أما مسيرة ثلاثة أميال فهو الصحيح، والذي شك فيه شعبة في أنه ثلاثة فراسخ، فهو سهو على أنه قد روي عن جماعة من الأوائل، فروي عن ابن عمر أنه قال: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر، وكان أنس يقصر فيما بينه وبين خمسة فراسخ إلا أن هذا لا يعمل عليه اليوم.

-1838 - الحديث الحادي والسبعون: [عن أنس، قال: (بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمر رضي الله عنه بجبة سندس فقال عمر: بعثت بها إلي وقد قلت فيها ما قلت؟ قال: (إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، إنما بعثت بها إليك لتنتفع بثمنها)]. * وهذا قد سبق في مسند عمر رضي الله عنه. آخر مسند أنس بن مالك رضي الله عنه.

المجلد السادس

كلمة موجزة في ترجمة أبي هريرة رضي الله عنه وأخلاقه وما أخرج له من الأحاديث * (الإمام الفقيه المجتهد الحافظ، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،أبو هريرة الدوسي اليماني، سيد الحفاظ الأثبات. *اختلف في اسمه على أقوال جمة، أرجحها: عبد الرحمن بن صخر، والمشهور عنه أنه كني بأولاد هرة برية. قال: وجدتها، فأخذتها في كمي، فكنيت بذلك. *حمل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - علما كثيرا طيبا مباركا فيه-لم يلحق في كثرته-، وعن أبي بكر، وعمر، وأسامة، وعائشة، وأبي بن كعب، والفضل، وبصرة بن أبي بصرة ...). *حدث عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين، فقيل: بلغ عدد أصحابه ثمان مئة، واقتصر جمال الدين المزي فذكر من له رواية عنه في كتب الأئمة الستة. *كان أبو هريرة رجلا آدم، بعيد المنكبين، أفرق الثنيتين، ذا ضفيرتين، لحيته حمراء، يختضب. *أسلم أبو هريرة على يدي طفيل بن عمر الدوسي.

*هاجر إلى المدينة، فعلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - خرج لخيبر، فخرج إليها ووصل خيبر بعد الفتح، وفرت عينه برؤية خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، واطمأن قلبه بهذا الدين، وأثنى عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما رأى من حرصه الشديد وطموحه بملازمته ودعا له. *خرجت أمه-ميمونة بنت صبيح-معه إلى المدينة وهي مشركة، وكان أبو هريرة يخدمها ويدعوها إلى الإسلام وهي ترفض، وتسب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان أبو هريرة لا يهدأ باله بما يراه من أمه، حتى دخل يوما من الأيام على النبي - صلى الله عليه وسلم - مغموما محزونا ملتجئا إليه أن يدعو الله عز وجل أن يدخل الإيمان في قلب أمه، فدعا لها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (اللهم اهد أم أبي هريرة)، فلما وصل أبو هريرة إلى داره قالت له أمه: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. فرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبكي من الفرح، ويقول: يا رسول الله أبشر قد استجاب الله دعوتك وهدى أمي. وقال: ادع الله أن يحببني وأمي إلى عبادة المؤمنين، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم حبب عبيدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين وحببهم إليهما). قال ابن كثير، وهذا الحديث من دلائل النبوة، فإن أبا هريرة محبب إلى جميع الناس؛ وقد شهر الله ذكره بما قدره أن يكون من رواته من أراد هذا الخبر عنه على رؤوس الناس في الجوامع المتعددة في سائر الأقاليم في الإنصات يوم الجمعة بين يدي الخطبة والإمام على المنبر،

وهذا من تقدير الله العزيز العليم ومحبة الناس له رضي الله عنه. *وكان بارًا بأمه؛ اشتد الجوع بأبي هريرة وآخرين، فدخلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبروه، فدعا بطبق فيه تمر، فأعطى كل رجل تمرتين، وقال: (كلوا هاتين التمرتين، واشربوا عليها من الماء، فإنهما ستجزيانكم يومكم هذا)، فأكل أبو هريرة تمرة، وخبأ الأخرى، فقال له رسوله الله - صلى الله عليه وسلم -: (لم رفعتها؟) قال: لأمي، قال: (كلها، فسنعطيك لها تمرتين). *اتخذ أبو هريرة الصفة مسكنا له طول عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينتقل عنها، وكان يتولى شئون من سكن الصفة من القاطنين، ومن نزلها من الطائرتين. *لزم أبو هريرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع سنوات من فتح خيبر إلى وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مخلصًا لله ولرسوله- وحريصا على التلقي والتعليم

والحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟) قال أبو هريرة: أسألك أن تعلمني مما علمك الله)، وعن أبي هريرة، قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: (لقد ظننت يا أبا هرة لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث: إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصا من نفسه). *وعن أبي هريرة قال: إنكم تقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثله! وإن إخواني المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكان إخواتي من الأنصار يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرًأ مسكينًا من مساكين الصفة، ألزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء بطني، فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث يحدثه يومًا: (إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي جميع مقالتي، ثم يجمع إليه ثوابه، إلا وعى ما أقول). فبسطت نمرة عي، حتى إذا قضى مقالته، جمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك من شيء. وعن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله، إني أسمع منك حديثًا كثيرًا أنساه؟ قال: (ابسط ردائك) فبسطته، قال: فغرف بيديه، ثم قال:

(ضمه)، فضممته، فما نسيت شيئًا بعده. قال شمس الدين الذهبي: احتج المسلمون قديما وحديثا بحديثه؛ لحفظه وجلالته وإتقانه وفقهه، وناهيك أن مثل ابن عباس يتأدب معه ويقول: (افت يا أبا هريرة ...). وأشاف الذهبي: وأين مثل أبي هريرة في حفظه وسعه علمه، لقد كان حفظ أبي هريرة الخارق من معجزات النبوة. *وقد استعمل عمر بن الخطاب أبا هريرة على البحرين، فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال يا عدو الله، وعدو كتابه؟، فقال أبو هريرة: فقلت: لست بعدو الله وعدو كتابه، ولكني عدو من عاداهما، قال: فمن أين هي لك؟ قال: خيل نتجت، وغلة رقيق لي، وأعطيه تتابعت، فنظروا، فوجدوه كما قال. فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليوليه، فأبى. فقال: تكره العمل وقد طلب العمل من كان خيرا منك: يوسف عليه السلام، فقال: يوسف نبي ابن نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة بن أميمة. وأخشى ثلاثًا واثنتين. قال: فهلا قلت: خمسًا؟ قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حلم، وأن يضرب ظهري، وينتزع مالي، ويشتم عرضي. وهذه الوقائع تدل على صدقة وكريم أخلاقه وشجاعته.

*وكان أبو هريرة من العلماء العاملين بما عمروا؛ يكثر العبادة والذكر وإكرام الضيف. قال عثمان النهدي: تضيفت أبا هريرة سبعا، فكان هو وامرأته وخادمه يتعقبون الليل ثلاثًا يصلي هذا ثم يوقظ هذا، ويصلي هذا ثم يوقظ هذا. قالت: يا أبا هريرة كيف تصوم، قال: أصوم من أول الشهر ثلاثًا. وعن الطفاوي قال: نزلت على أبي هريرة بالمدينة ستة أشهر، فلم أر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا أشد تشميرًا ولا أقوم على ضيف من أبي هريرة. *مات أبو هريرة -في الراجح- سنة سبع وخمسين من الهجرة النبوية عن ست وسبعين سنة. *مسنده خمسة آلاف وثلاث مئة وأربعة وسبعون حديثًا، أخرج له منها في الصحيحين ست مئة وتسعة أحاديث. ونختم هذه الكلمة الموجزة بقول الذهبي عن أبي هريرة: (هو رأس في القرآن، وفي السنة، وفي الفقه).

مسند أبي هريرة رضي الله عنه

(93/ب) مسند أبي هريرة الدوسي رضي الله عنه أخرج له في الصحيحين ست مئة وتسعة أحاديث. المتفق عليه منها: ثلاث مئة وستة وعشرون. وانفرد البخاري بثلاث وتسعين، ومسلم بمئة وتسعين. -1839 - الحديث الأول من المتفق عليه: [عن عبد الله بن عباس قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمني ذلك وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه). وفي رواية لمسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليدان زناهما البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه)].

*في هذا الحديث من الفقه أن ابن عباس رضي الله عنه حسب ذلك كله من اللمم الذي يغفره الله عز وجل، فإنه قال تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} يعني لا يجتنبون اللمم. وقد يعني ابن عباس النظر والكلام والبطش كله لما، واللمم مغفور. *فأما الذي أراه في ذلك فهو ما تبصره عين عن غير قصد فذلك المغفور، فلذلك سمي لمًا من ألم الرجل بالقوم إذا جاءهم في طريقه إلى غيرهم، فكذلك (94/أ) ما تمشي إليه الرجل من الخطا من غير قصد من الماشي؛ وكذلك نطق اللسان مما يكون من الفرج يصدق جميع ذلك أو يكذبه. والأولى للمسلم كف أطرافه عن ما يتطرق إليه تكذيب الفرج أو تصديقه. *ومعنى قوله: (كتب):قدر، ولا بد من إضافة ما جرى به القدر. -1840 - الحديث الثاني: [عن ابن عباس قال: (قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

المدينة، فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته. قال: وقدمها في بشٍر كثير من قومه، فأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه ثابت بن قيس بن شماس. زاد في رواية:-وهو الذي يقال له خطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطعة من جريد، حتى وقف على مسليمة في أصحابه، فقال: (لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي أريت فيك ما أريت، وهذا ثابت يجيبك عني)، ثم انصرف عنه. قال ابن عباس: فسألت عن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنك الذي أريت فيه ما أريت؟) فأخبرني أبو هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (بينما أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب، فأهمني شأنهما، فأوحي إلي في المنام أن أنفخهما فنفختهما، فطارا، فأولتهما: كذابين يخرجان من بعدي، فكان أحدهم العنسي صاحب صنعاء والآخر: مسيلمة صاحب البمامة). وفي رواية عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (نحن الآخرون السابقون). وقال رسول الله (94/ب) - صلى الله عليه وسلم -: (بينما أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض، فوضع بين يدي سواران من ذهب، فكبرا علي وأهماني، فأوحي إلى أن أنفخهما فنفختهما فطارا، فأولتهما: الكذابين اللذين أنا بينهما؛ صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة)].

*هذا الحديث يدل على كون مسيلمة قد كان يستشف منه كل من رآه منذ كان أنه مبطل لقوله: لو أن جعل لي الأمر بعده لتبعته، وهذا يدل على أنه ليس يوثق بحاله، ومما يدل على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع كثرة دلائله التي كثرت حصى الأرض ونجوم السماء أنه لما رآه ذا تلبيس وباطل لم يرض أن يجعله في مجعل العمال، فقال: لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، وأشار إلى قطعة من جريد كانت في يده معه، والمعنى إذا كنت لا أعطيك هذه، فيكيف أوليك على الناس. ومن دلائل نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له: ولئن أدبرت ليعقرنك الله، فكان كما قال؛ فإنه لما أدبر عن أتباعه عقره الله وقتله. *وقوله: وهذا ثابت يجيبك عني، يدل على أن الرفيع القدر يترفع عن إجابة سفيه القوم، ومن لا يكون إزاء مقامه فإن ذلك جائز، وأراد أن محلك دون أن أجيبك. *وقوله: (وإني لأراك الذي: أريت فيك ما أريت) ثم فسره بما روى في الحديث: أريت في يدي سوارين. وأما اهتمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما رأى في يديه من السوارين، فإنما أهمه ذلك من أجل أن ذلك مما يلبسه النساء. فإذا لبسه الرجال دل على وهن في الحال؛ لأن المرأة ذات وهن، فلما نفخهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطارا، (95/أ)،

فاستدل بذلك على أنهما كذابان يحلان في غير محلهما من جهة أن السوار من حلي النساء، فإذا دلا في يدي رجل فقد كذبا عن المحل الذي عرفا به، فلما طارا بالنفخ وهو أسهل ما يكون من الآدمي، أول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن كذب هادر، لا يؤثر في دينه، وأن نفخه أطارهما، فكان ما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كلامه الحق، ووصاياه الصدق، هي التي اعتمد عليها المسلمون، وتمسك بها المؤمنون حتى قتلوا مسيلمة. وهذا لأن النفخ من حديث يخرج الكلام، فكان هذا التأويل موافقا لما جرى. *والجريد: سعف النخل، الواحدة جريدة، وسميت بذلك لأنه قد جرد منه الخوص. *وقوله: (ليعقرنك الله) أي ليهلكنك. والعنسي اسمه الأسود، وهو صاحب صنعاء، وكان قد ادعى النبوة هو ومسيلمة أيضا. *وأما قوله: (نحن الآخرون السابقون)؛ فإنه يعني نحن الآخرون زمانًا السابقون يوم القيامة إلى الجنة، وأشار بقوله: (نحن الآخرون)، أن كل مدع النبوة بعدي فهو كاذب. -1814 - الحديث الثالث: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (قال الله عز وجل: إذا تقرب

عبدي مني شبرًا، قربت منه زراعًا، وإذا تقرب مني ذراعًا، تقربت منه باعًا، -أو بوعًا- وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة). زاد أبو مسعود: (وإن هرول سعيت إليه، والله أسرع بالمغفرة). وفي رواية: (يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ (95/ب) ذكرته في ملإ خير منهم، وإن اقترب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة). وفي رواية: (أنا عند ظن عبدي، وأنا معه إذا دعاني). وفي رواية لمسلم: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني، والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة، ومن تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإذا أقبل إلي يمشي، أقبلت إليه أهرول). وفي رواية: (إذا تلقاني عبدي بشبر، تلقيته بذراع، وإذا تلقاني بذراع تلقيته بباع، وإذا تلقاني بباع أتيته بأسرع)].

*قد تقدم من هذا الحديث كلمات في مسند أنس وغيره. *وقوله: (أنا عند ظن عبدي بي)، يعني: إنه إن تباعد ظنه فبلغ أقصى مبلغ من الأماني العريضة والآمال الطويلة، فإني عند ظنه كما أنه إن جهلني عبدي فظن في ظنا ضعيفًا فأملني أملا صغيرًا، فلم يتسع أمله لسوء ظنه بجودي، كان الحد الذي انتهى إليه قصور نفسه، هو الذي حبسه عن النيل لما أدركه أهل حسن الظن. *وقوله: (وإن ذكرني في نفسه)، يدل على أن الذكر ف النفس خير من الذكر في الناس؛ لأن من يذكر الله في نفسه خير ممن يذكر الله في ملأ، إلا أن ذكره في نفسه قد يبدو عليه، ويغلب فيذكره في ملأ؛ فوعده الله أنه يذكر في ملأ خير منهم، وذلك أن يذكره جل جلاله في الملائكة المقربين مثل أن يقول سبحانه: نعم العبد فلان، فلو قد مشى العبد على حر وجهه طول عمره في طاعة الله عز وجل حتى يسمع تلك الكلمة أو حتى يقال عنه في ذلك الملأ؛ لكان ذلك يسيرًا، إلا (96/أ) أن الله عز وجل من على هذه الأمة بالعافية فلا يعرضهم لما لا يطيقونه بل يرفق به ويلطف. *وأما حديث الضالة فقد سبق في مواضع منها مسند ابن مسعود. *وقوله: (إذا تلقاني عبدي بشبر). هذه التاء متعلقة بمضمر تقديره شبر من القرب إلى تلقيته بذراع من السعي في معونته أو بشبر من البعد عن ما أكرهه تلقيته بذراع من البعد عن ما يسوؤه، فلما أضمر هذا المذكور ولم

يظهر احتمل هذه الأشياء وجنسها مكان ذلك فضلا فوق الفضل، وطولا فوق الطول. فأما ذكر الباع فإنه غاية ما ينتهى إليه امتداد خلق الآدمي، وأسرع في وزن أفعل؛ فلابد له أن يقتضي مذكورًا، فلما لم يذكر شيئًا، تناول كل محتمل أن يذكر، كقولنا: بأسرع مما جاءني به أو بأسرع في القلب إليه أو بأسرع في المعونة، أو بأسرع في النصر له، أو بأسرع في إغنائه عن ضري إلى غير ذلك. *وقوله: (لله أفرح بتوبة عبده)، قد مضى تفسيره، وأشير إليه، فأقول: إنه حيث أنطق الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - مخبرا عن فرحه سبحانه بتوبة عبده وبلوغه إلى هذا المبلغ الذي ذكره، فإنه لمستدع يستحدب منتهض فطن التائبين إلى أن يكونوا لو استطاعوا أن يطيروا فرحا لطاروا، وإن لو قدروا أن يملأوا أكوان الوجود بسرورهم لملأوا؛ لأنه إذا فرح ربهم؛ الذي هو غني عنهم، ولا حاجة به إليهم، وأنه سبحانه سواهم وأعواض منهم هكذا، فكيف ينبغي أن فرح العبد التائب بربه، وهو الفقير إليه الذي ليس له سواه ولا (96/ب) عوض منه، ولا له حاجة إلى غيره، وعلى هذا فينبغي للممنين أن يفرحوا لأخيهم التائب وبه ولأجله؛ فإنه مقام سرور قال: ذلك هو متاب من ذنب .... ووراه المتاب من التقصير والمتاب من التأخر، والمتاب من ترك الأفضل، والمتاب من إيثار الأدنى على الأعلى، والمتاب من الرضا عن النفس في قناعتها لربها بمبذول أو من ربها بمسؤول، أو هكذا في كل متاب يلهمه الله عز وجل المؤمنين من

عباده إذا جعلوا الطريق إلى معرفته تصفية الأعمال، وأكل الحلال، وقولي: أكل الحلال له معينان: أحدهما، أن يكون لا يتناول المؤمن إلا ما أفتاه الشرع بحله. والمعنى الآخر، أنه لا يتورع المؤمن من أكل حلال أفتاه الشرع فأكله؛ فإن تحريم الحلال كتحليل الحرام. -1842 - الحديث الرابع: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله). وفي رواية: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)]. *هذا الحديث قد سبق في مسند عمر، وتقدم الكلام على الله. -1843 - الحديث الخامس: [عن أبي هريرة: قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا تقوم الساعة

حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة) وذو الخلصة: (97/أ) طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية. زاد مهمر: (بتبالة)]. *ذو الخلصة: بيت كان فيه صنم لدوس وخثعم وبجيلة، وكان يسمى الكعبة الثمانية، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جرير بن عبد الله لهدمه، وعقد له لواء فهدمه، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الناس يعودون في آخر الزمان إلى بنائه والعكوف عليه، ويكون ذلك من أشراط الساعة حتى وصف حرص النساء على السعي حول ذلك الصندم حتى تضطرب أليات النساء، وهي جمع إلية، وهي الفحش. -1844 - الحديث السادس: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز، تضيء أعناق الإبل بببصرى)].

*هذه آية من آيات القيامة، وهي امتداد ضوء النار من أرض الحجاز إلى بصرى، وهي من أرض الشام. -1845 - الحديث السابع: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفس محمد بيده، لتنفقن كنوزهما في سبيل الله). وفي رواية: (هلك كسرى، ولا يكون كسرى بعده، وقيصر ليهلكن ثم لا يكون قيصر بعده، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله)]. *قد سبق الكلام في هذا الحديث، وبينا أن هذا من الدلائل على صحة نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه أخبر بما سيكون فكان على ما أخبر، وأن الله تعالى مزق ملك كسرى وقيصر، وغلب المسلمون الحربين، وأنفقوا كنوزهما في سقبيل الله، وهذا من أخباره - صلى الله عليه وسلم - بالغيوب، وهو من أعظم دلائله (97/ب) - صلى الله عليه وسلم -؛

لأنه جمع بين أمرين عظيمين يعجز عنهما قدرة كل بشر، ويضيق بهما ذرع كل مخلوق، وهو أنه أشار إلى مهلك كسرى وقيصر، وهما ملكا الخافقين من المشرق والمغرب في قوة جنودهما، وتضاعف عساكرهما، ويوم قوله - صلى الله عليه وسلم - كسرى في عنفوان ملكه؛ وكذلك قيصر في أثر يزياد تطاوله؛ وقد امتد لكل منهما الملك عن أنباه واحدًا، وثبت في عنصره واسونح أمره، ونائل ملكه، واستحكم عقده، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمهلكهما جميعًا، ونزعهما من ملكهما مقهورين مغلوبين بأيدي أمته حتى قال: ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله. *ثم المعنى الآخر قوله: وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن بعد مهلكهما لا يقوم لهما عمد، وأن نارهما لا تضيء بعد أن تخبو، وعامر حدهما لا ينهض بعد أن يكبو، فكان كما قال - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله هو الذي أطفأ نارهما فلم يشب، وصغر حدودهما، وأخل أمرهما فلم تستتب، فهو من دلائل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القاطعة، وحججه الظاهرة البارعة، ومن كان ذا لب سليم وعقل مستقيم، فإنه لا يبقى عنده شك، ولا يخالطه ارتياب في أن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما استتب واستمر لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أظهره وشاده، وقواه وعضده، فلم يقم له ملك من ملوك الأرض، ولم يثبت بين يديه جبار من جبابرة الدنيا. *ولقد جرى لي في هذا أنه لما كنت بالمخزن حضر عندي فيمن يحضر (98/أ) من كتاب معاملات المخزن رجل من أهل الذمة يعرف بفرح بن كمونة، فقال فيما قال: إنه كان له جد يعرف بغنايم بن كمونة، وكان كاتبا بالمخزن، وكان ابن عمه متعبدًا في يهدويته؛ حتى إنه مرض مرضة فلم

يستعمل الدواء رضا بما يقضى عليه، حتى أرسل إليه المعروف ببركات الطبيب يقول له: إن المتداوين لم يتداووا على أنهم لا يرضون بأقدار الله فيهم؛ ولكن أرادوا أن يدبروا أبدانهم بالصواب. وهذا الكلام من بركات فهو كلام واهن انلطق إلا أن معناه صحيح، ولا أخاله إلا قد سمعه من بعض علماء المسلمين ثم لم يحسن أن يعبر عنه. *والصحيح في ذلك أن يقال: إن النفس مع الآدمي وديعة لله في يده، فهو على مثل الصبي في حجر الوصي، فلا يصلح أن يدبرها إلا بأصوب التدبير؛ فإن الوصي لو أهمل الطفل حتى تجري عليه الآفات معتذرا بالأقدار لكان ملومًا، من حيث إنه أساء القيام على من أوصي بالقيام عليه، وإن كانت الأقدار جرت عليه بما لو أحسن هو التدبير لم يكن تجر إلا بمثله؛ ولكن فاتت هو أن يقوم بما عليه؛ ثم انفصل المجلس؛ فأفكرت في قول ذلك الكافر من مدحه لجده توطئه لمدح دينه، وكيف لم أجبه عنه. *ثم إني بعد ذلك فتح الله لي من الجواب ما أنا ذاكره: وهو أني استدعيته، فحضر ومعه كافر آخر، وأحضرت أنا معي مسلمًا ثم استعدت منه الحديث فاعترف بما قاله منه، فقلت له: أتراك قد استدللت بهذا على أن اليهودية دين حق، إذ يوفق المبطلون للتوكل والقوة على ترك الدواء، وأشار بأن: نعم، فقلت له: فماذا تقول فيمن يعتمد هذا منا معشر (98/ب) المسلمين، وأضعاف ما تعمده جدك هذا، ونحن عندك على ما تعلم، وكذلك ما يعتمده بعض النصارى من ذلك، فلا يستدل بضمن هذا على صحة ما علية فاعلة من الدين، فكأنه اعترف لي. فقلت له: فالآن يخطر في قلبك أنك تقول: فكيف يجري الله طاعاته من التوكل والقوة في الأمور الصالحة على أحوال بغضائه وأعدائه، فتبسم

إلي تبسم المصدق لي على أني وقفت على ما في قلبه، فقلت له: إن الله لا يبغض الطاعة، ولكن إذا وازنت ذلك بما قد آتاه هذا المطيع من المعصية، رجع به العصيان، وقس ذلك أنه لو أن هذا أمير المؤمنين، وعنيت به المقتفي رضي الله عنه إذ ذاك، وكنت حينئذ مشرفا بالمخزن ولا أعلم الغيب ولكن أنطقني الله سبحانه الذي أنطق كل شيء نصب وزيرًا، فقال للناس: هذا مني ومنكم، فمن أراد إلي حاجة فليقلها إليه ليذكرها هو لي، فأطاع الناس إلا واحدًا، قال: أنا أطيعك فيما بيني وبينك من غير واسطة الوزير، ضعفي ما أطيعك في وساطته لكان من الحق أنه هو يقول: إني لا أقل ذلك وأنكره، وذلك لا لأني أحب الطاعة، ولكن من أجل أن هذا القول هو وإن كان يقرب من جهة طاعتي؛ فإنه تباعد كل الأبعاد عني من حيث الطعن في تدبيري، والتسوية لرأي فهل هذا حقي، فضحك الكافر على معنى أذكره. فقلت له: مهلا، بقي أنه صبت أنه وزيره، وعنيت به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فضحك مصدقًا لي في إصابتي لما في نفسه. فقلت له: الآن يقول الله عز وجل: يضاعف لكم يامخالفين سخطي لأن غضبي كان عليكم من حيث إنكم طعنتم في تدبيري (99/أ)، والآن فقد استبان طعنكم في وجودي؛ فإنه من ظن أن محمد قدر على ما قدر عليه من الاستيلاء على الأرض، وقهر ملوكها، ونسخ الشرائع التي كانت بين يديه فيها، وتحليل ما حلل، وتحريم ما حرم، ووضع ما وضع، ورفع ما رفع، وقسمه للمواريث، وشرع الشريعة، ووضع الفقه، وإراقة الدماء وحقنها، وإباحة الفروج وصونها مسندًا ذلك كله إلى، ومقرنا بزعكم قاتلكم الله على، ثم يستمر له ذلك ويستتب وال يدفع إلى يوم القيامة، فإن هذا لا يطيقه إلا من لا يرى أني موجود؛ إذ لا يرضى بإقرار الكذب عليه أحدكم، فكيف بخالق السموات والأرض؟!

فرأيته قد انتفع لونه، حتى ظننت أنه يمد يده ليسلم. فقلت له: ولا يظن أن هذا من علمي؛ ولكن الله سبحانه وتعالى علمنيه من استنباط كلامه العزيز؛ حيث يقول: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين}، وقوله سبحانه: {وما قدروا الله حق قدره إذا قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} يعني جل جلاله أنه من كان تقدم أو تجرأ على أن يدعي أن الله أنزل عليه كتابًا كاذبًا ثم يترك ولا يخسف الأرض به، وال تخر الجبال عليه، ولا تسقط السماء كسفًا من فوقه، ثم قال: {من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس}؛ يعني سبحانه وتعالى أن موسى عليه السلام ليس في الوجود اليوم من يعترف ببعثه الرسل إلا وهو يقر بكتاب موسى. وقوله سبحانه: {نورًا وهدى}، يعني سبحانه أنه يأتي بالنور والهدى (99/ب) إلا بحق وفقه الله وهداه لقوله سبحانه: {وهدوا إلى الطيب من القول}. وقوله سبحانه: {تجعلونه قراطيس تبدونها} أي في قراطيس تكتب وتضبط، ويحصر عليهم ما جاءوا به ونطقوا، أي ليس فيهم مغالط ولا من يخشى عاقبة درك ما جاء به، وقال سبحانه {ومن أظلم ممن افترى على الله

كذبًا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء} إلى غير ذلك من الآيات، ثم إنه أدركته الشقوة فانسل. -1846 - الحديث الثامن: [عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد؛ فيستهل صارخًا من مس الشيطان إياه، إلا مريم وابنها). ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}. وفي رواية: (ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسه الشيطان إلا ابن مريم وأمه). وفي رواية: (كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم، ذهب يطعن فطعن في الحجاب). وفي رواية: (كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها). وفي رواية: (صياح المولود حين يقع نزغة من الشطيان)].

*في هذا الحديث ما يدل على شدة عداوة هذا العدو الكافر؛ لأنه بلغ من عداوته أنه إذا رأى الطفل حين ولادته على ضعفه ووهنه بادر إلى نخسه حتى يستهل صارخًا، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمنا هذه عداوته ليكون الطفل حذرًا (100/أ) من نزغاته. *وفيه أن الله تعالى سلم مريم وابنها منه، باستعاذة أم مريم هو قولها: {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} فدل هذا على أنه يستحب لكل مؤمن أن يستعيذ بربه لذريته من الشيطان الرجيم. وقد ذكرنا في مسند ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما من إنسان يدنو من أهله فيقول: اللهم جنبني الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتني، فيقضى بينهما ولد إلا لم يضره الشيطان) أو كما قال. *والاستهلال: رفع الصوت والمراد به الصياح. والحجاب: المشيمة والمراد أنه لم يصل إليه. ونزغة الشيطان: قصده الفساد. *وفيه أيضًا من التنبيه على أن الشيطان ينخس المولود نخسًا فيستهل صارخًا، وعلى هذا فإنه نخس الآدمي في اطنه بنزغاته بالنخس الذي لا يدركه حسه؛ ولكن يدركه إيمانه وعقله، فينبغي أن يكون على أقل أحواله إذا رأى تأثير تلك النزغة عنده أن يدملها بالحجة، فإن لم يقدر فليقنع

بحالة الطفل في الصراخ من شرها غير ساكن معها ولا مطمئن إليها، فإن الشيخ أبا عبد الله محمد بن يحيى رحمه الله كان جالسًا عندي في يوم وهو يكرر ذكر الله عز وجل أحسب أنه يريد تميم ذلك ألف مرة أو عشرة آلاف مرة، فبينما هو في الذكر كان يصيح في أثنائة، ففهمت الحالة وسألته: لم يصح؟ فقال: الإنسان في حرب أو محاربة. -1847 - الحديث التاسع: [عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفسي (100/ب) بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد). وفي رواية: (حتى تتكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها)، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته}. وفي رواية: (كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم، وإمامكم منكم)، وفير رواية: (فأمكم منكم). وقال ابن أبي ذئب: تدري ما أمكم منكم؟ قلت: تخبرني، قال: فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم -.

وفي رواية: (والله لينزلن ابن مريم حكمًا عادلا، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليطعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتخاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد)]. *في هذا الحديث من الفقه الإيمان بنزل عيسى بن مريم وكونه صلى بملة الإسلام. *وقوله: فأمكم منكم فيه قولان: أحدهما: فيؤمكم وهو منكم، أي إنه على دينكم ليس على دين النصارى. والثاني: فيؤمكم منكم، أي إن إمامكم منكم، وهو يصلي خلفه، وفي هذا تنبيه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن الإسلام لا يجوز نسخه، وأنه الدين الذي بعث الله به آدم، ووصى به نوحًا، ويختم به في آخر الأمر عيسى بن مريم. *وقوله: ليوشكن: القرب. والقسط: الحكم بالعدل. *ومن فوائد بقاء أهل الكتاب أن ينزل عيسى وقد بقي أقوام يعبدون

الصليب فيكسره، ومن يكون له منهم مال يضرب عليه الجزية، وعى أن الأشبه في قوله: ويضح الجزية أن يكون وضعها (101/أ) إسقاطها. *ويجمع بين قوله: (لا نبي بعدي) ومن نزول عيسى، بأن عيسى كان في الدنيا داعيًا لأمته، ثم ينزل بعد درفعه لأجل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لما جاء بالحق من عند الله جز وجل فكذبه اليهود، وادعوا على أمه بما ادعوا، قام محمد - صلى الله عليه وسلم - بالحق من المنافحة عنهما، فيما عصوهما به، بإبطال ما كانت عليه اليهود، وبرأه الله تعالى على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - من كل ما قرفوه به، وشهد بأنه روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، ووعد بالصلاة عليه، والإيمان به، وأنه رسول الله وعبده وكلمته، ثوابًا بالجنة. *كما أنه - صلى الله عليه وسلم - لما رأى أن آخرين قد أعطوه من الأمر ما لم يرضه هو، وادعوا أنه ولد الله تعالى الله عن ذلك فكذبهم فيما ادعوه، وشهد هو وأمته بكفرهم وضلالهم، فكان المعنى في أنه استأهل منه - صلى الله عليه وسلم -، فحيث برأه من هاتين العوارين؛ مما قالت فيه اليهود من الباطل والبهتان، وما قالت فيه النصارى من الإفك والعدوان، فنزل هو عليه السلام في آخر أمته مشيدًا لأمره حكمًا مقسطًا أي عادلا، يكسر الصليب، ويأخذ الجزية التي شرعها نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فيكون عيسى في معنى تتميم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقوية برهانه، وإظهار علو شأنه - صلى الله عليه وسلم -. *وقوله: (ليتركن القلاص فلا يسعى عليها)؛ فلا أظنه إلا لكثرة الخير، فلا يحتاج أحد إلى ضرب في الأرض.

وأما فيض المال فلكثرة الخير، وقلة الراغبين فيه مما عندهم. وذهاب الشحناء والتحاسد والتباغض إنما سببه كثرة (101/ب) الخير واتساع الخير عند رخاء العيش. -1848 - الحديث العاشر: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يتقارب الزمان، وينقص العلم، ويلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج)، قالوا: يا رسول الله! أيها هو؟ قال: (القتل القتل). وفي رواية: (يتفاوت الزمان، وينقص العلم)، وفيه: قالوا: وما الهرج؟ قال: (القتل). وفي رواية: (يقبض العلم، وتكثر الفتن، ويكثر الهرج)، قيل: يا رسول الله! وما الهرج؟، قال هكذا بيده؛ فحرفها كأنه يريد القتل. وفي رواية ذكرها البرقاني وأبو مسعود: (لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالون، كلهم يزعم: أنه رسول الله، وحتى يقبض العلم، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج). قالوا: يا رسول الله! وما الهرج؟ قال: (القتل القتل). وفي رواية: (لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض، حتى يهم رب المال من يقبض منه صدقته). وقال: (يقبض العلم، ويقترب الزمان،

وتظهر الفتن، ويكثر الهرج). وذكر أبو مسعود: (لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبله منه، ويدعى إليه الرجل فيقول: لا أرب لي فيه). وفي رواية لمسلم: (لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض، حتى يخرج الرجل بزكاة ماله، فلا يجد أحدًا يقبلها منه، وحتى تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا)]. *في هذا الحديث من الفقه أن تقارب الزمان على ما قيل أنه اقتراب الساعة، والذي أراه في ذلك: أنه تقارب آجال الناس، لأن أجل كل إنسان زمانه، فإذا تقارب الزمان يعني من الكل كان آجال (102/أ) الناس مقاربة أي قصارًا. *وقوله: (يلقى الشح)؛ فإن الذي أراه فيه أنه لمعنى يطرح في القلوب ويوضع فيها أي يفرغ فيها، فيكن في الأرض.

*وقوله: (ويقبض العلم) وذلك بموت العلماء، وقلة حملة العلم، وقد مضى ذكر الدجال. وأما ذكره فيض المال مع كون باقي هذا الحديث يناسب الشدة وفيض المال ضده، لأنه مناسب للرخاء، فلا أراه يكون إلا أن ذلك عند نزول عيسى، وقد تقدم ذكرنا له. *وقوله: (حتى يهم رب المال من يقبض صدقته)، دليل على أنه لا يكون ذلك إلا في الرخاء وعند نزول عيسى عليه السلام. -1849 - الحديث الحادي عشر: [عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يقبض الله تعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، فيقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض)]. *أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر طي السماء، وقبض الأرض، إلى أن كلما كانت ملوك الدنيا تزاحم في ناحية منها بعضها بعضًا، فإن الله سبحانه في قبضته الجميع يوم القيامة كما قال عز وجل، فقد انعزل ملوك الدنيا فذهب ملكهم كما ذهبوا.

-1850 - الحديث الثاني عشر: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قومًا نعالهم الشعر، ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قومًا كأن وجوههم المجان المطرقة). قال سفيان: وزاد فيه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رواية: (صغار الأعين، ذلف الأنوف، كأن وجوهم المجان المطرقة). وفي رواية: (تقاتلون (102/ب) بين يدي الساعة قومًا نعالهم الشعر، كأن وجوهم المجان المطرقة، حمر الوجوه، صغار الأعين). وفي رواية البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: أتينا أبا هريرة، فقال: (صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنين، لم أكن في سني أحرص على أن أعي الحديث مني فيهن. سمعته يقول: -وقال هكذا بيده- (بين يدي الساعة تقاتلون قومًا نعالهم الشعر، وهو هذا المبارز). وقال سفيان مرة: وهم من أهل البارز (يعني أهل فارس). وفي رواية: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قومًا نعالهم الشعر، وحتى تقاتلوا الترك صغار الأعين حمر الوجوه، ذلف الأنوف، كأن وجوههم المجان المطرقة، وتجدون خير الناس أشدهم كراهية لهذا الأمر حتى يقع فيه. الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وليأتين على أحدكم زمان لأن يراني أحب إليه من أن يكون له مثل أهله وماله).

وفي رواية: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزا وكرمان من الأعاجم، حمر الوجوه، فطس الأنوف، صغار الأعين، كأن وجوههم المجان المطرقة، نعالهم الشعر). وفي رواية لمسلم: قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل السلمون الترك، قومًا وجوههم كالمجان المطرقة، يلبسون الشعر، ويمشون في الشعر)]. *في هذا الحديث من الفقه أن الله تعالى أظهر ما وعد نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وحقق صدقه في ذلك، وأنه - صلى الله عليه وسلم - حلاهم بتحلية شملت كل صغير منهم وكبير، وذكر وأنثى من كونهم صغار الأعين، ذلف الأنوف، وكأن وجوههم المجان المطرقة، وليس في جميع الأجناس جنس يشتمل جميعه هذه (103/أ) التحلية إلا الترك. والمجان جمع مجن، وهو الترس. قال أبو عبيد: المطرقة التي أطرقت بالجلود والعقب؛ أي ألبست. وقوله: (تجدون خيار الناس أشدهم كراهية لهذا الأمر حتى تقع فيه)؛ يعني أن المجود إذا كان محيدًا في الكفر كان أحرى التحويل في الإسلام إذا

هداه الله، ويكون المراد بالأمر الإسلام. *وقوله: (ليأتين على أحدكم زمان لئن يراني أحب إليه من أن يكون مثل أهله وماله)؛ فالذي أرى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا قال هذا من أجل أشياء يختلف فلا يكن عند الإنسان أهم من أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسأله عنها. ولقد جرى لي في مثل هذا منام عجيب، قد ذكرته في موضعه الذي اقتضاه، وأعيده هاهنا لكون الكلام الذي نحن فيه يقتضي ذكره، ففي المواضع الأول ذكرته للاحتجاج لصحة توبة القاتل، وذكرته هاهنا لهذا المعنى الآخر. ولقد كنت يومًا أنا وختن لي ومعنا آخرون فجرت مسألة القضاء والقدر، فكان فيها بيني وبينهم كلام طويل، إال أنه كان من الكلام التعجب من كون المغفرة تقع للقاتل على ما فيه من هضم حق المقتول. ثم تفرقنا وقد اطلع الله سبحانه وتعالى على قلبي ورأى ما فيه من يمنى الإصابة للحق في تلك المسألة. فنمت فرأيتني في مسجد قد رأيته في النوم مرارًا إلا أني أعرفه في اليقظة، فيه رجل جالس، فألقى في نفسي أنه بعض العلماء من التابعين أو نحوهم فاستأذنته في أن أسأله فأذن لي. فقلت له مسألة القضاء والقدر، فقال لي: أهذه مسألتك؟ اصبر حتى نصلي الجمعة، وأجيبك (103/ب)، فقام من مقامه ذلك، فرقى المنبر وخطب، وجلست في الصف الأول، إلى أن قضى خطبته، أوقع الله في نفسي أن أقول له: هل سأل أحد عن هذه المسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم لا؛ ليكون جوابه عن فتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا عن فتياه، فتحرر هذا في نفسي.

ثم إن ذلك الشخص نزل فصلى بنا إمامًا وصليت خلفه، ثم عاد إلى مجلسه ذلك، فجئت فقلت له: هذه المسألة ما سأل أحد عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: بلى، فقلت: من؟ قال: المرأة التي قضيتها مشهورة، فقلت له: وماذا قال لها؟، فقال: قال لها: (يغفر الله لك)، ثم استيقظت، ولا أعلم ما معنى هذا القول. فأصبحت إلى الموضع الذي كنت فيه مع ذلك الختن، فصليت معه الصبح في جماعة، ثم جلسنا نتحدث فذكرت له المنام، فعجب منه تعجبًا شديدًا، وقال لي: إنك بعد أن خرجت من عندي، نظرت في هذا الكتاب، وهو كتاب (تنبيه الغافلين) لأبي الليث السمرقندي، فوجدت فيه هذا الحديث، (وهو أن أبا هريرة قال: أتتني امرأة فقالت لي: يا أبا هريرة، سل لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن امرأة زنت ثم قتلت، هل لها من توبة؟. قال أبو هريرة: فقلت لها: لقد هلكت وأهلكت، فانصرفت عني، ثم قلت: أفتي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا، فجئت إليه وقلت: يا رسول الله! لقد استقبلتني اليوم امرأة بأمر هائل، فقال: (وما ذاك)، فقلت: إن امرأة قالت لي: سل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المرأة زنت ثم قتلت، لها من توبة؟ فقال: (وماذا قلت لها؟) قال: إني قلت لها: قد هلكت وأهلكت. فقال رسول الله (104/أ) - صلى الله عليه وسلم -: (بل أنت هلكت وأهلكت يا أبا هريرة، اذهب إليها وقل لها: إن الله يغفر لك). قال: (فخرجت أطوف عليها المدينة فلم أجدها، فطفقت أقول: من رأى لي امرأة صفتها كذا وكذا حتى كان الصبيان يسعون في أثري ويقولون: جن أبو هريرة). قال خنتي: وإني أعلمت على هذا الحديث لأريك إياه فعجبت من ذلك

وحمدت الله سبحانه وتعالى. وإنما ذكرت هذا في هذا الموضع من أجل أن أشد ما كان عند العلماء مهما أن يروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليسألوه عن الذي يحيك في صدورهم بما لا يجدون فيه شفاء، كما قال عمر رضي الله عنه: ثلاث وددت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلينا فيهن؛ فذكر الحديث. *وقوله: فطس الأنف، الفطس: انفراش الأنف وطمأنينة وسطه. والذلف: الاستواء في طرف الأنف. وقال الزجاج: قصر الأنف وصغره، فشبه عرض وجوههم ونتوء جباههم بظهور الترسة. *وقوله: الناس معادن؛ شبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس بالمعادن؛ فمنهم من يكون صالحًا، ويكون ما يدرونه في الغالب على جنسهم، فإذا بدر من لا يشاكلهم استنكروه فلذلك قال: {يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوٍء وما كانت أمك بغيا}. فينبغي للإنسان أن يعلم أن هذا يقع في الأكثر، وقد ندر أن يأتي الخبيث من الطيب، ويأتي الطيب من الخبيث. -1851 - الحديث الثالث عشر: (104/ب) [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يلدغ المؤمن من

جحر مرتين)]. *يروى بضم الغين على معنى الخبر، وبكسرها على معنى الأمر. قال أبو سليمان الخطابي: وهو لفظ الخبر ومعناه الأمر. يقول: ليكن المؤمن حازمًا حذرًا لا يؤتى من ناحية الغفلة في الدين والدنيا، ومبتغيات الأمر أن العبد المؤمن ينظر ما يجري له من حركاته وسكناته أن كلها من الله سبحانه وتعالى، فإذا أيقظه مرة لشأن ما، فينبغي له أن يكون فطنًا ولا يتعرض لإيقاظ في العذر له مرة أخرى. وقد روى أن سبب هذا الحديث أن أبا عزة الشاعر لما من عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأطلقه يوم بدر وشرط عليه أن لا يذكره بسوء، فخرج محرضًا عليه، فلما ظفر به ثانية، فقال: من علي قال: لا تمسح عارضيك بمكة، وتقول: سخرن من محمد مرتين، وال: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين). -1852 - الحديث الرابع عشر: [عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (اللهم فأيما عبد مؤمن سببته؛ فاجعل ذلك له قربة إليك إلى يوم القيامة).

وفي رواية: (اللهم إني اتخذت عندك عهدًا لن تخلفنيه، فأيما مسلم سببته أو جلدته فاجعل ذلك كفارة له يوم القيامة). وفي رواية: (اللهم إنما أنا بشر، فأيما رجل من المسلمين سببته، أو لعنته، أو جلدته، فاجعلها له زكاة ورحمة). وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اللهم إني أتخذ عندك عهدًا لن تخلفنيه، فأي المؤمنين آذيته، شتمته، جلدته، لعنته، فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة). وفي رواية أنه (105/أ) قال: (أو جلدة)، وهي لغة أبي هريرة. وفي رواية: (إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر، وإني اتخذت عندك عهدًا لن تخلفنيه، فأيام مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته، فاجعلها له كفارة وقربة بها إليك يوم القيامة)]. *قد مضى هذا الحديث وتفسيره. -1853 - الحديث الخامس عشر: [عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يدخل من أمتي

زمرة -وهم سبعون ألفًا- تضيئ وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر)، قال أبو هريرة: فقام عكاشة بن محصن الأسدي فرفع نمرة عليه، فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم اجعله منهم)، ثم قام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله! ادع الله لي أن يجعلني منهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (سبقك بها عكاشة). وفي رواية: (يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفًا بغير حساب)، فقال رجل: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: (اللهم اجعله منهم)، ثم قام آخر، فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: (سبقك بها عكاشة). وفي رواية: (يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا زمرة واحدة منهم على صورة القمر)]. *قد سبق هذا الحديث والكلام عليه في مسند عمران بن حصين.

..........................

-1854 - الحديث السادس عشر: [عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمك عنده تسعة وتسعين، وأنزل (105/ب) في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه). وفي رواية، قال: (إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون؛ وبها يتراحمون، وبها تعطف

الوحش على أولادها، وأخر الله تسعًا وتسعين رحمة، يرحم الله بها عباده يوم القيام). وفي رواية: (خلق الله مائة رحمة؛ فوضع واحدة بين خلقه، وخبأ عنده مائة إلا واحدة). وفي رواية: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائًة رحمٍة، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة، وأرسل ف ي خلقه كلهم رحمة واحدة؛ فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار)]. *في هذا الحديث من الفقه أن هذه الرحمة مخلوقة، فأما رحمة الله التي هي صفة من صفاته فقديمة غير مخلوقة؛ فكل ما يتراحم به أهل الدنيا حتى البهائم في رفعها حوافرها عن أولادها؛ لئلا تؤذيهن فإنه عن جزء مثبت في العالم فمن تلك الرحمة، وإن الله سبحانه أعد تسعًا وتسعين رحمة ادخرها ليوم القيامة؛ ليضم إليها هذه الرحمة الأخرى ثم يثبتها قلوب عباده ليرحم بعضهم بعضًا، يكون كل ما تراحم به المتراحمون مذ قامت الدنيا إلى يوم القيامة جزءًا من مائة جزء من الرحمة التي حددها الله عز وجل في قلوب عبادة يومئذ ليعفو المظلوم عمن ظلمه رحمة له مما يرى من هول ذلك اليوم، فيعود شفيعًا فيه، وسائلا في حقه، كالمشتوم عمن شتمه، والمغصوب عمن غصبه، (106/أ) والمؤذي عن من آذاه. *وأن قوله: (يرحم بها عباده)، فإنه لما يوضع في قلوبهم تلك

الرحمة؛ كان وصفه رحمة للظالم والمظلوم معًا ليهب هذا لهذا، ولو أنه سبحانه يولي رحمة عبادة من غير سؤال من المظلوم ولا شفاعة من المجني عليه لكان يكون في ذلك انكسار للمظلوم واستمرار لبعد انتصاره، فلما أن الحق له والقصاص بيده ثم أفرغ في قلوبه من الرحمة ما أفرغ، عاد هو الشفيع، ويكون المنة عليه والضعية عنده في العفو عن الجاني، فلهذا فهو من المواعيد الصادقة التي جعلها الله سبحانه وتعالى يجب أعطيه من حكمته يشير بها إلى أهل العلم أنه سبحانه وتعالى يظهر يوم القيامة عن كل صفة من صفاته ما لم يكن ولا يكون طوق أحد ولا قدرة مخلوق بالغة مبلغ كنه، وصفها فمنها رحمته وعفوه، وتمام الحديث مصداق لهذا الشرح، وهو قوله: فلو يعلم الكافر كل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولم يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار. -1855 - الحديث السابع عشر: قال: ([عن ابن المسيب البحيرة: التي يمنع درها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة: كانوا يسيبونها لآلهتهم، لا يحمل عليها شيء-قال: وقال أبو هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبة في النار، كان أول من سيب السوائب). وفي رواية: (رأيت عمرو بن لحي بن قمعه بن خندف، أخا بني كعب، وهو يجر قصبه في النار). وفي رواية: (أبو خزاعة)].

*في هذا الحديث ما يدل على أن كل مبدئ بسنة سبيئة كفلا من وزرها (106/ب) من غير أن ينقص ذلك من وزر فاعلها شيئًا، وإنما أرى الله عز وجل رسوله عمرو بن عامر يجر قصبه في النار -والقصب: المعاء- حتى يزجر بذلك أمته عن أن يسيبوا سائبة أو يسنوا سنة سيئة. والسائبة: أن الجاهلية كانوا إذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلهن إناث سيبت؛ فلم تركب ولم يجز لها وبر، وهذا من عاداتهم القبيحة. -1856 - الحديث الثامن عشر: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (قلب الشيخ شاب على حب اثنتين: طول الحياة، وحب المال). وفي رواية: (حب العيش والمال)]. *قد سبق هذا وشرحه في مسند أنس بن مالك. -1857 - الحديث التاسع عشر: [عن أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر، فقال لرجل ممن

يدعي الإسلام: (هذا من أهل النار) فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالا شديدًا، فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله! الرجل الذي قلت له آنفًا: إنه من أهل النار؛ فإنه قد قاتل اليوم قتالا شديدًا وقد مات. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إلى النار)، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل: إنه لم يمت، ولكن به جراحًا شديدًا، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسوله) ثم أمر بلالا فنادى في الناس: (إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)]. *قد سبق شرح هذه القصة، وذكرنا اسم هذا الرجل، وبينا أنه (107/أ) من المنافقين في مسند سهل بن سعد.

-1858 - الحديث العشرون: [عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (للعبد المملوك المصلح أجران)، والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله، والحج، وبر أمي: لأحببت أن أموت وأنا مملوك. زاد في رواية: وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه، لصحبتها. وفي رواية بشر بن محمد: (للعبد المملوك المصلح). وفي رواية: (نعم ما لأحدهم: يحسن عبادة ربه، وينصح لسيده). وفي رواية: (إذا أدى العبد حق الله عز وجل، وحق مواليه كان له أجران)، قال: فحدثها كعبًا، فقال كعب: ليس عليه حساب، ولا على مؤمن مزهد).

وفي رواية: (نعمًا للمملوك أن يتوفى يحسن عبادة الله وصحابة سيده، نعمًا له)]. *في نعم أربع لغات: (نعم) بفتح النون وكسر العين مثل علم، و (نعم) بكسرهما، و (نعم) بفتح النون وتسكين العين، و (نعم) بكسر النون وتسكين العين. قال الزجاج: و (ما) في تأويل الشيء، والمعنى نعم الشيء. *وهذا الحديث يتضمن مدح المملوك إذا أدى حق ربه وحق سيده، فله أجر على أداء حق الله عز وجل، وأجر على أداء حق السيد، وامتناع تمني أبي هريرة للملكة لأجل الحج والجهاد وبر أمه، وإنما يعني بذلك أن الملكة كانت تمنعه من الحج والجهاد تطوعًا إلا بإذن من سيده. -1859 - الحديث الحادي والعشرون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة (107/ب) الدعوة، وتشميت العاطس). وفي رواية: (حق المسلم على المسلم: ست)، قيل: ما هن يا رسول الله؟

قال: (إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)]. *قد مضى هذا وسبق شرحه.

-1860 - الحديث الثاني والعشرون: [عن أبن هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ليلة أسرى بي لقيت موسى عليه السلام)، قال: فنعته النبي - صلى الله عليه وسلم -، (فإذا رجل) - حسبته قال: (مضطرب- رجل الرأس، كأنه من رجال شنوءة).قال: ولقيت عيسى فنعته النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ربعة أحمر، كأنما خرج من ديماس) يعني: الحمام، ورأيت إبراهيم، وأنا أشبه ولده به)، قال: (وأتيت بإناءين: أحدهما لبن، والآخر فيه خمر، فقيل لي: خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن وشربته، فقال: هديت الفطرة-أو أصبت الفطرة- أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك).

وفي رواية: (رأيت موسى، فإذا رجل ضرب رجل، كأنه من رجال شنوءة)]. *قد سبق بحث الأنبياء فلي أماكن. وقد فسر الديماس هاهنا أنه الحمام. وقال الخطابي: الديماس السرب، والمعنى كأنه يخرج من كن، والإشارة بذلك إلى نضارة وجهه، والضرب الخفيف من الرجال، وهذه الألفاظ المذكورة في الحديث كلها قد سبقت وشرحت. -1861 - الحديث الثالث والعشرون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (قاتل الله اليهود، حرم الله عليهم الشحوم، فباعوها، وأكلوا أثمانها)] (108/أ).

*وهذا قد تقدم في مسند عمر وغيره. -1862 - الحديث الرابع والعشرون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). وفي رواية: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)]. *قد سبق الكلام على هذا الحديث، وبينا أنه نهي منه - صلى الله عليه وسلم - أن يتخذ قبره مسجدًا مذكرًا، ولعنهم لئلا نقتدي بمثل أفعالهم. -1863 - الحديث الخامس والعشرون: [عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يخرب الكعبة سو السويقتين من الحبشة).

وفي رواية: (ذو السويقتين من الحبشة، يخرب بيت الله عز وجل)]. *قد سبق هذا الحديث والكلام عليه في مسند أنس، وبينا أنما صغر السويقتين لدقتهما، وفي سوق الحبشة دقة. -1864 - الحديث السادس والعشرون: [عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب)]. *قد بينا وجه الكلام وشرحناه شرحًا مستوفى في مسند أبي قتادة وغيره.

-1865 - الحديث السابع والعشرون: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول، ومسجد الأقصى). وفي رواية: (إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: الكعبة، ومسجدي، ومسجد (108/ب) إيلياء)]. *وهذا أيضًا قد سبق واستوفينا الكلام عليه. وإيلياء: بيت المقدس، وهي كلمة معربة. قال الفرزدق:

وبيتان: بيت الله نحن ولاته .... وبيت بأعلا إيلياء مشرف -1866 - الحديث الثامن والعشرون: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كل عمل ابن آدم، إلا الصيام هو لي، وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك). وفي رواية: (فو الذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم). وفي رواية: (كل عمل ابن آدم يضاعف: الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلين للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك). وفي رواية: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث يومئذ ولا يصخب، فإن شاتمه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم، إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، وللصائم فرح فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه). وفي رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرويه عن ربكم قال: (لكل عمل كفارة، والصوم لي، وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك).

وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الصيام جنة، فلا يرفث ولا يجهل، وإن (109/أ) امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين، والذي نفسي بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشربه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها). وفي رواية: (إذا أصبح أحدكم صائمًا، فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله، فليقل: إني صائم، إني صائم). وفي رواية: (الصيام جنة، فإذا كان أحدكم صائمًا ...) الحديث، كذا حكى أبو مسعود. وفي رواية: (إن الله يقول: إن الصوم لي، وأنا أجزي به، إن للصائم فرحتين: إذا أفطر فرح، وإذا لقي الله عز وجل فرح، الذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك). وفي رواية: (فإذا لقي الله فجزاه فرح)]. *هذا الحديث يدل على فضيلة الصوم، وتقديمه على الأعمال لقوله: (الصوم لي).

والخلوف: رائحة الفم عند بعد تناول الطعام. *وقوله: (الصوم جنة)، الجنة: ما استترت به من سلاح أو غيره. وفي قوله: (الصوم جنة) وجوه: أحدهما: جنة من النار. والثاني: جنة من المعاصي. والثالث: جنة من أكل ما لا يريد أكله، فإنه قد يمتنع بالصوم من أكل طعام لا يريده. واعلم أن الصائم لما أجن الإيمان أي ستره في قلبه، كان صومه جنة له أي سترًا من كل سوء في ظاهره. والرفث: الخنا والفحش. *وقوله: (فليقل: إني صائم مما يستجن به أيضًا)؛ لأنه اعتذار عند من عساه أن يستدعي منه أن يعينه في ملاحاة خصم، وهو كالعذر أيضًا لنفسه أن ترك ملاحاة خصمه، فيقول: إني صائم أي لا أترك نصرك أيها الرفيق خذلانًا لك ولا أيها (109/ب) المماري لي عجزًا عن إيراد الحجة عليك؛ ولكن من أجل إني صائم. *وفي هذا دليل على جواز أن يظهر العامل شيئًا من عمله ليستجن به من شر، وسيزاد هذا الحديث شرحًا في مسند أبي سعيد.

*وإنما فضل الصوم لأنه إيمان محض لأنه لو نوى الإفطار أفطر، ولا يتمحض الإيمان سرًا في عمل كما يتمحض في الصوم فهو خلوص قياسه العتق؛ لأنه خلوص، فلذلك ما ورد بالأحاديث: يعتق في رمضان، وقد تقدم ذكره مستوفى. -1967 - الحديث التاسع والعشرون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليس الشديد بالصرعة؛ إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)]. *قال أبو عبيد: الصرعة (بفتح الراء) الذي يصرع الرجال، (وسكونها) الذي يصرعونه. *وفي هذا الحديث من الفقه نفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشدة عن قوة أعضاء الإنسان وإثباتها في عقله الذي يصرع هواه عند الغضب. والذي أرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الغضب من أجل أن النفس إذا غضبت فإنما يكون ذلك منها لأذى اتصل بها فيفور إلى الانتقام، ولا يكون ذلك في

الأكثر إلا على مقدور عليه، فذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا العارض منبهًا لها أنه إن كان عن خوف أو عن طمع أو عن هوى كان في كل ذلك مكابدًا بها منها مالا يلحق درجة الغضب لأنها لا تغضب إلا في مقام تظل فيه متسلطة، والمؤمن يذكرها عن استشاطتها بالغضب ما في عاقبة الكظم واطلاع الله عز وجل عليه مع كونه قد (110/أ) أتى من مساخط الله تعالى أضعاف ما إليه أتاه المسخوط عليه، فأمهل سبحانه وسامح فليمثل في نفسه عفوًا لعفو وانتقامًا بانتقام. *وقوله: (الشديد)، بالألف واللام المعرفتين، يريد به أن الرجل ذا اللب مسلط عليه الغضب أكثر من غيره؛ لأنه كله حسن وجملته فطن، فإذا أتى عليه ما يغضبه ثار في طلب الانتقام بجملته وأحس بالمؤذي، فجميع أجزائه حينئذ ينبغي أن تشكر نعمة الله عليه في تعزيز لبه وزيادة حسه بأم يكف عن غرت غضبه، وليكن أشد كفًا، فلما كان أشد قدرة ليحظى بالإخلاص في العفو لوجه الله عز وجل. -1868 - الحديث الثلاثون: [عن أبي هريرة: (أن سائلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في ثوب واحد؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أو لكلكم ثوبان). وفي رواية: (نادى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أيصلي أحدنا في ثوب واحد؟ فقال: (أو كلكم يجد ثوبين؟). زاد في حديث حماد بن زيد، قال: ثم سأل رجل عمر رضي الله عنه.

فقال: إذا وسع الله فأوسعوا: جمع رجل عليه ثيابه: صلى رجل في إزار ورداء، في إزار وقميص، في إزار وقباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقباء، في تبان وقباء، في تبان وقميص- قال: وأحسبه قال: في تبنا ورداء)]. *في هذا الحديث جواز الصلاة في ثواب واحد، والمقصود أنه إنما هو ستر العورة. *وفيه استحباب إظهار نعمة الله عز وجل إذا أنعم ليكون المنعم عليه شاكرًا بحاله؛ كما يستحب له أن يشكر (110/ب) بمقاله، لا سيما في كل ما كان طريقًا إلى تكميل ستر عورته في صلاته، فإن تشكف ذلك ممن هو قادر على ستر العورة نهاية في الشكوى بلسان الحال من الله عز وجل، فلهذا يعذر رافع الشكوى من ظلم المخلوقين مالا يعذر رافع الصوت بالشكوى من الفقر أو الإضافة فإن ذلك إنما يعلن بالتظلم من ربه سبحانه، وهو جل جلاله قد قدم القول أنه قسم المعاش بحسب ما يصلح كل واحد، وهو أنه إذا تلمح الفطن أحوال الناس رأى أن درور أرزاقهم بحسب حاجاتهم، حتى لو نظر ناظر إلى سوق من أسواق المسلمين لأصاب تفريق الزبون بين المعيشين على

نحو السوية في مقتضى مؤنة كل واحد وما عليه من خرجه حتى في أحرم دكانه، ففهم قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المروي (أن المعونة على حسب المؤونة). وكذلك يثير سبحانه وتعالى من همم المشترين بحسب ما يثير إلى صنعته هم البائعين، وكذلك فإنه يثير من همم الزراع ما يعلم سبحانه وتعالى حاجة أهم وقته إليه فهو سبحانه وتعالى يوجد الدخل في العالم بحسب ما تكلم سبحانه من الخرج، فترى كل غلة لا تدخر فيقصر من إثارة الهمم في زراعتها على مقدار ما يعلم سبحانه وتعالى خرجه في وقت نضارته، وكذلك التجار الذين يجلبون الأمتعة والادوية، فإنها تكون بحسب ما يعلم سبحانه من حاة أهل البلد المجلوب إليه ذلك في الغالب. وكذلك فإنه سبحانه وتعالى يدبر الجامد من الأموال بين الناس ليستفيد النامي، وشرح هذا يبين بمثال نذكره، وهو أنه سبحانه وتعالى قد جعل رزق بعض الناس من بعض ليكون (111/أ) ذلك في يد وارد رزق الله به، ومن يدور فيه، كما أنه لو أن أمير الحاج جبى من أقطاعه بلد الكوفه الخراج ذلك المال المجبى من الخراج في ثمن جمال يحج عليها، فاشترى تلك الجمال من عرب أقربه فصرف إليهم ذلك المال المجبى من الخراج بعينه، فاحتاج العرب أن يبتاعه الحب والثمر من الكوافة فأعادوه إلى الكوفة فابتاعوا منه الحب والثمار، فعاد المال إلى أهل الكوفة بعد أن انتفع المحلوقون بتحول النامي من يد إلى يد، وبقي الجامد.

وعلى هذا فإنه إذا نظر الفطن من أولي الألباب إلى عيشة كل مخلوق رأى اعتدال العيشة في اعتدال التدبير، وسوء الحال مقرون بالسرف والتبذير، وكذلك لأن التقدير في تدبير العيش ومصالح الأكساب هو ثمرة النهضة، ونتيجة الصوب، والسرف والتبذير هو ثمرة العجز ونتيجة الكسل. والله سبحانه يحب النهضة في الصواب، ويبغض التبذير والكسل. -1869 - الحديث الحادي والثلاثون: [عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع ذنوبا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم استحالت غربًا، فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقريًا من الناس ينزع نزع عمر، حتى ضرب الناس بعطٍن). وفي رواية: (بينا أنا نائم رأيت أني على حوضي أسقي الناس، فأتاني أبو بكر فأخذ الدلو من يدي ليريحني، فنزع ذنوبين؛ وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، فجاء ابن الخطاب فأخذه منه، فلم أر نزع رجل قط أقوى حتى تولى الناس والحوض (111/ب) ملآن يتفجر)].

*هذا الحديث قد سبق في مسند ابن عمر، وقد شرحناه هناك فاستغنينا عن الإعادة؛ إلا أن قوله: (ليريحني) في هذه الزاوية يشير بذلك إلى أنه لم يأخذه عنه عن طريق الاستلاب ولا المسارقة ولا الإكراه؛ ولكن ليروح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك كان، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استراح في نعيم الآخرة خلفه أبو بكر رضي الله عنه في أمته بالقيام بأعباء ولايته - صلى الله عليه وسلم -. *فأما قوله: (فأخذها أبو بكر) ولم يقل: فأعطيتها؛ فإن ذلك يدل على أن هذا يكون بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لا يأخذها عن وصية صريحة؛ إذ لو كان ذلك لكان يقول: فناولتها إياه أو أعطيتها إياه. -1870 - الحديث الثاني والثلاثون: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بينا أنا نائم إذ رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر، فذكرت غيرته. فوليت مدبرًا، فبكى عمر رضي الله عنه، وقال: أعليك أغار يا رسول الله!؟). وفي رواية: (فذكرت غيرة عمر، فوليت مدبرًا). قال أبو هريرة: (فبكا عمر ونحن جميعًا في ذلك المجلس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال عمر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أعليك أغار)].

*وهذا قد سبق في مسند عمر رضي الله عنه، وأشير إليه. (بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر)، فالتوضؤ من الوضاءة: وهي التنظف، والتطهير والتحسن. *وقوله: (إلى جانب قصر)، يدل على أنها دار الأمن، والنساء فيها لا يخفن ذعرًا. -1871 - (112/أ) الحديث الثالث والثلاثون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة). وفي رواية: (إذا اقترب الزمان، لم تكد رؤيا المؤمن تكذب-ومنهم من قال: لم تكذب رؤيا المؤمن- ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة). زاد بعضهم: (فإنه لا يكذب).

قال محمد: (وأنا أقول هذه، قال: وكان يقال: الرؤيا ثلاثة: حديث النفس، وتخويف الشيطان، وبشرى من الله، فمن رأى منكم شيئًا يكرهه، فلا يقصه على أحد؛ وليقم فليصل. قال: وكان يكره الغل في النوم، وكان يعجبهم القيد، ويقال: القيد ثبات في الدين). وفي رواية: (رؤيا المسلم أو ترى له). وفي رواية: (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة). وفي رواية: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا: أصدقكم حديثًا، ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءًا من النبوة، والرؤيا ثلاث: بشرى من الله تعالى، ورؤيا: تحزين من الشيطان، ورؤيا: مما يحدث المرء نفسه، فإن رأى أحدكم ما يكره، فليقم فليصل، ولا يحدث بها الناس)، قال: (وأحب القيد، وأكره الغل). والقيد: ثبات في الدين، فلا أدري: هو في الحديث أو قاله ابن سيرين؟. وفي رواية: قال أبو هريرة: (فيعجبني القيد، وأكره الغل، والقيد: ثبات في الدين)]. *في هذا الحديث أن الرؤيا ثلاث أصناف: رؤيا من الله، وهي المبشرة بالخير، إما بانكشاف الشيء نفسه، وإما في مثال يكشف العبر.

ورؤيا من حديث النفس كما يرى المنادي (112/ب) في ليلة أنه ينادي، والراعي أنه يصيح على الإبل؛ فهذا لا تأويل له. والرؤيا الثالثة: تخويف من الشطيان وتخزين، فمن رأى ما يكره لم يقصه على أحد وقام إلى الصلاة، وإنما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمره عند ذلك بالقيام إلى الصلاة؛ لأن ذلك يحزن الشيطان، فيكون جواب تحزين الشيطان للعبد، ولأن الشيطان أراد بما أرى المؤمن في منامه تحزين المؤمن بمالا يضره، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعلم أمته أن يسرعوا عند ذلك فيما يحزنوا به الشيطان بما يكمده ويسومه؛ وهو الصلاة. *والغل مكروه من حيث اسمه؛ لأن الغين تكسر فيصير غلا، وإنما استحب القيد في النوم لأنه آلة التثبيت، وقد سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإيمان قيدًا، فقال: (الإيمان قيد الفتك)؛ فالخبر كله في الثبات والتثبيت. *وقوله: (إذا اقترب الزمان)، قد شرحناه في الحديث العاشر من هذا المسند. وقد قيل: المراد به هاهنا قرب القيامة، وقيل: استواء الليل والنهار، وقيل: هو زمن المهدي. *وقوله: (أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا)، وذلك أن الرؤيا تنبيه على أن الكاذب لا يكاد يصح له رؤيا؛ لأن الرؤيا هي في المعنى رسالة من الله عز وجل، وما كان الله عز وجل ليرسل رسالة على لسان كذاب، والله أعلم حيث يجعل رسالته.

-1872 - الحديث الرابع والثلاثون: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا فرع ولا عتيرة). والفرع: أول النتاج، كانوا يذبحونه لطواغيتهم، والعتيرة في رجب]. *في هذا الحديث تحريم الفرع والعتيرة، وقد فسرا (113/أ) في الحديث، وهما من مقابح الجاهلية التي كانت تعتمدها. -1873 - الحديث الخامس والثلاثون: [عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا يتركون المدينة على خير ما كانت؛ لا يغشاها إلا العوافي-يريد عوافي السباع والطير- فآخر من يحشر راعيان من مزينة، يريدان المدينة، بنعقان بغنمهما، فيجدانها ملئت وحوشًا، حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرا على وجوههما). وفي رواية: (ليتركنها أهلها على خير ما كانت مذللة للعوافي) -يعني: السباع والطير)].

*في هذا الحديث من الفقه أن الحشر قد يدرك قومًا من أهل الدنيا في أشغالهم فيحشرون إلى الموت. فأما الحشر الذي بعد الموت فذلك يكون عند نشر كل ميت. و*ويعني بقوله: (يتركون المدينة)؛ إن أريد بالمدينة مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فذلك يكون في أواخر الدنيا، وإن أريد بالمدينة كل مدينة لا يغشاها إلا عوافي الطير والسباع فذلك الحشر الموت. -1874 - الحديث السادس والثلاثون: [عن أبي هريرة أنه كان يقول: (لو رأيت الظباء بالمدينة ترتع ما ذعرتها)، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما بين لابتيها حرام). وفي رواية: (حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بين لابتي المدينة). قال أبو هريرة: (فلو وجدت الظباء ما بين لابتيها ما ذعرتها، قال: وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى)]. *وقد ذكرنا تحريم المدينة في مسند علي رضي الله عنه، وذلك مذكور هناك ما بين عير (113/ب) إلى ثور، وقد حدها هنا باثني عشر ميلا، وقد سبق شرح باقيه.

-1875 - الحديث السابع والثلاثون: [عن أبي هريرة قال: (قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنين امرأة من بني لحيان-سقط ميتًا- بغرة: عبد، أو أمه، ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها). وفي رواية: قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها). وفي رواية: (وورثها ولدها ومن معهم، فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله! كيف أغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل؟ فمثل ذلك بطل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما هذا من إخوان الكهان) من أجل سجعه الذي سجع). وفي رواية: (أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى، فطرحت جنينًا، فقضى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغرة: عبد أو أمه)].

* في هذا الحديث من الفقه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في هذا الجنين بغرة عبد أو أمة، وإنما قضى في هذا الجنين بغرة عبد أو أمة، وإنما قضى بذلك في الجنين ولم يجعل فيه الدية من أجل أن الضارب إنما أصاب غير المجني عليه؛ لأنه ضرب الحامل فأدى الضرب إلى أن ألقت، فلم يكن قتل الجنين مقصودًا له، فهو صريح في الخطأ من حيث إنه أدى إلى قتل بالعرض لمن لم يخرج إلى الدنيا بعد، ولا يعرفه أبوه ولا أمه ولا له اسم بعد. ويجوز أن يكون غير حي، فقضى (114/ أ) فيه بالغرة دون القود؛ لأن الغرة نفس، فكانت في المعنى نفس بنفس، ولم يجب القود لأجل الخطأ. * وفيه ذم لما كان يتخذونه شرعة ويمضون الأحكام بمقتضاه من أساجيعهم، وقد تقدم ذكر ذلك، وبينا أن الذم لذلك القصد لا للنطق. -1876 - الحديث الثامن والثلاثون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت)]. * في هذا الحديث النهي عن الكلام وقت الجمعة، فينبغي لمن سمع متكلمًا حينئذ أني ينهاه بالإشارة لا بالكلام.

* وفي هذا الحديث حض على استماع الخطبة يوم الجمعة؛ فإنها تتضمن حمد الله عز وجل والثناء عليه، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، والموعظة، والوصية بتقوى الله، وإن كان في طرف الجامع ولم يسمع صوت الإمام فالمستحب له أن ينصت لأنه لو أنصت الناس كلهم لسمعوا، فإن قرأ أو تشاغل بذكر جاز. -1877 - الحديث التاسع والثلاثون: [عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أفضل؟ قال: (إيمان بالله ورسوله)، قيل: ثم ماذا؟ قال: (الجهاد في سبيل الله)، قيل: ثم ماذا؟ قال: (حج مبرور)]. * أما الحج هاهنا فالمراد به النافلة، وكذا الجهاد، فالجهاد لمن حج أفضل من حجه؛ لأن الجهاد فرض كفاية. -1878 - الحديث الأربعون: [عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار، إلا تحلة القسم).

وفي حديث ابن عيينة (114/ ب) (فيلج النار، إلا تحلة القسم). وفي رواية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنسوة من الأنصار: (لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد، فتحتسبه، إلا دخلت الجنة)، فقالت امرأة منهن: أو اثنان يا رسول الله؟ قال: (أو اثنان). وفي رواية: (لم يبلغوا الحنث). وفي رواية لمسلم: (أتت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - بصبي لها، فقالت: يا نبي الله! ادع الله لي، فلقد دفنت ثلاثة قال: (دفنت ثلاثة؟)، قالت: نعم، فقال: (لقد احتظرت بحظار شديد من النار). ولمسلم أيضًا من حديث أبي حسان، قال: قلت لأبي هريرة: (إنه قد مات لي ابنان، فما أنت محدثني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحديث يطيب أنفسنا عن موتانا؟ قال: نعم، صغارهم دعاميص الجنة، يتلقى أحدهم أباه- أو أبويه- فيأخذ بثوبه، أو قال: بيده- كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا، فلا يتناهى- أو قال: ينتهي- حتى يدخله الله وأباه الجنة)]. * في هذا الحديث من الفقه أن موت الولد الذي لم يبلغ الحنث مظنة انزعاج الإيمان إلا لمن ثبته الله بالقول الثابت من حيث إنه يراه طفلًا لم يأت من

المعاصي ما يكون ما ناله من المرض والموت جزاء لفعله، ولا بلغ به إلى حيث كان يؤمل من أمره، ولا تعي القلوب الضعيفة النظر ما المعنى في الإتيان به ثم أخذه من قبل بلوغ الأرب منه، فيلعب الشيطان به بعقول الآدميين عند مشاهدتهم تعذيب الأطفال، وموت من يموت منهم، فمن قوي إيمانه رأى أن الله جل جلاله في ذلك أسرارًا وحكمًا. منها: أنه جل جلاله يخلق من خلقه أطفالًا لا تقدر أعمارهم إلى مدة معلومة من الصغر ليكون الموت محذورًا أبدًا، فلا يأمنه أحد في حال. ومنها: أن عمل الوالد (115/ أ) قد لا يبلغ إلى المقام المؤهل له في الآخرة فيتممه الله تعالى بأن يموت له من الولد الذي لم يبلغ الحنث من يموت مؤمن عند موته بالله سبحانه وتعالى، ويثبت لهذا الامتحان؛ فيكون ذلك مما يبلغه تلك المرتبة، ويقيه من عذاب النار. * ومن ذلك أن من الولد من لو بقي لأرهق أبويه طغياناً وكفراً؛ فيكون الله عز وجل قد من على العبد بأن أخرج ولده ذلك إلى الدنيا ثم أماته قبل أن يبلغه أن يرهق أبويه، فقلب سبحانه وتعالى ذلك الإرهاق للوالدين أجرًا ممن ثبت إيمانه بهذه الأحوال كان له في ذلك الأجر؛ ولأن الناس يحتاجون في القيامة إلى فراط يسبقونهم إلى الورود ويأتونهم بالماء يوم العطش الأكبر، فقدم الأطفال لذلك، وأما الولد الكبير فإنه بعد البلوغ يثبت له وعليه؛ فإذا ناله المرض وأدى إلى الموت كان في المعنى في حكمة أبيه، ولكل حميم يفقد حميمًا إذا صبر عليه ثواب. * وقوله: (لقد احتظرت بحظار شديد)، وأصله من الحظيرة التي يكون

فيها الغنم فيمتنع من الخروج، والحظر: المنع. وأما الدعاميص فجمع دعموص، وهي دويبة تعوم في الماء، قال الشاعر: إذا التقى البحران عم الدعموص .... فهي أن تسبح أو تغوص. -1879 - الحديث الحادي والأربعون: [عن أبي هريرة، قال: جاء رجل من بني فزارة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هل لك من إبل؟)، قال: نعم، قال: (فما ألوانها؟)، قال: حمر، قال: (هل فيها أورق؟)، قال: إن فيها أورقًا. قال: (فأنى أتاها ذلك؟)، قال: عسى أن يكون نزعة (115/ ب) عرق). وفي رواية: (يا رسول الله، ولدت امرأتي غلامًا أسود، وهو حينئذ يعرض بأن ينفيه، ولم يرتخص له في الانتفاء منه). وفي رواية: (إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، وإني أنكرته)].

* هذا الحديث يدل على أنه لا يجوز للإنسان أن يرتاب بولد وإن خالف لونه؛ لأنه ربما يكون نزعة عرق. -1880 - الحديث الثاني والأربعون: [عن أبي هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ويقولون: الكرم. إنما الكرم قلب المؤمن). وفي رواية: (لا تسموا العنب الكرم؛ فإن الكرم المسلم). وفي رواية: (لا يقولن أحدكم: الكرم؛ فإنما الكرم قلب المؤمن). وفي رواية: (لا يقولن أحدكم للعنب: الكرم، فإنما الكرم الرجل المسلم)]. * هذا الحديث يدل على أنهم كان يسمون العنب كرمًا، ويزعمون أنها تحدث كرمًا على ما قيل، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا ينسب إلى الخمر فضيلة؛ وإنما الفضيلة للمؤمن لما فيه من النور والإيمان. -1881 - الحديث الثالث والأربعون: [عن سعيد بن المسيب، قال: (مر عمر في المسجد، وحسان ينشد

الشعر، فلحظ إليه، فقال: كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك بالله: أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (أجب عني، اللهم أيده بروح القدس؟) قال: نعم). وفي رواية عن أبي سلمة أنه سمع حسان بن ثابت الأنصاري يستشهد أبا هريرة، أنشدك الله، هل سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يا حسان أجب عن (116/ أ) رسول الله، اللهم أيده بروح القدس)، قال أبو هريرة: نعم)]. * في هذا الحديث جواز إنشاد الشعر في المسجد، إذا كان مثل شعر حسان من مدح الإسلام وقول الحق وحسن الكلام دون قبيحه. * وفيه أيضًا دليل على حلم عمر ودينه حيث قال له حسان: من هو خير منك، وهذا وإن كان حقًا إلا أن فيه خشونة؛ فاحتملها عمر من أجل أنه حق. * وقوله: فلحظ إليه أي نظر إليه نظر المنكر عليه. * وقوله: أجب عني، فيه دليل على جواز مخاصمة العدو بالشعر. * وفيه دليل على أن الشاعر قد يؤيده الله عز وجل حتى بجبريل، ومعنى ناشده بجبريل أن يحميه أن يقذف الشيطان على لسانه غير الجيد.

-1882 - الحديث الرابع والأربعون: [عن أبي هريرة قال: (بينما الحبشة يلعبون عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بحرابهم، دخل عمر، فأهوى على الحصباء فحصبهم بها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعهم يا عمر)]. * في هذا الحديث جواز اللعب بالحراب، وهي من السلاح، للتدرب والرياضة للجهاد وقتال العدو في المسجد. * وفيه أيضًا أن عمر لما سارع إلى حصبهم على المألوف من شدته، ولم يكن ذلك له؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقر لهم، نهاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: دعهم يا عمر. -1883 - الحديث الخامس والأربعون: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار). وفي رواية: (قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يقول: يا خيبة الدهر؛ فإني أنا الدهر، أقلب ليله ونهاره؛ فإذا شئت قبضتهما).

وفي رواية: (قال الله عز وجل: يسب ابن آدم الدهر، وأنا الدهر بيدي الليل والنهار). وفي رواية: (لا تسموا العنب الكرم، ولا تقولوا: يا خبية الدهر، فإن الله هو الدهر). وفي رواية: (لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر). وفي رواية: (لا يقولن أحدكم للعنب الكرم؛ فإن الكرم الرجل المسلم)]. * في هذا الحديث من الفقه: النهي عن أن يستريح الإنسان إلى ما يجعله منصرفًا لشكواه من الله تعالى، فيسب الدهر، وإنما تسب الأقضية والأقدار، والله سبحانه وتعالى هو الذي يقضي ويقدر، وليس للدهر في ذلك شيء، وإنما سب الناس للدهر فيغلطون من جهتين: إحداهما: أنهم ينسبون فعل الله إلى الدهر. والأخرى، أنهم يكرهون أقضية الله، فيسترحون إلى سب الدهر، والمنسوب في الحقيقة، إنما هو الفاعل تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، فجاء الحديث ناهيًا عن أن يؤذي العبد ربه بأن يسب أقداره مسميًا لها دهرًا،

فيكون جانيًا على جلال الربوبية من جهتين. -1884 - الحديث السادس والأربعون: [عن أبي هريرة قال: (أسرعوا بالجنازة، فإن تلك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تلك غير ذلك، فشر تضعونه عن رقابكم). وفي رواية: (أسرعوا بالجنازة، فإن كانت صالحة قربتموها إلى الخير، وإن كانت غير ذلك كانت شرًا تضعونه عن رقابكم)]. * في هذا الحديث من الفقه استحباب الإسراع بالجنازة؛ لأنها إن كانت من أهل الخير، فإنه تعجل بها إليه، كما جاء في الحديث، وإن كانت من أهل الشر استريح من حملها (117/ أ)، إلا أن هذا أمر من علم الله، فلا ينبغي لحامل الجنازة أن يكون إلا على الرجاء للجنازة بالخير. -1885 - الحديث السابع والأربعون: [عن أبي هريرة قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط)].

* هذه الخمس مما دعى الإسلام إلى التنزه عنه لأنهن من فضلات البدن: فأما الختان فإن الغرلة يخالطها ما يكون من النجاسة، فتبقى منها بقية منها لا يؤمن أن تقطر عقيب ذلك، كما يلحق أصحاب السلس؛ فكان في إماطتها عن الآدمي نوع طهارة. وأما الاستحداد ففي إماطة ذلك الشعر تنظيف؛ لأن الشعر هناك يتجاوز أماكن الاستنجاء وإزالته أقرب إلى الطهارة، ثم هو من جملة المستقذرات. وأما قص الشارب فلأنه إذا طال الشعر ينغص الأكل بالطعام، على أن قصة جمال الوجه أيضًا. وأما تقليم الأظفار ففيه إزالة وسخ يجتمع تحتها. ونتف الإبط يرفع الأذى الذي تنفر منه النفس، وذلك المحل محل نفض القلب فضلاته؛ فإذا أخذ منه الشعر كان أسهل لخروج أبخرة القلب، وأطيب لريح الآدمي، ولأن الشعر لا يمكن الدواء القاطع للريح المنكرة أن يصل. فهذه الأشياء إذا استعملت فيها مراسم الشرع بان أنها من محاسن آداب الإسلام. -1886 - الحديث الثامن والأربعون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (بعثت بجوامع الكلم،

ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم رأيتني أتيت بمفاتيح خزائن الأرض، فوضعت في يدي)، قال أبو هريرة: (فقد ذهب رسول الله (117/ ب) - صلى الله عليه وسلم - وأنتم تنتثلونها). قال البخاري: (وبلغني أن جوامع الكلم: أن الله يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والاثنين). وفي رواية: (أعطيت مفاتيح الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم البارحة إذ أتيت بمفاتيح خزائن الأرض، حتى وضعت في يدي)، قال أبو هريرة: فذهب رسول الله وأنتم تنتثلونها. وفي رواية: (فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون). وفي رواية: (نصرت بالرعب، وأوتيت جوامع الكلم)، وفي رواية: (نصرت بالرعب على العدو، وأوتيت جوامع الكلم، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض، فوضعت في يدي)]. * أما جوامع الكلم: فإنه يعني به اللغة العربية؛ لأن الله تعالى فضله بها،

فيكون النطق يسيرًا والمعنى جمًا كبيرًا، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الأعمال بالنيات)، (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، (المسلمون تتكافأ دماؤهم)، (المستشار مؤتمن)، إلى غير ذلك. * وقوله: (نصرت بالرعب) يعني الخوف الذي وضعه الله تعالى منه في القلوب، فإنه نصره به، فكفأه كثيرًا من القتال. * وقوله: (وأوتيت بمفاتيح خزائن الأرض)؛ وكذلك كان، فإن الكنوز والممالك أوتيها - صلى الله عليه وسلم -، فملكت أمته الأرض، وفتحت خزائن ملوكها. * وأما إحلال الغنائم، وجعل الأرض مسجدًا، والإرسال إلى الكل، وختم

النبيين، فكل ذلك مما خص به - صلى الله عليه وسلم - دون (118/ أ) غيره، وجعل الخاتم من وراء ظهره ليعلم بوضع الخاتم من وراء ظهره ليعلم بوضع الخاتم خلفه أنه الخاتم للأنبياء فليس بعده نبي. * وقول أبي هريرة: (وأنتم تنتثلونها) إنما أراد أن يدل بذلك على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر، ويظهر صدق وعده فيما وعد به، ومعنى تنتثلونها تستخرجونها من مواضعها. يقال: نثلت البئر وانتثلتها إذا استخرجت ترابها. -1887 - الحديث التاسع والأربعون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (نساء قريش خير نساء ركبن الإبل، أحناه على طفل، وأرعاه على زوج في ذات يده)، قال: يقول أبو هريرة على أثر ذلك: (ولم تركب مريم بنت عمران بعيرًا قط). وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب أم هاني بنت أبي طالب، فقالت: يا رسول الله: إني قد كبرت، ولي عيال، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خير نساء ركبن الإبل ...) ثم ذكر مثل حديث يونس، غير أنه قال: (أحناه على ولد في صغره). وفي رواية: (خير نساء ركبن الإبل). وفي رواية صالح: (نساء قريش أحناه على يتيم في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده).

وفي رواية: (خير نساء ركبن الإبل، صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده). وفي رواية: (صالح نساء قريش)]. * في هذا الحديث دليل على أن أفضل النساء اللواتي ركبن الإبل نساء قريش. * وقوله: (أحناه)، من الحنو، وهو العطف والشفقة، وذلك مطلوب في حق الصغار. * وقوله: (وأوعاه على زوج في ذات يده)، أنهن لسن بمبذرات. -1888 - (188/ ب) الحديث الخمسون: [عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أن يبيع حاضر لبادٍ، ولا تناجشوا، ولا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها). وفي رواية: (ولا يزيدن على بيع أخيه).

وفي رواية: (ولا يسم الرجل على سوم أخيه). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التلقي، وأن يبتاع المهاجر للأعرابي، وأن تشترط المرأة طلاق أختها، وأن يستام الرجل على سوم أخيه، ونهى عن النجش والتصرية). وفي رواية: (نهى عن التلقي، وأن يبيع حاضر لباد). وفي راوية: (نهينا). وفي رواية: (نهى). وفي رواية: (لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها، فإنما لها ما قدر لها). وفي رواية: (لا يسم المسلم على سوم المسلم، ولا يخطب على خطبة أخيه). وفي رواية: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتلقى الجلب). وفي حديث ابن جريج: (فمن تلقى فاشتراه منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار)].

* وقد مضى الكلام في هذا في مسند ابن عباس إلا قوله: ولا تسأل المرأة طلاق أختها. قال أبو عبيد: يعني ضرتها. وقوله: (لتكفأ) أي تمثل حظ تلك إلى نفسها، وإنما نهيت المرأة عن هذا لكونها تسأل طلاقها لتكفأ ما في صحيفتها، وأما إذا كانت تلك المرأة لا دين لها جاز أن تسأل طلاقها؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حق علي عليه السلام أراد أن ينكح بنت أبي جهل: (فليطلق ابنتي). (119/ أ) -1889 - الحديث الحادي والخمسون: [عن أبي هريرة: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم، وكبر عليه أربع تكبيرات). وفي رواية: (نعى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النجاشي صاحب الحبشة يوم الذي

مات فيه، فقال: استغفروا لأخيكم)]. * قد سبق الكلام في هذا الحديث، وثبتنا أن هذا من معجزات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر أن فيه حجة في الصلاة على الميت الغائب. -1890 - الحديث الثاني والخمسون: [عن أبي هريرة قال: (لما رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه من الركعة الثانية، قال: (اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين بمكة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف). وفي رواية: (وكان يقول في بعض صلاة الفجر حين يفرغ من صلاة

الفجر من القراءة ويكبر ويرفع رأسه: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم يقول وهو قائم: اللهم أنج الوليد)، وذكر إلى قوله: (كسني يوسف، اللهم العن فلانًا وفلانًا) لأحياء من العرب؛ حتى أنزل الله عز وجل: {ليس لك من الأمر شيء ...} الآية، سماهم في رواية يونس: (اللهم العن لحيان ورعل وذكوان وعصية عصت الله ورسوله) قال: ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون}). وفي رواية: (بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي العشاء، إذ قال: سمع الله لمن حمده، ثم قال قبل أن يسجد: اللهم نج عياش بن أبي ربيعة، اللهم نج سلمة بن هشام، اللهم نج الوليد بن الوليد، (119/ ب)، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف). وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت بعد الركعة في صلاته شهرًا، إذا قال: سمع الله لمن حمده، يقول في قنوته: اللهم نج الوليد بن الوليد ...) وذكر الدعاء بنحوه إلى قوله: (كسني يوسف) وفي آخره، قال أبو هريرة: (ثم رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الدعاء بعد، فقلت: أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ترك الدعاء؟ وقال: وما تراهم قدموا؟). وفي رواية: (كان يدعو في الصلاة: اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة). وفي رواية: (غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله). وفي رواية: (لأقربن لكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان أبو هريرة يقنت

في الركعة الآخرة من صلاة الظهر والعشاء الآخرة وصلاة الصبح، بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، فيدعو للمؤمنين، ويلعن الكفار)]. * هذا الحديث قد سبق. والوطأة: البأس والعقوبة، وهي ما أصابهم من الجوع والشدة. *وقوله: {ليس لك من الأمر شيء} في مثل هذا الموضع عند دعائه على الكافرين، فقد مضى تفسيره، وهذا الموضع من أحسن ما وقع معنى ما أشرنا إليه في هذا الموضع، وهو أنه ليس لك من الأمر شيء في الدعاء عليهم حظ نفسك ولا في غير ذلك، وإنما ذلك كله لله. فأما قول أبي هريرة: (ثم بلغنا أنه ترك الدعاء عليهم)؛ فإن هذا يقوم

مقام الرواية عن من لم يسمه، فالمرسل أقوى منه، ووجهه بعد ذلك أن الله سبحانه لما أنزل عليه {ليس لك من الأمر شيء} أي أنك أعلنت من الدعاء عليهم بما قد كفى في معناه، فإن الكلمة الواحدة منك أعظم قدرًا من قراب الأرض أمثالهم، فكأنه على معنى الآية الأخرى في قوله (120/ أ) سبحانه: {وذرني والمكذبين} وقوله سبحانه: {ذرني ومن خلقت وحيدًا}. -1891 - الحديث الثالث والخمسون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه). قال ابن شهاب: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (آمين). وفي رواية: (إذا أمن القارئ فأمنوا؛ فإن الملائكة تؤمن، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه). وفي رواية: (إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه). وفي رواية: (إذا قال الإمام: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين}، فقال من خلفه: آمين، فوافق قوله قول أهل السماء، غفر له ما تقدم من

ذنبه)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن الملائكة لما سمعت اهدنا بلفظ الجمع، قالت: آمين؛ لأنه دعاء للكل، فمن كانت إرادته من المصلين هداية الكل غفر له. -1892 - الحديث الرابع والخمسون: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا). وفي رواية: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا). وفي رواية لمسلم: (إذا ثوب بالصلاة فلا يسع إليها أحدكم؛ ولكن ليمش وعليه السكينة والوقار، فصل ما أدركت، واقض ما سبقك). زاد العلاء في آخر حديثه: (فإن (120/ ب) فأحدكم إذا كان يعمد إلى

الصلاة فهو في الصلاة)]. * الثوب: الإقامة، قال الخطابي: وأصل هذا أن يلوح الرجل ثوبه عند الفزع، وهذا الحديث قد سبق في مسند أبي قتادة.

-1893 - الحديث الخامس والخمسون: [عن أبي هريرة قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزل الله {وأنذر عشيرتك الأقربين}، قال: (يا معشر قريش-أو كلمة نحوها-اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا صفية عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد، سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئًا). وفي رواية: (يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، يا بني عبد المطلب، لا أغني عنكم من الله شيئًا). وفي رواية: (يا بني عبد مناف، اشتروا أنفسكم من الله، يا بني عبد المطلب اشتروا أنفسكم من الله، يا أم الزبير عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يا فاطمة بنت محمد اشتريا أنفسكما من الله، لا أملك لكما من الله شيئًا، سلاني من مالي ما شئتما). وفي رواية عن أبي هريرة: (قال: لما نزلت هذه الآية: {وأنذر عشيرتك الأقربين}. دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشًا، فاجتمعوا، فعم وخص، فقال: (يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب (121/ أ)، أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة

أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا، غير أن لكم رحمًا سأبلها ببلالها)]. * قد تكلمنا على هذا الحديث، وبينا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغ في إنذار عشيرته. * فأما قوله: (سأبلها ببلالها)، قال أبو عبيد: يقال: تلك رحمي أبلها بلا وبلالا، إذا وصلتها. * وفيه من الفقه أن النذارة قائمة في طرف التخويف؛ إزاء البشارة في طرف الإيمان بقوله سبحانه {وأنذر عشيرتك الأقربين} يعني جل جلاله أن أنذر عشيرتك الأقربين أن تكونوا أول جاحد بحقك. قال: وأول كافر بما أنزل عليك؛ فإنه لا عذر لمن كفر بما جئت من أباعد الناس عنك، فكيف بأقربهم إليك. من كان من شأنه وعاده أن يذهب في طاعة الشيطان بالعصبية في النسب، والحمية في العشيرة كل مذهب، حتى يهراق منهم الدماء، ويعظم فيهم اللأواء؛ فلما جئتهم بالحق وتلوت عليهم الصدق، حرجت بغضاؤك

إلى أن جحدوا لك الحق الذي يعترفون للبعيد، واطرحوا من وفاقك ما كان من عادتهم في حمية الأهبة للقريب، فأنذر عشيرتك الأقربين حينئذ من عذاب لا تقوم له السموات والأرض. * وقوله بعدها: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين}، فإن الجناح يستعمل في كل شيء تكون الإشارة فيه إلى المبالغة في الرقة والرحمة، كما قال سبحانه في حق الوالدين: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} يعني سبحانه وتعالى اخفض لوالدين جناح ذل منك، يعني جل جلاله أن لا تراهما بعين المسكنة عندك، وأن يكون خطابك لهما خطاب ذليل قد خفض جناحه لهما خفض ذل؛ قد أجمع على الاستسلام لأمرهما والإلقاء (121/ ب) لنفسه بين أيديهما. ثم قال سبحانه بعد ذلك: {من الرحمة} يعني جل جلاله لا تفعل ذلك لهما من الحاجة؛ فيكون نظرك إلى ما عساه تفعله في وقت الحاجة دون وقت الغناء عنهما، ولا قال من الرقة ولا من الخوف منهما، ولكن من الرحمة، أي افعل ذلك إذا عادا في حال ضعف من القوم، فحينئذ اخفض لهما أنت جناح الذل من الرحمة، وهذا لما كان في حق الوالدين يتوجه أن يؤتي فيه بذكر الذل، فلما كان الخطاب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعطفه على المؤمنين لم يقل: جناح الذل، بل قال: (جناحك)، يعني جل جلاله جناح عطفك ورأفتك ورفقك وتعظيمك ولطفك ورفدك، وكل حسن من أوصافك، فإنه داخل تحت ذلك قرنه بكاف الخطاب.

* وقوله: {لمن اتبعك من المؤمنين} فيجوز أن يكون من هاهنا لسبب الحسن، فإن لا يتبعه إلا المؤمنون، ولا يسمى مؤمنًا إلا من اتبعه، ويجوز أن يكون ميزة من اتبعه من المؤمنين ليخرج منها المنافقون، وهذا أمر له - صلى الله عليه وسلم - بأن يخفض جناحه لكل تابع له مسلم. فهو يتناول من كان في عصره، ومن جاء بعده إلى يوم القيامة، ويكون خفض جناحه لمن لم يره بما علمه من وصاياه وعلومه التي أنقذه بها على ألسنة المبلغين، وبما شرع من إصلاح ذات بينهم، وتسكين الفتن الثائرة فيهم، وما وصى به نوابه من حفظهم إلى غير ذلك. * ثم قال: (يا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من الله شيئًا). فقوله: يا بني عبد مناف: يجمع هاشمًا والمطلب عبد شمس ونوفلًا. فذلك تعميم، ثم أتى بالتخصيص، فقال: يا عباس، وإنما خاطبهم هاهنا بحذف الألف واللام التي للتعريف؛ لأنه جاء بحرف النداء، فكان (122/ أ) مقام نداء، والمنادى فيه معذور في إسقاط الألف واللام، فإن المنادى قد عرف من شهوده ممن يناديه أنه لا يحتاج إلى التعريف بالألف واللام، فلما لم يبق من عمومته ذكر عاد إلى عمته؛ ليسوي في الدرجة من الأقارب. وهذا يدل على شرف العباس وفخامة منزلته، ثم انتقل بعد ذكر العم والعمة إلى الولد؛ فقال: يا فاطمة بنت محمد. * وقوله: (اشتروا، اشتريا أنفسكما من الله)، يفصح بأن نفس العبد ليست له، وكذلك قال: اشتر نفسك من الله يعني - صلى الله عليه وسلم - أن يشتري العبد نفسه من ربه هو بما شرطه سبحانه وتعالى أن يقوم به مما خلقه له، فقال: {وما خلقت

الجن والإنس إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون). فإن قال قائل: كيف يجمع بين قوله عز وجل: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم}، فدل النطق أن أنفسهم ملكهم الله إياها، وفي الحديث ثم اشتراها منهم، ما يدل على أن النفس لله وأن العبد هو المشتري. فالجواب أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اشتروا أنفسكم من الله)، يعني - صلى الله عليه وسلم -: أنكم إذا آمنتم به، وأنه خلقكم لعبادته فقد اشتريتموها منه سبحانه شراءً عامًا، وهو أنكم حررتموها من رق غيره من الشياطين التي تحتال وتعوي. فأما مشرى الله سبحانه أنفس المقاتلين في سبيله؛ فإن ذلك الشراء الأول منهم هو الذي طيب النفوس بأن تصلح لهذا الشراء، والثاني فإنه لما طابت غلا ثمنها، فزاد مقدار مبلغه عن أن يكون الدنيا كلها له ثمنًا، فأعلم الله عز وجل أنها أنفس من أن تثامن بشيء من الدنيا، فقال: {بأن لهم الجنة} بالألف واللام المتعرفتين للجنس أو العهد، فكانت مشتراة لهم أولًا (122/ ب) مبادئه ومشتراة منهم ثانيًا بجنته. ثم لما فرغ من ندائه الأقربين، عاد ذاكرًا لمن هو أبعد منهم نسبًا، فقال: يا بني كعب بن لؤي، يا بني مرة ابن كعب، فأما تكريره ذكر بني عبد شمس وبني عبد هاشم وبني عبد المطلب مع إجماله في قوله: بني عبد مناف والذي أراه أنه كرر الوصية على كل من رأى أنه سيصير إلى شيء من الأمر، وصاة له بأمته، واحتفالًا لمن ترك من المسلمين بعده.

* وقوله في كل قول: (لا أغني عنكم من الله شيئًا)، أي لا تتكلوا على قرابتي فتخالفوني في وصاياي، فإني لا أغني عنكم من الله شيئًا. * وقوله: (غير أن لكم رحمًا سأبلها ببلالها)، أي فوصيتي هذه وتكريري لكم فيها الأنداء من بلالها. -1894 - الحديث السادس والخمسون: [عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (تفضل صلاة الجميع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءًا، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر)، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودًا}. وفي رواية للبخاري عن ابن عمر: (تفضلها بسبع وعشرين). وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (صلاة الجماعة تعدل خمسًا وعشرين صلاة من صلاة الفذ). وفي رواية: (صلاة مع الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده)].

* قد سبق وجه الحكمة في كونها بخمس وعشرين، وبينا كيفية الجمع بين ذلك وبين سبع وعشرين. * وفي هذا الحديث ما يدل على أن ملائكة الليل لا ينصرفون حتى تحضر ملائكة النهار فيسلمون الآدمي إليهم ويرتحلون ليعلم (123/ أ) الآدمي أنه ليس بمخلى ولا لحظة. -1895 - الحديث السابع والخمسون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (العجماء جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس). وفي رواية للبخاري: (المعدن جبار، والبئر جبار، والعجماء جبار، وفي الركاز الخمس). وفي رواية لمسلم: (البئر جرحها جبار، والمعدن جرحه جبار، والعجماء جبار، وفي الركاز الخمس). وفي رواية لمسلم: (البئر جرحها جبار، والمعدن جرحه جبار، والعجماء جرحها جبار، وفي الركاز الخمس). وفي رواية: (العجماء عقلها جبار)].

قال أبو عبيد: العجماء البهيمة، وإنما سميت عجما لأنها لا تتكلم؛ وكل من لا يقدر على الكلام فهو أعجم ومستعجم. والجبار: الهدر، وإنما يجعل جرح العجماء جبارًا هدرًا؛ إذا كانت منفلتة ليس لها قائد ولا سائق ولا راكب، فإذا كان معها واحد هؤلاء الثلاثة فهو ضامن؛ لأن الجناية حينئذ ليس للعجماء، إنما هي جناية صاحبها. * وقوله: (البئر جبار)، هي البئر يستأجر عليها صاحبها رجلًا يحفرها في ملكه فتنهار على الحافر، فليس على صاحبها ضمان، وكذلك البئر يكون في ملك الرجل فيسقط فيها إنسان أو دابة فلا ضمان عليه. * وقوله: (والمعدن جبار)، والمعدن الذي تستخرج منه الذهب والفضة، فيستأجر قومًا يحفره فينهار عليهم فدماؤهم هدر. * وقوله: (في الركاز الخمس)، الركاز: ما وجد من دفن الجاهلية، ويعرف ذلك بأن يرى عليه علامات الجاهلية، وسواء كان في موات أو في مكان مملوك لكنه لا يعرف مالكه، فهذا يجب فيه الخمس في الحال، أي نوع كان من المال في مذهب (123/ ب) أحمد، وأحد قولي مالك والشافعي. وفي القول الآخر: لا يجب الخمس إلا في الذهب والفضة. واختلف العلماء، هل يعتبر فيه النصاب؟

فعند أبي حنيفة وأحمد: لا يعتبر فيه النصاب، وهو قول الشافعي (رضي الله عنهم). واختلفوا في مصرف هذا الخمس على قولين: أحدهما: أنه مصرف خمس الفيء، وهو قول أبي حنيفة. والثاني، مصرف الزكاة، وهو قول الشافعي. وأما حكم المعدن، فإن المعدن اسم لكل شيء فيه من الخصائص المنتفع بها، كالذهب والفضة والياقوت والزبرجد والصفر والزئبق، فمن استخرج من ذلك ما يبلغ نصابًا أو قيمة نصاب تعلق به الحق. وأما مالك والشافعي لا يتعلق الحق إلا بالذهب والفضة. وقال أبو حنيفة: يتعلق بكل ما يتطبع. واختلفوا في الحق المتعلق به على قولين: أحدهما: أنه ربع العشر، وهو مذهب أحمد. والثاني: الخمس، وهو قول أبي حنيفة، وعن الشافعي كالقولين. وله قول ثالث: إن أصابه متفرقًا بتعب فربع العشر، وإلا فالخمس. ومتى يجب ذلك الحق؟ عند الجماعة، أنه يجب في الحال كما يجب في الركاز، خلافًا لداود، فإنه يعتبر الحول. وأما مصرف ذلك الحق فمصرف الركاز عند أحمد، وعند أبي حنيفة مصرفه مصرف الفيء.

-1896 - الحديث الثامن والخمسون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال: {رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} ويرحم الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف، لأجبت الداعي). (124/ أ). وفي رواية: (رحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبت). وفي رواية: (يغفر الله للوط، إن كان ليأوي إلى ركن شديد)]. * ليس في هذا إثبات شك نبينا - صلى الله عليه وسلم - ولا لإبراهيم عليه السلام، بل هو متضمن نفي الشك عنهما؛ لأن المعنى: إذا لم أشك بما في قدرة الله تعالى

عليه إحياء الموتى فإبراهيم أولى أن لا يشك؛ فكأنه نبه بهذا على أن إبراهيم ما سأل لأجل الشك نطق يفيده اليقين، ومشاهدة كيفية الإحياء، والدليل على ذلك أن الله تعالى قال له: {أولم تؤمن قال بلى} فكيف يظن ظان أن إبراهيم يقول لربه: بلى، إلا جوابًا لقوله: {أولم تؤمن}؟ وإبراهيم يعلم أن الله يعلم من إبراهيم صدقه في قوله: بلى. وذكر يوسف بما ذكره به تفضيل له وثناء عليه من جهة أن يوسف أراد أن يخرج خروج من قد ثبتت له الحجة لا خروج من عفي عنه. وأما لوط وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لقد كان يأوي إلى ركن شديد) فالذي أراه فيه أن لوطًا لم يعن بذلك إلا أنه لم يكن يأوي إلى غيره، فكأن الذي انتقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واعتبره في النطق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب للوط أن يأتي بنطق لا يتناول هذا الاحتمال؛ لأنه كان يأوي إلى ركن شديد، وهو الله عز وجل. -1897 - الحديث التاسع والخمسون: [عن أبي هريرة قال: (إنكم تقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل حديث أبي هريرة، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى (124/ ب) الله عليه وسلم، على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا. وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرءًا مسكينًا من مساكين الصفة أعي حين ينسون، ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث

يحدثه: (إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي مقالتي ثم يجمع إليه ثوبه، إلا وعى ما أقول)، فبسطت نمرة علي حتى إذا قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته جمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شيء). وفي رواية: (ولولا لآيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئًا أبدًا: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه ...} إلى آخر الآيتين. * وفي رواية: (قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني أسمع منك حديثًا كثيرًا أنساه، فقال: ابسط رداءك، فبسطته، فغرف بيده، ثم قال: ضمه، فضممته، فما نسيت شيئًا بعد)]. * في هذا الحديث يتعين التبليغ، وإن قال الناس في المحدث: أكثرت. * وفيه دليل على جواز السعي في طلب التجارة لقوله: (كان يشغلهم الصفق في الأسواق)، والصفق: ضرب اليد على اليد عن التبايع. * وفيه دليل على بطلان إنكار الجمع بين الكسب والتعلم، فإنه قال: لا

عالم أفضل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا متعلم أقبل للتعلم من المهاجرين، وقد كانوا يجمعون بين الكسب والتعلم. * وفيه أيضًا جواز ملء البطن، والمراد به الشبع، إلا أن قولنا في جواز الشبع وإباحته في هذا الموضع وفيها قبله من المواضع إنما نعني به الرد على من يرى التجوع المفرط الذي يفضي إلى إنهاك القوى؛ التي هي البضاعة التي تنفق في عبادة الله سبحانه المتنوعة، وأنه إذا طال جوع الفقير ومن لا يجد ما يحتاج (125/ أ) إليه ثم وجد ذلك في وقت شبعه منه بمباح صالح، ولاسيما إذا كان يعرضه ألا يجده متى أراده. فأما تكرير الشبع من الواجدين حتى يتتابع بذلك التابع إلى نصر هواه، وينجم به إلى الكسل والإفراط في النوم. وتعريضه تخمة، وهي من أقبح ما عرض لأهل الدين والمروءة، وأن يحملهم ذلك على المتبوع في الشهوات والمبالغة لطلب الملذوذات طعمًا من غير منفعة راجعة إلى حال تخص البدن، فإن ذلك مذموم غير مطلوب، ولا يصلح للمؤمنين، فإن أكل المؤمنين وفق الحاجة. * وفيه جواز أن يشغل الإنسان عمله في ضيعته، ولا يكون ذلك قادحًا في إيمانه ولا توكله. * وفيه أيضًا أن الصفة كانت مجتمع المساكين. * وفيه أيضًا ما يدل على نبوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن أبا هريرة بسط ثوبه، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم ينس، وقد يجوز أن يريد بالثوب الثوب حقيقة، ويجوز أن يراد بالثوب القلب كما قال الله عز وجل: {وثيابك فطهر}،

أي قلبك، ويكون بسط قلبه إحضاره للفهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجمعه إياه حفظه لما حصل فيه. والأول أظهر لقوله: فبسطت نمرة. ويجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى ما أشرنا ففهم أبو هريرة الظاهر، فبسط نمرته، وهي كساء ملون. * وفيه أيضًا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب ذلك مثالًا لأبي هريرة، أي كما أنك تبسط الثوب ثم تجمعه إليك؛ فكذلك يحفظ العلم. -1898 - الحديث الستون: [عن الزهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد أن أبا هريرة أخبرهما أن الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: (هل (125/ ب) تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟) قالوا: لا يا رسول الله. قال: (فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب؟)، فقالوا: لا، قال: (فإنكم ترونه كذلك، يحشر الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئًَا فليتبع، فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع القمر، ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله عز وجل، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا؟ فيدعوهم، ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته، ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل، وكلام الرسول يومئذ: اللهم سلم سلم، وفي جهنم كلاليب، مثل شوك السعدان، هل رأيتم شوط السعدان؟) قالوا: نعم، قال: (فإنها مثل

شوك السعدان، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم من يخردل، ثم ينجو، حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان يعبد الله، فيخرجونهم، ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار وقد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل. ثم يفرغ الله من القصاص بين العباد، ويبقى رجل بين الجنة والنار، وهو آخر أهل النار دخولًا الجنة، مقبل لوجهه قبل النار، فيقول: يارب، اصرف وجهي عن النار، قد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها، فيقول: هل عسيت إن أفعل ذلك أن تسأل غير ذلك؟ فيقول: لا وعزتك. فيعطي الله ما شاء من عهد وميثاق، فيصرف الله وجهه عن النار، فإذا أقبل به الجنة رأى بهجتها، سكت ما شاء الله أن يسكت. ثم قال: يا رب، قدمني عند باب الجنة، فيقول الله (126/ أ) عز وجل له: أليس قد أعطيت العهود والميثاق ألا تسأل غير الذي كنت سألت؟ فيقول: يا رب لا أكون أشقى خلقك، فيقول: فما عسيت إن أعطيت ذلك أن تسأل غيره؟، فيقول: لا وعزتك، لا أسال غير هذا، فيعطي ربه ما شاء من عهد وميثاق، فيقدمه إلى باب الجنة، فإذا بلغ بابها، رأى زهرتها وما فيها من النضرة والسرور). * وفي حديث إبراهيم بن سعد: (فإذا قام إلى باب الجنة انفهقت له الجنة، فرأى فيها من الخيرة والسرور، فسكت ما شاء الله أن يسكت، فيقول: يا رب أدخلني الجنة، فيقول الله تعالى: ويحك يا ابن آدم، ما أغدرك؟ أليس

قد أعطيت العهود ألا تسأل غير الذي أعطيت، فيقول: يا رب لا تجعلني أشقى خلقك، فيضحك الله منه، ثم يأذن له في دخول الجنة، فيقول: تمن، فيتمنى، حتى إذا انقطعت أمنيته، قال الله تعالى: تمن من كذا وكذا- يذكره ربه- حتى إذا انتهت به الأماني قال الله: لك ذلك ومثله معه). قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (قال الله: لك ذلك وعشرة أمثاله)، قال أبو هريرة: لم أحفظ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قوله: (لك ذلك ومثله معه). قال أبو سعيد: إني سمعته يقول: (لك ذلك وعشرة أمثاله)]. * في هذا الحديث الدليل الواضح على رؤية المؤمنين ربهم عز وجل في الآخرة، وأنهم لا يشكون في رؤيتهم، كما لا يشك أهل الدنيا في رؤية الشمس، وهذا فإنما ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلًا للرؤية؛ إذ الله سبحانه وتعالى لأجل من أن يشبه بالشمس أو القمر، إنما ضرب ذلك مثلًا لإيضاح الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي. * وقوله: (ليس دونه سحاب)، يعني: أن الله سبحانه يتجلى لعباده المؤمنين (126/ ب) تجليًا يوقع فيه بينه وبينهم كل حجاب.

* وفيه أيضًا أن من كان يبعد فانيًا فإنه يلحق به، فإن عباد الشمس إذا هي كورت لم يبق لهم ما يعبدونه؛ وكذلك القمر، وكذلك الطواغيت وهي الشياطين، وإنهم إذا رموا في الجحيم ضل عنهم ما كانوا يفترون. * وقوله: (وهي هذه الأمة فيها منافقوها)؛ فإنه إنما تخلص أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من بين سائر من كان يعبد الأشكال والأجسام، وكل محصور ومحدود، وما قبل الفناء موصوم بوصمة الحدث ومشوه بآثار الصنعة فيه، ومن بقي من هذه الأمة وليس من دينها أن تعبد الأشكال ولا الصور ولا الشمس ولا القمر، وإنما تعبد خالق الكون الذي يدل عليه محدثاته وصنائعه، وترشد إليه أفعاله، فهو سبحانه القريب المجيب. * وقوله: (فيأتيهم الله سبحانه وتعالى، فيقول: أنا ربكم)، فيكون من توفيقهم أن يقولوا هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، ولم يقولوا: أنت ربنا، ولكن كلامهم يدل على أننا نعرف ربنا. * وقوله: (فيأتيهم، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا)، وذلك أنه يريهم ما لا أمارة للحدث فيه، ولا هو جزء ولا جملة؛ بل هو جل جلاله يخالف كل الأجسام والمثل لغيره والشبيه لسواه، فكأن كل دلائل الأجسام وأمارات التأليف والتفريق المرشدة إليه ودالة عليه، فصار معروفًا من حيث إن النقص في سواه سبحانه وتعالى، فعرفه عباده الذين آمنوا به في الدنيا بأول وهلة، حتى كأنهم لم يعرفوا غيره قط، ولا كأنهم فارقوه سبحانه وتعالى لأنهم رأوا من ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، ومذهب كل من كان يعبد غير الله عز وجل من الأجسام والأشكال (127/ أ) والشمس والقمر؛ فيفترق عابدهم ومعبودهم كأنهم لم يكن بينهم معرفة قط.

* وقوله: (فيدعوهم)، المعنى أنه ما كان دعاؤهم إياه في الدنيا دعاهم هو يوم القيامة. * وقوله: (ثم نصب الصراط)، وهذا يدل على أن الله تعالى يدعوهم من وراء الحشر، والحشر آخر الأهوال التي تقطع إليه سبحانه وتعالى، وكل جهاد أن يتخوض إليه الأهوال في الدنيا؛ يخفف عنه يوم القيامة كل هو إن شاء الله. * وقوله: (دعوى الرسل اللهم سلم سلم)؛ فإن الحال يومئذ لا يقتضي سؤال منزلة ولا طلب كرامة؛ بل يكون إيثار الكل السلامة والخلاص من هول ذلك اليوم. * وقوله: (كحسك السعدان)، الحسك جمع حسكة، وهو شوكة حديدة صلبة يقال لها السعدان، والمراد أن أهل النار جمع فيها كل شدة، وإن من أشد السلاح نشبًا في جسم الآدمي ما كان على شكل الحسك، فإنه ينشب ولا يقدر من أثبته على تخليته. * وقوله: (فمنهم الموثق بعمله) أي الهالك، ومنهم المخردل، والمخردل: المقطع، يقال: خردل الشاة إذا قطعها قطعًا. * وفي الحديث ما يدل على أن أقوامًا يخرجون من النار وأن آثار السجود مانعة من العذاب. * وقوله: (قد امتحشوا)، قال ابن قتيبة: يعني احترقوا.

* وقوله: (فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل). قال أبو عبيد: كل شيء له حب، فاسم الحب منه حبة، فأما الحنطة والشعير فحبة لا غير. وحميل السيل: كل ما حمله، وكل محمول حميل، وإنما المراد سرعة نباتهم بعد احتراقهم. * وقوله: (وقد قشبني ريحها)، هو من القشب، والقشب: السم، كأنه قال: قد سمني ريحها، ويقال: لكل مسموم قشيب (127/ ب). * وقوله: (وأحرقني ذكاؤها)، وذكاء النار اشتعالها. يقال: ذك النار ذكوًا ذكوًا. * وقوله: (انفهقت له الجنة): أي انفتحت واتسعت، ومنه صحراء فيهق أي واسعة. * في هذا الحديث من الفقه أن هذا الرجل كان آخر أهل الجنة دخولًا إليها، وإنه كان في النار؛ ثم أن خرج من النار، ثم قانعًا بعد ذلك بأن يحول وجهه عنها، وبقي في ذلك، ثم أعرب بعد ذلك بأن يدنى إلى الجنة، ثم أذن في ذلك، حتى يسأل فيعطيه الله عز وجل ما أعطاه من ذلك. * وهذا يدل على أن جل جلاله حيث كان من عدله في هذا أن عذبه بالنار إلى أجل انتهى به إلى وقت اقتضت رحمته أن يخرجه من النار، فأخرجه منها، ثم صرف وجهه إليها ليكون ناظرًا من أهوالها ما ذكر ناظرًا إليه،

وهو فيها، وناشقًا من حثيث ريحها ما لم يسم كنه إلا بعد خروجه عنها، وواجدًا من لهبها ما لم يحسبه إلا بعد أن قل عنده وقعها؛ فكانت أمنيته من الله عز وجل أن يصرف وجهه عن النار، والله عز وجل قد علم منه أنه إذا صرف وجهه عنها سأل غير ذلك. وأراد سبحانه أن يعرفنا على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جهل هذا الرجل بربه، وأنه لم يكن من العلماء به جل جلاله؛ فإنه لما اشترط عليه أن لا يسأل ربه، استدل بذلك على أنه قد كان في الدنيا قل ما يسأل ربه، وإلا فقد كان من وفقه لو كان من أهل التوفيق، أن يقول: يا رب، وكيف لا أسألك؟ وأنت تحب أن تسأل؟ فمنذ قنع وشرط أن لا يسأل شيئًا دل بذلك على أنه كان من أهل عوائد السوء وقلة الطلب من الله عز وجل في دار الدنيا، ثم إنه لما رأى أنه لم يقدر أن يصبر على سؤال الله عز وجل؛ فاشترط عليه جل جلاله ثانيًا، لم (128/ أ) يتيقظ، ولم يقل: رب كيف لا أسألك وقد أريتني نعمة من نعمك فكم أصبر؟، وكيف أصبر على سؤال فضلك؟ وبماذا أستغني عنك، وممن أطلب إذا لم أطلب منك؟ وهل يمكن المؤمن في الدنيا أن يخلو طرفة عين من الطلب منك. فلو قد عرف هذا الشخص معاملة الله عز وجل في الدنيا لما غم عليه هذا الأمر في الآخرة؛ فلما دناه إلى باب الجنة فانفهقت له، فرآها، طلب من الله أن يدخلها، فهذا لجهله لم يسأل الجنة إلا عند بابها بخلاف الموفقين من المؤمنين، فإنهم سألوا الجنة وبينهم وبينها مراحل الدنيا كلها، ومراحل البرزخ، ومراحل الآخرة على يقين بها، وهذا لم يعرف صفتها ولا طلبها حتى وصل إلى بابها بالرحمة، يدنيه منزلًا منزلًا، وجهله يبعده، ثم أن الله تعالى أدخله الجنة، وقال له: ما أغدرك؟ يجوز أن يكون المعنى أي شيء أغدرك، أي خلقك على أنه يفيق، فلم يفيق.

والمعنى الآخر، أن يكون على ظاهره من التعجب من غدره، فكانت له غدرات مقدمة في الدنيا، وهذه الغدرات في الآخرة مضافة، ثم إن الله سبحانه قال له: تمن، فلجهله لم يحسن أن يسأل حتى علمه الله، فقال له: تمن كذا، وتمن كذا، فيذكره ربه حتى إذا انتهت الأماني قال له: هذا لك ومثله معه. * قال أبو سعيد: إنما سمعت وعشرة أمثاله معه، والله سبحانه وتعالى يعطي هذا العطاء عطاء غير نادم ولا بخيل، فهذا يكفي في الإشارة إلى كرم الإله في عطائه؛ لأنه إذا كان هذا المعطي آخر من يدخل الجنة، وآخر من يخرج من النار فقد تبين بذلك مع الإيمان بعدل الله أن هذا قد كان من أشد العابثين جرمًا؛ وإنه ما زالت به غدراته حتى بعد خروجه من النار، وجهله باق. ثم يعطي الله سبحانه هذا العطاء المستغرق (128/ ب) لسؤاله من حيث علمه هو، ثم يعلمه الله كيف يسأل، واستغرق أعطاه الأماني كلها حتى تقطعت، فأعطاه الله سبحانه ذلك من حيث التجنيس، ثم أعطاه من جنس الأوصاف، فاتفق الصاحبان السيدان على أن الله سبحانه قال: (لك ذلك ومثله معه)، وزاد الصاحب العدل المقبول القول إنه قال: (لك ذلك وعشرة أمثاله معه). وهذا العطاء انتهى لهذا الإنسان إلى ما لا يمكن العقل إلى تفسيره، ويعطى هذا العطاء على هذا الجهل، فهل ممكن أن يقدر أحد ما يعطي الله تعالى أهل المعرفة به!. * وقوله: (وعشرة أمثاله)، هو أن يكون في المقادير سعة وعلو وكثرة وطيب معه.

-1899 - (ق2/ أ) الحديث الحادي والستون: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: استب رجل من المسلمين، ورجل من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمدًا على العالمين- في قسم يقسم به-، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم عند ذلك يده فلطم اليهودي، فذهب اليهودي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره الذي كان من أمره وأمر المسلم، فقال: (لا تخيروني على موسى؛ فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق، أو كان ممن استثنى الله عز وجل؟). وفي رواية: (بينما يهودي يعرض سلعته أعطي بها شيئًا كرهه، فقال: لا، والذي اصطفى موسى على البشر، فسمعه رجل من الأنصار، فقام فلطم وجهه، وقال: تقول: والذي اصطفى موسى على البشر والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا؟

فذهب إليه، فقال: يا أبا القاسم، إن لي ذمة وعهدًا، فما بال فلان لطم وجهي؟ فقال: (لم لطمت وجهه)، فذكره فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى رئي في وجهه، ثم قال: (لا تفضلوا بين أنبياء الله؛ فإنه ينفخ في الصور، فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدري: أحوسب بصعقة يوم الطور، أم بعث قبلي؟ ولا أقول: إن أحدًا أفضل من يونس بن متى). وفي رواية: (فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش). وفي رواية: (إني لأول من يرفع رأسه بعد (2/ ب) النفخة، فإذا موسى متعلق بالعرش)]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المفاضلة بين الأنبياء. والذي أراه في هذا المعنى لا تفاضلوا أنتم بين الأنبياء؛ أنبياء الله، وكلوا ذلك

إلى أمر الله تعالى كما قال تعالى: {تلك الرسول فضلنا بعضهم على بعض} فإذا اتبعنا قول الله عز وجل فيمن فضله، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك لم يكن نحن قد فضلناه على موسى، فليتأمل ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * فأما قوله: (فأكون أول من بعث)، فهو دليل على فضله؛ إذ هو مبعوث فإذا رأى موسى باطشًا بقائمة العرش جوز لذلك أحد أمرين: إما أن يكون حوسب بصعقة الطور فلم يصعق أو بعث قبله. وأما كون موسى واقفًا عند العرش؛ فلأن نبينا - صلى الله عليه وسلم - مشغول بفصل الأقضية، وإدخال الفريقين منازلهما فلا يتولى أحد قبله شيئًا. * وقوله: (لا أقول إن أحدًا أفضل من يونس بن متى)، إني لا أقوله من عندي بل التفضيل إلى الله تعالى، وقد سبق الكلام في حق يونس. -1900 - الحديث الثاني والستون: [عن أبي هريرة قال: (أتى رجل من أسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد، فناداه: فقال: يا رسول الله، إن الآخر قد زنا- يعني: نفسه، فأعرض عنه، فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله فقال له ذلك، فأعرض عنه، فتنحى الرابعة، فلما شهد على نفسه أربع مرات دعاه، فقال: (هل بك جنون؟) قال: لا، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اذهبوا به فارجموه)، وكان قد

أحصن). قال ابن شهاب: فأخبرني من سمع جابر (3/ أ) بن عبد الله يقول: فرجمناه بالمصلى بالمدينة، فلما أذلقته الحجارة جمز حتى أدركناه بالحرة، فرجمناه حتى مات)]. * قد سبق الكلام في الرجم وأشرنا إليه في مسند بريدة وغيره. * وقوله: (فلما أذلقته الحجارة) أي أكربته وأقلقته فخرج منها. -1901 - الحديث الثالث والستون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذًا فليعذ به). زاد بعض الرواة: (من الصلاة صلاة من فاتته، فكأنما وتر أهله وماله).

وفي رواية: (ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، فمن تشرف لها استشرفه فمن وجد منها ملجأ أو معاذًا فليعذ به). * وفي رواية: (ستكون فتنة، النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي، فمن وجد ملجأ أو معاذًا فليستعذ). * وفي رواية: (ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ أو معاذًا فليعذ به)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن الفتن شر كلها، وإن القاعد خير من القائم، فإن مني بها، فإن كان قاعدًا فلا يقم، وإن كان قائمًا فلا يمش، وإن كان ماشيًا فلا يسع. وأراد بهذه الألفاظ - صلى الله عليه وسلم - أن كل حركة في الفتن فتنة، ويصل من الشر إلى التحرك فيها بمقدار حركته منها. * وقوله: (من تشرف لها تستشرفه) أي من تطلع (3/ ب) إليها تسلية تأخذه غلبة، فلا ينبغي لأحد أن يتطلع إلى شيء من الفتن فإنها تعلو عليه.

-1902 - الحديث الرابع والستون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن). وفي رواية: كان أبو هريرة يلحق معهن- (ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن). وفي رواية: (يرفع إليه المؤمنون أعينهم فيها، وهو حين ينتهبها مؤمن). وفي رواية: (لا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن، فإياكم إياكم). وفي رواية لمسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد)]. * قد سبق أن شرحنا هذا الحديث، وبينا فيه وجوهًا، منها: أنه لا يفعل ذلك وهو كامل الإيمان.

* وقوله: (ذات شرف) أي: علو في قدرها. * وقوله: (إياكم، إياكم) مبالغة في التحذير. * وقوله: (والتوبة معروضة بعد) أي: لم يغلق بابها. * وفيه دليل على أن توبة السارق والزاني وفاعل هذه الأشياء مقبولة. -1903 - الحديث الخامس والستون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بينما راع في غنمه عدا الذئب، فأخذ منها شاة فطلبها حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب، فقال: من لها يوم السبع، يوم ليس لها راع غيري؟) فقال الناس: سبحان الله! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإني أومن به، وأبو بكر وعمر، وما أثم أبو بكر وعمر). وفي رواية: (بينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها، التفت إليه، فقالت: إني لم أخلق لهذا، ولكني إنما خلقت للحرث)، فقال الناس: (4/ أ) سبحان الله! - تعجبًا وفزعًا- البقرة تكلم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فإني أومن به، وأبو بكر وعمر) قال أبو هريرة: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بينما راع في غنمه عدا عليه الذئب، فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي فاستنقذها منه ...). وفي رواية: (صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح، ثم أقبل على الناس، فقال: (بينما رجل يسوق بقرة، إذ ركبها فضربها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث)، فقال الناس: سبحان الله! بقرة تكلم؟ فقال:

(فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر، وما هما ثم)]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر حال فيها الراعي وضربه مثلًا للرعاة الذين يرعون الناس، وأنه إذا وثب على بعضهم ذئب من ذئاب الظلمة؛ فإنه يتعين على الراعي أن يطلبه حتى يستنفذه منه. * وقوله: (من لها يوم السبع، يوم ليس لها راع غيري)، يعني: أن في قوتك أن تدفع الذئب، فكيف لو كان السبع؟ فحينئذ أكون أنا المشارك له أو الطالب ويجوز أن يكون المعنى: لو كان سبع فأخذك بقيت أنا وهي لا راعي لها غيري. وقال ابن الأعرابي: إنما هو السبع بتسكين الباء، وهو الموضع الذي يحشر فيه الناس يوم القيامة. وقيل: السبع الشدة والذعر. وقيل: المعنى من لها يوم الفزع، يوم يتركها الناس هملًا لا راعي لها، نهب الذئاب والسباع. * وفي الحديث دلالة على فضيلة أبي بكر وعمر وثقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإيمانهما إيمانًا لا يعقبه ارتياب. * وفيه دليل على أن الله تعالى ينطق الحيوان البهيم إذا شاء.

* وفيه أن البقر خلقت للحرث وضعًا. -1904 - الحديث السادس (4/ ب) والستون: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (قرصت نملة نبيًا من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه: أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح؟). وفي رواية: (نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة، فلدغته نملة فأمر بجهازه فأخرج من تحتها، ثم أمر ببيتها فأحرق بالنار، فأوحى الله عز وجل إليه: فهلا نملة واحدة؟)]. * في هذا الحديث من الفقه التحذير من التعدي في الاقتصاص، وأنه لا ينبغي للإنسان، وإن شرفت منزلته أن يتجاوز في استيفاء القصاص حد المشروع، فإن هذا وهو نبي من الأنبياء لم يسامح في الحيف على نملة، وعوتب في ذلك. -1905 - الحديث السابع والستون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الحبة السوداء: (شفاء من كل داء إلا السام).

قال ابن شهاب: والسام: الموت، والحبة السوداء: الشونيز. وفي رواية: (ما من داء إلا في الحبة السوداء منه شفاء إلا السام)]. * تفسير الحديث مذكور فيه، والذي أرى أن الاستشفاء بهذه الحبة من وجوه: منها أن تشتم فإنها تفتح السدد من الرأس، فإذا تفتحت السدد من الرأس، والرأس عماد البدن كان في تفتيح السدد خروج الأبخرة المضيقة على الروح والحاصرة للقلب، ومع تفتح السدد فإنه ينتشق الروح من الهواء الخارج ما يقوى به على دفع الداء الباطن. وهذا منه فإنه نافع في كل داء إلا الموت، فإنه ما دامت الروح في البدن فإن يفتح السدد من منافذ الرأس المتصلة إلى القلب (5/ أ) حتى ينشق الأراشيح التي يتغذي بها القلب، فإنه إجماع من الأطباء من غير خلاف أعرفه بينهم، أن ذلك ينفع في الأدواء كلها ويشفي منها. * وقوله: (يشفي من كل داء)، دلل على أنه يشفي من الداء أن يشفي من جميع الداء. -1906 - الحديث الثامن والستون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تمنعوا فضل الماء ليمنعوا

به الكلأ). وفي رواية: (لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ). وفي رواية: (لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ)]. * قال أبو عبيد: هي البئر التي تكون في بعض البوادي، ويكون قربها كلأ، فربما سبق إليها بعض الناس فمنعوا من جاء بعدهم، فإذا منعوهم الماء فقد منعوهم الكلأ، ولم يرووها من الماء قتلها العطش. -1907 - الحديث التاسع والستون: [عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلًا على خيبر، فجاء بتمر جنيب، فقال: (أكل تمر خيبر هكذا؟) قال: إنا لنأخذ الصاع بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: (لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنبيًا) وقال في الميزان مثل ذلك)].

* في هذا الحديث تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - كيفية الخروج من الربا، بأن يباع الشيء بالدراهم، ويشترى بالدراهم ذلك الشيء، وإنما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك؛ لأن اسم التمر يجمعها، فإذا أجيز بيع صاع من تمر بصاعين من تمر فقد بيع شيء من جنسه كيلًا بمثليه، فيكون الربا فيه ظاهرًا، والتمر الجنيب الجيد من التمر. -1908 - الحديث السبعون: [عن أبي هريرة قال: (أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف قيامًا). وفي رواية: (فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قام في مصلاه (5/ ب) ذكر أنه جنب، فقال لنا: (مكانكم). وفي رواية: (فمكثنا على هيئتنا- يعني قيامًا- حتى رجع فاغتسل، ثم خرج إلينا ورأسه يقطر، فكبر، فصلينا معه). وفي رواية لمسلم: (إن الصلاة كانت تقام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيأخذ الناس مصافهم قبل أن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - مقامه)].

* في هذا الحديث ما يدل على الأمر بتسوية الصفوف. * وفيه ما يدل على صدقه، وأنه ينبغي لكل مسلم أن يتأسي به في الصدق عن حاله، ويخاف الله عز وجل ولا يخاف قالة الناس. * وفيه ما يدل على أن النسيان جائز على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه أنه ينبغي للمأمومين الوقوف لانتظار الإمام إذا جرى له مثل هذه الحال. -1909 - الحديث الحادي والسبعون: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة). وفي رواية: (من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام). وفي رواية: (فقد أدرك الصلاة كلها). وفي رواية للبخاري: (إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة الصبح قبل

أن تطلع الشمس فليتم صلاته)]. * المراد بهذا الإدراك: إدراك فضيلة الجماعة، وأما ما فاته فلابد من قضائه. واختلف العلماء فيما يأتي بعد تسليم الإمام: هل هو أول صلاته أو لآخرها؟ فمذهب الشافعي أن ما يدركه أول صلاته، ومذهب أحمد أنه آخرها. والمراد بالسجدة الركعة. * وفيه من الفقه أن الله تعالى رفق بعبيده رفقًا ظهر لمتأمله؛ فإنه لما شرع لكل صلاة وقتًا تؤتى بها فيه كان من حيث التقدير متسعًا (6/ أ) لأمثال فعل تلك الصلاة، فإذا ترك العبد فضيلة أول الوقت ثم زاد به التأخير حتى لم يبق من الوقت مقدار فعل الصلاة فقد ضايق الأمر، أو عرض عبادته لخطر الفوات، إلا أنه أحسن حالًا ممن أخر ذلك حتى لم يبق من وقت الصلاة إلا مقدار ركعة؛ فإنه من غير شك يصلي باقي صلاته بعد فوت الوقت. إلا إنه سبحانه رفق بعبده فاحتسب له بأول فعله في الوقت وأجرى آخرها مجرى أولها؛ فإن عرض هذا في وقت لضرورة نادرًا فليكن داعيًا إلى الحذر من مثله فيما بعد، ويعلم أن هذا الرفق ينبغي أن يخجل المؤمن عند الاحتساب لبه به لا ليتجرأ على تكريره ما استطاع.

-1910 - الحديث الثاني والسبعون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لكل نبي دعوة يدعو بها، فأريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في يوم القيامة). وفي رواية: أن أبا هريرة قال لكعب الأحبار: إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لكل نبي دعوة يدعوها، فأريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)، قال كعب لأبي هريرة: أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم). وفي رواية: (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا). وفي رواية: (لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها فيستجاب (6/ ب) له فيؤتاها، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة). وفي رواية: (لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيب له، وإني أريد أن أدخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)].

* هذا الحديث قد سبق وذكرنا الكلام عليه، وهو يدل على قوة فقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفضل فهمه؛ لأنه رأى أن ما يستعجل في الدنيا يفنى هو ونفعه، فادخر ذلك لما يبقى هو وأثره. * وقوله: (وهي نائلة من مات لا يشرك بالله شيئًا)، يدل على أن شفاعته - صلى الله عليه وسلم - منبسطة، وأن جاهه عريش متسع لأن يرفع كل جرم إلا الشرك؛ فإن الشرك يمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستحس أو يستجيز في مجاهدته في سبيل الله ربه لأهل الشرك ومعاداته إياهم لأجله؛ أن يعود شفيعًا فيهم، فيكون هذا من الأمور التي لا يحسن بمؤمن فكيف برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبرد قلبه عن كافر كفر بالله أو أشرك به؟ -1911 - الحديث الثالث والسبعون: [عن أبي هريرة قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال في الصوم، فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله؟ قال: (وأيكم مثلي؟، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني) فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال، واصل بهم يومًا، ثم يومًا، ثم رأوا الهلال، فقال: (لو تأخر لزدتكم) كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا). وفي رواية للبخاري: (إياكم والوصال) - مرتين-، فقيل: إنك تواصل، قال: (أبيت يطعمني ربي ويسقيني؛ فاكفلوا ما تطيقون). وفي رواية لمسلم: (إياكم والوصال) قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله

(7/ أ) قال: (إنكم لستم في ذلك مثلي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فاكلفوا من الأعمال ما تطيقون) وفي رواية: (فاكلفوا ما لكم به طاقة)]. * قد سبق هذا الحديث، وبينا أنه أمرهم بالرفق، فلما أبوا أراد أن يذيقهم أمر مخالفتهم فلطف الله تعالى بطلوع الهلال، وبين لهم - صلى الله عليه وسلم - أنه ليس كأحدهم؛ لأنه لمكان اختيار الله تعالى يقدر على ما لا يطيقون. -1912 - الحديث الرابع والسبعون: [عن أبي هريرة أنه كان يصلي بهم فيكبر كلما خفض ورفع، فإذا انصرف قال: (إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع صلبه من الركعة ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد، ثم يكبر حين يهوي ساجدًا، ثم يكبر يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر

حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس). زاد في حديث ابن جريج، ثم يقول أبو هريرة: إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وزاد هو وغيره: الواو، في قوله: (ولك الحمد). وفي رواية: (أن أبا هريرة كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها، في رمضان وغيره، فيكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، ثم يقول: ربنا ولك الحمد- وذكر نحوه- وقال في آخره: ويفعل ذلك في كل ركعة حتى يفرغ من الصلاة، ثم يقول حين ينصرف: والذي نفسي بيده، إني لأقربكم شبهًا بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن كانت هذه لصلاته (7/ ب) حتى فارق الدنيا- قال: وقال أبو هريرة- كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يرفع رأسه يقول: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، يدعو الرجال، فيسميهم بأسمائهم، فيقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين. اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسني يوسف)، وأهل المشرق يومئذ من مضر مخالفون له). وفي رواية لمسلم: (أن أبا هريرة كان يكبر في الصلاة كلما رفع ووضع، فقلنا له: يا أبا هريرة، ما هذا التكبير؟ فقال: إنها لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية عن أبي هريرة: أنه كان يكبر كلما خفض ورفع، ويحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك)].

* قد سبق ذكر التكبير في مسند ابن عباس وغيره، وسبق ذكر القنوت. * وقوله: (اشدد وطأتك على مضر)؛ لأنهم حينئذ كانوا عدوًا له. -1913 - الحديث الخامس والسبعون: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي: أن يتغنى بالقرآن). قال سفيان: إن تفسيره أن يستغنى به. وفي حديث: (يريد يجهر به). وفي رواية: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به). وفي رواية: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) - زاد غيره-: (يجهر به)]. * قوله: (ما أذن) أي: ما استمع.

* وقوله: (لنبي) أشد الخلق فهمًا لكلام ربه عز وجل وهو يقرأه عن فهم له وتدبر فيه فيظهر ذلك التدبر، وفهم تلك المعاني على قراءته وفي صوته، فيكون الله جل جلاله (8/ أ)، أشد أذنا؛ لأنه يتلو كلام ربه عن فهم له بصوت حسن، فإذا سمعه السامع أشار له حسن الترتيل إلى فهم لم يحصل له عند غير تلك التلاوة. * وقوله: (يتغنى بالقرآن) أي: إنه إذا كان طرب أهل الأشعار بأشعارهم، كان طرب المؤمن بكلام ربه ولذته فيه؛ فهو هجيراه. * ولا يجوز أن يحمل على تفسيح الحروف ولا تمطيطها كما يفعل بعض قراء زماننا من الأعاجم وغيرهم؛ فإن ذلك غير جائز. وإنما القراءة الحسنة هي التي يوفى فيها الكلم مبالغ الإثبات، ولا يخل فيها بمد في ألف ولا واو ولا ياء، وإذا وليت واحدًا منها الهمزة؛ وكذلك إذا توالى الساكنان فلابد من مد في نحو {آلم (1) ذلك الكتاب}، وفي نحو: {صواف}. وكذلك فإنه يحترز للراء في تفخيمها مفتوحة وترقيقها مكسورة؛ فإن كانت ساكنة في نحو (مريم) فإنها تكون إلى التفخيم، وكذلك في تمكين التشديدات؛ فإنها في النطق على نحو (الأبراج في الجدر) إلى غير ذلك.

على أن هذا وأمثاله هو من تجويد القراءة، فلا ينبغي للقارئ أن يقف معه دون فتح بصيرته للفهم الذي إذا مد ناشق إليه حاسة انتشاقه بارح عرف طيبه فعلق منه برأس الإنسان وفي قلبه ما يظهر على جملته من آثار الطرب، والإعجاب ما لا يخفى على من شاهده، فكيف بمن هو الطرب نفسه؟ وإن قيل: المراد به الاستغناء، كان المعنى يستغني به أن يسأل غيره في فتوى ويستشفى به من كل داء يعرض له في قلبه وبدنه (8/ ب)، ويستغنى بما فيه من الوعد عن أن يذل لأحد من الخلق، ويستغنى به غنى ينتهي أنه لم يبق عنده حاجة إلى شيء سواه. -1914 - الحديث السادس والسبعون: [عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ننزل غدًا إن شاء الله، بخيف بني كنانة؛ حيث تقاسموا على الكفر- يريد المحصب). وفي رواية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال- حين أراد قدوم مكة-: (منزلنا غدًا إن شاء الله: بخيف بني كنانة؛ حيث تقاسموا على الكفر). وفي رواية: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغد يوم النحر- وهو بمنى-: (نحن نازلون غدًا بخيف بني كنانة؛ حيث تقاسموا على الكفر)، يعنى بذلك: المحصب- وذلك أن قريشًا وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب- أو بني عبد المطلب- أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، حتى يسلموا إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال البخاري: (وبني المطلب أشبه).

وفي رواية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حين أراد حنينًا: (منزلنا غدًا إن شاء الله بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر). وفي رواية: (منزلنا، إن شاء الله، إذا فتح الله الخيف؛ حيث تقاسموا على الكفر)]. * وقد مضى هذا في مسند ابن عمر، وقد فسر في الحديث. والخيف: ما انحدر عن الجبل وارتفع عن السيل. وتقاسموا: بمعنى تحالفوا. وإنما آثر النزول هنالك لما قدم مكة شكرًا لنعمة الله تعالى في التمكين، ونقضًا لعهد المشركين. -1915 - الحديث السابع والسبعون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اشتكت النار إلى ربها، فقالت: رب، أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر (9/ أ)، وأشد ما تجدون من

الزمهرير). وفي رواية: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم، واشتكت النار إلى ربها، فقالت: رب أكل بعضي بعضًا؛ فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف؛ فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير). وفي رواية عن أبي هريرة وعن ابن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم). وفي رواية: (قالت النار: أكل بعضي بعضًا، فأذن لي أتنفس، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم، وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم). وفي رواية: (إذا كان الحر فأبردوا عن الصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم)، وذكر أن النار اشتكت إلى ربها، فأذن لها في كل عام بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف. وفي رواية: (إذا كان اليوم الحار فأبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم). وفي رواية: (أبردوا عن الحر في الصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم). وفي رواية: (إن هذا الحر من فيح جهنم فأبردوا بالصلاة)].

* في هذا الحديث من الفقه أن في النار عذابًا من حر وبرد، فإنه قال: إن شدة ما ترون من الحر، وشدة ما ترون من الزمهرير يعني أن ذينك من جهنم. * وقوله: (فأذن لها في كل عام بنفسين) يدلك على أنها خلق من خلق الله عز وجل موجودة، وأن العذاب جمع كله فيها؛ حتى إنه لو لم يؤذن لها في النفسين لما رأينا في هذه الدنيا حرًا ولا بردًا، فإذن يشير هذا الحديث إلى أن العذاب (9/ ب) كله مجموع فيها؛ لأنها دار سخط الله عز وجل، فليس نوع من أنواع العذاب إلا وهي مشتملة عليه، وإنها تزدحم الشرر فيها حتى يأكل بعضها بعضًا، وهذا يدل على أنها قد تأكل ما يلقى فيها، ثم يعودوا. وكلما أكل بعضها بعضًا تضاعف شرها، فإذا تنفست هذين النفسين في شدة الصيف والشتاء، كان هذا النفس في الصيف، وهذا النفس في الشتاء دليلًا صريحًا على أنها مخلوقة موجودة، فإن قال قائل: فأين هي؟ قلنا: إذا ثبت أن هذا العذاب منها دل على وجودها، وعلم الله سبحانه محيط بمكانها، وهذا أثرها على ما بعدها ونأيها، فكيف في حال قربها؟. -1916 - الحديث الثامن والسبعون: [عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (الفخر والخيلاء

في الفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم). زاد شعيب عن الزهري: (والإيمان يمان، والحكمة يمانية). قال البخاري: وسميت اليمن؛ لأنها عن يمين الكعبة، والشأم؛ لأنها عن يسار الكعبة. وفي رواية: (رأس الكفر نحو المشرق، والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل بالفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم). وفي رواية: (أتاكم أهل اليمن، هم ألين طوعًا، وأرق أفئدة، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، ورأس الكفر قبل المشرق). وفي رواية: (والفخر والخيلاء في أهل الإبل، والسكينة والوقار في أصحاب الشاة). وفي رواية: (الإيمان يمان، والفتنة هاهنا؛ حيث يطلع قرن الشيطان). وفي رواية: (أتاكم أهل اليمن، اضعف قلوبًا، وأرق أفئدة، الفقه يمان، (10/ أ) والحكمة يمانية). وفي رواية: (جاء أهل اليمن هم أرق أفئدة وأضعف قلوبًا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، السكينة في الغنم، والفخر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر قبل مطلع الشمس). وفي رواية: (جاء أهل اليمن هم أرق أفئدة. الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية). وفي رواية: (الإيمان يمان، والكفر قبل المشرق، والسكينة في أهل

الغنم، والفخر والرياء في الفدادين أهل الخيل والوبر)]. * قد تقدم الكلام في هذا الحديث، وبينا الخلاف في تشديد لفظة الفدادين وتخفيفها، وذكرنا وجه قوله: (الإيمان يمان).

-1917 - الحديث التاسع والسبعون: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء). قال ابن شهاب: وقد رأيت رجالًا من أهل العلم يسبحون ويشيرون)]. * التسبيح في الصلاة إذا وجد لما ينافها؛ لأنه مذكور في الصلاة، وإنما شرع التصفيق للنساء لأشياء منها: - أن لا يسمع المؤمنون صوت المرأة في الصلاة، فإنه وأن لم يكن عورة، فإن الأولى تجنبه مخافة الفتنة؛ لأن في أصوات النساء ترخيمًا ليس في

أصوات الرجال. - ومنها أيضًا: أنه قد يكون في المصلين من تكون زوجته أو ابنته في الصلاة، فإذا تكلمت تلك تأثر زوجها لكلامها من حيث إنه في عبادة، فإذا سمع صوتًا يعرفه تأثر بسماعه تأثرًا إما لغيرة تهيج، وإما إن تذكر حالًا قد كان بينه وبينها، أو غير ذلك. - ومنها أيضًا: أنه بصوتها يعرف مكانها من الصفوف، وفي ذلك (10/ ب) أيضًا ما يستدل به على ما يتغير به لبه من كونها في أوائل الصفوف أو في أواخرها أو في جوانبها، فكان التصفيق سترًا على ذلك كله، فأمرت أن تصفق ببطن كف على ظهر أخرى؛ لأن التصفيق ببطن كف على بطن الأخرى قد يستلذ، فلم يصلح ذلك في الصلاة ولا في غيرها. ولا أرى الذين يصفقون راغبين إن ذلك عبادة إلا على خطر من الله تعالى. -1918 - الحديث الثمانون: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره). وفي رواية: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر

فليقل خيرًا أو ليسكت)]. * في هذا الحديث من الفقه أن يعتقد الإنسان أن إكرام الضيف عبادة، لا ينقصها أن يضيف الإنسان غنيًا، ولا يغيرها أن يقدم إلى ضيفه اليسير مما عنده؛ فإكرامه أن يسارع إلى البشر في وجهه، وتطييت الحديث له. * وعماد أمر الضيافة هو على إطعام الطعام، فينبغي له أن يبادر بما فتح الله به من غير كلفة إلا أنه يتبعه ببذل الوسع من غير إضرار بأهله على أنه إذا آثره، ورغب البالغين من أهله في الإيثار أيضًا، فإنه من الكرم، فأما الأصاغر فليس له أن يحملهم على ذلك. وأما حديث الأنصاري الذي قال لامرأته: أطفئي المصباح، ونومي الصبيان؛ فإنما فعل ذلك على العادة في الصبر على العشاء ليلة.

* وقوله: (فليصل رحمه) فيه من الفقه: أن صلة الرحم من العبادات التي تقع مقامها عن الله سبحانه (11/ أ)، لأن الرحم يزيد على ما بين المسلمين بسبب التوارث والنصرة والانتساب، فيتعين على الرجل أن يبدأ بصلة ذوي رحمه على غيره وإن قطعته؛ لأن قوله: يصل يدل على أن أحدهما هو الواصل؛ لأنه لو كان من جانبين لكان يقول: يواصل الأرحام. * وقوله: (فليقل خيرًا أو ليسكت)؛ فإنه يدل على أن قول الخير خير من الصمت، والصمت خير من قول الشر، إلا أن هذا الحديث يدل على فضل القول؛ لأنه بلام الأمر، ثم بدأ به على الصمت، فقال: فليقل خيرًا، ثم قال: أو ليسكت، يعني إن لم يقل خيرًا فليصمت. ومن قول الخير: الإبلاغ عن الله عز وجل، وقول نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وتعليم المسلمين، والأمر بالمعروف عن علم؛ وإنكار المنكر عن علم، والإصلاح بين الناس، وأن نقول التي هي أحسن، وأن نقول للناس حسنًا، ومن أفضل الكلمات: كلمة حق عند من يخاف ويرجى في تأت وسداد. * فأما الإحسان إلى الجار؛ فإن الجار قد يكون المصاحب، وقد يكون الملتجئ، فعليه أن يكرم الجارين إكرامًا يرفع نفسه عن أن يرضى لها أن يقتصر بجاره على أن لا يؤذيه؛ فإن منعه الأذى عن الأبعد متعين، فكيف الأقرب!، ولكن إن حرمها غنيمة، فلا أقل بما يعف على أن لا يؤذيه، وليس وراء ذلك من مقامات الفضل شيء.

وقد تتفاوت حقوق الجار؛ فمن الجيران من يدلي بالقرب في الدار، وبقرب نسبه، وبالإسلام، ومنهم من يدلي بحقين، ومنهم من يدلي بحق واحد، وهو الجار الذمي، ومن حقه أن يدعوه جاره المسلم إلى الإسلام. -1919 - الحديث الحادي والثمانون: [عن أبي هريرة أن رسول الله (11/ ب) - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني)، وزاد: (والإمام حنة يقاتل من ورائه ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل؛ فإن له بذلك أجر، وإن يأمر بضده كان عليه منه)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن طاعة الله عز وجل في طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعصيان الله في عصيان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن طاعة الأمير من جانب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكل أمير ولايته من شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه من جانب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطاعته طاعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وقوله: نحن الآخرون السابقون قد سبق.

* وقوله: (الإمام جنة يقاتل من ورائه)؛ وذلك أنه إذا كان المجاهد تحت راية الإمام، كان انتماؤه إليه جنة له من النار، ويتقى به من سخط الله عز وجل. * وقوله: (فإن أمر بتقوى الله وعدل)؛ أي تأمر بالأمرين. وفي رواية: بتقوى وعدل (بفتح الدال)، والمراد أن يجمع بين القول والعمل الصالح، الأمر بالتقوى والعدل؛ لأنه قد يأمر الإنسان بالتقوى ولا يعدل، والآخر حاصل له في التقوى والعدل. وإن أمر بغير ذلك كان عليه منه، لا أرى هذه الهاء في منه إلا راجعة إلى الله عز وجل؛ فيكون المعنى أن مقاتلته لا تكون إلا منه؛ لأن الرعية لا تطول إلى إمامها؛ ولأنكم إذا قاتلتموه آثرتم الفتن؛ وإنما مقابلته من الله عز وجل. (12/ أ) -1920 - الحديث الثاني والثمانون: [عن أبي هريرة قال: (قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحسن بن علي- عليه السلام- وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالس، فقال الأقرع بن حابس: إن لي عشرة من الولد، ما قبلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: من لا يرحم لا يرحم)].

* في هذا الحديث من الفقه أن تقبيل الولد سنة، على أن يكون ذلك رحمة؛ لأنه في مقام رحمة لا يقدر على البطش، ولا على إطعام نفسه، ولا على أن يستغني ساعة عن كل ما يقوم بمصالحه، ولو قد قبله ليطيب قلب أمه، كان له بذلك أجر. -1921 - الحديث الثالث والثمانون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه صلاته: حتى لا يدري كم صلى؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين، وهو جالس). وفي رواية: (إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان له ضراط، حتى لا يسمع الأذان، فإذا قضى الأذان أقبل، فإذا ثوب أدبر، فإذا قضي التثويب، أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل إن يدري: كم صلى؟ فإذا لم يدر أحدكم ثلاثًا صلى أو أربعًا، فليسجد سجدتين، وهو جالس). وفي رواية: (إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان) ثم ذكر نحوه إلى قوله: (حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى). وفي رواية: (إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، حتى لا يسمع الأذان، فإذا قضي التأذين أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا لما لم يكن يذكر من قبل، حتى يظل وقل ما يدري (12/ ب) كم صلى).

وفي رواية: (حتى يظل الرجل). وفي رواية: (إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة أحال له ضراط، حتى لا يسمع صوته؛ فإذا سكت رجع فوسوس؛ فإذا سمع الإقامة ذهب حتى لا يسمع صوته؛ فإذا انتهت رجع فوسوس). وفي رواية: (إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان، وله حصاص). وفي رواية عن سهل بن أبي صالح، قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة، قال: ومعي غلام لنا (أو صاحب لنا)، فناداه مناد من حائط باسمه، قال: وأشرف الذي معي على الحائط فلم ير شيئًا. قال: فذكرت ذلك لأبي فقال: لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك، ولكن إذا سمعت صوتًا فناد بالصلاة، فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن الشيطان إذا نودي بالصلاة ولى؛ وله حصاص)]. * في هذا الحديث من الفقه دليل على أن الصلاة التي يوسوس فيها الشيطان، ويقول للمصلي: اذكر كذا، واذكر كذا؛ فإنها صحيحة، يكفي من السهو فيها سجدتان، إلا أنه ينبغي للمصلي أن يدفع الشيطان ويستخلص من وقته ذلك الزمان اليسير، يخلو فيه مع ربه عز وجل خلوًا لا يقبل فيه مشاور إبليس.

* وقد بينا فيما سبق أن المراد بالتثويب الإقامة. * وقد دل الحديث على أن من ترك شيئًا من صلاته أتى به ثم سجد. * ودل أيضًا على اختيار الصيت من المؤذنين، لأنه كلما ارتفع الصوت زاد بعد الشيطان. والحصاص: أن يحرك الذنب الذي له يمينًا وشمالًا (13/ أ). -1922 - الحديث الرابع والثمانون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة) ثم يقول: (اقرؤوا: {فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم}). وفي رواية: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل فيها من جدعاء)، ثم يقول أبو هريرة: {فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم}. وفي رواية: (ما من مولود يولد على هذه الفطرة، وأبواه يهودانه وينصرانه، كما تنتجون الإبل، فهل تجدون فيها جدعاء، حتى تكونوا أنتم تجدعونها). قالوا: يا رسول الله، أفرأيت من يموت صغيرًا؟ قال: (الله أعلم بما كانوا عاملين).

وفي رواية عن الزهري، قال: يصلى على كل مولود متوفى، وإن كان لغية، من أجل أنه ولد على طفرة الإسلام، يدعى أبواه الإسلام، أو أبوه خاصة، وإن كانت أمه على غير الإسلام، إذا استهل صارخًا، ولا يصلى على من لم يستهل، من أجل أنه سقط؛ فإن أبا هريرة كان يحدث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه؛ كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء)، ثم يقول أبو هريرة: {فطرت الله التي فطر الناس عليها}. وفي رواية لمسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويشركانه)، فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت لو مات قبل ذلك؟، قال: (الله أعلم بما كانوا عاملين). وفي رواية: (13/ ب): (ما من مولود يولد إلا وهو على الملة). وفي رواية: (إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه). وفي رواية: (ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة، وأبواه بعد يهودانه وينصرانه حتى تعبر عنه لسانه). وفي رواية: (كل إنسان تلده أمه على الفطرة، وأبواه بعد يهودانه وينصرانه أو يمجسانه؛ فإن كانا مسلمين فمسلم). وفي رواية: (كل إنسان تلده أمه يلكز الشيطان في خصيته، إلا مريم وابنها). وفي رواية: (سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذراري المشركين، فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين). وفي رواية: (سئل عن أطفال المشركين عن من يموت منهم صغيرًا،

فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين)]. * قال أبو محمد بن قتيبة، قال: حماد بن مسلمة في هذا الحديث: هذا حين أخذ الله العهد على الخلق في أصلاب آبائهم، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فليس واحدًا واحدًا إلا وهو مقر بأن له صانعًا ومدبرًا، وإن سماه بغير اسمه؛ أو عبد ودنه، قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله}. فالمعنى: كل مولود يولد على ذلك العهد والإقرار الأول، وهو الفطرة؛ لأن معنى الفطرة ابتداءً، وهو الحنيفية التي وقعت لأول الخلق، وجرت في فطر العقول، ثم يهود اليهود أبناءهم، ويمجس المجوس أبناءهم؛ أي يعلمونهم ذلك، وليس الإقرار الأول مما يقع به حكم أو عليه ثواب، ألا ترى أن الطفل من أطفال المشركين محكوم عليه بدين أبويه، فإن خرج عنهما إلى مسلم (14/ أ) حكم له بدين مالكه؟ * وقوله: (مما ينتج البهيمة بهيمة جمعاء)، وهي السليمة، سميت بذلك لاجتماع السلامة في أعضائها. * وقد سبق ذكر وكز الشيطان للمولود في هذا المسند وشرحناه.

-1923 - الحديث الخامس والثمانون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتى بالرجل المتوفى، عليه الدين، فيسأل: (هل ترك لدينه قضاء)، فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال للمسلمين: (صلوا على صاحبكم)، فلما فتح الله الفتوح، قال: (أنا أولى من المؤمنين من أنفسكم؛ فمن توفى من المؤمنين؛ فترك دينًا؛ فعلي قضاؤه، ومن ترك مالًا فلورثته). وفي رواية: (ومن ترك كلا فإلينا). وفي رواية: (من ترك كلا وليته). وفي رواية للبخاري: (ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة، وقرؤوا إن شئتم: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}، فأيما مؤمن مات وترك مالًا فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينًا أو ضياعًا، فليأتني، فأنا مولاه). وفي رواية: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن مات وترك مالًا؛ فماله لموالي العصبة، ومن ترك كلا أو ضياعًا؛ فأنا وليه، فلأدعى له). وفي رواية لمسلم: (والذي نفس محمد بيده إن على الأرض من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به، فأيكم ترك دينًا أو ضياعًا فأنا مولاه، وأيكم ترك مالًا فإلى العصبة من كان). وفي رواية: (أنا أولى الناس بالمؤمنين في كتاب الله، فأيكم ما ترك دينًا أو ضيعة فادعوني فأنا وليه، وأيكم ما ترك مالًا فليؤثر بماله عصبته من

كان)]. * هذا الحديث ناسخ لحديث أبي قتادة، وإنه كان لا يصلي على صاحب الدين. * وفيه من الفقه أن الرجل إذا ترك (14/ ب) دينًا ولم يترك قضاء له، قضي من سهم الغارمين، أو الفيء إلا أنه ينبغي للإنسان أن لا يتوسع في الدين اتكالًا على هذا، ولا يدان إلا بقدر ضرورته ناويًا للقضاء بجهده، فإن سبقه الموت وفي ذمته دين لم يقضه تعين قضاؤه من بيت المال. والضياع مصدر ضاع يضيع ضياعًا؛ والمعنى: شيئًَا ضائعًا كالأطفال، ومعنى أنا مولاه؛ أي وليه. -1924 - الحديث السادس والثمانون: [عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (أنا أولى الناس بابن

مريم، الأنبياء أولاد علات ليس بيني وبينه نبي). وفي رواية: (أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد). وفي رواية: (أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الأولى والآخرة) قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: (الأنبياء إخوة من علات، وأمهاتهم شتى ودينهم واحد، فليس بيننا نبي)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن دين الأنبياء كلهم دين الإسلام. * وقوله: (في الأولى والآخرة)، أما في الأولى؛ فلأنه بشر عيسى بوجوده فنصره، وهو دفع عنه ما رمي به، وأما الأخرى؛ فلأنه ينزل في آخر الزمان ذابًا عن دينه. * (والعلات): الإخوة من الأب الواحد، وأمهاتهم شتى. -1925 - الحديث السابع والثمانون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أو لكأنما رآني في اليقظة لا يتمثل الشيطان بي).

وفي رواية: (من رآني فقد رأى الحق). وفي رواية: (من رآني في المنام فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يتمثل بي)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الله سبحانه وتعالى كما حمى صورة (15/ أ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة عن أن يتمثل بها شيطان لئلا يغير على المسلمين أحكامهم، ولا يجرى كما جري في حق سليمان عليه السلام؛ إذ قال الله سبحانه: {وألقينا على كرسيه جسدًا ثم أناب}. حمى الله مثال صورته في المنام ليكون ما أداه إلى أمته في اليقظة محروسًا محميًا مصونًا، وما يلقيه إليهم بعد موته في المنامات، وهي المبشرات التي أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة محمية من أن يخالطها نفث الشيطان بحال. -فأما قوله: (فسيراني في اليقظة)؛ فإنه يدل على أنه لا يراه في المنام إلا مؤمن، فلذلك وعد - صلى الله عليه وسلم - بأنه سيراه في اليقظة يعني في القيامة. * وفيه أيضًا من الفقه أن السين تخلص الفعل للاستقبال. وقوله: فسيراني في اليقظة، يقتضي أنه راء ما أخبرته به أو أشرت إليه فيه؛ فإنه على يقظة من الأمر إلا يظنه ظان منا.

* وقوله: (فكأنما رآني في اليقظة)؛ لأنه إن كان هو نائمًا فأنا مستيقظ. * وقوله: (فقد رأي الحق)، يعني: أن رؤيتي هي الحق. -1926 - الحديث الثامن والثمانون: [عن أبي هريرة قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغب في قيام رمضان، من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة، فيقول: (من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه) فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وصدرًا من خلافة عمر رضي الله عنه. وفي رواية: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (15/ ب) لرمضان: (من قامه إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه). وفي رواية: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه). وفي رواية عن الزهري: (فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وصدرًا من خلافة عمر رضي الله عنه). وفي رواية عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: (خرجت مع عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل بصلاته الرهط، فقال عمر رضي الله عنه: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم

عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس بصلاة قارئهم، قال عمر: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها عندي أفضل من التي يقومون، يريد آخر الناس، وكان الناس يقومون أوله). وفي رواية: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه). وفي رواية: (من يقم ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه). وفي رواية: (من يقم ليلة القدر فيوافقها- أراه (قال) إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)]. * قد سبق الكلام في صوم رمضان إيمانًا واحتسابًا، وفي قيام ليلة القدر أيضًا. والمراد من صامه تصديقًا بالأمر به، عالمًا بوجوبه، خائفًا من عقاب تركه، محتسبًا جزيل الأجر في صومه، وهذه صفة المؤمن. * وفي الحديث استحباب صلاة التراويح جماعة.

-1927 - الحديث التاسع والثمانون (16/ أ) [عن أبي هريرة قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا عدوى، ولا صفر، ولا هامة)، فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال إبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيأتي البعير الأجرب، فيدخل فيها فيجربها؟ قال: (فمن أعدى الأول؟). وفي رواية: (لا يورد ممرض على مصح)، وأنكر أبو هريرة حديثه الأول، قلنا: ألم تحدث: أنه (لا عدوى؟) فرطن بالحبشية، قال أبو سلمة: فما رأيته نسي حديثًا غيره. وفي رواية: (لا عدوى) وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يورد ممرض على مصح) قال الزهري: قال أبو سلمة: كان أبو هريرة يحدث بهما كليهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم صمت أبو هريرة بعد ذلك عن قوله: (لا عدوى)، وأقام على أن (لا يورد ممرض على مصح)، فقال الحارث بن أبي ذياب،- وهو ابن عم أبي هريرة-: قد كنت أسمعك يا أبا هريرة تحدثنا مع هذا الحديث حديثًا آخر قد سكت عنه، كنت تقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا عدوى)، فأبى أبو هريرة أنه يعرف ذلك، وقال: (لا يورد ممرض على مصح) فماراه الحارث في ذلك حتى غضب أبو هريرة فرطن بالحبشية، فقال للحارث: أتدري ماذا قلت؟ قال: لا، قال أبو هريرة: إني

قلت: أتبيت. قال أبو سلمة: ولعمري لقد كان أبو هريرة يحدثنا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا عدوى)، فلا أدري: أنسي أبو هريرة، أو نسخ أحد القولين الآخر؟ وفي رواية: (لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر). زاد أبو مسعود: (والمعدن جبار). زاد البرقاني: (والبئر جبار)، وفي الركاز الخمس). قال: وزاد مكي بن إبراهيم: (والعجماء جبار). وفي رواية (16/ ب) للبخاري تعليقًا: (لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، وفر عن المجذوم كما تفر من الأسد). وفي رواية لمسلم: (لا عدوى، ولا هامة، ولا نوء، ولا صفر). وفي رواية له: (لا عدوى، ولا هامة، ولا طيرة، وأحب الفأل الصالح)]. * قد تكلمنا في العدوى والطيرة.

* وفي قوله: (فر من المجذوم)، في مسند ابن عمر، وهذا على وجه الإباحة، فأما الفضيلة فهو مع أكله مع المجذوم ومقاربته، وقد كانت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يؤاكل المجذوم، وإنما قلنا: الفرار منه مباح؛ لئلا يظن ضعيف الإيمان إن عرض له أمر أن ذلك على وجه العدوى. وقد كان الشيخ محمد بن يحيى رحمه الله يصافح المجذوم ويعانقه، ولقد حطي له مرة أنه سلم على مجذوم به داء البطن أيضًا، قال: فاستفتاني في الطهارة للصلاة مع حاله تلك، قال: فأفتيته بالتيمم. قال: فحمد الله تعالى حينئذ حمدًا أبلغ فيه، ثم أليفت إما ذلك المجذوم أو غيره منهم إلى نحو ذلك البلد الذي كان يقرب منهم، فقال لي: ملكتهم العافية فأهلكتهم.- يشير إلى الأصحاء-. والممرض: الذي إبله مراض، وضده المصح. وقد بينا أنه إنما نهى عن التعرض بالممرض؛ لئلا يظن الصحيح إنه إذا مرض عند المقاربة أن ذلك كان من باب العدوى. * وأما قوله: (لا صفر)، فقد قيل: إن العرب كانت ترى أن في البطن حية، تصيب الإنسان إذا جاع وتؤذيه، وذلك مذكور في أشعارهم، وقيل: المراد بذلك تأخيرهم تحريم المحرم إلى صفر. * وقوله: (ولا هامة)، كانت العرب تقول: إن عظام الموتى تصير هامة فتطير، وكانوا يسمون ذلك الطائر الصدي.

وقال ابن الأعرابي: كانوا (17/ أ) يتشاءمون بها، فجاء النص ينفي ذلك أي: لا تشاءموا بذلك، ويقال: أصبح فلان هامة، إذا مات، وكانوا يقولون: إن القتيل تخرج من هامته هامة فلا تزال تقول: اسقوني حتى يقتل قاتله، ويقال: بالزاي ازقوني. * وفي هذا الحديث من الفقه أنه إذا أتى السائل بشبهة يضعف فهمه أن يحليها كان جوابه في مسألة يكشف له المقصود كقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للسائل: فمن أعدى الأول؟ فإن العرب لما رأوا الصحاح من الإبل سالمة، فإذا دخل فيها البعير الأجرب جربت، ظنوا أنه لو لم يدخل فيهن لم يجرب، فلم تكن فهومهم تتسع لأن يقال لهم: إن ذلك الداء كان في جلد الأجرب، فكيف يتعدى إلى غيره في مثل أعطان الإبل ومسارحها التي ينخرق فيها الهواء الصحيح، ولا تجتمع بعضها إلى بعض، ولا يتحالك ولا يتصاك إلا نادرًا. ثم لو قد كان ذلك بمصاكة وجب أن يتعدى إلى الآدمي والفرس عند مصاككته الأجرب، وقد لا يتعدى، وهذا المرض من حيث علم الأبدان قد يكون عن تبيس يحرق الدم فتنفضه القوة إلى ظاهر الجلد، فيورث حينئذ الحكة، ويكون متمم ظهوره حك صاحبه له؛ فإنه كلما يحكه جذب الأخلاط من باطن البدن إلى ظاهر الجلد، ولا دواء لذلك عند أهل العلم بالأبدان إلا استفراغ أصل المادة من الباطن، حتى إذا نقي البدن منها نقي الجلد. فكيف يتصور أن يكون مثل هذا، وأصله ما ذكرناه متنقلًا إلى بدن آخر

الغالب عليه الرطوبة؛ لكن لما كان شرح مثل هذا يطول، وربما لم يفهمه (17/ ب) السائل قال له: (فمن أعدى الأول؟) أي: ذلك البعير الأول لم يكن عنده بعير يجربه. * وأما النوء؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يظن المسلمون هذا أو يعرض في قلوبهم عند نزول الغيث في وقت من الأوقات. قد كانت العرب إذا نزل الغيث في مثل ذلك الوقت نسبوه إلى نوء من الأنواء، وكانوا يرونه غير مختلف في الغالب بزعمهم، فأعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الغيث إنما ينزله الله عز وجل في الأوقات التي يستصلح إنزاله فيها لخلقه على حسب ما تقتضيه حكمته، وقد سبق شرح هذا المعنى في مسند زيد بن خالد.

وقد كان هذا من جملة أضاليل الجاهلية، وتبًا لمن عمي عن الفكر في إنزال الله الغيث في الأوقات الصالحة لنزوله؛ فإنه سبحانه يمنعه أن ينزل في وقت اشتداد الحب وتهيئته للحصاد، وبلوغ الثمار وأقطافها، وهبوب الرياح لذر العطف، وتخليصه من الحب، ولإنضاج الثمار عند خروجها من كمامها ليخلص لها من حر الشمس ما يقوي النوى في البطن، ويطبخ الثمرة في الظاهر، وليتناول الناس مواد كسوتهم من القطن والكتان وغير ذلك. حتى إذا أخرجت الأشجار ثمارًا عليها، وحصلت الحبوب بعد تخليصها من عصفها وغلفها، وجدت العذوق من نخلها، فرفعت إلى حيث يؤمن عليها من موابدها وجرينها، وادخر كل ما يصلح للادخار، وفرع مما يؤكل في أوانه من الثمار. واشتدت حاجة الأرض إلى أن يعاودها رحمة ربها بإنزال الغيث عليها، وقد كانت اقشعرت واحتاجت مواشيها، بتيبس كلأتها، وأطابت الرياح ما كان صوح من نبتها، واشتاقت إلى لبس كسوتها. ولم يبق فيها ما يضر به نزول الغيث (18/ أ) ولا يفسده اتصال الإيذاء، أنزل الله الغيث على أمن من أن يفسده على الناس شيئًا إلا أن يكون نادرًا، أو عن تفريط من محرزه مع كثرة المنذرات لهذا المحرز أمام السيول. ثم قدر الله تعالى من ذلك في كل بلد قسطًا يصلح له، فلا يكاد يتجاوز نزول الغيث في العراق ونجد وبعض الحجاز وخوزستان ثلاثة أيام؛ لأن العراق تدفع الأودية، وما ينصب إليها من فواضل تلك البلاد العالية التي جعل الله تعالى استمرار نزول الغيث في كل صقع منها عشرة أيام أو خمسة

عشر يومًا كالموصل والشام وديار بكر وبلاد الجبل، وجعل الأرض في تلك البلاد صلبة لا متهيلة ولا منبثة؛ ليكون نزول المياه فيها على مقدار تأخذ منه حاجتها، وتنفض الفاضل عنها إلى هذه الأرضين التي هي قرارات. فسبحان الله قدر لها عوضًا من قلة الغيث فيها بما يسيل إليها، وذلك من حكمته ورحمته، ولولا أنه جعل للأرضين العالية مصاب يأخذ عنها فضلات مياهها لأعفنتها المياه وأفسدتها، ولو لم يسيق فضالة مياه تلك البلاد إلى هذه الأرضين المهيلة المنبثة فيرويها بالسقي مع ما ينالها من الغيث لأعوزها ما يصلحها؛ ولذلك جعل تلك الأرض العليا إنما يزكو زرعها على الغيث وحده، وجعل هذه القرارات زاكية الزرع على الغيث والسقي. ولما كانت هذه القرارات تحتاج إلى استمرار جري المياه في أوديتها مثل الفرات ودجلة وتامرا، وكانت هذه الأودية على سعتها لا تفي بأن يديم جريها ما ينزل من الغيث إلا في مدة نزول الغيث، ودوام الغيث يفسدها ولا يصلح لها فغاضها الله تعالى بادخار الثلوج في شعاب الجبال وبطون الأودية، فخمد ذلك (18/ ب) في زمن القرفي محل هو أقوى جنس الأرض وهو الصخر، فلا يعقبه ولا يفسده ولا يمتصه. بل يحفظه الصخر ويخزنه، حتى إذا احتيج إليه رفع الله تعالى الشمس إلى نحوه فيذيب حرها منها مقدار بذره من ضروع تلك الشعاب، وأفواه تلك الأودية، ورؤوس الجبال، فلا يزال يجري منه كل يوم حسب الحاجة إليه بقد ما تمتلئ تلك الأودية؛ كذلك إلى أن تجوز مدة انقطاع الغيوث، فيفنى هو، فإذا عادت الحاجة إلى الغيث، عاد الغيث، فسبحان الله عدد كل ذي عدد من الأشياء، وسبحان الله عدد ما علم آدم من الأسماء،

وسبحان الله ملء الأرض والسماء. * وقد سبق ذكر الركاز والمعدن، وقوله: البئر جبار، في هذا المسند مشروحًا، والحمد لله. -1928 - الحديث التسعون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له؟، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له؟). وفي رواية لمسلم: (إن الله يمهل حتى إذا ذهب ثلث الليل الأول، نزل إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ هل من سائل؟ هل من داع؟ حتى ينفجر الفجر). وفي رواية: (إذا مضى شطر الليل، أو ثلثاه، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل فيعطى؟ هل من داع فيستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ حتى ينفجر الصبح). وفي رواية: (ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر).

وفي رواية (19/ أ): (ينزل الله في السماء الدنيا لشطر الليل، أو ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، أو يسألني فأعطيه، ثم يقول: من يقرض غير عديم ولا ظلوم). وفي رواية: (ثم يبسط يديه تبارك وتعالى يقول: من يقرض).]. * ينبغي للإنسان عند سماع هذا الحديث أن يكون شديد الحرص على اغتنام أوقات الإجابة للدعاء. * فقد تقد قولنا في هذا الحديث وما يجري مجراه من أحاديث الصفات، وأن مذهب أهل السنة وفقهاء الأمة ترك القول في تأويله، وأن يمر كما جاء، مع العلم أن الله سبحانه لا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام، وأنه ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، وإنما جاءت هذه الأحاديث لفوائد. فإن الإنسان إذا سمع هذا الحديث أن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، وأنه يبسط يديه، ويدعو عباده إلى سؤاله واستغفاره لم يطمئن المؤمن مضجعه، والألفاظ التي ذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلها متناهية في بيان اللطيف، متجاوزة في الرفق حد قدر الآدميين، وذلك يحث العباد على العبادة الراغبين في السؤال. * وقوله: (من يقرض غير عديم)؛ فإن في اقتراض الغني من الفقير، والرب من العبد شأنًا عجيبًا، وذلك أنه أشار بهذا الكلام إلى أن الله سبحانه

ملك العبد ما في يده تمليكًا يملك به الإقراض. وقوله: (غير عديم)، يعني: أنه لم يستقرض عن عدم، وفي الإقراض سر، وهو أنه يعود الخلف متحتمًا على كرمه، فلا يظن ظان أنه يطوي بالخلف؛ لأن الله عز وجل استدعاؤه عباده استدعاء من الدين. * وقوله: (ولا ظلوم)، أي: أنه جل جلاله لا يمطل بإخلاف ما يقترضه (19/ ب) من عبده، لأنه الغني، وقد سبق عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مطل الغنى ما سبق، فلذلك قال تعالى: (غير عديم)، أي: لا يبخس عبدًا من عبيده مثقال ذرة. -1929 - الحديث الحادي والتسعون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم)]. في هذا الحديث من الفقه استحباب الصبغ، وهو تغيير الشيب، وقد سبق في مسند أنس وغيره أن أبا بكر رضي الله عنه كان يخضب بالحناء والكتم. فأما السواد فالخضاب به مكروه عند الأكثرين، وقد رخص فيه قوم.

-1930 - الحديث الثاني والتسعون: [عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة، يكتبون الأول فالأول؛ فإذا جلس الإمام، طووا الصحف، وجاؤوا يستمعون الذكر). وفي رواية: (إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد، يكتبون الأول فالأول، ومثل المهجر كمثل الذي يهدي بدنة، ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كبشًا؛ ثم دجاجة، ثم بيضة، فإذا خرج الإمام طووا صحفهم يستمعون الذكر). وفي رواية: (من اغتسل يوم الجمعة غسل جنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر). وفي رواية لمسلم: (على كل باب من أبواب المسجد ملك يكتب الأول فالأول، (مثل الجذور ثم نزلهم حتى صغر إلى مثل البيضة)، فإذا جلس الإمام طويت الصحف، وحضروا الذكر)]. * في هذا الحديث من الفقه استحباب الغسل للجمعة وأفضله للمتأهل أن

يكون (20/ أ) غسلًا من جنابة، فيكون قد غسل واغتسل. * وفيه تفضيل التقديم في الرواح، فإذا صعد الإمام المنبر اشتغلت الملائكة الكاتبة ثواب المبكرين لسماع الذكر، فحينئذ لا يكون لمن يدخل كاتب يثبت له وقت دخوله. * وفيه ما يدل على أن سماع الخطبة واجب؛ فإن الملائكة على كونهم قد وكلوا بكتابة من يدخل من المبكرين إلى الجامع تركوا ذلك، وأقبلوا على سماع الخطبة منصتين لها، فيجب التأسي بهم في الإنصات لها. -1931 - الحديث الثالث والتسعون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم، يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟)، قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: (فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا)]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقام الصلوات الخمس في

غسل الذنوب مقام الماء في غسل الأوساخ، وإنما ضرب المثل بالنهر؛ لأن النهر لجريته لا يقف فيه الماء الأول الذي اغتسل به في المرة الأولى، وإنما يتجدد عند كل مرة من الاغتسال ماء جديد. فشبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلوات الخمس بالمرات الخمس في الاغتسال، وأن تلك المرة الأولى أزالت ما وجدته من الخطايا بإزالة ذهبت بها الجرية، ثم جاءت الغسلة الثانية فغسلت ما عساه تجدد، ثم ذهبت به الجرية، ثم جاءت الغسلة الثالثة كذلك، فكانت الغسلات ماحية ما يتجدد بين كل غسلتين من الذنوب. وهذا لأن الذنوب إنما تصدر عن الأعضاء، أعضاء الآدمي التي يستعملها في الصلاة فيكون (20/ ب) غسل ما نظر إليه نفسه، ونطق بلسانه، وبطش بيديه، ومشى برجليه بأن شغل كلًا من ذلك في عبادة ربه مرة بعد مرة، وكان ذلك ماحيًا لآثار الخطايا. وإنما ضرب المثل بالماء؛ لأن الماء هو الماحي للكتابة، وقد سبق أن الكاتبين يكتبان حركات العبد وأنفاسه، فكانت الصلوات مزيلة ما يرقمانه كما يزيل الماء أثر الكتابة المكتوبة بالمداد. -1932 - الحديث الرابع والتسعون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر).

وفي رواية: (قد كان قبلكم في بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي أحد فعمر). قال ابن وهب: محدثون: ملهمون)]. * معنى قول ابن وهب: ملهمون، أن الله يلهمهم الصواب، وهذا تفسير حسن. وكان الشيخ أبو عبد الله محمد بن يحيى- رحمه الله- يقول: المحدثون: هم الذين يمكنهم الصبر على الحديث الناس، وعلى اختلاف أمورهم وضروب إراداتهم، فيكلمون العلماء بلسان العلم، والعامة بما يصلحهم، ونحو ذلك مما لا أحق إلا أن نص نطقه فيه، إلا أن هذا معناه إن شاء الله. والذي أراه أنا في هذا مع كون الوجهين محتملين أن الله سبحانه يكلم عبده، إما على لسان آدمي أو غيره، ولقد كنت مرة مستلقيًا أسأل الله عز وجل حاجة في صدري في الليل، فسمعت جوابها بأذني يعدي نجازها إلى ميقات، فكان كما وعدت، وإني سمعت القول بما صيغته: إنه ليس في هذا الشهر، ولكن في الشهر الآخر، فكان كما سمعت ولم يعلم ما في نفسي لا ملك ولا شيطان، إنما يعمله الله عز وجل وحده.

-1933 - (21/ أ) الحديث الخامس والتسعون: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (حاج آدم موسى، فقال: أنت الذي أخرجت الناس بذنبك وأشقيتهم! قال: قال آدم لموسى: أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وكلامه، أتلومني على أمر كتبه الله على قبل أن يخلقني- أو قدره على قبل أن يخلقني؟ - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فحج آدم موسى). وفي رواية: (احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم، أنت أبونا، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة! فقال له آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده، أتلومني على أمر قدره الله على قبل أن يخلقني بأربعين عامًا؟، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فحج آدم موسى). وفي رواية: (احتج آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة؟). وفي رواية: (أنت آدم الذي أخرجتنا وذريتك من الجنة. قال: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وكلامه، ثم تلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق؟، فحج آدم موسى). وفي رواية: (التقى آدم وموسى، فقال موسى: أنت الذي أشقيت الناس، وأخرجتهم من الجنة!، قال آدم: أنت الذي اصطفاك الله برسالاته واصطنعك لنفسه، وأنزل عليك التوراة؟، قال: نعم، قال: فوجدتها، كتبت علي قبل أن يخلقني؟ قال: نعم، فحج آدم موسى عليه السلام). وفي رواية لمسلم: (تحاج آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي

أغويت الناس، وأخرجتهم من الجنة!، فقال آدم: أنت الذي أعطاه الله علم كل شيء واصطفاه على الناس برسالته؟ قال: نعم، قال: فتلومني على أمر قدر علي قبل أخلق؟. وفي (21/ ب) رواية: (احتج آدم وموسى عند ربهما، فحج آدم موسي. قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض!. قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجيًا، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق. قال موسى: بأربعين عامًا. قال: فهل وجدت فيها {وعصى آدم ربه فغوى}؟، قال: نعم، قال: أفتلومني على أمر كتبه الله على قبل أن أعمله، قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟)]. * في هذا الحديث من الفقه أن العبد له أن يحاج عبدًا مثله ويجادله في مسألة بمثل هذا الجواب؛ فإذا رجع الأمر إلى ما بين العبد وربه لم يكن للعبد أن يواجه عظمة ربه بأن يقول له مثل هذا، فإن آدم لما حاج عبدًا مثله احتج عليه بهذه الحجة فحجه، فلما قال الله تعالى: {ألم أنهكما عن تلكما الشجرة

وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين}، لم يتعرض لمثل هذا الجواب، بل نزل إلى مقام الاستكانة والخضوع، فقال: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}، وهذا المعنى يروى عن علي بن عقيل. -1934 - الحديث السادس والتسعون: [عن أبي هريرة قال: لما فتح الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مكة قام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمسلمين، وإنها لم تحل لأحد قبلي، وإنها أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لا تحل لأحد بعدي، فلا ينفر صيدها، ولا يختلى (22/ أ) شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يفدي، وإما أن يقيد)، فقال العباس: إلا الإذخر؛ فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إلا الإذخر)، فقام أبو شاه- رجل من أهل اليمن- فقال: اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اكتبوا لأبي شاه).

قال الوليد: قلت للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لي يا رسول الله، قال: هذه الخطبة؛ التي شهدها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية: (أن خزاعة قتلوا رجلًا من بني ليث عام فتح مكة، بقتيل منهم قتلوه، فأخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فركب راحلته، فخطب، فقال: (إن الله حبس عن مكة القتل أو الفيل- شك الراوي- وسلط عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين: (ألا وإنها لا تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ألا وإنها أحلت لي ساعة من نهار، ألا وإنها ساعتي هذه حرام؛ لا يختلى شوكها، ولا يعضد شجرها، ولا يلتقط ساقطها إلا لمنشد، فمن قتل فهو إما أن يعقل وإما أن يفادي أهل القتيل)، فجاء رجل من أهل اليمن، فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال: (اكتبوا لأبي فلان)، فقال رجل من قريش: إلا الإذخر يا رسول الله؛ فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وإلا الإذخر). وفي رواية عبيد الله عن شيبان: (إما أن يفادي أهل القتيل)]. * في هذا الحديث من الفقه أن مكة حرام، وقد سبق هذا في مسند ابن عباس وغيره. * وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذكر الناس نعمة الله في جبس الفيل عن مكة، فإنها

كانت آية شهد بها (22/ ب) كل محق ومبطل. * وفيه أن مكة لم تبح إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساعة من نهار؛ وذلك أنه رسول رب هذه البلدة الذي حرمها فأحلت له ساعة من نهار؛ ليتمكن من تطهيرها عن أنجاس أعداء رب الدار. * وفيه أيضًا أن الإنسان إذا سمع الكلام الجزل الذي لا يمكنه ضبطه حفظًا؛ فإنه ينبغي له أن يستكتبه كما فعل أبو شاه. * وفيه أن التبليغ إلى الناس يكون على البعير إذا كان المجمع يقتضي ذلك؛ لركوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راحلته حين خطب تلك الخطبة. * وفيه أن أهل الخبرة إذا شاروا بشيء رجع إليهم؛ لقول العباس رضي الله عنه: إلا الإذخر، فإنه لقبورنا وبيوتنا، فأجابه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك. * وفيه أن اللقطة بمكة لا يحل أخذها إلا لمن يعرفها. * وقد مضى تفسير قوله: (لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها). * وقوله: (ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين)، أي أن الاختيار إليه في أي الأمرين شاء، إن أراد القود فله ذلك، وإن عدل إلى الدية فله ذلك. -1935 - الحديث السابع والتسعون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أمسك كلبًا فإنه ينقص

كل يوم من عمله قيراط إلا كلب حرث أو ماشية). وفي رواية: (من اقتنى كلبًا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم). وفي رواية: (من اتخذ كلبًا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط). قال الزهري: فذكر لابن عمر قول أبي هريرة، فقال: (23/ أ) يرحم الله أبا هريرة، كان صاحب زرع. وفي رواية: (من اتخذ كلبًا ليس بكلب صيد ولا غنم، نقص من عمله كل يوم قيراط)]. * قد سبق الكلام على هذا الحديث في مسند ابن عمر رحمه الله، وبينا قول ابن عمر: كان أبو هريرة صاحب زرع، وبينا أن خبرته بذلك لأجل أنه كان له زرع؛ فاحتاج إلى السؤال عن الحكم فيه، وأنه يخرج مخرج التزكية له. -1936 - الحديث الثامن والتسعون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه؛ فإن أبى فليمسك أرضه)].

* قد سبق الكلام في هذا في مسند رافع بن خديج. -1937 - الحديث التاسع والتسعون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن الأيم- وهي الثيب- لا تنكح حتى تستأمر، وأن البكر لا تنكح حتى تستأذن، ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا القول بين

الاستئمار والاستئذان. ومعنى تستأمر: يستدعى منها الأمر بجواب هو لا أو نعم. فأما الإذن فقد يعلم في حالة الصمت؛ لأن السكوت من المستحيي عن رد ما استؤذن فيه إقرار عليه، واستدل بسكوت هذه البكر على أنها قد رضيت؛ إذ لو شاءت لردت. -1938 - الحديث المائة: [عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال). وفي رواية: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع (23/ ب): يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال). وفي رواية: (عوذوا بالله من عذاب الله، عوذوا بالله من عذاب القبر، عوذوا بالله من فتنة المسيح الدجال، عوذوا بالله من فتنة المحيا والممات). وفي رواية: (أنه كان يتعوذ من عذاب القبر، وعذاب جهنم، وفتنة الدجال)].

* قد مضى الكلام في هذا الحديث في مواضع، وبينا أنه يوجب الإيمان بعذاب القبر، وقد سبق الكلام فيما قلنا في هذا الحديث، وإن كنا لا ندعي استيعاب فوائد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإحصاء ما فيه من المعاني والحكم والآداب الدينية والدنيوية؛ ولكن أذكر من ذلك ما أرانيه الله سبحانه من ذلك، ووفقني له، موقنًا أن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستغرق فوائدها فهمي، ولا يبلغ غايتها علمي، فإذا مر حديث من أحاديثه - صلى الله عليه وسلم - وذكرت فيه ما بلغه علمي، يعاد الحديث بعينه، رأيت فيه من الآلئ التي تشف من وراء النطق ما لم أكن رأيته من قبل. واستدللت بذلك على أن الأحاديث، إنما كشف الله لي منها ما شاء، وخبأ للآخرين من عباده منها ما شاء، فنقول: * أما قوله - صلى الله عليه وسلم - في الرواية التي بدأ بها بعذاب القبر، فإنه على ترتيب ما يقع من الزمان؛ لأن القبر بين يدي جهنم، وعذاب القبر لا ينكره إلا من ينسب أوامر الله عز وجل إلى ما لا يليق بخلالها، فإن عذاب القبر ونعيمه؛ هو الذي يبدأ به كل بشر من أمر الآخرة، فلو قد كان كما يزعم منكرو عذاب القبر ونعيمه (24/ أ) لكان على رأيهم أن أوامر الله تعالى أهملت الجزاء في نعيم المحسن وعذاب المسيء وقتًا ما، وذلك غير لائق بعدل الله سبحانه؛ بل إن كرام الملائكة على شدة انتظار لقدوم المؤمن في قبره؛ ليكونوا من حسن مصاحبته وإكرام مثواه بالمكان الذي أخبو به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،

وكذلك فإن الزبانية الذين يعذبون أعداء الله في قبورهم على شدة توقع لقدوم المنافق والكافر يتلهفون غيظًا عليه، ويستبطئون مدة احتباسه ليكونوا بتعذيبه والانتقام منه، مؤدين شغلًا خلقوا له، وهذا الجزاء في البرزخ من حيث إنه دهليز الآخرة، فيكون تقديم الاستعاذة من عذاب القبر، من حيث إنه المقدم في الزمان، ويتبع بعذاب جهنم من حيث إنه بعده في الزمان. فأما الرواية التي قدم عذاب جهنم؛ فإنه من حيث أشد الأمور وأهمها لكونه فوق كل عذاب، فيبدأ به. * فأما قوله: (أعوذ بك من فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال)؛ فإن ذلك مما يكون قبل البرزخ. وأما قوله: (فتنة المحيا والممات)؛ فإن من أشد فتنة المحيا أن يظن حي أن حياته بأمر الطبيعة؛ فإن ذلك من أشد الفتنة، وكذلك أن يرى مماته بأمر من الفساد، بل إن محياه بمقتضى حكم سابق وأجل مقسوم، ومماته بأمر مقدر، وفي وقت معلوم، وهذا ينبغي لكل مؤمن أن يكون نظرة إلى محياه ومماته بهذه العين؛ فإن اختلاف مقادير الآجال يدل على أنها بمقتضى قسمة من الخالق سبحانه؛ إذ لو كانت (24/ ب) من الطبيعة لتساوت. ولذلك فإن حكمة الخالق سبحانه وتعالى أن كتب الموت على أهل كل سن حتى ابن اليوم، فما زاد في آخر الأوقات في الشهر، وكذلك ما زاد في آخر الأوقات إلى العام وكذلك إلى ما بعده، ليكون الموت عند مأمون في وقت من الأوقات، مداويًا سبحانه بذلك ما يعرض في القلوب من أمراض

طول الآمال. وقد يموت الإنسان بما يحيا به إنسان آخر، واختلاف النطق في البداية يدلك على أنك إنما بدأت بذلك لك، إلا أن وجه ما ذكرناه من تقديم ذلك ما ذكرناه إن شاء الله. * فأما قوله: (من فتنة المسيح الدجال)، وتكرره في الصلوات؛ ليقع الإيمان به، وأن ما وعد به - صلى الله عليه وسلم - من خروجه كائن. -1939 - الحديث الأول بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي البشر ما حرم الله عليه). وفي رواية: (إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله: أن يأتي المؤمن ما حرم عليه). وفي رواية: (المؤمن يغار، والله أشد غيرًا)]. * هذا الحديث قد سبق في مسند ابن مسعود وشرحناه هنالك.

-1940 - الحديث الثاني بعد المائة: [عن أبي سلمة قال: (رأيت أبا هريرة قرأ: {إذا السماء انشقت} فسجد بها، فقلت: يا أبا هريرة، ألم أرك تسجد؟ فقال: لو لم أر النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد لم أسجد). وفي رواية: (صليت مع أبي هريرة العتمة، فقرأ: {إذا السماء انشقت} فسجد، فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -، فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه). وفي (25/ أ) رواية عن أبي هريرة (أنه قرأ لهم: {إذا السماء انشقت} فسجد فيها، فلما انصرف أخبرهم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجد فيها). وفي رواية: (سجدنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في {إذا السماء انشقت}، و {اقرأ باسم ربك الذي خلق})]. * في هذا الحديث ما يدل على أن هذه السجدة من سجدات القرآن، فالحديث حجة على من لا يرى أن في المفصل سجدة، وهو مذكور عن مالك.

-1941 - الحديث الثالث بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا أن يكون الرجل كان يصوم صومًا؛ فليصمه)]. * في هذا الحديث إشارة إلى النهي عما فعله النصارى في صومهم؛ فإنهم زادوا فيه. * وفيه إفراد الفرض عن غيره؛ لئلا يشبه التطوع بالفرض. * وفيه الوقوف على حدود الشرع لئلا يقع العمل بالرأي. * وفيه رد على المتنطعين بسوء تدبيرهم إلى الزيادة على الفرائض. -1942 - الحديث الرابع بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أنفق زوجين في سبيل الله، دعاه خزنة الجنة، كل خزنة باب: أي فل، هلم). فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، ذاك الذي لا توى عليه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إني لأرجو أن تكون منهم).

وفي راوية: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة). وفي رواية: (نودي في الجنة: يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة، دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد، دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام، دعي من باب الريان)، (25/ ب) قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله، ما على أحد يدعى من تلك الأبواب كلها من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر). وفي رواية: (من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله، دعي من أبواب الجنة)]. * قد ذكرنا معنى الزوجين في مسند أبي ذر، وقد فسر هنالك. ويحتمل أن يكون المراد بالزوجين الذكر والأنثى، إذ كل واحد من الزوجين صنف، فمن أنفق زوجين في سبيل الله، كتب الله عز وجل ثواب ما يمكن في التقدير أن يتناسلا ويتناسل نسلهما إلى يوم القيامة، فإن كان المنفق ما لا يتناسل إلا إنه قائم يصحبه زوج، كما يقال: هذان زوجا خف، وزوجا نعل، ونحو

ذلك؛ فإنه يكتب الله سبحانه في الصدقة ما يكتبه على تقدير الممكن في أرفع حالاته، وأكمل مواقعه، من أن لو قد جوز أن يكون أحد أمراء الغزاة قد أعوزه لفرسه التي يرقى عليها إلى جبل لتفتح حصنًا للمشركين، فلا يجد نعلًا لفرسه إلا من ذلك التصدق؛ فإنه يحتسب له الله عز وجل في أحسن مواقعه على أنه يكتب ثمنًا وقيمة بأكمل ما يجوز أن يكون إذا لم يوجد في الأرض غيره؛ ولم يكن لأمير الغزاة بد منه، وعلى هذا قوله سبحانه: {ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون}. * وفيه أيضًا أن للجنة ثمانية أبواب، وهذه الأبواب كل باب يخص بعمل؛ فالصدقة باب، والجهاد باب، وعلى هذا فإن بر الوالدين وصلة الرحم وتعلم العلم وتعليمه، (26/ أ) وقراءة القرآن، وعيادة المريض .. إلى غير ذلك من أعمال البر أبواب للجنة يدخل منها إليها، ويسلك فيها بحبوحتها؛ فمن كان منفردًا بعد أداء فرائضه بباب واحد منها دعي من ذلك الباب، ومن كان بعد أداء فرائضه قد عامل الله عز وجل بها كلها، وسلك في جميعها بأسرها؛ فإنه ينادى منها كلها، وكان ممن ينادى منها كلها أبو بكر الصديق رضي الله عنه بشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له. * فأما السر في النداء من الأبواب؛ فإن أهل كل باب عرفوا عمارة المؤمن للطريق التي يدخل منها إلى ذلك الباب، فهم قد رأوا أن دخوله إلى الجنة من بابهم الذي قد عمر الطريق إليه. فإذا أقبل المؤمن وكان قد عمر الطرق إلى الأبواب عمارة يكون هو أهلًا

يدخل من الباب الذي عمره، فنودي من الأبواب كلها في وقت واحد، فكلما كان لطريقه في دنياه أعمر كان دخوله إليها منه أحب إليه، وكان أبو بكر رضي الله عنه قد عمر الطرق كلها، والأبواب بأسرها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إني أرجو أن تكون منهم). وذلك أن من الأبواب: العدل في الأمة، وهذا ما عمره أبو بكر بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومن الأبواب: القيام بالحق عند استخذاء الكل، فقام به أبو بكر يوم وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومن الأبواب: الثبات على الحق إذا اضطربت الأمور وارتد عنه الأشقياء على الأعقاب، وكل ذلك لأبي بكر رضي الله عنه (26/ ب) حين ارتدت العرب ومنعوا الزكاة، فثبت وحده حتى رد بز الإسلام على عده. ومن الأبواب حسن الاختيار عند مفارقة الدنيا، وكان أبو بكر رضي الله عنه ممن أحسن الاختيار لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في إيصائه إلى عمر؛ فلذلك يدعى منها كلها رضي الله عنه. -1943 - الحديث الخامس بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا أحدثكم حديثًا عن الدجال؛ ما حدث به نبي قومه؟؛ إنه أعور، وإنه يجئ بمثال الجنة والنار، فالتي يقول: إنها الجنة، هي النار، وإني أنذركم كما أنذر نوح قومه)].

* قد مضى حديث الدجال في مواضع، منها: مسند حذيفة. -1944 - الحديث السادس بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أشعر كلمة تكلمت بها العرب، كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل .......................) وفي رواية: (أصدق كلمة قالها شاعر؛ كلمة لبيد) وكاد ابن أبي الصلت يسلم)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن الشعر حكمه حكم الكلام؛ فحسنه حسن، وقبيحه قبيح. وقد شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للبيد بأن قوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، أصدق كلمة قالها شاعر.

ويحتمل قوله: (ما خلا الله) أي: ما خلا من ذكره ومن أمره، ومن أن يرد إليه ونحو ذلك. * وقوله: (كاد ابن أبي الصلت يسلم)، كاد: كلمة تستعمل للمقاربة إلا أنها تدل على أن الأمر لم يقع، وأن ابن أبي الصلت لم يسلم. -1945 - الحديث السابع بعد المائة: [عن أبي هريرة أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه فأغلط له فهم به أصحابه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (دعوه، (27/ أ) فإن لصاحب الحق مقالًا)، ثم قال: (أعطوه سنًا مثل سنه) قالوا: يا رسول الله، لا نجد إلا أمثل من سنه. قال: (أعطوه، فإن خيركم أحسنكم قضاء). وفي رواية: (كان رجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - سن من الإبل، فجاءه يتقاضاه، فقال: (أعطوه، فطلبوا سنه، فلم يجدوا إلا سنا فوقها، فقال: (أعطوه)، فقال: أوفيتني وفاك الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن خيركم أحسنكم قضاء)].

* في هذا الحديث جواز الأخذ بالدين تأسيًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه استحباب الصبر على خشونة قول الغريم؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إن لصاحب الحق مقالًا). * وفيه استحباب أن يعطى الغريم خيرًا مما أخذ منه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (خيركم أحسنكم قضاء). * وفيه استحباب أن يدعو الغريم لمن أحسن قضاءه؛ لقول هذا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أوفيتني وفاك الله. -1946 - الحديث الثامن بعد المائة: [عن أبي هريرة، قال: (بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ جاءه رجل، فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: (مالك؟)، قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هل تجد رقبة تعتقها؟)، قال: لا، قال: (فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟)، قال: لا، قال: (فهل تجد إطعام ستين مسكينًا)، قال: لا، قال: (اجلس)، قال فمكث النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبينا نحن على ذلك أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرق فيه تمر- والعرق: المكتل الضخم-، قال: 0أين السائل؟)، قال: أنا، قال: (خذ هذا فتصدق به)، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فو الله ما بين لابتيها- يريد الحرمين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي؛ فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه، ثم قال: (أطعمه أهلك).

وفي رواية: (أن رجلًا أفطر في رمضان، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (27/ ب) أن يكفر بعتق رقبة). وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلًا أفطر في رمضان؛ أن يعتق رقبة؛ أو يصوم شهرين متتابعين؛ أو بطعم ستين مسكينًا). وفي رواية: (أن رجلًا قال: وقعت على امرأتي في رمضان- يعني الجماع-)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن كفارة الفطر في رمضان بالجماع: عتق رقبة، فإن لم يجدها انتقل حينئذ إلى صيام شهرين متتابعين؛ فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينًا. والعرق (بفتح الراء) شيء يشبه الزبيل قبل عمله.

* ومعناه أن هذه الرخصة فهي لهذا الرجل خاصة لا تتعداه، بدليل الإجماع على ذلك، وإنما استدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إيمانه، بأنه جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه ساعيًا على قدمه، يشكو نفسه إليه - صلى الله عليه وسلم -، فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد بلغت منه مواقعة الخطيئة الموقع الذي علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرخص له فيما رخص، فكان ذلك خاصة له؛ لأن النادر لا يحمل عليه العموم والغالب. -1947 - الحديث التاسع بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت، قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فو الله، لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا، فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض، فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائم. قال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب). وفي رواية: (خشيتك يا رب- أو قال: مخافتك- فغفر له بذلك). وفي رواية: (فقال الله لكل شيء أخذ منه شيئًا: أد ما أخذت منه).

وفي رواية عن معمر قال: قال لي الزهري: (ألا أحدثك بحديثين عجيبين!، قال الزهري: أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة (28/ أ) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه، فقال: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في الريح في البحر، فو الله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدا، قال: ففعلوا ذلك به، فقال للأرض: أدي ما أخذت، فإذا هو قائم، فقال له: ما حملك على ما صنعت، قال: خشيتك يا رب- أو قال: مخافتك- فغفر له بذلك). قال الزهري: وحدثني حميد عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت)، قال الزهري: ذلك لئلا يتكل رجل ولا ييأس رجل). وفي رواية: (قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله: إذا مات فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فو الله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب، وأنت أعلم، فغفر الله له)].

* قد سبق الحديث الأول في مسند حذيفة، والثاني في مسند ابن عمر وأشير إليه، فأقول: إن قوله (لئن قدر الله علي)؛ أي ضيق. قال سبحانه {ومن قدر عليه} أي ضيق عليه، ويجوز أن يكون هذا الرجل لما رأى أنه سبحانه وتعالى، تعمد في دهره حسنة واحدة، وذكر ذلك في تضعيف حالة الموت حين ضعفه، هو الانتقام من نفسه، أوصى بنيه أن يحرقوه ويطحنوه ويذروه في الريح، فلما جمعه الله سبحانه قال له: ما حملك على ذلك؟ قال: مخافتك، وأنت تعلم، فاستشهد من علم الله الغاية في ثبوت (28/ ب) صدقه على ما ادعاه؛ فغفر الله له سوء فعله في نفسه، هذه الوصية بالتحريق والطحن والتذرية مضافًا إلى ما سبق من ذنوبه؛ إذ ذلك بدعة، وذنب عظيم، لا يحل لأحد فعله في نفسه، ولا يوصي به غيره؛ فإن وأصى به والد ولدًا أو حميمًا لم يحل للموصى أن ينفذ هذه الوصية. -1948 - الحديث العاشر بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حلف منكم، فقال في حلفه: باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق)].

* قد سبق نحو هذا في مسند ثابت بن الضحاك. * وفي هذا الحديث ما يدل على أن الكفارات تكون لها مناسبة بالخطايا، فإنه لما حلف بيمين تتضمن إثبات آلهة كانت كفارته نفي ما حلف به، وإثبات التوحيد لله عز وجل. ولما كانت الخطيئة الثانية من حيث طلب المال بوجه حرام، وهو القمار، كانت الكفارة بإخراج شيء من المال، فكانت الحسنة المالية ماحية أثر الأمنية المالية. -1949 - الحديث الحادي عشر بعد المائة: [عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى نخامة في

جدار المسجد، فتناول حصاة فحتها، ثم قال: (إذا تنخم أحدكم لا يتنخمن قبل وجهه، ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره؛ أو تحت قدمه اليسرى). وفي رواية: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة؛ فلا يبصق أمامه، فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكًا، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها). وفي رواية عن أبي هريرة (29/ أ): أنه رأى نخامة في قبلة المسجد، فأقبل على الناس، فقال: (ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه، فيتنخع أمامه، أيحب أن يستقبل فيتنخع في وجهه، فإذا تنخع أحدكم؛ فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه؛ فإن لم يجد فليتفل هكذا) ووصف الراوي عن أبي رافع فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه على بعض. وفي رواية: قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرد ثوبه بعضه على بعض)]. * قد سبق الكلام على هذا الحديث في مسند أبي قتادة وابن عمر وغيرهما.

-1950 - الحديث الثاني عشر بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى). وفي رواية لمسلم، قال- يعني الله عز وجل: (لا ينبغي لعبد لي). وفي رواية: (لعبدي أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)]. * قد سبق هذا الحديث وشرحه. * فأما ما جاء في هذا الحديث من رواية مسلم من أن ذلك من كلام الله عز وجل؛ فإن فيه إشارة إلى ألا يذكر يونس بن متى بما يغض من مقامه عليه السلام من أجل ما جرى له مما قصه الله عز وجل في كتابه. -1951 - الحديث الثالث عشر بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يأتي الشيطان أحدكم،

فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله، ولينته). وفي رواية قال: (لا يزال الناس يتساءلون، حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليقل: آمنت بالله ورسله). وفي (29/ ب) رواية لمسلم: (لا يزال الناس يسألونكم عن العلم، حتى يقولوا: هذا الله خلقنا، فمن خلق الله؟) قال- وهو آخذ بيد رجل؛ يعني: قد سأله- فقال: صدق الله ورسوله، قد سألني اثنان، وهذا الثالث، أو قد سألني واحد وهذا الثاني. وفي رواية: (لا يزالون يسألونك يا أبا هريرة، حتى يقولوا: هذا الله، فمن خلق الله؟) قال: فبينما أنا في المسجد، إذ جاءني ناس من الأعراب، فقالوا: يا أبا هريرة، هذا الله، فمن خلق الله؟ قال: فأخذ حصى بكفه فرماهم، ثم قال: قوموا، قوموا). وفي رواية: (ليسألنكم الناس حتى يقولوا: الله خلق كل شيء، فمن خلقه؟)]. * قوله: (فليستعذ بالله)؛ أي ليلجأ إليه، و (لينته): أي يعرض عن مساكنة هذا الذكر ولينته ولا يشتغل.

* وفيه ما يريده من الشيطان منه، وإنما يوسوس الشيطان بهذا لأهل غلبة الإحساس؛ فأما الذين يعقلون عن الله سبحانه وتعالى، فإنهم يحمون قلوبهم من ذلك التسلسل الذي إذا انتهى إلى الغاية القصوى فيه رجع إلى أول قدم؛ فكان الطارد للوسواس هو قوله: (الله خالق كل شيء)، هو الذي يطرد هذا الوسواس عن أن يخطر فيها من الكلام الذي ينتقض فرعه بانتقاض أصله إذ قولنا: (الله خالق كل شيء). -1952 - الحديث الرابع عشر بعد المائة: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسرًا؛ فتجاوز عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، قال: فلقي الله فتجاوز عنه)]. * هذا الحديث قد شرح في مسند أبي مسعود وغيره.

* وفيه أن الله سبحانه وتعالى (30/ أ) مكن عبده في حياته الدنيا من أشياء تشابه ما تنتهي إليها أحواله في الآخرة؛ ليكون إذا وجد ما يسوءه من قصور عن مدى لم يبلغه لم يلم غير نفسه؛ فإن أراد أن يتجاوز الله له عن كل شيء تجاوز هو لعباد الله المؤمنين عن كل شيء، وإن أراد أن يجود الله له بكل شيء جاد هو لعباد الله سبحانه بكل شيء في الله سبحانه، وإن أراد أن يؤثره الله على كل مخلوق في وقته آثر هو الله سبحانه على كل مخلوق في وقته، وكذلك إذا أحب ألا يأتيه من الله ما يكرهه لم يأت هو في أمر الله ما يكرهه، ولذلك إذا أراد أن يكون أكرم خلق الله على الله فليكن أشد خلق الله اتقاء لله، وكذلك إذا أراد أن يكون أحب خلق الله إلى الله فليكن ممن لا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، وهي العروة الوثقى؛ الحب في الله والبغض في الله. وإن مما أخافه على أهل الخير عند هذه العقبة من عقاب النيات أنه إذا رأى الرجل المسلم الرجل المسلم وقد أعجبته خلاله وثبت عنده صلاح علانيته، وهو يشير إليه ضميره فاستحق حبه وأن يمحضه وده، فنظر إلى أنه ليس من قومه؛ أو ليس على مذهبه، أو ليس آخذًا في طريقه المشوبة، فقصر في إمحاضه الود لذلك المعنى الذي ليس بصالح؛ لأنه قد تعرض بذلك لأن يمقته الله عز وجل في أدنى خلة يستحق بها المقت، وإن كان هو لم يمقت في خلة يستحق بها المقت؛ ولكن عدل الله عز وجل (30/ ب) يقتضي ألا يكون إلا كذلك.

-1953 - الحديث الخامس عشر بعد المائة: [عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أدرك ماله بعينه عند رجل أفلس- أو إنسان قد أفلس- فهو أحق به من غيره). وفي رواية أبي بكر بن محمد: (في الرجل الذي يعدم، إذا وجد عنده المتاع ولم يقرفه: إنه لصاحبه الذي باعه). وفي رواية: (إذا أفلس الرجل، فوجد الرجل عنده سلعته بعينها، هو أحق بها)]. * إنما يأخذ صاحب المال ماله من المفلس إذا وجده بعينه؛ لأنه إنما أظهر إفلاسه بأن لهذا أن ذمته لا تتسع لحمل دين؛ لأن الدين في الغالب إنما يؤخذ على عقدة تكون للشخص أو شيء في يده، فإذا لم يكن لهذا شيء رجع مال الآخر إليه. -1954 - الحديث السادس عشر بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من المجاهرة- وفي رواية إن الإجهار- أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يصبح، وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا

وكذا، وقد بات يستره ربه، فيصبح يكشف ستر الله عليه)]. * في هذا الحديث من الفقه أن معصية الله يزيدها غلظًا أن يجاهر بها فاعلها؛ لأنه يشير بذلك إلى جرأة منه على ربه بمشهد آخري يجرئهم على مثل ذلك من فعله، فكأنه جعلهم شهودًا عليه بفسقه؛ فإن الحلم على مثل هذا مع مجاهرته يدعو من لم يعص إلى أن يعصي. وقد سبق من الله تعالى الإنذار الذي شاع وذاع، فلم يقنع هذا (31/ أ) العاصي بأن عصى الله سرًا حتى يعرض بفتنة آخرين، ولو كان قد استتر بما ستره الله به لكان أمره أسهل؛ ولكنه لم أبى إلا هتكه ستره استوجب توجه العقوبة إليه؛ لأنه لو قد أخرت عقوبة المجاهر لعرضت قلوب الضعفاء للفتنة في الدين، وقربهم من الشك في أمر الله، فكان استهدافه لسهام الانتقام من حيث مجاهرته بعصيان الله سبحانه وتعالى، فلذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين)، فإنه يعني أن الطائع قد شملته العافية، وأن من قدرت عليه المعصية فستر ذلك، فإنه في عافية من الله إذ لم يفضح نفسه، وقد رجي له يتوب إلى الله في السر كما عصاه في السر، فتكون العافية شاملة له. فأما المجاهر فإنه يجرى مجراة مجري شارب الخمر، لو قد تاب فيما بينه وبين الله عز وجل لسقط عنه الحد، فأما لو قامت البينة عليه عند الحاكم بذلك ثم تاب، لم تكن التوب مزيلة للحد الذي وجب عليه.

-1955 - الحديث السابع عشر بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي)]. * قد سبق تفسير هذا الحديث، وهو يشتمل تفضيل المدينة، وعلى فضيلة البقعة التي بين البيت والمنبر. وقال الخاطبي: من لزم طاعة الله في هذه البقعة آلت به إلى روضة من رياض الجنة، ومن لزم عبادة الله عند المنبر سقي يوم القيامة من الحوض. -1956 - الحديث الثامن عشر بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (سبعة يظلهم الله (31/ ب) في

ظله؛ يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلات تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقها عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه). وفي رواية: (ورجل معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه)]. * في هذا الحديث من الفقه أن هذه الأوصاف السبعة لا يقدر أن يجمعها إلا إمام عادل؛ فإنه إذا كان قد نشأ في طاعة الله، وتعلق قلبه بالمساجد، وأحب رجلًا في الله، وأحبه ذلك الرجل في الله، جمع فيه الأوصاف كان له هذا الأجر. * والفقه في هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عين ظل عرش الله عز وجل يوم لا ظل إلا ظله لكل صنف من الناس، كانت في ذلك الصنف واحدة من هذه الصفات؛ فبدأ بالإمام؛ لأنه الأحق أن يبدأ به. * وأما قوله: (عادل)؛ فإن الإمامة لها شرائط، يجمع بين أشراطها تسميته إمامًا. ولم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: زاهد، ولا ورع، ولا خائف، ولا

غير ذلك؛ لأن ذلك كله دخل في اشتراط الإمامة، ثم ذكر المهم بعد عقد الإمامة وهو اشتراط العدل، ومعنى العدل مأخوذ من الاعتدال، وهو القوي في أمر الله، لكن إلى الحد الذي لا ينتهي إليه العنف، الرفيق بخلق الله؛ لكن لا إلى الحد الذي ينزل إلى الضعف؛ فيكون من الاعتدال عنده ألا يجبن عن استيفاء حد، وقتل باغ، وقطع سارق وغير ذلك مما ينبغي أن يكون (32/ أ) حسمًا لدواعي الفساد. كما ينبغي أن يكون رفيقًا بالأرملة، حدبًا على اليتيم، موقرًا للعلماء، مدنيًا للفقهاء، وقافًا عند كتاب الله عز وجل، مجالسًا للقراء؛ فيكون معتدلًا في طرقه، داخلًا في فضل الله من كلا بابيه. وإذا كان مقيمًا للصلاة، آمرًا بالشرع، صائنًا لدماء المسلمين وفروجهم، مناضلًا من وراء بيضتهم، كافًا لبوائض الشعث، باذلًا في ذلك وسعه بمقتضى وقته، ناويًا إبلاغ الحق مبالغه عند تمكنه، فذلك واجب وقته، ومن عدله أن يجد في أخذ الصدقات وصرفها إلى وجوهها، وكذلك في أخذ الجزية والخراج وسائر وجوه الفيء، وصرف كل شيء منه في منصرفه الذي عينه الشرع له، وألا يترك من ذلك شيئًا لأحد بغير موجب شرعي. * وأما الشاب الناشئ في عبادة الله؛ فإنه إذا كان في شبابه- وهو الأجدر أن يترخص فيه المترخصون- صاحب تقوى، كان في شيبه أحق بالتقوى، وأخلق بها، فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الشباب ليستدل به على صلاحيه علو السن، ومعنى نشأ في عبادة الله: أي نشأ مسلمًا، بين أبوين مسلمين، غذواه بالإسلام فعرف الحق.

* وأما المعلق القلب بالمسجد؛ فإنه يكون فوق أن يلازم مسجدًا واحدًا، ولكن يكون همته بمساجد المسلمين وقيام الجماعات فيها، متفقدًا عمارتها، وأهلها، فيكون قلبه معلقًا هاهنا من العلاقة، من قولك: علقت بكذا، إذا أشرب قلبك ذلك، إلا أن قوله: (معلق) بتشديد اللام يقتضي تكثير ذلك منه؛ وذلك أن المساجد (32/ ب) منازل الآلاف في الله عز وجل، فكما أن الآلاف من أهل الدنيا يشتاقون الديار التي اجتمعوا فيها بآلافهم، ويحنون إلى المنازل التي صاحبوا فيها إخوانهم؛ فكذلك المؤمنون تتعلق قلوبهم بالمساجد من حيث إنهم فيها عرفوا الإخوان في الله عز وجل، وهي الأماكن المنسوبة من بين الأرض كلها إلى الله؛ لكونها بيوتًا له. * وأما الرجلان المتحابان في الله عز وجل؛ فإنهما يعرفان بأن ينظر إلى الجامع بينهما، وأنه ليس عن قرابة ترعى، ولا عن رحم تبل، ولا عن تجارة تضم، ولا عن سفر يجمع، ولا عن دنيا ترب، ولا عن خدمة مخدوم تجمع؛ بل حب لله عز وجل، يعرف هذا من هذا حبه لله، ويعرف هذا من هذا حبه لله، فيتحابا في الله من حيث إنهما إذا اجتمعا تذاكرا ذلك وأفاضا فيه، وتعاوداه وتهاديا أذكاره فاجتمعا على ذلك إذا اجتمعا، وافترقا على ذلك إذا افترقا، فكانا من المتحابين في الله عز وجل، فإن اتفق أن يكونا نسيبين، لكل واحد منهما في حب الله عز وجل معاملة من صلة الرحم منه فذلك أفضل؛ فإن كان أحدهما يحب الآخر في الله عز وجل بحسب ما ظهر له من أمارات حب الله، فلم يكن باطن الآخر على ما كان عليه ظاهره، أثاب الله المخلص ولم يأخذه بجريرة الغال. * وأما الصدقة التي يخفيها المتصدق حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه؛

فإن هذا هو المبالغة في الصدقة؛ وقد حكى الشيخ أبو عبد الله (33/ أ) محمد ابن يحيى- رحمه الله- أنه اجتهد مرة في ذلك حتى أخفاها عن الذي أخذها، ووصلت إليه بأن حضر إلى السوق فاستام من بزار سلعة تساوي عشرة فأعطاه فيها عشرين، وهو يعلم قيمتها، وكذلك فعل مع تاجر آخر فتصدق عليها بعشرين دينارًا وهما لا يعلمان. وقال لي: رأيت أحدهما بعد ذلك وهو يقول لتاجر آخر معناه: إني كنت في شدة، فجاءني رجل فاشترى مني ما ربحت فيه عشرة دنانير؛ كأنه كان ملكًا. قال: فهذا من دقائق الإخفاء. ويجوز أن يكون معنى قوله: (لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) أي إن لكل مسلم أهل يمين وأهل شمال، فأهل اليمين الذين يحبون منه الخير، ويأمرونه به، ويحضونه عليه، وأهل الشمال هم الذين يأمرونه بالشر، ويريدونه منه، ويحضونه عليه، فإذا أراد المؤمن فعل الخير فإنه يستره من أهل شماله لئلا يفسدوه عليه ويصرفونه عنه، فيكون إذا أنفق نفقة لم تعلم شماله ما أنفقت يمينه. وقول الله سبحانه: {إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين} أي إنكم كنتم تأتوننا في زي أهل اليمين فغررتمونا بذلك حتى أوردتمونا الموارد. * وأما الرجل الذي دعته امرأة إلى نفسها، فقال: إني أخاف الله، فإنه شرف مقامه بأن ثبت عقله وغرز دينه عند استدعاء المرأة منه غشيانها، على ما في الرجال من الشهوة والقوة، وفي النساء من الحياء والركة، وهذا من مقامات البلايا العظام، فلذلك شرف.

ورأيت في المنام امرأة (33/ ب) قائمة، وبيني وبينها ساقية لا ماء فيها، وفرحت بذلك من حيث إن الماء فتنة، كما ذكره ابن سيرين وكرر ذكره، فلم يكن بيني وبينها فتنة بحمد الله ومنه، فجعلت يدها على وجهها ثم أسفرت بعد ذلك فرأيتها جارية شابة بيضاء، ثم إنها بعد ذلك كشفت فرجها ثم وثبت إلى الجانب الذي أنا فيه فخفتها، فقلت لها: والله إنك لصالحة لي أو نحو هذا؛ ولكني أخاف رب العالمين ووليتها ظهري، وانصرفت عنها، ونسأل الله تعالى حفظنا من الفتن في الدنيا والآخرة. * وأما الذي ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه؛ فإنه تحقق إخلاصه في البكاء؛ لأنه قد يبكي الإنسان في الجماعة؛ ولا يبكي في الخلوة، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الاعتبار بمن ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، معرفًا أهل البكاء أن الاعتبار بما يفيض من الدموع في الخلوة؛ حيث لا يعلم ذلك إلا الله سبحانه. -1957 - الحديث التاسع عشر بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كا تأرز الحية إلى جحرها)]. * حجر الحية: هو الذي خرجت منه، فلذلك تأرز إليه، فقال: أرزت الحية إلى جحرها تأرز أرزًا، إذا انضمت واجتمع بعضها إلى بعض فيه. والإيمان إنما خرج من المدينة وإليها يرجع، فأراد أن الإيمان بالمدينة آمن ما

كان على نفسه، كما أن الحية آمن ما تكون إذا أرزت إلى حجرها؛ لأن رسول الله (34/ أ) - صلى الله عليه وسلم -، قد وعد بأن على أنقابها الملائكة يحرسونها من الدجال، وأن الطاعون لا يدخلها. -1958 - الحديث العشرون بعد المائة: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيعتين، وعن لبستين، وعن صلاتين؛ نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن اشتمال الصماء، وعن الاحتباء في ثوب واحد، يفضي بفرجه إلى السماء، والملامسة والمنابذة). وأخرجه مسلم مختصرًا: (نهى عن الملامسة والمنابذة). وفي رواية لهما عن أبي هريرة قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبستين: أن يحتبي الرجل في الثوب الواحد، ليس على فرجه شيء، وأن يشتمل بالثوب الواحد ليس على أحد شقيه- يعني منه- شيء، وعن الملامسة والمنابذة). وفي رواية عن أبي هريرة: (نهى عن صيامين وبيعتين: الفطر والنحر، والملامسة والمنابذة). وفي رواية عن أبي هريرة أنه قال: (نهى عن بيعتين: الملامسة والمنابذة). أما الملامسة، فأن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل. والمنابذة: أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر، ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه الآخر).

وعند أبي مسعود في الحكاية عنهما بأن أبا هريرة قال: (ينهى عن صيام يومين، وعن بيعتين، وعن لبستين). وفي رواية: (نهى عن الملامسة والمنابذة). وفي رواية: (نهى عن بيعتين، وأن يشتمل الصماء، وأن يحتبي). وبعض النسخ: (نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - (34/ ب) عن لبستين، وأن يحتبي الرجل في الثوب الواحد؛ ثم يرفعه عن منكبيه، وعن بيعتين: اللماس والمنابذة). وفي رواية: (نهى عن صيام يومين: الأضحى والفطر)]. * وقد سبق بيان هذا الحديث، وذكرنا أن النهي عن هذه البيوع كان لأجل الغرر، وإنما نهى عن اشتمال الصماء لئلا تبدو العورة. -1959 - الحديث الحادي والعشرون بعد المائة: [عن أبي هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يوشك الفرات أن يحسر

عن كنز من ذهب، فمن حضره، فلا يأخذ منه شيئًا). وفي رواية: (عن جبل من ذهب). وفي رواية: (لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، يقتتل الناس عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون، ويقول كل رجل منهم: لعلي أكون أن الذي أنجو). وفي رواية: (إن رأيته فلا تقربه)]. * قد سبق هذا الحديث وتفسيره، وقلنا: إنه يجوز أن يكون المعنى فيه أن ما يصيب مدامع الفرات فيه من الأرض، وما يحصل من استغلال ذلك، إذا مثله الإنسان في عينه وصوره، رآه من حيث الكثرة كجبل من الذهب، وإن الناس ازدحموا عليه، واقتتلوا فيه، فكان السالم منهم في العاطبين واحدًا من مائة. -1960 - الحديث الثاني والعشرون بعد المائة: [عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب).

وفي رواية: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالًا، يرفعه الله بها درجات (35/ أ)، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا، يهوي بها في جهنم)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن يفهم منه حض النبي - صلى الله عليه وسلم - على التبين للقول قبل النطق به، ألا تراه - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يتبين فيها)، والتبين: تفعل، وذلك من البيان؛ يعني - صلى الله عليه وسلم -: لو تبين فيها لا طلع على ما يخاف من إلقائها معه؛ فإذا نطق بها فاته زمان التبين. * ومن الفقه فيه: ألا يذكر لهذه الكلمة مثال؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر لها مثالًا؛ فيفهم من تركه - صلى الله عليه وسلم - ذكر المثال لها مع تشديده في التحذير من ذكرها إيثاره، نخشى منه كل عوراء من الكلام مما يوتغ دنيا أو بهيج فتنة أو يثير بين الناس شرًا؛ لتجويز أن تكون هي الكلمة التي حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها. * وقوله: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالًا)؛ يعني - صلى الله عليه وسلم -: يلقي، أنه على نحو قولنا: يجد، فكأنه إذا نطق فيها لا يجد لها مؤنة يرفعه الله بها درجات. ولقد حدثني الشيخ أبو عبد الله محمد بن يحيى- رحمه الله- فيما حدثني أن الرجل إذا حضر في مجلس ملك أو جبار، فصال ذلك الجبار على مستضعف في مجلسه، وكان إلى جانب ذلك المستضعف رجل مؤمن، فقطب المؤمن وجهه كالنافر من أن يبسط وجهه عند الصيال على المستضعف

أو أكرم الجبار مؤمنًا فيبسط وجهه نافرًا من أن يقبض وجهه في موضع يستحسن منه بسطه لإكرام المؤمن، فإنه يرفعه (35/ ب) الله به درجة، أو كما قال رحمه الله. وهذا أيسر من النطق؛ فإن الإنسان قد يتكلم الكلمة من رضوان الله، مثل أن يرى مؤمنًا ينكر منكرًا، وقد اعترض الآخر ينكر على المنكر، فيقول لذلك: لا تخذل الحق، فهي كلمة لطيفة ليست عليه فيها مؤنة يرفعه الله بها درجات. -1961 - الحديث الثالث والعشرون بعد المائة: [عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا استيقظ أحدكم من منامه، فليستنثر ثلاث مرات؛ فإن الشيطان يبيت على خياشيمه)]. * في هذا الحديث إشارة من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الوضوء عند القيام من نوم الليل؛ فإنه بذلك يصلح له الاستنثار، وذلك الاستنثار هو الذي يطرد الشيطان، وإلا فالأمة مجمعة على أنه إذا انتبه من نومه لم يجب عليه الاستنثار. * وقوله: (يبيت على خيشومه)، فيه ما ينبه على أن الشيطان يخرج من النفس، ويدخل مع النفس، ولعل الله شرع الاستنثار في الوضوء ليغسل آثار الشيطان.

والخيشوم: الأنف، وخياشيم الجبال: أنوفها. -1962 - الحديث الرابع والعشرون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تنكح المرأة على عمتها، والمرأة على خالتها)، فنرى خالة أبيها بتلك المنزلة؛ لأن عروة حدثني عن عائشة، قالت: (حرموا من الرضاعة ما تحرمون من النسب). وفي رواية لمسلم: (لا تنكح العمة على بنت الأخ، ولا ابنة الأخت على الخالة). وفي رواية: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع الرجل بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها). قال الزهري: فنرى خالة أبيها وعمة أبيها بتلك المنزلة. وفي رواية: (لا يجمع بين (36/ أ) المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها). وفي رواية عن أبي هريرة قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تنكح المرأة على عمتها وخالتها). وفي رواية: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها). وفي رواية: (نهي عن أربع نسوة أن يجمع بينهن: المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها). وفي رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه: (نهى أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، أو تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ ما في صحفتها؛ فإن الله رازقها). وفي رواية: (لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يسوم على سوم

أخيه)]. * قد سبق الكلام على هذا الحديث، وبينا أنه إنما وقع النهي لئلا يحصل التنافس فيوجب التقاطع. -1963 - الحديث الخامس والعشرون بعد المائة: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، فيقول: قد دعوت ربي فلم يستجب لي). وفي رواية لمسلم: (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل). قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: (يقول: قد دعوت وقد دعوت، فلم أر يستجب لي، فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء)]. * في هذا الحديث من الفقه: إشعار العبد بأن الله سبحانه يجيب كل داع على الإطلاق؛ إلا أنه قد يكون سوء اختيار الداعي ما لا يرضي الله، لفضله أن يجعله تبعًا لسوء ذلك الاختيار، فيكون إما يدعو بإثم قد شرع الله فيما أوجب على عبده ألا يأتيه، فكيف يصلح لعبد أن يسأل الله سبحانه أن يؤتيه

ما هو نهى عنه؛ أو يكون قد أداه سوء اختياره إلى طلب الأدنى بدلًا من الذي هو خير؛ فيكون من نظر الله له أن يسرع إجابته، أو يكون قد دعا عبد على عبد، وقد (36/ ب) دعا ذلك المدعو عليه على الداعي عليه، فترتفع الدعوتان إلى الله عز وجل فيتعارض السؤالان، فيكون من جود الله سبحانه وفضله ألا يرد هذا ولا هذا؛ ولكن يترفق بهما معًا إلى أمد: إما بأن يصلح بينهما أو يؤخرهما ليصطلحا، فترديد الخصوم يفضي إلى صلحهم، أو يكون حين دعا الداعيان أحدهما أرحم وأرفق بالآخر، فيسرع إجابة الأرفق والأرحم نظرًا منه سبحانه لهما كليهما؛ أو يدعو والد على ولده في غيظه أو ضجره، فيؤخر الله إجابته عالمًا سبحانه من الوالد أن سيشكر بعد قليل ترك الإجابة. فإذا غفل الداعي عن حكمة الله تعالى التي هذه الوجوه التي ذكرناها بعضها وجزء منها، فنسب تأخير الدعاء إلى ما يناسب سوء اختياره ولا يناسب جود الله وحكمته، فطفق يقول لنفسه أو لغيره: دعوت فلم يستجب لي، مثربًا بذلك لجهله. ثم إنه يغاضب بترك الطلب ومراجعة السؤال جهلًا منه وقلة فقه، فحذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، على أنه لو تتابعت هذه المواقع من إجابة هذا السائل السيئ الاختيار الذي أخبرنا الله سبحانه أنه قد يكره الشيء وهو خير له، ويحب الشيء وهو شر له حتى ينتهي إلى حين موته، فإن الله سبحانه وتعالى يمنعه جوده من أن يجب سوء الاختيار، وقد أخبرنا سبحانه أنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، فحينئذ يصرف الإجابة من الدنيا إلى الآخرة،

ويجيبه في دعوات معدودة لأوقات معلومة أحوج ما كان لأنفع ما تكون بأن يقال له: دعوت في وقت كذا (37/ أ) بكذا، فمنع من إجابتك كذا وادخر لك إلى اليوم فاطلب كذا، فيود كل من أجيب إلى الدعاء في الدنيا أنه لم يكن أجيب؛ لما يرى من ربح من أخرت إجابته. -1964 - الحديث السادس والعشرون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره، خير من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه). وفي رواية: (لأن يحزم أحدكم حزمة من حطب فيحملها على ظهره فيبيعها خير له من أن يسأل رجلًا يعطيه أو يمنعه). وفي رواية قال: (والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره خير من أن يأتي رجلًا أعطاه أو منعه). وفي رواية: (لأن يأخذ أحدكم أحبله ثم يغدو- أحسبه قال: إلى الجبل- فيحتطب ويبيع ويتصدق خير له من أن يسأل الناس). وفي رواية: (لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق به ويستغنى به عن الناس خير من أن يسأل رجلًا أعطاه أو منعه، ذلك بأن اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول)].

* هذا الحديث قد تقدم تفسيره في مسند الزبير بن العوام وفي مسند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وتكلم عليه. -1965 - الحديث السابع والعشرون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من قذف مملوكه وهو بريء مما قال، جلد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال). وفي حديث ابن نمير: (من قذف مملوكه بالزنا: يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال)]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشعر ذوي الرقيق أن الله سبحانه وتعالى ملكهم منهم شيئًا معينًا، فليس لهم أن يجاوزوه، وإن أعراض الرقيق ليس مما دخل في ملك السيد؛ فإذا قذف السيد عبده بالزنا ولم يكن للعبد في هذا الدار من الانبساط ما يوازي (37/ ب) عرضه عرض سيده كان التأجيل لهذا الجزاء إلى ذلك العدل، ومحل وزن الحق، ورفع الملكة، وإذا نشرت الدواوين التي كانت في الدنيا مطوية اقتص العبد من سيده.

* وقوله: (ألا أن يكون كما قال): دليل على انه بين العبد وبين الحر فرق في القذف؛ فإن الرجل لو رأى حرًا يزني فقذفه بالزنا ولم يقم البينة جلد بخلاف العبد إذا قذفه سيده. -1966 - الثامن والعشرون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لن يدخل الجنة أحدًا منكم عمله الجنة) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة). وفي رواية: (ولكن سددوا). وفي رواية: (قاربوا وسددوا، واعلموا أنه لن ينجو أحدكم بعمله)، قالوا: ولا أنت؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)]. * في هذا الحديث من الفقه أنه بشرى للمؤمن أنه لو كانت أعمال المؤمنين تدخلهم الجنة لكانت توازي أمدًا معلومًا، ثم ينقطع، فلما كانت الإحالة

على الرحمة دل ذلك على أنهم مخلدون بالرحمة، وتمتد لهم فلا تنزع منهم أبدًا. * وفيه أيضًا أن العمل لا ينجي من سخط الله؛ وذلك لأن انتقام الله سبحانه لا يقاومه عمل عامل، وإنما يدفع العظيم بالعظيم، والأعمال التي نعلمها من من الله علينا بأن وفقنا لها، وأخبرنا أن أعمالنا ما يرضاه، فإذا أدخل أهل الجنة، وجاد عليهم بمنه الواسع؛ فذكروا ما كان منهم من الأعمال التي أخبر أنها له رضى، استلذوا بذكرها في تلك الأحوال، كما أن الشهيد إذا أكرمه الله بالكرامة العظمى وغمره من الجود لما يخجله من ذكر التقصير في الشكر، ذكر أنه قطع السيوف في الجهاد فوجد لذلك التقطيع لذة لا يتخذها في الجنة. -1967 - الحديث التاسع والعشرون بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له في الجنة نزلًا، كلما غدا أو راح)]. * في هذا الحديث أن المساجد بيوت الله عز وجل، وأن الوافدين إلى بيوته يقومون مقام الضيوف فيعد لهم النزل لغدوهم ورواحهم إلا أنه من نزل تقوى به الأرواح لا الأبدان فينتقل إلى نزل الآخرة.

-1968 - الحديث الثلاثون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة ولا اللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف، اقرؤوا إن شئتم: {لا يسألون الناس إلحافًا}. وفي رواية: (ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان؛ ولكن المسكين الذي ليس له غنى فيستحيي، أو لا يسأل الناس إلحافًا). وفي رواية: (ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان؛ لكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له، فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس). وفي رواية: (ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس)]. * في هذا الحديث من الفقه: إيقاظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المؤمن؛ لأن يشتد بفقده لأشد المسكنة؛ فيكون نظره إلى ما قلت عنه الحيلة في تعرفه ولم (38/ أ) يظهر، ولا يفطن له، ولا فيه قحة فيستهين بالسؤال، ولا عنده غنى فيمكنه التماسك، فقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس المسكين (بالألف واللام) الذي هو

على الحقيقة المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان، وإنما المسكين على الحقيقة الذي هذه حاله. وأما قوله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا} فهو نكرة يعني به: مسكينًا من المساكين، فهو أعم في الشياع. وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا فيه تخصيص؛ لأنه بين أشد المساكين حاجة وحالًا، فهو من جملة ما يتناوله تعميم القرآن. * ففقه الحديث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حث على شدة التفقد؛ ليكون البر واصلًا إلى الأحوج فالأحوج. -1969 - الحديث الحادي والثلاثون بعد المائة: [عن أبي هريرة وأبي سعيد: أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما يصيب المؤمن، ومن وصب، ولا نصب، ولا سقم، ولا حزن، حتى الهم يهمه، إلا كفر به من سيئاته)]. * في هذا الحديث من الفقه إعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته أن نصبها ووصبها وسقمها وحزنها وهمها يكفر الله به من خطاياها؛ وذلك لأنه لما كانت الدنيا عند الله ليست رضى منه لعباده المؤمنين مقرًا له دائمًا، وكانت حكمته أن يخرجهم

عن هذا المقر الأدنى إلى مقر أعلى؛ فأحل بهم سبحانه من المزعجات ما ينفرهم عنه ويزعجهم منه، وكان من لطفه بهم أن لا يعرض لهم الألم إلا بثواب وثمن هو تكفير السيئات عنهم، فجمع لهم (38/ ب) بين تكفير الخطايا والإزعاج عن هذا المقر الأدنى والارتياح للخروج منه إلى دار المقامة. -1970 - الحديث الثاني والثلاثون بعد المائة: [عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت بقرية تأكل القرى، تقولون: يثرب، وهي المدينة، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد)]. * لما قسمت كنوز كسرى وقيصر وسائر ملوك الأرض في المدينة، وأكلها أهلها، كانت كأنها كانت القرى، ومخضت الحروب الدنيا شرقًا وغربًا حتى أجلة مخضها عن زبدة كانت منقولة إلى المدينة أو منقولة بأمر من كان في المدينة. * وقد مضى تفسير قوله: (تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد).

-1971 - الحديث الثالث والثلاثون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم، قامت الرحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة؟ قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك)، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اقرؤوا إن شئتم: {إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم (22) أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم}. وفي رواية للبخاري: (إن الرحم شجنة من الرحمن، فقال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته)]. * شجنة أي: وصلة، والشجنة والشجنة كالغصن يكون من الشجرة. * وفي هذا الحديث من الفقه- بعد ما قد تقدم ذكر مما يناسبه- دليل على أن النطق يقرب من الأفهام بالأمثال التي تصوره (39/ أ) شخصًا؛ ليكون ذلك داعية إلى استيعاب الفهم لذلك المعنى. والرحم مشتقة من لفظ الرحمن، كما أن الغصن يتشعب من أصل.

* وقوله: (هذا مقام العائذ بك)، يعني: أنها تذكر لربها عز وجل ما وضعها عليه؛ فإنه جل جلاله شرع لها في الميراث ما شرع، وحرم من نكاحها ما حرم، وشبك بين القرابات بها، فإذا أحد أخذ في قطعها فقد شرع في قطع ما شرع الله أن يوصل فلذلك استغاثت، وقالت: (هذا مقام العائذ بك)؛ فإن هذا القاطع يجد ما أمرت بصلته، ويقطع ما أبرمه فضلك، ويبت ما أحكمه شرعك، وكان جوابها: (من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته). -1972 - الحديث الرابع والثلاثون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الله سبحانه وتعالى خلق ملكين، وجعل شغلهما الذي خلقهما لأجله أن يدعوا الله سبحانه وتعالى بأن يخلف على المنفق، ويتلف على الممسك، وأن يكون ذلك هجيراهما صباحًا ومساءً، وهو سبحانه كان غنيًا عن أن يسأل في هذا، ولكنه أعلمنا على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه: سبق مني خلق ملكين يواصلان السؤال لهذا وأنا لا أرد، فحذر الممسكين وبشر المنفقين.

-1973 - الحديث الخامس والثلاثون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (39/ ب): (ما تصدق أحد بصدقة من طيب- ولا يقبل الله إلا الطيب_ إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله). وفي رواية: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله- في الإسناد- ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها؛ ما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل). وفي رواية: (ولا يصعد إلى الله إلا الطيب). وفي رواية: (ولا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب، إلا أخذها الله بيمينه، يريبها كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصه، حتى تكون مثل الجبل أو أعظم). وفي رواية: (ولا يصعد إلى الله إلا كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه يربيها كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصه حتى تكون مثل الجبل أو أعظم). وفي حديث سليمان بن بلال: (من الكسب الطيب فيضعها في حقها)، وفي رواية روح: (فيضعها في موضعها)].

* في هذا الحديث بعد ما تقدم ذكره أن الله سبحانه أخبرنا أنه يجزي المتصدقين بأحسن ما كانوا يعملون، وهو سبحانه يجزي المتصدقين بالتمرة حتى إنا لو قدرنا غرس النواة التي هي أدنى ما فيها في أزكى مغرس فصارت نخلة، ثم أثمرت فغرس النوى الخارج منها فصار من كل نواة نخلة ثم اتصل لله إلى يوم القيامة، ثم حسب ذلك التمر في وقت التصدق به بأوفر الأثمان في مكان لا يوجد فيه غيره، ثم يشترى بالثمن أرخص ما يوجد في موضعه، ثم بيع أعلى ما يوجد حتى يصبر مثل أحد مرارًا؛ فهذا معنى المضاعفة. * وقوله: (من كسب طيب)؛ فإن الله تعالى إنما يثيب العبد على ما أنفق من ماله، وإذا أنفق من مال مغصوب (40/ أ) لم يكن قد أنفق ماله؛ إنما أنفق من مال غيره؛ فلم يكن من المنفقين أموالهم كما قال عز وجل: {الذين ينفقون أموالهم}؛ فإذا أنفق من ماله فهو الذي يأجره الله عليه، وذلك هو الكسب الطيب، وهو الذي يكسبه بالشرع، فقد طابت طرق حصوله، وينبغي له ألا يزدري النذر من الإنفاق؛ فإنه سيربو في التضعيف أضعاف ما يأمل المتصدق به. * الفلو: المفطوم، يقال: فلوته عن أمه؛ أي فطمته. والفصيل: ولد الناقة إذا فصل عن أمه، وأصله من القطع.

-1974 - الحديث السادس والثلاثون بعد المائة: [عن سعيد بن مرجانة صاحب علي بن الحسين عليهما السلام عن أبي هريرة: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أيما رجل أعتق امرأ مسلمًا، استنقذ الله بكل عضو من عضوًا من النار). قال ابن مرجانة: فانطلقت به إلى على بن الحسين- عليهما السلام- فعمد علي بين الحسين إلى عبد له قد أعطاه به عبد الله بن جعفر- رضي الله عنه- عشرة آلاف درهم- أو ألف دينار- فأعتقه). وفي رواية: (من أعتق رقبة مسلمة، أعتق الله بكل عضو منه عضوًا منه من النار، حتى فرجه بفرجه). وفي رواية: (من أعتق رقبة مؤمنة، أعتق الله بكل إرب منها إربًا منه من النار)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الأعمال تجانسها الأجور، وإن الله عز وجل لما ضرب الرزق على العبد، وجعله في ذلك عبد آخر، كان من فطنة المولى أن ينظر إلى أنه هو ملك لله عز وجل، فيرى أن تخليصه عبده من رق نفسه

بعرض لالتماس عتق ربه نفسه من عذابه (40/ ب)، فوعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك على العتق، وإن الله تعالى يعتق بكل عضو من العبد عضوًا من المعتق حتى الفرج الذي تحاشيا من ذكره بالفرج. -1975 - الحديث السابع والثلاثون بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكيه عن ربه عز وجل، قال: (أذنب عبد ذنبًا، فقال: اللهم اغفر لي، علم أنه له ربًا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب ذنبًا، فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال: تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب). وفي رواية: (اعمل ما شئت فقد غفرت لك). قال عبد الأعلى: لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة: (اعمل ما شئت). وفي رواية: (وفي الثالثة: قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء)].

* في هذا الحديث من الفقه أن قوله: (أذنب عبد ذنبًا)، أن نطقه نطق الماضي، إلا أنه يحتمل أنه يراد به المستقبل، ولم يذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا مبشرًا به لمنه وشارعًا لهم فقهه. وقوله: (أذنب عبد ذنبًا)، وتنكير العبد في هذا أبلغ من تعريفه؛ لأن النكرة فيها من الشياع ما ليس في المعرفة من جهة أن قوله: (أذنب عبد) أي: عبد أذنب، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي؛ وهذا لأنه لما واقع المذنب الذنب فوفق لأن عقبه بقوله: (اللهم اغفر لي ذنبي)، ودليل التعقيب قوله: فقال: اللهم اغفر لي، والفاء تعطف بغير مهلة، ويعني اغفر لي ذنبي (41/ أ) أي: استره؛ إذ الغفر أصله الستر، ثم اعترف بأنه ذنب، وهذا يدل على أن هذا الذنب لم يكن بدعة؛ فإن المبتدع لا يعرف أنه على ذنب، فلا يستغفر من بدعته. * وقوله: (علم أن له ربًا) أي: دعا دعاء مؤمن؛ قد آمن أن الله يغفر الذنوب على أن له أن يؤاخذ بها، وإنما قدم المغفرة على المؤاخذة لكرمه سبحانه، فلما راجع العبد الذنب وراجع التوبة روجع العفو، فلما عاد فبلغ الثلاث وهي أول الجمع غلب كرم الله تعالى ذنوب هذا العبد، فعم الماضي وما يستقبل، وكأن الله تعالى قال: يا محمد، أعلم هذا العبد، وكل عبد مثله، أني قد غفرت له؛ فليعمل ما شاء؛ لأن تكريره الطلب بحسن الأدب اقتضى من كرمي الإطلاق؛ فليكن الآن ناظرًا إلى أني استحييت من كثرة سؤاله فتركته ليرده استحياؤه.

-1976 - الحديث الثامن والثلاثون بعد المائة: [عن أبي هريرة أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكًا، فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قذرني الناس، قال: فمسحه، فذهب عنه قذره، وأعطي لونًا حسنًا، وجلدًا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل- أو قال: البقر، شك إسحاق،- إلا أن الأبرص والأقرع قال أحدهما: الإبل، وقال الآخر: البقر- فأعطي ناقة عشراء، فقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع، فقال: أي شيء أحب إليك؟ فقال: شعر حسن ويذهب (41/ ب) عني هذا الذي قد قذرني الناس، قال: فمسحه، فذهب عنه، قال: وأعطي شعرًا حسنًا. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، فأعطي بقرة حاملًا، قال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأعمي، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري؛ فأبصر به الناس، قال: فمسحه، فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والدًا، فأنتج هذان، وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم. قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال، بعيرًا أتبلغ به في

سفري، فقال: الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك؟ ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرًا فأعطاك الله؟ فقال: ورثت هذا المال كابرًا عن كابر، فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، فرد عليه مثل ما رد على هذا، فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأعمى في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين، وابن سبيل انقطعت بي الجبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله، ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلى بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فو الله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله، فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي عنك وسخط (42/ أ) على صاحبيك)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن الله تعالى جعل هؤلاء الثلاثة آية من آياته ليذكر بكل منهم أصحاب البلاء من جنسه، وليخوف الناسي فضل الله سبحانه، والجاحد نعتمه؛ وليعلم أن البلاء في الغالب يكون بعرضة أن يزول إلى خير، وأن النعمة في الغالب تكون بعرضة أن تزول إلى هلاك، إلا القليل؛ لأن هؤلاء إنما نجا منهم واحد وهلك اثنان في حالة الغنى. فالنعمة منسية مطغية، حتى تعود بالمنعم عليه كما ليس الذي كان.

* وفيه أن الصبر على البلاء قد يكون خيرًا للمبتلى من زوال البلاء؛ فإن ذين لما اختاروا السلامة، بأن ما جرى لهما في الصحة أن المرض كان لهما أصلح؛ لأن السلامة كانت سبب هلكتهما، فاستدل من هذا الحديث أن كل من طلب من الله تعالى إزالة ضرر، فلم يجد سرعة الإجابة، فلا ينبغي أن يتهم الله في أقداره، وليعلم أن الله قد نظر له وإليه، وذلك الأعمى فقد رد الله بصره وأقر بصيرته على ما كانت عليه. -1977 - الحديث التاسع والثلاثون بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان). وفي رواية: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم). وفي رواية: (من علامات المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)]. * في هذا الحديث من الفقه أن النفاق أصله من النافقاء، وهو أحد حجرة اليربوع، فالكذب يناسبه، والإخلاف يلائمه، والخيانة تطابقه. هذه

الأشياء المذكورة ترجع إلى أصل واحد، وهو النفاق (42/ ب) الذي تنافيه الأمانة، وتباينه الصدق، ويزايله الوفاء. والمراد من هذا الحديث أن تكون هذه الخلال مستمرة على هذا الشخص، وغالبة على أحواله، فأما إن بدرت منه أو ندر منها شيء لم يخرجه عن درجة الإيمان، وسنزيدها كشفًا في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص إن شاء الله تعالى. -1978 - الحديث الأربعون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء، وأغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين). وفي رواية: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة). وفي رواية: (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة)]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن رمضان تفتح فيه أبواب الجنة والرحمة، وتغلق أبواب جهنم، وذلك أن شرب الخمور، وضرب الزمور، والتظاهر بالمنكرات التي يكف الناس عنها في شهر رمضان هي أبواب يدخل منها إلى النار، والصيام والقيام والقراءة وفنون

التعبد التي تكون في رمضان، أبواب يدخل منها إلى الجنة، فهي التي تفتح وتغلق في رمضان. * فأما كون الشياطين تسلسل؛ فهذا الحديث يقتضي ألا يبقى شيطان إلا سلسل، وإنما أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا ليعلمنا أن في غير رمضان قد كان للعصاة كالعذر؛ يكون إبليس مطلقًا يغوي ويوسوس ويسول هو وجنوده؛ لأن الله تعالى خلقه متصرفًا للمذام وعذرًا في الجملة لأولاد آدم، فإذا سلسل في شهر رمضان انقطع عذر من يحتج بإبليس وتسويله، وقيل له: إن المعصية منك وحدك الآن؛ فاستفيد من هذا القول شدة التحذير من المعاصي في رمضان. (43/ 1) -1979 - الحديث الحادي والأربعون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: (خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر، ففتح الله علينا، فلم نغنم ذهبًا ولا ورقًا، وغنمنا المتاع والطعام والثياب، ثم انطلقنا إلى الوادي؛ يعني: وادي القرى، ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد له، وهبه له رجل من جذام يدعى: رفاعة بن زيد من بني الضبيب، فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحل رحله، فرمى بسهم كان فيه حتفه، فقلنا: هنيئًا له الشهادة يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كلا، والذي نفس محمد بيده، إن الشملة لتلتهب عليه نارًا، أخذها من الغنائم يوم خيبر، لم تصبها المقاسم) قال: ففزع الناس، فجاء رجل بشراك أو شراكين، فقال: أصبته يوم خيبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (شراك من نار- أو شرا كان من نار-).

وفي رواية: ومعه عبد له يقال له: مدعم، أهداه له أحد بني الضباب)]. وقال: إذ جاءه سهم عائر؛ العائر من السهام والحجارة الذي لا تدري من أين يأتي، وهذا الحديث ينهى عن الغلول. -1980 - الحديث الثاني والأربعون بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله تعالى- وأحسبه قال:- وكالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر). وفي رواية: (وكالقائم لا يفتر). وفي رواية: (الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله، أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل)].

* في هذا الحديث من الفقه أنه أشار إلى فضل السعي، وإنه إذا كان لا عيال له؛ إذ لو (43/ ب) كان له عيال لكان كسبه عليهم فرضًا، وكان أعظم من هذا؛ ولكن إذا لم يكن له عيال فصرف كسبه إلى الأرملة والمسكين، كان كالصائم لا يفطر، وكالقائم لا يفتر، والمجاهد في سبيل الله. والمراد أن الله تعالى يجمع له ثواب الصائم والقائم والمجاهد في دفعة؛ وذلك أنه قام للأرملة مقام زوجها الذي سلبها إياه القدر، وأرضاها عن ربها، وقام على ذلك المسكين الذي عجز عن قيامه بنفسه؛ فأنفق هذا فضل قوته وتصدق بجلده؛ فكان نفعه إذا الصوم والقيام والجهاد. -1981 - الحديث الثالث والأربعون بعد المائة: [عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (اجتنبوا السبع الموبقات). قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)].

-1982 - الحديث الرابع والأربعون بعد المائة: [عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تقوم الساعة حتى يقوم رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه)]. * في هذا الحديث وجوب الإيمان بأن الله عز وجل لابد أن يجري ما أخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك. -1983 - الحديث الخامس والأربعون بعد المائة: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يعرق الناس يوم القيامة، حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم). وفي رواية: (أن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين ذراعًا)].

* قد تقدم ذكر اجتماع الخلائق يوم القيامة، وبينا أن العرق يكون على حسب اجتماعهم وتصاكهم وتضايقهم مما يعني عن إعادته هاهنا. إلا أنه يشار إليه بأن هذا العرق يكون ذهابه في الأرض سبعين ذراعًا، فيعلم الناس أن الماء البارد في هذا الدنيا لو قد زاد وطغى حتى يعلو على نحو الجبال لم يكن يذهب في الأرض عمقًا على نحو هذا المقدار، وإنما معنى ذلك: أي أنه رشح فيأتي شيئًا فشيئًا، ويكون هذا قد (44/ أ) خرج عن أبدان من أحرقها الخوف مقدرة في حرار في مجتمع أنفاس وزكام يكون هذا الريح على نحو الحميم من شدة حره؛ فلذلك نفد في الأرض هذا النفوذ. ولأن العرق من الآدمي ينفذ نفوذًا شديدًا؛ لأنه ليس كغلظ الماء بل هو من سرعة نفوذه كالماء الذي قد أنضجته الحرارة، فلم ينفذ إلى ظاهر الجلد منه إلا ما هو في غاية اللطافة؛ فلذلك ما نفذ هذا النفوذ؛ ولطول مكث الناس في القيامة. -1984 - الحديث السادس والأربعون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: كنا جلوسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فأنزلت عليه سورة الجمعة: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} قال قائل منهم: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه، حتى سأل ثلاثًا، وفينا سلمان الفارسي،

فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على سلمان، ثم قال: (لو كان الإيمان عند الثريا، لناله رجاله- أو رجل- من هؤلاء) لم يشك الراوي. وفي رواية: (لو كان الدين عن الثريا لذهب به رجل من فارس- أو قال- من أبناء فارس حتى يتناوله)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن الإيمان والدين يكونان في فارس؛ وقد بان قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صاحبي هذا الكتاب: وهما الإمامان: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج، وكلاهما فارسيان. إلى غيرهما من أئمة العلم في فنون العلم، وأنواع أقسام الدين والفضائل، إلا أن الذي أراه: أنهما جمعا علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي افترق في مذاهب المسلمين وأمور الدين (44/ ب) من أصوله وفروعه، والحلال والحرام، والواجب والمندوب والمستحب، والأخبار الماضية والملاحم وما يكون إلى يوم القيامة، وصورة البعث وقيام الأشهاد والحساب، ومنازل الجنة والنار لساكنيها إلى غير ذلك. -1985 - الحديث السابع والأربعون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا نساء المسلمات، لا

تحقرن جارة جارتها، ولو فرسن شاة)]. * في هذا الحديث من الفقه ألا يحقر قليل المعروف؛ فإنه لا يحقره إلا قليل العلم، فإنه إذا نظر إلى ما يتقبل الله تعالى منه لم يسغ له احتقار شيء يتقبله الله تعالى. -1986 - الحديث الثامن والأربعون بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله تعالى إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)]. * في هذا الحديث من الفقه تبيين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن من كان قبله من الأنبياء كل منهم بعث إلى أمة الغالب عليهم الحسن ونظر الصور والأشكال؛ فكانت

الآيات عندهم لا تؤثر إلا فيما يشهد له الحس؛ كانفجار الماء من الحجر، وانفلاق البحر، وطوفان نوح وغير ذلك، وكانت فضيلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما من الله به عليه، أن جعل لدينه روحًا ولذة، بحيث تشهد العقول لها لا الإحساس من النور البين، والحكمة العظيمة؛ ولذلك كان أكثر تابعًا يوم القيامة؛ لأن شاهده ما يأخذ بالقلوب ويقصر (45/ أ) النفوس على الحق. -1987 - الحديث التاسع والأربعون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: بينا نحن في المسجد، إذ خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (انطلقوا إلى يهود) فخرجنا معه، حتى جئنا بيت المدارس، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فناداهم، فقال: (يا معشر اليهود، أسلموا تسلموا) فقالوا له: قد بلغت يا أبا القاسم؟ قال: (ذلك أريد، أسلموا تسلموا)، فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم. فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ذلك أريد)، ثم قالها الثالثة، فقال: (اعلموا أن الأرض لله ولرسوله، وأني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله شيئًا فليبعه، وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ولرسوله)].

* في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا اليهود إلى الإسلام أولًا، فلو أجابوه لما طلب منهم غيره، فلما قال له القائل منهم: قد بلغت يا أبا القاسم، قال لهم حينئذ: (فذلك أريد) أي إنما علي البلاغ، وما قال: فذلك أردت؛ لأنه كان يريد أن يسلموا، وإنما قال: (ذلك أريد)؛ لأن في الاستقبال حيث لم يسلموا، فأنا أريد أن أثبت حجة الله عليكم في إبلاغي وأدائي، فلما أبوا ذلك بعد تكريره عليهم ثلاثًا، قال: (اعلموا أن الأرض لله ولرسوله، أني أريد أن أجليكم من هذه الأرض)، ولم يقل: ولي، وإنما قال: (ولرسوله)؛ أي يتصرف فيها بأمر مرسله. -1988 - الحديث الخمسون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل (45/ ب) لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر؛ أن تسافر مسيرة ويوم وليلة، وليس معها محرم). وفي رواية: (لا يحل لامرأة تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها). وفي رواية: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم). وفي رواية: (لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها). وفي رواية: (لا يحل لامرأة تسافر ثلاثًا إلا ومعها ذو محرم منها)].

* قد سبق بيان هذا الحديث، وتكلمنا في سفر المرأة بغير محرم في مسند ابن عباس ومسند ابن عمر إلا أن الروايات في الصحيح اختلفت: وفي رواية: (ليلة)، وفي رواية: (يوم وليلة)، وفي رواية: (ثلاث)، وهي ممنوعة من قليل ذلك وكثيره. -1989 - الحديث الحادي والخمسون بعد المائة: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده؛ فلا شيء بعده)]. * في هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقر لربه سبحانه وتعالى بأنه لا إله إلا هو، ثم قال: (وحده)؛ فيجوز أن يكون توحيدًا للوحدة، ويجوز أن يكون وحده أعز جنده؛ أي إن اجتماع الأحزاب كان الكافي في هزيمتهم هو سبحانه وحده، و (لا شيء بعده): يعني أنه هو الآخر كما قال سبحانه. -1990 - الحديث الثاني والخمسون بعد المائة: [عن أبي هريرة، قيل: يا رسول، من أكرم الناس؟ قال: (أتقاهم)، فقالوا: ليس عن هذا نسألك؛ قال: (فيوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله)، قالوا: ليس عن هذا نسألكم، قال: (فعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا (46/ أ)

فقهوا)]. * في هذا الحديث ما يدل أن الكرم الذي يعنيه العرب: الشرف، وإنما هو التقوى؛ لقول الله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: لما سئل عن أكرم الناس؟ قال: (أتقاهم)، فقالوا: ليس عن هذا نسألك، إنما يريدون عادتهم، فقال لهم: (فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله)، وكأنهم أرادوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعين لهم فخرًا في العرب خاصة، فإن إمساكهم عن ذلك موافقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في المسلمين، وإنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فهم مقصودهم، فلما قالوا في المرة الثانية: ليس عن هذا نسألك، أجابهم بأن قال: (فعن معادن العرب تسألوني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)، يعني - صلى الله عليه وسلم -: من كنتم تعدونهم خيارًا في الجاهلية فلا اعتبار بذلك، فإنهم إذا أسلموا وفقهوا كانوا خيارًا. فأما إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - ليوسف من بين الأنبياء؛ فلأنه معرق في الكرم؛ فإنه نبي، ابن نبي، ابن نبي، ابن نبي.

-1991 - الحديث الثالث والخمسون بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، لحسبها، وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)]. * في هذا الحديث تفضيل ذات الدين من النساء على غيرها. * وقوله: (إن المرأة تنكح لمالها، ولحسبها، وجمالها، ودينها)، فإنه لم يأمر أن تنكح المرأة لمالها فحسب، غير أن هذا اختار منه أنه قد يقصد، ولكن ليس بالجيد ولا بالأفضل، فلما وصل بذات الدين أمر ثم حض (46/ ب) وسماه ظفرًا، والظفر لا يشتمل إلا عند كشف شدة وإدراك مطلب سني. * وقوله: (بذات الدين) (بالألف واللام)؛ يعني به الدين المعروف، وأن تكون مشهورة به. * وقوله: (تربت يداك)، لفظه لفظ الدعاء، وليس المراد به الدعاء، إلا أنه يستعمل للبعث والحض والإغراء. * ومن مفهوم هذا الحديث أن المرأة إذا نكحت لمالها، كان ذلك قدحًا في معنى المروءة، من جهة أن الله تعالى جعل الرجل هو المنفق على المرأة؛ فقال تعالى: {قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من

أموالهم}، فمن تزوج المرأة لمالها؛ فكأنه قلب ما خلق له إلى المرأة، ورضي بالمقام الأدنى. * فأما التي تنكح لجمالها؛ فإن الجمال بانفراده من غير دين يكون مجسرًا لها على الصلف؛ فلا يفيد إلا أن يضم إليه الدين؛ بل يكون بلية. * وكذلك الحسب، فإنها تفتخر عليه، وتتطاول، كما جرى، لاسيما بنت الجون الكندية في قولها للنبي - صلى الله عليه وسلم -: وهل تهب المرأة نفسها للسوقة؟!، فشقيت بذلك، فلا يسعد الرجل بذلك إلا بصحبة ذات الدين. -1992 - الحديث الرابع والخمسون بعد المائة: [عن أبي هريرة: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد، وقال: (ارجع فصل؛ فإنك لم تصل)، فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء، فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرد وقال: (ارجع فصل، فإنك لم تصل) ثلاثًا. فقال: والذي بعثك بالحق، ما أحسن غيره، فعلمني، فقال: (إذا قمت إلى الصلاة، فكبر، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد

حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، وافعل ذلك في صلاتك كلها). وفي رواية: (47/ أ) (وعليك السلام)، وفيها: (إذا قمت إلى الصلاة، فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبر ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن). وفي رواية: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)]. * قد سبق وصف الصلاة في مسند أبي حميد، ومسند أنس وغيرهما. * وهذا الحديث يدل على وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود والرفع

منهما، وهذا مذهب أحمد والشافعي وداود رحمهم الله تعالى خلافًا لأبي حنيفة ومالك. -1993 - الحديث الخامس والخمسون بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا زنت الأمة، فتبين زناها، فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة، فليبعها، ولو بحبل من شعر). وفي رواية عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ قال: (إن زنت فاجلدوها؛ ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها؛ ثم بيعوها ولو بضفير)، قال ابن شهاب: لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة. قال ابن شهاب: والضفير: الحبل المفتول من الشعر)]. * التثريب: التعيير؛ وهذا لأن الله سبحانه لم يشرع إلا الحد، فإذا استوفاه منها لم يبق عليها شيء، فلا يتسلط عليها التعيير؛ فتصير

عقوبتين، وإنما أمره ببيعها؛ لأنه ربما يكون سيدها يعفها؛ أو ربما يكون ذا زوجات أو ذا سن، فأمر أن يبيعها من يعفها. وقد سبق هذا الحديث (47/ ب) في مسند زيد بن خالد، وقد تكلمنا عليه هنالك. -1994 - الحديث السادس والخمسون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أوى أحدكم إلى فراشه؛ فلينفش فراشه بداخله إزاره؛ فإنه لا يدري ما خلف عليه، ثم يقول: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين). وفي رواية لمسلم: (فليأخذ داخلة إزاره؛ فلينفض بها فراشه، وليسم الله عز وجل، فإنه لا يعلم ما خلفه بعده على فراشه؛ فإذا أراد أن يضطجع، فليضطجع على شقه الأيمن، وليقل: سبحانك ربي، لك وضعت جنبي، وبك أرفعه)].

* أما قوله: (فلينفض فراشه بداخلة إزاره)، فقد دل على جواز اتخاذ الفراش، فقد نبه - صلى الله عليه وسلم - لإشفاقه على أمته على ما يجوز أن يتخذ من فراش وأمره بنفضه بداخلة الإزار، وهي طرف الإزار ليدفع عنه هامة أو عودًا صغيرًا يؤذي النائم. * وقد سبق ما يقوله النائم عند نومه في مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفي مسند أبي ذر، وفي مسند البراء بن عازب، وفي مسند حذيفة، وفي مسند أنس بن مالك رضي الله عنهم، فمن جمعه من هذه المسانيد وقاله عند النوم، نال أعظم أجر. -1995 - الحديث السابع والخمسون بعد المائة: [عن أبي هريرة، قال: (بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيلًا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، سيد اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه (48/ أ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (ماذا عندك يا ثمامة؟)، قال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله، حتى إذا كان الغد، قال: (ما عندك يا ثمامة؟) قال: عندي ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال، فسل تعط منه ما شئت. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أطلقوا ثمامة)،

فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، والله ما كان على الأرض أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إلى، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟، فبشره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة، قال له قائل: أصبوت؟ قال: لا، ولكني أسلمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة، حتى يأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)]. * في هذا الحديث من الفقه أن ثمامة لم ير أن يسلم وهو في الأسر؛ ولكنه صبر، وبدل ما يلائم الحال حينئذ، فقال: إن تنعم تنعم على شاكر، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل منه واحدة من الكلمات التي بذلها؛ لكنه لما رأى كرم ثمامة، وصبره (48/ ب) على الأسر صبرًا، لم يضعف عند تخويف القتل وذهاب المال، واستمر على ذلك يومًا، فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مثل هذه

النفس تأتي على الجميل والإحسان خلاف ما يأتي على العنف والشدة، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإطلاقه من غير فداء ولا من؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - عرف أن عقل ثمامة عقاله، فلما أطلق عنه الأسر من يديه ورجليه، نقل الصنيعة غلا في عنقه، فأقر بإسلامه عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما قال الشاعر: إذا أطلقوا عنه جوامع غله .... تيقن أن المن أيضًا جوامع ويدلل على حسن إسلامه صدقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: ما كان عندي وجه أبغض، ولا بلد، ولا دين، ثم صدقه في انقلاب تلك الحال. * وقد دل هذا الحديث على أن اقتناء ثمامة أفضل من اقتناء المال؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى أن اقتناء ثمامة خير من أن يأخذ ماله. * وفيه أيضًا: أنه بشره، وبشرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تنصرف إذا لم يذكر وجهها إلا إلى الأرفع، وهو الجنة، وأنه استأذنه في العمرة، فأذن له، وكان مقام جيش في قطع المادة عن قومه من المشركين. * وفيه أيضًا جواز قطع المادة عن المشركين حتى يفيئوا إلى أمر الله. * وقوله: (حبة حنطة) معناه فما فوقها. -1996 - الحديث الثامن والخمسون بعد المائة: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يمنع جار جاره؛ أن يغرز خشبة في جداره) ثم يقول أبو هريرة: (مالي أراكم عنها معرضين؟ (49/ أ) والله لأرمين بها بين أكتافكم).

وفي رواية عن عكرمة قال: (ألا أخبركم بأشياء قصار، حدثنا أبو هريرة، قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الشرب من فم القربة، والسقاء، وأن يمنع جاره أن يغرز خشبة في جدار داره)]. * لم يجز لصاحب الحائط أن يمنعه، وهذا لأن المسلم أخو المسلم، فلا ينبغي أن يتلاحيا فيما هذا قدره، ولاسيما مثل قد يفيد الجدار ولا يضره، ولأنه يقويه، وقد يكون وصلة بين الجارين، فإذا أباه الجار أبان عن لؤم ودناءة. * وقد روي: خشبة، وقد روي: خشبة، توحيدًا وجمعًا، والتوحيد عائد إلى معنى الجمع. -1997 - الحديث التاسع والخمسون بعد المائة: [عن أبي هريرة أنه كان يقول: (بئس الطعام طعام الوليمة؛ يدعى إليه الأغنياء، ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوى فقد عصى الله ورسوله). وفي رواية لمسلم: (شر الطعام طعام الوليمة). ومن حديث سفيان بن عيينة، قال: قلت للزهري: يا أبا بكر، كيف هذا الحديث (شر الطعام طعام الأغنياء)؟، فضحك، وقال: ليس هو شر الطعام طعام الأغنياء، قال سفيان: وكان أبي غنيًا فأفزعني هذا الحديث

حين سمعت به، فسألت عنه الزهري، فقال: (حدثني عبد الرحمن الأعرج أنه سمع أبا هريرة يقول: شر الطعام طعام الوليمة ...) ثم ذكر نحو ما تقدم. وفي رواية: (شر الطعام طعام الوليمة، يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله)]. * في هذا الحديث أن الأطعمة على كونها تتساوى في الأسماء (49/ ب) والأجناس، وأنها تتفاوت من حيث المعاني ومقاصد أربابها، فمن صنع طعامًا ليخص به الأغنياء المستغنين عنه، متكلفًا لهم حضورهم إليه، مع تركه من هو أشد منهم حاجة فذلك منه هو خسران، فمن أعانه على هذا المقصد بإجابته إلى هذا الطعام من الأغنياء فإنه قد شاركه بحصة من سوء مقصده، ولكن إذا صنع طعامًا فحضره الأغنياء والفقراء، كانت تلك الدعوة يتعين الإجابة إليها؛ لأن الطعام أصل وضعه أن يجود به من فضل عنه على من أعوزه، فإذا قلب المعنى فيه وعكست، اختل أصل الوضع. -1998 - الحديث الستون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان)، قيل: وما القيراطان؟ قال: (مثل الجبلين العظيمين).

قال سالم: وكان ابن عمر يصلي عليها ثم ينصرف، فلما بلغه حديث أبي هريرة، قال: أي هريرة، قال: (لقد ضيعنا قراريط كثيرة). وفي رواية: قيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من تبع جنازة فله قيراط من الأجر)، فقال: ابن عمر: أكثر علينا أبو هريرة، فبعث إلى عائشة فسألها، فصدقت أبا هريرة، فقال ابن عمر: (لقد فرطنا في قراريط كثيرة). وفي رواية: (حتى يفرغ منها). وفي رواية: (حتى توضع في اللحد). وفي رواية: (من اتبعها حتى تدفن). وفي رواية: (من اتبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا، وكان معها حتى يصلى عليها، ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، (50/ أ)، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن؛ فإنه يرجع بقيراط). وفي رواية: (من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط، ومن تبعها فله قيراطان)، قيل: وما القيراطان، قال: (أصغرهما مثل أحد). وفي رواية: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن اتبعها حتى توضع في القبر فقيراطان)، قال: قلت لأبي هريرة: وما القيراط؟ قال: مثل أحد. وفي حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص: أنه كان قاعدًا عند عبد الله بن عمر، إذ طلع خباب صاحب المقصورة، فقال: يا عبد الله بن عمر، ألا

تسمع ما يقول أبو هريرة، يقول: إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من خرج مع جنازة من بيتها، وصلى عليها، ثم تبعها، حتى تدفن، كان له قيراطان من أجر، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد)، فأرسل ابن عمر إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة، ثم يرجع إليه فيخبره بما قالت، وأخذ ابن عمر قبضة من حصى المسجد يقلبها في يده حتى رجع، فقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة، فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في كفه الأرض، ثم قال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة)]. * وقد سبق بيان هذا الحديث في مسند ابن عمر، وهذا المقدار الذي هو القيراط خطاب للناس بما يعرفونه، إلا أن الذي أرى فيه قيراط من قراريط الأجر ووزنه يكون في الأجرة، فهي من حيث ثقلها في الحق وخلوصها في

تبع الجنازة والصلاة على الميت، وشهود دفنه، من الأحوال التي كلها عظة وعبرة وتذكرة، فالحال إذا قمنة بالإخلا؛ فلذلك (50/ ب) ثقلت حتى كان القيراط منها يرجح بأحد. -1999 - الحديث الحادي والستون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر يوم الجمعة: ({آلم (1) تنزيل .....}، {هل أتى على الإنسان ...})]. * في هذا الحديث استحباب قراءة هاتين السورتين في يوم الجمعة في صلاة الفجر، و {آلم (1) تنزيل ...} سجدتها على نحو من نصف السورة، فيكون أدعى للحاق المسلمين معه الركعة والسجدة؛ ولأن توخي قراءة سورة فيها سجدة مستحب يوم الجمعة. * وأما {هل أتى} فيها توبيخ لمنكري الإيجاد بعدم العدم، لقوله: {هل أتى على الإنسان ...}، وقيل: هاهنا على وجهها، وليست كما يقول بعض المفسرين: إنها بمعنى قد؛ ولكنها بمعنى السؤال عن المتيقن ليكون

المسؤول ينطق به بلسانه، فيقال: هل مضى عليك حين من الدهر، وما كنت شيئًا مذكورًا؟ فيقول: نعم، فيكون الحجة عليه بإقراره، فهو أبلغ في إثبات الحق. * وفيها أيضًا: صفة الجنة والمعاد وغير ذلك. -2000 - الحديث الثاني والستون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قريش والأنصار وجهينة، ومزينة، وأسلم، وأشجع، وغفار موالي، ليس لهم مولي دون الله ورسوله). وفي رواية: (والذي نفس محمد بيده، لغفار، وأسلم، ومزينة، ومن كان من جهينة- أو قال: جهينة، ومن كان من مزينة- خير عند الله يوم القيامة من أسد، وطيئ، وغطفان). وفي رواية: (لأسلم، وغفار، وشيء من مزينة (51/ أ) - أو شيء من جهينة ومزينة- خير عند الله- قال: أحسبه قال: يوم القيامة- من أسد وغطفان، وهوازن، وتميم). وفي رواية لمسلم: (أسلم، وغفار، ومزينة، ومن كان من جهينة- أو جهينة- خير من بني تميم، وبني عامر، والحليفتين أسد وغطفان)].

* قد مضى ذكر هذا الحديث في مواضع، وبينا أن الفضل لهما يكون بالإيمان والعمل لا بالأنساب؛ فإن الإيمان يرفع الوضيع والكفر يحط الرفيع. -2001 - الحديث الثالث والستون بعد المائة: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)]. * قد سبق هذا الحديث بعد الحديث السبعين من هذا المسند، وتكلمنا عليه هنالك. -2002 - الحديث الرابع والستون بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا سمعتم نهاق الحمير، فتعوذوا

بالله من الشيطان؛ فإنها رأت شيطانًا، وإذا سمعتم صياح الديكة، فاسألوا الله من فضله؛ فإنها رأت ملكًا)]. * في هذا الحديث من الفقه أنه لما كان صوت الحمار أنكر الأصوات كان الشيطان وشيكًا بالتعرض له ليثير من النهاق الذي يزعج المسلمين فتنكره نفوسهم؛ فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتعوذ من الشيطان؛ ولما كانت الديكة يؤنس إلى أصواتها من حيث إنها في الليل توقظ (51/ ب) النائم لأفضل الأوقات للذكر، وهو وقت السحر، كانت عند رؤية الملائكة يثور صاحبها، فيذكر الله سبحانه حينئذ، ويسأل من فضله. -2003 - الحديث الخامس والستون بعد المائة: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يسوق بدنة، فقال: (اركبها)، فقال: إنها بدنة؛ فقال: (اركبها)، فقال: إنها بدنة، فقال: (اركبها ويلك)، في الثانية أو في الثالثة. وفي رواية للبخاري: رأى رجلًا يسوق بدنة، قال: (اركبها)، قال: إنها بدنة، قال: (اركبها)، قال: فلقد رأيته راكبها يساير النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنعل في عنقها).

وفي رواية: بينما رجل يسوق بدنة مقلدة. وفي رواية: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (ويلك، اركبها)، فقال: إنها بدنة يا رسول الله، قال: (ويلك، اركبها)]. * قد سبق ذكر هذا الحديث في مواضع. -2004 - الحديث السادس والستون بعد المائة: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يمش أحدكم في نعل واحدة، ولينعلهما جميعًا، أو ليخلعهما). وفي رواية: (ليحفهما جميعًا أو لينعلهما جميعًا). وفي رواية لمسلم: خرج إلينا أبو هريرة فضرب بيده على جبهته، فقال: ألا إنكم تحدثون إني أكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتهتدوا وأضل، ألا وإني أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا انقطع شسع أحدكم، فلا يمش في الأخرى حتى يصلحها). وفي رواية: (إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى، وإذا خلع فليبدأ

بالشمال، ولينعلهما جميعًا أو ليحفهما جميعًا)]. * في هذا الحديث كراهية أن يمشي الرجل في نعل (52/ أ) واحدة، وذلك مناف لاستعمال العدل بين الرجلين، والعدل في ذلك أن ينعلهما معًا أو يحفهما معًا؛ ولأن الشيطان قد يمشي في نعل واحدة. وقد حكى الشيخ محمد بن يحيى رحمه الله، قال: خرجت من مكة إلى المدينة قاصدًا زيارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحدي، وكنت عزمت ألا أستصحب معي زادًا ولا ماءً، قال: فجئت إلى قرية هنالك، فدخلت إليها، فأعطيت زادًا في جراب، فحملته معي، وذهبت متوجهًا إلى المدينة، قال: فأخذني الصداع، فقلت: من أين هذا الصداع؟ فنظرت فقلت: من حملي الزاد، فعزمت على أن ألقيه مكاني وأمشي، ثم قلت: لا يحل لي أن ألقيه، ولكن أرجع إلى هذه القرية فأتصدق به وأرجع، فحملته ورجعت إلى القرية، فلقيني شيخ لا أحسب إلا أنه قال: في رجله نعل واحدة، فوقف لي في الطريق، فقال: هيه رجعت، فقذف في روعي أنه الشيطان، فقلت: يا عدو الله، إنما رجعت لأتصدق بهذا، وأمضي في طريقي. والذي أراه أنا في الشيخ رحمه الله كان ذلك في عنفوان شبابه، وإلا فما كنت أراه حين علم العلم يسافر إلا ومعه الزاد عملًا بالسنة؛ لأنه حدثني أنه صحب رجلًا يقال له: (محمد) في مركب، وأنهما نزلا من المركب على أن يمشيا على الماء، فقيض الله لهما سفينة فركبا فيها ووصلا إلى الساحل إلى

موضع يقال له: السرين، وأنهما لما صعدا من السفينة إلى ساحل البحر، أجمع عليهما جماعة من المستسلحة لصاحب مكة، يريدون أن يمسكوا من وصل في صحبتهما، قال: فجلس الشيخ إزائي وغمضت عيني- أو قال: أغفيت فاستيقظت- أو قال: (52/ ب)، فتحت عيني، فإذا أنا وصاحبي في أرض غير تلك الأرض. قال يحيى بن محمد رحمه الله: فسألته: كم كان من الموضع الذي كنتما فيه جالسين، والموضع الذي صرتما إليه؟ فقال: مسيرة ثلاثة أيام، وكان يقول رحمه الله: إلى ساعتي هذه- يعني وقت حكايته لي- ما أشك أن الله أوجدنا هناك وأعدمنا من الموضع الأول؛ لأن الحال كانت أسرع من أن يكون فيها سير وحركة، قال: فعطشت عطشًا شديدًا، فجعلت أصيح: اللهم اسقني ماء!، فالتفت الشيخ إلي وقال: يا محمد، ما هذا سوء الأدب. ثم مد يده إلى الأرض، فأخرج قرصًا، فقال لي: خذ، فقلت: ما أصنع بالطعام، وإنما أريد الماء؟؛ قال: فو الله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت في الحال سقيفة دارت علينا وحلف لي فقال: لقد رأيتها مرشوشة، وفيها سقاء مترع، فقال لي: اشرب من هذا، فشربت. قال: فقال لي حينئذ: قد تركنا كوزًا كنا نحمل فيه الماء، وجرابًا فيه دقيق، قال الشيخ محمد بن يحيى رحمه الله، ومن كانت حالته تلك الحالة، فما أراه أراد استصحاب الزاد إلا اتباعًا للسنة. * وفي هذا الحديث من السنة أن يبتدئ المنتعل باليمنى إذا انتعل؛ وباليسرى إذا خلع.

-2005 - الحديث السابع والستون بعد المائة: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه). وفي رواية لمسلم: (والذي نفسي بيده، لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر، فيتمرغ عليه، فيقول: يا ليتني كنت مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدين إلا البلاء)]. * في هذا الحديث (53/ أ) إنذار بشدة تشتد على المسلمين حتى يفزع منها الناس إلى الموت، ويتمنونه، فأما سفهاؤهم فللضجر من البلاد، وأما ذوو الأحلام فللخوف من الفتنة في الدين. -2006 - الحديث الثامن والستون بعد المائة: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم ليغسله سبع مرار). وفي رواية: (طهور إناء أحدكم، إذا ولغ فيه الكلب، أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب).

وفي رواية: (طهور إناء أحدكم، إذا ولغ فيه الكلب: أن يغسله سبع مرات). وفي حديث ابن المغفل: (وعفروه الثامنة بالتراب)]. * في هذا الحديث تخصيص للكلب بهذا العدد في الغسل من ولوغه. * وفيه إشارة إلى النهي عن اقتنائه بتغليظ أمر نجاسته فوق غيره من النجاسات؛ ليكون مقتنيه لنفعه، من رعاية ماشية أو حرث أو صيد، معلنًا بين ما ينتفع به في تلك الحالة وبين ما يتكلف من تكرير طهارة الآنية من ولوغه سبعًا إحداهن بالتراب. فهو إما أن يكره اقتناؤه فيتخلص من ذلك، وإما أن يكون تكريره هذه العبادة مكفرًا لاقتنائه؛ لأنه في الجملة يروع المسلم ويقهر الغريب، ويزعج صوته في الليل والنهار، ويتعرض منه عند شدة العطش الذي يفضي به إلى الكلب، أن يكون في عضته الحتف المرجئ. * فأما كون الثامنة هي التعفير بالتراب؛ فإن هذا يعرض الإناء لأن يغسل مرة أخرى؛ لأنه إذا أراد استعمال الإناء لطعامه فإنه لابد أن يزيل عنه التراب، ويغسله، وقد سبق شرح هذا الحديث وذكره، في مسند ابن (53/ ب) مغفل.

-2007 - الحديث التاسع والستون بعد المائة: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تتلقى الركبان للبيع، ولا يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد، ولا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها؛ فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر). وفي رواية: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعًا من تمر). وفي رواية: (من اشترى غنمًا مصراة فاحتلبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر). وفي رواية: (من اشترى شاة مصراة، فلينقلب بها فليحلبها، فإن رضي حلابها أمسكها، وإلا ردها ومعها صاع من تمر). وفي رواية: (من ابتاع شاة مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام؛ إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها ورد معها صاعًا من تمر).

وفي رواية: (من اشترى شاة مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها رد معها صاعًا من طعام لا سمراء). وفي رواية: (فإن شاء ردها، ورد معها صاعًا من تمر لا سمراء). وفي رواية: (من اشترى من الغنم، يعني مصراة فهو بالخيار). وفي رواية: (إذا ما اشترى أحدكم لقحة مصراة؛ فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها: إما هي وإلا فليردها وصاعًا من تمر)]. * أصل التصرية: الحبس والإمساك، والمصراة: الناقة أو البقرة أو الشاة التي قد صري اللبن في ضرعها، أي حبس فلا يحلب أيامًا ليعظم ضرعها، فيظن المشتري أن ذلك منها كل يوم لا يتغير فيغتر بذلك، فيشتري، وهذا الفعل سبب (54/ أ) لإثبات خيار الرد، وهو قول مالك والشافعي وأحمد ابن حنبل رضي الله عنهم، خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله، والحديث نص لا يمكن تأويله. * وقد سبق الكلام في تلقي الركبان في مواضع.

-2008 - الحديث السبعون بعد المائة: [عن أبي هريرة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر يوم الجمعة، فقال: (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي، فيسأل الله شيئًَا إلا أعطاه إياه)، وأشار بيده- يقللها. وفي رواية: (إن في الجمعة ساعة)، وقال بيده، قلنا: يقللها يزهدها). وفي رواية مسدد: قال بيده، ووضع أثملته على بطن الوسطى والخنصر- قلنا: يزهدها. وفي رواية: (إن في الجمعة لساعة، وهي ساعة خفيفة)]. * وقد اختلفت الأحاديث في هذه الساعة، وقد سبق في مسند أبي موسى أنها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة.

وجاء في حديث جابر أنه قال: (التمسوها آخر الساعات بعد العصر). وفي حديث آخر: (إذا تدلى نصف عين الشمس للغروب). قال أبو بكر الأثرم: فلا تخلو هذه الأحاديث من وجهين: إما أن يكون بعضها أصح من بعض. وإما أن تكون هذه الساعة تتنقل في الأوقات، كانتقال ليلة القدر في ليالي العشر. -2009 - الحديث الحادي والسبعون بعد المائة: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (هل ترون قبلتي هاهنا؟، فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا خشوعكم، وإني لأراكم من وراء ظهري)].

* هذه معجزة من معجزات نبينا - صلى الله عليه وسلم - قد سبق ذكرها، وأنه كان يرى من وراء ظهره كما ينظر من بين (54/ ب) يديه. -2010 - الحديث الثاني والسبعون بعد المائة: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر، وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم، وهو أعلم بكم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهو يصلون، وأتيناهم وهم يصلون). وفي رواية: (والملائكة يتعاقبون فيكم)]. * قد سبق أن الملائكة يجتمعون عند الفجر وعند المغرب، وشرحنا هذا فيما مضى.

-2011 - الحديث الثالث والسبعون بعد المائة: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع)]. * في هذا الحديث من الفقه أنه يجوز أن يكون المراد بالغني: الذي عليه الدين، فلا يحل له المطل مع قدرته على الأداء. وقد يكون المراد بالغني: صاحب الدين، فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن مطلك إياه، وإن كان غنيًا عنه ظلم. * وقوله: (من أحيل على مليء فليتبع) أي: ليحتل؛ وذلك أنه إذا أحيل صاحب الدين على ذمة قابلة للأداء لم يجز أن يمتنع من قبول الإحالة، وإن أشرف الذمم وأجلها أن يقول الله عز وجل لعبده المظلوم في القيامة مظلمتك على أخيك هذا علي، فليس له أن يمتنع، لأنه إذا كانت الإحالة على مليء من أهل الدنيا تلزم قبولها، فكيف الإحالة على خالق الخلق سبحانه وتعالى.

-2012 - الحديث الرابع والسبعون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (55/ أ) (طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة)]. * الإشارة بهذا الحديث إلى الإيثار، وأن ما يكتفي به الشخص يكفي شخصين. * وفيه تنبيه على البلغة وقدر الكفاية. -2013 - الحديث الخامس والسبعون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي، فهو صدقة) , وفي رواية: (لا نورث؛ ما تركناه صدقة)].

* هذا الحديث قد سبق في أول الكتاب، وشرحناه شرحًا بليغًا، والحمد لله وحده. -2014 - الحديث السادس والسبعون بعد المائة: [عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اختتن إبراهيم عليه السلام بالقدوم). قال أبو الزناد: القدوم، مخفف، هو موضع)]. * قال أبو سليمان الخطابي: وكذلك القدوم الذي يعمل به خفيف أيضًا. * وفي هذا الحديث الحث على الختان على اختلاف بين الناس في وجوبه. -2015 - الحديث السابع والسبعون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تمنوا لقاء العدو، فإذا

لقيتموهم فاصبروا)]. * اعلم أن تمني لقاء العدو يتضمن الدعوى للصبر؛ فلهذا نهى عن تمني ذلك؛ لأنه ربما وكل المتمني إلى دعواه، ولأن الإنسان لا يعلم المصلحة في أي شيء هي، فأما إذا جرى القضاء بلقاء العدو، كان الصبر معينًا. -2016 - الحديث الثامن والسبعون بعد المائة: [عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة؛ لا يزن عند الله جناح (55/ ب) بعوضة)، وقال: (اقرؤوا إن شئتم: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا}]. * اعلم أن أوزان القيامة إنما تثقل بالمعاني لا بالصور؛ فإذا كان صاحب جثة وليس فيه من معاني الإيمان ما يثقل الميزان لم يكن له وزن. * وفي هذا الحديث أن السمن ليس مما يمدح به الرجل؛ لأنه من ممادح النسوان، فهو على نحو الحلية التي قال الله عز وجل: {أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين}.

-2017 - الحديث التاسع والسبعون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لما قضى الله الخلق- وفي رواية- لما خلق الله الخلق، كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي). وفي رواية: (لما قضى الله الخلق، كتب عنده- وفي رواية- لما خلق الله الخلق، كتب في كتاب كتبه على نفسه، فهو موضوع عنده على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي). وفي رواية: (إن الله كتب كتابًا، قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوب عنده فوق العرش). وفي رواية: (لما قضى الله الخلق، كتب في كتابه على نفسه، فهو موضوع عنده: إن رحمتي تغلب غضبي)].

* هذا الحديث يتضمن سعة رحمة الله، وكثرة فضله في حلمه قبل انتقامه، وعفوه قبل عقوبته، وذكر الكتاب تأكيد بالغ في معناه؛ لأن ما زاد تأكيده يثبت في كتاب. * وفي هذا الحديث (56/ أ) من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم أمته، أن الله تعالى كتب على نفسه، في كتاب شرف عنده، حتى لم يول خزنه ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلًا، ولم يرض في مكان خزنه إلا أن جعله فوق العرش؛ وذلك أن غضبه جل جلاله لم تكن لتقوم له السموات والأرض لولا أنه غلبته رحمته، فدفع العظيم بالعظيم، وكان هذا مما لولا أنه سبق، كما قال سبحانه: {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} وإلا فإنما كانت أحوال بني آدم تكون في كفة رجحان الغضب؛ لأنه سبحانه لما خلق آدم رافعًا له على الملائكة، وأسجد له الملائكة فسجدوا كلهم، فلما امتنع منهم واحد من أن يسجد لآدم لعنه وطرده وأوجب له النار، وقضى عليه بسخطه، وجعله عذرًا لكل عاص، ومنصرفًا للمذام إلى يوم القيامة، فكان من الحق أن بني آدم يكونون لهذا الشيطان وذريته على أشد عداوة، وأعظم إرغام؛ لأن الله سبحانه إنما لعنه وطرده فيهم، ولأجلهم، فلما اتبعوه إلا فريقًا منهم كان ذلك من موجبات الغضب، وقد قال سبحانه: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا}. وهذه الآية مما عد العلماء أنه يذاق منها حلاوة القرآن، ألا ترى إلى ما قد استحوذ عليه الشيطان من إغواء هذه البرية، حتى إذا نظر الناظر من بني آدم

إلى ما قد اجتالت الشياطين من إخوته الذين هم صلب أبيه آدم، وكيف صدق عليهم إبليس ظنه (56/ ب)، وصح فيهم حديث، وأنه أغوى من أغوى من الأمم الماضية والقرون الخالية، مذ عهد نوح عليه السلام والأنبياء بعده، قرنًا بعد قرن، وجيلًا على أثر جيل، حتى لم يتخلص من أن يتابعه منهم إلا من اتبع المرسلين على قلة عددهم، بالإضافة إلى تبليغ الخلائق في كل وقت إلى أن انتهى الوقت إلى مبعث المصطفى محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكيف أقام الحجة، وأوضح السبيل، وبصر من كل عمى، وهدى من كل ضلالة، وأبان من مكايد الشيطان ما لم يبق معه عدد لتابع غواية، وأنه على ذلك كان الذين اتبعوه وصحبوه، إلى أن توفاه الله عز وجل، وخلفه الهداة من أصحابه، المدة التي علم مقدارها. ثم إن الشيطان أدب عقارب كيده، وأوقع من الفتن ما وقع من كل فتنة هي، وإن كانت قد وقتها وانطفأت في العيان شرها، فإن سمها ليعاذ كل لديغ بشيء من أنبائها إلى يوم القيامة، وإن وقتنا هذا من بني آدم؛ إذا فكر فيهم ذو اهتمام بأمر الكل، وأخو حزن من الحياء من موافقة الجنس فيما يسيء أدبه به بين يدي ربه جل جلاله في قوله الذي أخبرنا الله سبحانه به عنه؛ إذ يقول: {قال أرأيتك هذا الذي كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلًا}، فكيف لا يجد المؤمن من هذه الوصمة خلاصًا لغمة إخوته من بني آدم عن مرارة عارها وشنارها، إذا نظرنا إلى ما عليه أهل الأطراف في أكناف الدنيا من مخالفة الأوامر؛ وارتكاب المناهي، ثم دنى

عن أولئك البعداء إلى أهل القرى والمدن، فنظر إلى ما فيه أهل القرى من اطراح أمر الدين، والإضراب عن التفقه والعلم، (57/ أ) وما عليه أهل المدن من تطفيف المكاييل، ونقص الموازين، واطراح أمر الشرع في العقود والبياعات، وأكل الربا، والمرخص في النجاسات والاستخفاف بأمرها، والتظالم بين الخلطاء، والغل والغش إلى ألا يكاد يرضى منهم عن أحد إلا من انقطع إلى العلم؛ أو عزفت نفسه عن هذه الدنيا. ثم إنه يسوءه فيهم ما يرى عليه أهل العلم من التنافس والذم، ذم بعضهم بعضًا، والطعن من كل منهم فيمن يخالفه، وتنافس أهل الانقطاع منهم أيضًا في أشياء تفصح عن مقاصدهم فيها، عزيز على المؤمن أن يراهم أو يجدهم عندها من كل حال يشمت بها إبليس، فيرى المؤمن أنه لولا أن الله عز وجل سبقت رحمته غضبه، وغلب عفوه عقوبته؛ لكان أن يخسف الأرض بمن عليها من بني آدم، ويضرمها بهم نارًا، غير جور منه سبحانه، ولا حيف، لكن لما سبقت رحمته غضبه في كتاب كتبه على نفسه، لما علم جل جلاله أن ذلك لا يكون منهم إذا خلقهم. ثم إنه سبحانه وتعالى خلقهم على علمه بهم، فهو سبحانه وتعالى يرعى فيهم سوابق اختياره، ويلاحظ منهم مواضع آثاره، وأنهم على ما كان منهم؛ فإنهم بأقرانهم شهود خلقه لهم، وفعله فيهم، وأن منهم المخلصين له، والمجاهدين فيه، والمؤثرين سبحانه بأرواحهم، والمنفقين فيه حياتهم، فيكون أولئك حماة لجنسهم، وأمانًا لسائر بني أبيهم، ممن يرتضي الله عز وجل إن شاء الله تعالى.

-2018 - (57/ ب) الحديث الثمانون بعد المائة: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم، الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا، تجدون من خير الناس، أشد الناس كراهية لهذا الشأن حتى يقع فيه). وفي رواية: (تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشد كراهية، وتجدون شر الناس ذا الوجهين؛ الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه). وفي رواية: (أن شر الناس ذو الوجهين؛ الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه). وفي رواية: (تجدون من أشر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه). وفي رواية: (تجدون من خير الناس في الأمر أكرههم له قبل أن يقع فيه)]. * قوله: (الناس تبع لقريش)، فيه تفضيل قريش على سائر العرب، وتقديمهم في الإمامة والإمارة.

* وقوله: (في هذا الشأن)؛ يعني الإمارة. * وقوله: (وكافرهم تبع لكافرهم)؛ حكاية للحال التي كانت في الجاهلية. * وقوله: (الناس معادن)؛ قد سبق قبل أحاديث يسيرة في هذا المسند. * وقوله: (تجدون من خير الناس أشدهم كراهية لهذا الشأن)؛ يعني الإمارة، وإنما يكرهها المؤمن من حيث الحذر على دينه؛ فإذا وقع فيها يشتهي العزل، ولذلك قال بعض الصحابة لعمر رضي الله عنه: ما سرتني الولاية؛ ولقد ساءني العزل. (58/ أ) وقال الخطابي: معنى الكلام: إذا وقعوا فيها لم يجز أن يكرهوها؛ لأنهم إذا كان قيامهم بها عن كره ضيعوا حقوقها، فليقبلوا عليها وليجتهدوا فيها. * وقوله: (تجدون من شر الناس ذا الوجهين)، وهذا هو المنافق، وقد شرحنا معنى هذا الحديث في مسند ابن عمر. -2019 - الحديث الحادي والثمانون بعد المائة: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو أن رجلًا اطلع عليك بغير إذن، فحذفته بحصاة، ففقأت عينه، ما كان عليك جناح).

وفي رواية: (نحن الآخرون السابقون، وقال: لو اطلع في بيتك أحد، ولم تأذن له، حذفته بحصاة ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح). وفي رواية: (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم؛ فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه)]. * قد سبق هذا الحديث في مسند سهل بن سعد، وشرحناه هنالك. -2020 - الحديث الثاني والثمانون بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن أخنع اسم عند الله، رجل تسمى ملك الأملاك)، زاد أبو بكر بن أبي شيبة في روايته: (لا مالك إلا الله). قال الأشعثي: قال سفيان: مثل شاهان شاه. وقال أحمد بن حنبل: سألت أبا عمرو عن أخنع؟ قال: أوضع.

وفي رواية: (أخنى الأسماء يوم القيامة عند الله عز وجل رجل تسمى ملك الأملاك). وفي رواية لمسلم: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة، وأخبثه، رجل كان يسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله عز وجل)]. وقد ذكرنا عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قال: عن أبي عمرو: أخنع بمعنى أوضع، وقد قال أبو عبيد: أشد الأسماء ذلًا وأوضعها: الخانع الذليل (58/ ب) الخاضع. قال أبو عبيد: وقد روي: (أخنع)، ومعناه: أقتل الأسماء وأهلكها. والنخع: هو القتل الشديد. وأما أخنى ففيه ثلاثة أوجه: أحدهما: أن يكون من الخنا في الكلام وهو الفاحش، فيكون المعنى: أفحش الأسماء وأبشعها. والثاني: بمعنى الهلاك، يقال: أخنى عليهم الدهر. والثالث: بمعنى الفساد، يقال: أخنيت عليهم، أي أفسدت. -2021 - الحديث الثالث والثمانون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قال الله عز وجل: أعددت

لعبادي الصالحين: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ذخرًا، بله ما أطعكم عليه)، ثم قرأ: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}. * وفي رواية أبي معاوية: {من قرأت أعين}. * وفي رواية: (بله ما أطلعكم الله عليه)]. * في هذا الحديث من الفقه أنه لما كانت الدنيا دار ضيق وحرج، وكانت الآخرة دار إكرام الله تعالى لأوليائه، ومستقرًا لمن رضي عنه، أعد لهم الله فيها ما لم تر عين، وما لم تسمع أذن، ولا خطر على قلب بشر، صونًا لعطائه في الآخرة، وعن أن يوصف على جهته، فلا تصدقه النفوس لعظمته؛ لأن هذه الأعين ضيقة، وهذه النفوس نشأت في محل صغير، فإذا حدثت بما يتجاوز مقدار عقولها أو مبلغ إحساسها، مما ليس عندها أصل تقيسه عليه إلا ما تشاهده وتراه وتألفه، عجلت إلى الارتياب فيه، وسارعت إلى الشك في الخبر عنه؛ فلذلك أرى أن الله سبحانه وتعالى قال: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}.

وعلى أن مما أخبرنا به عن ذلك المقر الذي هذا الحديث يدل على (59/ أ) أنه أخفى أضعاف ما أظهر نفاسة وشرفًا، أن منه أن يأتي الولي في الجنة ملك من عند ربه سبحانه وتعالى، فيقول لبعض خول الولي وحشمه: إني رسول الله من عند الله إني الملك، فاستأذنوا عليه، فيقولون له: وأين أنت من الملك الآن؟ فلا يخبره بحضوره إلا شجرة تكلم شجرة حتى يتصل ذلك إليه، فيقول: ائذنوا لرسول ربي، فيدخل إليه الملك، فيسلم عليه، ويحمل له من عند ربه تحفة في تفاحة، إذا أخذها، انصدعت عن جارية مكتوب بين عينيها: من الحي الذي لا يموت إلى الحي الذي لا يموت، وإن مما أظهر أن الله سبحانه يقول لأهل الجنة إذا رأوه، خلعت عليكم أن تقولوا للأشياء: كوني فتكون، فما الظن بما وراء هذا؟. * وقوله: (بله ما أطلعكم عليه) أي: سوى ما أطلعكم عليه. وقال أبو عبيد: دع ما أطلعكم عليه. -2022 - الحديث الرابع والثمانون بعد المائة: [عن أبي هريرة، قال: (لله تسعة وتسعون اسمًا، مائة إلا واحدًا، لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر، يحب الوتر). وفي رواية: (من أحصاها). وفي رواية: (إن لله تسعة وتسعون اسمًا مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة).

وفي رواية: (إنه وتر يحب الوتر)]. * في هذا الحديث من الفقه أن أسماء الله تعالى دالة على صفاته، فمن أحصاها دخل الجنة. واختلفوا في معنى (أحصاها)، فقيل: حفظها، كما روي في بعض الألفاظ، وقيل: عدها، وهذه الأسماء إذا حفظها أو عدها وفهم معانيها، وكان من العلماء بالله سبحانه فإياه الخير من قبل ذلك. * فأما كونها تسعة وتسعين اسمًا: فإن التسعة (59/ ب) نهاية الآحاد، والتسعين نهاية العشرات، وليس وراء هذين عدد يشير بنطقه المنفرد إلى أكثر من ذلك، والتسعة والتسعون وتر، والله يحب الوتر، من أجل أنه يذكر ربه سبحانه ويشعر به هذا الذاكر، أن ربه جل جلاله مستغن منفرد غير محتاج إلى غيره جل جلاله. * فمن ذلك: أن من أسمائه: الله، وهذا اسم علم لم يتسم به غيره جل جلاله. وقال أهل العربية فيه أقوالًا، رأيت أن مجموع معانيها في النطق الذي يخلص عن سوء الأدب فيها: هو أن يقال: إن الله اسم يستنبط منه استحقاقه العبودية، وأنه محبوب القلوب التي لا تزال تتوله إليه، وأنه الرفيع والمعبود، فسمى الله سبحانه نفسه هذا الاسم الذي يتجلى عن هذه المعاني كلها، قبل أن يخلق خلقه، وقبل أن ينطق بشر اللسان العربي،

لعلمه سبحانه أنه سيخلق بشرًا منهم العرب؛ الذي ينتهى الأمر إليهم. وتقوم الساعة عليهم، فيستدلون من لغتهم على معاني هذا الاسم العظيم. * ولا أرى أن أقول كما تقول النحاة من أن هذا كان أوله إله نكره، ثم كثر استعماله، فعرف بالألف واللام، فصار الإله ثم فخمت اللامان فصار الله؛ لأن الله اسم قديم قبل خلق الخلق؛ بل إن هذه المعاني تستنبط منه، وتستفاد عنه. وهذا الاسم فهو الذي كان يقول الشيخ محمد بن يحيى رحمه الله أنه هو المراد بقوله: {الله نور السموات والأرض} معنى هذا الاسم، وذكر له خصائص فمنها: إنه لا يثنى، ولا يجمع، ولا تلحق اليا من الأسماء الحسنى إلا له، ولا الميم في النداء، إلا إياه، إلى غير ذلك من الخصائص. * وأما الرحمن: فهو الذي عظمت رحمته. * والرحيم: أرق من (60/ أ) الرحمن وأبلغ في اللطف، كما أن الرحمن أبلغ في الكثرة. * والرب: المالك، ولا يطلق الرب إلا على الله عز وجل؛ فأما إذا ذكر لغيره، ذكر مقيدًا؛ كقولهم: رب الدار. * وأما الملك: فهو المالك المتصرف بمقتضى سلطانه. * وأما القدوس: فهو المتنزه عن كل نقص. * والسلام: السالم من كل عيب.

* والمؤمن: الذي يصدق ما وعد. * والمهيمن: أصله المؤتمن. * والعزيز: المنيع. * والجبار: فعال من الجبر أي يجبر الكسر. * والمتكبر: المستحق للتعظيم، وهذه تاء التفرد لا تاء التعاطي والتكلف. * الخالق: الفاطر المبتدئ. * والمصور: مرتب الأشكال والصور. * والحليم: الذي لا يعجل. * والعليم: فعيل من العلم، بمعنى عالم. * والسميع: فعيل من السمع، بمعنى سامع. * وكذلك البصير. * والحي: الدائم الحياة. * والقيوم: فعول من القيام بالقسط للمبالغة. * والواسع: الغني، على أنه واسع العفو والغفران. * واللطيف: الرفيق بخلقه، وهو المحيط بكل دقيق من الأمور، كما يحيط بكل جليل. * والخبير: المطلع على دقائق الأمور. * والحنان: الذي يحنو على عباده.

* والمنان: الذي يتابع عطاياه. * والبديع: المبتدع. * والودود: الذي كلما قوطع وصل، وكلما عصي رزق. * والغفور: من الغفران. * والشكور: فعول من الشكر. * والمجيد: فعيل من ماجد للمبالغة. * والمبتدئ: المنشئ لكل خلق. * والمعيد: لكل ميت؛ ولكل خير بدأ به. * والنور: لأنه نور كل موجود؛ فمن ذلك أن حقه ودينه وشرعه، كل ذلك ليس في شيء منه خفاء ولا إشكال. * والبادي: هو الظاهر لخلقه من آثاره في صنائعه. * والأول: هو السابق لكل أول. * والأكرم: الأفعل من (60/ ب) الكرم. * والرؤوف: فعول من الرأفة. * والمدبر: هو المنفرد بتدبيره في عباده وأرضه وسمائه. * والمالك: هو الذي يملك كل شيء مالك وما يملك ذلك المالك. * والقاهر: الذي يقهر كل جبار وعات ومعاند. * والهادي: فهو الذي يهدي كل ضال.

* والشاكر: فهو سبحانه يشكر على ما هو المنعم به. * والكريم: الجواد، والكريم: العزيز. * والرفيع: هو المرتفع عن كل دناءة. * والشهيد: فهو الذي لا يغيب، ولا يغيب عنه شيء. * ذو المعارج: إنه سبحانه تعرج إليه أعمال بني آدم. * ذو الفضل: ذو الخير الدائم المعروف بالفضل. * والخلاق: فعال من الخلق، للتكثير. * والكفيل: هو الذي تكفل بكل ضائع، وبكل ما وعد على لسان رسله. * والجميل: هو الجميل الصنع، جميل الستر، جميل الصفح، جميل الأخذ، جميل الذكر جميل العادة. * فهذا تفسير الأسماء على الاختصار. -2023 - الحديث الخامس والثمانون بعد المائة: [عن أبي هريرة، قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من النهار، لا يكلمني ولا أكلمه، حتى أتى سوق بني قينقاع، فجلس بفناء بيت فاطمة، فقال: (أثم لكع)، فحسبته شيئًا، فظننت أنها تلبسه سخابًا أو تغسله، فجاء يشتد حتى عانقه، وقبله، يعني قال: (اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه). وفي رواية: أن أبا هريرة، قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سوق من أسواق المدينة، فانصرف وانصرفت، فقال: (أي لكع)، ثلاثًا، ادع الحسن

ابن علي، فقام الحسن بن علي يمشي في عنقه السخاب، فقال النبي (61/ أ) - صلى الله عليه وسلم - بيده هكذا، فقال الحسن بيده هكذا، فالتزمه، وقال: (اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه). قال أبو هريرة: فما كان أحد أحب إلي من الحسن بن علي بعدما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال]. * في هذا الحديث من الفقه أن قوله: (أثم لكع) يعني باللكع: الصغير. قال أبو سليمان الخطابي: اللكع يقال على وجهين: أحدهما، الاستصغار، والثاني: الذم. والذي أراده الرسول - صلى الله عليه وسلم - للاستصغار. والسخاب: قلادة يتخذ خرزها من الطيب من غير ذهب ولا فضة. * وقوله في الحسن: (اللهم إني أحبه)، إنما اشتد حبه له؛ لأن الله تعالى أصلح به بين أمته، فصان به دماءها، وأصلح به دهماءها. * وقوله: (فأحبه)، الذي أرى فيه أنه إشارة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه جل وعز أني أحبه يا رب يكون مصلحًا بين أمتي، تاركًا الأمر لمن يجوز أن يتركه له، راغبًا بذلك عن أن يسفك دم أو تزل بعد الثبوت قدم، (وأحب من يحبه) أي؛ حينئذ فإنه لا يحبه إلا مريد.

* وفيه أيضًا: استحباب لطف الرجل بولده، ورفقه به، ومد يده إليه حتى يعتنقه الصبي. * وفيه أيضًا: أن هذه قد كانت عادة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قد ألفها الصبي منه. * وفيه أن الحسن من أهل الجنة؛ لأنه أخبرنا بأنه يحبه، وسأل ربه جل جلاله أن يحبه، وأن يحب كل من يحبه، وهذه الحال تكون للملوك من أهل الجنة، وأن الحسن بن علي (61/ ب) رضي الله عنه لهنالك. * وفي الحديث دليل على أن كل من أحب الحسن بن علي رضي الله عنه من هذه الأمة إلى يوم القيامة؛ فإنه تشمله دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن الله تعالى يحبه. * وفيه أيضًا من مفهوم الخطاب أن الله يبغض من يبغضه. * وفيه أيضًا جواز أن يلبس الصبي السخاب، وهو القلادة. -2024 - الحديث السادس والثمانون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له؛ فغدا لليهود، وبعد غد للنصارى) فسكت، ثم قال: (حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يومًا، يغسل فيه

رأسه وجسده). وليس فيه عند مسلم ذكر الغسل. وفي رواية: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له؛ فالناس لنا فيه تبع؛ اليهود غدًا، والنصارى بعد غد). وفي رواية: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة؛ بيد أن كل أمة أوتيت الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا اليوم الذي كتب الله علينا، هدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا، والنصارى بعد غد)؛ ولم يذكر الغسل. وفي رواية: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول من يدخل الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا). وفي رواية: (نحن الآخرون السابقون يقوم القيامة (62/ أ) بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، وهذا يومهم الذي فرض عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فهم لنا فيه تبع، فاليهود غدًا، والنصارى بعد غد). وفي رواية عن أبي هريرة وحذيفة قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا، فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم

القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق). وفي رواية: (المقضي بينهم)]. * قد سبق الكلام على هذا الحديث في مسند حذيفة، وسبق بيان تفضيل هذه الأمة أيضًا في مسند ابن مسعود على أنا نشير إليه هاهنا، فنقول: المعنى: نحن الآخرون في الزمان، السابقون في دخول الجنة. * وقوله: (بيد أنهم). قال أبو عبيد: غير أنهم، وعلى أنهم، ويقال ميد بالميم، والميم تدخل على الباء، نحو قولهم: أغمطت الحمى، وأغبطت، وسبد رأسه وسمده. * وقوله: (فهذا يومهم)، يعني الذي فرض تعليمه والتعبد فيه. * وقوله: (حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام)، لا يخلو هذا من أمرين: إما أن يكون على وجه الوجوب، وذلك منسوخ بما قدمنا بيانه، أو أن يكون على وجه الندب، فهو باق على الندب.

-2025 - الحديث السابع والثمانون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: (ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل البخيل والمتصدق، كمثل رجلين عليهما (62/ ب) جنتان من حديد، قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله، وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت، وأخذت كل حلقة بمكانها) - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بإصبعه في جيبه: (فلو رأيته: يوسعها ولا توسع). وفي رواية: فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (فيجتهد أن يوسعها، ولا تتسع). وفي رواية: (مثل البخيل والمتصدق كمثل رجل عليه جنتان أو جبتان)]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضربه مثلًا للبخيل والمتصدق، في أن البخيل كلما قبض يده، ضيق الله عليه، وملأ قلبه خوفًا من الفقر، ويأسًا من الخلف، وأن المتصدق كلما بسط يده بالخير، بسط الله عليه فضله

حتى يخلف عليه أضعاف ما ينفق. وقوله: (جبتان أو جنتان)؛ فإنه مثل شديد الموقع في موضعه؛ من حيث أنهما للمتصدق جنة من كل سوء، تقيه الآفات، وتحول بينه وبين مصارع السوء، وتصفو عليه حتى تغطي أنامله، وتعفو آثاره، فلا يترك منه جزءًا إلا كانت حائلة بينه وبين ما يكره. ومثل البخيل كمثل من كانت له جنة ممكنة أن يتعرض لأن يضيقها الله عليه، ويستره بها، فقبض الله جبته حتى حصلت عند ثدييه منحسرة عن مقابله، وكانت في عنقه غلًا عليه، وثقلًا معلقًا في رقبته، يحرص حتى يوسعها، وهي لا تتسع عليه، والجنة كلما استترت به، وتعفي أثره أي: تمحو، وتقلصت: اجتمعت. والتراقي: جمع ترقوة، وللإنسان ترقوتان، وهما العظمان المشرفان (63/ أ) في أعلى الصدر. -2026 - الحديث الثامن والثمانون بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا)].

* قال الخطابي: هذا الحشر قبل يوم القيامة، تحشر الناس أحياء إلى الشام. فأما الحشر الذي يكون بعد البعث من القبور، فإنه على خلاف هذه الصورة من ركوب الإبل، بل يحشرون حفاة عراة، كما سبق في حديث ابن عباس. قال يحيى بن محمد رحمه الله: ويحتمل أن يشار بهذا إلى حشر يوم القيامة؛ أي أن القوم يحشرون يوم القيامة متفاوتي الأحوال، (راغبين)؛ وهو منصوب على الحال، أي الذين سبقت لهم البشرى، فهم يذهبون في حال رغبة وطمع، و (راهبين) حال أيضًا؛ وذلك لأنه سبق إليهم المنذرون بالمخاوف فيردون القيامة راغبين وراهبين، ويكون أعمال بعضهم مقصرة، فلا يفرد على بعير، وقوله: (عشرة على بعير)، وهذا لا يمكن إلا أن يتعلق بعضهم ببعض، ثم يبقى أقوام ليس لهم ما يحملهم، فتحملهم النار، فتسير بهم على قدر طاقتهم في منازلهم ومقادير السير فيها؛ إذ ليس هناك ليل ولا نهار. إنما ذلك على تقدير ما كانوا عليه في أسفار الدنيا. * وفيه ما يدل على أن الدواب تحشر، ومنها الإبل، قال الله تعالى (63/ ب) {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون}.

-2027 - الحديث التاسع والثمانون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: (أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صكه، ففقأ عينه، فرجع إلى ربه، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فرد الله عليه عينه، وقال: ارجع إليه، فقل له: يضع يده على متن ثور، وله بكل ما غطت يده بكل شعرة سنة. قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فلو كنت ثم لأريتكم قبره، إلى جانب الطريق، تحت الكثيب الأحمر). وفي رواية عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فقال له: أجب ربك، قال: فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها) فذكر بمعناه]. * هذا الحديث قد ذكر فيه على بن عقيل كلامًا لم أرضه له، ولم أرضه لنفسي أن أترك الرد عليه، فإنه قال فيه قولًا يشير به إلى تخطئة موسى، وإلى خطأ ملك الموت، كيف لم يطرح موسى ميتًا، ولا يعود إلى ربه شاكيًا؟، ثم خلط القول إلى داخل التدبير الإلهي برأيه القليل، وسبب ذلك أنه ضاق فطنته عن فهم الحديث، فحمله على أفظع محمل؛ فلم يكن في

هذا الحديث من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، على كونه كان في كثير من المسائل ذا فطنة وبلاغة وأقوال صالحة. * وإنما وجه الحديث عندي أن موسى عليه السلام كان من الدنيا في دار عبادة وخدمة (64/ أ)، فجاء ملك الموت لينقله إلى دار راحة ونعمة، فكره أن يراه الله تعالى مسرعًا إلى الخلاص من خدمة ربه، وحمل أعباء الأثقال من مدارة خلقه، طالبًا تعجيل الراحة بالتنعم في دار الخلد بالعطايا السنية، فلطم ملك الموت، فعاد ملك الموت عليه السلام في صورة شاك، فقيل له: يضع يده على متن ثور، فله بكل شعرة سنة، فلو كان موسى عليه السلام إنما فرق من الموت لقبل ما أنعم به عليه من كثرة السنين، ولكنه قال: من الآن، وأراد أن موافقتي لاختيار ربي خير من موافقتي لاختيار نفسي. * فأما فقؤه لعينه لما أظهر من إيثاره كلف الخدمة على راحة النعمة، أنه يخجل الملك حتى لم يبق له عين ينظره بها، فكان على معنى ما يقول الرجل إذا اشتد خجله: ما لي عين أنظرك بها، ويجوز أن يكون على وجهه. -2028 - الحديث التسعون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة بمائة امرأة، تلد كل امرأة منهن غلامًا؛ يقاتل في سبيل الله، فقال له الملك: قل: إن شاء الله، فلم يقل، ونسي، فأطاف بهن، ولم تلد منهن إلا امرأة نصف إنسان. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو قال: إن شاء الله، لم يحنث، وكان أرجى لحاجته).

وفي رواية: (تسعين امرأة، وقال: لو قال: إن شاء الله، لم يحنث، وكان دركًا لحاجته). وفي رواية: (لو استثنى). وفي رواية: (سبعين). وفي رواية: (كان لسليمان عليه السلام ستون امرأة، فقال: لأطوفن (64/ ب) عليهن الليلة ...)، وفيه: (لو كان استثنى لولدت كل واحدة منهن غلامًا فارسًا يقاتل في سبيل الله تعالى). وفي رواية: (قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسعة وتسعين كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: إن شاء الله، فلم يقل: إن شاء الله، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعين). وفي رواية: (قال سليمان بن داود عليه السلام: لأطوفن الليلة في سبعين امرأة تحمل كل امرأة فارسًا يجاهد في سبيل الله، قال له صاحبه: إن شاء الله، فلم يقل، فلم تحمل شيئًا إلا واحدًا ساقطًا أحد شقيه)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو قالها لجاهدوا في سبيل الله). وفي رواية: (لأطوفن الليلة على تسعين امرأة، كل امرأة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ...) فذكره، وفيه: (وايم الذي نفسي بيده، لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون). وفي رواية: (كلها تحمل غلامًا يجاهد في سبيل الله)].

* في هذا الحديث استجاب القوة على النساء لمن أطاق ذلك واتسع له خلقه. * وفيه أيضًا طلب الولد، والوطء لأجله. * وفيه إرادة الولد لعبادة الله عز وجل. * وفيه أن سليمان كان ينزل مع كل امرأة منهن؛ لأن الولد لا يأتي إلا من الإنزال. * وفيه أيضًا: أن ترك الاستثناء بالنطق ورد الأمر إلى الله تعالى وإلى مشيئته مظنة للنجح. * وفيه أيضًا: أن ترك الاستثناء بالنطق مع كون العقيدة سليمة (65/ أ) يخل بالمقصد، ويؤثر فيه، فإن سليمان عليه السلام لم يخل بالاستثناء إلا شذوذًا عنه، ونسيانًا له، وإلا فهو كل المعتقد لموجبه. * وفيه أيضًا: دليل على جواز أن يقول الرجل: لو كان كذا لكان كذا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لو كان استثنى لجاهدوا في سبيل الله)، وعلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل في هذا الحديث أن سليمان عليه السلام لم يحصل له ثواب مائة فارس يجاهدون في سبيل الله، ولكن صورتهم لم تحصل له، فأما ثواب ذلك فقد حصل له فيما أرى.

-2029 - الحديث الحادي والتسعون بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فتح اليوم من ردم يأجوج مثل هذه)، وعقد وهيب بيده تسعين. وفي رواية: (فتح الله من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)، وعقد بيده تسعين)]. هذا الحديث يدل على أن ردم يأجوج الذي شيده ذو القرنين سيجعله الله دكًا، إذا جاء وعده. الوعد في لغة العرب لا يستعمل إلا فيما كان خيرًا، فلعله إن شاء الله يفتحه لعصر الإسلام وظهور كلمة الحق، إلا أنه من أشراط الساعة، فقد كان في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح منه قدر عقد تسعين كما أخبر - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أن عقد التسعين في غاية الضيق، ثم يتبعها عقد المائة، وهو أوسع، وهو تحليق الأصبع مع الإبهام. -2030 - الحديث الثاني والتسعون بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (65/ ب) أنه قال: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته

فليفعل). وفي رواية عن نعيم قال: (رأيت أبا هريرة يتوضأ، فغسل وجهه؛ فأسبع الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال لي: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنتم الغر المجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله). وفي رواية عن نعيم: أنه رأى أبا هريرة يتوضأ، ويغسل وجهه ويديه، حتى كاد يبلغ المنكبين، ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين، ثم قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن أمتي يأتون يوم القيامة غرًا محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل). وفي رواية لمسلم عن أبي حازم أنه قال: كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة، وكان يمد يده حتى تبلغ إبطه ... الحديث. فقلت له: يا أبا هريرة، ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فروح أنتم هاهنا! لو علمت أنكم هاهنا ما توضأت هذه الوضوء، سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء). لم يزد. وفي رواية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: (ترد علي أمتي الحوض، وأنا أذود الناس عنه، كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله) قال: يا نبي الله أتعرفنا؟ (66/ أ)، قال: (نعم، لكم سيماء ليست لأحد غيركم، تردون

فأقول: يا رب هؤلاء من أصحابي، فيجيبني ملك، ويقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟). وفي رواية: (إن حوضي أبعد من أيلة من عدن، لهو أشد بياضًا من الثلج، وأحلى من العسل باللبن، ولآنيته أكثر من عدد النجوم، لأصد الناس عنه، كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه) قالوا: يا رسول الله، أتعرفنا يومئذ؟ قال: (نعم، لكم سيما ليست لأحد من الأمم، تردون على محجلين من أثر الوضوء). وفي رواية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى المقبرة، فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا)، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله، قال: (أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد)، قالوا: كيف تعرف من لم يأت من أمتك يا رسول الله؟، قال (أرأيت لو أن رجلًا له خيل غر محجلة، بين ظهري خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (فإنهم يأتون غرًا محجلين من أثر الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا). وفي حديث مالك: (فليذادن رجال عن حوضي)].

* قد مضى في إسباغ الوضوء في مسند عمر بن الخطاب، وفي مسند عثمان بن عفان، وفي (66/ ب) مسند ابن مسعود رضي الله عنهم. * وآثار الوضوء علامة تظهر لهذه الأمة خاصة في القيامة تدل على فضيلتها. * فأما الذياد عن الحوض فقد سبق الكلام عليه في مسند ابن مسعود، ومسند سهل بن سعد الساعدي، وفي مسند حذيفة، وفي مسند أنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين. -2031 - الحديث الثالث والتسعون بعد المائة: [عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (على أنقاب المدينة ملائكة، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال). وفي رواية، قال: (يأتي المسيح من قبل المشرق، وهمته المدينة، حتى ينزل دبر أحد، ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام، وهنالك يهلك)]. * هذا الحديث يدل على فضيلة المدينة. وقد سبق الكلام في فضلها في مسند سعد بن أبي وقاص، وفي مسند أنس بن مالك رضي الله عنهم.

-2032 - الحديث الرابع والتسعون بعد المائة: [عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر). وفي رواية: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ثم لينتشر، ومن استجمر فليوتر، وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده). وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة: يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا استجمر أحدكم فليستجمر وترًا، وإذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء، ثم لينتثر)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الاستجمار يستحب فيه الوتر. * وقوله: (67/ أ) (فليوتر)، بلام الأمر، يدل على الوجوب. * وقوله: (فلينتثر)، يدل على وجوب الاستنثار؛ لأنه ذكره بلام الوجوب، والاستنثار: إيصال الماء إلى النثرة، وهو طرف الأنف. * وأما غسل اليدين عند الاستيقاظ من النوم فإنه مستحب، وعند أحمد

واجب، وذلك فيما أرى أنه بغسله يديه عند قيامه من نوم الليل يأخذ بالأحوط؛ فإنه لو قد غمس يده في ماء قبل أن يغسلها، ثم ذكر أنه كان قد أصاب بيده فرجه وعليه نجاسة، لأفسد ذلك الماء، واحتاج إلى غسل الإناء الذي كان فيه، فإذا قدم غسل يديه من نوم الليل استراح من مثل هذه الحال. -2033 - الحديث الخامس والتسعون بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ليس على المسلم صدقة في عبده، ولا فرسه). وفي رواية: (ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر)]. * في هذا الحديث من الفقه أنه لا زكاة في رقيق ولا في خيل، والفقه في ذلك أن الرقيق والخيل للابتذال، والمبتذل لا يرصد للنماء، والزكاة إنما تكون في النامي. -2034 - الحديث السادس والتسعون بعد المائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب

عن أبيه، فهو كفر)]. * هذا الحديث وارد في الانتساب إلى غير الوالد، وذلك كفر؛ أي تغطية للحق. -2035 - الحديث السابع والتسعون بعد المائة: [عن أبي هريرة، قال: (رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيع العرايا بخرصها من التمر ما دون خمسة أوسق، أو في خمسة أوسق) شك الراوي]. * قد سبق الكلام في العرايا في مسند رافع بن خديج وغيره.

-2036 - (67/ ب) الحديث الثامن والتسعون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الرجل إذا لقي الرجل في الطريق فسلم عليه؛

فقد أمنه؛ فلكون الفارس أقوى من الراجل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يسلم الأقوى على الأضعف ليكون الأمان من الأقوى. * وكذلك الماشي على القاعد؛ لأن الماشي يأتي على القاعد ويمر به. * فأما تسليم القليل على الكثير؛ فإنه إذا نطق القليل بما يواجه به الكثير شملهم، ولو كان ذلك واجبًا على الكثير؛ لكان كل واحد منهم بمفرده يحتاج أن يسلم على القليل، وكان ذلك يطول ويؤدي إلى حرج، وهو في القليل أيسر. -2037 - الحديث التاسع والتسعون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (صلاة الرجل في الجماعة تضعف صلاته في بيته وسوقه خمسًا وعشرين ضعفًا؛ وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة). وفي رواية: (فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة تحسبه)، وزاد في دعاء الملائكة: (اللهم اغفر له، اللهم تب عليه ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه). وفي رواية: (لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، ولا تمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة).

وفي رواية: (68/ أ) (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاة، ما لم يحدث: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه). ثم قال متصلًا به: (لا يزال أحدكم في صلاة). وفي رواية: (فإن أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، والملائكة تقول: اللهم اغفر له وارحمه، ما لم يقم من مصلاه أو يحدث). وفي رواية: (لا يزال العبد في صلاة ما كان في المسجد ينتظر الصلاة، ما لم يحدث)، فقال رجل أعجمي: ما الحدث يا أبا هريرة؟، قال: الصوت؛ يعني الضرطة. وفي رواية: (الملائكة تصلى على أحدكم ما دام في مجلسه، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث، وأحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه). وفي رواية: (لا يزال العبد في صلاة ما كان في مصلاه ينتظر الصلاة، وتقول الملائكة: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، حتى ينصرف أو يحدث)، قلت: ما يحدث؟ قال: (يفسو أو يضرط). وفي رواية: (أحدكم ما قعد ينتظر الصلاة في صلاة، ما لم يحدث، تدعو له الملائكة: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه). وحكى أبو مسعود أن فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه)].

* أما مضاعفة صلاة الجماعة على صلاة الرجل وحده، فقد تكلمنا عليها في مسند ابن عمر، وقلنا: إنه لما كانت الصلوات في اليوم والليلة خمس صلوات، وكان نهاية التضعيف في ضرب العدد في نفسه، أن ينتهي من خمس إلى خمس وعشرين؛ كان المصلي في جماعة فاضلًا من يصلي وحده بخمس وعشرين درجة. وأما ما جاء في موضع آخر بسبع وعشرين فإنه هو معنى الخمس والعشرين، ولكن فيه تبيين أن صلاة المصلي بصلاة (68/ ب) الإمام الذي به تتم الجماعة يكتب الله لهما أصلًا ثم يجعل التضعيف خارجًا عن ذلك؛ لئلا ينقصه ذلك من حساب التضعيف، فيكون ذلك سبعًا وعشرين. * وأما انتظار الصلاة، فإن انتظار العبادة عبادة. * وقوله: (ما لم يحدث) المعنى: إنه إذا لم يحدث، فهو على هيئة الانتظار لا يمنعه من الصلاة إلا حضور وقتها؛ فإذا أحدث فقد نافى بحدثه حال المتأهبين للصلاة؛ فلذلك كان الدعاء من الملائكة له. -2038 - الحديث المائتان: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده). قال الأعمش: كانوا يرون أنه بيض الحديد، والحبل كانوا يرون أنه منها ما يساوي دراهم)].

* إن قال قائل: الناس مع اختلافهم فيما يقطع به يد السارق يتفقون على أنه لا يقطع بسرقة بيضة ولا حبل، فما وجه ذلك؟ الجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنها البيضة من بيض الحديد كما ذكرنا عن الأعمش، والحبل من حبال السفن، وله قيمة تبلغ ما يقطع به السارق، وقد كان يحيى بن أكثم القاضي يذهب إلى هذا التفسير ويعجبه. والوجه الثاني: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما أنزل عليه {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} قال هذا الحديث أخذًا بظاهر الآية، ثم اعلم بالوحي بعد أن القطع لا يكون إلا في ربع دينار فما فوقه، وهذا اختيار ابن قتيبة، قال: ولا يجوز الوجه الأول إلا على من لا معرفة له باللغة ومخارج الكلام؛ فإن هذا ليس بموضع تكثير لما يأخذه السارق وليس من عادة الناس أن يقولوا: قبح الله فلانًا (69/ أ)؛ عرض نفسه للضرب في عقد جوهر وجراب مسك، إنما العادة أن يقال: تعرض لقطع اليد في حبل رث، ولما ذكر ما يحتقر هاهنا كان أبلغ. والوجه الثالث: أن المراد أنه يقطع في السرقة حتى في الشيء المحتقر إذا بلغ نصابًا، ذكر البيضة والحبل لبيان جنس المحتقرات لئلا يظن أن القطع يختص بنفائس الأموال.

-2039 - الحديث الأول بعد المائتين: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيها، خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسى سما فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم، خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده، يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا)]. * في هذا الحديث ما يدل على ما تقدم ذكرنا له من أن نفس المرء ليست له، وإنما هي وديعة عنده لله سبحانه، فإذا فرط في وديعته منها كان ذلك من أقبح الخيانة. * وقوله: (من تردى من جبل)، ربما جاء الشيطان فأوهم بعض العباد أنك قد بلغت من التوكل إلى أن تلقي نفسك من شاهق فلا يضرك، فحرام عليه أن يتبع الشيطان في ذلك؛ فإن هو خالف أمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - واتبع الشيطان؛ فقد أخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما له من عذاب الآخرة. * وكذلك من تحسى سمًا فقتل نفسه، فإن حاله كحال المتردي فأما ما يروى عن خالد بن الوليد رضي الله عنه؛ فإن صح لم يتبين أنه سم، وكانت سلامة خالد آية من آيات الله (69/ ب) عز وجل خص بها خالدًا، ولا يسوغ للعموم اتباع خالد فيها.

* وكذلك من قتل نفسه بحديدة: فإن حاله عند الله عز وجل مثل حال الأولين. * ومعنى ذلك أن يتعرض الإنسان بالمآكل التي الغالب فيها إيذاء آكلها، فيكون الإثم والحرج فيها على مقدار ما ينكأ في بدن آكلها. * وعلى هذا كان الكراهية للإفراط في الشبع، وإدخال الطعام على الطعام، ومطاوعة الشره، والتعريض بالنفوس للغرر في المتالف، وما الغالب منه التوى والعطب مما لا يبعد أن يداني فاعله أصحاب هذا المقام. ومن ذلك أن يستلقي تحت هدف مائل أو ينام على سطح ليس له حاجزًا، ويركب البحر عند ارتجاجه، أو يتعرض من البلاء لما لا يطيقه؛ فإن ذلك كله مما يخاف على فاعليه مداناة مقام القاتلين لنفوسهم؛ فإن تصرف الإنسان في نفسه تصرف المالكين يوهم أنه تعرض لدعوى الملكية فيه على الله. والذي يحمل الفاعلين لهذه الأفعال عليها؛ فإنه إما لضيق نزل بهم، أو غيظ استولى عليهم أو تعاط يراءى به الخلق، أو استلذاذ لما يتوهم بعده من طيب الذكر؛ فإن ذلك كله من الحرام الذي لا يسوغ ولا يحل. * وقوله: (خالدًا مخلدًا)، قد كان قوله: (خالدًا) يكفي في معنى الخلود والمقام، ولكنه جاء بعده بذكر التخليد، فهو على معنى المراغمة للخالد والقهر له. فإن قال قائل: إن الذي تحسى سمًا أو يقتل نفسه بحديدة أو يتردى من رأس جبل لا يخرجون بهذه الأفعال من الإسلام، وقد ثبت أنه لا يخلد في النار إلا الكافرون، فكيف قطع لهم بالتخليد؟ فالجواب أن هذا محمول على أنه يستحل (70/ أ) ذلك.

-2040 - الحديث الثاني بعد المائتين: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع رجلًا بسلعة بعد العصر، فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا؛ فصدقه وهو على غير ذلك، ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنيا؛ فإن أعطاه منها وفى، وإن لم يعطه لم يوف). وفي رواية: (ورجل ساوم رجلًا سلعة). وفي رواية: (فإن أعطاه منها رضي، وإن لم يعطه منها سخط). وفي رواية: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر يقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماء، فيقول الله له: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك)]. * قوله: (ثلاثة) يعني: ثلاثة أصناف من الناس، كل واحد منهم صنف في جنس عمله:

* أحدهم: مانع فضل الماء بالفلاة، يعني أنه بالفلاة التي هي غير مملوكة؛ لأن حكم ما في الأرض المملوكة يخالف حكم غيره؛ لأن لصاحب الأرض المملوكة أن يمنع الدخول إليها، فإذا كان في فلاة فليس لأحد أن يتخصص به، وعلى هذا لم يقنع هذا بأن يأخذ حاجته من ابن السبيل المحتاج إليه؛ فكان هذا قد منع فاضلًا عن حاجته إنسانًا محتاجًا إلى ذلك الفاضل. * وقوله: (رجع بايع رجلًا بسلعة بعد العصر) (70/ ب)، وتلك هي الصلاة الوسطى التي أمر بالمحافظة عليها، وذلك الوقت وقت فراغ أصحاب الأعمال، واجتماع الأندية وشهود الناس، فإذا حملت إنسانًا جرأته على الله تعالى أن يحلف به كاذبًا في مشهد من المسلمين؛ فقد تعرض لسخط الله. * وقوله: (بايع إمامًا لدنيا) يعني: لأجل دنيا، فهو ينوي وقت بيعه أنه إن أعطاه من الدنيا وفي له، وإن لم يعطه منها لم يف له؛ فذلك الذي لا ينظر الله إليه، فأما إذا بايعه قاصدًا بذلك الحق، وجمع كلمة الإسلام؛ فإنه لم يبق له خيار أعطاه أو منعه. * في هذا الحديث ما يدل على أن مبايعة الإمام ينبغي ألا تكون راجعة إلى الدنيا؛ بل إلى مصلحة الدين. * وفيه أيضًا: أنه لا يحل لأحد أن يغدر بمن يبايعه؛ لأن المبايعة مفاعلة لا تكون إلا بين الاثنين؛ فإذا بايع الإنسان فقد بايع طاعته ونصره بثواب الله عز وجل، والمبايعة كحبل له طرفان: أحدهما في الدنيا، والآخر في الآخرة. فالإمام نائب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا بايعه الناس فقد باعوه أنفسهم، يجاهدون بها في سبيل الله بين يديه، وأعطوه مقادتهم، وولوه أمرهم، وكان ثمن ذلك الجنة من الله سبحانه وتعالى، فعلق الرهن، وانعقد العقد، ولم يبق لعاقده فكاك منه في هذه الحياة الدنيا.

-2041 - الحديث الثالث بعد المائتين: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما بين النفختين أربعون) قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يومًا؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: أبيت (71/ أ)، (ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه، وفيه يركب الخلق). وفي رواية: (ثم ينزل الله من السماء ماء، فينبتون كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظمًا واحدًا، وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة). وفي رواية: (كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب، منه خلق، وفيه يركب). وفي رواية: (إن في الإنسان عظمًا لا تأكله الأرض أبدًا، فيه يركب يوم القيامة). قالوا: أي عظم هو يا رسول الله؟ قال: (عجب الذنب)]. * أما قوله: (ما بين النفختين أربعون)، فإن الأظهر أن تكون سنين لا أيامًا ولا شهورًا، فإن النفخة من جملة آيات الله سبحانه؛ لأن أضعف ما يكون من بطش الآدمي هو النفخ، فأعلمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما نعرفه فيما بيننا أن أضعف

ما ترون من بطش الآدمي أن ينفخ، فهذه النفخة يموت بها الخلق كلهم، ثم ينفخ أخرى في الموتى بأسرهم ردًا بذلك على من زعم أن الموت أو الإحياء يكون من تأثيرات الطبع، فلما أميت الخلائق بالنفخ، وأحيوا بالنفخ، استدل بذلك المؤمنون على بطلان ما زعمه الطبائعيون، وهذا أمر يراه الكفار يوم القيامة رؤيا عين فيصدقون به حين لا ينفعهم تصديقهم. * وأما امتناع أبي هريرة من تفسير الأربعين بسنة أو شهر أو يوم وقوله: (أبيت) عند سؤالهم إياه عن ذلك في المرات الثلاث؛ فإن قوله: (أبيت) إخبار عن نفسه بالإباء، ولعله (71/ ب): أبيت أن أخبر بشيء أنا على غير يقين منه، وليس هذا مما خصصتكم به الآن، وإنما هو عادتي من قبل ألا أذكر إلا ما أتيقنه. إلا أنا إن صرفناه إلى أربعين سنة؛ فإنه من حيث إن بلوغ الإنسان أشده يكون في أربعين سنة كما قال الله عز وجل، وإن قدرناه باليوم فالحديث الصحيح قد سبق في مسند ابن مسعود: (يجمع أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك). فكل طور من الأطوار أربعين يومًا. * وأما عجب الذنب، فهو العظم الذي يجد اللامس سنه في وسط الوركين، وهو العصعص.

-2042 - الحديث الرابع بعد المائتين: [عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أثقل صلاة على المنافقين: صلاة العشاء، وصلاة الفكر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار). وفي رواية: (فأحرق على من لا يخرج إلى الصلاة ويقدر). وفي رواية: (والذي نفسي بيده؛ لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة، فيؤذن لها، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال، فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا، أو مرماتين لشهد العشاء). وفي رواية: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى منازل (72/ أ) قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم). وفي رواية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد ناسًا في بعض الصلوات، فقال: (لقد هممت أن آمر رجلًا يصلي بالناس، ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها، فآمر بهم، فيحرقوا عليهم بحزم الحطب في بيوتهم، ولو علم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا لشهدها؛ يعني: صلاة العشاء). وفي رواية: (لقد هممت أن آمر فتياني أن يستعدوا إلى بحزم من الحطب، ثم آمر رجلًا يصلي بالناس، ثم تحرق بيوت على من فيها)].

* هذا الحديث يدل على وجوب صلاة الجماعة إلا أنه قد سبق في مسند ابن مسعود: (لا يشهدون الجمعة)، وقد تكلمنا عليه هنالك. * والمرماة: تقال بفتح الميم وكسرها. قال أبو عبيد: وهي ما بين ظلفى الشاة. قال الخطابي: وقال غير أبي عبيد: المرماة سهم يتعلم عليه الرمي. * والعرق: العظم الذي أخذ عنه اللحم، وبقيت عليه منه بقية. -2043 - الحديث الخامس بعد المائتين: [عن أبي هريرة، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يومًا قبله أو يصوم بعده). وفي رواية: (لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا

يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم)]. * إفراد يوم الجمعة بالصوم مكروه بنص الحديث، وبه قال أحمد والشافعي رضي الله عنهما خلافًا لأبي حنيفة ومالك رحمهما الله. * ومن حيث المعنى: فإن يوم الجمعة قد ناب فيه إلى أذكار وتعبدات ربما ضعف الصائم عنها، فأشبه يوم عرفة عند الحاج؛ ولأنه لما سن له التطيب والزينة، واجتمع الناس فيه (72/ ب) أشبه يوم العيد، فإذا صامه الإنسان خالف ما عين هذا اليوم له، فإذا صام قبله يومًا أو بعده يومًا خرج من ذلك المكروه؛ لأنه لم يفرده بالصيام. * وكذلك إذا سهر ليلة الجمعة دون غيرها، فأصبح وقد أثر السهر فيه، فيمنعه ذلك من أداء وظائف الجمعة: أن يغتسل ويغسل زوجته وغير ذلك، فإن جرى في ليلة الجمعة على عادته من القيام، لم يتناوله النهي. -2044 - الحديث السادس بعد المائتين: [عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا يريه خير له من أن يمتلئ شعرًا)].

* هذا الحديث قد سبق في مسند سعد بن أبي وقاص وفسرناه ثم، وعاد ذكره في مسند ابن عمر رضي الله عنه على ما تقدم ذكره. -2045 - الحديث السابع بعد المائتين: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الإيمان بضع وستون شعبة). وفي رواية: (بضع وسبعون أو بضع وستون، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)]. * في هذا الحديث أن الإيمان كما عد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضع وسبعون شعبة في هذا الحديث، فهو وإن كان عليه السلام ذكرها هاهنا مجملة، فقد أبان بذكره عددها ومقدارها، وأشار إلى كل سامع بأن يتبعها، ويتصف بها، وهي بأسرها مبثوثة في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرواية أبي هريرة مجملة للتفصيل، وإن كانت أكثر الشعب من رواية أبي هريرة جاءت أيضًا، وما فيها جاء من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه وغيره. * وهذه الشعب (73/ أ) هي ثلاث وسبعون شعبة بمقتضى ما رويناها كلها بالإسناد المتصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أحاديث يسيرة جاءت عن عمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وأبي الدرداء رضي الله عنهم

موقوفة عليهم من أقوالهم، وقد جاء بعضها عنهم مسندًا إلى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فيما رويناه أيضًا. * فأول الأحاديث، هو الذي نحن في الكلام عليه، وهو المفصح بجملتها، وهو ما رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن الإيمان بضع وستون شعبة أو بضع وسبعون شعبة: أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) - ففي هذا الحديث من الخصال المذكورة ثلاث خصال. ونحن الآن نتلوه ببقية الأحاديث محذوفة الأسانيد إلا من أسماء رواتها رضي الله عنهم، حتى نأتي على آخرها إن شاء الله، ثم نتبع ذلك بذكر خصلة خصلة منها، مشيرين فيها إلى نبذة من عملها الذي يناسب الإيمان، على أنها جميعها إنما تتشعب عن الإيمان، الذي هو التصديق، فهو على نحو عين تتشعب عنها شعب، يكون انبعاث كل شعبة عنها، فهي تمده وتبعثه، وهو يدل عليها، ويفصح عنها، وذلك كله دليل قاطع على أن الإيمان قول وعمل ونية. * الحديث الثاني: هو ما رويناه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم وفد (73/ ب) قيس الإيمان، ثم فسره لهم فقال: (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، والحج، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم، وأن تؤمنوا بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والجنة والنار، والقدر كله خيره وشره) ففي هذا الحديث بعد ما تقدم من ذكر التوحيد اثنتا عشرة خصلة، وقد تقدم في

الحديث الأول؛ حديث أبي هريرة ثلاث خصال، فصارت خمس عشرة خصلة. * وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رويناه عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: سئل عن الإيمان؟ فعد خصالًا ثم قال: (الجهاد)، فهذه الخصلة السادسة عشر. * وروي عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) فهذه السابعة عشر. * وروينا عن أنس بن مالك أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (ثلاث من كن فيه، وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يرجع في الكفر؛ كما يكره أن يقرب له نار، فيقذف فيها)، فهذا الحديث فيه ثلاث خصال، تمام عشرين خصلة. * وروينا عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (آية الإيمان: حب الأنصار، وآية النفاق: بعض الأنصار) فهذه الحادية والعشرون. * وروينا عن أنس أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) الثانية والعشرون. * (74/ أ) وروينا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره،

ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت) فهذا الحديث فيه ثلاث خصال، فيكون وفاء لخمس وعشرين خصلة. * وروينا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) فهذه السادسة والعشرون. * وروينا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه) ففي هذا الحديث ثلاث خصال، تكمل تسعًا وعشرين خصلة. * وروينا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من شيع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا، وصلى عليها، ثم اتبعها حتى توضع في اللحد، كان له من الأجر قيراطان، أحدهما مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع كان له قيراط) فهذه ثلاثون خصلة.

* وروينا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان به، وتصديق برسله، أنه ضامن أن يدخله الجنة أو أن يرده إلى المسكن الذي خرج منه نائلًا (74/ ب) ما نال من أجر أو غنيمة)، وهذا قد تقدم ذكره، وأنه الجهاد، وهي الحادية والثلاثون. * وروينا عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل سأله عن الرجل يحدث نفسه بالشيء ما يود أن تكلم به، وأن له ما على وجه الأرض قال: (ذلك محض الإيمان)، فهذه الخصلة الثانية والثلاثون. * وروينا عن أبي أمامة أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكروا عنده الدنيا فقال: (ألا تسمعون، ألا تسمعون، إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان)، فهذه الثالثة والثلاثون. *روينا عن أبي أمامة أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من سرته حسنته، وساءته سيئته فهو مؤمن)، فهذه الرابعة والثلاثون. * وروينا عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن أكمل المؤمنين إيمانًا، أحسنهم خلقًا، وإن حسن الخلق ليبلغ درجة الصوم والصلاة)، فهذه

الخامسة والثلاثون. * وروينا عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا الإيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)، فهذا خصلتان: سادسة وثلاثون وسابعة وثلاثون. * وروينا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أي شيء أعجب إيمانًا؟) فقالوا: الملائكة. فقال: (كيف وهم في السماء يرون من أمر الله ما لا ترون). قالوا: فالأنبياء، قال: (هم يأتيهم الوحي) قالوا: فنحن. قال: (وكيف وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله، ولكن قوم يكونون أو (75/ أ) يأتون من بعدى، ولم يروني، أولئك أعجب إيمانًا، أولئك إخواني وأنتم أصحابي)، فهذه الثامنة والثلاثون. * وروينا عن عبيد بن عمير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الإيمان والإسلام؟ فقال: (إطعام الطعام، والسماح، والصبر)، فهذه ثلاث خصال فتكمل إحدى وأربعين خصلة. * وروينا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن). قالوا: من ذاك يا رسول الله؟ قال: (جار لا يأمن جاره بوائقه)،

فهذه الثانية والأربعون. * وروينا عن أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق)، فهذا الحديث خصلة واحدة، وهو العي، فهي الثالثة والأربعون، والحياء قد تقدم ذكره. * وروينا عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان)، قال الله تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر})، فهذه الرابعة والأربعون. * وروينا عن النعمان بن بشير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (مثل المؤمنين توادهم وتراحمهم مثل الجسد، إذا اشتكى شيء منه، تداعى سائره بالسهر والحمى). * وروينا عن أبي موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)، فهذه السادسة والأربعون. * وقد روينا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (المؤمن يألف، ولا خير

فيمن لا يألف ولا يؤلف)، فهذه السابعة (75/ ب) والأربعون. * وروينا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من تمام إيمان العبد أن يستثني في كل حديثه) فهذه الثامنة والأربعون. * وروينا عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله)، فهذه التاسعة والأربعون. * وروينا عن أبي قلابة عن رجل من أسلم عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أسلم تسلم، ويسلم المسلمون من لسانك ويدك، وأن تهجر السوء) في حديث طويل، ففيه خصلتان: الخمسون والحادية والخمسون. * وروينا عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (مثل المؤمن مثل السنبلة، تميل أحيانًا، وتقوم أحيانًا) فهذه الثانية والخمسون. * وروينا عن علي- عليه السلام- أنه قال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة،

لعهد إلي نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أنه: (لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق) فهذه الثالثة والخمسون. * وروينا عن عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان) فهذه الرابعة والخمسون. * وروينا عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه قال: قلت: يا رسول الله، إنا لنعرف الضغائن من وجوه ناس من أصحابك من وقائع أوقعنا فيهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قد فعلوا؟) قال: نعم. قال: (ما هم ليؤمنوا حتى يحبونكم لله ولرسوله ...) الحديث بطوله، فهذه الخامسة والخمسون، والسادسة والخمسون، والسابعة والخمسون، والثامنة والخمسون، والتاسعة (76/ أ) والخمسون؛ الخصال الأربع كلها في حديث. * روينا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر خصالا تقدمت ثم قال: (والأمر

بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، وأن تسلم على المرء إذا مررت بهم). * والخصلة الستون في حديث طويل رويناه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (والطهور شطر الإيمان). * وروينا عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أحب في الله، وأبغض في الله، ووال في الله، وعاد في الله، فإنك لن تجد طعم الإيمان حتى تكون كذلك، ولن تنال ولاية الله إلا بذلك ثم قرأ: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} وقرأ {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ...} الآية. فهذه الخصلة الحادية والستون. * وروينا عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يستكمل العبد الإيمان حتى يحسن خلقه، ولا يشفي غيظه) فحسن الخلق قد تقدم ذكره، وإنما الخصلة الثانية والستون هي ألا يشفي غيظه.

* وروينا عن عبد الله بن عمر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم، أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم)، فهذه الثالثة والستون. * وروينا عن ابن عباس قال: (لا يصيب عبد- أو قال: رجل- حقيقة الإيمان، حتى يرى الناس كلهم حمقى في دينهم)، فهذه الرابعة والستون. * وروينا عن عبد الله بن مسعود في حديث طويل عنه (76/ ب): (واستكثر من قول: سبحان الله، والحمد لله) في حديث ذكر فيه الإيمان وخصاله، فهذه الخامسة والستون. * وروينا عن أبي الدرداء أنه قال: (ذروة الإيمان أربع: الصبر بالحكم، والرضا بالذكر، وإخلاص التوكل، والاستسلام للرب)، فهذه خصال أربعة هي: السادسة والستون، والسابعة والستون، والثامنة والستون، والتاسعة والستون. * وروينا عن عمار بن ياسر رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ثلاث من استكملهن فقد استكمل الإيمان: الإنصاف من نفسك، والإنفاق من الإقتار،

وبذل السلام للعالم) فهذه خصال ثلاثة هي السبعون والحادي والسبعون، والثاني والسبعون. * وروينا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من حبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بموعد الله، كان شبعه وبوله، وروثه، حسنات في ميزانه يوم القيامة)، وهذه الخصلة الثالثة والسبعون، فقد تمت بهذه الخصلة ثلاثًَا وسبعين كما ذكرها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة: إنها بضع وسبعون، وإنما ذكرنا هذا التفصيل على حسب ما وقع إلينا، وتأدى بالرواية إلينا. ونحن الآن بعون الله وحسن توفيقه نذكر الخصال المذكورة خصلة خصلة، ونشير إلى كل منها، بما وفقنا الله سبحانه وتعالى لإيراده، وأنطقنا به، وما توفيقنا إلا بالله سبحانه. * فأولها: قول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وهذه أصل الأصول، والعماد التي تقوم به الأشياء، وعليه يبنى، وقد عمل شيخنا محمد بن يحيى رحمه الله في (لا إله إلا الله) خمسين بابًا، منها أربعة وعشرون (77/ أ) في إعرابها، وستة وعشرون في ديانتها، فهي التي تنبني عليها الأركان، وهي العروة الوثقى لا انفصام لها، وأما محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إيمان قائلها، بأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خلقه، وأنه - صلى الله عليه وسلم - رسول ربه، فلا يقال فيه ما قالت النصارى في عيسى مما لم يكن له

بحق؛ بل هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعده، بلغ ما أرسله به، وشرع ما أمره بشرعه مصدقًا فيه للأنبياء قبله. * الخصلة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله. والإيمان بالله سبحانه هو معتمد هذه الخصال كلها، وقاعدة الباب بأسره، وإنما جاء هكذا؛ لأنه ينبني عليه ما بعده من الإيمان: بكتب الله ورسله وملائكته حتى تكون الهاء في كتبه ورسله، راجعة إليه سبحانه وتعالى، وهي من الفروض التي يجب اعتقادها في جميع الأوقات والأحوال، لا تتخصص بزمان دون زمان، ولا حال دون حال، بل هي الأس الذي تزكو الأعمال به، وتصح بوجوده، وتبطل بعدمه، فهو الأصل الذي تقع المحافظة عليه، وتحديده، والنظر في أدلته وبراهينه أبدًا. * وأما قوله: وبملائكته، فإنه لما كان من إيمان المؤمن أن يؤمن بما أخبره الله به على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أنه مع كل آدمي ملكان: ملك يمين وملك شمال، وكذلك يؤمن بملائكة العذاب، وملائكة الرحمة، وملائكة الجنان، وملائكة النيران، وبالسفرة الكرام البررة، وبالصافين المسبحين، وملائكة السموات والأرضين الذين ذكروا في (77/ ب) القرآن والأخبار الثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيجب عليه أن يؤمن بالملائكة وإن لم ترهم عينه، فإنه إنما يرى بعينه ما أراه الله إياه، ويؤمن أن جبريل كان ينزل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوحي، وإن الملائكة نزلوا يوم بدر، وقاتلوا، ويؤمن بكل ما جاءت به الأحاديث الصحاح في ذلك، وأن جبريل طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسلم على عائشة، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا عائشة، هذا جبريل يقرأ عليك السلام). قالت: وعليه السلام

ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى. * ولقد قلت يومًا لرجل كان عندي أن عن يمينك وشمالك ملكين لله، وإن لم ترهما، فلا تستبعد ذلك من أجل أنك لا تراهما بعينك، فهل ترى ظل شخصك هاهنا عندي في الظل. فقال: لا. فقلت له: اخرج إلى الشمس؛ فإنك ترى ظل شخصك. المعنى في ذلك: أنه إنما منع الإنسان من أن يرى ملائكة ربه ظلمته، ولو قد أضاءت له شمس البصيرة، لرآهم بإذن الله، كما أن ذلك الشخص لم ير ظل نفسه ف الظلمة، فلما غشيه نور الشمس رأى ذلك. * وكنت مرة أصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعيناي منطبقتان، فرأيت من وراء جفني كاتبًا يكتب بمداد أسود في قرطاس أبيض صلاتي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أنظر مواقع الحروف في ذلك القرطاس، ففتحت عيني لأنظره بحاسة بصري، فرأيته وقد توارى عن يميني حتى رأيت بياض ثوبه، وقد أشرت إلى هذا فيما قبل في موضع اقتضاه في كتابنا، ورأيت أن الله إنما أراني ذلك في صلاتي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليثبت عندي صحة الإسلام (78/ أ) فكان الإيمان بملائكة الله عز وجل من أركان الإيمان. * وأما قوله: وكتبه، فأن تؤمن بكتب الله المنزلة على رسله، المتضمنة للشرع والتحليل والتحريم، والقضايا والأحكام، والحظر والإباحة، وقسمة المواريث وتنزيل أهل الجنة والنار، وأخبار الأمم الماضية، وما يكون بعد الموت. فيكون

الإيمان بكتب الله سبحانه لا بكتب الأوائل، وقد تكون الكتب أيضًا كتب الأعمال، والإيمان بأن ما يعمله الإنسان من عمل، فإنه يكتب عليه، وأن كل مؤمن يعمل عملًا صالحًا، فإنه يكتب ولا يضاع، وأن كل من يعمل سيئًا؛ فإنه يكتب عليه ولا يهمل، ويكون أيضًا في كتبه أنه في كتب الأقدار، وأن الأشياء مكتوبة مقدرة، سبق بها القلم، وأنها كتبت ونفدت ومضت. * فأما قوله: (ورسله)، فأن يؤمن بأن المرسلين كلهم رسل الله، وأن دينهم واحد، وإن كانت أمهاتهم شتى، وأنه يتعين على كل مؤمن أن يؤمن برسل الله كلهم إلى خلقه، وأن يؤمن برسل الله وملائكته إلى رسله وأنبيائه. * الخصلة السادسة: الإيمان بعد الموت بالبعث. وهذا فإنه يقتضي من كل مؤمن به، أن يكون عمله على مقتضى إيمانه، وأنه كما يموت، فإنه يبعث. وهذه الخصلة فهي القرحة التي تغلب في صدور المشركين، فيها كفر من كفر من المغضوب عليه والضالين، ولذلك كرر الله سبحانه الدلائل عليها، وكثر البراهين فيها، حتى إنه سبحانه وتعالى جعل نصف زمان الآدمي على التقريب موتًا، ونصفه بعثًا؛ ليكون مستدلًا بنومه على موته، وبيقظته على بعثه عند ممسى كل يوم ومصبحه، وإقبال كل ليل وانقضائه، فهذا بعث بعد موت يراه الآدمي في كل ليلة ويوم. ثم جعل له (78/ ب) سبحانه بعثًا آخر في كل شهر، وهو أنه سبحانه وتعالى لما قدر على القمر ما قدر حتى أعاده كالعرجون القديم حتى تلاشى واضمحل وغاب، ثم إنه بعثه حتى استوى وعاد إلى إبداره؛ لينظر الخلائق أنه بعثه بعد ذهابه، واطلع عليهم بعد مغيبه. ثم إنه سبحانه وتعالى جعل بعثًا آخر في كل عام، وهو أنه سبحانه وتعالى

إذا ألبس الأرض كسوتها، وازينت في حللها، وأندب ثمارها من أكمامها، وأوجدت عجائب صنع الله سبحانه وتعالى ما بين ألوانها وطعومها وأراييحها ذائعا لها حتى إذا أنس من أربابها، وتوهموا استمرار دوامها، سلط عليها سبحانه وتعالى من انقضاء آجالها، ونفض أوراقها، واقشعرارها وذهابها، حتى تبدلت الأرض من خضرتها بالغبرة، وتعرت القضبان من أوراقها بالتجريد عنها فيما تدركه المشاهدة، أرسل عليها سبحانه من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وكانت على حالة من يبعث بعد موته. فهذا بعث في كل يوم وليلة، وهذا بعث في كل شهر، وهذا بعث في كل عام. * ولقد كنت يومًا جالسًا بالديوان، فحضر عندي قارئ فقرأ سورة الدخان من أولها إلى آخرها، وكان يحضر في جماعة، فيهم من كنت ربما ارتبت بحاله في دينه، فلما أتى القارئ على قوله سبحانه: {إن هؤلاء ليقولون (34) إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين (35) فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين (36) أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين (37) وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين} لمحت من القوم أو خفت أن يعرض عليهم ظن غير صالح من كونهم إن الجواب الذي أجيبوا به عن قولهم: {فأتوا بآبائنا (79/ أ) إن كنتم صادقين} من قوله سبحانه: {أهم خير أم قوم تبع} إن هذا ليس بالجواب المقنع، فقلت لهم في الحال: لا تظنوا أن الله سبحانه إذا ذكر لنا شبهة خصم ثم أتبعها بجواب منه سبحانه، إلا أن جوابه سبحانه هو الجواب المقنع الكافي المغني؛ لأن الله سبحانه أنزل كتابه هاديًا مرشدًا.

ثم ذكرت لهم في ذلك بيانًا حررته بعد ذلك، وأوسعت القول لحواشيه، وأنا ذاكره، وهو أنه ذكر لي عن أبي الحسن علي بن عيسى الرماني أنه قال في هذه الآية: إن الله سبحانه حكى لنا سؤال الكفار على فساده فقلت أنا من عندي: إنما حكى الله لنا سؤال الكفار على فساده ليعلمنا وجه القول لجواب السؤال الفاسد، ثم قلت: فما الذي في هذا السؤال من الفساد؟ فنظرت فإذا هو فاسد كما قال، وهو أنهم قالوا: {ما نحن بمنشرين} ثم قالوا: {فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين} فادعوا دعوى ثم طلبوا الدليل من غيرهم؛ لأنهم قالوا: {ما نحن بمنشرين} وهذه دعوى منهم، فعليهم البينة، أن يقيموها، إنهم ليسوا بمنشرين، فقالوا للمرسلين: (فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين}، ولم يحكوا هاهنا عن المرسلين قولًا يعطفون هذا الكلام عليه، فكأنهم إذا أرادوا أن يقولوا: (ما نحن بمنشرين فأتوا بآبائنا إن كنا كاذبين) فلم يوفقوا لذلك فانفسد سؤالهم به، فقد بان فساد سؤالهم به، فقد بان فساد سؤالهم إذًا. فلو جاز أن يسوى لسائل فاسد السؤال سؤاله، ويقال: إن معنى هذا أنكم يا معشر المرسلين (79/ ب) تزعمون أنا نبعث بعد الموت {فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين}؛ إذ قد عرف ذلك من مذهبكم فيقال: إن إجابة السؤال غير لازمة إلا إنا لو سويناه لهم فالجواب عنه: إن الذي التمسوه دليلًا في المسألة، إنما هو

لجهلكم الذي تعالى جلال الله أن يرضى أن يحتج لحقه مثله، فإنه لو قد أنشر أبا السائلين كان ذلك في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ذلك دليلًا على البعث بعد الموت إلا من حيث إحياء الجنس، وليس من ضرورة إحياء زيد أن يحيا عمرو. فيقال للسائلين في هذا: تبًا لعقولكم، فإنكم أنتم كل منكم قد أوجد بعد العدم، وسيحيا بعد الموت، وأنتم لا تصدقون بذلك، فكيف تصدقون به إذا رأيتموه بغيركم، وأنتم الأدلاء في هذه المسألة على أنفسكم، وكل مخلوق فهو دليل في هذه المسألة على نفسه، وشاهد فيها بجملته وأجزائه، فكيف يرجى لمن لا يؤمن بذلك مع شهادة نفسه به، أن يؤمن به مع شهادة غيره؟! * وفيه أيضًا وجه آخر، وهو أنه إذا أحيي لكم آباؤكم مع قريش، فماذا يكون فيه من الحجة على باقي الخلق إلى يوم القيامة؟؛ لأنه لا يعود إلا خبرًا لمن يأتي بعدكم، يجوز عليه ما يجوز على الخبر، وكيف يكون حجة على من تقدمكم من لدن آدم إلى زمانكم؟، وهل كان يزيد على أنهم إذا طلبوا الحجة على البعث أنه كان يقال لهم: سيأتي في آخر الزمان نبي يطلب منه قومه الحجة على البعث، فيحيي لهم آباءهم، فيكون وعدًا يدخل عليه ما يدخل على الوعد؟، اللهم إلا أن يحيا لكل مخلوق في هذه الدنيا أبوه مع (80/ أ) أن كل واحد يجوز أن يكون أبًا لولده، فكانت تكون هذه الدار، هي دار البعث، ولا تكون دار أخرى تحتاج إلى الإيمان بها، ويبطل الإيمان بالغيب في ذلك كله، فصار هذا أيضًا فاسدًا من هذه الطريق الأخرى. وأيضًا فإن قولكم يا معشر قريش مع كونكم لستم أكثر الخلائق عددًا، وما مقداركم في الخلائق؟ ومن ذا الذي كان يعرفكم قبل أن نتصل به أخباركم أو

ينتهي إليه أنباؤكم؟، وإنما هذا لو كان مما يصلح أن يكون دليلًا في هذه المسألة لكان ذلك يكون في كل من تيسر أخباره، ويسير في الدنيا ذكره، ويتهادى أهل المشارق والمغارب أحاديثه، نحو الملوك الذي تقدموا، فإن كل واحد منهم، تطيف به الأمم من الجنود والعساكر في وقته، وتدخل النواحي الكثيرة من الأرض في قبضته، فتبقى على طول السنين والأحقاب أخباره، ويتمسك أهل المدن بوعوده، وما يتعاملون به من شروطه وطسوقه وتقديراته. فلو جاز أن يكون إحياء الآباء دليلًا في مسألة البعث بعد الموت؛ لكان يكون ذلك في بعض أولئك كتبع، وذلك قول الله سبحانه: {أهم خير أم قوم تبع} فإن تبعًا ملك الأرض من بلاد العرب والعجم، فلما بطل دليلهم، الذي طلبوه، واستحكم فساده، تطلعت القلوب إلى معرفة الحجة عليهم فيما أخبروا به من البعث بعد الموت، جاء سبحانه وتعالى بالدليل الواضح البين المكشوف الذي يستوي في قيام الحجة به عليه الأولون والآخرون، والمحقون والمبطلون، وهو قوله تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين (38) ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون} (80/ ب). يعني سبحانه أنه خلق السموات والأرض وما بينهما من إحكام الصنعة، وإتقان الخلق، مع ما قدره الله سبحانه وتعالى من ورفع ووضع، وتفريق وجمع، فرفع السماء، وزينها بالأنوار، ووضع الأرض، وجعلها من جنس قابل للسير في أرجائها، والحرث فيها لإنبات النبات، وجريه الأنهار، وتلقي

الغيوث، ودفع السيول، وخزن الثلوج، من أجناس كل منها، لو كان على شكل الآخر لبطل المعنى المراد به فيه، ثم لما عدل فيها الهواء، لما جعله غذاء للأرواح بأن أجراه على يبس وبلل، معتدل ما بين بر وبحر، ليكون صالحًا لإنشاق الآدمي له، من حيث إنه يلائم طبعه، وجعل في هذه الدار قوت الآدمي، وسخر الشمس والقمر، والنجوم والكواكب، والليل والنهار، وجميع ما في هذه الدار لأجله وسببه. فهي إذا نظر فيها المؤمن رآها كلها خدمًا له، ومسخرة لأجله، ثم إنه مع ذلك ينزعج عنها، وينقل منها، ولا يمكن من سكناها، فدل ذلك على أنها إذ ثبت فيها من الحكمة ما دل على حكمة صانعها، وأنه لا يخلق مثلها باطلًا ولا عبثًا، أنها ناقلة إلى دار أخرى مؤدية إلى مقر غير هذا المقر؛ لأنه إذا عمل عامل من الآدميين مأدبة، ثم لم يمكن أحدًا أن يأكل منها شيئًا، قالت له عقول العقلاء: لقد أضعت ما عملت، وأبطلت ما صنعت، فقال سبحانه وتعالى: {ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلًا سبحانك فقنا عذاب النار}. وكذلك قال سبحانه: {وما خلقنا السموات (81/ أ) والأرض وما بينهما لاعبين} أي: إن لم تكن ناقلة إلى البعث فذلك يكون- معاذ الله- لعبًا، فثبت حينئذ أن خلق السموات والأرض دال بمعنى وجوده على البعث بعد الموت، ثم تتبعت ما في القرآن من ذلك فوجدته بحمد الله شاهدًا صادقًا على ما ذهب إليه من ذلك.

فمن ذلك قوله سبحانه في سورة الحجر: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية} الآية. وقوله سبحانه في صورة ص: {يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (26) وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلًا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار} ثم أتبع ذلك بدليل آخر من جنسه فقال سبحانه: {أم نجعل الذين آمنوا وعلموا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} أي: لو لم يبعث الناس لاستوى المؤمنون والكافرون في أن هؤلاء لم يبعثوا، وهؤلاء لم يبعثوا. ثم قال سبحانه: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا لآياته وليتذكر أولوا الألباب}. وقال سبحانه في سورة الجاثية: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} ثم قال سبحانه: {وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون}. وقال سبحانه في سورة الأحقاف: {حم (1) تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (2) (81/ ب) ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل

مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون}. قال ابن سلام في تفسيره في قوله عز وجل: {وأجل مسمى}: البعث. وقال سبحانه في سورة سبأ: {وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد (7) أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد (8)}، ثم قال عز وجل {أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب}. وقال سبحانه: {ق والقرآن المجيد (1) بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب (2) أئذا متنا وكنا ترابًا ذلك رجع بعيد (3) قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ (4) بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج (5) أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج (6)

والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج (7) تبصرة وذكرى لكل عبد منيب (8) ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد (9) والنخل باسقات لها طلع نضيد (10) رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج}. وقال سبحانه: {عم يتساءلون (1) عن النبأ العظيم (2) الذي هم فيه مختلفون (3) كلا سيعلمون (4) ثم كلا سيعلمون (5) ألم نجعل الأرض مهادًا (6) والجبال أوتادًا (7) وخلقناكم أزواجًا (8) وجعلنا نومكم سباتًا (9) وجعلنا الليل لباسًا (10) وجعلنا النهار معاشًا (11) وبنينا فوقكم سبعًا شدادًا (12) (82/ أ) وجعلنا سراجًا وهاجًا (13) وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجًا (14) لنخرج به حبًا ونباتًا (15) وجنات ألفافًا (16) إن يوم الفصل كان ميقاتًا} حتى إنني لا أحسب في القرآن موضعًا فيه ذكر السموات والأرض إلا وقد ذكر سبحانه قبله أو بعده أو في أثنائه ما يدل على أنه الآية على البعث، فتبارك الله رب العالمين. * الخصلة السابعة: الإيمان بالجنة. ولما كان وعد الله الصادق من الأجرة يشتمل على أشياء تضيق الدنيا عن أن يضرب منها أمثلة القياس لها، وما كان من رحمة الله التي أخبر بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو ينشر في القيامة، كان من ذلك ما يستبعده عقول الجاهلين، من حيث إنه إذا قاسوه بما شاهدوه؛ خرق عقولهم الأخبار، على نحو ما روي أن شجرة واحدة من شجر الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، وهذه

الشجرة يكون مقدارها على التقريب مثل الدنيا مائة مرة، وكان من الإخبار عنها أن أهلها يأكلون، ولا يتغوطون، وأنهم لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم ... إلى غير ذلك من عجائب الآخرة، فأي مؤمن سكن قلبه على ذلك، وصدق ما وعد به، ولم يستبعد ذلك في قدرة الله ولا سعة فضله فهو المؤمن، فلذلك كانت هذه الخصلة من خصال الإيمان. * الخصلة الثامنة: الإيمان بالنار. ولما كان ما توعد الله به العصاة من خلقه في الآخرة في عذاب النار، مما تستبعده عقول الجاهلين، من أنه كيف يبقى نفس على عذاب النار ولا تطفى؟! (82/ ب) وكيف تسلم فيها الحيات والأفاعي التي ذكر كونها فيها؟! وكيف تجدد الجلود فيها، وهي تحرق كل ما مرت به؟! ويأكل بعضها بعضًا؟! وكان المؤمن يرى أن ذلك في قدرة الله غير ممتنع ولا مستحيل، بل قدرة الله تتسع له ولأضعافه، وأن ما أخبر الله به عز وجل كما أخبر، وكان من إيمان المؤمن أن يؤمن بما أخبره الله ورسوله، وأنه على وجد لابد منه ولا محيد عنه، فكان هذا ركنًا من أركان الإيمان. * الخصلة التاسعة: الإيمان بالقدر خيره وشره. ولما كان القدر قد سبق بما الخلق فاعلوه إلى يوم القيامة، وعلم الله قد سبق بتفصيل ذلك وجملته، فكان من تعلقات الآدمي واستراحاته إلى العجز أنه يحاج ربه، فيعارض نفسه بأنه إذا كان قد قدر علي كذا، فكيف أنهى عن فعل ما قدر على فعله؟! وكانت هذه من أشد المسائل غموضًا إلا لمن هداه الله، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن الإيمان بالقدر مع الاعتقاد أن عدل الله سبحانه وتعالى فيما يأتيه من عذاب من يعذبه على معصيته التي قدرها سبحانه عليه

من أبلغ العدل وأعظم الإنصاف، فكان هذا ركنًا أيضًا من أركان الإيمان. فأما ما يقذفه الشيطان في القلوب في هذه المسألة؛ فإنه قد أشرنا إليها في كتابنا هذا في موضع إشارة على سبيل، لكنا نقول في هذا الموضع: إن علم الله سبحانه السابق لخلقه وما يكون منهم، هو يفصح عن كماله سبحانه، ولا حجة على الله عز وجل لأحد فيما سبق من علمه فيه، فإنه سبحانه وتعالى (83/ أ) علم الأشياء قبل كونها، ثم خلقها على علم منه بها، وأنه خلق خلقه، فمن عصاه وأفحش المخالفة لأمره سبحانه وبالغ في العدوان، فليكن العجب من حلم الله في إيجاده خلقًا قد علم أنهم سيفعلون ذلك، ولم يمنعه علمه بما يصيرون إليه من مخالفته أن يخلقهم أيضًا لسابق علمه، وما اقتضته صفاته سبحانه من إكرام المطيع وتعذيب الكافر. فأما ما خلق للنار من هذه البرية، فإن الله خلقهم للنار لمصالح؛ منها: - تخويف المؤمنين كما قاله سبحانه: {لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده}، وليكون تعذيبه سبحانه من عذب من خلقه الذين خلقهم للنار سوطًا يسوق به عباده المؤمنين إلى الجنة. - ومن الفوائد في ذلك: أنه سبحانه لو أدخل الجنة ولم يروا من جنسهم من دخل النار، حتى يرى الوالد ولده في النار، والأخ أخاه، لم يكن شكرهم بالاعتداد بالجنة بالغًا مبلغه؛ حيث زحزحهم عن النار وأدخلهم الجنة. - ومنها أن كل من يدخل النار ممن خلق للنار، فإنما هو كرامة لمن يدخل الجنة؛ لأن الله سبحانه وتعالى خلق ممن خلق للنار مشركين به، يقاتلهم الموحدون له، ليحظى المؤمنون بالشهادة في سبيله، ولو لم يخلق الله خلقًا

للنار، ولم يحظ واحد من المؤمنين بالشهادة أبدًا، وهكذا لو لم يخلق الله ظالمًا يدخله النار، لم يكن في الأرض مظلوم يدخل نصيره على ذلك الجنة، وهكذا لو لم يكن في الأرض غني يطغى إذا استغنى فيراه الفقير (83/ ب) فيصبر انتظارًا للعقبى، لم يكن ذلك ليتم فيهما. - ولقد كنت مرة أسير فقدر الله لي أن تدبرت قوله سبحانه وتعالى: {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها}، ومجرميها هاهنا منصوب على البدل من أكابر، وأكابر لا ينصرف على وزن مساجد، تقديره: جعلنا مجرميها أكابر ليمكروا فيها، فأخطر الله في قلبي- وكنت سائرًا راكبًا- حديث مسعود بن محمد الذي كان ملكًا في ذلك الوقت، فأوقع الله في قلبي أنه من المجرمين الأكابر، وأن الله سبحانه قدر فيه ما قدر؛ ليثاب عليه الصابرون، ويؤجر على إنكارهم عليه المنكرون، فرأيت وإذا هو على نحو الشمعة التي تحترق بالنار ليضيء المجلس لأهله، وليس كذلك، وإنما خلقت الشمعة للوقود؛ وكذا كل من خلق للنار. فأما حالة المؤمن إذا واقع الخطيئة؛ فإنه لو قد احتج عليه بأن قيل له: يا هذا؛ كنت تود أن لو خلقك الله أعمى، أصم، لا تحس، ولا تنظر، ولا تستحسن الحسن؛ لكان من شأنه أن يقول: لا، ثم يقال له: فلما خلقك تنظر وتشم وتذوق أكنت تحب أن الله يحول بينك وبين أن تنظر شيئًا أبدًا، فإنه

يقول: لا. فيقال له: أفكان من شأنك أنك لما رأيت الحسن أكنت تحب أن الله تعالى يبغضه إليك فكان يقول: لا، فيقال له: فهذا الحسن لما أراك الله إياه، أكنت تحب أن الله يطلعه لمن رآه منك ومن غيرك، فكان يتطرق مثله على أهلك وأقاربك وبنتك وزوجتك (84/ أ) ويلذ ذلك لك؟ فيقول: لا. فيقال له: والذي نقمت من أن الله أعطاك من نظر المستحسن ما طلبت، ومنع من الحرام في ذلك ليحفظ عليك في مثله من أهلك وأقاربك في بقاء غيرتك وسلامة أنفتك ما عليه جبلت، فالقدر قد أجرى الأمور على اختيار، ولم تكن تحسن أنت أن تتمناه، ثم أنه تداركك بعد ذلك بأن قال: إن خطرت منك زلة أو هفوة فمن ورائك التدارك لك بتوبة وكلمة وإنابة ورجعة وأوبة، فإنه سبق مني القول بأني أحب التوابين، فكان ما أتيته من ذلك ثم تداركتك بتوفيقي إياك للتوبة، فألحقتك بمن وعدت أني أحبه؛ فما هذه الغوغاء على الأقدار. وإنما جرى ما جرى منها على سبيل اختيارك، وتكميل لذاتك، وحفظ غيرتك عليك، ومع هذا فيا محتجًا بالأقدار بزعمه، قائلًا بلسان حاله: أنه لا حيلة لك فيما تأتيه من المعصية، هلا احتسبت في ذلك في مثل هذا بما تأتيه بمن الطاعة، وكيف تحسب ذلك أنه لك، ولا تخرج منه حولك وقوتك وتنسبه إلى الفاعل الحقيقي سبحانه، بل لا تنسب إليه إلا المعصية خاصة، وتحتسب لنفسك بالطاعة فيالجورك وحيفك وميلك، فكان هذا ركنًا وأي ركن من أركان الإيمان.

* الخصلة العاشرة: الصلاة. فأما الصلاة من حيث إنها شعار المؤمنين الدال على إيمانهم بربهم، الذي يصلون له، وينقطعون عن الخلق في صلاتهم إليه، ويمتنعون في كلام الأغيار في حالة وقوقهم بين يديه مستقبلي كعبته بوجوههم زحًا على المشرق (84/ ب) والمغرب، اللذين هما خافقا الشمس التي كانت تعبد من دون الله، عن يمين وشمال، مفتتحي صلاتهم بتكبير الله عن أن يبعدوا غيره، أو يتوجهوا لسواه، ثم متبعي ذلك باستعاذتهم ربهم من الشيطان الحاسد لهم على صلواتهم؛ كما حسد أباهم على رفع الله سبحانه له عليه، ثم التحصن ببسم: الله الرحمن الرحيم، متلقين بشراه سبحانه الذي يفصح عنها نطق بسم الله الرحمن الرحيم، من كون الرحمة أتت في الصيغة بكلا النطقين المشتملين على أبعد غايات الرحمة في الكثرة والرأفة، ثم ذكر الحمد لله، ثم الإيمان بأنه سبحانه وتعالى رب العالمين، وأنه جل جلاله على كونه رب العالمين، فإنه الرحمن الرحيم، فكان يعيد ذكر الرحمة مسكنًا للناطق عما كان يستدعيه من استشعار الهيبة. ثم ذكر ملك يوم الدين، فأشعر بإيمانه بيوم الحساب، وأن الملك يومئذ لله وحده، ولما تكررت هذه الأوصاف التي تناهت في التعريف، انتقلت حالة الناطق بها عن المغايبة إلى المشاهدة فقال: {إياك نعبد} بكاف الخطاب، {وإياك نستعين} على عبادتك؛ إذ لولا إعانتك على عبادتك لم يقم بها أحد، ثم طلب بعد ذلك الهداية لطريق الحق، وهي: {الصراط المستقيم}،

والمستقيم الأقرب، ثم ذكر ما يدل على أنه سأل توفيقه للاتباع في أن يسألك صراط الذين سبقت إليهم المنة، وتمت لديهم النعمة، فقال: {صراط الذين أنعمت عليهم}. ثم عرف أنه بعد السؤال تعرض عوارض الغضب (85/ أ) والضلال، وأن ذلك قد جرى على من كان قد تقدم فاستثنى ب {غير المغضوب عليهم ولا الضالين}. ثم ختم بعد ذلك بآمين. ثم يقرأ شيئًا من القرآن، ثم ركع ليعبد الله عز وجل راكعًا كما عبده قائمًا، فيخضع بالركوع لعظمة ربه، ويمد عنقه بين يديه، ثم يعيد بعد ذلك ذكر التكبير مجددًا تعظيم ربه سبحانه عند ابتدائه بهذه الحالة؛ حيث انتقل فيها من صورة إلى صورة، فإذا اطمأن راكعًا قال حينئذ بعد طمأنينته؛ لئلا تختلط عليه أذكاره: سبحان ربي العظيم، فنزه ربه بالتسبيح وشهد له بالعظمة. ثم كرر ذلك تكرير أدنى الكمال منه أقل الجمع، ثم عاد انتصابه ليشعر أنه إنما ركع خضوعًا ليميز ذلك عن هويه للسجود، فيكون عائدًا لله بركوعه، وعائدًا لله بسجوده، فإذا انتصب قائمًا قال: ربنا ولك الحمد، على نعم منها: هدايته لذلك، ومنها: عافيته التي تمكن بها من ذلك، ثم خر ساجدًا، فوضع أشرف شيء فيه بين يدي ربه على التراب، ثم نزه الله سبحانه وتعالى فقال: سبحان ربي الأعلى، فاعترف لربه حين سجد على الأرض، ثم إنه لم يسجد

على الأرض إلا على اليقين منه أن ربه الأعلى، وكرر ذلك كتكريره في ركوعه. وهكذا حتى انتهى إلى تشهده، فجلس جلوس محتشم غير مبتذل ولا متبدد ثم قال: (التحيات لله) وهي جمع تحية، فكأنه لم يرض بتحية واحدة حتى أتى بالجمع من ذلك، ثم قال بعده: (والصلوات)، فيقتضي أن يعني بها مجتمع أذكاره ومحامده سبحانه، وكذلك (85/ ب) أتبعها بقوله: (والطيبات) وهي الكلمات المطيبات. ثم قال: (السلام عليك أيها النبي)؛ فكأنه في مقامه ذلك استشعر قربه من ربه سبحانه، فكان من أدبه أن يكون سلامه على رسوله إجلالا وإكرامًا، ثم قال: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) فتصيب كل عبد صالح في السماء والأرض. ثم جدد الشهادة فقال: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله)، وذكر العبودية هاهنا قبل ذكر الرسالة إشارة إلى ما ذكرناه من السلام عليه - صلى الله عليه وسلم -، ثم استعاذ من العذاب والفقر والفتن ثم سلم تسليمتين عن يمينه وشماله مشعرًا بسلامه أنه على نحو القادم من الغيبة، والراجع إلى الخلق من الملائكة وبني آدم وغيرهم. فهذه الصلاة بسائر أجزائها تدل على الإيمان من حيث تكبيره، والاستعاذة به، وقبول بشراه، والحمد لله، والاعتراف بربوبيته، وملكه يوم القيامة، وإفراده بالعبادة، وطلب الاستعانة منه، وسؤال الهداية للطريق المستقيم، وتجنب الضلالة من حالة المغضوب عليهم والضالين، وتكبيره عند ركوعه وتعظيمه وتسبيحه في السجود، والإيمان بأنه الأعلى ... إلى غير ذلك، فهذا

كله إيمان فثبت حينئذ أن هذه الصلاة خصلة- وأي خصلة! - من الإيمان، وقد سمى الله عز وجل الصلاة إيمانًا بقوله سبحانه: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} أي: صلاتكم، قاله أكثر المفسرين. * الخصلة الحادية عشرة: الزكاة. وهي أنه لما كان المال قوامًا للآدمي كما قال الله (86/ أ) عز وجل: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا} وكانت النفوس كما أخبر الله عنها، أنها أحضرت الشح، وكان فيما يتعادى الناس فيه، ويتقاتلون عنه، ويزدهون به، ويتنافسون فيه، هو هذا المال، فأخرج المؤمن ما أخرج منه طيبًا بذلك نفسه وتماكيا عليه قلبه، وهو قد يأتي على النفيسة من أمواله، والمرغوب فيها من عباده، فأخرج ذلك راضيًا بإخراجه ومحتسبًا ما عند الله في أدائه، وصارفًا ذلك إلى مصارفه، مما يكون متباعدًا عن مظان التهم فيه، فلما فعل ذلك أشهر بأنه عن إيمان بربه، ويقين استقر في صدره، فأخرج له المال، وأحسن في توخي حسن مصرفه، فكانت هذه الخصلة مؤذنة بأنها من خصال الإيمان. * الخصلة الثانية عشرة: الصوم. وذلك أن الصوم لما كان مما لا يظهر عليه آدمي، من حيث أنه تستدام صحته باستدامة النية فيه فكان محضًا في الإيمان، وقد تقدم ذكرنا لما ذكرنا من تمخضه في ذلك في مواضع عدة من كتابنا هذا، فلا يحتاج إلى ذكرها

هاهنا، فهو من خصال الإيمان الواضحة البينة. * الخصلة الثالثة عشرة: الحج. وذلك أنه لما جعل الله عز وجل بيته الحرام، بحيث جعله من أرضه، بواد غير ذي زرع، لا يوصل إليه إلا بشق الأنفس، وحملها على الأخطار، وتعريضها لأنواع المخاوف من احتمال الظمأ والجوع والسير في أرض قفر، من بر وبحر؛ لأن سائر نواحي الدنيا كلها مسلكها إلى البيت الحرام في شق وجهد، فكان إيثار المسلم احتمال هذه الأخطار وانتهاضه إلى هذا البلد؛ الذي ليس بذي ريف وأشجار وثمار، (86/ ب) فكان يتهم القاصد إليه من أجل ريفه وثماره؛ ولا هو بلد رخي العيش رخيص السعر، فكان يخال في قاصده أنه نهض إليه لطلب الرفق. فلما نهض المسلمون محتملين لما قدمنا ذكره إلى قصده، حتى وقفوا في عرفات بين جبال موقفًا تشهد الفطرة فيه أنه عن إيمان من الواقفين في امتثال لأمر الآمر به، ثم دفعوا إلى منى لرمي الجمرات، وقصد البيت للطواف والسعي مشعرين بكل ذلك أنه لمحض الإيمان بشارع ذلك سبحانه، ومختارين له على تحسين عقولهم وتقبيحها، وإن كان في إحرام الحاج عند ورودهم إلى أول المواقيت من مضيق يشبه دركاء الملك، فيحرمون من هناك خالعين عنهم أثواب الحياة، داخلين في لبس الأكفان بعد الاغتسال الذي يشبه اغتسال الميت، ضاجين بالتلبية كأنهم مجيبين إبراهيم؛ إذ ينادى في الناس بالحج، فلو مثل الإنسان نفسه أنه في مكان كوكب من السماء على مقدار ظهر الكعبة ينظر إلى الحاج كلهم حين أحرموا، يقصدون البلد الحرام محرمين صائحين بالتلبية من سائر نواحيه لرأى تمثالًا عجيبًا، وهذا كله دليل صريح واضح على أنه إيمان كله.

* الخصلة الرابعة عشرة: الجهاد. وهو أن الآدمي إنما يريد الأشياء في هذه الدنيا لبقاء نفسه، ويحامي بها جميعًا عن سلامة مهجته، فإذا نهض المؤمن من أهله غازيًا في سبيل الله مجاهدًا أعداء الله، طالبًا أن تكون العليا هي كلمة الله، واجدًا من الكمد في باطنه، والمغيظة على من كفر بالله، وجحد برهان الله، وكذب بما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما أثار منه (87/ أ) إزعاجًا أقلقه حتى استسهل فراق أهله وإنفاق ماله، وتعريض نفسه لأن تعطب في سبيل الله ربه، موقنًا بأنه ثبت عنده المقر الذي بين يديه، فهو كما تقدم من قولنا: شهيد، أي: شاهد بحاله لا إله إلا هو سبحانه، فهذه حالة دالة بجملها على أنها محض الإيمان ولبابه وصفوه. الخصلة الخامسة عشرة: أداء الخمس من المغنم. وهذه الخصلة هي ذات معنى راجع إلى أنه أعطى مما حصل عنده على نحو الفريسة بين يدي الأسد، فهو له عنده من الموقع خلاف مال التاجر والوارث، فإنه إنما غنم ما غنم من ذلك تحت ظلال السيوف، ومن بين رءوس الأسنة وسنابك الخيل، فلما أعطى الخمس من المغنم، طيبة بذلك نفسه، وراضيًا عن إخراجه ذلك قلبه طاعة لله ولرسوله كان ذلك دليلًا واضحًا أنه من خصال الإيمان. * الخصلة السادسة عشرة: الأمر بالمعروف. ولما كان الأمر بالمعروف هو الذي يقتضيه إيمان المؤمن بالله؛ لأن الله سبحانه، هو الذي أقر المعروف، وأوصى به، فإذا أمر الإنسان بالمعروف، الذي أقره الله تعالى، وصلح عليه عباده، وغمرت به أرضه وبلاده، كان أمر

الآمر بذلك دليلًا على أنه آمن بمن هذا المعروف رضي عنده. * الخصلة السابعة عشرة: النهي عن المنكر. ولما كان المنكر، هو الذي أنكره الشرع، ونهى عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكان من المؤمن إنكار ذلك من حيث إنه كان بإنكاره مؤمنًا يصدق الرسول الذي شرع إنكاره؛ إذ لو كان إنما أنكر ما يستقبحه العقل خاصة لكان غير منكر لما شرع الرسول - صلى الله عليه وسلم - (87/ ب) إنكاره، فحينئذ استدل لكل منكر بما أنكره الشرع وحرمه الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه يتضوع أمر منكره عن أرج إيمانه. * الخصلة الثامنة عشرة: الموالاة في الله. وذلك أنه لما كانت الموالاة لها أسباب تستدعيها ما بين لحمة نسب أو طول صحبة أو اجتلاب نفع أو دفع ضرر، ثم كانت الموالاة في الله سبحانه هي التي تخلص عن ذلك كله، وتصفو عن شوائبه، فكون إذا والى المؤمن المؤمن لا عن قرابة بينهما، ولا عن منفعة يرجوها من صاحبه أو لا لاستجلاب نفع الدنيا ولا دفع ضرر منها؛ بل لأجل أنه مؤمن بالذي هو أيضًا مؤمن به، ومحب لمن هو أيضًا محبوبه، كان ذلك أيضًا دليلًا واضحًا ظاهرًا من أدلة الإيمان. * الخصلة التاسعة عشرة: المعادة في الله. ولما كانت العداوة من الناس تستدعيها أسباب ما بين ترات متقدمة أو إحن سابقة، أو تنافس على منزلة، أو نزاع في مال، أو ملاحاة في قول، أو مشاجرة على رتبة، كان من يعادي عدوًا في الله سبحانه وتعالى من أنه يراه

على معصية له جل جلاله، أو بدعة في دينه، أو ظلم لعباده، ولا موجب أسخطه عليه غير ذلك، فثار من عزمه معاداته في الله، واغتفار ما عساه تجره عليه عداوته من شره، ويجلبه إليه نزاعه من أذاه لأجل الله تعالى وفي سبيله، وكان ذلك دليلًا تشاركه الشمس وضوحًا في كونه نشأ عن إيمان به. * الخصلة العشرون: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. ولما كان مقتضى الإيمان بالله، وأنه الموجد سبحانه أوسع فيما أنعم به على عبده حتى أعد له (88/ أ) الجنة نزلًا، على ما تحت هذا الإجمال من كثير لتفصيل، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الهادي إلى ربه، والمبلغ عنه، ودليل الخلق إليه، التي كانت منافع الدنيا والآخرة حاصلة عن بركة دلائله، كان من الضرورة عند كل مؤمن أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فثبت حينئذ أن هذا ركن من أركان الإيمان، ومن مقتضيات هذا الإيمان ومجال اعتباره ألا يؤثر على الله غيره، ولا يراجع رسوله في حكمه، ولا يكون في صدره حرج مما قضى به، بل يسلم تسليمًا لأوامره. * الخصلة الحادية والعشرون: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله تعالى. ولما كان الآدمي قد يستدعي حبه آدميًا آخر أشياء كثيرة، ما بين اجتلاب نفع أو دفع ضرر، أو لحمة نسب، أو حسن صورة أو غير ذلك، وكان المؤمن إذا أحب مؤمنًا آخر لا لشيء مما ذكرناه؛ بل لأجل أنه مؤمن بالله سبحانه وتعالى، كان معدودًا من خصال الإيمان. * الخصلة الثانية والعشرون: أن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله تعالى منه؛ كما يكره أن يعود في النار. ولما كان الشرك بالله على معنى النار التي يرى المؤمن حال المشركين فيها،

وأنهم يحترقون إذا مثلهم لعينه، وتصورهم بقلبه إلا أنها نار لا تنقضي ولا تخبو ورأى أنه قد تخلص منها، ثم قد عرض لأن يعود إلى النار الكبرى أو يقذف في نار صغرى تنقضي وتخبو؛ فإن من ضرورة إيمانه أن يختار أن يقذف في النار الصغرى؛ لأن الشري أري عند طعم الحنظل، وكان هذا من خصال الإيمان. * الخصلة الثالثة والعشرون: أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أحب (88/ ب) إلى المؤمن من ولده ووالده والناس أجمعين. ولما كان حب المؤمن للنبي - صلى الله عليه وسلم - فاصلًا كاملًا تامًا بالغًا، حسن أن يعتبره بمن يحبه بمقتضى الطبع من والده وولده والناس أجمعين، فهو المؤمن وإلا فهو بضده، فكانت هذه من خصال الإيمان. * الخصلة الرابعة والعشرون: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). ولما كان الإيمان يقتضي من كل مؤمن أن يكون ناظرًا إلى نفسه في صورة أخيه، وإلى أخيه في صورة نفسه، من حيث يود أن أخاه أحب له ما يحب لنفسه، تعين عليه هو أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وكان ذلك مما لا يطلع عليه أخوه كما لا يطلع هو على ما في نفس أخيه، فكان مما يعامل به كل منهما ربه سبحانه وتعالى؛ فكان ذلك ناشئًا عن الإيمان. * الخصلة الخامسة والعشرون: حب الأنصار. ولما كان الأنصار قد أسدوا إلى كل مسلم يدًا بيضاء، وفعلة زهراء، من حيث إنهم آووا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونصروه، وصبروا على حرب الأحمر والأسود معه، فكانت الهجرة إليهم، ونزول الوحي عليه في دارهم، وود كل مؤمن أن يقدر له أن يحسن جزاءهم، فلما فاته ذلك عدل عنه إلى حبهم، فلا

يحبهم إلا عن إيمان منه برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما أنه إذا أبغضهم دل ذلك على نفاقه، فكان حبهم ناشئًا عن محض الإيمان. * الخصلة السادسة والعشرون: حب الطهور. ولما كان الطهور مما يدخل فيه الغسل من الجنابة، وهي أمانة، والاحتراز من الأحداث التي تنقض الطهارة من الخارج من السبيلين، ولمس النساء لشهوة وغير ذلك، وإنها كلها على سبيل الأمانة عند العبد، لم يكن على العبد فيها (89/ أ) رقيب غير إيمانه، فمن أدى طهارته بكمالها، وحافظ عليها، كان ذلك من دلائل إيمانه. * الخصلة السابعة والعشرون: إفشاء السلام. ولما كان السلام من المسلم أمانًا له، وتأنيسًا منه، وطردًا للكبر عن كل تأذ به، وهو الأمارة على صلح المتهاجرين، والآية عند تلاقي الغائبين كان إفشاؤه وإظهاره لما فيه من هذه الفضائل المذكورة ما يجري مجراها ناشئًا عن الإيمان، لإيثار جمع كلمة المسلمين ولإصلاح ذات بينهم. * الخصلة الثامنة والعشرون: صوم رمضان إيمانًا واحتسابًا. ولما كان شهر رمضان يدور على المؤمن شتاءً وصيفًا، ولا يدخل في شيء منه تبديل كما فعلت النصارى بصومهم، حتى زادوا فيه؛ لأنهم جعلوه في الفصل المعتدل وثبت المؤمنون على صيام هذا الشهر في كونه يأتيهم أحيانًا في حمارة القيظ وأحيانًا في الشتاء، غير ناظرين إلى ما يستصوبه أهل الأبدان، مع سلامة اليقين في الإيمان، كان إيمانهم بأن هذا الشهر، وفرضه الذي فرضه الله عليهم، واحتساب ما يلقونه من الصبر عن الطعام والشراب والجماع من أركان الإيمان.

* الخصلة التاسعة والعشرون: قيام ليلة القدر. ولما كانت ليلة القدر؛ هي التي أخبر الله أنها خير من ألف شهر، كان مقتضى الإيمان لذلك فيها، الجد في الحرص عليها، والدأب في التعرض للقائها، فمن وفقه الله تعالى ليقومها، فإن ذلك يقومها إيمانًا واحتسابًا، فإن ذلك من مقتضيات الإيمان. والحديث في هذا الأمر المحضوض عليه، هو مصادقة قيامها، فإن كل مسلم يراها من حيث إنها تمر عليه (89/ ب)؛ إذ هي ليلة من شهر رمضان، فمن مر عليه شهر رمضان كله، وهو صحيح لم يغب عقله في ليلة منه، يجوز أن يكون هي التي قد كان يطلبها، فإنه قد رآها إلا أنها لم تتعين له أي الليالي هي، وقد يقومها الإنسان ولا يرى شيئًا من ملكوت السموات، إلا إنني قد تقدم إخباري بأن رأيت ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، وكنت واصلت القيام فيها، فرأيت في السماء بابًا مفتوحًا ولم أزل أشاهده حتى التفت إلى الفجر، فكان أول طلوعه فحينئذ غاب ما كنت أراه، فكان الحرص عليها والطلب لها من خصال الإيمان. * الخصلة الثلاثون: اتباع الجنائز. ولما كان الموت محتومًا على بني آدم، وكان مما شرع الله لعباده منبهًا بذلك على فضله وجوده على المسلمين من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه شرع الصلاة على الميت، ثم شرع في أذكار هذه الصلاة أن يقول المصلون: اللهم نزل بك، وأنت خير منزول به، كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولا

نعلم إلا خيرًا. اللهم إن كان محسنًا فجازه بإحسانه، وإن كان مسيئًا فتجاوز عنه، جئناك شفعاء فيه طالبين له، فمن تنبه لجود الله وفضله، علم أنه لم يشرع هذا بهذه الأذكار إلا وهو سبحانه يقبل شفاعة الشافعين، ويرحم المشفوع فيه. ثم لما كان مواراة المسلمين، وشهود جنائزهم من فروض الكفايات وقد وعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك بما وعد من الأجر، وهو قيراطان، كل منهما مثل جبل أحد، (90/ أ) كان اتباع الجنائز إيمانًا بحصول ذلك يبلغه مع الإيمان بثقل صنجته أيضًا من خصال الإيمان. * الخصلة الحادية والثلاثون: ألا يؤذي جاره. ولما كان الجار، إما اللاجئ وإما القريب بالمنزل، كلاهما فمن من ذوي النفوس الأبية بإسعافه، والمناضلة عنه، والمراماة دونه، وأن يكون المؤمن لا يتقصد أذية المؤمن، فإن قارف أذية لمؤمن فليكن صارفًا لذلك الأذى عن جاره؛ إذ قد أوصاه الله به في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فكان كف الأذى عن الجار من مقتضيات الإيمان. * الخصلة الثانية والثلاثون: إكرام الضيف. ولما كان الضيف من حيث إنه يأوي إلى مضيفه في حالة يتعين على المضيف أن يقوم منها بمبلغ وسعه إيمانًا بأن الله سبحانه وتعالى سيخلف عليه ما أنفق على ضيف قصده، لا قرابة بينه وبينه، ولا يرجوه ولا يخافه، بل من حيث إنه يأوي إليه، فكان ذلك من خصال الإيمان؛ لأن الضيف قد يأتى في وقت، وهو ملك في زي مسكين؛ لأنه قد يأتي في وقت لا يمكنه أن ينتفع بملكه في موضع لا يمكنه أن يبتاع ما يريده، فيكون المضيف له كالمتصدق عليه

إلا أنها صدقة كريمة، أخرجت مخرج الضيافة ليقبلها الغني، ولا يستنكف عنها ذو الوجد، فكان المؤمن إذا رأى ذلك من أسرارها، رأى أن الله عز وجل ساق إليه ذلك الغني ليضيفه، فتصدق عليه بفضله، فهو من محاسن فقه الإيمان. * الخصلة الثالثة والثلاثون (90/ ب): أن يقول خيرًا أو ليصمت. ولما كان القول هو الذي تركب عليه أرواح المعاني، حتى يوصلها القول إلى أوكد الأذكار، وكان مما هدى الله به إلى الحق، هو القول الطيب، وكان مما يوصل إلى النار، هو القول الخبيث، كان قول المؤمن الخير إن قدر عليه، أو الصمت عن الشر إن لم يقدر على قول الخير، من خصال الإيمان إلا إنه يدلك هذا أن قول الخير؛ هو أعلى وأرفع وأكمل، فإن لم يقدر على ذلك انتقل عنه إلى الصمت قانعًا فيه بالسلامة؛ إذ لم يتهيأ له الربح في قول الخير. * الخصلة الرابعة والثلاثون: انتدب الله لمن خرج في سبيله. ولما كان انتداب المؤمن ونفس انتهاضه محصلًا له إحدى الحسنيين بيقين: إما الشهادة المحصلة لفوز الآجل، وإما الغنيمة المحصلة لفوز العاجل، كان نفس إيمانه بهذا الذي اقتضى نهضته ناشئًا عن إيمانه. * الخصلة الخامسة والثلاثون: البذاذة. ولما كان اهتمام الرجل غير مستحسن منه أن يكون مقصورًا على تحسين ثوبه أو تسوية عمته، وأن المستحب من أحواله أن يكون ساعيًا في تسوية مغابنه غير معوج على تسوية ظاهره إلا لمعنى غير راجع إلى هذه العاجلة، كانت البذاذة، وهي تجنب الزينة في الملبوس، والعدول إلى طهارة الثوب

وحله، عن حسنه وصقالته، من دلائل الإيمان. * الخصلة السادسة والثلاثون: أن تسره حسنته وتسوءه سيئته. ولما كان من مقتضيات إيمان المؤمن أنه إذا وفقه للحسنة، رأى أن الله قد أنعم عليه بتوفيقه لها، فسره توفيق الله له (91/ أ) للحسنة فسرته، وإذا قارف خطيئة رأى أنه قد عداه الصون والحماية حتى واقعها فساءه ذلك، وكان نفس إيمانه بأن الحسنة حسنة، والسيئة سيئة، بالتوفيق للحسنة وبالخذلان في السيئة، هو الذي أثار سروره بالحسنة ومساءته بالسيئة، فكان ذلك من دلائل الإيمان. * الخصلة السابعة والثلاثون: مدافعة الوسواس. ولما كان المؤمن رقيبًا لربه على قلبه، من حيث إن إيمانه بربه يستدعي ذلك منه، فلا يطمئن إلى أن يراه الله عز وجل قد سكن مع عدوه، وساكنه لمحادثة أو مقاولة في غير غضب عليه، وزجر له، فإنه على نحو ما يدخل الرجل من أهل الفسق إلى بلده، فلا يسكن إلا في دار رجل من أهل الفسق، فالمؤمن يقول للشيطان: وماذا الذي جاءك إلي؟ وماذا الذي يجمع بينك وبيني؟ وأنت عدو الله وأنا وليه، وكيف تطلع على قلبي، ويراك فيه ساكنًا سكون المطمئن؛ فيدفعه عن نفسه إن تهيأ له بالحجر، وإلا بالطرد والصياح عليه، والمجانبة له؛ فإنه لا يزال كذلك حتى يعلم الشيطان أنه ليس عنده مبيت ولا مقيل، فلا يكاد يعرج عليه، فكان هذا من خصال الإيمان. * الخصلة الثامنة والثلاثون: أداء الأمانة. ولما كان أداء الأمانة؛ من حيث إنها قد تكون إذا تمخضت أمانة بحيث لا يعلم بها إلا الله سبحانه، نحو أن يودع رجل رجلًا شيئًا لولده، قد يموت عنه، ولثقته بالمودع، لم يعلم الولد بما له عند المودع، فيحمل المودع إيمانه على أن يؤدي الأمانة (91/ ب) وقد كانت مما لا يعلم بها إلا الله سبحانه، فكانت من

خصال الإيمان. * الخصلة التاسعة والثلاثون: حسن العهد. ولما كان الكبر وغمص الحق، وإطراح الصحبة، ونسيان الجميل، من شعب النفاق، كان حسن العهد من المسلمين، وذكر ما سبق من الإحسان، أو تقدم من الصحبة؛ أو وجد المسلم بالمسلم من الراحة، مما إذا ذكره استدل به على أنه إنما أثار ذكره له الإيمان، فكان حسن عهده من الإيمان. * الخصلة الأربعون: حسن الخلق. ولما كان حسن الخلق، وهو الذي يخرج في الاعتدال من كل سجية عن طرفين مذمومين، نحو الشجاعة: بين الجبن والتغرير، والجود: بين البخل والتبذير، والعفة: بين العنة والغلمة، كان حسن الخلق، وهو الذي حماه الله سبحانه وتعالى أن يميل بصاحبه إلى أحد الطرفين، بل وقفه على الاعتدال، فكان ذلك آية واضحة؛ أنه لم ينشأ إلا عن إيمان أراه الله به قبح الغلو والتقصير، وسوء الإفراط والتفريط، فوقف على الاعتدال مطرحًا للميل مع الهوى، فكان ذلك من دلائل الإيمان. * الخصلة الحادية والأربعون: ثبوت الإيمان بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولما كان الإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته، من حيث إنه ظهر للمتأخرين من دلائل صدقه، وشواهد حقه، ما يناسب أن يكون إيمانهم على نهاية الكمال؛ فإنه لما أنزل الله على رسوله: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم} الآية. فهذا الأمر وجبت فيه الحجة على من جاء (92/ أ) بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمته،

فوق ما وجبت على من كان منهم في زمانه؛ لأنه- أعني من جاء بعده- رأى صدقه في خبره، فلذلك قال الله عز وجل في آخر الآية المذكورة: {ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}. وكان الشيخ محمد بن يحيى رحمه الله يقول: والله لئن كفرت؛ ليكونن كفري أقبح من كفر أبي جهل بن هشام؛ لأن أبا جهل لم ير من صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أخباره بعد موته ما رأيته أنا، وهذا فهو من حيث إنه أعجب؛ لأنه أمكن في الثبوت، فكان ذلك من الإيمان. * الخصلة الثانية والأربعون: الحياء. ولما كان الحياء ناشئًا عن عقل، عرف قبح القبيح الذي قبحه الشرع، فاستحيى من إتيانه، وكان المؤمن قد جبله الله على الحياء من حيث إنه سبحانه وتعالى استنفذ وسع العبد بالحياء من تواتر فضل الله في الطاعة، أضعاف ما يستنفذ به وسع أهل القحة بالسياط، فجبلهم على الحياء؛ لأنه سبحانه وتعالى ترك سياط سوق عباده إليه استحياؤهم منه، نحو الذي قد تقدم من قول الله سبحانه لعبده المستغفر مرة ثالثة: (غفرت لك، فاعمل ما شئت)، فكان هذا من أركان الإيمان. * الخصلة الثالثة والأربعون: العي. ولما كان العي من ثمار الحياء، وكون المؤمن يمنعه إيمانه من أن ينتحل الأقوال أو يخرجها مخرج التشدق، كان العي من المؤمن عن ترك الدخول فيما لا يعلم، والقول فيما لم يحط به، والفزع في جل أمره إلى قول:

(92/ ب) لا أدري، دليلًا من أدلة الإيمان. * الخصلة الرابعة والأربعون: اعتياد المسجد. ولما كانت المساجد بيوت الله عز وجل، وملتقى عباده الصالحين، ومحل أذكاره، ومواطن رفع اسمه سبحانه، منزهة عما لا يناسب عبادته، كان اعتياد المؤمن لها دليلًا واضحًا على إيمانه، فينبغي للإنسان أن يفرق بين الأعمال الصالحة والأعمال السيئة؛ بأن كل عمل لا يستحسن أن يعمله في المسجد فلتجنبه، ومن ذلك الرقص والتصفيق. * الخصلة الخامسة والأربعون: إطعام الطعام. ولما كان إطعام الطعام أبلغ وأشمل من إكرام الضيف، من حيث إنه يطعم الطعام لضيفه ولسائله ولأهله ولعياله، فكانت هذه من أخلاق المؤمن، من حيث إنها شاملة عامة واسعة إلا إنها تدل على الإيمان من حيث إنها تشعر باستيقان الخلف وكرم السجية. * الخصلة السادسة والأربعون: الصبر. ولما كان الصبر مما مدحه الله تعالى، وذكره في مائة موضع وأربعة موضع من كتابه، ولم يذكر شيء من القرآن بهذه العدة، كان كل صابر على ما يكره أو عما يحب في إيمان بالله أنه سيؤول صبره على حصول لما صبر عنه؛ أو راحة مما صبر عليه، أو تعويض منه في الدنيا والآخرة، دليلًا على الإيمان بمن صبر له وفيه ولأجله، وهذا الصبر قد يجل ويدق، فيكون منه صبرك على أخيك حتى يقضي كلامه، ويكون منه صبرك على المتنازعين حتى يصطلحا، وصبرك على المتعلم السيئ الفهم حتى يفقه، وصبرك (93/ أ) على تجرم الطفل وتعنته، وصبرك على المراء وأنت محق، فأما صبرك عليه وأنت مبطل؛ فتلك فريضة، وكان ذلك من خصال الإيمان.

* الخصلة السابعة والأربعون: السماحة. ولما كانت السماحة لا تخلو من أن تكون من المؤمنين بصدق الله في وعده؛ إذ يقول: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} فذلك صريح في الإيمان؛ إذ يكون ممن جبله الله من السماحة على ما يحب، وكلا الوجهين يدل على مثير من الإيمان، وهو بعرضة أن يؤول به إلى حقيقة الإيمان، وليس السماحة هي التبذير، والتبذير: أن يخرج الرجل ماله فيما لا يرجو به أجرًا في الآخرة، ولا حمدًا في الدنيا، وهذا هو حد حده الفقهاء، وهو كما ذكروا إلا إنه من قلة فقه المنفق أن ينفق شيئًا إلا وقد توجه له بوجه من وجوه الفقه إلى أن يكون الله، إذا لم يصرفه في محرم، فكانت السماحة حينئذ دليلًا واضحًا على الإيمان، لأن الله يرزق المنفق، ويجزي المتصدقين. * الخصلة الثامنة والأربعون: اليقين. ولما كان اليقين درجة في الإيمان، وهو تمكن الإيمان من القلب حتى لا يعارضه ارتياب في حسن خلق ولا نصر حق، ولا اضمحلال باطل، ولا سوء عاقبة مفسد، وحسن عاقبة مصلح، ولا يضطرب عند تأخر إجابة الدعاء، ولا يشك في أنه ربما يكره ما هو خير، ويحب ما هو شر؛ بل يؤمن بأن الله يعلم وهو لا يعلم، فكان هذا من الإيمان فوق أن يقال له: خصلة؛ لأنه من لباب الإيمان. * الخصلة التاسعة والأربعون: مثل المؤمنين في توادهم ... ولما كان الإيمان ضامًا شمل المؤمنين، يتراحمون به، ويتوادون (93/ ب) فيه، ويتواصلون من أجله، كان تواصل المؤمنين، وتوادهم، وتراحمهم، دالًا

على إيمان كل منهم، ويدخل في هذا من كان يحب أن تجمع كلمة المسلمين، وأن ينصلح ذات بينهم، وأن يزول الشقاق عنهم والنفار، فإنه المؤمن حقًا، ومن كان بضد ذلك فهو بضده. * الخصلة الخمسون: المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا. ولما كان المؤمنون يرتفدون بالمؤمنين، ويتعاضدون ويتساعدون؛ فتقوى شوكتهم، ويعلو أمرهم، كان ذلك مشعرًا بإيمانهم، فإنهم على شكل البنيان الذي كل لبنة منه من حيث إنها تتصل بأختها، وأختها بأخرى وهكذا، وكل من المؤمنين مرتفد به، كل المؤمنين: الكبير والصغير، والعالم والمتعلم، والمصحوب والصاحب، فيكون مثلهم كمثل البنيان الذي كل شيء منه نافع لشيء منه، فكان ذلك من الإيمان. * الخصلة الحادية والخمسون: المؤمن يألف. ولما كان المؤمن يألف من يناسبه في إيمانه، صار إلفًا مألوفًا غير مرتاب من يصاحبه فيزور عنه، ولا شاك فيه، فيرتاب به، فلذلك كانت الألفة من أخلاق المؤمنين. * الخصلة الثانية والخمسون: الاستثناء. ولما كان المؤمن قد علم أن الله سبحانه سبقت مشيئته، ونفذ أمره بما يكون في أرضه وسمائه، وكان من مقتضى إيمانه وحسن أدبه، ألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله، فإنه لا يدرى: هل يفعل الله سبحانه ذلك فيه وبه أم لا؟ وهذا يدل على ما يقوله أهل الحق من أن الاستطاعة مع الفعل لا قبله ولا بعده؛ لأن الاستطاعة لو كانت وقت الفعل لكانت لا حرج على من يقول: (94/ أ) أفعل ذلك في غد، ولا يقول: إن شاء الله، فهذا من خصال الإيمان.

* الخصلة الثالثة والخمسون: أن يسلم المسلمون من لسانه ويده. ولما كان من مقتضيات الإيمان ألا يمد المسلم إلى عامة المسلمين يدًا، ولا يبسط إلى عامة المسلمين لسانًا، كان ذلك من دلائل الإيمان، وهذا قد يقتضي سلامة جميع المسلمين، وعلى هذا فمن نال بعض المسلمين بيده أو لسانه، لم يخرج من الإيمان، فيكون ما جرى من الصحابة رضي الله عنهم، وما جرى من المسلمين بعضهم مع بعض لا يخرجهم من الإيمان. * الخصلة الرابعة والخمسون: أن يكون مثل السنبلة. ولما كان من مقتضيات الإيمان أن يكون المؤمن في هذه الدنيا مفتقرًا إلى مزعج له عن هذا المقر الدني، وكان من فضل الله تعالى عليه أيضًا ألا يشمت به عدوه، ولا يحبس عنه نصره، وأن العاقبة تكون له، كان من حاله أن يكون في معنى السنبلة؛ تميل أحيانًا، وتعتدل أحيانًا، ويجوز أن تكون مثله، أن تميل به الهفوة ميلًا إلا إنها لا تبلغ به إلى الانقطاع والانكسار، لم تعتدل اعتدالًا في لين، لا يؤمن عليه الميل أيضًا، فهو هكذا دأبه حتى يلقى ربه. * الخصلة الخامسة والخمسون: أن يعلم أن الله معه حيث كان. ولما كان من مقتضيات إيمان المؤمن أن يعلم أن الله سبحانه معه حيث كان، فلا يستوحش إذا خلا، ولا يخاف إذا انفرد، كما إنه لا ينبغي أن يتفسح في النطق إذا كان وحده، ولا يكشف عورته إذا لم يكن عنده غيره، كما إنه إذا كان في مواطن منها يشترك الحلم، ويضطرب العزم إلى أن يقول الكلمة التي هي (94/ ب) غير صالحة، فينبغي له أن يؤمن أن الله معه، يسمع ما يقول، ويعلم ما عليه يعزم، فكان هذا من خصال الإيمان بل لبابه. * الخصلة السادسة والخمسون: أن يهجر السوء. ولما كان السوء كله سامه، اقتضى الإيمان أن يهجر كله، فكان هجران

السوء من خصال الإيمان على الإطلاق. الخصلة السابعة والخمسون: حب (علي) عليه السلام. ولما كان من مقتضيات الإيمان أنه لما علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما سيكون بعده، وما سيقول الخوارج في علي رضي الله عنه، وما سيدفع إليه علي عليه السلام، ويمنى به من الاضطرار أو إلى أن يرى قتل البعض في مصلحة الكل، وعلم - صلى الله عليه وسلم - أن هذا مما يتزلزل له قلوب الذين لا يفقهون، عد حب علي عليه السلام ركنًا من أركان الإيمان. * الخصلة الثامنة والخمسون: حب العباس. ولما كان من علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أعلمه الله به، من أن الأمر يعود إلى ذرية عمه العباس رضي الله عنه، وأن بنيه سيكون منهم الخلفاء إلى يوم القيامة إن شاء الله، وعرف - صلى الله عليه وسلم - ما في الولاة من مقتضيات الموجدة، وثمرات الهيبة، ودوام الاستيلاء، جعل حب العباس الذي هو أصل ذريته المباركة الطاهرة ركنًا من أركان الإيمان، وينبغي للمسلمين أن يعرفوا قدر هذه الدولة المباركة، فإن الله سبحانه أصلح بها الأرض بعد فسادها. فالقراءات السبع كان استبيانها وتمامها في أيامها، وهي قراءات الأمصار الخمسة: فبمكة ابن كثير، وبالمدينة نافع، وبالشام ابن عامر،

وبالبصرة أبو عمرو، وبالكوفة حمزة والكسائي وعاصم رضي الله عنهم أجمعين، وكذلك المذاهب الأربعة: وهي مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد رضي الله عنهم أجمعين، وكذلك علوم النحو وعلماؤه كالخليل وسيبوبه وغيرهما. وكذلك ما عمل الإمامان الكبيران صاحبا هذا الكتاب: البخاري ومسلم، اللذان أسندا الصحيح، فإنهما في هذه الدولة المباركة دوناه، وعلى ذلك فجمهور مصنفات الشريعة في هذه الدولة تمهدت، فكان حب العلماء من الإيمان.

* الخصلة التاسعة والخمسون: السلام على أهله إذا دخل عليهم، والقوم إذا مر بهم. ولما كان من مقتضيات الإيمان أن الرجل إذا دخل على أهله نزلهم في السلام عليهم ممن يأتيه، فإنه يحظى من ذلك أن يبشرهم منه بحسن الملقى، وبوجدهم فيه الروح لدخوله، ويؤمنهم به من بوادر سخطه. ولما كان السلام على القوم إذا مر بهم يتضمن أمانهم مما يتخوفونه، وتأنيسهم به، وعلمهم أنه مسلم؛ لأن السلام تحية المسلمين، فكان هذا من خصال الإيمان. * الخصلة الستون: يحب للناس ما يحب لنفسه. ولما كان من مقتضيات الإيمان، أن المؤمن يحب المؤمنين كافة، أن يدخلوا في رحمة الله، إيمانًا منه بأن فضله سبحانه يسعهم، ورحمته تغمرهم، وجنته لا تضيق عنهم، كان يحب للناس من دخول الجنة، والأعمال الموصلة إلى دخول الجنة، ما يحب لنفسه، وهذا يدل على أن المؤمن لا يحسد المؤمن على عمل صالح، ولا يبخل المؤمن على المؤمن بفضل ربه، فكان هذا من الإيمان. * الخصلة الحادية والستون: ألا يشفي المؤمن (95/ ب) غيظه. ولما كان المؤمن عالمًا من نفسه أنه قد تحمله المغيظة أحيانًا على فعل ما قد يندم عليه في مستقبل الحال، كان من إيمانه بربه أن يكظم غيظه، ولا يشفيه، متحرجًا أن ينفذ غيظه؛ فإنه لو جاز له إنفاذه في مقام ما، لفاتته فضيلة أنه لم يكن المؤمن الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يشفي غيظه. * الخصلة الثانية والستون: مخالطة الناس والصبر على أذاهم. ولما كانت مخالطة الخلق في إجماع على الصبر على أذاهم، أفضل من

تركهم، كان احتمال مداراة الخلق، الصبر على تباين أخلاقهم، وعسر أخلاقهم، وبعد من يبعد عن الحق منهم، من جملة مقامات الجهاد في سبيل الله، فلأجل ذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم)؛ فكان ذلك من الإيمان. * الخصلة الثالثة والستون: أن يرى الناس حمقى في دينهم. ولما كان ما تناله استطاعة الخلق، وتبلغه مقادير همتهم دون ما يستحق الله تعالى عليهم وعندهم، فإنهم خلقه وملكه، وقد جمع بين ضروب الإحسان إليهم كما جمع بين ضروب الحلم عليهم، والأناة بهم، واللطف لهم، حتى إن الواحد منهم ليتجرم ويتنطع في الإساءة لربه إلى ما لا يتنطع فيه على أبيه، ولا على ولده، ثم إنهم بعد ذلك يدلون إدلال المحسنين على ما فيهم من الإساءة، وينبسطون تبسيط المجيدين على ما فيهم من مواصلة التقصير، يستكثرون لربهم قليل طاعتهم، ويستقلون لأنفسهم (96/ أ) كبير نعمه، يغاضبون ربهم إن أخر إجابتهم لما دعوه فيما يضرهم لو أجابهم إليه، ويريد كل منهم ألا يتحرك في الوجود حركة إلا على حسب اختياره، ولا أن تسكن ساكنة إلا بمقتضى إيثاره، فإذا كان العبدان منهم، كل منهم يريد ضد ما يريده لصاحبه، فإذا أجرى الله سبحانه الحال في اقتراحهما رويدًا بهما، ورفقًا لهما، رأيت كلًا منهما يحمله جهله على الاشتطاط والقدح في حسن تدبير رب العالمين، حتى يظهر على جملته وأجزائه، وربما أداه إلى الارتياب، فالمؤمن يراهم من هذه الطريق كلهم حمقى في دينهم.

* الخصلة الرابعة والستون: قول: سبحان الله، والحمد لله. ولما كان من مقتضيات إيمان المؤمن أن يديم ذكر تنزيه الله سبحانه عما لا يليق به، خروجًا عن عالم الحس إلى عالم اليقين والإيمان، كما من هجيراه أن يقول دائمًا: سبحان الله، ثم يعطف عليه بما يدل عليه أنه إنما سبح هذا التسبيح بتوفيق الله له، فله المنة في ذلك لا له؛ فقال: والحمد لله. * الخصلة الخامسة والستون: الصبر للحكم. ولما كان من إيمان المؤمن ألا يقتضي إيمانه ألا يتهم ربه سبحانه في أقضيته، وأن يصبر لحكمه، ومن صبره لحكمه أن يصبر لأحكام شريعته، فذلك حكمه الذي حكم به سبحانه، فلا يتفسخ عند حمل شيء من أعباء الشرع، ولا يتطاول أيضًا بوساوسه إلى أن يريد أن يحدث ف يدين الله من الرهبانية ما لم يكتب عليه، فإذا صبر على حكم الله في اتباع الشريعة كان صابرًا لحكم الله تعالى. * الخصلة السادسة والستون: (96/ ب) الرضا بالقدر. ولما كان القدر قد سبق كما ذكرنا بما هو كائن، كان إيمان المؤمن يستدعي منه أن يكون راضيًا بما قدره الله، والرضا مرتبة فوق الصبر، فكان ذلك من خصال الإيمان. * الخصلة السابعة والستون: إخلاص التوكل. ولما كان من مقتضيات الإيمان أن يتوكل المؤمن على من آمن به، في أنه إذا استعانه؛ أو انتصر به؛ أو اعتمد عليه، فإنه سبحانه وتعالى كافيه في كل ذلك، فهذا يكون مع العبد في كونه يستعمل الأسباب، وفيها بمعنى إخلاص التوكل؛ لأن الأسباب تكون معه صورة، وهو معتمد على خالقها، فيخلص له التوكل في سره، ويخلص له أيضًا من أن يفسده الناظرون إليه بالتشنيع فيه

إلا إنه إذا أراد الله منه في حالة ما لا عن تقصد منه؛ أن يحول بينه وبين الأسباب فليثبت حينئذ مع الله عز وجل، فإنه لم يذهب عنه إلا الشواغل، فكان ذلك من لباب لباب الإيمان. * الخصلة الثامنة والستون: الاستسلام للرب. ولما كان مقتضى الإيمان من المؤمن؛ أنه لا طاقة له بشيء من عذاب الله، ولا حيلة في استجلاب شيء من فضل الله إلا بالله فيهما؛ بمعنى اقتضى ذلك الاستسلام لله، فكان ذلك من الإيمان. * الخصلة التاسعة والستون: الإنصاف من نفسك. ولما كان الإيمان يقتضي أن تظهر ثمرته عند القدرة على الخصم، فيقين الإيمان في إنصاف الخصم بحيث يعود الإنسان ولا منتصف منه غير نفسه، فإذا أنصف من نفسه، ولم تأخذه العصبية لها على أخيه، كان ذلك آية من آيات الإيمان. * الخصلة السبعون: بذل السلام للعالم. ولما كان (97/ أ) بذل السلامة من حيث إنه لا يخلو أن يكون في طرق المسلمين ومجالستهم غيرهم، كان الإيمان مستدعيًا ألا ينزل المسلم على المسلم من أجل جاره الذمي أو الكافر؛ لأن المسلمين هم القوم لا يشقى بهم جليسهم، فكان من الإيمان بذل السلام للعالم. * الخصلة الحادية والسبعون: حبس الفرس. ولما كان من مقتضيات الإيمان ألا يخلو المؤمن من جهاز يعده لغزو أعداء الله، وكان من أصل الجهاز لذلك حبس الفرس، كان حبس المؤمن فرسه ليغزو عليه في سبيل الله أو يغزو عليه غيره إيمانًا بالله، وتصديقًا بوعده، دليلًا على الإيمان، فيكون ممن أعد لأعداء الله شيئًا مما يرغمهم به.

* الخصلة الثانية والسبعون: الإنفاق من الإقتار. ولما كان الإنفاق من الإقتار، هو الذي لا تثبت فيه الأنفس، موقن بأن الله سبحانه إذا أصار المقتر إلى حالة تعرضه للانفاق فيها من إقتاره؛ فإنه قد أسر إليه بذلك إنني إنما رشحتك بهذه الحالة لمقام الملوك، حيث تنفق من إقتارك؛ إذ الذرة منك قائمة عندي مقام القنطار من الواجدين، فيرى المقتر ببصيرة إيمانه أنه هو الملك من حيث إنه أصاره الله إلى إقتار، يضاعف له يسير النفقة، وليس اليسير مع مضاعفة الله بيسير، كما أنه ليس الكثير مع محق الله ليس بكثير، فكان ذلك من لباب الإيمان. * الخصلة الثالثة والسبعون: وهي أدناها؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ... لأن الطريق لما كانت يمر فيها المسلم والكافر، والعاصي والطائع، فرأى المؤمن أن إماطته (97/ ب) الأذى عنها يثيره إيمانه، ليسهل سبيل المؤمنين، فإن مر بها غيرهم، كان ذلك على حكم التبع لهم، فكان ذلك من خصال الإيمان. * ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الخصال كلها، ليحرص المؤمن على جمعها، إلا إنه بحمد الله ليس فيها شيء من الترهبن ولا الابتداع في الأقوال والأحوال، فمن أراد الله به خيرًا جمعها له، أو جمع له منها حسب حاله، والحمد لله رب العالمين. -2046 - الحديث الثامن بعد المائتين: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بنيانًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال:

فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين). وفي رواية: (فكنت أنا اللبنة). وفي رواية: (مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل ابتنى بيوتًا، فأحسنها وأجملها وأكملها، إلا موضع لبنة من زواية من زواياها، فجعل الناس يطوفون، ويعجبهم البنيان، فيقولون: ألا وضعت هاهنا لبنة فيتم بنياتك؟ فقال محمد - صلى الله عليه وسلم -: فكنت أنا اللبنة)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تمم النقائص وسد الثلم، وكمل العوز، وليس هذا مما يدل على أنه مشبه في صغر البنيان بموضع اللبنة من ذلك البنيان؛ ولكنه شبه بأن البنيان تمم به، وكمل بشريعته، فلم يبق بعده إعواز، ولا وراءه نبي، وكان - صلى الله عليه وسلم - الذي كتب له (98/ أ) تكملة الأعمال كلها. وقد جاء في غير حديث أن الاعتماد على الخاتمة. وقد ذكرنا فيما مضى أنه خص بالخاتم بين كتفيه إشارة إلى أنه خاتم الأنبياء، ولذلك كان من ورائه؛ لأنهم ختموا به، فلم يبق وراءه غيره. -2047 - الحديث التاسع بعد المائتين: [عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (السفر قطعة من العذاب؛ يمنع

أحدكم نومه وطعامه، فإذا قضى نهمته من وجهه فليعجل إلى أهله)]. * في هذا الحديث من الفقه أن المسافر على قلت وبعرضة؛ ولأنه يسبب همه في نفسه، وتكثر مؤنته، ويحتاج إلى حمل زاده، ومائه، وقل أن يمكنه إقامة فرائضه كاملة من جميع أقسامها، وأن يصلي الصلوات في جماعة، وأن يشتغل بالعلم والتعليم؛ كما كان في الحضر، فلا ينبغي له أن يتعرض له إلا لحاجة، فإذا قضاها، فأولى أفعاله، أن يسرع الكرة إلى أهله؛ ليكون مغتنمًا إنفاق عمره في الأربح فالأربح، من أحوال أوقاته. -2048 - الحديث العاشر بعد المائتين: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء). وفي رواية علي بن عبد الله قال: قال سفيان: الحديث ثلاث، زدت أنا واحدة، لا أدري أيتهن، وقال عمرو الناقد: أشك أني زدت واحدة (98/ ب) منها)].

* في هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالتعوذ في هذه الأشياء: - وجهد البلاء: شدته، وقل ما يعرض البلاء لمؤمن إلا ويكفر حوبًا أو يرفع درجة، فإذا اشتد خيف منه، فلذلك استعاذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه. - ودرك الشقاء: هو لحوق الشقاء. - وسوء القضاء، ضد حسن القضاء، فيجوز أن يكون المراد به الجور في الحكم، وأن يحكم الحاكم بأحكام زائغة عن الحق، فيكون على معنى قول من قال: والقضاء خطر؛ أي والحكم خطر. - وأما شماتة الأعداء، فإن أعدى الأعداء إبليس، ولا شماتة له أعظم من دخول الإنسان النار، وأن ينصرف من بين يدي ربه، وقد يئس من رحمته، فهذا هو أقطع الشماتة، وما دون هذا من شماتة الأعداء أهل الدنيا؛ فإنه صعب مؤلم كنكاء القرح بالقرح، والله يعيذنا من ذلك في الدنيا والآخرة بكرمه وجوده. -2049 - الحديث الحادي عشر بعد المائتين: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (العمرة إلى العمرة، كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة). وفي رواية: (من حج لله عز وجل، فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه)].

* قوله: (العمرة إلى العمرة، كفارة لما بينهما)، إشارة منه - صلى الله عليه وسلم - إلى أن كبار الطاعات يكفر الله بها ما كان بين الطاعة منها والطاعة الأخرى؛ لأنه لم يقل: كفارة لصغار ذنوبه بل أطلق إطلاقًا يتناول الكبار والصغار. * ثم قال: (والحج المبرور ليس (99/ أ) له جزاء إلا الجنة)، يعني: أنه إذا زادت قيمته، وكثرة مقداره، وغلا ثمنه، فلم يكن يقاومه شيء من الدنيا، ولا نفيس من أعراضها، فلذلك قال: ليس له جزاء إلا الجنة، ومعنى ليس له جزاء إلا الجنة فهذا عقد يشتمل على أحكام كثيرة: فإن الجنة هي دار النظر إلى الله تعالى، وهي مقر الأمن من كل مخوف، والنيل لكل مطلوب، والوصول إلى كل مشتهى، والاجتماع لكل مشتاق، إلى غير ذلك. * وقوله: (من حج فلم يرفث)، أي امتنع عن الرفث والفسوق أيام الحج خاصة أزال ذلك كل وقت وفسوق سبق، فرجع إلى الصفاء والطهارة والخلوص كيوم ولدته أمه، لا ذنب له وبقي حجه فاضلًا له، وباقيًا عليه؛ لأن مما شرع الله عز وجل أن الحسنات يذهبن السيئات والمذهب الأول. -2050 - الحديث الثاني عشر بعد المائتين: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا، فنزل فيها؛ فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث،

يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني، فنزل البئر، فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له)، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال: (في كل كبد رطبة أجر). وفي رواية: (أن امرأة بغيًا رأت كلبًا في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له موقها، فغفر لها). وفي رواية: (بينما كلب يطيف بركية، قد كاد يقتله العطش، (99/ ب) إذ رأته بغية من بغايا بني إسرائيل، فنزعت له موقها، فاستقت له به، فسقته إياه فغفر لها به). وفي رواية: (أن رجلًا رأى كلبًا يأكل الثرى من العطش، فأخذ الرجل خفه، فجعل يغرف له به حتى أرواه، فشكر الله له فأدخله الجنة)]. * في هذا الحديث من الفقه: اعتراض الشدائد للإنسان في أوقاته، وهي وإن كانت شدة في وقتها؛ فإنها سيقبلها الله نعمة في وقت آخر، فإن ذلك الإنسان لما اشتد به العطش، ذكر به غيره، فعرفه مبلغ الظمأ من الظمآن، فأوى إلى ذلك الكلب حين رآه في مثل حاله، فكان ذلك سببًا لرحمته الكلب، ورحمه الله به، من حيث إنه أبلاه أولًا حتى راضه وأدبه، فجعل

رياضته تلك سببًا لرحمته خلقه، فرحمه سبحانه وتعالى. * وفيه أيضًا من الفقه: أن الرحمة في القلوب- حتى البهائم- سبب خيرة وأجر، واستعطاف لرب السماء والأرض؛ فإنه يرحم من عباده الرحماء. * وفيه: أن رحمة الدواب- حتى الكلاب التي لا أجر في اقتنائها بل وزر- أجرًا، فدل على أن رحمة ما هو أكرم منها من الدواب كالشاة، والبقر وغيرها، فيها أجر، فذكر ذلك على عادته في الإتيان بجميع الكلم فقال: (في كل كبد رطبة أجر). * وفيه أيضًا من الفقه: أن لطف الله عز وجل ورحمته عباده تبلغ إلا أن بغيًا من البغايا المسرفات على نفوسهن بفجورهن مدة عمرها، رحمت في وقت واحد كبدًا رطبة، جرى مكان ذلك لها وسيلة إلى الله عز وجل فأسقط عنها ما كان منها في عمرها لإنابة لحظة في رحمة (100/ أ) دابة غير كريمة، فكيف رحمة الآدميين المسلمين؟!، فجعل الله عز وجل هذا حيث قدره وقضاه منيهة لعباده إلى يوم القيامة. -2051 - الحديث الثالث عشر بعد المائتين: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه؛ لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح؛ لأتوهما ولو حبوا).

وفي رواية: (بينما رجل يمشي بطريق، وجد غصن شوط على الطريق، فأخذه فشكر الله له؛ فغفر له، ثم قال: (الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله). وقال: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول) ثم ذكر مثل ما تقدم في مثل هذين وفي التهجير والعتمة والصبح. وفي رواية: (لو تعلمون ما في الصف المقدم لكانت قرعة). وفي رواية: (ما كانت إلا قرعة). وفي رواية لمسلم: (خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)]. * في هذا الحديث ندب إلى الأذان، وإنه لكذلك؛ لأنه إعلان بتوحيد الله سبحانه، والمؤذن يبلغ جهده برفع صوته، فيذكر الغافلين، ويعود قدوة للذاكرين، فكل من يقول مثل ما يقول؛ فإنه يجدد إسلامه ليدخل في الصلاة بإسلام جديد غير منثلم بما عارضه في نفسه أو خالجه في قلبه من خاطر سيئ، فيكون أجره وأجر شهادته لمن سن هذه السنة (100/ ب) وبدأ بها، وهو المؤذن؛ لأن من سن سنة خير، فله أجرها، وأجر من عمل بها، فكيف بما في الأذان من الفضائل.

* وأما الصف الأول، فللقرب من الإمام، واستماع القراءة، وسلامة من دخل الصف الأول من تخطي الناس، وتمكنه من الجلوس، ولا يخفى عليه شيء من أحوال الإمام، ويكون هو مقتديًا بالإمام، ومن وراءه يقتدي به، فيكون له ثوابه، وثواب من يصلي وراءه؛ لأنه هو الوصلة بينه وبين الإمام، وكذلك له ثواب من يصلي وراء من يصلي وراءه هكذا، ما اتصلت الصفوف؛ لأنهم به يقتدون، وعلى فعله يبنون. * وأما الصبح والعتمة فإنهما يخلوان في الأكثر من رؤية أكثر الناس، فالمنافق والمرائي الذي لا يصلي إلا لأجل الناس، لا يمكنه في العصر والظهر ما يمكنه في الفجر، فإنه يغلظ في الفجر والعتمة. * وأما التهجير، فهو التقدم في الوقت، كما أن التبكير كذلك. * وفيه من الفقه أن الله جل جلاله، لا يضيع مثقال ذرة، حتى إن هذا المار في طريقه، رأى غصن شوك في الطريق، فأخره عن المارين فأجر، ولم يذكر أنه قطعه، فشكر الله له تأخيره الغصن فغفر له. * ثم ذكر الشهداء، ونزل آخرهم الشهيد في سبيل الله، ليعلم أن كلا منهم ليس بناقص الشهادة، ولا بمنزور الأجر، وإنما كانت هذه الأحوال توهم في الأكثر أن الميت قد أفلت أو قد نقص من أجله، أو لو لم يعرض به ذلك الأمر لم يمت؛ إذ ليس ما عرض له من الأمراض المعهودة التي تعاود الناس في الأكثر، فكان من ثبت إيمانه في مرض من هذه الأمراض، وعند الهدم، والغرق، يعلم أنه لم يمت إلا بأجله، فكان هذا الإيمان مبلغًا له إلى الشهادة. * وقوله: (خير صفوف النساء آخرها)؛ وذلك (101/ أ) لأن أواخرها

أبعدها عن الرجال، وأوائل صفوف الرجال أبعدها من النساء، وكان هرب من تهرب من النساء من الفتنة أو لخوف الفتنة، وهرب من يهرب من الرجال لذلك هو الذي جلب الخير إليه. -2052 - الحديث الرابع عشر بعد المائتين: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل عمل أكثر منه. ومن قال: سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، حطت خطاياه؛ وإن كانت مثل زبد البحر). وفي رواية: (من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ذلك أو زاد عليه)]. * هذا الحديث مشروح الكلمات في مسند أبي أيوب، ونزيده هاهنا شرحًا فنقول: لما تكررت على لسان المسلم كلمة التوحيد، وهي: لا إله إلا الله،

ومعناها نفي الإلهية بالتعميم؛ لأن لا إذا بنيت معها النكرة على الفتح دلت على تعميم النفي. ثم جاء الاستثناء المثبت بأقوى حروف الاستثناء وهي إلا التي هي معتمد بابه، وهي الكلمة إنما يقولها المؤمن إذا نظر حق النظر، فإنه يقولها عن يقين، ثم يقول: وحده لا شريك له، فيثبت له الوحدة، وينفي عنه الشركاء، ثم تبعها بأن له الملك، واللام في قوله: (له) لام الملك ولام الولاية، ثم قال بعد ذلك: وله الحمد، ولم يقل: (له الحمد (101/ ب) والملك) ليدل على أنه ليس ملك يجمع الملك والحمد غيره. * وقوله: (وهو على كل شيء قدير)، وذلك أنه أتى إلى عباده بما يحمدونه عليه مع كونه سبحانه كان قادرًا على أن يأتي إليهم غيره إلا أنه رفق بهم، ودليل الرفق قوله: (وهو على كل شيء قدير)، ليفهمها من فهمها، فهذه إذا قالها العبد عند مشاهدة مقتضياتها، والفكر فيها في كل يوم مائة مرة، فلابد في بعض المرار من إفاقة، وهي المقصود؛ لكن الشرع جعل نفس نطقها محصلًا لقائلها من الثواب ما ذكره أبو هريرة في روايته للحديث من حيث إن نطقها يعرضه الهداية إلى معرفة معانيها. * فأما كونها بعشر رقاب، فإن العتق في لغة العرب أصله الخلوص؛ وقد تقدم ذكره كذلك، وتقدم ذكر كونها بعشر رقاب في مسند أبي أيوب، فلما كانت كلمة الإخلاص مناسبة للعتق، كان العتق مناسبًا لها، فأما عشر رقاب لمائة مرة، فإن لكل عشر مرار عتق رقبة. * وقوله في تضعيف ثواب قائلها: (إلا رجل عمل أكثر منه)؛ أي قال أكثر من هذه الكلمات.

* وأما قوله: (سبحانه الله وبحمده)، فقد بينا أنها تنزيه لله عز وجل من كل سوء، ومن كل ما لا يجوز عليه، فكانت منزهة لقائلها من خطاياه التي تجوز عليه وعلق به، فلما قال ما نزه الله عز وجل به عما لا يجوز عليه [إلا أن] نزهه من خطاياه كلها التي تجوز عليه. -2053 - الحديث الخامس عشر بعد المائتين: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، (102/ أ)، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن الملائكة تصلي مع المصلين رغبة في فضيلة الجماعة، فلهذا إن وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه. * وفيه أن الملائكة تتبرك وتغتنم وتبادر إلى الدخول في جملة من دعا له الإمام عند قوله: (سمع الله لمن حمد) (ومن) تتناول من يعقل، فتبادر الملائكة إلى الجهر رغبة أن تشملهم الدعوة. * وقوله: (من وافق قوله قول الملائكة، غفر له)؛ لأنه توافق قول غير متدنس بالذنوب، فيكون ضياء أقوالهم يشمل ما عساه أن يكون في قول غيرهم من ظلمة.

-2054 - الحديث السادس عشر بعد المائتين: [عن أبي هريرة، أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: قد ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، فقال: (وما ذاك؟) قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟) قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: (تسبحون، وتكبرون، وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة)، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) (102/ ب) قال سمي: فحدثت بعض أهلي هذا الحديث، فقال: وهمت، إنما قال لك: تسبح ثلاثًا وثلاثين، وتحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وتكبر الله ثلاثًا وثلاثين، فرجعت إلى أبي صالح، فقلت له ذلك فأخذ بيدي، فقال: الله أكبر، وسبحانه الله، والحمد لله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله ... حتى تبلغ من جميعهن ثلاثًا وثلاثين. قال ابن عجلان: فحدثت بهذا الحديث رجاء بن حيوة، فحدثني بمثله عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لفظ حديث مسلم، وليس عند البخاري قول أبي صالح: فرجع فقراء المهاجرين وما قالوا، وقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد قوله: (تسبحون، وتحمدون، وتكبرون، خلف كل

صلاة، ثلاثًا وثلاثين)، فاختلفنا بيننا، فقال بعضنا: نسبح ثلاثًا وثلاثين، ونحمد ثلاثًا وثلاثين، ونكبر أربعًا وثلاثين، فرجعت إليه فقال: (تقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون منهن كلهن ثلاث وثلاثون). وفي رواية للبخاري: قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالدرجات، والنعيم المقيم، وذكر نحوه إلى قوله: (أفلا أخبركم بأمر تدركون به من كان قبلكم، وتسبقون من جاء بعدكم، ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله؛ تسبحون في دبر كل صلاة عشرًا، وتحمدون عشرًا، وتكبرون عشرًا). وفي رواية لمسلم: (ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم)، ثم ذكر مثل ما في الحديث الأول، وأدرج في حديث أبي هريرة قول أبي صالح: ثم رجع فقراء المهاجرين، ولم يجعله من قول أبي صالح، وذكره وزاد في آخره يقول سهيل: إحدى عشرة، إحدى عشرة، إحدى عشرة). وفي رواية له: قال رسول الله (103/ أ) - صلى الله عليه وسلم -: من سبح الله في دبر كل صلاة، ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وكبر الله ثلاثًا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، قال: تمام المائة: لا إله إلا الله وحده؛ لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غفرت له خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر)].

* قد سبق في مسند أبي ذر؛ تفسير قوله: ذهب أهل الدثور بالأجور. * والذي أرى في تفسير هذا الحديث: أن الفقراء لما سمت همتهم إلى ألا يقصروا عن فضيلة غيرهم، كان هذا منهم محمودًا، فعاضهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإنفاق هذا التسبيح، فلما سمعه الأغنياء وقالون، كان من حسن فقه الفقراء أن الله سبحانه سيكتب لهم مثل تسبيح الأغنياء من حيث إنهم عنهم تعلموه ومنهم أخذوه، وكان الفقراء هو الذين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أثاروه، فلهم من الثواب مثل من عمل به من الأغنياء وغيرهم، فلما لم يفقهوا، جاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: يا رسول الله، قد سمعوا التسبيح فقالوا؛ أخرجهم حرصهم إلى الخير إلى ما يشده عن حسن النظر في ثواب المقتدى بمن يقتدي، والتابع لمن يبتدئ، فكان جوابهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قال لهم: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)، يشير إلى الفقه، فإن الذي أعطاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو عطية لا تقبل إلا من أيديهم، ولا تحسب إلا في موازينهم، فالأغنياء لا ينقص أجورهم؛ ولكن الفقراء يتضاعف ثوابهم، والفضل الذي ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو فضل الآدمي في عمله وفقهه من قول الله سبحانه: {ويؤت (103/ ب) كل ذي فضل فضله} كل ذي فضل فضله إن شاء الله تعالى. -2055 - الحديث السابع عشر بعد المائتين: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت عن سرية، ولكن لا أجد حمولة، ولا أجد ما أحملهم عليه، ويشق علي أن يتخلفوا عني، فلوددت أني قاتلت في سبيل الله فقتلت، ثم

أحييت، ثم قتلت، ثم أحييت). وفي رواية: (والذي نفسي بيده لولا أن رجالًا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم بأن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده، لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل). وفي رواية: (والذي نفسي بيده لوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل)، فكان أبو هريرة يقولهن ثلاثًا (أشهد بالله). وفي رواية: (والذي نفس محمد بيده، لولا أن يشق على المسلمين، ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدًا؛ ولكني لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده، لوددت أني أغزو في سبيل الله، فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل). وفي رواية: (والذي نفس محمد بيده، لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلف سرية تغزو في سبيل الله، ولكني لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة فيتبعوني، ولا تطيب أنفسهم أن يقعدوا بعدي)]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما يعلم من فضل الشهادة،

أحب أن يكون غازيًا في سبيل الله مع أصحابه المؤمنين؛ لأنه قال: (104/ أ) (لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة)؛ يعني فيحتملون، ولقد بين عظم أمر الشهادة، وفخم قدرها، حتى تمنى أن يبلغ فيها ما لم يبلغه أحد؛ فإنه لم يقتل أحدثم يعاد، فتمنى عليه السلام مقامًا لم يبلغه أحد، وإن كان كل شهيد على وجه الأرض في ميزانه - صلى الله عليه وسلم -، وثوابه له. -2056 - الحديث الثامن عشر بعد المائتين: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله، زاد حفص بن مسيرة- لأهل الإسلام- فأطال لها في مرج أو روضة، فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات، ولو أنه انقطع طيلها، فاستنت شرفًا أو شرفين كانت له آثارها، وأرواثها حسنات، ولو أنها مرت بنهر، فشربت منه، ولم يرد أن يسقيها كان ذلك حسنات له، فهي لذلك الرجل أجر، ورجل ربطها تغنيًا وتعففًا، ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي لذلك ستر، ورجل ربطها فخرًا ورياء ونواء لأهل الإسلام- وقال حفص الصنعاني: على أهل الإسلام فهي على ذلك وزر، وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحمر؟ فقال: ما أنزل على فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره}). وفي حديث حفص بن ميسرة: (فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات، وكتب له عدد أرواثها وأبوالها

حسنات، ولا تقطع طولها، واستنت شرفًا أو شرفين إلا كتبت الله (104/ ب) له عدد آثارها حسنات، ولا مر بها صاحبها على نهر، فشربت منه، ولا يريد أن يسقيها، إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات ...)، ثم ذكره نحوه. في أول الحديث زيادة في مانع الزكاة تتصل به وأولها قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من صاحب ذهب ولا فضة ولا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وظهره، كلما ردت، أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار). قيل: يا رسول الله، فالإبل؟ قال: (ولا صاحب إبل لا يؤذي منها حقها- ومن حقها حلبها يوم وردها- إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر، أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيلًا واحدًا، تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي الله بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار). قيل: يا رسول الله، فالبقر والغنم؟ قال: (ولا صاحب بقر ولا غنم، لا يؤدي حقها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر، لا يفقد منها شيئًا، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء، تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، كلما مرت عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره

خمسين ألف سنه، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله: إما إلى الجنة، وإما إلى النار). قيل: يا رسول الله، فالخيل؟ قال: (الخيل ثلاثة: هي لرجل وزر، ولرجل ستر، ولرجل أجر). ثم ذكر الفصل الذي قدمناه إلى آخره. وفي رواية: (تأتي الإبل على صاحبها على خير ما كانت- إذا لم يعط (105/ أ) فيها حقها- تطؤه بأخفافها، وتأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت إذا لم يعط فيها حقها، تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها. قال: ومن حقها أن تحلب على الماء، قال: ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته، لها يعار، فيقول: يا محمد! فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد بلغت، ولا يأتي ببعير يحمله على رقبته له رغاء، فيقول: يا محمد! فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد بلغت). وهذا المعنى الأخير، هو في حديث أبي زرعة عن أبي هريرة أتم. وفي رواية للبخاري: (من حق الإبل أن تحلب على الماء). وفي رواية له: (من آتاه الله مالًا، فلم يؤد زكاته: مثل له ماله شجاعًا أقرع، له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه- يعني: شدقيه- ثم يقول: أنا مالك، أن كنزك ثم تلا: {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ...} الآية. وفي رواية: (يكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعًا أقرع). وفي رواية لمسلم: (ما من صاحب كنز، لا يؤدي زكاته، إلا أحمي عليه

في نار جهنم ...)، ثم ذكر نحوه. وقال في ذكر الغنم: (ليس فيها عقصاء ولا جلحاء) - قال سهيل: فلا أدري، أذكر البقر أم لا؟ - قالوا: والخيل يا رسول الله؟ قال: (الخيل في نواصيها) - أو قال: (الخيل معقود في نواصيها- قال سهيل: أنا أشك- الخير إلى يوم القيامة، الخيل ثلاثة: فهي لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر ...)، وذكر هذا الفصل إلى آخره على نحو ما تقدم، وفيه: (وأما الذي هي له ستر: فالرجل يتخذها تكرمًا وتجملا، ولا ينسى حق الله في ظهورها وبطونها، في عسرها ويسرها، وأما الذي عليه وزر: فالذي يتخذها أشرا وبطرًا، وبذخًا ورثاء الناس (105/ ب) فذلك الذي عليه وزر ...) ثم ذكره. وفي رواية: (إذا لم يؤد المرء حق الله أو الصدقة في الثلاثة: بطح لها)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الأعمال بالنيات؛ لأن هذه الخيل من حيث صورها؛ فإنها في الملكة والاقتناء سواء، ومن حيث النيات في اقتنائها متفاوتة، فمن اقتناها لله، وحبسها في سبيل الله، فإنها له أجر كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم فصل - صلى الله عليه وسلم - هذا الإجمال بأن ذكر: أن مالكها يؤجر على أول نيته بما يتبعها، وإن لم تكن له نية مجددة؛ بأنها لا ترعى في الكلأ المباح

من روضة غير مملوكة إلا كان لصاحبها برعيها أجر؛ يعني - صلى الله عليه وسلم - فكيف إذا أطعمها من ماله. ثم قال: (ولو أنه انقطع طيلها) أي: حبلها الذي تشد به، وهو لغة في الطول (فاستنت شرفًا أو شرفين)، والاستنان: أن يحضر الفرس وليس عليه الفارس، وذلك من النشاط، وأراد هاهنا أنه يمرج في الطول. والشرف: الموضع، والشرف والمرج: أرض ذات نبات تمرج فيها الدواب؛ أي ترسل لترعى، والمراد أنها بسقيها بنفسها، وحركاتها من غير قصد صاحبها، تكتب لصاحبها حسنات، فكيف بالقيام عليها، ومراعاة إطعامها وخدمتها. * وقوله: (أو مرت بنهر)، وهذا يصرح أن النية الأولى كافية؛ لأنه لما وردت على نهر فشربت منه، ولم يرد أن يسقيها كان له حسنات. * وقوله: (وهي لرجل ستر)؛ يعني - صلى الله عليه وسلم - أن الكسب ستر؛ وذلك أن الكاسب قد ستر بكسبه فقره؛ لأن من عادة الناس أن يحيلوا الكاسب على كسبه، بخلاف (106/ أ) من لا كسب له، فنفس ترك الإنسان الكسب يكون سائلًا للناس بلسان حاله، وبنفس الكسب يتغانى عن سؤال الناس بلسان حاله، فأراد أن الخيل يسترها، ولا أن يسألوا بمقالهم أو بحالهم. * وقوله: (ثم لم ينس حق الله في رقابها)، يدل على صحة ما ذهب إليه أبو حنيفة من إيجاب الزكاة في الخيل.

قوله: (ولا ظهورها)؛ يعني أن الله قد ندب إلى إعارتها للمحتاج إلى ذلك، إلا أن هذا الذي هي له ستر، بينه وبين الذي له أجر بون عظيم، إلا أن يكون ناويًا لتجارة فيها واستيلادها تكثير رباط الخيل في المسلمين للجهاد؛ فإنه يبلغ ثوابه في ذلك مبلغ نيته. * وأما الذي ربطها فخرًا ورياء ونواء، فالمراد بالفخر: أن يفخر بها على من لا خيل عنده، ورياء: ليرى الناس قوته بها، ونواء: معادة للإسلام، وهذه هي شرهن، فصارت عليه وزرًا. * وأما سؤاله - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر؟ فإنهم أرادوا بذلك هل فيها زكاة؟ فقال: (ما نزل على فيها شيء)؛ يعني من الزكاة (إلا هذه الآية الجامعة الفاذة) يعني الفردة التي جمعت على انفرادها حكم الحسنات والسيئات، وهي قوله عز وجل: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره}؛ يعني أنه ليس فيها فريضة، ولكن من يعمل فيها خيرًا؛ من عبادة أو صدقة أو غير ذلك، فإن الله تعالى يرى ذلك، ويجازي عليه، حتى مثقال ذرة من خير أو شر. * وقوله: (ربطها نواء لأهل الإسلام) أي: معاداة لهم، يقال: ناويت الرجل نوًا إذا عاديته. والعقصاء: الملتوية القرنين. والجلحاء: الجماء التي لا قرن لها. والعضباء: مكسورة القرن (106/ب)، والعضب في الأذن قطعها. واليعار: صوت الشاء.

والشجاع الأقرع، قال أبو عبيد: الحية، وإنما سمي أقرع؛ لأنه يَقْرى السم، ويجمعه في رأسه حتى يتمعط منه شعره. والزبيبتان: النكتتان السوداوان فوق عينه، وهو أوحش ما يكون من الحيات وأخبثه، قال: ويقال في الزبيبتين: الزبيبتان اللتان تكونان في الشدقين إذا غضب الإنسان. والأشر: التكبر والمرح والعجب. والبطر: الطغيان عند النعمة، قال الزجاج: البطر أن يطغى فيتكبر عند الحق فلا يقبله. الرياء: أن يظهر للناس من إرادته الجهاد بالخيل خلاف ما يضمر. وقوله في المال: (يحمي عليه صفائح) وهو الذي لا يؤدي زكاته فكلما كثر المال كثرت الصفيحة, وكان وقعها في جلده أوسع, والثلة: الجماعة الكثيرة من الغنم. -2057 - الحديث التاسع عشر بعد المائتين: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تسموا باسمي، ولا تكتنوا بكنيتي، ومن رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي،

ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعده من النار) [. * قد سبق هذا الحديث في مواضع. -2058 - الحديث العشرون بعد المائتين: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبلال: (سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة) قال بلال: ما عملت عملًا في الإسلام أرجى عندي منفعة، من أنِّي لم أتطهَّر طهورًا تامًّا في ساعة من ليلة أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي. وفي رواية: (سمعت دفَّ نعليك)، والدَّفُ: التحريك). [

-2059 - الحديث الحادي والعشرون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوة، فرُفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة، وقال: (أنا سيد الناس يوم القيامة، هل تدرون مم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيُبْصرهم الناظر، ويُسمعُهُمُ الداعي، وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس من الغمِّ والكرب ما لا يُطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه، إلى ما بلغكم، ألا تنظرونَ منْ يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم، فيأتونه، فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك (107أ) من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة، ألا تشفعُ لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، وما بلغنا؟ فقال: إن ربي غضب غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيتُ، نفسي! نفسي! نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا، فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدًا شكورًا، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما بلغنا؟ ألا تشفعُ لنا إلى ربك؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتُ بها على قومي، نفسي! نفسي! نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم، أنت نبي الله، وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربّك، أما ترى

إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كنت كذبت ثلاث كذبات .. فذكرها أبو حيان يحيى بن سعيد في الحديث، نفسي! نفسي! نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، فضلك الله برسالاته وبكلامه إلى الناس، اشفع لنا إلى ربك، أما ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسًا لم اُومرْ بقتلها، نفسي! نفسي! نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا على عيسى، فيأتون عيسى: فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، (107/ب)، وكلمت الناس في المهد، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى: إن ربي قد غضبَ اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبًا، نفسي! نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيأتون محمدًا. وفي رواية محمد بن بشير: فيأتون فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلي ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلقُ، فآتي تحت العرش، فأقع ساجدًا لربي، ثم يفتح الله علي من محامده؛ وحسن الثناء عليه، شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا

محمد، ارفع رأسك، سلْ تعطه، واشفع تُشفع، فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده، وإن من ما بين المصراعين من مصاريع الجنة، كما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصري. وفي كتاب البخاري: كما بين مكة وحمير). وفي رواية: (وُضِعتْ بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قصعة من ثريد ولحم، فتناول الذراع، وكانت أحبَّ الشاة إليه، فنهس نهسة، فقال: أنا سيد الناس يوم القيامة، ثم نهس أخرى، فقال: أنا سيد الناس يوم القيامة، فلما رأى أصحابه لا يسألونه قال: ألا تقولون: كيْفَهْ؟ قالوا: كيْفه هو يا رسول الله؟ قال: يقوم الناس لرب العالمين ...). فساق الحديث بمعنى ما تقدَّم، وزاد في قصة إبراهيم وذكر قوله في الكوكب: هذا ربي، وقوله لآلهتهم: بل فعله كبيرهم (108/ أ) هذا. وقوله: إني سقيم، وقال: (والذي نفس محمد بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة إلى عضادتي الباب، لكما بين مكة وهجر، أو هجر ومكة)، لا أدري أيَّ ذلك قال؟). وفي رواية عن أبي هريرة وعن حذيفة قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يجمع الله تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا، استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم؟ لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى ابني إبراهيم

خليل الله، قال: فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك، إنما كنت خليلًا من وراءَ وراءَ، اعمدوا إلى موسى الذي كلمه الله تكليمًا. فيأتون موسى، فيقول: لست بصاحب ذلك، اذهبوا على عيسى، كلمة الله وروحه فيقول: لست بصاحب ذلك، فيأتون محمدًا فيقوم فيؤذّن له، وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالًا، فيمر أولكم كالبرق. قال: قلت: بأبي وأمي، أي شيء كمر البرق؟، قال: ألمْ تروا إلى البرق، كيف يَمُرُّ ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وشدّ الرِّحال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط، يقول: رب سلّم سلّم حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفًا. قال: وفي حافتي الصراط كلاليبُ معلقة مأمورة، تأخذ من أمرت به؛ فمخدوش ناج، ومكدوس في النار، والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعون خريفًا) [. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه الذراع، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - (108/ ب) لم يتوخ من كل حال إلا الأصلح والأصوب، وذلك أن

الذراع أصلح مضغة في الشاة وأقلها فضولًا، من حيث إنها أكثر أعضائها حركة، فلذلك تتحلل فضلاتها فتكون أحمد أعضائها غذاءً، فيسرع هضمها، وتكون على البدن فيما تحلل منه أعجل أعضاء الحيوان إخلاقًا. * ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - نهس الذراع نهسًا، وذلك أجود للهضم، وأبعث للقوة الطاعمة. * وفيه من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أجاب الدعوة، وأكل الذراع ناهسًا منها، أخبر بشرف مقامه ليعلم أن التواضع لا ينافي شرف المقام بل يلائمه. * فأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنا سيد الناس يوم القيامة)، فإنه يعني به - صلى الله عليه وسلم -: أنا سيد السادات، وكبير الكبراء، وكريم الكرماء؛ حيث تجمع السادات من الأنبياء كلهم، فأكون حينئذٍ سيد الناس ذلك اليوم، الذي يعقب كل سيادة ولا يعقبه ما ينقضه. * فأما قوله: (هل تدرون: ممَّ ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد)، والصعيد: الأرض المستوية. * (يبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي)، ومعنى ذلك أن الصعيد يمتد من غير شرف يرد الطرف، ولا جبل يحول دون المرأى، فيكون بصر كل إنسان ذلك اليوم حديدًا؛ ليبلغ بصر كل واحد من أهل الموقف إلى كل أحد من أهل الموقف على كثرتهم حتى إن الواحد منهم لينظر من الأشكال مقدار البيضة، وبينه وبينها كما بين المشرق والمغرب، وذلك ليشاهد كل واحد من الجمع

عظمة الله تعالى، وكثرة من يقف في العرصة؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يبصرهم (109/ أ) الناظر، ويسمعهم الداعي)، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: (تدنو منهم الشمس)؛ يعني تقرب، وقد يرون قربها، فإذا ارتفعت في طول أيام الصيف، وأنها على دنوها بينها وبين الأرض ألوف الفراسخ، كيف يكون حرها؟! فبماذا يوصف دنوها يوم القيامة، حتى تكون عند رؤوس الناس، على كثرة ذلك الزحام، وتصاعد الأنفاس الحرار. ثم يطول المكث انتظارًا يستراح منه إلى دخول النار، حتى يأتون آدم - صلى الله عليه وسلم -، فيعتذر إليهم بشدة غضب الله سبحانه في ذلك اليوم لقوله: إن ربي غضب غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله. وهذا فلا أراه إلا عن علم قد كان عنده منه، وعند الأنبياء كلهم حتى قالوه. ولا أراه إلا من حيث إن الله تعالى لما أمهل الخلائق، وأخر انتصار المظلوم مع تكرار استصراخه به سبحانه، وأمهل الكافر مع جحده الحق وغمطه الصواب، وإرجائه سبحانه أهل النفاق على ما يسد الصبر عند كل محق، يتراخى استطالة الباطل عليه، فكان لاشتداد غضبه في ذلك اليوم بمقتضى طول إمهاله، وتضاعف سخطه بحسب اندفاع أخذه، حتى ظن الكافرون أنهم مهملون أو مغفول عنهم. قال الله عز وجل: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} الآية. * وأما قول آدم نهائي عن الشجرة فعصيت؛ فإن هذا القول ليس من آدم دالًّا على ارتياب؛ بأن الله تاب عليه من ذلك الذنب، فإن الله تعالى قرأ طه ويس

قبل أن يخلق الخلق. وفي طه ذكر التوبة على آدم وهو قوله: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ (109/ ب) فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}، إنما رأى أن غفران الذنب إقالة عثرة وليس بارتفاع درجة، فكأنه قال: أنا وإن كان قد غفر ذنبي؛ فإنه لا يحسن بي أن أتهجم بالشفاعة في حق البُراء من الأنبياء والمرسلين؛ لأن من آداب الشفيع ألا يشفع فيمن يعلم أنه أوجه عند المشفوع إليه. * وقوله: (نفسي نفسي)، لا أراه إلا نهيًا لهم عن التزكية التي ذكروها، من أنه خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته؛ يعني - صلى الله عليه وسلم - أن النفس عند التزكية، لا يؤمن عليها نزق، فنهاهم عن ذلك بقوله: (نفسي، نفسي). فأما تكرير قوله: (نفسي، نفسي، نفسي)، فإنه كرره تكريرًا هو أقل الجمع، ولو قيل: إنهم لما زكوه بثلاثة فصول؛ أحدها: خلق الله له بيده، وثانيها: نفخه فيه من روحه، وثالثها: سجود الملائكة. فقال عليه السلام: نفسي، نفسي، نفسي، ثلاث مرات مقابلًا لكل تزكية منها بمرة من المرات الثلاث كان وجهًا. * وقوله: (اذهبوا إلى نوح، فيقول نوح: إني قد كانت لي دعوة، دعوت بها على قومي)، فليس يعني بهذا أن ذلك كان ذنبًا مني، ولكن هو من معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن لكل نبي دعوة)، فقال نوح عليه السلام: إني دعوتي التي كانت وحكمت في أن أجاب إليها، دعوت بها على قومي، فلم يبق لي دعوة أخرى أعرضها في مثل ذلك. وقول نوح: (نفسي، نفسي، نفسي)، فإنه لما قدمنا ذكره من مخافة

التزكية وتكريره لذلك؛ فلأنه أتى بعدد هو أول الجمع، ولعله اقتدى في ذلك بأبيه آدم حيث كرر قوله: نفسي، نفسي، نفسي ثلاثًا مقابلًا بها فصول التزكية الثلاثة؛ لأن ذلك مما خبأه الله (110/ أ) لنبينا - صلى الله عليه وسلم -. * وقول إبراهيم واعتذاره؛ لأنه قال قولًا يشبه الكذب، ولا أرى أنه رأى ذلك نقصًا في حالة الأمن؛ حيث أتى بقول ظاهره يُرضي به العدو، له فيه مخرج، فلام نفسه كيف لم يقل الحق صادعًا به على نطق لا يحتمل تأويلًا حتى يرغم الكفار لأنهم لا يرون لجهلهم أنه قال قولًا يحتمل أن يطعن عليه بالاستحالة، وإن كان له وجه لقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}. ويعني بذلك أنهم لما قالوا: أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ أخرج إليهم الجواب في مخرج فقال: ({بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} فسلوهم على معنى التبكيت لهم، والاستهزاء منهم؛ أي نعم فعلته، وإلا فمن يفعله كبيرهم هذا؟ وهذا فإن فهمه منهم آحاد بقي الباقون في غمار أنه قال قولًا لم يكن كما قال، فيغلط سوء ظنونهم فيه، فاعتذر من ذلك، ورأى أنها كذبة من حيث الحال، وكذلك لما قال للملك: (هذه أختي) عن زوجته، وهي أخته في الإسلام كما قال إلا إنه من حيث إنه عرضها لأن يلتمس نكاحها الفاجر، اعتذر من ذلك وسماه كذبًا في الحال. وقوله لما رأى الكوكب: (إني سقيم)، فالذي أراه أنه أراد إني سقيم في المستقبل أي سأسقم، كما قال سبحانه لنبيه {إِنَّكَ مَيِّتٌ} وخاطبه بذلك في حال حياته أي: سيموت إلا إنه من حيث إن جهالهم يرون ذلك كذبًا، رآه إبراهيم عليه السلام في حاله نقصًا يغاد خجلًا منه، وهذا مما يدلك على أن يوم

القيامة تصفو فيه الأذهان، ويعظم فيه من كل أحد التحرير حتى الأنبياء، ولم يكن (110/ ب) لإبراهيم صلوات الله عليه وآدم ونوح لما استعملوا التحرير وجودوا التفتيش إلا هذا القدر، فكيف بمن لعله في كل يوم يحصى عليه الألوف من الذنوب؟! وقوله: (نفسي، نفسي، نفسي)، فيه المعنى الذي قدمنا ذكره في نوح؛ لأن الإنسان في القيامة في موقف حذر، ولا يأمن حتى يدخل الجنة. * وأما قول موسى عليه السلام: (إني قتلت نفسًا لم أومر بقتلها)، فإنه إنما قتل نفسًا كافرة مباح قتلها، ولكن إنما أخطأ من حيث إنه لم يكن تقدم له إذن في ذلك من الله عز وجل، وقد أخبرنا الله سبحانه أنه تعالى غفر له ذلك، وأن موسى علم أن الله غفر له، وإنما تفكر موسى عليه السلام فوجد أن المهيج لقتل النفس التي قتلها، كان من العصبية لقومه، والله عز وجل قد غفر له قتل النفس، إلا أنه بقي معه خجل أن يكون إنما أثار ما أثار منه حتى قتلها، العصبية لقومه لا الغيرة لله، وقوله: (نفسي، نفسي، نفسي) على نحو ما تقدم. * فأما كون عيسى عليه السلام لم يذكر ذنبًا، فإنه قال: (نفسي، نفسي)، مرتين، وكلهم قالها ثلاثًا، فلا أراه إلا لقربه من صاحب البحر، وكونه لم يبق بينه وبينه أحد، فلم يكن يحسن أن يذكر ذنبًا يشير إلى السائلين بأن هذا الذنب منعني من السؤال، وهو يعلم أن الوجيه صاحب الأمر مصدق المرسلين كلهم، لم يبق بينه وبينه أحد، بل أشار لهم إليه، ودلهم عليه، فلم يذكر ذنبًا، وحتى اختصر في قوله: (نفسي، نفسي) مرتين من ثلاث حتى يسرع بإرشادهم إلى صاحب المسألة لأنه - صلى الله عليه وسلم - صدق المرسلين كلهم.

* فأما قول كل واد منهم: اذهبوا (111/ أ) إلى غيري، اذهبوا على فلان، فإن ذلك مشير من كل منهم إلى أنه كان على طرف لسانه ذكر محمد - صلى الله عليه وسلم -، على علم منهم كلهم أنه صاحب الأمر، لكن لم يحسن بالواحد منهم عليه السلام أن يرشد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبينه وبينه عدد من الأنبياء، فيكون هضمًا منه لمنازلهم، وليكون أيضًا كل المرسلين دالًّا عليه، ومرشدًا إليه، فيتعين الأمر له - صلى الله عليه وسلم - باعتراف أماثل الأنبياء له وإشارتهم إليه. * وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فأنطلق فآتي تحت العرش)، وعرصة القيامة تحت العرش، ولكن أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يمشي لأجل الشفاعة، ويسعى في فكاك أهل الجمع إلى حيث يخر ساجدًا لله تعالى، ثم قال: (فيفتح) الله علي من محامده، وحسن الثناء عليه، شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي). وهذا يدل على أن الله تعالى يعلم من محامده في ذلك الوقت ما يخصه به، مما لم يكن قد عرفه نبي قبله. * وقوله: (يا محمد، ارفع رأسك)، وهذا مما يدل على أن أحسن ما قدم ين يدي الشفاعة من المحامد، والتعريض، ما يحبه المشفوع حتى يأذن في السؤال ليعطى الشفاعة، ويشفع. * وقوله: (ارفع رأسك)؛ يعني من السجود. وقوله: (فأقول أمتي يا رب)، ثلاث مرات، وهو - صلى الله عليه وسلم - إنما جاء شافعًا لأهل الجمع حتى الأنبياء، فكيف لم يذكر إلا أمته، وكرر السؤال فيهم ثلاثًا، فالظاهر من هذا أن الراوي للحديث قد يرويه مرة مختصرًا، علمًا بأنه قد سمع منه ما كان اختصره، ثم يكون السامع له ممن لا يستجيز أن يزيد فيه، ولا أن ينقص منه (111/ ب) فيروي منه ما سمع، فيأتي على مثل هذا، فيجوز أن

يكون تمام الحديث إذا أعوزه معنى مما قد أخل به الراوي، إلا إن هذا الحديث ها هنا يدل على أن قوله: (أمتي، أمتي، أمتي)؛ أي إنك وعدتني أن أمتي يكونون أول الناس حسابًا، وأنهم المقضي لهم قبل الخلائق كما تقدم، فأراد عليه السلام أن يعلم ربه أنه غير مرتاب بوعد وعده إياه، وأنه واثق بما وعده من ذلك، فأراد: يا رب اقض الحساب على الحال التي وعدتني من أنك تقضي بين أمتي أول الخلائق ثم يتبعهم الناس، فيكون كأنه سأل في الخلق كلهم. * فأما قول الله عز وجل: (أدخل من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة)، قد أفرد لكل من لا حساب عليهم من أمتك، وإنهم شركاء الناس في باقي الأبواب. * وقوله: (إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة، كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وحمير)، وتلك المواضع كلها متقاربة في البعد، فهذا مما يدل على عظم سعة ما بين المصراعين من مصاريع الجنة. * وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنا سيد الناس يوم القيامة، ثم إنه لما رأى أصحابه لا يسألونه عن ذلك، بعثهم على سؤاله بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا تقولون: كيفه؟، وهذه الهاء في كيفه هاء السكت. قد سبق شرح هذا الحديث حديث الشفاعة في حديث أنس وغيره. -2060 - الحديث الثاني والعشرون بعد المائتين: ] عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا بارزًا للناس، فأتاه رجل

فقال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتابه، ولقائه، ورسله، وتؤمن (112/ أ) بالبعث الآخر)، قال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: (الإسلام أن تعبُدَ الله، لا تشرك به شيئًا، وتُقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان)، قال: يا رسول الله، ما الإحسان؟ قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك إلا تراه فإنه يراك). قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل؛ ولكن سأحدِّثُك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربها، فذاك من أشراطها، في خمس لا يعلمهن كثير من الناس، وإذا تطاول رِعاءُ البهم في البنيان، فذاك من أشراطها، في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}). قال: ثم أدبر الرجل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (رُدُّوا عليَّ الرَّجل)، فأخذوا ليردُّوه فلم يروا شيئًا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هذا جبريل عليه السلام، جاء ليعلم الناس دينهم). وفي رواية: (إذا ولدت الأمة بعلها) يعني السراري. وفي رواية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (سلوني) فهابُوهُ أن يسألوه، فجاء رجل، فجلس عند ركبتيه، فقال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ ثم ذكر نحو ما في الذي قبله من السؤال وزاد أنه قال له في آخر كل سؤال منها: صدقت.

وقال في الإحسان: (أن تخشى الله كأنك تراه)، ثم اقتص الحديث إلى آخره، قال: ثم قام الرجل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ردوه علي) فالتمس (112/ ب) فلم يجدوه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هذا جبريل أراد أن تعلموا، إذا لم تسألوا). قال البخاري: جعل ذلك كله من الإيمان). * هذا الحديث قد سبق في مسند عمر رضي الله عنه، وفي مسند ابن عمر رضي الله عنه، وتكلمنا عليه. -2061 - الحديث الثالث والعشرون بعد المائتين: ] عن أبي هريرة أن أعرابيًّا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة. فقال: (تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان)، قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئًا، ولا أنقص منه، فلما ولي قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذ [). * هذا الحديث قد سبق في مواضع، وتكلمنا عليه.

-2062 - الحديث الرابع والعشرون بعد المائتين: ] عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، فذكر الغلُولَ، فعظّمه وعظَّم أمره ثم قال: (لا ألفِينَّ أحدكم يجيءُ يوم القيامة، على رقبته بعيرٌ له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاء، يقول: يا رسولا لله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته (113/ أ) نفسٌ لها صياح، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخْفقُ، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك. لا ألفينَّ أحدكم يجيءُ يوم القيامة على رقبته صامتٌ، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول لا أملك لك شيئًا، قد أبلغت)]. * هذا الحديث يدل على تشديد في الغلول، قد سبق في مواضع ذكر الوعيد على ذلك.

والرغاء: صوت البعير. والحمحمة: صوت الفرس. والثغاء: صوت الشاة. وأما الرقاع التي تخفق: فلا أراها إلا ما يكون من الذنوب في ذمة الإنسان، وما يكسبه بخطه مما لا يحل. والصامت من المال: الذهب والفضة. -2063 - الحديث الخامس والعشرون بعد المائتين: ] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يُهلك الناس هذا الحي من قريش). قالوا: فما تأمرنا؟ قال: (لو أن الناس اعتزلوهم؟). *وفي رواية: (هلاك امتي علي يدي أغيلمة من قريش) فقال مروان: علمه. قال أبو هريرة: إن شئت بني فلان وبني فلا)] * ما أرى هذا الحديث ينصرف غلا إلى من أثار الفتن من أحداث بني أمية ويدل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أغيلمة من قريش؛ أي تجمعهم قريش، فيخلص

بنو هاشم، وبنو العباس، وبنو عبد المطلب من هذا. -2064 - الحديث السادس والعشرون بعد المائتين: ] عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (113/ ب): (إن أول زمرة يدخلون الجنة: على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دُرِّيٌّ في السماء إضاءة، لا يبولون، ولا يتغوَّطون، ولا يتْفُلون، ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة -الألنجوح عُود الطيب- أزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعًا في السماء). وفي رواية: (إن أول زمرة تلج الجنة على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوّطون، آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوّة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يُرى مُخُّ سوقهما من وراء اللحم من الحُسْن، لا اختلاف بينهم، ولا تباغُض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشيًّا). وفي رواية: (أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر)، ثم ذكر نحو حديث همام، وفيه: (قوبهم على قلب رجل واحد، وفيه: (لا يسقمون، ولا يمتخطون) وفي آخره: (ووقود مجامرهم الألوة) قال أبو اليمان: يعني العود. وفي رواية: (أول زمرة تدخل الجنة: على صورة القمر ليلة البدر، والذين على آثارهم كأحسن كوكب دريّ في السماء إضاءة، قلوبهم على

قلب واحد، لا تباض بينهم، ولا تحاسد، لكل امرئ زوجتان من الحور العين، يُرى مُخّ سوقهن من وراء العظم واللحم). وفي رواية لمسلم: (أول زمرة تدخل الجنة من أمتي، على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشدّ نجم في السماء إضاءة، ثم هم بعد ذلك منازل)، قال ابن أبي شيبة (114/ أ): (على خُلُقِ رجل). وقال أبو كريب: (على خلْقِ رجل). وفي رواية: إما تفاخروا، وإما تذاكروا: الرجالُ أكثر في الجنة أم النساء؟ فقال أبو هريرة: أوَلم يقل أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: (إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضوأ كوكب دريّ في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان، يرى مُخُّ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة عزب؟). وفي رواية: اختصم الرجال والنساء: أيهم في الجنة أكثر؟ فسألوا أبو هريرة، فقال قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: ... وذكر مثل ذلك)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن أكثر المؤمنين نورًا؛ أولهم دخولًا الجنة، وأن أهل الجنة على كون الجنة تجمعهم؛ فإنهم ليسوا سواء في دخولها، فإن

منازلهم على حسب منازلهم، والذين يكونون على صورة القمر ليلة البدر، ينتشر نورهم حتى يضيء لهم ولغيرهم، ومعنى تشبيههم بنور القمر؛ لأنه نور لا ضرر فيه، ولا وهج. * ثم قال في حق الذين يلونهم، (على أشد كوكب دري في السماء)، يعني - صلى الله عليه وسلم - أن الذي بقي بعد القمر، يمكن التمثيل به؛ هو أشد كوكب إضاءة. * وقوله: (لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يمتخطون)؛ فلذلك لأن أغذيتهم ما لا تفل له، وإنا هي جواهر كلها، ويعدون منها بحسب ما يستلذون، فإن أبدانهم حينئذٍ معمورة عمارة لا تقبل الانهدام، وإنما يأكلون الطيبات تلذذًا وتنعمًا، لا حاجة ولا تقوتًا. * وقوله: (إن أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك) أي: يطيبهم رشحهم. * وقوله: (على خلق رجل واحد) يعني: أن طولهم (114/ ب) في الهواء ستون ذراعًا، وذلك أن كلما عظم البدن، وازدادت بسطته، زاد التمتع به، وزادت القوى على اللذات. فأما اختلاف الرواة في أنهم على خَلْقِ رجل واحد، فمن روى على خَلْق رجل واحد بمعناه أنهم مستوون في حسن الصورة، بحيث لا يرى أحد منهم أن غيره أحسن منه، وأما من روى على خُلُق رجل واحد، فيدل على أن أغراضهم متحدة، فلا يريد واحد منهم ما يكره منه الآخر، فلا يجري أبدًا ليهم ولا بينهم نزاع، ولا يحدث عنهم خلاف. * والحور: البيض، والعِين: الملاح الأعين، وقيل: كبار الأعين حسانها. * وقال: (ومجامرهم الألوة). قال: أبو عبيد: الألوة: العود الذي يتبخر به، فارسية معربة، ومنه الحديث: كان ابن عمر يستجمر بالألوة غير مطراة،

وفيه لغتان: ألوّة، وألوة. * وقوله: (لكل منهم زوجتان)، يعني - صلى الله عليه وسلم - بذلك نفي الغيرة، فإن الزوجتين مظنة شدة الغيرة؛ بخلاف الثلاث والأربع فأراد إنهما لا يتخاصمان ولا يتغايران. * وقوله: (يرى مخ سوقهما من وراء اللحم) أي: عظامهما لا يواريان مخ سوقهما من صفاتهما. * وقوله: (لا تحاسد بينهم)، يعني أن الله تعالى نزع الغل من قلوبهم وصدورهم، وفي تفسير هذا معنيان: أحدهما: أن يكون المراد بنزع الغل، إزالته من القلب. والثاني: نزع موجباته، وأن الجنة لا تبقي لمن يدخلها أمنية إلا ويبلغها ويزاد عليها ثم تنقطع الأماني، والرفد عنهم لا ينقطع، من حالتهم هذه لا يتصور فيما بينهم التحاسد. * وقوله: (يسبحون الله بكرة وعشيًّا)، يجوز أن يكون الإشارة بهذا التسبيح إلى أنه في الجنة، فكلما تجددت له نعمة من النعم سبحوا، وقد نطق القرآن بآيتين: رزقهم فيها بكرة (115/ أ) وعشيًّا، ويجوز أن تكن الإشارة إلى الدنيا فيكون هذا وصفًا كما كانوا عليه من تسبيحهم بالغداة والعشي. * وقوله: (ولا يسقمون)، فإن الله تعالى كتب لهم المن والسلامة من كل مخوف كان في الدنيا: من هم، وسقم، وأذى، ونصّب، وفقر، وموت. * وقوله: (لكل واحد منهم زوجتان)؛ يعني من الحور العين، فأما نساء

الدنيا في الجنة فقليل، بدليل بقية الأحاديث، وقد ذكرنا مصداق هذا في مسند عمران بن حصين وغيره. -2065 - الحديث السابع والعشرون بعد المائتين: ] عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أبوك). وفي رواية: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن الصحبة قال: أمك ثم أمك ثم أباك ثم أدناك، أدناك [ * في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالقسط، وندب إلى العدل، فإن الآدمي تتكلف له أمه من حملها إياه في حشاها حالًا يضرب بها الأمثال في العمرة لمكان الذي تشفق عليه، ثم إنه يأخذ من غذائها الذي يتجاوز حلقها، فتغذيه من دمها ولحمها، فإذا وضعته كان غذاؤه من ثدييها؛ بأن أحال الله ذلك الدم الذي كانت تغذوه به في حشاها إلى ثدييها، تغذيه منهما لبنًا خالصًا سائغًا، ثم إنها جعلت فخذاها له مهادًا، ولبنها زادًا، وحملته وهنًا على وهن، وكرهًا

على كره، إلا أنها على ما قاست منه في كل ذلك لم يشنه ذلك عندها، ولا أثر عظم أذاه في نفسها، بحيث يحملها ذلك على أن تشنأه أو تبغضه، بل كانت تتجرع أذاه محبة له، وتصبر على تجرمه وتعنته (115/ ب) مستلذة لطول صحبته، تود أن لو فدته بنفسها، فهذا هو الخوف بالغ، وإن كان قد جبل عليه طبعها، فإنه قد وصل إلى هذا المحسن إليه نفعه، فكان من جزاء الإحسان، أن يكون فاضلًا لها في المجازاة إذا أحسنت إليه في حال ضعفه، وكان جزاؤه لها في حال قوته، إلا إنها لما قصرت قدرته عن أن يفضل عليها في الجزاء، فقد كان ينبغي أن يجازيها بغاية الوسع الذي لا تنتهي قدرته إلى غيره، فإذا غفل عن هذا كله ونسي إحسانها القديم إليه، وأراد أن يكون من الكافرين بحاله لأول المحسنين بعد الله إليه، فليس يرجى من مثل هذا خير إذن، إلا أن يكون قد كان غافلًا ناسيًا مشدوهًا عن تفقدها؛ فإنه يتعين عليه أن يتدارك ذلك. * فقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما قال له الرجل من أحق الناس بصحابتي؟ قال: (أمك ثم أمك ثم أمك)، ثلاثًا يعني به - صلى الله عليه وسلم - فيما أرى أن لها الحق الأول؛ حيث كنت حملًا في حشاها، ولها الحق الثاني؛ حيث كنت رضيعًا في حجرها، ولها الحق الثالث؛ حيث كنت صغيرًا في كتفها. فهذه حقوق ثلاثة، ثم قال له في الرابعة: (ثم أباك)، يعنيك إن أباك وضعك شهوة، وأنفق عليك من مال الله، الذي أوجب عليه إنفاقه، فإنه حق عظيم إلا أن الأم تفضله بما ذكرناه؛ فلهذا وصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأمهات. * وقوله بعد ذلك: (ثم أدناك، أدناك)، يعني - صلى الله عليه وسلم - أن برك وصلتك ينبغي أن ترتبها على نحو ما رتبها الله في الميراث، فإنه سبحانه لم يورث إلا الأدنى

فالأدنى، فأراد عليه السلام أن يكون العبد متابعًا في بره في الدنيا القرابة الأدنى فالأدنى على حسب المواريث بعد موته، فكان هذا من أحسن الكلام وأشرقه كفاية وإقناعًا. -2066 - الحديث الثامن والعشرون (116/ أ) بعد المائتين: ] عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (انتدب الله -ولمسلم في حديث جرير عن عمارة- تضمَّن الله لمن خرج في سبيله- لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسولي -فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلًا ما نال من أجر أو غنيمة). وفي رواية: (تكفل الله لمن جاهد في سبيله -لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلماته- أن يدخله الجنة، أو يرُدّه إلى مسكنه بما نال من أجر أو غنيمة). وفي رواية: (مثلُ المجاهد في سبيل الله -والله أعلم بمن يجاهد في سبيله- كمثل الصائم القائم وتوكَّل الله للمجاهد في سبيله، بأن يتوفاه: أن يُدخله الجنة، أو يرْجعه إلى بيته سالمًا مع أجر وغنيمة). وفي رواية: (تضمَّن الله لمن خرج في سبيله ..)].

* في هذا الحديث سوى ما تقدم ذكره، أن قوله: (انتدب في سبيله)، بمعنى أجاب، يقال: ندبت فلانًا للجهاد فانتدب؛ أي أجاب، ويجوز أن يكون بمعنى تضمن، وتكفل، وتوكل؛ لأن هذا النطق يشمل الكفالة والضمان، فلم يبق لهذا المعنى اسم فيما أعلم سوى هذه الألفاظ، ليكون الناهض في سبيل الله، قد كفل له، وانتدب وضمن، وتوكل. * وقوله: (فهو ضامن علي)، فيه وجهان: أحدهما: أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ضمن ما ضمن علي؛ فإني أفي بما ضمنه علي نبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - والوجه الثاني: فهو علي، وأنا ضامن له. * وقوله: (أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه)؛ وذلك أن الغازي قد يأتي مرة بغير غنيمة من الدنيا؛ فيكون له الأجر فحسب ويأتي مرة بأجر وغنيمة. * وقوله: (لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي)؛ يعني أنه لا يكون خروجه لعداوة قوم، ولا ليذكر، ولا ليكسب. * وقوله: (أن أدخله الجنة)، مبتدئًا بذلك على ذكر الأجر والغنيمة؛ لأن دخول الجنة كان (116/ ب) عن تفصيل؛ لأنها جملة تتضمنها تفاصيل كثيرة. * وأما قوله: (مثل المجاهد في سبيل الله؛ كمثل الصائم القائم)، فهذا لا يدل

على أن الصيام والجهاد أفضل من الجهاد في سبيل الله حتى يقاس عليه، وينضاف إليه؛ لكن على أن المجاهد في سبيل الله له أجر الجهاد؛ كأجر الصائم القائم مضافًا إلى فضيلة الجهاد. * وقوله: (والله أعلم بمن يجاهد في سبيله)؛ يعني أنه سبحانه مطلع على نيات عباده، عالم بمن يجاهد في سبيله أو سبيل غيره. -2067 - الحديث التاسع والعشرون بعد المائتين: ] عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من مكلوم يكلَم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي، اللون لون دم، والريح ريح مسك). وفي رواية: (كل كلم يكلمه المسلم في سبيل الله يكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت, تفجر دما, اللون لون دم, والعرف عرف المسك) وفي رواية: (لا يكلم أحد في سبيل الله -والله أعلم بمن يكلم في سبيله- إلا جاء يوم القيامة، واللون لون دم، والريح ريح المسك). * في هذا الحديث من الفقه أن الله سبحانه وتعالى من كرامة المجاهد عنده، أنه إذا كلم أو أصابه أثر لم يزل ذلك الأثر عن هيئته، حتى يكون ذلك الكلم

والأثر، شاهدان له في ذلك الملأ الكريم، فهو أحسن من الحليّ على العروس، وكلما كان منه شيء في وجهه أو صدره، تهلل له وجه الغازي يومئذٍ، وود أن لا يغطي، ومعاذ الله، أن يكون شيء من ذلك في ظهره؛ فإنه يخجله، ويود لو أنه لم يَبْدُ. - وأما قوله: (وريحه ريح المسك)؛ فإنه يدل على أن كل من يبلغه ريحه بقرب منه، ويدنو إليه، فأرى أن رسول الله (117/ أ) - صلى الله عليه وسلم - ذكر هذا للغزاة ليكونوا على حذر من أن يردوا يوم القيامة، ومن جراحهم شيء في غير وجوههم وصدورهم. والكلم: الجرح. والعرف: الرائحة. -2068 - الحديث الثلاثون بعد المائتين: ] عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كبَّر في الصلاة، سكتَ هُنية قبل أن يقرأ، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أرأيتَ سُكوتكَ بين التكبير والقراءة، ما تقول؟ قال: (أقول: اللهم نقني من خطاياي، كما يُنَقَّى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء البارد) [. * في هذا الحديث أن الإمام يمسك عن الجهر بالقراءة هنية؛ ليقرأ فيها المأمومون فاتحة الكتاب، وكما أنهم يقرؤون فاتحة الكتاب، فيستحب للإمام ألا يكون وقوفه سكوتًا بغير ذكر؛ بل يذكر الله سبحانه في سكوته سرًّا في

نفسه، ليستوفي المأمومون القراءة، ويكون هو أيضًا قد سأل سؤالًا يلائم حاله، فإنه شفيع لمن وراءه، كما سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا بأن قال: (اللهم نقني من خطاياي)، فأراد عليه السلام أن يبدأ بالسؤال أن ينقيه الله من خطاياه قبل الشروع في الصلاة؛ ليكون ذلك قدوة لمن صلى بقوم، وهو ممن يجوز عليه الخطايا؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس فيه دنس، وقد قال: (نقني كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) أي: احمني أن أتدنس. - وقوله: (اغسلني من خطاياي بالماء البارد والثلج)، معناه أنه سأل أن ينقيه الله من ذنوبه ويغسله منها مع العافية لا البلاء ومع المعافاة لا مع الأمراض. -2069 - (117/ ب) / الحديث الحادي والثلاثون بعد المائتين: ] عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: (أن تصدَّقَ؛ وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تخشى الفقر، وتأمل الغنى). وفي حديث ابن فُضيل: (وتأمل البقاء، ولا تُمْهِلُ حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، وقد كان لفلان)، وفي أول حديث ابن فضيل: (أما وأبيك لتُنَبَّأَنَّه: أنْ تصدق وأنت صحيح شحيح). وفي أول حديث أبي كامل الجحدري: أيُّ الصدقة أفضل؟ [.

* في هذا الحديث أن الله سبحانه وتعالى كان قادرًا على أن يغني الخلق فلا يجد أ، حد مصرفًا لصدقته، إلا أن ذلك كان يعود ضارًّا للخلق من وجوه: منها أنهم كانوا لاستغنائهم كلهم؛ لأنه لم يكن أحد منهم يحتاج إلى أن يعمل غيره شغلًا؛ فكان من يريد حاجة من دواء في بلد ناءٍ بعيد أو حاجات دواء في بلاد نائية بعيدة يحتاج أن ينهد بنفسه إلى ذلك البلد، فيأتي بتلك الحوائج منفقًا على كل حاجة منها أضعاف ثمنها، وعلى هذا في الصناعات والحرف والمهن وغير ذلك، فكان يفتقر الكل، ويضطرب التدبير، وإنما كانت حكمة الله سبحانه أبلغ، وتقديره أنفع، أن عمم الفقر في الكل حتى استغنى الكل، وفي هذا أقول: جسوم لا يلائمها البقاء .... وأجزاء تخللها الثواء وكون الشيء لا ينفك يعني .... بذلك أن غايته الفناء نكب على التكاثر وهو فقر .... وتعجبنا السلامة وهي داء ونجزع للشدائد وهي نصح .... وتلهينا وقد عز الرجاء (118/ أ) تنافى الناس فانتفوا اضطرارًا .... وقد يرجى من الداء الدواء وعم الفقر فاستغنوا ولولا .... عموم الفقر ما عم الغناء * وكان معنى الصدقة أن الله تعالى وضعها ليبلو بعضنا ببعض، وينظر كيف نعمل فيما حولنا، فاقتضى هذا ألا تسمى الصدقة صدقة إلا أن يتصدق بها المتصدق، وهو صحيح شحيح يخشى الفقر، ويأمل البقاء أو الغنى؛ لأنه في ذلك على هذا المعنى تصح البلوى، ويستقيم الأصل، فأما إذا بلغت الحلقوم،

ويئس من الحياة، وعلم أنه خارج عما هو فيه ينتقل إلى غيره، قال حينئذٍ: لفلان كذا, ولفلان كذا، فإنه إنما جاد حينئذٍ بما ليس له، وأخرج ما تيقن خروجه من يده. * فأما قوله: (أن تصدق وأنت صحيح)، فإن المرض منذر بالموت. وقوله: (وأنت شحيح)؛ يعني - صلى الله عليه وسلم - أن كل نفس على الإطلاق لا يزايلها شح، فإذا عصى شحه ذلك مجاهدًا لنفسه، كان محسوبًا في جملة المجاهدين في سبيل الله. * وأما قوله: (تأمل البقاء)؛ يعني أنه إذا كان على أمل من البقاء؛ فإن الصدقة تحسب له على ما وعده الله بها؛ لأنها لم تخرج ممن يئس من الحياة. * وأما قوله: (تأمل الغنى) في الرواية الأخرى، فإن الذي أراه أن الذي يأمل الغنى يكون أشد من الغني في الجمع والاحتشاد؛ فإذا عاصي هواه، وجاهد شرهه وحرصه، وتصدق به، كان له فيه فضل آخر إن شاء الله. -2070 - الحديث الثاني والثلاثون بعد المائتين: ] عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم اغفرْ للمحلقين، قالوا: يا رسول الله، والمقصرين؟ قال: اللهم اغفر (118/ ب) للمحلِّقين، قالوا: يا رسول الله، والمقصرين؟ قال: وللمقصرين)]. * قد سبق هذا الحديث في مسند ابن عمر وأنس وغيرهما، وهو طرف

من حديث الحديبية، وسيأتي شرحه في حديث الحديبية إن شاء الله تعالى. * * *

المجلد السابع

-2071 - (2/أ) الحديث الثالث والثلاثون بعد المائتين: [عن أبي هريرة قال: لا أزال أحبُّ بني تميم، بعد ثلاث سمعتهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولها فيهم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (هم أشد أمتي على الدجال)، قال: وجاءت صدقاتهم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هذه صدقات قومنا) قال: وكان سَبيَّةُ منهم عند عائشة رضي الله عنها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أعتقيها؛ فإنها من ولد إسماعيل). وفي رواية: (ثلاث خصال سمعتهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني تميم لا أزال أحبهم بعده: كان على عائشة رضي الله عنها مُحَرَّر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أعتقي من هؤلاء). وجاءت صدقاتُهُم فقال: (هذه صدقات قومي). وقال: (وهم أشد الناس قتالًا في الملاحم) ولم يذكر الدجال)] * في هذا الحديث ما يدل على فضل بني تميم. وهو تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان.

فهم يجتمعون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان؛ لأنه وصفهم بخصال ثلاث: * أما الأولى: فهم أشد الأمة على الدجال، فهذا يدل على شجاعتهم، وثبات إيمانهم في آخر الزمان عند تزلزل إيمان الناس. * والثانية: أنه لما جاءت صدقاتهم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هذه صدقات قومنا)؛ لأنه يجمعه إياهم ما ذكرنا من النسب. * وأما قوله لعائشة في السبية التي كانت عندها منهم: (أعتقيها، فإنها من ولد إسماعيل) فإنه صدق - صلى الله عليه وسلم - لأن عدنان هو أبن أدبن أدد بن اليسع بن الهميسع بن حمل بن النبت بن قيذار بن إسماعيل على اختلاف في ذلك بين أهل النسب، إلا أنهم يجتمعون على أن عدنان من ولد إسماعيل، وإنما يختلفون في عدد الآباء إلى (2/ب) إسماعيل فقط؛ لأنه تكرر في هذا الحديث ذكر النسب، وما يتعلق بعلمه في قوله - صلى الله عليه وسلم - في صدقات بني تميم، هذه صدقات قومنا لما جاءته صدقاتهم. * وقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها في السبية التي كانت عندها منهم: (أعتقيها؛ فإنها من ولد إسماعيل). وقول أبي هريرة: لا أزال أحب بني تميم) أي لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من

قوله: (بعد ثلاث سمعتهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولها فيهم)، ذكر خصلتين من الثلاث في ذكر الصدقات والسَبيَّة وهما متعلقان بالنسب، فإذًا والحال هذه فقد اقتضى ذكر نسب سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ، ذكر أصول القبائل التي تلقاه من قريش وغيرها، ويتصل بنسبة الشريف، وتنفصل؛ ليوقف على ذلك مختصرًا ملخصًا مُوشحًا بنكت لا يليق بذي دين وعلم جهلها، ولا يحسن بمسلم على الإطلاق عدم المعرفة بها، إذ معرفة الطالب بخواص مطلوبه ونسبه، والصاحب بمصحوبة ورغبته في تعرف ذلك وتعريفه دال على صدقه في طلبه وصحبته، وضد ذلك مشيرًا إلى ضده، فكيف بهادي الهداة وإمام الأئمة، وسيد ولد آدم، وخاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -. وبمعرفة ذلك أيضًا تعرف وشائج الإنسان، وتوصل الأرحام، ويقع الميز بين ذي السطة منهم والبعيد، ويتحقق بالشرف منهم: من ولده فهر بن مالك، إذ من لم يلده فهر، فليس من قريش، هذا هو القول المجتمع عليه عند علماء السيرة ومحققي النسابين، أن قريشًا الذين أشار إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير ما حديث في هذا الكتاب الصحيح، مما قد مضى ومما سيأتي: (أنهم ولاة هذا

الأمر وأن الناس أبتاعهم) إلى غير ذلك من ما أبد لهم من ولده: فهر بن مالك، وأنهم قريش دون سائر الناس من بني كنانة بن خزيمة؛ إذ أولئك (3/أ) ممن لم يدله فهر، فلا يقال لهم وإنما ينسب إلى أنه من غير الآباء، هذا قول الأكثرين منهم كالزبير بن بكار وغيره، وأن منتهى من يقع عليه اسم قريش من ولده فهرٌ. وقال آخرون منهم: من لم يلده النضر بن كنانة فليس من قريش، وأن منتهى جماع قريش هو النضر بن كنانة. والقول الأول: أظهر وأكثر، وهذا أعم منه، وإن كان القولان يرجعان إلى قول واحد؛ لأنه ليس بين فهر والنضر إلا مالك، ومالك لم يبق له عقب إلا من فهر فيما أعلم. * فلنذكر الآن أصولًا موجزة من علم النسب مقدمة بين يدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لتكون مقربة للعلم بما يحتاج إليه من ذلك، إذ معرفة القبائل والأنساب لا بد لها من أصل تُردُ إليه، وعلم يهّدى إليه، فنقول والله الموفق: إن العرب على ست طبقات: شعب، وقبيلة، وعمارة، وبطن، وفخد،

وفصيلة، وما بينها من الآباء يعرفها أهلها. قال الله عز وجل: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}، وقال عز وجل: {يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه (11) وصاحبته وأخيه (12) وفصيلته التي تؤويه}. * وفي هذا الكتاب في حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (جعل على كل بطن عقوله). وفي الحديث في تفسير قوله عز وجل: {قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى}. قال: لم يكن بطن من بطون قريش إلا وللنبي - صلى الله عليه وسلم - منهم قرابة. وفي حديث آخر لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين} دعا قومه ففخدهم فخدًا فخدًا.

وقال الأخنس بن شهاب التغلبي: لكل أناس من معد عمارة .... عروض إليها يلجأون وجانب ومثال ما ذكرن من الطبقات الست: أن مضر شعب، وكنانة (3/ب) قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخد، وبني العباس فصيلة، وعلى ذلك فقس. * وإنما سميت الشعوب شعوبًا، لأن القبائل تشعبت منها، وسميت القبائل قبائل؛ لأن العمارة تقابلت عليها، فالشعب تجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطون تجمع الأفخاد، والفخد يجمع الفصائل. * واختلف النسابون بعد إجماعهم على ما وصفنا من قبل؛ لم سميت قرش قريشًا: فقال الزبير عن عمه هو: قريش بن بدر بن يخلد بن النضر، كان دليل بني كنانة في تجارتهم، فكان يقال: (قدمت عير قريش)؛ فسميت قريش به، وأبوه بدر بن يخلد، صاحب بدر، الموضع الذي لقي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشًا،

وذكره الله في القرآن فقال: {ولقد نصركم الله ببدر} الآية. وقال الزبير: وقال غير عمي: إنه هو قريش بن الحارث بن يخلد، وابنه بدر الذي سميت به بدر، وهو احتفرها. وقال الزبير: وقال غير عمي: إنه هو قريش بن الحارث بن يخلد، وابنه بدر الذي سميت به بدر، وهو احتفرها. وقال الزبير: وقد قالوا: إنما قريش هو اسم فهر بن مالك، وإنما فهر لقب كانت أمه تنبزه به؛ كما يسمى الصبي: غرارة وشملة وغير ذلك، وحكى هذا القول عن جماعة من علماء السير منهم: ابن شهاب الزهري، وناهيك به إمامًا وقال الشعبي: إن النضر بن كنانة هو قريش، وإنما سمي قريشًا لأنه كان يقرش عن خُلة الناس وحاجتهم، فيسد ذلك بماله، والتقريش: هو التفتيش، وكان بنوه يقرشون الناس في الموسم عن الحاجة، فيرفدونهم بما يبلغهم، فسموا بذلك من قبلهم، وقرشهم: قريشًا. قال الحارث بن حلزة في بيان القرش أنه التفتيش: أيها الناطق المقرش عنا .... عند عمرو فهل لذاك إبقاء

وهذا فهو أظهر الوجوه فيما أرى. وقد قيل في ذاك غير (4/أ) هذه الأقوال. * وإسماعيل عليه السلام أول من نطق العربية، ألهمه الله عز وجل ذلك إلهامًا، ولم ينطق بها غيره قبله ولم ينطق بلسانه. * ولم يختلف العلماء كافة على أن نزارًا بأسرها، وهي مضر وربيعة هي الصحيح الصريح من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام. * وأجمع العلماء بالأنساب والأخبار وسائر الخبراء في الأنساب بالأمصار إجماع تواتر، ونقل كافة عن كافة أن نبينا وسيدنا أبا القاسم المصطفى - صلى الله عليه وسلم -:

خيرة الله سبحانه من خلقه، وخلاصته من عباده، وسيد ولد آدم من النبيين والمرسلين والخلق أجمعين من الملائكة المقربين وأهل السموات والأرضين - صلى الله عليه وسلم - تسليمًا هو: * محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلام بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. هذا ما لم يختلف فيه أحد ولم يقع فيه نزاع. وقد نسب نفسه - صلى الله عليه وسلم - كذلك فيما أخبرناه أبو غالب أحمد بن الحسين بن البناء كتابة أن أبا محمد بن الحسن علي المقنعي أنبأهم قال: أخبرنا أبو عمر بن العباس الجزار عن ...... علي الطيب الكوكبي، قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن عمر بن أبي جعد الوراق قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن إسحاق المسيبي قال: علي عن أبي ذؤيب عن أبي الجهم عن عمرو بن العاص أن رجلًا قال لامرأة من بني هاشم: إنما مثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كمثل سدرة نبتت في

كبا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الصلاة جامعة، ثم جلس على المنبر، ورأينا وجهه أن يتوقد توقد من الغضب حتى رضي من الناس ثم قال: (إن الله اختار العرب على الناس، واختار قريشًا على العرب، واختارني على من أنا منه، فأنا محمد بن (4/ب) عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن نضر ابن كنانة)، ثم قال: من قال غير ذلك فقد كذب). * وأمه - صلى الله عليه وسلم - آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، تزوجها عبد الله بن عبد المطلب، وهو ابن ثلاثين سنة، وقيل: ابن خمس وعشرين سنة، خرج به أبوه عبد المطلب إلى وهيب بن عبد مناف، وآمنة كانت في حجره فخطب إليه أبو هالة بنت وهيب بن عبد مناف لنفسه، وخطب على ابنه عبد الله ابنة أخيه آمنة بنت وهب، فزوجه وزوج ابنه في مجلس واحد، فولدت آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة لعبد الله: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وولدت هالة لعبد المطلب: حمزة فأرضعت ثويبة جارية أبي لهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحمزة بن عبد المطلب وأبا سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنهما، فهم أخوة من الرضاعة. وفي ذكر آمنة يقول الشاعر: صلى الإله على ابن آمنة الذي .... جاءت به سمح البنان كريمًا

يا أيها الرجوان منه شفاعة .... صلوا عليه وسلموا تسليمًا وأمهاته: برة بنت عبد العزى بن عبد الدار بن قصي، وأمها: أم حبيب بنت أسد بن عيد العزى بن قصي، وأمها: برة بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب، وأمها: أميمة بنت مالك بن غنم بن لحيان حنش بن عادية بن صعصعة بن كعب بن طابخة بن لحيان بن هذيل. وأبو قلابة: أقدم من قال الشعر في هذيل، ومن قوله: إن الرشاد وإن الغي في قرن .... بكل ذلك يأتيك الجديدان لا تأمنن وإن أصبحت في حرم .... إن المنايا بجنبي كل إنسان وأمها: دبة، وقيل: دب بنت الحاث بن تميم بن سعد بن هذيل، أخت عمرو، وكاهل ابني الحارث بن تميم. وأمها لبنى بنت الحارث بن النمر بن (5/أ) بن جرءة بن أسيد بن عمرو بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار. * أما جداته من قبل آبائه - صلى الله عليه وسلم - فمعروفات مشهورات تركنا ذكرهن

اختصارًا، فهذا نسبه - صلى الله عليه وسلم - من قبل أبيه وأمه إلى معد بن عدنان، وهو المجتمع عليه. * فأما بن بين عدنان وإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وبين إبراهيم عليه السلام وبين سام بن نوح، وبين نوح وآدم عليهما السلام اختلاف كثير. قال الله عز وجل: {وقرونا بين ذلك كثيرا}. قال ابن الكلبي عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس: من معد بن عدنان إلى إسماعيل ثلاثون أبًا. ذكره الزبير وغيره، ثم قال: وهذا الإسناد وإن كان كما ترى إلا أنه عمن علم الأنساب صناعته. وقد روى أيضًا عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا انتهى إلى عدنان في النسب أمسك، ثم يقول: كذب النسابون، قال الله: {وقرونا بين ذلك كثيرًا}. وروى عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ: {وعاد وثمود والذين من

بعدهم لا يعملهم إلا الله} كذب النسابون. قال الزبير وغيره من علماء النسب: إنهم وإن كانوا اختلفوا فيما بين هذه الآباء من الأسماء فقد اتفق جلهم على عدد الآباء، وإنما اختلفوا في كيفية الأسماء لكونها أعجمية. وقد عرب بعضها، ونقل بعضها إلى غير ذلك مما يعلمه الله سبحانه وتعالى، ولم يختلفوا في الأصول الجامعة. وقد رويت لنا الأسماء على اختلافهم فيها فلم نر ذكرها اكتفاء في ذلك بما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ووقوفًا في ذلك ما وقف عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واكتفاء بما أرودناه من ذلك مواقع الإجماع والإفادة لا استيعاب المرويات، إذ ذلك له موضعه. * فأما عدنان: فهو من ولد إسماعيل عليه السلام كما قدمنا ذكره بلا شك، ومن ولده سائر القبائل التي يأتي ذكرها إن شاء الله. * (5/ب) وأبوه الأعلى هو قيذار بن إسماعيل، قاله محمد بن سعد في الطبقات، ولم أر بينهم اختلافًا أن معدًا من فخد قيذار بن إسماعيل وإنما

الاختلاف في عدد الآباء، فلأن ذلك إنما أخذ عن أهل الكتاب، وترجموه لهم فاختلفوا فيه. * واختلف فيه أيضًا من قبل اللغة: لأن هذه الأسماء ترجمت من العبرانية، ولو صح ذلك لكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس به. فالأمر عندنا على الانتهاء إلى معد بن عدنان، ثم الإيصال عما وراء ذلك إلى قيذار بن إسماعيل عليه السلام. وقال عروة بن الزبير -وكان من أنسب الناس، أخذ ذلك عن جده الصديق رضي الله عنه-: ما وجدنا أحدًا يعرف ما وراء معد بن عدنان. * ومن ولد إسماعيل نشر الله تعالى العرب، فهذا ذكر ما في معد بن عدنان مختصرًا. * وأما قحطان: فهو جماع اليمن، وحضرموت، وكندة، وحمير، وثقيف في القول الأظهر.

وفيه: أن ثقيفًا وحمير ومن ذكرناهم من ولد مضر فيما يزعم نسابو مضر. والأول أكثر، ويؤيده من اجتماع ما ذكرناهم قبل ما ذكرنا، وقحطان فقيل: هو ابن هود، وقيل: وهو عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وهذا هو الأغلب من الأقوال والأقوى منها. وقد نسبه قوم إلى إسماعيل عليه السلام، وجعلوا قحطان وعدنان جميعًا من ولد إسماعيل، وهو قول شاذ إلا أنا أوردناه ليعرف، وليبين أن الأصح القول الآخر على وجه الاحتجاج به. * وعدنان: هو أول من وضع أنصاب الحرم، وذلك أنه خاف أن يدرس الحرم، وهو كذلك أول من كسا الكعبة من ولد إسماعيل، فولد عدنان: معد، والحارث؛ وهو عك والديث، والنعمان، والضحاك: وهو المذهب الذي يقال: إنه لا عقب له، وعدينا، والعي، وأبيا، أمهم مهدد بنت اللهم بن جلحب بن جديس وعدينا (6/أ)؛ فهو أبو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عدنان أولاد من أعقب من هؤلاء، فولد معد بن عدنان: نزارًا،

وقُضاعة واسمه: عمرو، وعبيد الرماح، وقناصة وقنصًا وجُنادة وإيادًا وجُنيدًا وسنامًا وعوفًا، فنزار: فيهم البيت والعدد، والنبوة ووراثتها، وهي الخلافة، فهو أبو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والنعمان بن المنذر: ملك الحيرة، من ولد قنص بن معد، وقد انقرض عقبه، وقد نسبوا في لخم، والصحيح أنه ابن معد، ولما أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بسيف النعمان بن المنذر، قال لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل انه عبد مناف -وكان من العلماء بالنسب-: إلى من كنتم تنسبون النعمان بن المنذر؟ قال: إلى قنص بن معد. ويلقى أولاد من أعقب من بقية أولاد معد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معد على أن قضاعة من انتسبوا إليه، وحمير. والأكثر ما ذكرنا أولًا. وقد قيل: إن قضاعة هو أخو نزار لأمه، وهو مشبه للصحة، وقد تفرق أكثر ولد معد سوى نزار في غير بني معد، وبينهم في ذلك خلاف يطول اقتصاصه. فولد نزار بن معد: مُضر، وإيادًا، وربيعة، وأنمارًا، ومضر وربيعة هما الصريحان من ولد إسماعيل؛ اللذين تقدما وذكرا وأشهرا ولم ينسبا إلا إليه بلا خلاف، سوى غيرهما ممن اختلف في نسبه وتجوذب في أمره. ففي مضر:

النبوة والخلافة، وهو أبو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وربيعة ففيهم الكثرة، ويلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنو ربيعة في نزار، فمن قبائل ربيعة بن نزار: بكر، وتغلب ابا وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي ابن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار، فمن بني بكر: بنو الحصن، وهو الأعز، وهو ثعلبة بن عُكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. من ولده: أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن أدريس بن عبد الله (6/ب) بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعبلة الحصن. الإمام -رحمه الله- فهو يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في نزار. * قال الوزير بن محمد بن هبيرة بن سعد بن الحسن بن أحمد بن الحسن بن جهم بن عمر بن هبيرة بن علوان بن الحوفزان. وهو الحرث بن شريك بن عمرو بن قيس بن شر حبيل بن مرة بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة الحصن. * وقتادة الذي هو أحد الستة الذين دار عليهم العمل، وانتهى إليهم الإسناد والحفظ، هو ابن دعامة بن قتادة بن عزيز بن عمرو بن ربيعة بن عمرو بن

الحارث بن سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة الحصن. وقد نبل من شيبان رجلان: قتادة، وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما. * ولثعلبة المذكرو بنون أربعة: شيبان، وذهل، وعائذ، وهو تيم الله، وقيس. فأحمد الإمام، وقتادة قله من ولد شيبان بن ثعلبة، وأنا أيضًا من ولد شيبان. * ومن بني ثعلبة: الأرقم وهوم ستة بطون: جُشم، ومالك، وعمرو، وثعلبة، ومعاوية، والحارث بنو بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب. وبنو عتاب بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب، ومن بطون ربيعة والنمر بن قاسط أيضًا، ومن ولده: تيم الله، وأوس مناة وغيرهم. وبنو قيس بن ثعلبة: منهم: معن بن زائدة الشيباني؛ الذي فتح اليمن والحجاز وأطدها في خلافة المنصور رحمه الله. وفي ربيعة كثرة.

* وأما نزار، وقد انتسب منهم إلى النخع من سكن العراق وباقيهم بالشام على نسبتهم إلى نزار. * وأما أنمار، فمنهم: بجيلة، فقد انتسبوا إلى اليمن، إلا من كان بالشام (7/أ) والمغرب، فإنهم على نسبتهم إلى أنمار بن نزار. ومنهم: خثعم، وهو أقبل بن أنمار، وإنما خثعم جبل تحالفوا عنده، فنسبوا إليه. فلأجل ذا الخلاف قال النسابون: إن مضر وربيعة هما الصريحان من ولد إسماعيل، أي الخالصان اللذان لم يشبا تأولًا ولا دبرًا؛ إذ لما حضرت أباهم الوفاة، وأعطاهم عطايا، واختلفوا بعده قصة تركت ذكرها لشهرتها ولكونها جاهلية. * فولد مضر بن نزار: إلياس، والناس، وهو عيلان، وقيل: إن امسه قيس ابن مضر، وإنما عيلان عيل ولد عنده فسمي به، وقيل: فرسه، وقيل غير ذلك. وذكر الزبير: أن مضر أوصى بعض أهله، فقال: من يزرع شرًا يحصد ندامة، وخير الخير أعجله، فاحملوا أنفسكم على مكروهها فيما أصلحكم،

فاصرفوها عن هواها فيما أفسدها، فليس من الصلاح والفساد إلا صرفوان. وذكر أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلًا يقول: إني امرؤ حميري حين تنسبني .... لا من ربيعة آبائي ولا مضر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ذلك أبعد لك من الله ومن رسوله). * وإلياس هو الذي أنكر على بني إسماعيل تغييرهم سنن آبائهم وسيرتهم، وكان قد رأس فيهم حتى جمعهم رأيه، ورضوا به، وهو أول من أهدى البُدن إلى البيت، وأول من وضع الركن للناس بعد هلاكه حين غرق البيت زمن نوح وانهدم. ويقال: بل إنما هلك بعد إبراهيم وإسماعيل، فكان الناس أول من سقط عليه فوضعه في زاوية البيت، وكان العرب يعظمون إلياس (7/ب) ويأتمون به، ويلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنو قيس بن عيلان، ولد مضر بن نزار. ومنهم: بنو قيس، وفزارة، وأشجع، وثقيف فيمن ينسبهم، وقال:

ثقيف هو قسي بن منبه بن قيس بن عيلان. وبنو نصر بن معاوية وسائر قبائل قيس منهم: بنو هلال، وبنو بشير، وبنو أعصر، وبنو سليم، وباهلة، وعدوان، ومنهم: بنو جشم وبنو مرة، ومنهم: يلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إلياس، وهو طابخة منهم: بنو تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس، الذين قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في صدقاتهم: (فهذه صدقات قومنا)؛ لأجل نسبهم هذا منه، واجتماعهم معه في إلياس. وقال فيهم - صلى الله عليه وسلم -: (إنهم من ولد إسماعيل)، ولسبية كانت منهم: (إنها من ولد إسماعيل). فهذا الشرح؛ فإنما بسطناه كله على ذكر تميم، وجلبناه لهذا المعنى، وعقدناه كله عليه. * وفي تميم: حاجب بن زراة، وقيس بن عاصم، والأحنف بن قيس، وجرير، والفرزدق وغيرهم.

المسيبي في كتابه: إنه سمع يزيد بن ميحان المهلبي يحدث عن أبيه، قال: دخلنا على سليمان بن علي إمام البصرة، فجلست إلى جنب خالد بن صفوان، فدخل عليه شبيب بن شيبة فتركح من الكلام في شيء: ما رأيت أحسن منه، فقال: إني خالد بن صفوان: يا أبا يزيد، دنا والله أجلي، فقلت: فأجري إظهار ذلك، فقال: إني في بيت لم يخل من متكلم فإذا شاء من يكون خلفًا منه، قد بدأ الفتى يتكلم، والله ما يتكلم بشيء حتى اتبعه كذا وكذا؛ فيأتي به بعينه. قال: فكان هذا في يوم الخميس أو يوم الجمعة فصلينا على خالد بن صفوان الخميس أو الجمعة الأخرى. ومن بني أد بن طابخة: مزينة وضبة ابنا أد بن طابخة بن إلياس، فمن مزينة: النعمان بن مقرن صاحب النبي، (8/أ) - صلى الله عليه وسلم -، وزهير بن أبي سلمى الشاعر. * ومن بني ضبة: المسيب بن زهير، ومنهم: (الرباب)، وتميم، وعدي وعكل.

* فولد إلياس بن مضر: مدركة، واسمه: عامر، وقيل: عمرو، وطابخة، واسمه: عمرو، وقيل: عامر، وقمعة، واسمه: عمير؛ وأمهم: خندف المذكورة قل،: واسمها: ليلى. وقال أبو عبيد وغيره: إنما كانت أسماءهم واسم أمهم أن أرنبا أنفرت إبل إلياس بن مضر، فصاح بنيه أن يطلبوا الإبل والأرنب؟ فأما عمير: فاطلع من المظلة ثم انقمع فسمى: قمعة. وأما عمرو وعامر: فخرجا في إثر الإبل، وخرجت أمهم ليلى تسعى من أثرهما، فقال لها زوجها إلياس: أين تخندفين؟ والخندفة: السعي، فسميت خندف، قالوا: ومن عمرو وعامر بظبي -فرماه عمرو فقتله، ويقال: هي الأرنب التي أنفرت الإبل، فقال عامر: أطبخ صيدًا، وأنا أكفيك الإبل، فطبخه عمرو فسمي: طابخة، وأدرك عامر الإبل فردها فسمي مدركة. * ومن ولد قمعة المذكور: عمرو بن لحي بن قمعة، وهو أبو خزاعة، وهو من أول من غير دين إبراهيم، وأول من نصب الأوثان في الكعبة، وجعل البحيرة والسائبة، والواصلة.

والحلم، وهو الذي رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النار يجر قصبه، فمدركة: أبو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند مدركة: هذيل بن مدركة القبيلة بأسرها. - منهم: عبد الله بن مسعود صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنه. - ومنهم: أبوا ذؤيب الشاعر، وغيرهما. * فولد مدركة بن إلياس: خزيمة، وهذيلًا، وغالبًا، وحارثة. فخزيمة: أبو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويلقاه - صلى الله عليه وسلم - عند خزيمة: بنو أسد بن خزيمة. - وزينب (8/ب) بنت جحش زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها بنت جحش بن رئاب بن يعمر بن سبرة بن مرة بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، ومنهم: عكاشة بن محصن، ومنهم: عبيد بن الأبرص، وطليحة بن خويلد، وربيعة بن حذار. ويلقاه وبن والهون بن خزيمة يقال لهم: القارة:

وعضل وديش بنو ييثع بن الهون بن خزيمة. ومن ولده: جذام فيما يقال، وقد انتسبوا في اليمن، فولد خزيمة بن مدركة: كنانة وأسدة، ويقال: أسدًا والهون. فكنانة: أبو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويلقاه عند كنانة بنو عبد مناة بن كنانة، منهم: بنو بكر بن عبد مناة، ومن بني بكر بن عبد مناة: بنو ليث، وبنو الديل، وبنو ضمرة بني بكر بن عبد مناة. ومن بني ضمرة: بنو غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة. - ومنهم: أبو ذر الغفاري صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنه، والحارث ابن عبد مناة: منهم النسأة الذين كانوا ينسئون الشهور، سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة، وهو أولهم، ثم القلمس، وهو عدي بن عامر، ثم جنادة بن عوف بن قلع بن عباد بن حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي القلمس، وجنادة آخر من نسأ الشهور. وكذلك قصص يطول بإيرادها الكتاب. - ومنهم: آل علقمة بن صفوان بن المحارب.

وبنو مرة بن عبد مناة، وهو بنو مدلج، منهم: سراقة بن مالك بن جعشم رضي الله عنه. - فولد كنانة بن خزيمة: النضر، به كان بكنى، وملكا، وملكان، ومليكا، وقال ثعلب: وحده ملكان بفتح الميم- وغنما وعوفًا وغزوان، وقيل فيه: غزوان، وقيل: هما اثنان وعمرًا، وعامرًا، وأمهم كلهم: برة بن ت مر. وحدالًا، وسعدًا، وعوفًا، ومخربة، وجرولًا والحارث لأمهات. قال (9/أ) جرير يذكر: فما الأم التي ولدت قريشًا .... بمقرفة النجار ولا عقيم فما ولد بأكرم من قريش .... وما خال بأكرم من تميم قال الفرزدق فيها أيضًا: هم أبناء برة .... فأكرم بالخؤولة والعموم فما فحل بأنجب من قريش .... وما خال بأكرم من تميم

* فالنضر والد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي قتل أخاه لأمه فوداه مائة من الإبل، فهو أول من سنها. فقال الكميت في ذلك: أبونا الذي سن المئين لقومه .... ديات وعداها سلوفا منيبها وسلمها فاستوثق الناس للتي .... يعلل مما سن فيهم جدوبها غنائم لم تجمع ثلاثًا وأربعًا .... مسائل بالإلحاف شتى ضروبها * السلوف: ما تقدم، والمنيب: الأوائل. * والجدوب: الغلب. * والنضر: هو الذي يقال: إنه جماع قريش، وإنه قريش، وقيل: بل هو فهر، وهو أكثر، وقد قدمنا ذكره، ويجتمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النضر: يخلد ابن النضر بن الحارث، وحارثة ابناه، وزيد مناة ويخلد ابنا الحرب، وبه سميت بدر، ويقال: به سميت قريش أيضًا، وقد تقدم ذكرنا لذلك. * فولد النضر بن كنانة: مالكًا، ويخلد، والصلت، فمالك والد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويقال: إنه الصلت من خزاعة من ولد الصلب، وهو قول ضعيف في النظر

والصحة، ولم يعقب أحد من ولد يخلد بعد من قدمنا ذكره. * فولد مالك بن النضر: فهرًا، وهو قريش إليه وجماعها في أكثر الأقوال وأصحها، وقد قدمنا ذكره. قال الزبير بن بكار: قال فهر بن مالك لأبيه مالك: .... رب بالحلاوة وربما (9/ب) جعلت زيًا فقال له أبوه مالك: مثل البعير رب رضوا على خلاف المخبرة، قد عرف بجمالها ثم اختبر فما له درك: وكذلك ضرب السراب مثلًا أنه نسبة بالماء، وليس فيه درك، فاحذر الصور، واطلب الخير، ولا تدير أعجاز الأمور التي أوردت صدورها؛ فتعجز وتفشل. * ففهر والد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند فهر: بنو الحارث بن فهر، منهم: - أبو عبيدة الجراح، واسمه: عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب ابن ضبة بن الحارث بن فهر، لا عقب له، من المهاجرين الأولين، ومن أهل بدر، وفضائله معروفة. - ومنهم بنو بيضاء: صفوان، وسهيل، وسهل: بنو وهب بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر.

واستشهد صفوان بن بيضاء يوم بدر. وفي سهل بن بيضاء يقول أبو طالب، وكان جاء إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - من الحبشة، فأخبره بما صار إليه أصحابه هناك من الأمن والعافية: هم رجعوا سهل ابن بيضاء راضيًا .... فسر أبو بكر بها ومحمد. وعياض بن غنم بن جابر بن عبد العزى بن ربيعة بن الحارث بن فهر الفهري، وهو خال أبي عبيدة الجراح، وله يقول ابن قيس الرقيات: وعياضًا أعني عياض بن غنم .... كان من خير من أجن النساء. ومنهم: بنو قيس بن الحارث بن فهر، منهم: ابن هرمة الشاعر، ومن بني فهر: أبو همهمة بن عبد العزى بن عامرة بن عميرة بن وديعة بن الحارث ابن فهر، وكان من أشراف قريش وتلقاه بنو محارب بن فهر أيضًا.

منهم: الضحاك بن قيس، صاحب مرج راهط، وهو أخو فاطمة بنت قيس روى عنها الحديث: حديث تميم الداري، وحبيب بن مسلمة، وضرار بن الخطاب الشاعر، وهو فارس (10/أ) قريش، وهو القائل: ونحو بنو الحرب العوار .... بها وبالحرب سمينا فنحن نحارب وهو صاحب قصة أبي أزيهر، ومنعه عن نفسه دوسًا، والقصة مشهورة. * ومن فهر المذكور كل من يلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه أو مع من بعده من آبائه، فهو من قريش الصميم، ومن قبلهم فله من العرب ما له وليس بقرشي. * فولد فهر: غالبًا، والحارث، ومحاربًا، وجندلة وغيرهم. فغالب والد النبي - صلى الله عليه وسلم - يلقى النبي - صلى الله عليه وسلم - بنو تميم بن غالب، وتيم هو الأدرم. منهم: عبد الله بن خطل الشاعر، وسمي الأدريم؛ لأنه كان منقوض الدقن، فولد غالب: لوئيًا، وتيما: وهو الأدرم.

فلؤي: أبو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال لؤي لأبيه: يا أبت من رب معروفة أقل أخلافه ونضر ماؤه، ومن اختفره أحمله، وإذا أجمل الشيء لم يذكر، وعلى المولى تكبير يصغره ويسره، وعلى المولى تصغير كبيره وستره. فقال له أبوه: يا بني، إني لا أستدل بما أسمع من قولك على فضلك، واستدعى به الطول على قومك، فإن ظفرت بطول فعد على قومك بفضلك، واطفئ عرب جهلهم بحملك، ولم شعثهم بربعك، ويروى: برفقك، فإنما يفضل الرجال الرجال بأفعالها، ومن قاسها على ما ورائها، اسقط الفضل، ولم يعل له درجة على آخر، والعليا أبدًا على السفل فضل. * ويلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند لؤي: بنو عامر بن لؤي. - منهم: سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نضر، بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، وكان سهيل بن عمرو من المطعمين يوم بدر، وهو من أرشراف قريش وخطبائها. كلم عمر بن الخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نزع ثناياه حتى لا يخطب عليه يوم الحديبية فأبى عليه (10/ب) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: (عسى أن يقوم مقامًا

تحمده) فلما أسلم سهيل وحسن إسلامه، وجاء نعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة قام سهيل بمكة، فخطب بمثل ما خطب به أبو بكر بالمدينة، فبلغ ذلك عمر فحمد مقامه، وقال: أشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسول الله. * ومن ولده: أبو جندل بن سهيل، صاحب القصة المشهورة وعبد الله بن سهيل، وإسلامهما قبل إسلام أبيهما، ولسهيل قصة مع عمر رضي الله عنه لما قدم عليه، وفرض له فرضًا فسخطه سهيل، فجرى بينهما كلام، فخرج سهيل إلى الشام مجاهدًا فمات هناك. - ومنهم: حويطب بن عبد العزى، وهو من المؤلفة قلوبهم. - ومنهم: عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد ابن معيص بن عامر بن لؤي، مؤذن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه نزلت: (عبس وتولى)، وهو ابن أم مكتوم الأعمى، وقد استخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - مرارًا على المدينة.

- ومنهم: عبيد الله بن قيس -الرقيات، الشاعر- بن شريح بن مالك بن ربيعة بن أهيب بن حجير بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي. - ومنهم حبان منقذ، ابن العرقة الذي رمى سعد بن معاذ يوم الخندق فقطع أكحله، فقال: خذها وأن ابن العرقة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عرق الله وجهك في النار). - ومنهم: هشان بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن جذيمة بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، كاتب الصحيفة في البراءة من بني هاشم، وهو المتكلم أيضًا في نقضها والبراءة منها. - ومنهم: حفص بن الأخيف بن عبد الحارث بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي، وابنه بشر الذي قتلته كنانة، قتله: عامر بن يزيد بن الملوح، وله قصة. - ومنهم (11/أ) رواحة بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي، كان شريفًا في الجاهلية، وهو الذي ريع الناس، وله في ذلك قصة. - ومنهم: بنو عبيد، وبنو رواحة ابنا منقذ بن عمرو بن معيص، ولهم عدد

وشجاعة، وفيهم يقول شاعرهم: إذا ركبت رواحة أو عبيد .... فبشر كل والدة بثكل - ومنهم: عمرو بن عبد ود، كان يعدل في شجاعته بألف، فدعى البراز يوم الخندق، فبرز له علي عليه السلام فقتله، في ذلك تقول ابنته الأبيات المشهورة. - ومنهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح بن الحارث بن حبيب بن جذيمة بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، كان أسلم ثم ارتد، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتله، ثم أسلم واستأمن له عثمان رضي الله عنه، وولي بعد ذلك مصر في أيام عثمان رضي الله عنه، وهو أخوه لأمه. - ومنهم: أبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نضر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، كان قديم الإسلام، ومن المهاجرين البدريين، وهو ابن عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أمه: برة بنت عبد المطلب. - ومنهم: عبد الله بن مخرمة بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود بن

نضر بن مالك، قديم الإسلام، شهد بدرًا. - ومنهم بسر بن أبي أرطاة، وهو صاحب معاوية الذي بعثه إلى الحجاز واليمن فأوعب وقتل ابني عبيد الله بن عباس. - ومنهم: أبو ذئب بن شعبة بن أبي قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نضر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، وله قصة طويلة، ومن ولده: محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب الفقيه. * هؤلاء بنو عامر بن لؤي. ويلقاه - صلى الله عليه وسلم - أيضًا أبناء بدر بن (11/ب) لؤي. - منهم: بدر بن أبي الجهم بن بدر، وإدريس بن بدر. ومنهم: آل زهير جعفر بن أبي زهير، وكان جعفر سخيًا، وهم بفارس. - وبنو سامة يقال لهم: قريش الغاربة؛ لأنهم غربوا عن قومهم فنسبوا إلى أمهم: ناجية بنت جزم بن ربان، وهو علاف، وهو أول من اتخذ الرحال

العلافية فنسب إليها فقيل: علاف. * وبنو عوف بن لؤي، يقال: إنه تخلف في بلاد قيس، ومن ولده: بنو مرة ابن عوف: منهم: الحارث بن ظالم، ومنهم: سنان بن أبي حارثة، ومنهم: هاشم بن حرملة، ومنهم: - بنو سعد بن لؤي، وهم في آل بني أبي ربيعة من بني شيبان، يقال لهم: بنانة قريش، ومنهم: خزيمة بن لؤي، وهم أيضًا في بني ربيعة، يقال لهم: عائذة قريش. ومنهم سنان فولد لؤي بن غالب: كعبًا وعامرًا، وهم المبطاح، وسامة، وخزيمة، وهم عائذة قريش، والحرث وهم بنو جشم، وسعدًا وهو بنانة قريش. * فكعب والد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أول من خطب، وأول من قال: أما بعد، وأول من سمى يوم عروبة: الجمعة، لاجتماع قريش فيه إلى كعب بن لؤي، وخطبته قد ذكرها الزبير إلا أنه قال أنشاء من خطبته أو جزء فلم أذكرها. وكان كعب يقول: حرمكم عظموه، وزينوه، وكرموه، فسيخرج به نبي

كريم، وأرخت كنانة من موت كعب بن لؤي حتى كان عام الفيل، فأرخوا من الفيل، وهو مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبين الفيل وموت كعب خمسمائة سنة وعشرون سنة. * يلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند كعب بنو عدي بن كعب. - منهم: عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، وهو أمير المؤمنين، ومن المهاجرين الأولين، وشهد بدرًا والمشاهد، وفصائله (12/أ) مشهور، وابنه عبد الله بن عمر، وحفصة بنت عمر زوج المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم. - وزيد بن الخطاب، وهو أسن من عمر، وأسلم قبل عمر، شهد بدرًا والمشاهد كلها، واستشهد يوم اليمامة، وحزن عليه عمر رضي الله عنه حتى

قال: ما هبت الصبا إلا خيل لي أنها تجيء بريحه. - ومنهم: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، كان قديم الإسلام، وأحد العشرة، وفضائله مشهورة. - ومنهم: عمرو وعبد الله ابنا سراقة بن المعتمر بن أذاة بن رباح بن عبد الله بن قرط بن زراح، كانا من المهاجرين وشهدا بدرًا. - ومنهم: نعيم بن عبد الله بن أسيد بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي ابن كعب، وعبد الله هو النحام، وكان نعيم شريفًا، وهو متقدم الإسلام، وأبوه عبد الله كان يقوت فقراء بني عدي كلهم، فلما أسلم نعيم حمته عشيرته، فلم يكن يؤذي بمكة، فلذلك تخلف بمكة فلم يشهد بدرًا ولا أحدًا.

- ومن ولده: إبراهيم بن نعيم كان شريفًا قتل يوم الحرة، وكان تحته رقية بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأمها أم كلثوم بنت علي عليه السلام. - ومنهم: سليمان بن أبي حثمة بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب، وكان سليمان من الصالحين القراء، وكان يؤم الناس في عهد عمر رضي الله عنه، ثم يحيي ليلته صلاة، وله ولعمر رضي الله عنهما في ذلك حديث. - ومنهم: أبو جهم بن حذيفة بن غانم، كان مسرفًا شرسًا، وهو الذي قال في المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (لا يرفع عصاه عن عاتقه) لما خطب فاطمة بنت قيس،

ومن ولده: محمد بن أبي الجهم، قتله مسلم بن عقبة يوم الحرة صبرًا، وحميد بن أبي جهم، وكان شريفًا أيضًا كأبيه، وهو الذي يقال (12/ب): إنه دخل على أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وقال له أبو بكر: قد أذيت الناس فخرًا واستطالة، هل لك أن أعادل؟ قال: اسأل بعم بخال، فقال: أنت بمثل سعد بن معاذ اهتز العرش لوفاته. * وحنظلة بن أبي عامر: غسيل الملائكة. * وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، حمي الدبر، قال: إنه قال: وأي شيء يريد أكبر من هؤلاء، قال: فأمسك. عامر بن فهيرة حملته الملائكة والناس ينظرون.

* ومهجع مولى عمر، أول قتيل قتل يوم بدر. - وبلال مولى أبي بكر، المعذب في الله. قال: آتيك بفلان وفلان، وتأتيني بفلان وفلان، قال: ليس، إنما عددت أهل الجنة، هؤلاء أهل الجنة، إنما أردت آتيك بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، وأولئك هيهات. قال ذو شنؤة قال: كأنك والله ظننت أن يجزع من شيء، والله إنه لبطن، قد خاف من جورك، فما أكل منذ ثلاث شيئًا، قال: خلوه قبحه الله. - ومنهم: عبد الله بن مطيع بن الأسود بن نضلة بن عوف بن عبيد بن عويج ابن عدي بن كعب، وهو الذي اجتمع عليه في المدينة قبل الحرة. بنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب. - ومنهم: خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم بدري، زوج حفصة بنت عمر رضي الله عنه قبل المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وليس في بني سهم بدري غيره.

- ومنهم: العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سعد بن سهم، كان من المستهزئين، ومن سادة قريش. وابنه عمرو بن العاص، وكان من سادات المسلمين وأمرائهم، ومن رجالات قريش وذوي حرمها، ولاه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - غزاة ذات السلاسل، وولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان عمر إذا رأى إنسانًا ضعيفً، يقول: أشهد أن خالقك وخالق عمرو واحد، وقال عمر رضي الله عنه (13/أ) أيضًا في محفة، ما رأيت أحدًا يجاوزه يعني عمرًا إلا رجمته، فقال عمر بن الخطاب: إلا رجمته. وقال عمر بن الخطاب يومًا أيضًا لجلسائه: ليذكر رجل ألد الاستياء، فتكلموا وعمرو ساكت، فقال له عمر: ما عندك؟ قال: غمرات تنجلين. - ومنهم: المطلب بن أبي وداعة بن صبيرة بن سعيد. - ومنهم: منبه، ونبيه، ابنا الحجاج بن عامر بن سعيد بن سهم كانا من المطعمين يوم بدر، وقتلا كافرين يومئذ، والعاص بن منبه قتل يوم بدر كافرًا.

- ومنهم: قيس بن عدي بن سعد بن سهم، وهو سيد بن شريف. - ومنهم: عبد الله بن الزبعري في الإسلام مشهور. - ومنهم: الحارث بن قيس بن عدي، يقال له: ابن الغيطلة من المستهزئين. * وبنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب. - منهم بنو مظعون: عثمان وعبد الله، وقدامة بن مظعون بن حبيب بن وهيب بن حذافة بن جمح، مهاجرون بدريون، وعثمان توفي قبل إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا اتوفي رجل، فقيل: أين ندفنه؟ (ادفنوه عند سلفنا الصالح: عثمان بن مظعون). ومنهم: أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح، قتل كافرًا ببدر.

وابنه صفوان بن أمية كان شريفًا مسلمًا سيدًا، شهد الفتح ثم أسلم بعده، وهو الذي مشى بين المطيبين والأحلاف حين قتلت بنو مخزوم أبا أزيهر الدوسي حتى يصلح أمرهم، فكان يسمى سداد البطحاء. ومن ولده: عبد الله بن صفوان، كان يقال له: الطويل، وكان شريفًا، وكان أميًا. ومنهم: حاطب والحطاب ابنا الحارث كانا من مهاجرة الحبشة. ومنهم: أبو محذورة مؤذن أهل مكة. ومنهم: سعيد بن عامر بن حذيم، كان من الصالحين، وكان عاملًا لعمر رضي الله عنه على حمص، محمودًا في ولايته، (13/ب)، وله سيرة محمودة. * ومنهم: أبي بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح، قتله المصطفى - صلى الله عليه وسلم -،

ولعن أبيًا يوم أحد، وكان حدث ليقتلن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - على فرس له علفة زمانًا، فبلغت إلى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فقال: (بل أنا أقتله إن شاء الله)، فلما كان يوم أحد أقبل أبي مسددًا رمحه للمصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فلما كاد أن يناله رمى مصعب بن عمير رحمه الله بنفسه بينهما فوقعت الطعنة في مصعب فاستشهد رحمه الله، فطعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند طرف سانعة النعصة طعنة فاحتقن دمه فهلك منها بالطريق أو بمكة. وكان من أشد الناس عذابًا بحديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (أشد الناس عذابًا من قتل نبيًا أو قتله نبي). * فولد كعب بن لؤي: مرة، وهصصا، وعديًا، فمرة والد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعنده يلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن عامر بن عمرو، أبو قحافة، أسلم، وحديث إسلامه في هذا الكتاب، وبقي إلى أن مات ابنه أبو بكر فورثه. وابنه أبو بكر الصديق: عبد الله بن عثمان بن عامر بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة، الأثير عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخليفته في الصلاة في مرضه، وهو صاحب الغار والهجرة، وذو الفضائل المشهورة التي هي كثر من أتورد في هذا الفصل.

وابنه: عبد الله بن أبي بكر القديم الإسلام، وجرح بالطائف ولم يزل ضميمًا حتى مات في خلافة أبيه شهيدًا. وابنه الآخر: عبد الرحمن بن أبي بكر؛ أسلم يوم الخندق، وتوفي في نومة نامها، وفي ولده العدد الكثرة. - ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر، يكنى: أبا عتيق، ولد في حجة الوداع، وأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال موسى بن عقبة: لا يعلم أربعة رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلموا كلهم سبقًا إلا أبا قحافة، وأبا بكر بن قحافة، وعبد الرحمن بن أبي بكر، ومحمد بن عبد الرحمن (14/أ) بن أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين. وابنته عائشة الصديقة زوجة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وذات الفضيلة الكبيرة، وجاهتها عند المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لدينها وعلمها وصلاحها للأخذ عنه، وغير ذلك من خصائصها الكثيرة مضافًا إلى فضائلها المشهورة. ومحمد بن أبي بكر، وابنه القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما،

هو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة. ومنهم: طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم ابن مرة أحد العشرة المشهود لهم بالجنة. وأبلى يوم أحد بلاءً بالغًا، محمد بن طلحة السجاد، قتلا يوم الجمل. ومنهم: الحارث بن صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، من مهاجرة الحبشة، وهو جد محمد بن إبراهيم بن الحارث الداري. ومنهم: المنكدر بن عبد الله بن الهدير بن عبد العزى بن عامر بن الحارث ابن حارثة بن سعد بن تيم بن مرة، كان فاضلًا دينًا، وابنه محمد بن المنكدر الراوية الفقيه السخي الجواد.

ويلقاه - صلى الله عليه وسلم - بنو مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب عند مرة أيضًا. - منهم: أم سلمة هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم زوج المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. - وأبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، شهد بدرًا والمشاهد كلها، وهاجر الهجرتين، وكان أخا النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة، وابن عمته برة بنت عبد المطلب، وتوفي شهيدًا بخيبر. وروى المسيبي في كتابه مسندًا له أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى على أبي سلمة هذا، كبر عليه سبعًا أو تسعًا. شك المسيبي، فقيل له: يا رسول الله، أو نسيت أو زيد في التكبير، فقال: (لم يكن من ذلك شيء، ولو كبرت على أبي سلمة ألفًا لكان أهل ذلك). * ومن ولده: عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد، ولده بأرض الحبشة (14/ب) وكان ربيب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفقيه يقول رجل له أرض مجاورة له ولعاصم بن عمر بن الخطاب: فإن لها جارين لن يغدرا بها: ربيب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابن خير الخلائف.

* والأرقم بن أبي الأرقم بن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، صاحب الدار المباركة التي اجتمع المسلمون فيها إلى المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وممن شهد بدرًا والمشاهد بعدها، ولم يزل المسلمون مستخفين حتى أسلم عمر، وفي داره أسلم، فظهر المسلمون عند إسلامه. * وعياش بن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان متقدم الإسلام، ومن المهاجرين الأولين، وهو أخو أبي جهل، والحارث أبي هشام لأمهما، وكانا قدما عليه فأخبراه عن أمه بما رق لها، فرجع معهما، وأمنهما، فخانا، واستوثقا منه وعذباه عذابًا شديدًا في الله، فكان هو، والوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام من المستضعفين بمكة، الذين كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يدعو لهم في الصلاة بالنجاة. * والحارث بن هشام بن الغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهو شقيق أبي جهل، كان شريفًا ومطعمًا يوم بدر، ومن المؤلفة قلوبهم، ثم حصن إسلامه؛ فكان من فضلاء الصحابة وخيارهم، وخرج في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه راغبًا في الرباط بالشام والجهاد، فتبعه أهل مكة يبكون لفراقة، فلم يبق أحد يطعم إلا عرج معه يشيعه، حتى إذا كان بأعلى البطحاء

وقف، ووقف الناس حوله يبكون، فلما رأى جزعهم قال: أيها الناس، إنها النقلة إلى الله، وما كنت لأوثر عليكم أحدًا، ووالله ما خرجت بنفسي رغبة عن أنفسكم ولا اختيار بلد على بلدكم؛ ولكن كان هذا الأمر فخرجت فيه رجال من قريش، فأصبحنا والله ولو أن لنا جبال مكة ذهبًا فأنفقناهم في سبيل الله ما أدركنا يومًا من أيامهم، والله لئن فاتونا في الدنيا لنلتمسن أن نشاركهم في الآخرة فاتقى الله امرؤ، وتوفي بالشام مجاهدًا. * ومن ولده: عبد الرحمن بن الحارث بن (15/أ) هشام بن المغيرة بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم، من أشراف قريش، ولاه عمر البصرة. * ومن ولده: عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة، وهو أحد الأشراف، وهو أحد الذين قاموا بأمر الحرة، وأخوه الحارث بن عبد الله أبي ربيعة، كان من أشراف قريش وكرمائهم، وذوي المنطق منهم، وكانت أمه نصرانية، فماتت، فحضرت قريش جنازتها لجلالته وقدره فيها، فأمر بها أن يصلح أمرها ثم دفعها إلى نصارى يدفنونها، وكان في دارهم بابان، فأمر بها أن تخرج من الباب الذي ليس عنده قريش ثم خرج إلى قريش فقال: وصل الله

أرحامكم، قد قام بها أهل دينها فانصرفوا راشدين. - وهشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وابنه أبو جهل بن هشام فرعون هذه الأمة، قتله الله كافرًا ببدر، وهو الذي كان رئيسهم، وأبوه هشام مات قبل ذلك كافرًا أيضًا. وأخوه الحارث بن هشام الذي أكرمه الله تعالى بالإسلام، وقد تقدم ذكره قبل. - ومن ولد أبي جهل: عكرمة، أسلم يوم الفتح، فحسن إسلامه، وشهد الفتوح بالشام، فأبلى البلاء الحسن حتى استشهد رضي الله عنه. - ومنهم: الوليد بن المغيرة، كان ذا عقل وفهم، فلم يغن عن ذلك شيئًا، إذ لم يوفق للإسلام. - وابنه خالد بن الوليد، سيف الله، أسلم بعد الخندق، وشهد المشاهد كلها، وحضر مؤتة؛ فأبلى فيها بلاء حسنًا لم يسمع مثله، حتى اندقت في يده

تسعة أسياف، ولم تصبر معه إلا صفيحة يمانية، وهو صاحب الحيرة، وصاحب اليمامة، واليرموك، وفارس الإسلام، ومناقبه أشهر من أن تذكر. - وأخوه الوليد بن الوليد، كان متقدم الإسلام، ومن المستضعفين بمكة، وقد تقدم ذكرنا لدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له. - وأخوه هشام بن الوليد، كان من أشراف قريش، وهو الذي قتل أبا أزيهر، والقصة مشهورة، وهو الذي (15/ب) أشار على عمر بتدوين الدواوين، وحكى له أنه رآهم بأرض الروم يفعلونه؛ ففعله عمر رضي الله عنه. - وأخوه عمارة بن الوليد، كان من شعراء قريش وظرفائهم، ولم يكن فيهم أحد يشبهه في الجمال، وهو الذي أرسلته قريش مع عمرو بن العاص إلى النجاشي من أجل مهاجرة الحبشة، وقصته مشهورة. - ومنهم: عبد الله بن عبد الرحمن بن الوليد بن عبد شمس بن المغيرة بن

عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان شريفًا، وولي اليمن لابن الزبير، وله معه قصة. - ومنهم: عبد الله بن السائب بن أبي السائب: صفي عبد عائذ بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم، إمام أهل مكة في القراءة، صلى خلفه عمر بن الخطاب. - وأبوه: السائب شريك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذي مدحه بأنه كان لا يسارى ولا يمارى. - ومنهم: أبو أمية المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، زاد الركب. - ومن ولده: أم سلمة، وقد تقدم ذكرها. - ومن ولده: زهير بن أبي أمية بن المغيرة، وكان من أعداء المصطفى - صلى الله عليه وسلم -؛ الشديدي العداوة له، وهو الذي يقولن: {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا}، ثم أسلم فحسن إسلامه واستشهد يوم الطائف.

- ومن ولده: عبد الله بن عبد الله، كان شريفًا شاعرًا، ومن شعره: إذا حدثتك النفس إنك قادر .... على ما حوت أيدي الرجال فجرت - ومنهم: عبد الله بن عمرو بن أبي حفص بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قتل يوم الحرة. - ومنهم: السائب بن أبي السائب بن عائذ بن رفاعة بن أمية بن عائذ، ولد الوليد أمية بن عائذ، قتل كافرًا يوم بدر. - ومنهم: عبد الله بن المسيب بن عائذ بن عبد الله بن مخزوم، قتل يوم الدار مع عثمان رضي الله عنهما. - ومنهم: المطلب بن حنطب بن الحارث بن عبيد بن مخزوم، والمطلب بن عبد الله (16/أ) بن المطلب بن حنطب، صاحب الراية، كان له ابن يقال له: الحكم كان جوادًا ممدحًا. - ومنهم: عثمان بن عثمان بن الشريد بن هرمي بن عامر بن مخزوم،

وكان يقال له: الشماس، وكان من المهاجرين الأولين، شهد بدرًا، واستشهد يوم أحد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رآه: (إنما كان شماس جنة) كان يقيه بنفسه حتى استشهد. - ومنهم: أم مكتوم، أم الأعمى: عمرو بن قيس، صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - المتقدم ذكره، واسمها: عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة بن عامر بن مخزوم. - ومنهم: سعيد بن يربوع، أبو هود، كان من المؤلفة، ومن المعمرين بلغ مائة وعشرين سنة، وكان أحد الذين أمرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأقاموا أنصاب الحرم. - وكان ابنه عبد الرحمن بن سعيد من الصالحين. - ومنهم: سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، الفقيه، أحد أئمة التابعين، وفقهاء المدينة السبعة، وأخباره كثيرة؛ ففي فضله ودينه، ومن فضل المدينة أن جعل الله سبحانه

وتعالى فقيها قرشيًا، وهو سعيد، وسائر الأمصار كان فقهاؤها موالي، ولذلك قصة مروية. - ومنهم: هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وكان شاعرًا فارسًا. - ومن ولده: جعدة بن هبيرة، أمه: أم هانئ بنت أبي طالب، استعمله علي ابن أبي طالب رضي الله عنه على خراسان. - فولد مرة بن كعب بن لؤي: كلابًا، وتيمًا، ويقظة، فكلاب جد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتيما ويقظة تلقى النساب أولادهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قدمنا ذكره. - فولد كلاب بن مرة: قصيًا وزهرة. فقصي: والد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،

وهو الذي جمع قريشًا، وسكن الحرم، ولم يكن بمكة بيت في الحرم، إنما يكونون بها حتى إذا أمسوا خرجوا خوفًا أن يصيبوا فيها فاحشة أو جناية حتى سكنها قصي، واجتمعت (16/ب) إليه القبائل، ونفى خزاعة وبني بكر، واستعان عليهم بأخيه لأمه، وفي ذلك قصة طويلة، تركتها اختصارًا. وأجار بالناس قصي وغلب صوفة، وأخذ ما كان إليهم من ذلك، واستولى على جميع ما كانت خزاعة وغيرهم من العرب غلبت قريشًا عليه، مضافًا إلى ذلك ما كان بقي بأيدي قريش من الحجابة والإفاضة، وذلك لما أراده الله تعالى من كرامة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ورد ميراث إسماعيل عليه السلام إلى أولاده. فكان قصي أول بني كعب، أصاب ملكًا، أطاع له به قومه، فابتنى دار الندوة، وجعل بابها إلى البيت، ففيها كان يكون أمر قريش كله، وما أرادوا من نكاح أو حرب أو مشورة فيما ينوبهم، حتى إن الجارية تبلغ تدرع فما يشق درعها إلا فيها، ثم مطلوبها إلى أهلها، ولا يعقدون لواء حرب لهم إلا فيها، تشريفًا لقصي وتيمنًا به، فكان أمره فيها ماضيًا في حياته وبعد موته، وكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة واللواء والندوة وحكم مكة. وقعط قصي مكة رباعًا بين قومه، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم التي عرفوا بها، وسمي مجمعًا لما جمع من أمر قريش، وأدخل قصي بطون قريش كلها الأبطح، فسموا قريش البطائح، وأقام بنو معيص بن عامر بن لؤي، وبنو تيم الأردم بن غالب بن فهر، وبنو محارب بن فهر، بظهر مكة، فهؤلاء قريش الظواهر؛ لأنهم لم يهبطوا مع قصي الأبطح، إلا أن رهط أبو عبيدة بن الجراح، وهم من بني الحارث بن فهر نزلوا الأبطح، فهم مع المطيبين أهل

البطاح. وأحدث لهم قصيًا أمورًا التزموها، لم نرد ذكرها؛ لأن ما جاء الشرع منها بإيجابه فهو الواجب، وكذلك ماحسنه الشرع منها وندب إليه فهو الحسن، من ذلك: دار الندوة التي كان قصي ألزمها قريشًا فبنيت. وكان قصي يقول: (يا معشر قريش، إنكم جيران الله، وأهل (17/أ) بيته وأهل الحرم، وإن الحاج ضيفان وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعامًا وشرابًا أيام الحج، حتى يصدروا عنك، ففعلوا، فكانوا يُخرجون ذلك كل عام من أموالهم خرجًا يترافدون به، فيدفعونه إليه، فيصنع الطعام للناس أياما لحج بمنى وبمكة، ويصنع حياضًا للماء من أدم فيسقى فيها بمكة وبمنى وعرفة، فجرى ذلك من أمره في الجاهلة على قومه حتى قام الإسلام، ثم جروا في الإسلام على ذلك إلى اليوم. وكان من أهل مكة من قريش يسمون أهل الله؛ لأنهم لم يفارقوا مكة وما قاربها منذ خلقوا، ولم يدعوا ميراثهم عن أبيهم إسماعيل بن إبراهيم، ودفع الله عنهم الفيل والجنود، ولذلك قصة، وقيل فيها أشعار، وكل ذلك مشهور فتركت ذكره. ويلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند كلاب جماعة:

- منهم: أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة. - وعبد الرحمن بن عوف ببن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة، أحد المهاجرين البدريين، وأحد العشرة، وفضائله جمة، وأولاده: إبراهيم، وحميد، وأبو سلمة؛ كانوا فضلاء فقهاء ذوي رواية. واسم أبي سلمة: عبد الله، وهو أوسعهم رواية وفقهًا. * وسهيل بن عبد الرحمن بن عوف أخوهم أيضًا يكنى بأبي الأبيض. - ومنهم: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله ابن الحارث بن زهرة، أبو بكر الفقيه المحدث، كان من العلم والرسوخ فيه بمكان بيغ، وكان سخيًا زاهدًا. قال عمرو بن دينار: ما رأيت أحدًا أقص للحديث من الزهري.

- وسعد بن أبي وقاص: مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، من المهاجرين الأولين، وشهد بدرًا والمشاهد كلها، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وأول من أهرق دمًا في سبيل الله، ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ملك فارس، وهو الذي فتح العراق، ونفى الأعاجم، وكوف الكوفة وفضائله معروفة. وابناه: عامر بن سعد، ومصعب بن سعد، كانا من أهل (17/ب) الفضل والدين والرواية، وأخوهما عمر بن سعد هو الذي تولى أمر محاربة الحسين رضي الله عنه، وكان سعد لا يحبه على كونه كان من فتيان قريش جلدًا ونسبًا، فغضب عليه سعد فكلمه جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكلمه وأن يأذن له ليعتذر، وكان عمر سألهم عن ذلك. فكلفهموه فأذن له في الدخول والاعتذار، فتكلم كلامًا بليغًا أعجب القوم به. فقال سعد: أبغض ما كان إلي الساعة، لأني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن من البيان لسحرًا). * وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وهو المرقال، وكان بطلًا شجاعًا، شهد صفين مع علي عليه السلام، وأخباره معروفة أيضًا، وهو أبن أخي سعد.

* وعتبة بن أبي وقاص، أبوه، كان من الأشقياء الشديدي العداوة للمصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وهو كسر رباعيته يوم أحد، وكان شديدًا ذا بأس، وكان يقال له: أحمد العينين. * ومنهم: عبد الله بن الأرقم بن الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة؛ الذي كان على بيت المال زمن عثمان رضي الله عنه، وكان من الصالحين. * والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، كان من المستزئين الكافرين. وولده: عبد الرحمن بن الأسود، وكان من خيار المسلمين الصالحين. * ومنهم: المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، كان من الصالحين، وكان أبوه من المعمرين من قريش. ذكر الواقدي: إنه بلغ مائة وخمس عشرة سنة، وإنه من الذين بعثهم عمر رضي الله عنه، فأقاموا أنصاب الحرم.

- فولد قصي: عبد مناف واسمه المغيرة، وعبد العزى، وعبد الدار، وعبدًا، وبرة، وتخمر، وأمهم كلهم، حبى بنت حليل. - وعبد مناف والد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قصي: عبد العزى بن قصي، وهو أخو عبد مناف لأمه، وأمه هي والدة خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي زوجة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنها، والأثيرة عنده، والمساعدة له (18/أ) على الدين، ولم يتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياتها، وأولاده - صلى الله عليه وسلم - كلهم منها سوى إبراهيم -وأمه مارية- وفضائلها مشهورة. - والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، مهاجري حواري بدري، أحد العشرة ثم أحد الشورى، ومناقبه مشهورة. - من ولده: عبد الله بن الزبير، أول مولود ولد للمسلمين بالمدينة، وكان شجاعًا عالمًا عابدًا، قيل لعبد الله بن عمر: أي ابني الزبير أشجع؟ قال: ما

منهما إلا شجاع، كل واحد منهما أقدم على الموت وهو يراه. - وعروة أخوهما، كان فاضلًا راويًا زاهدًا عابدًا. وعمرو بن الزبير أخوهم، وخالد بن الزبير، وغيرهم من أولاده وأولاد أولاده، ولهم بقية وعدد. - وحكيم بن حزام، كان من شيخان قريش، أسلم فحسن إسلامه، وأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المؤلفة قلوبهم، فقال: يا رسول الله، إن كنت إنما أعطيتني استئلافًا على الإسلام، فقد والله دخل الإسلام قلبي ما دونه شيء، وإن كنت تعطينيه على غير ذلك آخذ به، ورجوت بركته. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خذه، بارك الله لك فيه)، وكان من المعمرين، بلغ عشرين ومائة سنة. - وخالد بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي. - ومن بني أسد بن عبد العزى: بسرة بن صفوان بنت نوفل بن أسد بن

عبد العزى، لها صحبة، ورواية في مس الفرج وغير ذلك، وكانت جدة عبد الملك بن مروان من قبل أمه. - وورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، كان ممن طلب الدين، ورغب عن دين قومه، وقرأ الكتب، ومات على التوحيد فيما يقال. - وعدي بن نوفل بن أسد، كان ولي حضرموت. - وأبو البختري بن هاشم بن الحارث بن أسد، كان ممن قام في الصحيفة، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شكر ذلك له، وأمر يوم بدر ألا يقتل فلقيه المجذر بن زياد (18/ب) فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتلك، فقال: هذا؟ ضيفًا له، قال: لا، فحمل عليه، وهو يقول: لن يسلم ابن حرة زميله .... حتى يموت أو يرى سبيله وكان من المطعمين يوم بدر. - وحميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى، ولد في جوف الكعبة.

- وتويت بن حبيب بن أسد، وعثمان البطريق الشاعر، ابن الحويرث ابن أسد، وله قصة في إرادته التملك على قريش، وطلبه ذلك من قيصر معروفة. - ومنهم: الأسود بن المطلب، وكان من المستهزئين، وزمعة بن الأسود، كان من المطعمين يوم بدر، وقتل يوم بدر كافرًا. وأخوه عقيل بن الأسود، وابنه: الحارث بن زمعة، قتلوا يوم بدر كفارًا. وهبار بن الأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، هو الذي نخس زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خرجت مهاجرة، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتله، فلم يقتل حتى أسلم، وكان فاحشًا كثير الشر في الجاهلية،

فكان بعد إسلامه يُظلم فلا يتكلم، ويؤذى فلا ينتصر مما فدعه الإسلام أوقده به، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُكلم من كلمه). وابنه: إسماعيل بن هبار. ومنهم: عبد الله بن السائب بن أبي حبيش، كان من أشراف قريش، وذوي اللسان منهم. وابنه: أبو الحارث، كان أفصح أهل دهره. * * وبنو عبد الدار بن قصي، منهم: الحجة، وهم ولد أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي. - ومصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، بدري، شهد المشاهد كلها، وهاجر الهجرتين، وهو المقرئ الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة قبل قدومه - صلى الله عليه وسلم - إليها، فأقرأهم القرىن بعد أن دعاهم إلى الله تعالى، وأسلم على يديه بشر كثير، منهم: سعد بن معاذ، وهو أول من قام الجمعة (19/أ) بالمدينة، وقتل يوم أحد شهيدًا، قتله أبي بن خلف في وقاية مصعب النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه.

وذلك أن أبيًا قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - ليطعنه، فرأى مصعب ذلك، فرمى بنفسه بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي، فوقعت الطعنة فيه. وقد تقدم ذكرنا لذلك، فيالها من قتلة ما أكرمها، وشهادة ما أعظمها. ولما لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوجة مصعب هذا يوم أحد، وهي حمنة بنت جحش، أخت زينب. قال لها: (يا حمنة، استرجعي)، قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال: (قتل خالك حمزة بن عبد المطلب، يا حمنة استرجعي)، قالت: إن لله وإنا إليه راجعون، قال: (قتل أخوك عبد الله بن جحش، يا حمنة، استرجعي)، قالت: ماذا يا رسول الله؟ قال: (يا حمنة استرجعي) مرتين، ونحو ذلك، ثم قال: (قتل زوجك مصعب بن عمير)، فقالت: واحزناه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الزوج من المرأة لبمكان) أو نحو ذلك. - ومنهم سويبط بن سعد بن حرملة بن السباق بن عبد الدار بن قصي، مهاجري بدري، لا عقب له. - ومنهم: النضر بن الحارث، قتل يوم بدر صبرًا، بأمر المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي أنزل الله سبحانه فيه {سأل سائل بعذاب واقع}، وقيل: إن ابنته

رثته بأبيات لم أذكرها؛ لأن العلماء لم يثبتوها. ومنهم: برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي، جدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومنهم: شيبة بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي، كان من سادات قريش. وابنه: عبد الله بن شيبة الأصغر، يقال له: (الأعجم)، وله مع خالد القسيري في فتح باب الكعبة ليلًا حديث. * وبنو عبد بن قصي، منهم: طليب بن عمير بن وهب بن عبد قصي، وانقرض ولد عبد قصي، فلم يبق منهم أحد، آخرهم موتًا رجل ورثهم عبد الصمد بن علي وعبد الله بن (19/ب) عروة بن الزبير بالتعدد، ورجل من بني نوفل بن عبد مناف. فولد عبد مناف: هاشمًا، واسمه عمرو، وكان يقال له: (عمرو العلي)؛ هشم الخبز وثرده، وأطعمه فسمي هاشمًا.

والمطلب، وكان يقال له: الفياض والفيض. وعبد شمس، ونوفلًا. وكان يقال لهاشم والمطلب: البدران. ولعبد شمس ونوفل: الأمهران. وأبا عمر، وعبيدًا، وحية، وتماضر، وأم الأخثم، واسمها هالة، وأم سفيان، وقلابة، وريطة. وكان يقال: لهاشم والمطلب وعبد شمس ونوفل أولاد عبد مناف: أقداح النضار، وهم المجيزون؛ لأنهم خيروا قومهم، وأحيوا مآثرهم. - وأما ابن جدهم قصي، فهاشم: أبو النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أول من سن الرحلتين، وولي الرفادة والسقاية باصطلاح قريش على ذلك، وكان يحض على إقامة الرفادة، ويأمر قريشًا أن يكون من أطيب أموالهم، وألا يكون فيها شيء أخذ من غصب ولا قطيعة رحم ولا ظلم. ويقول: أنتم جيران الله وأهل بيته، ويأتيكم في هذا الموسم زوار الله، يعظمون حرمة بيته، فهم ضيف الله، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه، وقد خصكم الله بذلك، وأكرمكم به، فأكرموا ضيفه وزواره؛ فإنهم يأتون شعثًا

غبرًا من كل بلد على ضوامر كالقداح، قد أرجفوا، وتفلوا، وقملوا، وأرملوا. وكان يقول: ورب هذه البيتة لو كان مالي يحمل ذلك ما كلفتكموه، وأنا مخرج من طيب مالي وحلاله، ما لم يقطع فيه برحم، ولم يوجد بظلم، ولم يدخل فيه حرام: فواضعه، فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فليفعل، فأسألكم أن لا يخرج منكم من ماله لكرامة زوار بيت الله ومعونتهم إلا طيبًا، لم يوجد ظلمًا، ولم يقطع فيه رحم، ولم يوجد غصبًا. فكانت بنو كعب بن لؤي يشهدون ذلك ثم يخرجونه من أموالهم حتى يأتوا به هاشمًا، فكان ربما حمل (20/أ) الرجل منهم بمائة مثقال هرقلية، وكان يأمر بحياض من أدم فتجعل في موضع زمزم، وذلك قبل أن يحفر، ثم يستقى فيها من البئار التي بمكة، فيشرب الحاج، وكان يطعمهم أول ما يطعمهم قبل التروية بيوم بمكة ومنى وجمع وعرفة، وكان يثرد لهم الخبز واللحم والسمن والسويق والتمر، ويتفرق الناس إلى بلادهم، وإنما سمي هاشم هاشمًا لهشمه الخبز ثريدًا، وكان اسمه عمرو العُلي فقال الشاعر: عمرو العلى هشم الثريد لقومه .... ورجال مكة مسنتون عجاف وإنما سموا المجبرين؛ لأنهم أولمن نفع الله بهم قومهم، أعني هؤلاء

الأربعة: هاشمًا، ونوفلًا، والمطلب، وعبد شمس رفع الله بهم قريشًا ونفعهم وجبرهم؛ لأن قريشًا إنما كانت تنحر بمكة لا يتعداها، وربما انصفت مع من يخرج من الأعاجم. فركب هاشم فأخذ لهم خيلًا من قيصر، وله معه قصه، وكتب له قيصر كتابًا بذلك، فجعل هاشم كلما مر بحي من العرب على طريق الشام أخذ من أشرافهم إيلافًا، والإيلاف: أن يأمنوا عندهم وفي أرضهم بغير حلف، وإنما هو أمان، وعلى أن قريشًا تحمل لهم بضائع فيكفونهم حملانها، ويؤدي إليهم رأس مالهم وربحهم فذلك الإيلاف، فأخذ هاشم إيلاف من بينه وبين الشام حتى قدم مكة، فأتاهم بأعظم شيء أتوا به قط بركة، فخرجوا بتجارة عظيمة وخرج هاشم يجوزهم، ويوفيهم إيلافهم الذي أخذ لهم من العرب، فلم يبرح يوفيهم، ويجمع بينهم وبين العرب حتى ورد بهم الشام، وأحلهم قراها، ومات في ذلك السفر بغزة من الشام. * وخرج المطلب أخوه إلى اليمن، فأخذ من ملوكهم حبلا لم يخبر قبلهم من قريش، ثم أقبل يأخذ الإيلاف ممن مر به من العرب حتى أتى مكة على مثل ما كان هاشم أخذه، وهلك المطلب بردمان من اليمن.

* وخرج نوفل (20/ب) أخوهما، وهو أصغر ولد عبد مناف، فأخذ حبلًا من كسرى لتجارة قريش ثم أقبل يأخذ الإيلاف ممن مر به من العرب حتى قدم مكة ثم رجع إلى العراق فمات بسلمان من أرض العراق. * وخرج عبد شمس فأخذ لهم حبلًا من النجاشي الأكبر، فاختلفوا بذلك الحبل إلى أرض الحبشة، فجبر الله لهم قريشًا، فسموا المجبرين. وكانوا أول من أخذ لقريش العصم والقسم وأمن الحرم، حتى قال ابن عباس رضي الله عنه: لقد علمت قريش أن أول من أخذ الإيلاف وأجار لها الغبرات لهاشم، حتى عدد أشياء كان هاشم أول من عملها. وروى ابن سعد في الطبقات: أن ابن عباس قال: لما أنزل الله على النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وأنذر عشيرتك الأقربين} خرج حتى علا المروة ثم قال: (يا آل فهر)، فجاءته قريش، فقال أبو لهب بن عبد المطلب: هذه فهر عندك، فقال: (يا آل غالب)، فرجع بنو محارب وبنو الحارث ابنا فهر، فقال: (يا آل لؤي)، فرجع بنو تميم الأدرم بن غالب، فقال: (يا آل كعب بن لؤي)، فرجع بنو عامر بن لؤي، فقال: (يا آل مرة بن كعب)، فرجع بنو عدي بن كعب، وبنو سهم، وبنو جمح ابنا عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي. فقال: (يا آل كلاب بن مرة)، فرجع بنو مخزوم بن يقظة وبنو تميم بن

مرة، فقال: (يا آل قصي)، فرجع بنو زهرة بن كلاب، فقال: (يا آل عبد مناف)، فرجع بنو عبد الدار بن قصي، وبنو أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنو عبد بن قصي، فقال أبو لهب: هذه بنو عبد مناف عندك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله قد امرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وأنتم الأقربون من قريش، وإني لا أملك لكم من الله شيئًا، ولا من الآخر نصيبًا إلا أن تقولوا: لا إله إلا الله فأشهد لكم بها عند ربكم، وتدين لكم بها العرب، وتذل لكم بها العجم). فقال أبو لهب: تبا لك! فلهذا دعوتنا، فأنزل الله عز وجل: {تبت يدا أبي لهب وتب}. يقول: كسرت يدا أبي لهب. * ويلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند عبد مناف أولا المطلب بن عبد مناف: أبو رهم الأكبر، وأبو رهم الأصغر ابنا المطلب، (21/أ) لا عقب لهما، وحارث ابن المطلب، وهاشم بن المطلب، وأبو عمرو بن المطلب، وعباد، والحارث، وأبو شمران ومحصن، وعلقمة، وعمرو: بنو المطلب بن عبد مناف. - فمن ولد الحارث بن المطلب: عبيدة بن الحارث، وهو أحد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن المهاجرين الأولين البدريين، فاستشهد ببدر، وقال وهو عقير، يا رسول الله، وددت أن أبا طالب حيًا حتى يرى أنا صرعنا حولك قبل

أن نسلمك، وأنشد قول أبي طالب: ونسلمه حتى نصرع دونه .... ونذهل عن أبنائنا والحلائل وقد انقرضت أعقاب بني الحارث بن المطلب إلا من نساء ولدن في القبائل. - ومن ولد عباد بن المطلب: أثاثة بن عباد، وابنه: مسطح، من المهاجرين البدريين. - ولد علقمة بن عبد المطلب: أبو نبقة، واسمه عبد الله بن علقمة بن المطلب. وعمرو بن علقمة المقتول المتحاكم في أمره إلى الوليد بن المغيرة؛ حيث يقول أبو طالب: أفي فضل حبل، لا أبا لك ضربه .... بمنسأة قد جاء حبل بأحبل هلم إلى حكم ابن صخرة فإنه .... متى ما يحكم في العشيرة يعدل

وصخرة: هي أم الوليد بن المغيرة. ومسعود بن علقمة بن المطلب بن عبد مناف، وعثمان بن علقمة، وعامر ابن علقمة، وقد انقرض ولد علقمة فلم يبق إلا آل أبي نبقة بن علقمة. وولد هاشم بن المطلب: عبد يزيد بن هاشم، وكان يقال لعبد يزيد (المحض)؛ لأن أمه: الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف، وكان أول منافي ولدبه مناقبه. ومن ولده: عجير بن عبد يزيد، وركانة بن عبد يزيد، السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي. - ومن ولده: محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب ابن عبيد بن عبد يزيد الشافعي الإمام. فهو يجتمع مع النبي صلى الله عليه (21/ب) وسلم في عبد مناف. - وعمرو بن المطلب بن عبد مناف لا عقب له. وولد مخرمة بن المطلب: قيس، والقاسم، والصلت.

ومن ولد قيس بين مخرمة: عبد الله بن قيس، والي المدينة من قبل الحجاج ابن يوسف. ومن ولد الصلت بن مخرمة: جهيم بن الصلت؛ الذي رأى الرؤيا قبل بدر بمقتل من قتل بها من كبراء قريش التي أنكرها أبو جهل، وقال: جئتمونا بكذب بني المطلب مع كذب بني هاشم، فهؤلاء بنو المطلب بن عبد مناف. - ويلقاه بنو عبد شمس بن عبد مناف عند عبد مناف أيضًا. - فمن ولد عبد شمس: أمية الأكبر ومن ولده: أبو العاص بن أمية، والعاص بن أمية، والعيص، وأبو العيص، وهم الأعياص. - وربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف من ولده: عتبة وشيبة ابنا ربيعة. كانا من المطعمين يوم بدر، وبارزا ومعهما الوليد بن عتبة قتلوا كفارًا وكان عتبة قد حرض بقريش أن تنصرف فلم يطيعوه، وكان يتردد بينهم في ذلك على جمل أحمر، فقال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فيما روي عنه: (إن يكن في أحد خير

من القوم ففي صاحب الجمل الأحمر). ومن ولده: عتبة بن ربيعة، أبو حذيفة بن عتبة، من المهاجرين الأولين البدريين، فاستشهد باليمامة، ويقال: إنه استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبرز لابنه يوم بدر، فمنعه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له خيرًا. وابنه: محمد بن أبي حذيفة بن عتبة، وكان يتيمًا في حجر عثمان رضي الله عنه، ثم كان أحد الواثبين عليه، فقتل بالشام. - وحبيب بن عبد شمس، ومن بني حبيب بن عبد شمس: عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وكان أميرًا بالبصرة. - وعبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس: له صحبة ورواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. * وعبد العزى بن عبد شمس من ولده: أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى ابن عبد شمس، وكانت تحته زينب بنت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومدحه المصطفى عليه

(22/أ) الصلاة والسلام في مصاهرته فقال: (إن أبا العاص حدثني فأصدقني ووعدني فوفى لي). فولدت زينب لأبي العاص المذكور، عليًا وأمامة التي كان يحملها في صلاته. * وتزوج علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمامة بعد خالتها فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وهي أوصته بذلك، فولدت له محمدًا، وقتل عنها علي رضي الله عنه، فخلف عليها المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، فلم تلد له، وماتت لا عقب لها. * وحرب بن أمية، كان شريفًا، وولده: أبو سفيان صخر بن حرب، كان رئيس قريش يوم أحد، ثم أسلم يوم الفتح، ثم حسن إسلامه، وفقئت عينه يوم اليرموك. * وابنه: معاوية بن أبي سفيان، ولي الشام أميرًا عشرين سنة، ثم ولي الخلافة بعد مبايعة الحسن بن علي رضي الله عنهما- له وتسليم الأمر إليه. وكان حليمًا سؤددًا، واستعمله عمر فرضي عنه، ولم يتنكر عليه في ولايته، وهو أحد كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قدمنا ذكره.

* وأخوه: يزيد بن أبي سفيان، كان أكبر من معاوية، واستعمله عمر رضي الله عنه، ورتب أخاه معاوية مكانه، فأقره عمر، توفي يزيد في أيامه بطاعون عمواس. * وأختهما: أم حبيبة زوجة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، إلى غيرهم من أولاده. * ومن ولده: معاوية، يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. * ومن ولده: معاوية بن يزيد بن معاوية ولي الأمر أيامًا. * وأخوه: خالد بن يزيد بن معاوية، ومن ولده: حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية، وأخوه: يزيد بن خالد بن يزيد. * ومن بني أمية بن عبد شمس: مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، وكان من فتيان قريش، وكان صديق أبي طالب، ورثاه أبو طالب بالقصيدة المعروفة التي أولها: ليت شعري مسافر بن أبي عمرو.

* وعثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، كان من المهاجرين الأولين، وشهد المشاهد سوى بدر؛ فإنه تخلف على رقية بنت المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فضرب له رسول الله (22/ب) - صلى الله عليه وسلم - بسهمه وأجره، وهو أحد الشورى الستة، والخلفاء الأربعة، وجهز جيش العسرة، وتزوج الكريمتين: رقية وأم كلثوم؛ واحدة بعد أخرى، وأولاهما تزوج بها رقية بمكة، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، وولدت له هناك ابنًا فسماه عبد الله، وكان يكنى به. وبلغ عبد الله من العمر ست سنين، ونقر عينه ديك فتورم وجهه، ومرض ومات، وصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزل أبوه عثمان في حفرته، ثم توفيت رقية رضي الله عنها، فتزوج عثمان رضي الله عنه بعدها أم كلثوم، فتوفيت أيضًا عنده، ,لم تلد له. وفضائل عثمان كثيرة. * وله أولاد، منهم: عبد الله الأكبر غير الذي من رقية؛ فإنه الأصغر سنًا، وعمر، وأبان، وخالد وغيرهم، ولهم عقب حتى اليوم. * ومن ولد أبي العاص بن أمية: الحكم بن أبي العاص، وابنه مروان، وقد ولي الأمر شهورًا، وأولاده جماعة، منهم:

* عبد الملك، وولي الأمر بعده مع خلافة لابن الزبير وبعده. * ولعبد الملك أولاد جماعة، وولي الأمر منهم أربعة: الوليد بن عبد الملك، وسليمان بن عبد الملك، ويزيد بن عبد الملك، وهشام ابن عبد الملك، ومسلمة بن عبد الملك منهم، ولم يل الأمر، وكان غزاء. ولهم أولا وعقب .. * ومن ولد مروان أيضًا: عبد العزيز بن مروان، وولده: عمر بن عبد العزيز، كان من أئمة الهدى والخلفاء الراشدين. * ومن ولد العاصي بن أمية بن عبد شمس: سعيد وهو أبو أحيحة، وكان شريفًا، ومن ولده: العاصي بن سعيد بن العاصي بن أمية بن عبد شمس، قتل يوم بدر كافرًا. * ومن ولده: سعيد بن العاصي بن أمية بن عبد شمس، وكان أميرًا بالمدينة، وكان مشكور الولاية.

* وابنه: عمرو بن سعيد، الأشدق، الذي وثب على عبد الملك بن مروان فلم (23/أ) يتم أمره وقتل، ومن ولده: أبان بن سعيد، قتل يوم أجنادين شهيدًا، ومن ولده: عبد الله بن أبان بن سعيد، كان اسمه الحكم، فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله. * وسعيد بن سعيد: أخو أبان، قتل يوم الطائف، وعمرو بن سعيد أخوهما قتل يوم أجنادين، وخالد بن سعيد آخرهم، قتل يوم أجنادين، كان من مهاجرة الحبشة، وكان متقدم الإسلام. * وولده: سعيد بن خالد بن سعيد، ولد له بأرض الحبشة، وأمه بنت خالد، روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتزوجها الزبير فولدت له خالدًا وعمرًا، ولا عقب لخالد بن سعيد، ولا لأحد من ولد سعيد بن العاصي إلا العاصي بن سعيد. * ومن ولده: أبو عمر سعيد بن يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاصي ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف: صاحب المغازي واللغة. * وأبوه يحيى وعمه، وهما لغويان أيضًا.

* ومن بني أمية بن عبد شمس: عقبة بن أبي معيط، أبان بن أبي عمرو، ذكوان بن أمية بن عبد شمس، وقيل: إن ذكوان كان عبدًا لأمية فاستلحقه، والأول أثبت وأكثر، أسر يوم بدر فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتل صبرًا. * وبنوه: الوليد بن عقبة، وعمارة بن عقبة، وخالد بن عقبة، أسلموا يوم الفتح جميعًا. * والوليد: هو الذي أقيم عليه الحد، وكان أميرًا بالكوفة، وهو أخو عثمان ابن عفان -رضي الله عنه- لأمه، أمهما: أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وأختهم أم كلثوم، أسلمت بمكة قبل أن يأخذ النساء في الهجرة إلى المدينة، ثم هاجرت وبايعت، فهي من المهاجرات المبايعات، وهي أول امرأة هاجرت، وقد كان أخواها: الوليد وعمارة لحقاها ليمنعاها؛ فمنعها الله منهما، ثم أسلما بعد ذلك. ويروى أنها مشت على قدميها من مكة إلى المدينة، وتزوجها عند قدومها المدينة (23/ب) زيد بن حارثة، ثم قتل عنها (يوم) مؤتة، فتزوجها الزبير بن العوام، ثم طلقها فتزوجها عبد الرحمن بن عوف، ومات عنها، فتزوجها عمرو بن العاص فمكثت عنده شهرًا ثم ماتت، وهي أخت عثمان أيضًا لأمه

رضي الله عنها. وفيها نزل قوله: {إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن}. * ومن ولده: أبو قطيفة عمرو بن الوليد بن عقبة، كان شاعرًا. *ويلقاه بنو نوفل بن عبد مناف، وهو أخو هاشم لأمه. * منهم: مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، كان شريفًا مطعمًا، وممن قام في نقض الصحيفة، فشكر له النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وقال يوم بدر: (لو كان المطعم بن عدي حيًا ثم كلمني في هؤلاء النتنى -يعني أساري بدر- لوهبتهم له). * ومنهم: عبيد الله بن عدي بن الخيار بن نوفل بن عبد مناف، من خير

المسلمين. * والحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، كان شريفًا، قتل يوم بدر كافرًا، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روي عنه قال: (من أتى منكم الحارث بن عامر، فلا يقتله، دعوه ليتامى بني نوفل بن مناف)، كذا رواه الأموي في المغازي وغيره. * ومن ولده: عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي الحسين المحدث، وأبو حسين هو الذي دب إلى خبيب ابن عدي وفي يده الموسى، والحديث في الصحيح. * فولد هاشم بن عبد مناف: عبد المطلب، واسمه شيبة الحمد، والشفاء، ونضلة، وأسد أو أبا صيفي، وصيفيا، وخالدة، وحية، درج أكثرهم ولم يعقب، ولا عقب لهاشم من غير عبد المطلب. * وأم عبد المطلب، والشفاء: سلمى الأنصارية النجارية، وكانت سلمى هذه تزوجت بعد هاشم: أحيحة بن الجلاح الأوسي شيخًا أنصاريًا، فولدت له: عمرو، ومعبدًا، وأنيسة، فهم أخوة عبد المطلب والشفاء لأمهما،

وعمرو بن أحيحة قد عده ابن أبي حاتم من الصحابة الذين رووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر فيهم، حاتم (24/أ) ورواه عنه ابنه، أبي حاتم، ووهمه ابن عبد البر في ذلك، وتوقى توهيمه له. وكان عمرة بن أحيحة حليمًا وقورًا، يسمع الأذى فيغضى عنه فيقال: لم تقر ما تسمع من الأذى؟ فيقول: لو أني آخذ بطرف شرارة أذى يبلغني لخسرت دونه، ولم أبلغ في ذلك ما أريد، وشغلني ذلك عن غيره، وأدرك من يبلغني ذلك عنه الذي طلب، والصمت على ما يكره المرء خير من السمعة إذا تكلم المتكلم في الشيء، ثم نزع عنه قبل أن يبلغ أقصى الذي يتكلم فيه، عجزه ذو الرأي والفضل واللب والفصل، ومن عارض الناس في كل ما يكره منهم، أشتد ذلك عليه، وانكشف للناس من أمره ما لا يحب أن ينكشف لهم منه. ومن حاجى ليس له بخطر لم يصغر إلا عرضه، وهان على من كان يكرمه، واجترأ عليه من كان يهابه، وصغر من كان يجله، وإذا استشرى الشيء، وصون المرء نفسه بالعلم خير من ابتذالها بالجهل، والفراغ من إدارة أمر لا يعنيك ولا ينفعك خير من الوقوف عليه، وشغلك عن سواه من إكرام عرض وصون حسب، ومن ماط الناس ماطوه، ومن قال ما ليس فيهم، قالوا عنه ما ليس فيه. واستمع ما يقال للناس في أنفسهم، ولا تجعل للناس مقالًا عليك فيما

بينهم، وأخرس نفسك من غيرك، وكن عليها أشد سلطانًا، ووقرها بالحلم يوقرك سواك، فإن الحلم رأس الحكمة، ومن كان حليمًا كان حكيمًا. * وكان هاشم دخل المدينة، فنزل على عمرو بن زيد، أبي سلمى، فخطبها إلى أبيها فزوجها إياه، وشرط عليه ألا تلد ولدًا إلا في أهلها، فمضى فلم يبن بها حتى كر، فبنى بها عند أهلها، وسكن معها سنين. ثم نقلها إلى مكة، فما حملت خرج بها فوضها عند أهلها للشرك الذي شرطه له، ومضى هشام إلى الشام فمات بغزة في وجهة الشام كما ذكرنا أولًا. وولدت عبد المطلب؛ فسمته شيبة (24/ب) الحمد، وكانت في ذوابيه شعرة بيضاء حين ولد، فيقال بذلك سمي شيبة، فمكثب بالمدينة سنين سبعًا ثم مر رجلًا بها بينما رآه مع الغلمان يتنضل، والحديث معروف، وإنما أذكر ملخصه: فأنصرف فأخبر عمه المطلب، فقصد المطلب المدينة، فرآه فقال له: يا ابن أخ، أنا عمك، وأريد الذهاب بك إلى قومك، فاركب قال: فوالله ما كذب، أن جلس على عجز الراحلة، وأجلس المطلب على الرحل، وانطلق به، وكان ذلك مكتومًا عن أمه، فما علمت به علقت تدعو أخوتها على ابنها، فأخبرت أن عمه ذهب به، فلما رأى الناس المطلب وشيبة الحمد معه، جعلوا يقولون له: من هذا معك؟ فيقول: عبدًا ابتعته، فقال الناس: عبد المطلب، فلح اسمه عبد المطلب وترك شيبة الحمد، ثم إن المطلب ألبسه عشاء الحلة ثم أجلسه في مجلس بني عبد مناف، وكان عبد المطلب ممن ثبت حين جاء

الفيل، ومن معه، وفرت قريش وثبت هو، وهو شاب، وقال: والله لا أخرج من حرم الله أبغي العز في غيره، ثم قال: لا هم إن المرء يمنع .... رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم .... ومحالهم غدوا محالك والقصة مشهورة، ثم لم يزل باقيًا في الحرم، حتى أهلك الله الفيل وأصحابه، فرجعت قريش وقد عظم فيهم وشرف؛ لتعظيمة محارم الله سبحانه، ثم أري في المنام بعد، أن يحفر زمزم بعد ذلك فحفرها، والقصة مشهورة، وله بها ولبنيه الفضيلة الكبرى الباقية التالدة، فحسدته قريش على ذلك بأسرها. وعظم في أنفسهم ما ناله، حتى إن كان أحدهم ليحمله الحسد حتى تجيء فيفسد عليه حوضه ذلك، فلا يتناهى عن ذلك، حتى ابتلي بلاء في جسده، فكف الناس عنه، وعلموا أنه لأمر، ولما حفرها، وسط الماء وجد فيها الغزال والحلية الذهب (25/أ) فجعلها للكعبة. ثم نذر ذبح أحد ولده مع تمامهم عشرة، وكان من أمره في ذلك من الفداء

ما افتضته علماء السيرة، وكان ذلك كله من المقدمات بين يدي مبعث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، والمبشرات إلى قدومه، والمنبهات على زكو مطلعه - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن عبد المطلب كان في زمنه سيد قريش وشريفها غير مدافع، وعمر حتى ناهز المائة، وكانت هيبة الملك، ومكارم الأخلاق، ونور النبوة يعرف فيه. وعبد المطلب هو جد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأدنى الألصق، ولا عقب لهاشم من غير عبد المطلب، وإن كان قد ولد لهم من ذكرناهم قبل، ولك انقرض عقبهم. * فولد عبد المطلب بن هاشم: عبد الله أبا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبا طالب، واسمه عبد مناف، والزبير، والحارث، عبد الكعبة، وبه كان يعكنى، وأم حكيم البيضاء، وعاتكة وهي صاحبة الرؤيا، وهي عجيبة ومشهورة، ومرة، وأروى، وأميمة، وحمزة، والمقوم، وحجلا، وهو المغيرة، وصفية، والعباس، وضرار، وقثم، وأبا لهب، واسمه: عبد العزى، والغيداق، وقيل: إن اسمه نوفل، وقيل: مصعب، فهؤلاء تسعة عشر ولدًا، أو هم ست

بنات وثلاثة عشر ذكرًا، هكذا ذكرهم الزبير بن بكار الأسدي في كتاب النسب، وناهيك به عالمًا به، وابن كيسان وكان عالمًا بالنسب وغيرهما من العلماء. وقد اختلف الناس في هذه العدة من أولاد عبد المطلب، فعدهم الجمهور كما ذكرنا، وهم المحققون كالزبير وغيره. ومنهم: من جعل الذكور أحد عشر، وأسقط عبد الكعبة، وقال: هو المقوم، وجعل الغيداق وحجلا اسمين له أيضًا، فيكون له على قول هذا القائل أربعة أسماء، ولم يصنع هذا القائل شيئًا منهم من العدد على ذلك، وزاد أن أسقط (قثم) فجعلهم عشرة ولم يصنع شيئًا. والصحيح (25/ب) ما ذكرناه أولًا؛ إذ هو مما ظهر برهانه وأفصح شأنه؛ لأن الغيداق قيل: اسمه نوفل، وأن حجلًا اسمه المغيرة، وقد قيل: إن حجلًا الذي هو المغيرة، إنما هو ابن الزبير بن عبد المطلب، فلأجل ذا أسقطوه من العدد. وليس ذلك بحجة؛ فإن الزبير قد كان له ابن يسمى حجلًا كما ذكروا، وقيل: إن اسمه المغيرة؛ ولكن لا يدل ذلك على أن عبد المطلب لم يكن له ابن يسمى حجلًا والمغيرة، بل إن الظاهر أن الزبير سمى ولده باسم أخيه، كما سمى العباس ولده قثم باسم أخيه قثم بن عبد المطلب الهالك صغيرًا، حتى

اشتبه ذلك على من لم ينعم النظر أيضًا فأسقطه من أولاد عبد المطلب كما ذكرنا عنهم آنفًا، وكذلك كما أسقطوه حجلًا سواء للشبهة الواقعة به فيولد ابن الزبير. * فأما من قال: إن عبد الكعبة هو المقوم، فإنه قول غير بعيد كهذين القولين المقدم ذكرهما، فيكون الذكور على قول من أسقط المقوم، وجعله اسمًا لعبد الكعبة اثني عشر ذكرًا وسقناه أولًا، وهو الأكثر. * فأما عدد البنات فلم يختلف فيه. * فأما من أدرك من الرجال منهم بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ونبوته فأربعة: أسلم منهم اثنان: حمزة والعباس، ولم يسلم منهم: أبو لهب أبو طالب. * وأما البنات: فأسلم منهم صفية بغير شك، وبإجماع من العلماء، وأختلف في أروى، عاتكة رائية المنام. قال الواقدي: إن أروى وعاتكة أسلمتا أيضًا، وتابعه على ذلك أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى العقيلي فذكرهما في الصحابة، وصحح قول الواقدي في إسلامهما، وأبي محمد بن إسحاق، وسائر العلماء، ولم يثبتوا إلا إسلام صفية خاصة. فهذا إما يعود إلى ذكر الإسلام من أسلم من ولد عبد المطلب ومن لم يسلم ملخصًا استيعابه وتجويده، فهو خواص أخبارهم. * فأما عبد الله أبو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن المصطفى صلى الله عليه (26/أ)

وسلم كان حيث توفي أبوه عبد الله ابن شهرين، وقيل: كان ابن ثمانية وعشرين شهرًا، وقيل: توفي عبد الله وأمه حامل به - صلى الله عليه وسلم - لم تضعه، وقيل: بل خرج زائرًأ أخواله وهو ابن سبعة أشهر، وأصحها وأكثرها ما ذكرناه أولًا واخترناه. * وكانت وفاة عبد الله بالمدينة، كان خرج إليها يمتار منها تمرًا فتوفي بها، فوليه أخواله بنو النجار، وكان شابًا، وأبوه عبد المطلب حي، ولم يكن لعبد الله ولد سوى النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد الأولين والآخرين. * وأما أبو طالب؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفله جده بعد موت أبيه إلى أن مات، واختلف في سن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت وفاة جده عبد المطلب، والصحيح من الأقوال أنه كان - صلى الله عليه وسلم - إذ ذاك ابن ثمان سنين. * كما أن الصحيح من الأقوال أن أمه آمنة ماتت بالأبواء بين مكة والمدينة، وهو ابن ست سنين؛ فكفله أبو طالب.

* وكان عبد المطلب أوصى به إلى أبي طالب لكونه شقيق ابنه عبد الله، فقام أبو طالب بكفله للمصطفى إلى أن بلغ خمس عشرة سنة، ثم انفرد بنفسه، وكان مائلًا إلى عمه لمحبته له وإشفاقه عليه وحنوه، ثم إن أبا طالب أدرك الإسلام، فلم يسلم، مع دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك، كما جاء في هذا الكتاب الصحيح. * وأما الزبير بن عبد المطلب، فلم يدرك الإسلام؛ لكن كان له نظر وفكر، أتى فقيل له: مات فلان لرجل من قريش، كان ظلومًا، فقال: بأي عقوبة مات؟ قالوا: مات حتف أنفه، قال: لئن كان ما قلتم حقًا، إن للناس معادًا يؤخذ فيه للمظلوم من الظالم. * وأما الحارث، وضرار، والغيداق، وعبد الكعبة، وأم حكيم، وأميمة، وبرة، فلم يدركوا الإسلام. * وأما أبو لهب: فأدرك الإسلام ولم يسلم، إلا أنه كان قد قام بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أبي طالب وحاطه وقارب الرجوع إلى الحق (26/ب)، فما زاده أبو جهل اللعين الذي أردى أخاه أبا طالب أيضًا بأشياء، منها: أن قال له القوم بأمر من تزعم أن عبد المطلب في النار، فأنكرها أبو لهب أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك، فقام له: فسأله، فصرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحق، فغضب وانقلب بأشد ما يكون من العداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى مات على ذلك.

* وأما قثم فهلك صغيرًا، كما قدمنا ذكره. * وأما المقوم وحجل فلم يدركا الإسلام أيضًا. * وأما صفية فأسلمت بإجماع من العلماء رضي الله عنها، وجاهدت وهي أم الزبير بن العوام، وعمرت؛ حتى توفيت في سنة عشرين في خلافة عمر ابن الخطاب رضي الله عنها، وقبرها بالبقيع ظاهر حتى اليوم يزار. * وأما أروى وعاتكة فقد ذكرنا الاختلاف فيهما. * وأما حمزة رضي الله عنه، فهو أسد الله وأسد رسوله، من المهاجرين الأولين، من المتقدمين في الإسلام، أسلم في السنة الثانية من المبعث، وقيل: بل أسلم بعد دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم، في السنة السادسة من المبعث، وشهد بدرًا وأبلى فيها البلاء المشهور، وهو عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخوه من الرضاعة كما قدمنا ذكره، وهو أسن من النبي - صلى الله عليه وسلم - لسنتين، واستشهد بأحد رضي الله عنه.

* وأما العباس؛ فكان أسن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاث سنين، وسئل العباس: بكم أنت أكبر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: هو أكبر مني، وأنا أسن منه، مولده أبعد عقلي أتى إلى أمي فقيل لها: ولدت آمنة غلامًا، فخرجت بي حين أضحت آخذة بيدي حتى دخلنا عليها فكأني أنظر إليه يمصع برجليه في عرضيه، وجعل النساء يجتذبني عليه، ويقلن: قبل أخاك. وختمت بالعباس الهجرة، كما ختمت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الرسالة. * وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (27/أ) أنه قال: (هذا العباس بن عبد المطلب أجود قريش كفا وأوصلها). وفضائله مشهورة كثيرة. وفيه البيت، والعدد، والخلافة بحمد الله ومنه، وكان العباس ثوبًا لعاري بن هاشم، وجفنة لجائعهم، ومقطرة لجاهلهم، وفي ذلك يقول اب هرمة: وكانت لعباس ثلاث يعدها .... إذا ما شتاء الناس أصبح أشهبا فسلسلة تنهى الظلوم وجفنة .... تباح فيكسوها السنام المزغبا

وحلة عصب لا تزال معدة .... لعار ضريك ثوبه قد تهيبا وكان يمنع الجار، ويبذل المال، ويعطي في النوائب. * وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم). وذلك مما صح وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -، وهو مما في كتابنا هذا في مسند وائلة بن الأسقع. فالعباس رضي الله عنه من الكنانيين، ثم من القرشيين، ثم من الهاشميين، ثم هو عم خاتم النبيين، فهو إذًا من خيار القرشيي، ثم من الهاشميين، فهو إذًا خيار من خيار الخيار. وأمه نتيلة بنت خباب بن النمر بن قاسط، ولدت العباس فانحنت به، وهو أول عربية كست البيت الحرام الحرير والديباج وأصناف الكسوة، وذلك أنها أضيعت العباس وهو صغير؛ فنذرت كسوة البيت إن وجدته، ففعلت لما وجدته.

* وكان العباس رئيسًا في الجاهلية، وإليه كانت عمارة المسجد الحرام، والسقاية والعمارة. فأما العمارة للمسجد والسقاية فمعروفتان. وأما العمارة فإنه كان لا يترك أحدًا يساب أحدًا في المسجد الحرام، ويحملهم على عمارته في الخير، لا يستطيعون له امتناعًا؛ لأنه كان ملأ قريش قد أجمعوا على ذلك، فكانوا له أعوانًا وسلموا ذلك إليه. وقال معروف بن خربود: انتهى الأمر في الشرف من قريش في الجاهلة إلى عشرة نفر من عشرة بطون (27/ب) وأدركهم الإسلام فوصل لهم ذلك من بني هاشم، ومنهم: العباس بن عبد المطلب، وقد سقى الحجيج في الجاهلية، وكانت إليه عمارة المسجد الحرام، وحلول النفر له، وحلول النفر معناه: أن قريشًا لم تكن تملك عليها في الجاهلية أحدًا، فإذا كانت الحرب أقرعوا بين أهل الرئاسة، فمن خرج سهمه كان هو المحكم، فلما كان يوم الفجار خرج السهم على العباس. وقال الزهري: لقد جاء الإسلام وإن جفنة العباس لتدور على فقراء بني هاشم، وإن قيده وسوطه لمعد لسفهائهم، فكان عبد الله بن عمر يقول: هذا والله، هذا الشرف، يطعم الجائع، ويؤدب السفيه، وحصل العباس بيعة

الأنصار للمصطفى - صلى الله عليه وسلم - وأحكمها ووثقها، وكان له فيها البلاء الحسن، وكل ذلك لم قد دخر الله له من كرامته؛ لأن ذلك كان قبل إسلامه رضي الله عنه. قال عروة بن الزبير: وذلك بمعنى قيام العباس بما قام به في بيعة الأنصار من إحكامها، واستئناف القول فيها في عزة الإسلام قبل أن يعبد الله علانية، وكذل كان العباس بمكة يتقوى المسلمون بمكانه، وكان يحب أن يقدم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكتب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن مقامك خير)،فلذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: (من لقي منكم العباس فلا يقتله، فإنه أخرج كارهًا). وكان العباس أنصر الناس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحدبهم عليه بعدما مات عمه أبو طالب، والذي ذهب إليه محققوا علمائنا أن العباس رضي الله عنه أسلم قبل فتح خيبر، وإنما كان يكتم إسلامه لمصلحة الدين، وأن يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويكاتبه بأحوال المسلمين، ويدل على ذلك ويوضحه حديث الحجاج بن علاط، وهو بين لمن تدبره، ولما ظهر إسلامه حين أظهره، عضد

الله سبحانه بإسلامه الدين، وسر به محمدًا خاتم النبيين. ومن لطف صنع الله سبحانه وإحسانه، أن الله سبحانه (28/أ) بعث نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وله عمومة، وقد أتينا على ذكرهم وذكر من أدرك الإسلام منهم، فلم يختر الله سبحانه إسلام أحد منهم سوى حمزة والعباس، ثم جعل النسل منهما، والعدد والكثرة والبيت في ولد العباس رضي الله عنه، ذلك إلا بمكان الاختيار السابق من الله سبحانه لهذا البيت الكريم البادع، والنسب الشريف الشامخ؛ حيث خلقهم أعلامًا للدين وأئمة المسلمين، فحفظ بهم بلاده وعباده، واستودعهم أمر خلقه، وجعلهم القائمين بشرعه، والنواب عن نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وخصهم بوارثه القيام بخلافة النبوة، والتحمل لأعباء الأمة دون غيرهم من عترته، شرفًا عظيمًا، وأمرًا جسيمًا، وخطرًأ كريمًا {ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم}، {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}. * شهد العباس مع المصطفى حنينًا، وكان له ذلك البلاء المبين؛ لأنه ثبت معه وقت الشدة حيث لم يثبت معه إلا عدد يسير، هو أحدهم، فلا خلاف فيه بين العلماء، وهو الذي كان ينادي الصحابة -وكان صيتًا- بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال بأعلى صوته: أين أصحاب السمرة؟ قال: فو الله لكان عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها. وكفاه في هذا الشرف أن ثبت في مقام ولى فيه الأكثرون، ومن أحق منه

بالثبات واليقين. وهو الذي اختاره الله سبحانه وحمزة من بين سائر الأعمام، ثم اختار ذريته خلفًا للدين ومصابيح للمسلمين. وقد روينا وروينا من فضائله غير حديث لو استوعبت كانت كتابًا، إلا أن منها ما أخبرناه أبو القاسم الحصيني قال: أخبرنا أبو طالب الهمذاني قال: أخبرنا محمد الشافعي، قالك أخبرنا محمد بن يونس القرشي، أخبرنا إبراهيم ابن سعيد السفري، أخبرنا خلف بن حذيفة بن أبي هاشم عن محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنه قال: (لقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العباس يوم فتح مكة، وهو على بغلته الشهباء فقال (28/ب): (يا عم، ألا أخبرك، إن الله تعالى فتح الأمر بي، ويختم بي). فحب العباس رضي الله عنه خصلة من خصل الإيمان، وقد ذكرناه في شعب الإيمان من كتابنا هذا. وكانت له الدعوة المجابة، وتوسل عمر بن الخطاب والمسلمون رضي الله عنهم به إلى ربهم، فرفع عنهم الضرء بمكانه، والحال مشهورة ونحو نستوفيها مختصرة موعبة من جميع الطرق، وهو أن سبب ذلك أن الأرض أجدبت في

عهد عمر بن الخطاب، وذلك عما سبع عشرة؛ عام الرمادة، حتى التقيت الرعاء، وألقت العضا، وعطلت النعم، وكسر العظم، فقال كعب الأحبار، يا أمير المؤمنين: إن بني إسرائيل، كانوا إذا أصابهم أشباه هذا، استسقوا بنصب الأنبياء. فقال عمر: هذا عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصنوا أبيه، وسيد بني هاشم، فمشى إليه عمر رضي الله عنه، فشكا إليه ما فيه الناس، ثم صعد عمر المنبر، وصعد معه العباس، فخطب عمر رضي الله عنه الناس، قال بعد حمد الله سبحانه والثناء عليه، والصلاة على نبيه - صلى الله عليه وسلم -: أيها الناس، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد، فيعظمه، ويفخمه، ويبر قسمه، ولا بتاله يمينه، فاقتدوا إيها الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمه العباس، واتخذوه وسيلة إلى الله فيما نزل بكم، ثم قال: اللهم إن هذا عم نبيك، وإنا قد توجهنا إليك بعم نبيك، وصنو أبيه، فاسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين. وفي رواية: (أن عمر لما وقف على المنبر أخذ في الاستغفار حتى قال الراوي: ما نراه يعمل لحاجته ثم قال: (اللهم إني قد عجزت فيهم، وما عندك أو سع لهم، وأخذ بيد العباس فقال: (وهذا عم نبيك، ونحن نتوسل به إليك). وفي رواية قال: (اللهم إنا نتقرب بعم نبيك، ونستشفع به فاحفظ فيه نبيك كما حفظت الغلامين لصلاح أبيهما، وأتيناك مستغفرين ومستشفعين. وأقبل على الناس، فقال: {استغفروا ربكم إنه كان غفارًا (10) يرسل السماء عليكم مدرارًا (11) ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم

أنهارًا}. ثم قال عمر: يا أبا الفضل، (29/أ) قم فادع، فقام العباس وعيناه تنضحان، فطالع العباس، عمر رضي الله عنهما، فقال بعد حمد الله سبحانه والثناء عليه، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه بي القوم لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا بالتوبة، فاسقنا الغيث. اللهم أنت الراعي، لا تهمل الضالة، ولا تدع الكسير بدار مضعية، فقد ضرع الصغير، ورق الكبير، وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السر وأخفى. اللهم فأغثهم بغياثك من قبل أن يقنطوا فيهلكوا؛ فإنه لا ييأس من روحك إلا القوم الكافرون. اللهم إن شفعاء عمن لا ينطق من بهائمنا وأنعامنا. اللهم اسقنا سقيًا نافعًا وداعا طبقا سحاء عامًا. اللهم إنا لا نرجوا إلا إياك، ولا ندعو غيرك، ولا نرغب إلا إليك. اللهم، إليك نشكو جوع كل جائع، وعرى كل عار، وخوف كل خائف، وضعف كل ضعيف. فأرخت السماء عزاليها، فجاءت بأمثال الجبال، حتى استوى الحفر بالآكام، وأخضبت الأرض، وعاش الناس. وفي رواية: فنشأت طريرة من سحاب، فقال الناس: ترون، ترون، ثم

تلامت واستتمت، ومشيت فيها ريح، ثم نهرت ودرت، فو الله مابرحوا حتى اعتلوا الجدار، وقلصوا المآزر، وطفق الناس بالعباس يمسون أركانه، ويقولون: هنيئًا لك ساقي الحرمين. وقال عمر: هذا والله الوسيلة إلى الله والمكان منه. وفي رواية: ثم نزل فتراءى الناس طرة في مغرب الشمس فقالوا: ربنا هذا، قال: وما رأينا قبل ذلك من قرعة سحاب أربع سنين، قال: ثم سمعنا الرعد ثم انتشرت ثم أمطرت، فكان المطر يقلدنا في كل خمس عشرة قلد الزرع، حتى رأيت الأرنبة خارجة من خفاق العرفط يأكلها صغرى الإبل. فقال الشعراء في ذلك فأكثروا، فمنهم شاعر بن هاشم؛ حيث قال: (29/ب). رسول الله والشهداء منا .... والعباس الذي فتق الغماما وقال ابن عفيف النضري: مازال عباس بن شيبة غاية .... للناس عند تنكر الأيام رجل تفتحت السماء لصوبه .... لما دعا بدعاوة الإسلام فتحت له أبوابها لما دعا .... فيها بحيد معلمين كرام عم النبي فلا كمن هو عمه .... ولدًا ولا كالعم في الأعمام عرفت قريش يوم قام مقامه .... فبه له فضل على الأقوام.

وقال الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب: بعمي سقى الله الحجاز وأهله .... عشية يستسقي بشيبته عمر توجه بالعباس في الجدب راغبًا .... فما كر حتى جاء بالديمة المطر ومنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا .... تراثه فهل فوق هذا للمفاخر مفتخر وقال حسن في ذلك: سأل الإمام وقد تتابع جدبنا .... فسقى الغمام بغرة العباس عم النبي وصنو والده الذي .... ورث النبي بذاك دون الناس أحيا الإله به البلاد فأصبحت .... مخضرة الأجناب بعد الياس وأعتق العباس عند موته سبعين مملوكًا، ولما حضرته الوفاة قال لابنه عبد الله: أي بني، قد فنيت، فيا بنين أحب الله وطاعته؛ حتى لا يكون شيء أحب إليك منه ومن طاعته، وخف الله حتى لا يكون شيء أخوف إليك منه ومن معصيته، فإنك إذا حببت الله وطاعته نفعت كل أحد، وإذا خفت الله ومعصيته لم تضر أحدًا، أستودعك الله. ومناقبه كثيرة كما ذكرنا، وإنما أشرنا منها في هذا الفصل إلى ما اقتضته الحال، فلنذكر الآن أعقاب أولاد عبد المطلب المذكورين على ما انتهى إلينا، ومن لم يعقب، ومن أعقب ثم انقطع عقبه.

* أما حمزة رضي الله عنه فلم يترك إلا بنتًا فدرجت. * وأما أبو طالب فولد: طالبًا لا عقب له خرج إلى بدر مع المشركين، فلم يسحن له ولا يدرى (30/أ) أقتل أم فقد. * وعقيلًا بكنى أبا يزيد، أسلم قبل الحديبية، وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان عالمًا بالأنساب، وهو أحد الأربعة الذين يؤخذ عنهم علم الأنساب. * ومن ولده: يزيد بن عقيل، وبه كان يكنى، وعبد الله ومحمد وغيرهما من أولاده، وقد انقرض ولد عقيل بن أبي طالب إلا من محمد بن عقيل. * وجعفرًا، وهو الطيار ذو الجناحين في الجنة، وهو أفضل الشهداء، هاجر الهجرتين، وقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أشبهت خَلْقِي وخُلقي)، وهو الجواد المطعم للمساكين، ودعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - ولولده بالبركة، فاستجيبت الدعوة، وقتل يوم مؤتة، فوجد فيه بضع وسبعون من بين ضربة وطعنة ورمية كلها فيما أقبل من جسده. * ومن ولده: محمد بن جعفر بن عبد الله بن جعفر، الجواد الممدح، وأخباره في ذلك لها كتاب مفرد.

* ومن ولده: معاوية بن عبد الله بن جعفر، وفي تسميته معاوية قصة. * ومن ولده: عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، ولهم بقية وعقب، واستيعابهم يطول. * وعليًا، وهو أصغر سنًا، وأعظمهم قدرًا، وأغزرهم علمًا، لأن طالبًا أكبر من عقيل بعشر سنين، وعقيل أكبر من جعفر بعشر سنين، وجعفر أكبر من علي بعشر سنين، وهو فارس الإسلام وفقيهه، وهو ابن عم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وظهيره، شهد المشاهد كلها سوى تبوك، ولم يكن بتبوك قتال. وكان له في كل مشهد شهده البلاء المبين لاسيما بدرًا، وهو أول من صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأسلم من بني هاشم لا اختلاف في ذلك، وكفاه بهذا شرفًا مبينًا وفضلًا سابقًا مكينًا، وزوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - الزهراء فاطمة رضي الله عنها، ولم يبق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقب إلا من ولده منها، وفضائله مشهورة ومناقبه غير منكورة، ولو أنا ذهبنا إلى إيرادها لخرجنا بذلك عن حد مما أجرينا إليه، ولكانت تبلغ كتابًا (30/ب) كبيرًا. * وولده الحسن، أبو محمد، وأخوه أبو عبد الله الحسين رضي الله عنهما، السيدان السبطان، ولدا الزهراء محبوبا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وولداه اللذان قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهما: (هما ريحانتاي من الدنيا).

* وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حق الحسن: (إن ابني هذا سيد) وهو من أصح الأحاديث وأجلها، ولا أسود ممن سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - سيدًا، وقد بان سؤدده بما ظهر من حقنه الدماء، ونظره للإسلام والمسلمين بعد أن أعطى العهد والبيعة، ووجبت له الإمرة والطاعة، فتخلى منها إيثارًا لمصلحة الإسلام، وتحقيقًا لما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - فعده جماعة من العلماء من الدلائل النبوية. * والحسين: فهو ذو الشجاعة والبأس، وأكرمه الله سبحانه بالشهادة في يوم شريف؛ ليعظم الله سبحانه ثوابه، ويجزل إكرامه، ويشرف مآبه. * فأما الحسن فمن ولده: الحسن بن الحسن، وعبد الله بن الحسن، وزيد بن الحسن، وعمرو بن الحسن وغيرهم، وعقبة باق واستيعابهم إلى حيث انتهينا يجمله كتاب مفرد. * وأما الحسين بن علي، فليس له عقب إلا من ولده: علي بن حسين بن علي زين العابدين، فهو علي الأصغر، وكان من أفضل هذه الأمة فقهًا وعلمًا

ودينًا وزهدًا، فليس للحسن نسل إلا منه. * ومن ولده: زيد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب، المقتول في أيام هشام. * وابنه: يحيى بن زيد المقتول بخرسان، وفي عقبهم كثرة، واستيعابهم يطول، فهذا السبطان أولادهما أفضل ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لمكان فاطمة بنت المصطفى رضي الله عنها، ويتلوهما في الفضل من أولاد علي أولاد أبي القاسم عبد الله محمد بن علي، وهو ابن الحنفية، فاضلًا فقيهًا، وكان علي رضي لله عنه يحبه كثيرًا. * وابنه: أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وهو الذي كان أوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ودفع إليه كتبه، وصرف الشيعة إليه، وأعلم أن الأمر صائر إليه وإلى أولاده (31/أ)، ولمحمد بن الحنفية أولاد وعقب حتى اليوم أيضًا. * ويتلوهم في الفضل والسبق من أولاد علي: ولد العباس بن علي بن أبي

طالب كرم الله وجهه: أولاده: عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب، وغيره، ولهم عقب حتى اليوم أيضًا. ويتلوهم في الفضل والسبق: عمر بن علي بن أبي طالب، منهم محمد ابن عمر بن علي بن أبي طالب وغيره، ولهم عقب حتى اليوم أيضًا. * وكان لعلي رضي الله عنه من الولد: ثلاثون بين ذكر وأنثى، وإنما العقب منهم في هؤلاء الخمسة لا غيرن وهم: الحسن والحسين، ومحمد بن الحنفية، والعباس، وعمر، رضي الله عنهم أجمعين. هؤلاء بنو أبي طالب وبنوهم على الاختصار. * وقد ذكر المسيبي، أبو عبد الله محمد بن إسحاق، النسابة في كتابه الذي أخبرنا به: أبو طالب أحمد بن الحسن المقري كتابه بإسناده إليه، وقدر روينا هذا الكتاب، وقرئ علينا أن أبا طالب كان له ولد خامس غير الأربعة المذكورين فأبناءهم، وأنه: طليق بن أبي طالب، وأنه لا عقب له، وأن أمه عيساء جارية أبي وهب بن عمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم، ولم يذكر الزبير ولا غيره طليقًا، والله أعلم. * وأما أبو لهب، فمن ولده: عتبة، ومعتب، أسلما يوم الفتح، وسر

المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بإسلامهما سرورًا شديدًا، ودعا لهما دعاءً طيبًا، فشهدا معه حنينًا والطائف، وأبليا بلاء حسنًا، ولم يخرجا عن مكة إلى المدينة، ولهم عقب. * ومن ولد عتبة: الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب، كان فصيحًا، وكان ذا منزلة من الوليد بن عبد الملك، وذا خاصة به، وله معه قصة. * وعتيبة أخوهما، دعا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يسلط الله عليه كلبًا من كلابه، فأكله الأسد، والحديث مشهور في السير ودلائل النبوة، ومات من غير عقب. * وأما الحارث (31/ب) فهو أكبر ولد عبد المطلب، وهو الذي أعان عبد المطلب على حفر زمزم، وقد ذكرنا أنه لم يدرك الإسلام، ولكن أسلم أولاده. * نوفل، وربيعة، وأبو سفيان المغيرة، وعبد الله بنو الحارث.

* ونوفل أقدمهم إسلامًا، ويكنى أبا الحارث، وهو أسن إخوته، وأسن من جميع من أسلم من بني هاشم كلهم، كان أسن من حمزة والعباس، أسر يوم بدر، ففدى نفسه برماحه، وكان لما أسر قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (افد نفسك) قال: مالي شيء أفتدي به قال: (افد نفسك برماحك التي بجدة) فقال: والله ما علم أحد أن لي بجدة رماحًا غيري بعد الله، أشهد أنك رسول الله، هكذا ذكره ابن سعد، هاجر أيام الخندق، وشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الفتح وحنينًا والطائف، وكان ممن ثبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين. * وربيعة ويكنى أبا أروى، وهو الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: (ألا إن كل دم ومأثرة كانت في الجاهلة، فهي تحت قدمي، وإن أول دم أضع دم ربيعةبن الحارث)، وذلك أنه قتل لربيعة ابن في الجاهلية، فأبطل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطلب به في الإسلام، ولم يجعل لربيعة في ذلك بيعة. وقد اختلف العلماء في اسم ابن ربيعة المقتول- جدًا، ووقع فيه تصحيف فيما يقال من حماد بن سلمة فقال: اسمه آدم، وإنما كان دم ابن ربيعة، فصحفه، وكان ربيعة أسن من العباس، وأسلم، وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة أحاديث. * وأبو سفيان، أخوهما فهو الشاعر، وهو ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - كإخوته المذكورين، ويزيد عليهما أنه أخو النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة، أرضعتهما حليمة

السعدية، وأميمة المغيرة، وكان يشبه (32/أ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صورته. * والذين كانوا يشهبون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جماعة هم: أبو سفيان هذا، وجعفر بن أبي طالب، والحسن بن علي، والحسين رضي الله عنهما، اقتسما شبهه، وقثم بن العباس بن عبد المطلب، والسائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب. * وأسلم أبو سفيان هذا يوم الفتح، واعتذر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقبل منه، وحسن إسلامه، وشهد حنينًا، وأبلى فيها بلاءًا حسنًا، وكان ممن ثبت، ولم يفارق يده لجام بغلة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى انصرف الناس إليه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبه، وشهد له بالجنة في غير حديث رواها الأئمة العلماء. وروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول له: (أرجو أن تكون خلفًا من حمزة)، وهو معدود في أفاضل الصحابة. * وعبد الله بن الحارث، اسمه عبد شمس، فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله، مات بالصفراء، في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدفنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في قميصه وقال: (سعيد أدركته السعادة) ذكره مصعب الزبيري وغيره.

* فهؤلاء بنو الحارث الأربعة كلهم أسلموا. * ومن أولادهم: جعفر بن أبي سفيان بن الحارث، أسلم مع أبيه أبي سفيان، ويكنى أبا الهياج، رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -. * والحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، أسلم مع أبيه نوفل. * وابنه عبد الله بن الحارث الملقب (ببه) الذي اصطلح عليه أهل البصرة حين مات معاوية، ولد (ببه) على عهد المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. * المطلب بن ربيعة، ولد على عهد المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. * ومحمد بن ربيعة، ويكنى أبا حمزة، ولا عقب اليوم لأبي سفيان بن الحارث ولا لعبد الله (32/ب) بن الحارث، فهؤلاء بنو الحارث بن عبد المطلب وبنوهم. * وأما الزبير بن عبد المطلب، والمقوم، وحجل، وضرار، والغيداق فلا عقب لهم، وقثم فقد قدمنا أنه مات صغيرًا. * وأما العباس رضي الله عنه، فولد: الفضل، ويكنى أبا محمد، وكان رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - وحفظ منه، وروى عنه، وشهد غسله، وبه كان يكنى

العباس؛ لأنه أكبر ولده، ولم يخلف إلا بنتًا، وقد انقرض عقبه. * وعبد الله ويكنى أبا العباس الحبر، والحبر: هو حبر الأمة وعالمها بعلومها كلها، وأبو الأئمة، ترجمان القرآن، دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - (بالحكمة وتأويل القرآن). وفي رواية: (بالفقه في الدين وعلم التأويل). وفي حديث آخر: (بأن يبارك فيه، وينشر منه، وأن يجعله من الصالحين). وهي أحاديث كلها صحاح؛ فكلها تحققت فيه بحمد الله ومنه، فإن الله

سبحانه بارك فيه، ونشر منه، وفقهه في الدين، وعلمه التأويل، والحكمة والتفسير، فهو عالم الأمة وحبرها وفقيهها، وأبو أئمتها وخلفائها؛ الذين هم منار البلاد وسرج العباد. قال مجاهد: قال ابن عباس: رأيت جبريل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين، ودعا لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة مرتين. فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحبه ويُدنيه، ويقربه ويدخله مع أجلة أصحابه، والبدريين منهم ذوي الأسنان. وكان ابن عباس يُقرئ القرآن جماعة من المهاجرين الأولين منهم عبد الرحمن بن عوف. وقال ابن مسعود: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عاشره منا رجل. وكان عمر يقول: ابن عباس فتى الكهول، له لسان سؤول، وقلب عقول. وقال القاسم بن محمد: ونظر الحطيئة إلى مجلس عمر بن الخطاب، وفيه ابن عباس (33/أ)، فقال: من هذا الغلام الذي أراه هنا يأتي إلى المجلس برع

الناس بعلمه، ونزل عنهم بسنه؟ فقالوا: عبد الله بن عباس، فقال: أبياتًا منها: إني وجدت بيان المرء نافلة .... تُهدي له ووجدت العي كالصمم والمرء يفنى ويبقى سائر الكلم .... وقد يلام الفتى يومًا ولم يلم. وقال مسروق: كنت إذا رأيت عبد الله بن عباس، قلت: أجمل الناس، فإذا تكلم قلت: أفصح الناس، فإذا تحدث قلت: أعلم الناس. ونظر معاوية إلى ابن عباس، وهو يتكلم فأتبعه بصره وقال متمثلًا: إذا قال لم يترك مقالًا لقائل .... مصيب ولم يثن اللسان على هجر يصرف بالقول اللسان إذا انتحى .... وينظر في أعطافه نظر الصقر وفيه يقول حسان رحمه الله: إذا ما ابن عباس بدالك وجهه .... رأيت له في كل أحواله فضلا إذا قال لم يترك مقالًا لقائل .... بمنتظمات لا ترى بينها فصلا كفى وشغل ما في النفوس فلم يدع .... لذى إربها في القول جدًا ولا هزلا

سموت إلى العليا بغير مشقة .... فنلت ذراها لا دنيا ولا وعلا خلقت خليقًا للمودة والندى .... فليجا ولم تخلق جبانًا ولا كهلا وقال العباس لولده عبد الله: يا بني أرى هذا الرجل -يعني عمر- قد قربك وأدناك وأجلاك، فأحفظ عني ثلاث: لا تفشين له سرًا، ولا يخزن عليك كذبًا، ولا تغتابن عنده أحدًا. قال الشعبي: قلت لابن عباس، يا ابن عباس، كل واحدة خير من ألف قال: ومن عشرة ألاف. وسمع ابن عباس النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه. ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن عباس صبي، فحفظ عنه علمًا جمًا. وروى عنه تقي بن مخلد، له في مسنده ألف حديث وستمائة حديث وستين حديثًا، أخرج له في الصحيح مائتا حديث وأربعة وثلاثون حديثًا، وفضائله مشهورة (33/ب) جمة كثيرة، لا يحتمل هذا الفصل إن زاد أكثر من هذا منها.

وعبيد الله بن العباس كان جوادًا ممدحًا مطعامًا، رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما قيل. وقثم بن العباس، ومعبد بن العباس، وكثير بن العباس، وكان فاضلًا، وعبد الرحمن بن العباس، والحارث بن العباس، وتمام بن العباس، وكان من أشد الناس بطشًا، وأم حبيب بنت العباس، وآمنة بنت العباس، وصفية بنت العباس. وهؤلاء ولد العباس لصلبه منهم: عبد الله، وعبيد الله، والفضل، ومعبد، وقثم، وعبد الرحمن، وأم حبيب أمهم كلهم: لبابة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم، أم الفضل، وهي أخت ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي أول امرأة أسلمت بعد خديجة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لها مكرمًا، وهي منجبة أخت منجبات، وهن أخوات تسع كلهن نجبات، وأمهن هند بنت عوف التي يقال لها هي أكرم الخلق أصهارًا.

* فولد عبد الله بن عباس أولادًا جماعة منهم: علي بن عبد الله، وكنيته، أبو محمد، ولد ليلة قتل علي بن أبي طالب في شهر رمضان سنة أربعين فسمي باسمه، وكان أصغر ولد عبد الله سنًا، وكان أجمل قرشي، وأوسمه وأمراه، وكان يقال له السجاد. * فولد علي بن عبد الله بن العباس أولادًا منهم: محمد بن علي، أبو الخلائف، وداود بن علي، وعيسى بن علي، وعبد الصمد بن علي، وهو آخرهم موتًا، حج يزيد بن معاوية بالناس سنة خمسين من الهجرة، وحج بالناس عبد الصمد ابن علي سنة خمسين ومائة من الهجرة، وبين الوقتين مائة عام، وبين وفاتيهما أكثر من مائة سنة وعشرة أعوام، وهما في التعدد بعبد مناف سواء. * فولد محمد بن علي، أبو الخلائف، عبد الله أبا جعفر، أمير المؤمنين، وعبد الله أبا العباس أمير المؤمنين، وإبراهيم الإمام، وموسى وغيرهم (34/أ) ولكل منهم عقب. * وفي شهر ربيع الآخر من سنة اثنين وثلاثين ومائة منَّ الله سبحانه بالدولة العباسية، ثبتها الله سبحانه وأطدها وشيد قواعدها ومهدها- فولى أبو العباس

عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس المذكور الخلافة، ويلقب بالسفاح، وكانت ولايته الخلافة سنتين وثمانية أشهر وأيامًا. * ثم ولى الأمر أخوه: أبو جعفر عبد الله المنصور، وكان أكبرهما، فكانت خلافته اثنتين وعشرين سنة غير أيام، وقيل: غير شهر. * وكان له من الولد: أبو عبد الله محمد، وصالح، وسليمان، وعيسى، ويعقوب، وجعفر، والقاسم، وعبد العزيز، والعباس، والعالية. * فولي الخلافة بعده ابنه: أبو عبد الله محمد المهدي بن عبد الله المنصور، فكانت خلافته عشر سنين وشهرًا وأيامًا، وكان له من الولد: موسى، وهارون، وعلي، وعبيد الله، ومنصور، ويعقوب، وإسحاق، وإبراهيم، وعالية، وسليمة.

* فولي الخلافة بعده من ولده اثنان: موسى الهادي، وهارون الرشيد، فالذي تلاه في الأمر ولاية أكبرهما سنًا: أبو محمد موسى بن محمد المهدي، ولقبه الهادي، فكانت خلافته سنة أيامًا، واختلفوا في مقدارها. * ثم ولي الخلافة بعده أخوه: أبو جعفر هارون الرشيد بن محمد المهدي، وكان رشيدًا كاسمه رضي الله عنه، غزاءً حجاجًا، فكانت خلافته ثلاثًا وعشرين سنة وأيامًا، اختلف فيها، وكان له من الولد: محمد، وعبد الله، وأبو إسحاق محمد، وأبو محمد صالح، وأبو عيسى علي، وإسحاق، والعباس، وأبو أيوب، وأبو أحمد، وأبو علي، وبنات. * وولي الخلافة من ولده ثلاثة: محمد الأمين، وعبد الله المأمون، وأبو إسحاق محمد المعتصم. والذي تلاه في الأمر منهم: أبو عبد الله محمد الأمين، ولم يل الأمر بعد علي من أبوه وأمه هاشميان سواه، وأمه: أمة الواجد (34/ب) وقيل: أمة العزيز زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور، وكانت خلافته أربع سنين وسبعة أشهر وثمانية عشر يومًا، وكان له من الولد: موسى، وعبد الله،

وإبراهيم. * فولى الخلافة بعده أبو العباس عبد الله المأمون، وكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر. وله من الولد: محمد الأكبر، ومحمد يعرف بالأصغر، وعبيد الله، والعباس، وعلي، والحسن، وإسماعيل، والفضل، وموسى، وإبراهيم، ويعقوب، وإسحاق، وسليمان، وجعفر، وأحمد، وعلي الأصغر، والحسن الأصغر، وهارون، وبنات. * فولي الخلافة بعده: أخوه أبو إسحاق محمد المعتصم بن هارون الرشيد، فكانت خلافته ثمان سنين، وثمانية أشهر، وثمانية أيام، وقيل: ويومين، غزى بنفسه دفعات، ,كان له من الولد: هارون، وهو الواثق، وجعفر، وهو المتوكل، ومحمد وهو أبو السمعين. * ولي الخلافة منهم اثنان: فأولهما واليًا أكبرهما، وهو: الواثق أبو جعفر هارون بن محمد المعتصم، فكانت خلافته خمس سنين، وتسعة أشهر، وستة

أيام، وأولاده: محمد، وهو المهتدي، وعبد الله، وأحمد، وإبراهيم، ومحمد الأصغر، وعائشة. * فولي الخلافة بعده أخوه أبو الفضل جعفر المتوكل على الله بن محمد المعتصم بالله، فكانت خلافته أربع عشر سنة وتسعة أشهر، وتسعة أيام، وقيل: وخمسة عشر يومًا. وأولاده: أبو أحمد الموفق طلحة، ولم يل الأمر بل كان أميرًا كبيرًا، ومحمد، وهو المنتصر، والزبير، وهو المغيرة، وإبراهيم، وهو المؤيد، وموسى، وإسماعيل، وأحمد المعتمد. * فولي الخلافة من ولده ثلاثة: المنتصر، والمعتز، والمعتمد، وأولهم ولي بعده المنتصر أبو جعفر محمد، فكانت خلافته ستة أشهر، وكان له أولاد أربعة. * فولي الخلافة بعد المنتصر ابن عمه: المستعين بالله، وهو أبو العباس أحمد ابن محمد المعتصم، فكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر، ولم يل الخلافة (35/أ) من بني العباس -رضي الله عنهم وعنه- بعد المنصور من لم

يكن أبوه خليفة إلا المستعين، ثم المعتضد، ثم القادر، وسيأتي بيان ذكرهما إذا انتهى إليه. وكان للمستعين عدة أولاد. * ثم استقرت الخلافة بعد المستعين في أبي عبد الله محمد، وقيل الزبير، وهو المعتز بالله، فكانت خلافته ثلاث سنين وسبعة أشهر غير أيام، ولم يكن له سوى ولد واحد اسمه: عبد الله. * فولي الخلافة بعد المعتز ابن عمه: أبو عبد الله محمد، هو المهتدي بالله ابن هارون، الواثق بالله، وكانت خلافته أحد عشر شهرًا وبضعة عشر يومًا، وكان متحريًا سيرة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما، وكان له خمسة عشر ولدًا ذكرًا، وعقبه باق. * فويل الخلافة بعد المهتدي ابن عمه: أبو العباس أحمد المعتمد على الله ابن جعفر، المتوكل على الله، فكانت خلافته ثلاثًا وعشرين سنة وأيامًا، وقيل: يومًا، وفي أيامه خرج صاحب الريح الخارجي بالبصرة، فندب إليه المعتمد أخاه أبا أحمد الموفق، فلم يزل مجتهدًا في قتاله حتى قتله، وكان أمره قد استفحل، لولا أن الله تعالى دفع.

وكان للمعتمد من الأولاد: جعفر، وإسحاق. * فولي الخلافة بعد المعتمد أخيه: أبو العباس أحمد المعتضد بالله ابن أبي أحمد الموفق طلحة، وقيل: محمد بن المتوكل على الله جعفر، وكانت خلافته عشر سنين غير شهرين وأيام، وكان له: علي، وهو المكتفي، وجعفر، وهو المقتدر، ومحمد، وهوا لقاهر، وهارون، وأحد عشر بنتًا. * فولي الخلافة بعده أخوه أبو الفضل جعفر (35/ب) المقتدر أحمد بن المعتضد، فكانت خلافته أربعًا وعشرين سنة، وأحد عشر شهرًا، وأربعة عشر يومًا، كان له من الولد: أبو العباس أحمد الراضي، وأبو إسحاق إبراهيم المقتفي، وإسحاق والد القادر، وأبو القاسم الفضل المطيع، وقيل كنتيه: أبو العباس، وعبد الواحد، وعباس، وهارون، وعلي، وإسماعيل،

وعيسى، وموسى وغيرهم. * فولي الخلافة ثالثة: الراضي، والمتقي، والمطيع. * فولي الخلافة بعد المقتدر أخوه: أبو منصور محمد بن القاهر بن أحمد المعتضد فكانت خلافته سنة، وستة أشهر، وأيامًا، كان له من الولد: أبو الفضل، وعبد الصمد والد القاسم، وعبد العزيز. * ثم ولي الخلافة بعد ابن أخيه: أبو العباس محمد الراضي بالله، وجعفر المقتدر بالله، فكانت خلافته ست سنين وعشرة أشهر وأيامًا، وكانت له عدة أولاد: أحمد، وعبد الله، وغيرهما. * فولي الخلافة بعده أخوه: أبو إسحاق إبراهيم المتقي، ابن جعفر المقتدر، فكانت خلافته أربع سنين غير شهر واحد، وكان له ولد واحد. * فولي الخلافة بعده ابن عمه أبو القاسم عبد الله المستكفي بالله بن علي المكتفي بالله، فكانت خلافته سنة وأربعة أشهر إلا يومًا واحدًا. * فولي الخلافة بعده: ابن عمه، أبو القاسم، وقيل: أبو العباس الفضل المطيع

ابن جعفر المقتدر، فكانت خلافته سبعًا وعشرين سنة. وأربعة أشهر، وأيامًا، وله أولاد منهم: أبو بكر عبد الكريم الطايع، وجعفر. * فولي الخلافة بعده ابنه أبو بكر عبد الكريم الطائع بن الفضل، فكانت خلافته سبع عشرة سنة، وتسعة أشهر، وأيامًا، ولم يل الخلافة من يكنى أبا بكر بعد الصديق رضي الله عنه سواه، ولا من اسمه عبد الكريم على الإطلاق سواه. * فولي الخلافة بعده: ابن عمه، أبو العباس أحمد القادر بن إسحاق بن جعفر المقتدر بالله، فكانت خلافته ثلاثًا وأربعين سنة. * وولده: أبو جعفر عبد الله، فولي (36/أ) الخلافة بعده ابنه الإمام أبو جعفر عبد الله القائم بأمر الله بن أحمد القادر بالله، فكانت خلافته خمسًا وأربعين سنة، وكان له عدة أولاد، ولم يعقبوا، سوى الأمير ذخيرة الدين أبي العباس محمد؛ فإنه أعقب الأمير أبا القاسم عبد الله، وأحيا الله تعالى جده حتى رآه بحيث يصلح للأمر ففوضه إليه، ونص عليه، والحمد لله رب العالمين. * فولي الخلافة بعد: ابن ابنه الإمام أبو القاسم عبد الله المقتدي ابن الأمير ذخيرة الدين أبي العباس محمد بن الإمام القائم بأمر الله أبي جعفر عبد الله،

فكانت خلافته عشرين سنة، وكان له من الولد عدد وافر بحمد الله ومنه، وقد بقي حتى الآن منهم. * فولي الخلافة بعده منهم: ابنه الإمام أبو العباس أحمد، المستظهر بالله بن الإمام المقتدي بالله أبي القاسم عبد الله، فكانت خلافته خمسًا وعشرين سنة وشهورًا، وكان له من الولد عدد كبير وافر، وقد بقي منه بقية. * فولي الخلافة منهم: ابنه الإمام المسترشد بالله أبو المنصور الفضل، فكانت خلافته سبع عشرة سنة، وسبعة أشهر، وله أولاد جماعة. * فولي الخلافة أخوه الإمام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين أبو عبد الله، محمد قدس الله روحه، فكانت خلافته أربعًا وعشرين سنة، وثلاثة أشهر وأيامًا. * ثم ثبت الأمر واستقوت الخلافة في سيدنا ومولانا الإمام المستنجد بالله أمير المؤمنين: أبي المظفر يوسف بن الإمام المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد ابن الإمام المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن الإمام المتقدي بالله أبي القاسم عبد الله بن الأمير ذخيرة دين الله أبي العباس محمد بن الإمام القائم بأمر الله أمير المؤمنين أبي جعفر عبد الله بن الإمام القادر بالله أمير المؤمنين أبي العباس أحمد بن الأمير أبي محمد إسحاق بن الإمام أبي الفضل جعفر المقتدر بالله أمير المؤمنين أبن الإمام أبي العباس (36/ب) أحمد المعتضد بالله ابن الإمام المعتصم بالله، ابن الإمام أمير المؤمنين أبي أحمد الموفق طلحة بن الإمام أبي أحمد الموفق طلحة بن الإمام أبي الفضل جعفر المتوكل على الله أمير المؤمنين

أبي إسحاق محمد بن الإمام أبي جعفر بن هارون الرشيد أمير المؤمنين ابن الإمام أبي عبد الله محمد بن المهدي بالله أمير المؤمنين ب الإمام أبي جعفر عبد الله المنصور بالله أمير المؤمنين بن محمد بن علي بين عبد الله بن العباس عم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وكان إمامته الشريفة المحمدية، وخلافته العباسية في ثاني شهر ربيع الأول من سنة خمس وخمسين وخمسمائة، والله سبحانه يطيل في عمره، ويُديم أيامه، وينفذ في مشارق الأرض ومغاربه أوامره وأحكامه، ويملكه ما طلعت عليه الشمس، وحواه من بسيطة الأنس، ويعينه من أمر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على ما ولاه، ويحفظه فيما منهم استرعاه، ويبارك له في ذريته الشريفة المباركة، الأمراء الغر الميامين، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم، ويجعل الخلافة باقية في عقبه إلى يوم الدين برحمته، إنه أرحم الراحمين. * فهؤلاء بنو العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه على الاختصار، أبقى الله سبحانه دولتهم مدى الأحقاب والأعصار. * فولد عبد الله بن عبد المطلب: أبا القاسم محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم -. وخاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، والمصطفى من الخلق أجمعين؛ الذي أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، وأنقذ به من الضلالة، وبصر به من الجهالة، فهو الذي أنارت به الأرض، وهو سيد ولد آدم، وما ولد تحت لوائه إلي يوم القيامة،

وهو الشفيع (37/أ) عن الجميع يوم العرض، حيث له الأنبياء والمرسلون متوقفون لنبينا، اثبت من فضله، ونتائج مقامه من ربه عز وجل. فهو - صلى الله عليه وسلم - الذي انتهى إليه الأمر، وختم به الأنبياء، فكانت أمته آخر الأمم، فهو لكل متأمل مشيري بمنزلته إلى أنها الفضلى؛ لأن الأنبياء كلهم جاءوا بين يديه، مرشدين إليه ومحيلين عليه، أخذ ميثاقهم وإصرهم على أن يؤمنوا به. قال الله عز وجل: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين}. فشهد الله جل جلاله على ذلك، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه المقضي، وهو من الأنبياء المنتهى، فهو كالشمس إذا تقدمت من يديها كواكب الأسحار، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقًا، ونبيه صدقًا، بشر به الأنبياء، وأوصى به كل نبي قومه. ولقد كان الشيخ محمد بين يحيى يقول: والله الذي لا إله إلا هو، لكأني أسمع بأذني موسى بن عمر أن يقول لبني إسرائيل: سيأتي محمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًا من حاله كذا وكذا، فيقول بنو إسرائيل: صلى الله على محمد؛ لأن الله يقول: {يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل}. الآية.

فهو قد جمع الله له - صلى الله عليه وسلم - بين معجزات الأنبياء كلهم، فإن الله سبحانه جعل دلائله قوله وبرهانه كلامه، فصدق الله به وعوده، ونفذ به أوامره، فقال سبحانه وتعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}. وكان ذلك مما تولى الله سبحانه وتعالى تصديقه فيه، ونصره بالرعب (37/ب)، وجعل الأمر في الدعاء له، كرامة في العاجلة والآجلة، وكمل له إثبات الفضائل والمحاسن وأصناف المناقب والمآثر، ومحاسن الأخلاق والأوصاف، وكريم السجايا والمزايا. وأجل له ولأمته ما كان محرمًا على من قبله، ونسخ له ولهم ما كان محظورًا، ونصره بالرعب بين يدي عده شهرًا بين يديه، وأحل له ولأمته الغنائم، وأرسله إلى الأحمر والأسود، والجن والإنس، وشرفه في خطابه في القرآن العظيم، فلم يأت بذكره مفردًا إلا ومعه ذكر النبوة والرسالة، والتعظيم والتفخيم، وقرن ذكر نبوته بذكر توحيده سبحانه والإيمان به. فلا يصح لأحد اسم الإسلام إلا بالإيمان به، والإقرار بنبوته، ثم جعل اسمه تاليًا لاسمه عز وجل في الأذان والأذكار والصلوات، فلا يذكر الرب سبحانه إلا ويتبع ذكره بذكره.

وشرح صدره، وأعلى على كل قدر قدره، وأنزل في الكتب صفته ونعته، فبشر به الأنبياء، ويقدموه في البعث، وجاء خاتمًا لهم، مصدقًا لجميعهم، ناسخًا لجميع الشرائع بشريعته. وأنزل عليه كتابًا مهيمنًا على كل الكتب الذي قبله، وجعله مختارًا من أشرف البيوت وأوسطها، وجعل معجزاته الشاهدة بتصديقه، أكبر من عدد الحصى وورق الشجر؛ حتى أيقنت النفوس، واضطرت إلى الإيمان به، ومن أعلامه ومعجزاته: القرآن الكريم، وإنما كان القرآن معجزًا؛ لأن الخلق عجزة أن يأتوا بمثله. فأما من حيث ظهور عجزهم؛ فإنه قد بان لعوام الناس من أنه لما مضى على إنزاله ما مضى من السنين، ولم يقدر أحد على أن يأتي بمثله مع تحديهم به، التحدي الذي ظهر وانتشر، ودعاهم وهم بلغاء الناس منذ بعثه الله عز وجل وجزيرة العرب يومئذ مملوءة بالآلاف منهم، ومن جاء بعده منهم عليه السلام في أقطار المشارق والمغارب. قرنًا فقرنًا إلى وقتنا هذا منذ خمسمائة سنة (38/أ) ونيف وخمسين عامًا من هجرته - صلى الله عليه وسلم -. مع تحديهم بأن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله أو بسورة من مثله أو متلوا منه، وهي قوله عز وجل: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا} تقريعًا وتعجيزًا، فكلهم عجز عن ذلك، وكع عنه، وانقطع دونه، وخسر، وأخلدوا إلى أن

عرضوا نفوسهم للقتل، وأولادهم للسبي، وأموالهم للتلف، وديارهم للخراب، ولو أحسوا في نفسهم قوة ومسكة لما وقفوا عندما وقفوا عليه من ذلك، فهل يصح أن مثل هذه الحالة الباهرة، وظهور هذه العجزة القاهرة، كانت بتعصب من أعداء النبي الأمي محمد - صلى الله عليه وسلم - لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، على تنائي أوطانهم، وتباعد أغراضهم، وتباين مقاصدهم أسلفت ذات بينهم، واصطلح أمرهم فالتأم شنانهم في القلوب والأبدان، وتواطئوا على بعد الآراء والأمكنة والأزمنة على أن يتعصبوا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ويحققوا قوله في هلاكهم، وخراب ديارهم، وقتل أنفسهم، وذهاب أموالهم في زمانه، وزمان أصحابه. وبصروا على وقع السيوف والسهام، ويعجزوا أنفسهم عما تحداهم به مع قدرتهم عليه أو على بعضه حتى يتم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أمره، ويظهر صدقه، مع كونه هو - صلى الله عليه وسلم - نابذًا لهم كلهم، مجاهدًا بتكذيب جميعهم، وأنهم لا يقدرون على شيء مما تحداهم به أصلًا ومسجلًا عليهم بذلك، وهم مع ذلك قادرون على أن يدحضوا عنهم شيئًا مما لزمهم من العار؛ أو يدفعوا عنه بشيء مما تحداهم به شيئًا من هذه الأسباب الموله ولا يفعلون. هذا مستحيل قطعًا غاية الاستحالة، ولكن الحق يبهر الخلق، ويملك النفوس، ويعجز الناس، ويأخذ بالقلوب، فهل يخفى هذا الحق الواضح الجلي (38/ب) على من له أدنى بصيرة، أو يتدبر عقله القرآن العظيم الذي أعجز الخلق، لا تنقضي عجائبه، ولا تذهب معجزاته، كما أن نبوته باقية بائنة لا معقب لنبوة ولا نسخ. * فأما أهل العلم فإنهم لما سمعوه بأول وهلة، عرفوا أن الجن والإنس لا

يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، لأن فيه قوله عز وجل: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون} وهذه نزلت عليه عليه السلام، والذين كفروا عنده يومئذ هم الذين اشتملت أيديهم على الأرض طولها والعرض، فأمر سبحانه وتعالى أن يفصح ويعلن لهم بأنكم ستغلبون، بالسين المخلصة الفعل للاستقبال، ثم أتبعها بقوله: {وتحشرون إلى جهنم}، وكان تحت هذه الكلمة أنه يجب عليه إزهاق أرواحكم، وسبي ذراريكم ونسائكم، وسلب ممالككم، والاستيلاء على أراضيكم، ونزع التيجان عن رؤوس مملوككم، وأمره أن يعلن بذلك، وأن يقوله في وقت ضعفه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كائن صائر، فكان كما أخبر الله سبحانه، ومن عجيب صدقه أن هذا لم يستتب في زمانه، فكان ربما تخيل الكافر أنه استتب له هذا فقاله، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - خرج من الدنيا ولم يستتب ذلك، فأتمه الله له كما كان وعده؛ ليعلم كل ذي لب أن الله تعالى هو الذي وعد به، فهذا من معجزات القرآن التي هي أخبار غيوبه التي لا تدخل الإحاطة بها تحت قدرة البشر. * ومن معجزات القرآن: وعده سبحانه بنصر الضعيف على القوي، والوحيد على ذي الجمع، فهذا والذي قبله من الغيوب المستقبلية. * ومن معجزات القرآن: الأخبار عن الغيوب الماضية، كالحال فيما جرى لموسى عليه السلام حين نودي من شاطئ الوادي الأيمن، وحين نودي من جانب الطور، مما كان أهل الكتاب يسرونه ولا يظهرونه، فلما أخبر سبحانه (39/أ) رسوله - صلى الله عليه وسلم - بما كان عليه حال موسى عليه السلام في قوله

سبحانه: {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا}، {وما كنت بجانب الغربي}، فكان ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - بما أنزل في التوراه بتلك اللغة بهذه اللغة حتى قال سبحانه: {أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل}. * ومن معجزات القرآن وعجائبه: فصاحته، فمن ذلك قوله: {الم (1) ذلك الكتاب لا ريب فيه}، وقد اشتملت هذه الحروف على علوم جمة منها: أن الألف إذا أتى به أولًا، فكانت همزة، وهي أول المخارج من أقصى الصدر، لأن أصول المخارج للحروف ثلاثة، وهي الحلق، واللسان، والشفتان، فلما كان أول مخارج الحلق الهمزة، ومعتمد مخارج اللسان اللام، وآخر الحروف مخرجًا الميم، وهي التي ينطبق عليها الفم، كان في التنزيل هذا الترتيب، إشارة إلى هذه الحروف معتمد المخارج الثلاثة التي يكون منها ستة عشر مخرجًا التي يخرج منها تسعة وعشرون حرفًا، وهي يدور عليها كلام الأولين والآخرين، ترتيبها ألف لا ميم، فتبارك الله رب العالمين. * ومن معجزات القرآن: (طس)، فإن هذين الحرفين وهما: الطاء والسين، اقتسما صفات الحروف كلها، فإن أقسام الحروف عشرة، وهي: مجهور، ومهموس، وشديد، ورخو، وعال، ومستفل، ومطبق، ومنفتح، وصفيري، ومعرى. فأما الطاء: فجمعت خمس صفات، ليس في الحروف ما يجمع الخمس

صفات غيرها، وهي: الجهر، والشدة، والاستعلاء، والإطباق، التعرية. وليس في الحروف ما يجمع هذه الخمس غير الطاء، كما أن السين حرف مهموس رخو مستفل صفيري منفتح، لا يقدر الأولون ولا الآخرون، ولا الجن والإنس أن يلحقوا بالطاء حرفًا حرفًا غير السين جامعًا لهذه الأوصاف، ولا مع السين (39/ب) غير الطاء جامعة لهذه الأوصاف، فلما كان هذان الحرفان جامعين لأوقاف القرآن كلها جميعًا، جمعها الله عز وجل فقال سبحانه: {طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين} يعني جل جلاله أن هذا الحرفين فيهما صفات الحروف التي هي مدار كلام الأولين والآخرين، وهذا وما تقدمه كان يقوله الشيخ محمد بن يحيى رحمه الله. * ومنها: رشده، فإنه يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فهو قول فصل وليس بالهزل. * ومنها: حلاوته؛ التي تسلب كل قلب سليم نحو قوله تعالى: {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتعبون الشهوات أن تميلوا ميلًا عظيمًا (27) يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفًا}. ونحو قوله سبحانه: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلًا}. وكقوله: {بسم الله الرحمن الرحيم}.

* ومن معجزاته: قصصه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - جمع فيه أخبار الأولين والآخرين على ما قص في كتابه، وعلى ما جاء في الحديث: (فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم). وقد مضى في هذا الكتاب، ويأتي من معجزات القرآن ما فتح الله به سبحانه. ومن معجزاته: قوله سبحانه: {فأي الفريقين أحق بالأمن}، وهذه الكلمة قطعت كلمة حجاج أعداء الرسل، وقد مضى ذلك بنذة، وسيأتي ذلك مشروحًا إن شاء الله تعالى. * هذا إلى غير ذلك من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - التي هي آتت معجزات موسى وعيسى صلى الله عليه وعليهما جميعًا، وزادت عليهما عند النظر الذي لا يمكن جحده، من شق الله القمر له بمكة، إذ سألته قريش ذلك آية، حتى رآه من حضر وغاب عنه، وأخبر به الشعاب بعضهم بعضًا، وأنزل الله سبحانه ذكر ذلك في القرآن العظيم. * وإطعامه - صلى الله عليه وسلم - النفر الكثير من الطعام اليسير تارات كثيرة (40/أ) في منزل جابر مرة، وفي منزل أبي طلحة أخرى، وفي يوم الخندق مرتين: ثمانين رجلًا من أربعة أمداد من شعير، وعناق، وهو من أولاد المعز فوق العنود، ومرة

أكثر من ثمانين رجلًا من أقراص شعير حملها أنس في يده، ومرة أهل الجيش كله من تمر يسير حملته بنت بشير في يدها، فأكلوا حتى شبعوا من ذلك وفضل لهم. ونبع الماء من بين أصابعه - صلى الله عليه وسلم - فشرب أهل العسكر كلهم، وهم عطاش، وقد بينا أن انفجار الماء من بين الأصابع أبلغ وآكد في المعجزة من انفجاره من بين الأحجار، وتوضؤوا من قدح صغير ضاق أن يبسط يده - صلى الله عليه وسلم - وضوؤه فيه. وأهرق - صلى الله عليه وسلم - وضوءه في غير تبوك ولا ماء فيها. ومرة يوم الحديبية في البئر المعروفة هناك فحاشا بالماء الرواء حتى شرب من غير تبوك أهل الجيش وهم ألوف، يقاربون ثلاثين ألفًا، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يجتمع له في غزاة ما اجتمع له في غزوة تبوك حتى قيل: إنهم ثلاثون ألفًا، وبالجملة فهم ألوف كثيرة، وشرب من بئر الحديبية ألف وخمسمائة؛ ولم يكن فيها قبل ذلك ماء. ورمى - صلى الله عليه وسلم - الجيش بقبضة من تراب فعمت عيونهم، ونزل القرآن العظيم بذلك في يقوله عز وجل: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}. وأبطل الله الكهانة بمبعثه فعدمت، وكانت ظاهرة موجودة. وحن إليه الجذع الذي كان يخطب عليه لما عمل له منبره، حتى سمع أصحابه والحاضرون كلهم صوته.

ودعى اليهود إلى تمني الموت؛ فأخبرهم أنهم لا يتمنونه أبدًا، فحيل بينهم وبين النطق بذلك، وهذا مذكور في القرآن في (40/ب) سورة فيها يقرأ بها في جمع جامع له الله الإسلام شهد غيرنا جهرًا تعظيم الآية التي فيها. ودعى النصارى إلى المباهلة فامتنعوا، وأخبر أنهم إن فعلوا هلكوا، فعرفوا صحة قوله فامتنعوا. وأخبر - صلى الله عليه وسلم - بالغيوب فكانت كما أخبر، كإخباره عن الحسن رضي الله عنه: (وإنه سيد وإنه يصلح الله به بين فئتين) وأن عثمان تصيبه بلوى بعدها الجنة. وإخباره أن قزمان من أهل النار مع اجتهاده في القتال لأعداء الله، وأخبر بمقتل العنسي الكذاب ليلة قتله، وهو بصنعاء اليمن، وإخباره بمن قتله .. إلى غير ذلك من إخباره الغيوب، يزيد لو عدت على أخبار الأنبياء كلهم ومعجزاتهم كلهم كثيرة، وإفرادها بنفسها يحتمل كتابًا كبيرًا، فكانت كلها كما أخبر، وهذا لا يعلم البتة إلا بوحي من الله سبحانه، وكما أخبر الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يقتل أبيًا فكان كما أخبر، وكما أخبر بمصارع أهل بدر، وأرى أصحابه مواضعهم، فما أخطئوا المواضع التي أشار إليها. * وأما دعواته المجابة عليه السلام فأكثر من أن يحاط بها، فمنها: دعاؤه - صلى الله عليه وسلم -

كحالة أمر سراقة في سفر الهجرة، فساخت قدما فرسه، وأتبعها دخان حتى استغاثه، فدعا له فانطلقت الفرس، ودعاؤه على ابن أبي لهب أن يسلط عليه كلبًا من كلابه، فأجيبت، ولو ذهبنا إلى تعديد ذلك لطال جدًا. * وأما الأفعال التي جرت على يده - صلى الله عليه وسلم - خارقة للعوائد مظهرة للإعجاز فكثيرة جدًا، قد تقدم (41/أ) منها ما تقدم، ومنها أن أبا قتادة بدرت عينه فسقطت فردها عليه السلام بيده، فكانت أصح عينيه وأحسنهما. وتفل في عين علي وهو أرمد فصح من وقته. وأصيب رجل عبد الله بن عتيك فمسحها بيده، فبرئت من حينها إلى غير ذلك من آياته ومعجزاته المشهورة المنقولة نقل التواتر. * فأما صفته - صلى الله عليه وسلم -، فهي إذا تؤملت تشهد له أنه - صلى الله عليه وسلم - رسول الله حقًا: فإنه - صلى الله عليه وسلم - لا يختلف اثنان أنه نشأ أميًا في قوم أميين، معروف منشأه ومولده، وأبوه وأمه، وأجداده وجداته، وأنه كان فقيرًا أميًا لا يقرأ ولا يكتب، يرعى الغنم على قراريط يتقوتها، لم يرحل قط عن قومه إلا مرتين معروفتين: أحدهما مع عمه وهو صبي إلى الشام، فرده عمه من الطريق قبل أن يبلغ الشام. والثانية: مع جماعة من قومه حتى بلغ إلى الشام، وانصرف، فعلمه الله سبحانه الكتاب والحكمة، وأخبار الأولين والآخرين، ومحاسن الأخلاق، وكرائم الأوصاف، وحميد الطرائق، وصالح الشيم، وآتاه جوامع الكلم،

وما فيه من النجاة والفوز في الآخرة، والغبطة والصلاح في الدنيا، دون توسط معلم أصلًا، أو قراءة كتاب، أو تلق من موقف، وهذا من أكبر معجزاته، بل مَنَّ عليه سبحانه بذلك من غير واسطة، وآتاه النبوة، فدعا قومه إلى الله سبحانه، وغيرهم فكتب إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الله سبحانه كلهم، والالتزام لأمره، والأخذ بحدود شرعه، وجريان الأحكام عليهم، وترك ما هم عليه من مألوفات النفوس، ومحبوبات الطباع، ومجبولات الخلق إلى التكاليف الشرعية وتحمل أعبائها (41/ب) بلا مال، ولا أعوان، ولا حرس ولا سور، ولا قصر. من غير أن يمني أحدًا منهم ولاية، ولا ملكًا، فراسله الملوك، ودانت له العرب بعد حاله التي نشأ عليها، وأقروا بنبوته، وذعنوا برسالته لما بهرهم من صدقه، وظهر لديهم من معجزاته حتى اضطروا إلى الإيمان به. ثم لم تتغير نفسه عليه بعد ذلك، ولا حالت سيرته عما كانت عليه، وكان على خلق عظيم، كما قال عز وجل، أعدل الناس، وأحلم الناس وأشجع الناس، وأعف الناس، وأكرم الناس، وأعظم الخلق تواضعًا على عظيم شرفه ومنزلته من ربه تعالى، وأشد الناس حياء، يجيب دعوة العبد والمسكين والأمة، تعصب لربه ولا تعصب لنفسه، وينفذ الحق على من توجه؛ وإن عاد ذلك بالضرر عليه، أو على أصحابه، عرض عليه الانتصار بالمشركين، وهو في قلة وحاجة إلى إنسان يزيده في عدد معه، فأبى، وقال: (إنا لا نستعين

بمشرك). ووجد أصحابه قتيلًا من خيارهم وفضلائهم بهذه البلاد العظيمة والعساكر الكثيرة بعد مثلة فلم يحف لهم من أجله على أعدائه من اليهود الذين وجد مقتولًا بينهم، ولا زاد على مر الحق بل وداه بمائة ناقة من صدقات المسلمين، وإن لأصحابه إلى بعير واحد يتقوون به، وكان يؤثر على نفسه بالطعام، ويصبر على ذلك، حتى لم يشبع من خبز بر ثلاثة أيام متوالية إيثارًا على نفسه فلا فقرًا ولا بخلًا. يجيب الوليمة، ويعود المرضى، ويشهد الجنائز، أشد الناس تواضعًا، وأسكنهم في غير كبر، وأبلغهم في غير إطالة، وأحسنهم برًا، لا يهوله شيء من أمر الدنيا، يجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين، ويقبل المعذرة، ولا يحتقر مسكينًا (42/أ) لفقره وزمانته، ولا ينأى ملكًا لملكه. يدعو هذا وهذا إلى الله دعاءً واحدًا إلى غير ذلك من سيرته الشريفة - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الكتاب كله، وكتب الإسلام المصنفة لا تأتي على فضله - صلى الله عليه وسلم -، ولا على معجزاته، ولا على دلائله - صلى الله عليه وسلم -، فكان الاقتصار في هذا الموضع عن شرح ذلك وبسطه دليلًا على إشاعة وعظمة وتوفيره عن الحصر والجمع والضم في موضع من الكتاب.

* وأما ذكر سنه ومولده وسنة وفاته ومبعثه. فقد مضى ذكر نسبه - صلى الله عليه وسلم -. * وأما مولده - صلى الله عليه وسلم -؛ فولد بمكة في الدار التي كانت تدعى آخرًا لمحمد بن يوسف الثقفي، وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول. وقيل: لليلتين خلتا منه عام الفيل إذ ساقه الحبشة إلى مكة في جيشهم، يغزون البيت، فردهم الله عنه، وأرسل عليهم الطير الأبابيل فأهلكتهم ببركة مولده، لا خلاف بين العلماء أنه ولد عام الفيل. * وعاش يتيمًا؛ إذ مات أبوه وأمه كما قدمنا ذكر ذلك، فكفله جده، ثم عمه، كما قدمنا، وأرضعته ثويبة وحليمة، وحضنته أم أيمن، وأتته الرسالة من الله سبحانه وهو في غار حراء في تحنثه وتعبده، فأقام بمكة ثلاثة عشر سنة مع سني الشعب الثلاثة التي أسلم فيها رجال ونساء، ثم ساق الله إلى الأنصار الكرامة، بأن جعل دار هجرته إليهم، فهاجر إليهم، فأقام عندهم عشر سنين، وكانت هجرته إليهم بعد بيعة العقبة بشهرين وليال. وخرج لإهلال شهر ربيع الأول، وقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة يوم الاثنين لأيام

خلون من ربيع الأول؛ قيل: ثمان، وقيل: اثنا عشر، (42/ب) ومن مقدمه إلى المدينة أرخ التاريخ في زمن عمر بن الخطاب، ثم أذن الله سبحانه له بالقتال، فبعث البعوث والسرايا، وغزا بنفسه، دفعات، وكان أعظمها يوم بدر، واعتمر عمرًا، وحج حجة واحدة بعدما هاجر، وتمهد الشرع وتقرر الأمر بالمدينة في سنيه العشر، وتزوج - صلى الله عليه وسلم - عددًا من النساء زائدًا على الأربع، خذ بذلك. * وكان له من الولد أربع بنات لا خلاف في ذلك، فهن: زينب، وهي الأكبر بلا خلاف، ثم أم كلثوم، ورقية، وفاطمة. واختلف في عدد أولاده الذكور فقيل: القاسم، والطيب، وعبد الله، والطاهر. والصحيح أنهما اثنان: عبد الله وهو الطيب والطاهر؛ لقبان له، والقاسم، وبه كان يكنى، وجميعهم من خديجة، وإبراهيم من مارية. والذكور والإناث كلهما ماتوا قبله سوى فاطمة فإنها بقيت بعده ستة أشهر في أصح الأقاويل، وقيل: أقل من ذلك، ولم يبق من ولده ذكرهم وأنثاهم أحد حيًا بعده سواها ثم لحقته، فلم يبق من ينسب إليه بولادة سوى أولادها. ثم لم يمت حتى استقر به الدين، فأكمل البيان، وبلغ ما أوحي إليه،

وانقطع الوحي بموته، فلا نبي بعده، ثم لم يقبضه الله إليه حتى خيره بين البقاء وبين لقاء ربه، فاختار - صلى الله عليه وسلم - لقاء ربه، فكان انتقاله إلى الكرامة العظمى الذي قال الله في ذلك: {وللآخرة خير لك من الأولى} في يوم الاثنين لاستهلال شهر ربيع الأول. وقيل: لليلتين خلتا منه، وقيل: لاثنتي عشر، سنة إحدى عشرة من الهجرة حين اشتد الضحى. * ودفن ليلة الأربعاء في أصح الأقاويل، وكانت مدة مرضه اثنى عشر يومًا، وكان في بيت عائشة موته - صلى الله عليه وسلم -، ودفن في بيتها، وهو الآن في المسجد، وإنما دفن - صلى الله عليه وسلم - حيث قبض من بيت عائشة، وصلى عليه المسلمون أفرادًا بعد أن كفن في (43/أ) في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة، وتولى غسله علي والفضل رضي الله عنهما، وقثم، وكان أسامة بن زيد وشقران وأوس بن خولي معاونين لهم في ذلك. صلى الله عليه وسلم عدد ما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون. وهذا آخر ما قدر إيراده من نسب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وذكر أصول القبائل المتصلة به على الاختصار والإيجاز، ونرجوا أن نكون قد أتينا فيه مع ذلك على جملة من المعارف، وقطعة صالحة من علم السير، والله سبحانه هو الموفق ولا حول ولا قوة إلا بالله.

-2072 - الحديث الرابع والثلاثون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، قال: (أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام- أو طعام، وشراب؛ فإذا هي أتتك، فاقرأ عليها السلام من ربها، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن تأتيه خديجة، آمرًا بأن يبشرها عند إتيانها على الصفة التي ذكرناها عن ربه عز وجل، ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب. * وسمعت شيخنا محمد بن يحيى رحمه الله يقول: إنه بشرها بذلك، ليؤمنها من النار، فإن القصب لا يكون حيث تكون النار. * وقوله: لا صخب فيه، يعني: لا سخط. ولا نصب أي: لا تعب فيه. * وقد سبق هذا الحديث في مسند عبد الله بن أبي أوفى.

-2073 - الحديث الخامس والثلاثون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها، فذاك حين لا تنفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل). وفي رواية: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من (43/ب) مغربها؛ فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا). وفي رواية ثالثة: (إذا خرجت لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض). وفي رواية: (لا تقوم الساعة حتى يخرج قريب من ثلاثين كذابين دجالين، كلهم يقول: إنه نبي، ولا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، ويؤمن الناس أجمعون، فيومئذ لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا، ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود،

فيفر اليهودي وراء الحجر، فيقول الحجر: يا عبد الله، يا مسلم، هذا يهودي ورائي، ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قومًا نعالهم الشعر). وفي رواية: (بادروا بالأعمال ستًا: طلوع الشمس من مغربها، أو الدجال، أو الدخان، أو الدابة، أو خاصة أحدكم، أو أمر العامة). وفي رواية: (بادروا بالأعمال ستًا: الدجال، والدخان، ودابة الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، وأمر العامة، وخويصة أحدكم). وفي رواية لمسلم: (من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها، تاب الله عليه]. * في هذا الحديث وجوب الإيمان بطلوع الشمس من مغربها، فقد قال عز وجل: {أو يأتي بعض آيات ربك}، فقال المفسرون: هي طلوع الشمس من مغربها، وإنما كان طلوعها من مغربها؛ أنه لرؤية أهل المشارق والمغارب

لذلك، ولا يحتاجون إلى من يخبرهم به إذا كان الإنسان ذا بصر. * وفيه أيضًا: أنه لم يوقت لذلك وقت ما، من ليله، إلا ويجوز أن تكون الليلة التي تتطلع فيها، إلا أنه إذا توافرت الأشراط كان ذلك أقرب. * وقوله: {لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل} فمعناه أن الإيمان ينفع إذا كان بحالة غيرها، فإذا خرج الغيب إلى المشاهدة زال (44/أ) زمن الإيمان فلا ينفع نفسًا إيمانها؛ لأنه لا يقى ما يؤمن به. وقوله: {لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا} يعنى أنها إن كانت مؤمنة ولم تكسب في إيمانها خيرًا، يعني طلعت الشمس من مغربها؛ فحينئذ لا ينفعها ما تكسبه. * وفيه أيضًا: وجوب الإيمان بخروج الدجال، وقد مضى ذكره. * وفيه من الآيات بخروج دابة من الأرض؛ كما قال الله عز وجل: {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم}. * وفيه: أن بين يدي الساعة خروج قريب من ثلاثين دجالين كذابين كلهم يزعم أنه نبي، فينبغي لكل مؤمن أن يكون حذرًا على دينه من بعضهم؛ فإنه لم يقل - صلى الله عليه وسلم - إنهم يخرجون في وقت معين، ولا أنهم يخرجون في مرة واحدة فليحذر الإنسان على دينه، من كل من يتظاهر بالخبر مع بدعة يبتدعها في

الدين، فإنه وإن لم يقل إني نبي بلسانه إذا رغب عما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - وابتدع بدعة، ودعا الناس إليها؛ فإنه يقول: إني نبي بلسان حاله. * وفيه ما يدل على أن اليهود عود باقي العداوة، لا تزيل البغضاء من قلبه كر الليل والنهار، وإنهم سيقاتلون المسلمين، وإن المسلمين يظهرون عليهم، فيقتلونهم حتى ينادي الحجر المسلم، أن هذا يهودي ورائي فاقتله، وإنما يدل الحجر عليه؛ لأن الحجر خاف أن يكون وقاية لعدو الله عز وجل. * وقوله: (يقاتلون قومًا نعالهم الشعر)، وأنهم الترك، قد تقدم ذكر ذلك في حديث ابن مسعود. * وقوله: (خاصة أحدكم)، يعني أنه لا يستطيل أحدكم المدة بأن يقول أنا أحيي إلى أن تطلع الشمس من مغربها، فإن خاصة نفسه غير متروكة إلى أن تخرج الدابة، ورآها تجر عذاب الله في الدنيا والآخرة، كل شغل شاغل. * وقوله: (44/ب) (أو أمر العامة)، يعني أنه يصيب عوام المسلمين أمر يشغلهم فيكون شغل الإنسان في خاصة نفسه من فعاله. * وقوله: (خويصة أحدكم)، تصغير خاصة، وقيل: خاصة أحدكم: الموت الذي يخصه، والعامة: القيامة التي تعم الخلق. * وفيه أيضًا: ما يدل على أن باب التوبة مفتوح لكل تائب، ولا يرد إلى أن تطلع الشمس من مغربها.

-2074 - الحديث السادس والثلاثون بعد المائتين: [عن أبي زرعة قال: دخلت أنا وأبو هريرة دار مروان، فرأى فيها تصاوير -وفي حديث جرير- دار بالمدينة تبتنى لسعيد أو لمروان، فرأى مصورًا يصور في الدار، فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب بخلق خلقًا كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة). وفي حديث عبد الواحد بن زياد نحوه، وزاد: ثم دعا بتنور من ماء، فغسل يديه حتى بلغ إبطه، فقلت: يا أبا هريرة: أشيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: نعم منتهى الحلية]. * في هذا الحديث ما يدل على تحريم الصور، وقد سبق ذكر ذلك، ولما صور هؤلاء صول الأجسام عاجزين على أن يخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة، فإنما يصنعون أصنامًا مجردة، فكانوا في المعنى أقبح ممن يعبد الأصنام من وجه؛ لأنهم يعملون الأصنام التي يعبدها من يعبدها، فلذلك اشتدت جريمتهم، وعظمت خطيئتهم. * وقول أبي هريرة: منتهى الحلية، معناه: أن الحلية في الآخرة تبلغ إلى حيث يبلغ الوضوء من الأعضاء.

-2075 - الحديث السابع والثلاثون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)]. * في هذا (45/أ) الحديث أن الكلم في الميزان لا يكون عن كثرة حروفها ولكن عن عظم معناها؛ فإن (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، إنما ثقلتا في الميزان من حيث إن معناهما أجل عظيم؛ لأنهما تسبيح الله وحمده على تسبيحه في إقرار بأن تسبيحه إنما كان بتوفيقه، ثم تعظيم الله سبحانه بعد تجديد تسبيحه، والتسبيح هو التنزيه وقد تقدم ذكره. * وقوله: (خفيفتان على اللسان)، أي من حيث النطق، ومن حيث اتساق الحروف؛ فإن الحروف من النون إلى الهمزة، ومن الهاء إلى الواو وإلى السين، وإلى اللام الساكنة سهل لأنه يتناسب في المخارج ويتقارب، بخلاف خروجك من صاد إلى كاف، أو خروجك من كاف إلى جيم، أو من باء إلى زاي، فإن هاتين الكلمتين نزية من التكلف. * وأما قوله: (كلمتان) وهي كلمات، فالمعنى: أنهما جملتان، والعرب

تسمي القصيدة كلمة، فتقول قلت في كلمتي كذا، كما يعنون القصيدة. ويجوز أن يكون معنى قوله: (خفيفتان على اللسان): أن كل كلمتين من هاتين الجملتين خفيفة على اللسان. * وأما قوله: (حبيبتان إلى الرحمن)؛ فلأجل أنهما جمعتا بين التنزيه والتعظيم، فالتنزيه: ناف لكل ما لا يجوز، والتعظيم: لكل ما لا يجب. -2076 - الحديث الثامن والثلاثون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم أجعل رزق آل محمد قوتا). وفي رواية: (كفافًا)]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن من الرزق ما يكون بلغة ولا يعوز ولا يفضل؛ لأن الكفاف ما كان مبلغًا المحل غير قاصر فيشغل بفضول أو معوز فيشغل في تحصيله وعلى أن هذا الدعاء هو الكفاف الحاصل لم يكون من الرزق لسائر أهل الدنيا، فإنه لا يحصل لكبر إنكار سوى قوته؛ وللذي يتقي الفتن من الدنيا وقد قاسى (45/ب) شيء مما قدر له عن كفاية فثبت أن الفاضل عن القوت فيه إشغال، وقد أجاد أبو الطيب حين يقول: ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته .... ما فاته وفضول العيش إشغال

* وفيه أيضًا: أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا لآله أن يكون رزقهم قوتًا، فلا يطغون بالإكثار، ولا يحسدهم أهل الدنيا في أرزاقهم، إذا رآهم الفقير استعمل الرضا، وإذا رآهم الغني استحيا. -2077 - الحديث التاسع والثلاثون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت أن تجيء، فبات غضبان، لعنتها الملائكة حتى تصبح). وفي رواية: (والذي نفسي بيده، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه؛ فتأبي عليه إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها). وفي رواية: (إذا باتت المرأة مُهاجرة فراش زوجها، لعنتها الملائكة حتى تصبح). وفي رواية: (حتى ترجع)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن الرجل إذا دعا امرأته إلى فراشه فامتنعت، كانت ظالمة بمنعها إياه حقه، فتكون عاصية لله بمنع الحق، وبالظلم، وبكفران العشير، وبتكدير عيش الصاحب، وبسوء الرفقة، وبكونها عرضت زوجها

ونفسها لفتنة؛ فلذلك لعنتها الملائكة حتى تصبح أو حتى ترجع، ويعني - صلى الله عليه وسلم - أنها إذا رجعت قطعت الملائكة لعنتها، لكن ما مضى من اللعنة فبحاله إلا أن يعفو الله عز وجل. * وقوله: (إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها)، فإنه يعني به الله عز وجل، وقد قال الله سبحانه: {أأمنتم من في السماء}. - 2078 - الحديث الأربعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (استوصوا بالنساء خيرًا، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه (46/أ) كسرته، فإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء) وفي رواية: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنهم خلقن من ضلع ...). وفي رواية لمسلم: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فإذا شهد أمرًا فليتكلم بخير وليسكت، واستوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضلع ...). وفي رواية: (المرأة كالضلع إن أقمتها كسرتها، وإن استمتعت بها، استمتعت بها وفيها عوج).

وفي رواية: (إن المرأة خلقت من ضلع، ولن تستقيم على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها)]. * المراد من هذا الحديث أن قوله: (خلقت المرأة من ضلع) إشارة إلى أن أصل خلقها زائغ عن الاستقامة، فلا ينبغي للرجل أن يحمله على عقله، فلا يكلفها مقتضيات كل رأيه؛ بل يستمت هبها في علم ما خلقت عليه مستوصيًا بها خيرًا من حيث عرفانه بفضله عليها في الرأي والعقل؛ فيكون في ذلك كالراحم لها، فيبني أمرها على المسامحة. * وقوله: (أعوج ما في الضلع أعلاه)، يعني به - صلى الله عليه وسلم - فيما أراه أن حنوها الذي يبدو منها؛ إنما هو عن عوج خلق فيها، وهو أعلا ما فيها من حيث الرفعة على ذلك، فإن أعلا ما فيها الحنو، وذلك الحنو فيه عوج. * وقوله: (لن تستقيم لك على طريقة)، يعني - صلى الله عليه وسلم - أنها كثيرة التلون والتقلب في أي طريقة أردت من سلوكها لم تستقم عليها كل الاستقامة، وهذا ينصرف إلى الغالب منهن والأكثر فيهن، ولا يمتنع مع ذلك أن تبرز فيهن الصالحات الحافظات بالغيب بما حفظ الله.

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإن ذهبت تقيمها (46/ب) كسرتها، وكسرها طلاقها)، فالذي أراه أن المعنى: إذا أردت تقيم العوج الذي بها كسرت الضلع. * ثم قوله: (وكسرها طلاقها) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المعنى: أنك متى أردت أن تقيمها طلقها، والآخر: أنك تستغني عن كسره؛ بأن تطلقها. * وقوله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فإذا شهد أمرًا فليتكلم بخير أو ليسكت)، فمعناه: إذا شهد أمرًا بين قوم فلينبئهم بخير، أي: بالحق الواجب عليه في ذلك، إلا إذا لم يقدر على ذلك؛ فلا أقل من السكوت والإمساك عن الشر. -2079 - الحديث الحادي والأربعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كانت بنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي، خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون) قالوا: فما تأمرنا؟ قال: (أوفوا بيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم)]. * في هذا الحديث من الفقه: جواز ذكر السياسة، وأنه لا بأس بذكر هذه الكلمة.

* وفيه: أن الله تعالى عاض هذه الأمة من الخلفاء بما كانت تقوم به الأنبياء من بني إسرائيل. * وفيه: شرف لنبينا - صلى الله عليه وسلم - من حيث إن كل نبي من بني إسرائيل كان إذا هلك بعث الله بعده نبيًا يوحى إليه، فيشرف محمد - صلى الله عليه وسلم - أن الخلفاء بعده يكونون نوابًا عنه، ويعملون بشرعه؛ بخلاف ما تقدم من الأنبياء. * وفيه: آية على صدقه - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به؛ لأنه أخبر بهذا قبل كونه، وكان كما أخبر - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه: أن حيث كانت الخلفاء أقامهم الله مقام الأنبياء في بني إسرائيل أنه يجب على كل الناس أن يروا الخلفاء بذلك المقام، وأنه يجب أن يطاع كل منهم في وقته، كما كان يطاع النبي في أمته. * وفي (47/أ) أيضًا: أنه ينبغي للخلفاء أن يكونوا على سيرة الأنبياء؛ لأن الله تعالى جعلهم عوضًا منهم، وخلفاء عنهم. * وفيه أيضًا: أن الخلفاء يكثرون، وهذا دليل على بقاء الخلافة إلى آخر الدهر؛ لأنه قال: فيكثرون، ولم يذكر أنه يأتي نبي بعدهم. * وقوله: (فأفوا للأول)، يعني: أن الأول في البيعة هو الخليفة، وكذلك جاء في الحديث الآخر: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما). * وقوله: (أعطوهم حقهم)، المعنى: لا تكونوا أنتم الذين تحاسبونهم، وإنما

عليكم إعطاؤهم الحق، وحسابهم على الله، وهذا دليل على شرف الخلافة؛ لكونها نزهت أن يكون عليها مشرف أو معارض، بل الله تعالى هو المتولي لذلك؛ بل يجب على الناس طاعتهم وفاء بحقهم، ومن حقهم طاعتهم سرًا وجهرًا. -2080 - الحديث الثاني والأربعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى، فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك؛ لا، والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء، فقال: (من يضيف هذا الليلة؟ فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية: (هل عندك شيء؟ قال: لا، إلا قوت صبياني، قال: فعلليهم بشيء). وفي حديث أبي أسامة: (وإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج، فأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفيئه، قال: فقعدوا فأكل الضيف). وفي حديث عبد الله بن داود: (باتا طاويين، فلما أصبح غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (لقد عجب الله من صنيعكما (47/ب) بضيفكما الليلة). وفي رواية ابن فضيل: (فقام رجل من الأنصار يقال له: أبو طلحة،

فانطلق به إلى رحله، ثم ذكره نحوه)]. *في هذا الحديث من الفقه: أن لفظه الجهد، لا تستعمل في الأكثر إلا في حالة المرض، وعلى هذا يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد رأى علاج المريض: إطعامه الطعام، فيكون هذا الحديث دالًا على خلاف ما يذهب إليه المتنطعون في التداوي، من أنهم يحمون المجهود الطعام، وهذا ما لا أراه في كل مرض؛ بل إنما يكون الامتناع من الطعام دواء لمن داؤه الامتلاء، أو يكون هضمه قد ضعف، فينبغي أن يوفر القوى الهاضمة بالتجويع إلى أن تهضم ما كانت ضعيفة عن هضمه، وأما باقي الأمراض فلا أعلم أنه يصلح فيها قطع الغذاء، وقد جربت هذا مرارًا. ويجوز أن يكون المراد بقوله في الحديث: إني مجهود، أن الجوع قد بلغ منه الجهد فأمرضه. *وفيه أيضًا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعرض لغيره، حتى ذكر نساؤه رضي الله عنهن خلو بيوتهن من قوت؛ فحينئذ قال: من يضيف هذا الليلة؟ *وفيه أيضًا دليل على جواز أن يضيف الرجل الرجل، وليس عنده إلا قوت صبيانه، ولا يكره ذلك له إلا أن يستمر فيضر بأهله؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: (لقد عجب الله من صنيعكما الليلة). *وفيه دليل على أن الرجل قد لا يعلم ما في بيته كذلك، تفويضًا لذلك إلى

زوجته. *وفيه أيضًا دليل على جواز التوصل في تسكين الأطفال وتعليلهم، مع أخذ زادهم في مثل هذه الحالة النادرة تغنمًا لسده الحاجة الشديدة؛ فإن هذا الرجل بلغ منه الجهد؛ وليس كل ضيف يكون مثل هذا. *وفيه أيضًا من التوفيق أن هذا الرجل جمع بين توفير الزاد على الضيف مع التوصل (48/أ) في تطييب نفس الضيف؛ إذ أمر امرأته لعتم المكان إذ لو قد كان المصباح يقد حتى رأى امتناعهم من الطعام توفيرًا عليه إذ لم يتعد أن يتكدر قلبه. *وفيه أيضًا ما يدل على أن الله تعالى جعل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصولًا في عمارة الطرق كلها، يقتدى بهم، فإن فعل هذا الأنصاري مما قل فيما سمع أن أحدًا سبقه إليه أو لحقه فيه، وهو في معنى قوله: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}. -2081 - الحديث الثالث والأربعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة قال: (ما عاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعامًا قط، كان إذا اشتهى شيئًا أكله، وإذا كرهه تركه). وفي رواية: (ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاب طعامًا قط، كان إذا اشتهاه أكله

وإن لم يشتهه سكت)]. *في هذا الحديث من الفقه: أن الإنسان ينبغي أن يرى نفسه في هذه الدنيا ضيفًا لله عز وجل، وأن كل ما يقدم إليه في بيته وبيت غيره إنما هو من ضيافة الله؛ لأن إضافة الرجل للرجل بالشيء المستطرف والمستحسن من الأطعمة فقد سبق خلق الله عز وجل لذلك الشيء وإعداده سبحانه إياه، فلو لم يجد الضيف ذلك الشيء المضاف به مخلوقًا معدًا لم تبلغ قدرته إيجاده، فصار المضيف على الحقيقة هو الله تعالى، وحقيق بمن يرى أنه ضيف الله عز وجل وإن أكل طعامًا فإنما هو مجموع أجناس قد بدأ الله بخلقها، وسهل حصولها، ولا ينبغي له أن يعيب شيئًا منها؛ بل إن كان به حاجة إليه يتناوله، وإن لم يكن إليه حاجة تركه. فكما أنه لا يحسن بالمؤمن أن يهين شيئًا مما خلقه الله له من جميع الأشياء، فكذلك لا ينبغي له أن يتناول منه فوق حاجته؛ لأنها قوته وقوت غيره، فالقسمة بينه وبين غيره لم يكن تقديرها إلا بالإشارة بحالة الاحتياج، فإذا أخذ من شيء هو مشاع بينه وبين غيره أكثر من حاجته فقد ظلم غيره مقدار التفاوت (48/ب). *وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأكل إلا ما يشتهيه لقوله: (كان إذا اشتهى شيئًا أكله)، وهذا يدل على أنه يستحب للإنسان ألا يأكل من الطعام إلا ما يشتهيه، ولا يجاهد نفسه على تناول ما لا يريده؛ فإنه من أضر شيء بالبدن، وقد جاء

في صفة أهل الجنة: {ولحم طير مما يشتهون}. *وفيه أيضًا رد على من يزعم أن تناول ما يشتهى مكروه. *وقوله: (وإن لم يشتهه سكت) أي: لم يعبه. -2082 - الحديث الرابع والأربعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، قال: (ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم - من طعام ثلاثة أيام، حتى قبض). وفي رواية عن أبي حازم، قال: (رأيت أبا هريرة يشير بأصبعه مرارًا يقول: والذي نفس أبي هريرة بيده، ما شبع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأهله ثلاثة أيام تباعًا من خبز حنطة، حتى فارق الدنيا). وفي رواية: (والذي نفس أبي هريرة بيده ما أشبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهله ثلاثة أيام تباعًا من خبز حنطة حتى فارق الدنيا). وفي رواية عن أبر هريرة: أنه مر بقوم بين أيديهم شاة مصلية، فدعوه فأبى أن يأكلها، وقال: (خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير)]. *قوله: لم يشبع ثلاثة أيام، أي: لم يوال الشبع ثلاثة أيام، وهذا يدل على

جواز الشبع، وأنه إذا لم يواله لم يكره بحال؛ إلا أن المستحب أن يكون أكل الإنسان وفق حاجته من غير أن يكظ معدته، ولا يخليها ما أمكنه، ويجوز أن يكون ما اتفق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يشبعه. *وأما ذكره لخبز الشعير، فيجوز أن يكون عوزًا، ويجوز أن يكون إيثارًا لغير الشعير، لأن غير الشعير أصلح للأبدان. -2083 - الحديث الخامس والأربعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من (49/أ) اثتنين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:أصدق ذو اليدين؟ فقال الناس: نعم، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى اثنتين أخريين ثم سلم، ثم كبر، ثم سجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع، ثم كبر فسجد مثل سجوده، ثم رفع). وفي حديث سلمة بن علقمة: (قلت لمحمد- يعني ابن سيرين -:في سجدتي السهو تشهد؟ فقال: ليس في حديث أبي هريرة). وفي رواية: (صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي). قال محمد: وأكثر ظني: العصر- ركعتين، ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد، فوضع يده عليها، وفيهم: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فهاباه أن يكلماه، وخرج سرعان الناس، فقالوا: أقصرت الصلاة؟ ورجل يدعوه النبي - صلى الله عليه وسلم -:ذو اليدين فقال: يا نبي الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟

فقال: (لم أنس ولم تقصر)، قال: بلى قد نسيت، قالوا: صدق ذو اليدين، فقام فصلى ركعتين، ثم سلم، فكبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم وضع رأسه فكبر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر). وفي حديث سفيان بن عيينة عن أيوب نحوه، وفيه: (ثم أتى جذعا في قبلة المسجد فاستند إليه مغضبًا، وفيه: (فقام ذو اليدين، فقال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - يمينًا وشمالًا فقال: ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق، لم تصل إلا ركعتين، فصلى ركعتين وسلم، ثم كبر، ثم سجد، ثم كبر فرفع، ثم كبر وسجد، ثم كبر ورفع- قال: وأخبرت عن عمران بن حصين أنه قال: وسلم). وفي رواية: (صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر ركعتين، فقيل: صليت ركعتين، فصلى ركعتين، ثم سلم، ثم سجد سجدتين). وفي رواية: (صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - (49/ب) الظهر أو العصر فسلم، فقال له ذو اليدين: الصلاة يا رسول الله، أنقصت؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه أحق ما يقول؟ قالوا: نعم، فصلى ركعتين أخريين، ثم سجد سجدتين، قال سعد ابن إبراهيم: ورأيت عروة بن الزبير صلى من المغرب ركعتين؛ فسلم وتكلم، ثم صلى ما بقي، وسجد سجدتين، وقال: هكذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية لمسلم: (صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العصر، فسلم في ركعتين، فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كل ذلك لم يكن)، فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس، فقال: أصدق ذو اليدين؟ فقالوا: نعم يا

رسول الله، فأتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بقي من الصلاة، ثم سجد سجدتين، وهو جالس بعد التسليم). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين من صلاة الظهر، ثم سلم، فأتاه رجل من بني سليم، فقال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت؟ ... وساق الحديث)]. *هذا الحديث برواية ابن سيرين عن أبي هريرة: فالطريق الصحيحة عنه: أن ذو اليدين قال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: (كل ذلك لم يكن). فقال له الرجل: قد كن بعض ذلك. فهذه الرواية هي الصحيحة التي يشهد بعضها لبعض، وأما الرواية الأخرى التي رويت عن ابن سيرين، وفيها: (لم أنس ولم تقصر) فإن مثل هذا لا يجوز أن يجري على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا يجوز أن يقول لم أنس وقد نسي؛ لأن الراوي روى الحديث عن ابن سيرين بالمعنى على ظن صفة أن هذا المعنى معبر عن ذلك، ولم يكن عالمًا؛ فأتى بمعنى لا يصح. *ثم روي هذا الحديث من طرق ليس فيها هذه الزيادة، وفي الحديث دليل على أنه إذا أخبر الواحد عن مثل هذه الحالة في سهو، وظن المخبر ما ذكره،

فرجع إلى غيره في السؤال إلى صدق ما يقول: كان ذلك في موضعه لا علم يجيزه عن غائب، فكان يقبل خبره، إذ خبر الواحد مقبول؛ ولكن لما خبر ذو اليدين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما لم يذكره (50/أ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجع إلى الناس، فقال: أحق ما يقول ذو اليدين؟ *وفيه من الفقه: أن من سلم وقد بقي عليه من صلاته أتى بما بقي وسلم، ثم سجد للسهو بعد السلام. *وقوله: خرج سرعان الناس. قال الخطابي: الصواب نصب السين وفتح الراء، هكذا يقول الكساني. وغيره يقول: بتسكين الراء. والأول أجود. *وقد ذكرنا تحريم الكلام في الصلاة في مسند ابن مسعود. وتكلمنا في كلام أبي بكر وعمر في ذلك اليوم في مسند عمران بن الحصين.

-2084 - الحديث السادس والأربعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، قال: نهي عن الخصر في الصلاة). وفي رواية: (نهى أن يصلي الرجل مختصرًا). وفي رواية: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - ...)]. *يجوز أن يكون هذا من وضع اليد على الخصر؛ وذلك ينافي الخشوع. ويجوز أن يكون المراد شد الوسط. ويجوز أن يكون نهيًا عن اختصار الصلاة؛ بأن لا يتم ركوعها ولا سجودها. -2085 - الحديث السابع والأربعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها). وفي رواية: (أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، أما إني لم أقلها؛

لكن الله قالها)]. *هذا الحديث قد تقدم في مسند أبي ذر وابن عمر وغيرهما. -2086 - الحديث الثامن والأربعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات، اثنتين في ذات الله؛ قوله: {إني سقيم}، وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا}، وواحدة في شأن سارة؛ فإن قدم أرض جبار، ومعه سارة، وكانت أحسن الناس، فقال لها: إن هذا الجابر إن يعلم أنك امرأتي (50/ب) يغلبني عليك؛ فإن سألك فأخبريه أنك أختي؛ فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلمًا غيري وغيرك، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل هذا الجبار، فأتاه، فقال: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها، فأتي بها، فقام إبراهيم إلى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبضت يده قبضة شديدة، فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك، ففعلت، فعاد، فقبضت أشد

من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك ففعلت، فعاد، فقبضت أشد من القبضتين الأوليين، فقال: ادعي الله أن يطلق يدي، فلك الله إلا أضرك، ففعلت، وأطلقت يده، ودعا الذي جاء بها، فقال له: إنك إنما جئتني بشيطان، ولم تأتني بإنسان، فأخرجها من أرضي، وأعطها هاجر، قال: فأقبلت تمشي، فلما رآها إبراهيم انصرف، قال لها: مهيم، فقالت: خيرًا، كف الله يد الفاجر، فأخدم خادمًا)، قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء). وفي رواية للبخار موقوفًا على أبي هريرة وفيه: (بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة، فقيل له: إن هاهنا رجلًا معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه، فسأله عنها؟، فقال: من هذه؟ قال: أختي، فأتى سارة، فقال: يا سارة، ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني، فأرسل إليها، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده ... ثم ذكر نحو ما تقدم في منعه، ودعائها إلى أخره ... وفيه: فأخدمها هاجر، وقول أبي هريرة: تلك أمكم يا بني ماء السماء). وفي رواية: (هاجر إبراهيم بسارة، فدخل بها قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة، فقيل له: دخل إبراهيم بامرأة هي من أحسن النساء، فأرسل إليه أن يا إبراهيم: من هذه التي معك؟ قال: أختي، ثم رجع إليها فقال: لا تكذبيني حديثي، فإني أخبرتهم أنك أختي، والله إن (51/أ) على الأرض مؤمن غيري وغيرك، فأرسل بها إليه، فقام إليها، فقامت توضأ وتصلي، فقالت: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا

على زوجي، فلا تسلط على يد الكافر، فغط، حتى ركض برجله، وفيه أن أبا هريرة قال: قالت: اللهم إن يمت يقال: هي قتلته، فأرسل، ثم قام إليها، فقامت توضأ وتصلي، وتقول: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي فلا تسلط على هذا الكافر، فغط حتى ركض برجله، قال أبو هريرة: فقالت: (اللهم إن يمت، يقال: هي قتلته، فأرسل في الثانية أو الثالثة، فقال: والله ما أرسلتم إلى إلا شيطانًا، أرجعوها إلى إبراهيم وأعطوه هاجر، فرجعت إلى إبراهيم، فقالت: أشعرت أن الله كبت الكافر وأخدم وليدة)]. *أما حديث الكذبات الثلاث؛ فقد تقدم في هذا المسند قبل سبعة وعشرين حديثًا، وتكلمنا على معاني الثلاثة. *وإنما قال: هي أختي، ولم يقل هي زوجتي لئلا يقتله، فإنه لو قال: زوجتي قتله، وتزوجها.

*وقوله: (مهيم؟):سبق تفسيرها في مسند أنس. *وقوله: فتلك أمكم يا بني ماء السماء: قال الخطابي: يعني العرب، وذلك أنهم يعيشون بماء السماء، ويتبعون مواقع القطر في بواديهم، قال: ويقال إنما أراد زمزم أنبطها الله لهاجر فعاشوا بها، وصاروا كلهم كأنهم أولادها. -2087 - الحديث التاسع والأربعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لم يتكلم في المهد لا ثلاثة: عيسى بن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلًا عابدًا، فاتخذ صومعة، فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي، فقالت: ياجريج، فقال: يا رب، أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت. فلما كان من الغد، أتته وهو يصلي، فقالت: ياجريج، فقال: يا رب، أمي وصلاتي، فاقبل على صلاته، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج فقال: أي رب، أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات،. فتذاكر بنو إسرائل جريجًا (51/ب) وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه، قال: فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها، فوقع عليها، فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه، فاستنزلوه، وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه.

فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي، فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به، فقال: عوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه، وقال: يا غلام، من أبوك؟ فقال: فلان الراعي. قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه، ويتمسحون به، وقالوا: نبني صومعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا. وبينا صبي يرضع من أمه، فمر رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة، فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي وأقبل إليه، فنظر إليه، فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديه، فجعل يرتضع- قال: فكأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحكي ارتضاعه بإصبعه السبابة في فيه، فجعل يمصها- قال: ومروا بجارية وهم يضربونا، ويقولون: زنيت، سرقت، وهي تقول: حسبي الله، ونعم الوكيل، فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع، ونظر إليها، فقال: اللهم اجعلني مثلها، فهنالك تراجعا الحديث، فقالت: مر رجل حسن الهيئة، فقلت: اللهم اجعل ابني مثله، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله. ومروا بهذه الأمة وهم يضربونا ويقولون: زنيت، سرقت، فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلت: اللهم اجعلني مثلها، قال: إن ذلك الرجل كان جبارًا، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها: زنيت، ولم تزن، وسرقت، ولم تسرق، فقلت: اللهم اجعلني مثلها). لفظ حديث مسلم عن زهير بن حرب، وهو أتم، وأخرجه البخاري مختصرًا. وأخرج البخاري حديث المرأة وابنها خاصة من حديث شعيب بن أبي حمزة (بينا امرأة ترضع ابنًا لها، إذ مر راكب وهي ترضعه، فقالت: اللهم لا

تمت ابني (52/أ) حتى يكون مثل هذا، فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم رجع في الثدي. ومر بامرأة تجرر، ويلتعن بها، فقال: اللهم اجعلني مثلها، فقال: أما الراكب فكافر، وأما المرأة، فإنه يقال لها: تزني، وتقول: حسبي الله، ويقولون: تسرق، وتقول: حسبي الله). وأخرج البخاري أيضًا حديث جريج تعليقًا من حديث جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (نادت امرأة ابنها وهو في صومعة له، فقالت: يا جريج، قال: اللهم أمي وصلاتي، فقالت: ياجريج، فقال: اللهم أمي وصلاتي، فقالت: يا جريج، قال: اللهم أمي وصلاتي، قالت: اللهم لا يموت جريج حتى ينظر وجوه المياميس. وكانت تأوي إلى صومعته راعية ترعى الغنم، فولدت، فقيل لها: ممن هذا الولد؟ قالت: من جريج، نزل من صومعته، قال جريج: أين هذه التي تزعم أن ولدها لي؟ قال: يا بابوس، من أبوك؟ قال: راعي الغنم). وأخرج مسلم منه طرفًا في جريج خاصة، من حديث أبي رافع عن أبي هريرة أنه قال: (كان جريج يتعبد في صومعة، فجاءت أمه، قال حميد بن هلال: فوصف لنا أبو رافع صفة أبي هريرة لصفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دعته، كيف جعلت كفها فوق حاجبها، ثم رفعت رأسها إليه تدعوه- فقالت: يا جريج، أنا أمك كلمني، فصادفته يصلي، فقال: اللهم أمي وصلاتي، فاختار صلاته، فقالت: اللهم إن هذا جريج ابني وإني كلمته فأبي أن يكلمني، اللهم لا تمته حتى تريه المومسات، قال: ولو دعت عليه أن يفتن فتن، قال: وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره، فخرجت امرأة من القرية، فوقع عليها الراعي،

فحملت، فولدت غلامًا، فقيل لها: ما هذا؟ قالت: من صاحب هذا الدير، قال: فجاءوا بفؤوسهم ومساحيهم، فنادوه، فصادفوه يصلي، فلم يكلمهم قال: فأخذوا يهدمون ديره، فلما رأى ذلك، نزل إليهم، فقالوا له: سل هذه، قال: فتبسم، ثم مسح رأس الصبي، فقال: من أبوك؟ قال: راعي الضأن، فلما سمعوا ذلك، قالوا: نبني ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة؟ قال: لا، ولكن أعيدوه ترابًا كما كان، ثم علاه)]. *في هذا الحديث وجوب (52/ب) الإيمان بأنه لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة، حتى إنه قد روي على النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحاديث الواهية أنه قد تكلم غير هؤلاء، رد ذلك، وعمل بهذا. *وفيه أيضًا أن هذا الحديث قد اشتمل على ثلاثة شؤون كبار مهمة من حيث إنه قرن كل شيء منها بما يناسبه؛ لأن أولها كلام عيسى بن مريم عليه السلام في المهد، وذلك مما يدل على علوه على الحالتين الأخريين لمشاركتهما قصة عيسى. *فأما كلام غيسى في المهد، فإنه لم يكن تبرئة أمه مما قذفت به إلا بنطق الولد، فإنها لما أتت به من غير ذكر، وكانت حالًا في ظاهر الأمر هائلة خارقًا للعادة أتى الله عز وجل فيها بأمر بديع من كلام صبي في المهد يقول: {إني

عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا} وكان ذلك من الشأن العظيم الذي قاوم الأمر العظيم، فقامت به الحجة وثبت به المعجزة. *وأما جريج فإنه كان عبدًا صالحًا، إلا أنه لما دخل عليه من استغراقه في التعبد بالصلاة، كان غير ناظر إلى أن عبادة الله عز وجل في كل الطرق المشروعة متى أكب الإنسان على طريق منها، أضر بالبواقي، فيكون على نحو من أرجح كفه بأن أسف الأخرى، فلما أتته أمه، فكان كلامه لأمه أفضل عند الله من الصلاة النافلة، فقال: رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته وترك أمه، وكان من الفقه أن يقدم أمه؛ لأن صلاته إنما تكون له، وتكليمه أمه يكون عملًا متعبدًا يشمله ويشمل غيره، فربما كانت أمه قد جاءت في حاجة مهمة، بحيث يجب عليه أن يجيبها عنه. *وفيه أيضًا أنها صلة رحم، هي أولى الأرحام بالصلة فآثر عليها ما لا يتعداه من الصلاة، فغلط في الموازنة فخسر، وقد ترددت إليه يومًا بعد يوم، وهو يؤثر الأدنى على الأرفع حتى هاج صدرها، بأن دعت عليه دعاء لا يبلغ فيه إلى الغاية؛ لأنها رفقت به؛ إذا خفي عليها فقالت: اللهم لا تمته حتى (53/أ) تيه وجوه المومسات؛ يعني الفواجر، فلما لم ينظر في وجه أمه، دعت عليه بعقوبة من جنس ما أعرض عنه من النظر في وجوه المومسات، والمومسات: جمع مومسة، وهي الفاجرة، ويقال: مومسات وميامس.

وإنما أجيب من دعائها مقدار ما سألت على وجه الرفق به من أن ينظر في وجوه الفواجر؛ فاتهم بتهمة هو بريء منها، إلا أنه لما آثر ما هو له، على ما هو له ولأمه، ابتلي ببلية لا ذنب له فيها؛ بل اطلع في وجه الفاجرة حتى أظهر الله بذلك كرامة عرفه الله غلطه في إيثاره صلاة النافلة على إجابة أمه. *وفيه أيضًا دليل على أنه لا يجوز أن يسرع طاعن في مسلم بقول عن غير بينة، فإن هؤلاء لو كانوا عملوا بما أوجبه الله تعالى في شرعه، من أنه لا يقبل طعن في مسلم إلا ببينة لم يهدموا صومعته ولم يؤذوه. *وفيه أيضًا من الفقه: أن جريجًا لما بلي بهذه البلية وعلم براءته منها، قوي إيمانه بالله عز وجل في أن يكشف كل لبس؛ فجاء إلى المولود فطعن في بطنه فقال: يا بابوس أو يا غلام، من أبوك؟ فقال: أبي الراعي، فكفر بصدق إيمانه، وحسن يقينه بالله سبحانه ما كان منه إلى أمه، فأنطلق الله الغلام ببراءته، حتى قال: أبي الراعي. ولم يذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الحالة إلا منبهًا لكل من جرى عليه تلبيس حتى يتفاقم أمره ويعظم، فإنه ينبغي ألا يستطرح، بل بفزع إلى الله عز وجل، فإن الذي أنطق المولود حتى بادر يسمع ويرى، ولم يذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا سمرًا قط بل ليعمل به، فكانت هذه القصة جامعة لفضل الوالدة، ولكونها أجيب دعاؤها في مثل الولد الصالح مع كونه لم يشتغل عنها بمنكر ولا بمحرم، وإنما اشتغل بعبادة فجرى في حقه هذا. *وفيه: أن الله تعالى قائم بالقسط، عند كشف كل إلباس. *وفيه أيضًا: أن الله (53/ب) تعالى يجيب الدعاء عند السؤال.

*وقوله: يا بابوس، فهي كلمة تقال للصغير. *وأما القصة الثالثة: فالشارة الحسنة الجمال الظاهرة في الهيئة. *وفيه من الفقه: أن يتعوذ الإنسان أن يكون مثل الجبار؛ لأنه قال: لا تجعلني مثله، فأنطق الله تعالى ذلك المولود بهذا؛ لتكون هذه الحالة أوقع عند كل سامع لئلا يتمنى الناس أحوال الجبارين؛ ولبسه الظالمين أدهى مقام فتنة؛ لأنه قد يأتي إبليس من هذه الطريق ويقول: فهذا الظالم أو الجبار مع عنفه وغشمه هو أصلح حالًا في عاجل الدنيا من كثير الخلق، فأوضح الله الحق في ذلك، بإنطاق المولود؛ الذي نطقه بدع في وقته؛ لتسير به الأخبار، ويتهاداه الرفاق؛ وحتى يذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينقل إلى يوم القيامة، وليعلم الناس أن الإملاء للظالمين ليس بخير لهم. *فأما حديث الجارية؛ فإنه قد يتهم الجهال المرأة الصالحة بالزنا والسرق، وليست من أهل ذلك، فلا ينبغي أن يترك الرجل أهله من أجل أن يقول عدو له أو لهم أو يطبع الشيطان في أفواه الناس: إنها زانية أو سارقة، ولا يحل لمسلم أن يقبل هذا ولا يؤثر عنده بحال إلا أن يثبت ذلك بثبوت مثله، أو يرى من قرائن الأحوال ما يفيده عليه الظن، فيكون لذلك حكمه؛ فأما مجرد أقوال الأعداء فلا يحل العمل بذلك، إلا أن كثيرًا من النسوان يستجزن أن يقلن في ضرائرهن الكلمة الخبيثة؛ ليكون سببًا لإتلاف من يتلف، وإبعاد من يبعد. ولقد حدثني ثلاثة رجال، أحدهم كان ذا طريقة صالحة، وممن حج بيت الله الحرام، أنهم سمعوا في الليل أنينًا يصعد من قبر فحكيت أنا هذه الحكاية لرجل، قال لي ذلك الرجل: إن خالي هو صاحب البستان الذي ذلك القبر

إلى جانبه، وقد كان أنس خالي بهذا الأنين لكثرة ما يسمعه قال: وهذا القبر (54/أ) لرجل من أهل الكتاب المتعاطين القدامى، أتى امرأة فاسدة اختصمت الفاجرة مع أخت هذه المتعاطي، فقالت الفاجرة له: إن أختك قد زنت فحمله تعاطبه على أن أخذ أجنة وبقر بطنها فوجدها بكرًا لم تصب، ثم أعماه الله على أثر ذلك، ثم أماته فدفن في هذا القبر، فمذ ليلة دفن سمع هذا الأنين. فلا يحل لمسلم أن يقبل في دعوى الزنا إلا البينة التي شرطها الله تعالى في ذلك أن قال: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} هذا ولو أنهم رأوا وشاهدوا؛ فإنهم عند الله كاذبون، وذلك لأن هذه الوصمة إذا وصم بها رجل رجلًا أو امرأة فقد أتى عظيمًا من الأمر، فإذا عمل الإنسان بقوله صار شريكًا له فيما أناه الله. *وأما قول المرأة: لا تجعل ابني مثل هذه؛ فلأنها رأت صورة كرهتها، من أنها تقذف وتؤدى، وما علمت الباطن. *وأما إخراج الصبي الثدي من فمه، فإنه آثر قول الحق على الرضاع المستلذ، فقال: اللهم اجعلني مثل هذه، ولو قبالت لا تبل ولدي بمثل ما ابتليت هذه لم ينكر ذلك إن شاء الله، إنما قالت: لا تجعل ولدي مثل هذه، وكان هذا شأنًا عظيمًا منهما في الخلق، وهو أنه لا يسوغ قبول قول الفجار

والفساق في العوامل مع كونه قد يجوز أن يكون بعضه كما يقال؛ ولكن الله عز وجل حرم علينا أن نقبله أو نعمل به، فأنطق الله المولود في أمر بديع، شاع وسار حتى ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصار ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا عند كل مؤمن مقام مشاهدة الطفل، وهو يقول ذلك، واستغنى بذلك عن أن يتكلم مولود في الإسلام، بمثل هذه الحادثتين، فقد أخبر بهذا الصادق - صلى الله عليه وسلم -. -2088 - الحديث الخمسون بعد المائتين: (54/ب) [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)]. *قوله: (إن الله أطعمه) المعنى: أنه لم يأكل وهو ذاكر، إنما أطعمه الله وسقاه، ولا يعقب إطعام الله لعبده حرج، ولا نقص في عبادة، ولا حرمان من خير، فكان ما أطعمه الله صدقة عليه، واحتسب له بصيامه، وهذا الحديث يحج به أحمد، فهو حجة الفقهاء كلهم في صحة صوم الآكل والشارب ناسياً، وأنه لا يقض سوى مالك وحده؛ فإنه يوجب عليه القضاء.

-2089 - الحديث الحادي والخمسون بعد المائتين: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فقدت أمه من بني إسرائيل، لا يدرى ما فعلت، وإني لا أراها إلا الفأر، إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشرب، وإذا وضع لها ألبان الشاء شربت، قال أبو هريرة: فحدثت كعبًا بهذا، فقال: أنت سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوله؟: قلت: نعم-فقال لي مرارًا- فقلت: فأثرأ التوراة). وفي رواية عن أبي هريرة قال: (الفأرة مسخ، وأية ذلك أن يوضع بين يديها لبن الغنم فتشربه، ويوضع بين يديها لبن الإبل فلا تذوقه. فقال له كعب: أسمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟، قال: أفأنزلت على التوراة!)]. *أما قوله: (لا أراها إلا الفأر)؛ فإنه يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقطع بذلك، وقد سبق في مسند ابن مسعود: (إن الله لم يمسخ مسخًا، فيجعل له نسلا) فالعمل على ذلك الذي قطع عليه. -2090 - الحديث الثاني والخمسون بعد المائتين: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو آمن بي عشرة من اليهود، لآمن

بي اليهود) وفي رواية: (لو تابعني عشرة من اليهود، لم يبق (55/أ) على ظهرها يهودي إلا أسلم)]. *المعنى الذي أراه في العشرة أنه أراد عشرة معينين، والا فقد آمن به ألوف منهم، وإنما أراد إن أثم المخالفين لي منهم في رقاب أولئك العشرة؛ لكونهم رؤساء القوم، وهذا على معنى قوله لهرقل: (فعليك إثم الأريسين)، وقد دل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا على أن اليهود أهل تقليد لرؤسائهم، وطرح الإرسان مقادتهم في أيدي علمائهم، لا أنهم يتبعون الدليل، فإذا أمر عشرة منهم آمنوا مقلدين لهم، فلما لم يؤمن أولئك الرؤساء لم يؤمن أولئك، قد عرض الاتباع تقليد أولئك، ويستنبط من فحوى هذا الكلام أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عرض في هذا: النهي عن التقليد في الإيمان. -2091 - الحديث الثالث والخمسون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، قال: (أوصاني خليلي بثلاث: بصيام ثلاثة أيام من كل

شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام)]. *هذا الحديث قد سبق في مسند أبي ذر وغيره. -2092 - الحديث الرابع والخمسون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد-أو شابًا، ففقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأل عنها-أو عنه- فقالوا: مات، قال: (أفلا كنتم آذنتموني؟) قال: فكأنهم صغروا أمرها-أو أمره- فقال: (دلوني على قبره، فدلوه، فصلى عليها ثم قال: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم)]. *تقم: تكنس، والقمامة: الكناسة.

*وفي هذا الحديث ما يحث على تنظيف المساجد وكنسها، وإخراج ما يؤذي منها حتى ما يقذي العين. *وفيه أيضًا: افتقاد الصاحب، والسؤال عنه مستحب، ألا ترى إلى قوله: (هلا آذنتموني حتى أصلي عليه؟). *وفيه: وجوب الصلاة على الميت. *وفيه: أن صلاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على (55/ب) الميت تنور له؛ فمن له بصلاة الرسول، قال الله تعالى: {إن صلاتك سكن لهم}. *وفيه: أن الصلاة على الميت شفاعة في حقه، وكلما كان الشفيع وجيهًا، كانت شفاعته أسرع قبولًا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الوجيه في الدنيا والآخرة، المقبول الشفاعة في الجمع كلهم، فما الظن بواحد يصلي عليه ويشفع فيه في صلاته؛ لأنه شرع لأمته لفظ الشفاعة في الصلاة على الجنازة، فلم يكن ليخل به، ولم يكن ليشفع إلا وتشفع، والله تعالى يوفقهم للصواب. -2093 - الحديث الخامس والخمسون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، أنه لقيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طريق من طرق المدينة؛ وهو جنب، فانسل، فذهب فاغتسل، ففقده النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما جاء، قال: (أين كنت يا أبا هريرة)؟ قال: يا رسول الله، لقيتني وأنا جنب، فكرهت أن

أجالسك حتى أغتسل، فقال: سبحان الله؛ إن المؤمن لا ينجس)]. *هذا الحديث قد سبق في مسند حذيفة وتكلمنا عليه. -2094 - الحديث السادس والخمسون بعد المائتين: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها، فقد وجب الغسل) وفي رواية: (وإن لم ينزل). وقال زهير بن حرب: (بين أشعبها الأربع: يداها ورجلاها)]. *وقوله: ثم جهدها، أي: اجتهد في الوصول إليها، والإشارة إلى التقاء الختانين، وهذا ناسخ لقوله - صلى الله عليه وسلم -:الماء من الماء.

-2095 - الحديث السابع والخمسون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، أن زينب كان اسمها برة فقيل: تزكي نفسها، فسماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب)]. *في هذا الحديث من الفقه (56/أ) أنه لا يحسن بالإنسان أن يسمي نفسه بما يزكيها به نحو التقي، والزكي، والأشرف، والأفضل؛ كما أنه لا ينبغي أن يسمي نفسه اسمًا يتشاءم به كدار له وضربه، ونحو هذا، بل يسمي نفسه عبد الله وعبد الرحمن وغير ذلك. -2096 - الحديث الثامن والخمسون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أعتق شقصًا من مملوك، فعيه خلاصه في ماله؛ فإن لم يكن له مال، قوم المملوك قيمة عدٍل، ثم استسعي

غير مشقوق عليه). وفي حديث ابن يونس: (ثم يستسعى في نصيب الذي لم يعتق، غير المشقوق عليه)]. *والشقيص والشقص: الشرك والنصيب. *وقد أوضحنا الكلام على هذا في مسند ابن عمر، فهذا الحديث هناك، والكلام عليه تم. -2097 - الحديث التاسع والخمسون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (العمرى جائزة). وفي رواية: (العمرى ميراث لأهلها، أو قال: جائزة)]. *هذا الحديث أصل في جواز العمرى، وهو أن يقول الرجل للرجل:

(أسكنك هذه الدار عمري أو عمرك؛ فإذا انقضت المدة عادت إلى ورثة معمرها. -2098 - الحديث الستون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنه نهى عن خاتم الذهب)]. *قد تقدم هذا الحديث في مسند ابن عمر والبراء وغيرهما رضي الله عنهم أجمعين. -2099 - الحديث الحادي والستون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها مالم تعمل أو تتكلم به). قال (56/ب). قال قتادة: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها، ما لم تعمل أو تكلم). وفي رواية: (إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست صدورها ما لم يعمل أو

يتكلم). وفي رواية: (إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به، أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم)]. *في هذا الحديث من الفقه: أن كل ما حدث به الإنسان نفسه مما يتصور أن يعمل؛ فإنه معفو عنه عند الله عز وجل حتى يعمله، وكذلك إن كان مما ينطق بطه، فإنه مما يعفو عنه حتى ينطق به مضمره، والظاهر أن هذا لا يكون إلا في خواطر السوء؛ لقوله: (تجاوز)، فإن التجاوز لا يستعمل في الحسنات إلا أن هذا يتبين بضرب مثال: وهو أنه لو خطر في قلب مريض أن يتداوى، وكان المثير لهذا العزم منه أن يتبع في التداوي السنة، ويدبر بدنه المودع عنده لله سبحانه بأصوب البليتين، فهذا إيمان وتوفيق؛ فإن خطر في قلبه أو وسوس له الشيطان ما معناه أنه إذا لم يتداو ربما يهلك، ويوهمه الشيطان أنه يموت بغير أجله إن لم يتادو؛ كما قذف في قلوب المشركين حتى قالوا يوم بدر {غر هؤلاء دينهم} فتداوى بهذا العزم فيكون كافرًا.

-2100 - الحديث الثاني والستون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن عفريتًا من الجن تفلت علي البارحة؛ ليقطع علي صلاتي، وأمكنني الله منه؛ فأخذته، فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد، حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان: {وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي} فرددته خاسئًا)]. *العفريت: المارد الخبيث من الجن. *وقوله: (تفلت علي)، أي: تعرض لي فلته، أي فجاء (57/أ) ليغلبني على صلاتي. * (فرددته خاسئًا)، أي: مبعدًا. *قد سبق شرح هذا الحديث فيما تقدم.

-2101 - الحديث الثالث والستون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار؟)]. *في هذا الحديث من الفقه: شدة كراهة المبادرة للمأموم أن يرفع رأسه قبل الإمام. *قوله: (يجعل الله رأسه رأس حمار أو صورة حمار)؛ فإنه ينبغي أن لا يستبعد هذا؛ فإن الله سبحانه تعالى إن لم يجعل رأسه على شكل رأس الحمار؛ فإنه قد يجعل رأسه في المعنى رأس حمار في البلادة وبعد الفهم، وهو على صورة الآدميين، وقد أخذ على المأموم أن لا يسبق الإمام في التسليم، فما الذي تفيده المسابقة في الركوع أو السجود مع كنونه لا يمكنه الخروج من الصلاة إلا بخروج الإمام؛ فلا يحصل له من ذلك إلا سوء الأدب، وأن يظهر للمصلين معه قلة أدبه ودينه، ونزارة علمه وعدم ثباته، فإذن هذه كلها من أخلاق من رأسه في المعنى رأس حمار.

-2102 - الحديث الرابع والستون بعد المائتين: [عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا لم يغسل عقبيه فقال: (ويل للأعقاب من النار). وفي رواية عن أبي هريرة: (أنه رأى قومًا يتوضؤون في المطهرة، فقال: أسبغوا الوضوء، فإني سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ويل للعراقيب من النار)]. في هذا الحديث من الفقه: الحث على تفقد الأماكن التي لا يصل إليها الماء غالبًا إلا بالتفقد؛ فإن العقب لكونه من وراء الإنسان قد ربما لا يشمله الماء، ولا يرى المتوضئ ذلك، وعلى هذا يقاس المفصل الذي بين اللحية والأذن، وكذلك المرفقان. *وأسبغوا بمعنى: أتموا (57/ب). *والأعقاب: جمع عقب، وهو ما أصاب الأرض من مؤخر الرجل إلى موضع الشراك.

-2103 - الحديث الخامس والستون بعد المائتين: [عن أبي هريرة قال: أخذ الحسن بن علي رضي الله عنه تمرة من تمر الصدقة؛ فجعلها في فيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كخ كخ، إرم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟). وفي رواية: (أنا لا يحل لنا الصدقة؟). وفي رواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إني لأنقلب إلى أهلي، فأجد التمرة ساقطة على فراشي، أو في بيتي، فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة، فألقيها)]. *في هذا الحديث من الفقه: أن الصدقات لا تحل لآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. *وفيه أيضًا: أن العالم الفصيح إذا اضطر إلى تكليم صبي، أو من هو في الفهم في رتبة الصبي، فإنه ينزل عن رتبة فصاحته إلى الكلام الذي يفهمه ذلك المخاطب؛ كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أفصح العرب؛ بأن نزل إلى ما فهمه الحسن بن علي رضي الله عنه. *وقوله: كخ، ردع للصبي وزجر.

-2104 - الحديث السادس والستون بعد المائتين: [عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين). في رواية للبخاري عن آدم. وفي رواية الربيع بن مسلم: (فإن غمى عليكم فأكملوا العدة). وفي رواية: (فإن أغمى عليكم الشهر بعدوا ثلاثين). وفي رواية لمسلم: (إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا؛ فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يومًا). وفي رواية: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الهلال فقال: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن أغمي عليكم فعدوا (58/أ) ثلاثين)]. *في هذا الحديث من الفقه: وجوب الصوم برؤية هلال رمضان. ولا يحل للصائم أن يفطر حتى يرى هلال شوال؛ إلا أنه إذا رأى هلال رمضان عدل واحد، وجب عليه صيامه وعلى الناس بقوله، وهو مذهب الشافعي وأحمد، وأبو حنيفة يفرق بين الليلة المعتمة والمصبحة.

*وأما هلال شوال فإن رآه عدل واحد لم يفطر، لا هو ولا غيره، إلا أن يوافقه عدل آخر احتياطًا للعبادة؛ ولأن الشاهد الواحد في حقوق الآدميين لا توجب شهادته ولا تسقط بانفراده، فحقوق الله تعالى أولى أن يحاط لها، فلا يسقط الصيام بشهادة الواحد، وإنما وجب الصوم في أول الشهر بقول الواحد احتياطًا للعبادة. *فأما قوله: (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين): فهذا اللفظ انفرد به آدم عن شعبة، وقد رواه الإسماعيلي بالإسناد الذي ذكره البخاري، وقال فيه: (فإن غم عليكم الشهر فعدوا ثلاثين). قال الإسماعيلي: قد روينا هذا الحديث عن غندر وابن مهدي، وابن علية، وعيسى بن يونس، وشبابة، وعاصم بن علي، والنضر بن شميل، ويزيد بن هارون، وأبي داود، وكلهم عن شعبة فلم يذكر واحد منهم: (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين). فيجوز أن يكون آدم قال ذلك من عنده على وجه التفسير للخبر، وإلا فليس لانفراد البخاري عنه بهذا من بني من رواه عنه وجه. وقد أخرج مسلم فيما سيأتي في أفراده من حديث أبي هريرة هذا الحديث، فقال فيه: (فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين). فدل على أن المراد بقوله: (فعدوا): عد رمضان لا شعبان. فعلى هذا يكون الاحتياط أن يكون عدة رمضان ثلاثين.

-2105 - الحديث السابع والستون بعد المائتين: (58/ب) [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (والذي نفسي بيده لأذودن رجالًا عن حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض). وفي رواية للبخاري عن سعيد بن المسيب أنه كان يحدث بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يرد على الحوض رجال من أصحابي فيحلؤون عنه، فأقول: يا رب، أصحابي؟ فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى). وأخرجه تعليقًا عن أبي هريرة أنه كان يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يرد على يوم القيامة رهط من أصحابي، فيحلون عن الحوض، فأقول: يا رب أصحابي؟ فيقال: إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى). وفي لفظ: (يجلون) بالجيم. وفي رواية للبخاري: (بينا أنا نائم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم، فقلت: إلى أين؟ قال: إلى النار والله، فقلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، قال: هلم، قلت: إلى أين؟ قال: إلى النار والله، قلت ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا على أدبارهم، فلا أراه يخلص منهم إلى مثل همل النعم)].

* هذا الحديث قد سبق في مسند ابن مسعود، وفي مسند حذيفة، وفي مسند سهل بن سعد، وفي مسند أنس بن مالك. * والذود: الطرد، يقال: ذدته، إذا طردته. * وقوله: كما تذاد الغريبة من الإبل، وذلك أن الإبل إذا وردت على الماء فدخلت فيها غريبة طردت حتى تخرج عنها. * ومعنى يحلؤون: يمنعون، قال الشاعر: مخلا عن سبيل الورد مصدود ومن رواه بالجيم، فمعناه يطردون، يقال جلى القوم عن منازلهم وأجليتهم: إذا أخرجتهم. * والقهقرى: (59/ أ) الرجوع على العقب إلى خلف. * الهمل من الغنم: المهملة التي ليس معها راع ولا حافظ، ولا تكاد تسلم من السباع وغيرها. * ولا أرى هذا يرجع إلا للذين ارتدوا بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنعوا الزكاة، فقاتلهم الصديق على ذلك إلى الخوارج الذين رأوا تكفير الصحابة كعثمان

وعلي رضي الله عنهما، وهم أهل النهروان ومن شابهههم وتابعهم. -2106 - الحديث الثامن والستون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بينما رجل يمشي في حلة، تعجبه نفسه، مرجل جمته، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل به إلى يوم القيامة). وفي رواية: (بينما رجل يمشي قد أعجبته جمته وبرداه إذ خسف به الأرض، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة). وفي رواية لمسلم: (بينا رجل يتبختر فمشى في بردته قد أعجبته نفسه، فخسف الله به، فهو مجلل فيها إلى يوم القيامة)]. * هذا الحديث قد تقدم في مسند ابن عمر. * والجمة من الإنسان: مجتمع شعر ناصيته، وهي جمة إذا بلغت المنكبين؛ فإذا كانت إلى شحمة الأذن فهي وفرة على ما بينا في مسند ابن عمر رضي الله عنه. * والخسف: غئوص ظاهر الأرض، وسؤوخها بما عليها. * ويتجلجل بمعنى: يهوى، ويزعج في الخسف.

* والتبختر: مشية فيها تمايل. -2107 - الحديث التاسع والستون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتي بطعام سأل عنه: أهدية أم صدقة؟ فإن قيل: صدقة، قال لأصحابه: (كلوا) ولما يأكل، وإن قيل: هدية، ضرب بيده فأكل معهم)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن الله عز وجل صان رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الصدقة، وأذن له في (59/ ب) الهدية، من أجل أن الهدية مع نية المكافأة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يثيب على الهدية إذا قبلها. فأما الصدقة: فإنما يطلب منها ثواب الآخرة؛ لعجز الفقير أن يجازي عليها فيكون ذليلًا للمتصدق، والرسول - صلى الله عليه وسلم - منزه عن ذلك. -2108 - الحديث السبعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، قال: سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الحرب خدعة). وفي رواية: (هلك كسرى، ثم لا يكون كسرى بعده، وقيصر ليهلكن

ثم لا يكون قيصر بعده، ولتقسمن كنوزهما في سبيل الله) وسمى الحرب خدعة]. * هذا الحديث قد تقدم في هذا المسند وتكلم عليه، وقد سبق ذكر كسرى وقيصر في مسند جابر بن سمرة، وفي مسند عدي بن حاتم. -2109 - الحديث الحادي والسبعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (غزا نبي من الأنبياء، فقال

لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة، وهو يريد أن يبني بها، ولما يبن بها، ولا أحد بنى بيوتًا ولم يرفع سقوفها، ولا أحدًا اشترى غنمًا أو خلفات وهو ينتظر ولادها، فغزا، فدنا من القرية صلاة العصر، أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور. اللهم احبسها علينا، فحبست حتى فتح الله عليه، فجمع الغنائم، فجاءت- يعني النار- لتأكلها، فلم تطعمها فقال: إن فيكم غلولا: فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول، فلتبايعني قبيلتك، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب، فوضعها فجاءت النار فأكلتها). زاد في حديث عبد الرازق: (فلم تحل الغنائم لأحد قبلنا، رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا) ثم أحل الله لنا الغنائم]. * في هذا الحديث من (60/ أ) الفقه: تعليم الغزاة ألا يستعين واحدًا جاء له لم يبن، ترك قلبه وراءه، فلا يؤمن من أن يحمله ما في قلبه على أن يفر من المعركة في وقت، فيكون عدمه أنفع للجيش من حضوره؛ والذي ملك بضع امرأة ولم يبن بها، فإن تملك الرجل بضع المرأة يقوي قومه إلى الغشيان.

* وإن عامر البيوت التي لم تسقف، شديد الحرص على تكملة ما بدأ به من البنيان، ومالك الحوامل شديد التوقع لما فتح له، ولا يؤمن على واحد من هؤلاء أن يستثير له الشيطان. * وفيه أيضًا دليل على بطلان ما يزعمه المنجمون من أن الأفلاك لا يتصور وقوفها، بل قد وقف الله عز وجل جريان الأفلاك لدعوة ذلك العبد الصالح. * وفيه أيضًا ما يزيدك أن دعوات المؤمنين إنما تزيد حسنًا إذا قوي إيمانهم فيها؛ لأن الله سبحانه وتعالى يخرق العوائد فلا يدعونه دعاء الجبناء؛ الذين يقفون مع العوائد، فإنهم إذا فكروا في ذلك لم يؤمن أن يكونوا كالمشركين بالعوائد. * فيه أيضًا ما يدل على أن الغلول إذا كان في جزء من مال يمنع قبول الله عز وجل جميع ذلك المال. * وفيه: أنه لما كان الغلول من اثنين في جماعة، وكان شياع التهمة تعم غيرهما، يلطف النبي عليه السلام إلى أن علم ذلك بقدرة من الله تعالى في سر لصقها بحيث لصقت بيده يد الغال حتى رد الغلول، فقبل الله ذلك، ونزلت النار فأكلت الغنيمة. وأما كون الغنائم قد كانت العلامة في قبول الله لها أن تأكلها النار، فإني لأرى الحكمة في ذلك إلا ليكون جهاد المجاهدين خالصًا لله سبحانه من غير أن يشاب بطمع من غنيمة تحصل للمجاهدين؛ ليكون المجاهد في سبيل الله قد علم هو خصمه أنه لا يقاتل على عرض يأخذه، ما يغنمه المجاهد بفرض أن تنزل نار من عند الله فتأكله (60/ ب).

فكان هذا مما صفى العبادة لله عز وجل، فلما عمت السلامة من سوء القصد هذه الأمة أبيحت لها الغنائم، فكان الإخلاص النهائي: القتال لوجهه عز وجل. فلم يسلبهم أخذ غنيمة، وإذا يظل لهم وفيمن أذعنه الغرض؛ لكونه لم يؤمن عليه فتنة، وفيمن أبيح له تناول ذلك؛ لأنه أمن عليه ما منعه؛ بان التفاوت الذي يبين قوله عز وجل: {كنتم خير أمة أخرجت الناس}. -2110 - الحديث الثاني والسبعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (قيل لبني إسرائيل: {ادخلوا الباب سجدا، وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم}، فبدلوا، فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم. وقالوا: حبة في شعرة)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن الله سبحانه وتعالى أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الباب سجدًا لله تعالى شكرًا على ما أنعم به عليهم. وسجدًا: منصوب على الحال. وذلك أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يكون دخولهم إلى الباب شاكرين لله

سبحانه، وأن تكون كلمتهم (حطة)، ومعنى حطة: حط عنا الذنوب، كما يقول القائل: مغفرة، إلا أن حطة أبلغ؛ لأن الحط يتضمن محو الذنوب، ومحو الذنب وحطه، والغفر إنما هو الستر، فكل قول كان يتضمن هذا المعنى ممن طلبهم حط الذنوب عند دخولهم الباب شاكرين له بالسجود؛ قد كان مجزئًا عنهم؛ لكن لما ظنوا أن حطة لم يكن المقصود بها إلا هذا النطق، بدلوه تبديلًا أحال معناه، ولم يقع فعلهم وفق المأمور به، وأرسل عليهم رجزًا من السماء بما كانوا يفسقون. وإنما كان الأمر لهم عند دخولهم المدينة بأن يلتمسوا حط الذنوب ومحوها شكر من جهة أن المجاهد إذا فتح على يديه، كان وقت الفتح، طلبه من مولاه فلما ذهلوا عن معرفة معنى قوله: حطة كانوا أهلًا لنزول الرجز (61/ أ)، وأنهم لما أمرهم الله سبحانه أن يدخلوا الباب سجدًا، فلم يفهموا الأمر، ولم يحسنوا إلى القيدين به في الأمرين؛ بل إلى الاستهزاء بأن قالوا: حبة في شعرة، وهذا أسند بالآية فيه؛ لأنهم أشاروا إلى ضعف المتعلق بضعف الشعيرة، والحبة إلى الطعمة فيما أرى. -2111 - الحديث الثالث والسبعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، قال: فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، قال: فجمح موسى

عليه السلام بإثره، يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى. فقالوا: والله ما بموسى من بأس. فقام الحجر حتى نظر إليه، قال: فأخذ ثوبه، فطفق بالحجر ضربًا، قال أبو هريرة: والله إن بالحجر ندبا- ستة أو سبعة- من ضرب موسى بالحجر). وفي رواية: (إن موسى كان رجلًا حييًا ستيرًا، لا يرى شيء من جلده، استحياء منه، فآذاه من لآذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده: إما برص، وإما أدرة، وإما آفة، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يومًا وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجر، وجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ بني إسرائيل، فرأوه عريانًا أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ بثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربًا بعصاه، فو الله إن بالحجر لندبًا من أثر ضربه- ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا- فذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين (61/ ب) آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهًا}). ورواية لمسلم قال: (كان موسى رجلًا حييا، قال: فكان لا يرى متجردًا، قال: فقالت بنو إسرائيل: إنه آدر، قال: فاغتسل عند مويه: فوضع ثوبه على حجر، فانطلق الحجر يسعى، وأتبعه بعصاه يضربه: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى وقف على ملأ من بني إسرائيل، فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا لا

تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهًا})]. * في هذا الحديث من الفقه: أن المؤمن حيي، وأنه يستتر عند اغتساله، ولا أرى في هذه القصة إلا أن موسى عليه السلام كان مستترًا مؤزرا؛ لأنه لا يستحب للرجل أن يتجرد حيث تتكشف عورته، وإن كان خاليًا. وإنما الذي اتهمه بنو إسرائيل أنهم قالوا: هو آدر. قال ابن قتيبة: (الآدر): عظيم الخصيتين، يقال: رجل آدر بين الأدرة والشرج: أن تعظم وتصغر أخرى، والأدر لا يمنعه المئرز بل يصفه، فلما نزع موسى ثيابه واغتسل، ذهب الحجر بثوبه، فاتبعه موسى ثوبي حجر؛ فبرأه الله تعالى مما كانوا يظنون به من الأدرة. * وأما ضربه الحجر، فلأجل ما فعله الحجر لم يرد موسى، ولا علم مراد الله تعالى بذلك، وإنه مما يبرئه الله تعالى به، والندب: الأثر. -2112 - الحديث الرابع والسبعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا

عليه، فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون، وأقيموا الصف في الصلاة، فإن إقامة الصف من حسن (62/ أ) الصلاة) هذا لفظ البخاري، وانتهى حديث مسلم إلى قوله: (فصلوا جلوسًا أجمعون). وفي رواية: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعون). وفي رواية: (وإذا سجد فاسجدوا، وأقيموا الصف في الصلاة؛ فإن إقامة الصف من حسن الصلاة). وفي رواية: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعون). زاد في رواية: (فقولوا: ربنا لك الحمد). وفي رواية: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا، يقول: (لا تبادروا الإمام، إذا كبر فكبروا، وإذا قال: {ولا الضالين} فقولوا: آمين، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعون). وفي رواية: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعون).

وفي رواية: (إنما الإمام جنة، فإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، فإذا وافق قول أهل الأرض قول أهل السماء، غفر له ما تقدم من ذنبه)]. * قد سبق هذا الحديث في هذا المسند، وفي غيره مما تقدم، وتكلمنا عليه. -2113 - الحديث الخامس والسبعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غيره أمره، فله نصف الأجر). وأول حديث مسلم: (لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه، وما أنفقت من كسبه من غير أمره، فإن نصف أجره له). وفي رواية: (لا يحل للمرأة أن تصوم، وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه، وما أنفقت من نفقة من غير إذنه، فإنه يؤدي إليه شطرها)].

* في هذا الحديث من الفقه: أنه ينصرف إلى امرأة تعلم من زوجها، أنه يريد الإنفاق ويعجبه ذلك ولا يكربه ولا يكرهه من ذلك ما يعلم أنه له رضا يتضمنه، فيكون لزوجته نصف أجره من غير أن ينقص أجره هو من الكمال شيئًَا، وإنما ورد هذا؛ لتحذير امرأة تعلم أن زوجها يريد الإنفاق، إن تقف عند انتهاز الفرص في سبيل الخير التي قد اعتدت من زوجها الصالح، أن يتطلع إلى اغتنام الظفر بمثلها، فتفوته ذلك من أجل أنه لم يكن أذن لها فتأبى بذلك حجة، ويجعلها الشيطان سببًا إعاقة عن خير. * فأما قوله: (لا تصم المرأة وبعلها شاهد)، ففيه احتراز عن زمان غيبته، والذي أراه أن الصوم في حال غيبته أولى؛ لأنه يعينها على الصبر عنه، فأما في حضوره فإنها إذا أخبرته أنها صائمة عند إيثاره غشيانها، وقفته بين أمرين: إما أن يفسد صيامها فيفوتها الأجر، أو يؤخر غشيانها فيكدر عيشه. * وقوله: (ولا تأذن لأحد، وهو شاهد إلا بإذنه)، وهذا لأنها إذا أذنت في غيبته، كان ذلك كالخيانة؛ لأنها رضي بها نائبة عنه في بيته، فأما إذا كان شاهدًا، فإن الأمر يعود إلى الأصل الذي هو الزوج، فإذا أذنت وهو حاضر كان ذلك افتئاتًا عليه.

-2114 - الحديث السادس والسبعون بعد المائتين: (63/ أ) [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس)، قال: تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته، فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة). قال: (والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة)]. * هذا الحديث قد تقدم في مسند أبي موسى، وفي مسند أبي ذر، وشرحناه، وشرحنا معنى السلامى وغيرها. -2115 - الحديث السابع والسبعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (خلق الله آدم وطوله ستون ذراعًا، ثم

قال: اذهب فسلم على أولئك من الملائكة، فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: رحمة الله، وكل من يدخل الجنة على صورة آدم، قال: فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن). وفي رواية: (على صورته)]. * أما اختيار الستين، فلأنه عدد مقصود يتعلق به الحساب أمور كثيرة، ويتفرع منه أصول، وتنسب إليه. * أما آدم عليه السلام- وكونه ستين ذراعًا، فإن هذا لا يدل على نحو خلق أحدنا اليوم، وذلك أكثر أنهمة ورواء وشارة، ويجوز أن يكون قد كانت له خيل يركبها تناسب خلقه. * وقوله: (فلم يزل الخلق ينقص)، يعد دليل على أنه ينقص من خلق الراكب والمركوب. والذي أراه في ذلك أنه لما كانت أعمار الأوائل طوالًا لم يكن يقتضى طول بلوغ الأشد منه؛ لأن مده يناسب ذلك الطول، وأن ابتداء الخلق من ...

الآدمي إلى أن يبلغ أشده، فإنه يكون ما يخلف عليه في مدته (63/ ب) أكبر ما يتخلل منه دائمًا إلى القوة والزيادة، فإذا حسبت هذا على مقتضى ما يستحق العمر الذي هو الآن من الستين إلى السبعين، أو العمر الذي هو ستمائة أو سبعمائة وألف كان قريبًا مما ذكر أن طوله كان ستين ذراعًا. * وأما الحكمة في نقص الخلق، فإنه تخفيف على المؤمن ومحق للكافر، وليكون عدد هذه الأمة أكبر من عدد ما مضى قبلها من الأمم؛ لأنهم لما قصرت أعمارهم تضاعف عددهم. * فأما قوله: (اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة)، فإن الذي أراه أنه سلف من آدم عليه السلام على الملائكة؛ ليكون الملائكة تسلم على ذريته قضاء لذلك الحق كقوله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب (23) سلام عليكم بما صبرتم}. * وأما قوله: (فتلك تحية ذريتك)، يعني أنه سيحيون ذريتك بذلك، ويجوز أن يراد فإنه تحية ذريتك فيما بينهم، فيكون ذلك مانعًا من تعمق المتعمقين في التحية لئلا يستنكف عن القناعة بذلك من يحيي به. * فأما قوله: (فزادوه: ورحمة الله)، فإنه لما قال - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: (السلام عليكم): زادوه، وفي ذلك من الفقه: أنه لا يحيى أحد بتحية إلا كان مندوبًا إلى أن يحيى بأحسن منها، إلا أنه إن لم يوفق لاستعمال الندب رد مثلها.

-2116 - الحديث الثامن والسبعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (رأى عيسى بن مريم رجلًا يسرق، فقال له: أسرقت؟ قال: كلا، والذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنت بالله وكذبت عيني). وفي حديث معمر: (وكذبت نفسي)]. * في هذا الحديث من الفقه: أنه ينبغي تأويل من حلف (64/ أ) له بالله عز وجل أنه صادق ولو رأى أن يكذب نفسه؛ ليكون معلنًا حسن الظن بالمسلم في أنه لا يحلف بالله إلا صادقًا على نظر عينه التي يجوز عليها أن ترى الشيء على خلافه؛ فإن فعل عيسى عليه السلام ذلك، واختيار نبينا - صلى الله عليه وسلم - لنا عن عيسى ذلك، دليل على ندبنا إليه وحضنا عليه. -2117 - الحديث التاسع والسبعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اشترى رجل من رجل عقارًا، فوجد الذي اشترى العقار، في عقاره جرة فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك عني، إنما اشتريت منك الأرض؛ ولم أشتر الذهب، وقال

الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية، فقال: أنكحا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه، وتصدقا)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلى لأمته حديث الرجلين اللذين تدافعا المال، فكل منهما يدفعه عنه إلى صاحبه ترغيبًا للناس في الاقتداء بهما، وإن ذلك أفضى بهما إلى حصول الشيء لهما؛ لأنه صار في أحسن مواقعه منهما؛ فإنه لو كانا قد اقتسما لم يكن الواحد منهما يتركه إلا لولده، فزوج ابن هذا ابنة هذا، فصار المال إليهما، فلم يفتهما من ذلك خير بل كسبا أجرًا، وحصلا عند الله به ذخرًا، وكان من أحسن الثناء عليهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر مثل ذلك عنهما، وهذه القصة توبخ أهل الحرص والشرة والتفاني في طلب الدنيا. -2118 - الحديث الثمانون بعد المائتين: (64/ ب) [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان عظيمتان، يكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة، ولا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون، قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله). وفي رواية: (لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان دعواهما واحدة).

وفي رواية: (لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج- وهو القتل- وحتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل صدقته، وحتى يعرض، فيقول الذي يعرضه عليه: لا أرب لي فيه، وحتى يتطاول الناس في البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه، وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس يعني آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرًا، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته، فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها). وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة يبلغ به قال: (تقوم الساعة والرجل يحلب اللقحة، فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم، والرجلان يتبايعان الثوب، فما يتبايعانه حتى تقوم، والرجل يليط في حوضه، فما تصدر حتى تقوم)].

* هذه أشراط، هي علامات لقرب الساعة. والفئة المدعاة (65/ أ)، والدعوى: الانتماء يعني في انتمائها إلى دين واحد. * وقوله: (يتقارب الزمان) قد فسرناه في أوائل مسند أبي هريرة. واللقحة: واحد اللقاح، وهي الناقة ذات اللبن. * وقوله: (وهو يليط حوضه)، يقال: لاط فلان حوضه وألاطه ويلوطه ويليطه، إذا طانه بالطين، وسد خروقه ليحفظ الماء. * والأكلة: اللقمة، وتصدر: ترجع، والمراد أن الساعة بغتة. -2119 - الحديث الحادي والثمانون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيه- يشير إلى رباعيته- اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله)]. * أما ما جرى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد؛ من كسر رباعيته فقد تقدم في مسند

أنس، وفي مسند سهل بن سعد. * وأما اشتداد الغضب على من قتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بالرحمة والعفو؛ فإذا قتل شخصًا دل على أن الشخص كان مستحقًا لعقوبة غير أهل الرحمة، لذلك اشتد الغضب عليه. -2120 - الحديث الثاني والثمانون بعد المائتين: [عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟) زاد في رواية محمد بن رافع: وغرتهم. فقال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما النار: فلا تمتلئ حتى يضع رجله. وفي رواية محمد بن رافع: حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله (65/ ب) فتقول: قط- قط- قط، فهنالك تمتلئ، ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحدًا، وأما الجنة: فإن الله ينشئ لها خلقًا). وفي رواية للبخاري: (اختصمت الجنة والنار، فقالت الجنة: يا رب ما لها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ وقالت النار: .. فقال [الله]

للجنة: أنت رحمتي، وقال للنار: أنت عذابي، أصيب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها، قال: فأما الجنة، فإن الله لا يظلم من خلقه أحدًا، وإنه ينشئ للنار من يشاء، فيلقون فيها، فتقول: هل من مزيد؟ فيلقون فيها فتقول: هل من مزيد؟، حتى يضع قدمه فيها فتمتلئ، ويزوى بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط قط). وفي رواية: يرفعها بعض الرواة تارة، وتقفها أخرى: (يقال لجهنم: هل امتلأت؟؛ فتقول: هل من مزيد؟ فيضع الرب قدمه عليها فتقول: قط قط). وفي رواية لمسلم: (فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وعجرهم؟ وفي آخره: (فأما النار، فلا تمتلئ حتى يضع قدمه فيها، فهنالك تمتلئ، ويزوى بعضها إلى بعض)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن الفائدة فيه، تعيين أهل النار: وأنهم المتكبرون والجبارون، وتعيين أهل الجنة: وأنهم ضعفاء الناس، سموا سقطًا على معنى أنهم لا يكرمون بصدر المجالس، ولا يفتقدون إذا غابوا، ولا يعرفون إذا حضروا، وهذا هو الأغلب من صفة أهل الجنة. * وأما قوله للجنة: أنت رحمتي، وللنار: أنت عذابي، فإنه يقطع العجربين الدارين: من جهة أن هذه دار نعمة، وهذه دار نقمة.

* وقوله: (لكل منكما ملؤها)، سكانها، فجعل شعبها على قدر سكانها ومالهم. وخلق النار، فجعلها في الضيق والحرج على قدر عدد سكانها في أحرج مكان يتصور تقديره، فكان مقدار ما بينهما مقدار ما بين أهليهما؛ لأنه (66/ أ) قال عليه السلام: ولكل واحدة منهما ملؤها، فليس يبقى في الجنة موضع يعوزه ساكن، ولا ساكن يعوزه موضع. * فأما النار؛ فإنها دار الضيق والحرج، فيملؤها الله عز وجل بمن يدخله إليها، فهذه ملأى بمن فيها، وهذه ملأى بمن فيها، ولكن بين العرضين تفاوت عظيم. * وأما قوله: (يضع فيها قدمه)، فقد ذكرناه في مسند أنس، وكذلك فسرنا هنالك معنى قط قط، وعلى ما سبق في هذا وأمثاله، فإن الإمساك عن الإبانة في مواضع المواطن قد لا يصلح، والمقصود من هذا الحديث: إعلام الخلق أن النار إذا سلطت أتت على الأشياء، حتى إنه لولا رحمة الإله سبحانه لأتت على السموات والأرض وسائر المخلوقات، فمجموع هذا يبين من قوله: سبقت رحمتي غضبي، وقد شرحناه فيما قبل. وإنما كانت السنة المتبوعة في رواة الحديث أن تمر هذه الأحاديث كما جاءت، ولا ينقلوا نطقها عن صيغته اكتفاء بما ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صيغتها؛ إذ نقلها عن صيغتها قد لا تقع من البلاغة مع سعتها عن نفي التشبيه موقع نطق

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وإنما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ذكر من هذه الأحاديث مع كونه قد أنزل عليه قوله عز وجل: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}، وأنزل عليه قوله سبحانه: {ولا يحيطون به علمًا}. فإنما أراد الله فيما أرى تحقيق الصفات المقدسة، وتمكين الآيات بما ذكره - صلى الله عليه وسلم - عن ربه ليكون كافيًا قلوب أهل الصلاة بذلك، وناكبًا قلوب أهل الزيغ، ودامغًا رؤوس أهل التعليل، الذين لما اضطرهم الاعتراف بوجود الخالق سبحانه عدلوا إلى جحد (66/ ب) صفاته سبحانه وتعالى ... من غير ذلك بما ألحدوا به في أسمائه. فكانت هذه الأحاديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبًا لقلوب الكافرين، ونكأ لصدور المعطلين، وعلم بها أهل الحق أنه سبحانه وتعالى كما وصف به رسوله - صلى الله عليه وسلم - يؤمنون بأنه {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}. لا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام من الحد والحصر والميل والشبه والتأليف والاقتران والمضامة والاتساق، بل هو سبحانه واحد أحد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.

-2121 - الحديث الثالث والثمانون بعد المائتين: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (العين حق)، ونهى عن الوشم. كذا في حديث البخاري: (أتي عمر بامرأة تشم، فقال: أنشدكم بالله، من سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوشم؟ قال أبو هريرة: فقمت فقلت: يا أمير المؤمنين أنا سمعت، قال: ما سمعت؟ قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا تشمن ولا تستوشمن). وقد أخرجه البخاري تعليقًا: (لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة)]. * أما قوله: (العين حق)، قد فسرناه في مسند ابن عباس. * وأما نهيه عن الوشم، فقد سبق في مسند ابن مسعود: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة)، وقد فسرناه هناك.

-2122 - الحديث الرابع والثمانون بعد المائتين: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (والله، لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله إثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه). (67/ أ) وفي رواية للبخاري: (من استلج في أهله بيمين، فهو أعظم إثمًا ليبر: تغنى الكفارة)]. * أما قوله: (نحن الآخرون السابقون)، فقد سبق في هذا المسند. * وقوله: (لأن يلج)، قال ابن قتيبة: يقال يلج واستلج في يمينه إذا استمر على حكمها وترك التكفير، وهو يعلم أن الحنث أفضل. قال يحيى بن محمد رحمه الله: والذي أراه في هذا أنه إذا ترك ما جعله الله عز وجل متداركًا لقرطاب الآدميين في أيمانهم من الكفارات خائفًا من ذلك أن يأثم بفعل ما حلف عليه، فإن الذي آتاه من خوف ذلك آثم مما حلف، ويبين هذا قوله: استلج في أهله بيمين فهو أعظم.

* وقوله: ليس تغني الكفارة، أي: ليس يدفع بلجاج هذا الحالف، ومنه قول عثمان رضي الله عنه لما أتي بالصحيفة التي بعثها إليه علي رضي الله عنه في صدقات العمال: أغنها عنا. -2123 - الحديث الخامس والثمانون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري، لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار). وفي رواية لمسلم: (من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه، حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه)]. * في هذا الحديث من الفقه: أنه لا يجوز أن يشير الإنسان إلى أخيه بالسلاح مهولًا عليه لا جدًا ولا هزلا؛ فإن الشيطان ينزع يده كما ينزع في قلبه، فيقع السلاح من أخيه بحيث لا يؤثر وقوعه، فيقع في حفرة من النار؛ فإن الذي يقع في الحفر يقع عن غير قصد، فيكون إصابة هذا عن غير إرادة من جنس وقوعه في الحفرة. قال الحميدي: والنزع: الفساد، فنهى عن ذلك خوفًا من أن يتفق الفساد

في ذلك، فيصيبه بما يؤذيه، فيأثم بتلك الإشارة التي آلت إلى الأذى. * وقوله: (فإن الملائكة تلعنه)، المراد (67/ ب) بهذا ألا يشير ولو كان في وضع يريد منه إيثار حرجًا كالإنسان إلى أخيه لأبيه وأمه؛ لأن الغالب ألا يشير إلى أخيه في النسب قصدًا للجرح، فأراد - صلى الله عليه وسلم - بذلك تشديد القول، وتأكيد الوصاة في ألا يشير أحد إلى أحد بالسلاح. * وقوله: (حتى) من غير أن يتبعها بشيء؛ ليتناول المحتملات كلها. -2124 - الحديث السادس والثمانون بعد المائتين: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي، وفتاتي، وغلامي). وفي رواية لمسلم: (لا يقل أحدكم: ربي، وليقل: سيدي، ومولاي). وفي أخرى له قال: (لا يقولن أحدكم: عبدي، فكلكم عبيد الله، ولكن ليقل: فتاي، ولا يقل العبد: ربي، ولكن ليقل: سيدي). زاد في رواية: (فإن مولاكم الله). وفي أخرى: (لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي، كلكم عبيد الله، وكل

نسائكم إماء الله، ولكن ليقل: غلامي، وجاريتي، وفتاي، وفتاتي)]. ....... -2125 - الحديث السابع والثمانون بعد المائتين: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم). وفي رواية: (لم يخبث اللحم- ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها). وفي رواية لمسلم: (لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها، الدهر)]. * في الحديث من الفقه: أن الله سبحانه إذا أدر رزقًا وأنزل خيرًا، فإنه ينبغي

للمدر عليه أن يكون غير مرتاب بأن الله سبحانه لا يجوز عليه البخل، ولا يقطع ذلك الإمداد إلا لحكمة، فلا يدخر مما أنعم به عليه كالمن والسلوى الذي كان يأتي كل يوم إلى بنى إسرائيل. فإن في جعل ذلك الإدرار منامة بينها، على أنه يأتي كل يوم برزقه، فإذا ادخر من رزق يوم إلى يوم آخر؛ فإن ادخاره دليلًا على ارتياب حسن نيته مع ربه عز وجل على الشيء المدخر أنه لما أفسد بمثل فعله في إفساد ما ادخره. وعلى هذا فإن ما أنعم الله به مساقاة كالحبوب والثمار، فإنه لم يأت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ادخر من ذلك أكثر من قوت عام من جهة أن درور ذلك في كل عام. وإنما فسد الطعام على بين إسرائيل؛ لأنهم ادخروا من ذلك أكثر من قوت. حواء فقد قيل: إن خيانتها لزوجها، أنها لما رأت آدم قد عزم على الأكل من الشجرة (68/ أ) تركت نصحه في النهي له؛ لأن ذلك كان ترك النصح له خيانة؛ فعلى هذا، كل من رأى أخاه المؤمن على سبيل ذلك فترك نصحه بالنهي عن ذلك النهي فقد خانه، ولا يخرج هذا من تسمية الخائنين الذين جزم الله سبحانه منهم: {إن الله لا يحب الخائنين} اللهم إلا أن يسكت تقية، فذلك له حكم تعلق به. * وقوله: خنز الطعام؛ قال أبو عبيد: يقال خنز يخنز، وخنز يخنزون، خزن يخزن، إذا أروح.

قال طرفة: ثم لا يخزن فينا لحمها .... إنما يخزن لحم المدخر -2126 - الحديث الثامن والثمانون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرًا). وفي رواية لمسلم؛ عن أبي هريرة، أنه رأى رجلًا يجر إزاره، فجعل يضرب برجله الأرض وهو يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ينظر الله إلى من يجر إزاره بطرًا)]. * هذا الحديث قد سبق في مسند ابن عمر، وشرحناه هنالك. -2127 - الحديث التاسع والثمانون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يتمنين أحدكم الموت، إما محسنًا، فلعله يزداد، وإما مسيئًا فلعله يستعتب). وفي رواية لمسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت، ولا يدع به من قبل أن

يأتيه، إنه إذا انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا)]. * هذا الحديث قد سبق في مسند أنس، وتكلمنا عليه هنالك، ولكنا نشير إليه هاهنا. ويستعتب: يستفعل من العتبى، فكأنه أشار إلى أنه حيث كان في الإساءة؛ فإن العتاب من الله متوجه إليه (68/ ب) فلا ينبغي أن يتمنى الموت، فلعله يستعتب أي يتوب إلى ربه ويعود إلى الحسنى. وهذا من لطيف القول في استعطاف المالك المقتدر للعبد الضعيف الجاهل. * وأما قوله: (ولا تدعوا)، فإنه يدل على أن الدعاء به في جنس يمينه، وإن كان متوجهًا استخراجه له من ربه، فإن دعاءه بالموت يدل على جهل واعتراض. * وقوله: (إن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيرًا)؛ فإن المؤمن لا يزال يجدد له إيمانه خيرًا بعد خير، وفائدة على أثر فائدة عند كل تجنب لما يتجنبه، وإمداده على ما يقدم عليه، وعند كل قوة على مفعول أو عجز عنه، وعند الأماني التي يتمناها، وعند كل خير متعرض له أو سواد للمسلمين يكثره؛ أو عدد لهم يكمله، فإنه مع إيمانه لا يخلو شيء من ذلك كله من أن يكتب له فيه الحسنات

والدرجات. -2128 - الحديث التسعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة، واقرؤوا إن شئتم: {وظل ممدود} ولقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما طلعت عليه شمس أو تغرب). وقال: (لغدوة أو روحة في سبيل الله، خير مما تطلع عليه الشمس أو تغرب). وفي رواية البخاري، عن أبي هريرة يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، واقرؤوا إن شئتم: {وظل ممدود}). وفي رواية: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة)، وفي (69/ أ) رواية: (لا يصلها)].

* أما تلك الشجرة الموصوفة فقد سبق في مسند سهل بن سعد، وفي مسند أنس، وسبق في مسند أنس ذكر الغدوة والقاب وشرح جميع ذلك. -2129 - الحديث الحادي والتسعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا قاتل أحدكم، فليتجنب الوجه). وفي رواية: (إذا قاتل أحدكم أخاه ...). وفي رواية: (إذا ضرب أحدكم أخاه). وفي رواية: (إذا قاتل أحدكم أخاه فلا يلطمن الوجه). وفي رواية: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليتجنب الوجه؛ فإن الله خلق آدم

على صورته)]. * في هذا الحديث من الفقه: أنه يجوز أن يكون المراد اجتناب الوجه أن ينال بضرب أو سوء، ويجوز أن يراد اجتناب وجهه بالمواجهة له، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد مضى الكلام في قوله: (خلق آدم على صورته)، وسبق القول في جملة هذه الأحاديث. * إن مذهبنا فيهما مذهب السلف الصالح؛ وهو: إمرار الأحاديث على ما جاءت مع اعتقادنا أن الله سبحانه: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}. والظن بالسلف الصالح إنهم لم يمسكوا عن هذه الأحاديث، إلا أنهم لم يمكنهم تأويلها إلا بأن يضربوا لله الأمثال من خلقه، فتحرجوا أن يشبهوا صفات الله الحقيقية بصفات المخلوقين؛ ثم زاد تحرجهم أن يشبهوا صفات ربهم بصفات خلقه مجازًا، فكان مذهبهم منع التشبيه لصفات الله سبحانه بصفات المخلوقين؛ لا حقيقة ولا مجازًا.

-2130 - (69/ ب) الحديث الثاني والتسعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة قال: جاء الطفيل بن عمرو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: إن دوسًا قد هلكت وعصت وأبت، فادع الله عليهم. فقال: (اللهم اهد دوسًا، وائت بهم). وفي رواية: (فظن الناس أنه يدعو عليهم فقال: (اللهم اهد دوسًا وائت بهم). وفي رواية: (قدم الطفيل وأصحابه، فذكر نحوه، فقيل: هلكت دوس، فقال: (اللهم اهد دوسًا وائت بهم). وفي رواية: (قدم الطفيل وأصحابه، فقالوا: يا رسول الله، إن دوسًا كفرت فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس، فقال: (اللهم اهد دوسًا وائت بهم)]. * في هذا الحديث ما يدل على رحمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته؛ فإنه كان - صلى الله عليه وسلم - يقبل على الآتي إليه، ويدعو للمدبر عنه؛ ألا تراه حين قال له الطفيل: ادع الله على دوس فقال: اهد دوسًا وائت بهم.

* وفي هذا الحديث من الفقه: أن فرصة الخير تنتهز عند اشتداد ضدها، دعا هذا المحرض على القوم عند يائسة منهم، فانتهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرصة الخير، ودعا لدوس بالهداية، فكان ذلك أليق بسجاياه الكريمة، وأدعى إلى فلاحهم، فعلى هذا أحب لكل من اشتد غضبه على إنسان، أو أغرى به، أن ينتهز الفرصة في ذلك الوقت فيدعو للمغضوب عليه، والشخص الذي قد أغرى به ما بلغ ما يمكنه من الخير، كاسرًا صولة طبعه الذي أعان تهييجها، ما كان من مغيظة أو إغراء قائل. فيطلع الله عز وجل حينئذ على قصده في ذلك الوقت، فيستجيب دعاءه ويغفر به (70/ أ) كل ذنب عمله إن شاء الله لأنه جل جلاله ... إذا رأى من عبده هذه الخلة الحسنة عند اشتداد غيظه، والتهاب طبعه، كان سمته بالعفو والجود؛ أجود وأعود. -2131 - الحديث الثالث والتسعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، يدخلان الجنة؛ يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل، فيستشهد). وفي رواية لمسلم: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة، قال: هذا يقاتل في سبيل الله فيستشهد، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم، فيقاتل في سبيل الله فيستشهد).

وفي رواية: (يضحك الله لرجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة، قالوا: كيف يا رسول الله؟، قال: يقتل هذا فيلج الجنة، ثم يتوب الله على الآخر فيهديه إلى الإسلام، ثم يجاهد في سبيل الله فيستشهد)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن الله سبحانه كان من لطفه بعباده المؤمنين أن كتب الشهادة لبعضهم على بعض ففاز بها المستشهد، ولم تكن تتم الشهادة لمن كتبت له إلا بأن يجري على يد آخر، حتى يكرم بها وليه، فبلغت رحمته عز وجل أن يرحم العبدين كليهما، فاستشهد هذا بيد هذا، ثم يقود القاتل للإسلام، فأسلم، ثم قاتل في سبيل الله فاستشهد، فكانا معًا من أشد الناس محابًا في الجنة؛ لأن كل واحد منهما نال مال ناله بصاحبه، وقد سبق معنى الكلام في الصفات؛ مثل قوله: يضحك (70/ ب) وغيره. -2132 - الحديث الرابع والتسعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المسلم يأكل في معى واحد، والكافر في سبعة أمعاء).

وفي رواية: (أن رجلا كان يأكل كثيرًا، فأسلم، وكان يأكل، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إن المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضافه ضيف، وهو كافر، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة، فحلبت، فشرب حلابها، ثم أخرى فشربه، ثم أخرى فشربه، ثم أخرى فشربه، حتى شرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم، فأمر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة فشرب حلابها، ثم أخرى فلم يستتمها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المؤمن يشرب في معى واحد، والكافر يشرب في سبعة أمعاء). وفي رواية: (المؤمن يأكل في وعاء واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء)]. * هذا الحديث قد سبق في مسند أبي مسعود، وتكلمنا عليه هنالك. -2133 - الحديث الخامس والتسعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، اللهم ارزقني إن شئت، ليعزم

المسألة، فإنه لا مكره له). وفي رواية: (لا يقولن أحدكم: (71/ أ) اللهم اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت، ارزقني إن شئت، وليعزم المسألة، إنه يفعل ما يشاء، لا مكره له). وفي رواية: (لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت، ليعزم في الدعاء، فإن الله صانع ما يشاء لا مكره له). وفي رواية: (إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم، وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)]. * في هذا الحديث من الفقه: تعليم السائل لربه كيف يسأل، وأن الله سبحانه لما عظم كرمه، وعزز فضله، لم يكن ينال ذلك بمقتضى مبلغ عقول البشر، فعلمهم سبحانه كيف يسألون فضله بألسنة الطلب؛ ومن ذلك ما علمهم إياه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومنه ما ادخره ليعلمه عباده في الآخرة؛ فكان من ذلك الذي علمهم إياه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يعزم العبد المسألة، ويجزمها، ويقطع بها، ولا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، فإن قوله: إن شئت في سؤاله يدل على ضعف السائل وتردده من حيث إنه نظر عند طلبه إلى ما كان منه من السوء، ولو قد نظر عند طلبه إلى جود ربه سبحانه، وأوسع الطلب، وأعظم

السؤال، لكان ذلك مما يناسب كرم الرب جل جلاله، إذ ليس عطاء الله سبحانه على مقدار سائله؛ ولكنه بحسب جود المعطي. وليعزم في سؤاله؛ فإن كرم الله متسع لذلك وأمثاله، ومتى علقه بالمشيئة استبدل بذلك منه، على أنه لم يعرف الله حق معرفته، ويدل على ما قلناه قوله: فإنه لا مكره له؛ لأنه لو لم يشأ لم يشرع الدعاء، ولم يندب الخلق إلى الطلب، فلما شرع الدعاء، وندب إليه، واستدعى (71/ ب) من الخلق أن يمدوا أيديهم إلى قضاء، وعلمنا أنه قد شاء الإجابة. واعلم أنه شرع ذلك قبل أن يسأله السائلون عن غير إكراه، إذ الخلق كلهم دون أن يتعرضوا لنيل شيء من فضله إلا عن خضوع وسؤال وطلب. ويدل على ما قلنا قوله: (وليعظم الرغبة) أي: لا يقتصر، فإن أحد ملوك هذه الدنيا لو قد تعرض له سائل فتوصل إلى لقائه فلما واجهه قال له: سلني، فلما سأله، فلسًا من نحاس لاستهجن ذلك وخاطبته العقول بألسنة الأحوال، يا هذا: تسأل من هذا الملك الواجد، وقد قال لك: اطلب مني، ودعاك إلى سؤاله، هذا المقدار اللطيف؛ لقد أفصحت بمسألتك هذا عن تبخيل هذا الملك أو اختلال عقلك. فجميع الدنيا، وأضعافها، وما يعطيه الله في الجنة لعبده على سعتها، وكثرة العطاء، وإذا قيس الكثير منه إلى ما يجود به ذلك إلى الملك من أهل الدنيا من الفلس النحاس، كان الفلس في حال ذلك الملك مؤثرًا، وفي جوده معتبرًا، وجميع الدنيا، وسائر عطايا الجنة غير مؤثر فيما عند الله عز وجل ولا في عطائه.

-2134 - الحديث السادس والتسعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء). وفي رواية لمسلم: (إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، فإن في الناس الضعيف والسقيم وذا الحاجة). وفي رواية: بدل (السقيم): (الكبير). وفي رواية: (إذا أم أحدكم الناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والكبير، والصغير والمريض، وإذا صلى أحدكم فليصل كيف شاء). وفي رواية: (إذا قام أحدكم للناس فليخفف الصلاة، فإن فيهم الكبير، وفيهم الصغير، وإذا قام وحده فليطل (72/ أ) صلاته ما شاء)]. * هذا الحديث قد سبق في مسند أبي مسعود البدري، وتكلمنا عليه هنالك.

-2135 - الحديث السابع والتسعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ناركم جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، قيل يا رسول الله: إن كانت لكافية! قال: فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها). وفي رواية لمسلم: (ناركم التي يوقد ابن آدم، جزء من سبعين جزءًا من حر جهنم، قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله، قال: فإنها فضلت عليها بسبعة وستين جزءًا كلها مثل حرها)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن هذه النار التي جعلت تذكرة بالنار الكبرى إنما نقصت من تلك النار تسعة وستين جزءًا لينتفع بها الآدميون مع تخوفهم منها، وملابستهم لها، فزيادة الإضعاف في النار الكبرى دليل على أنها ليست للانتفاع بها؛ بل للعذاب والانتقام، وهذا إنما هونت للانتفاع بها. -2136 - الحديث الثامن والتسعون بعد المائتين: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم

بالسواك). وفي رواية: (لولا أن أشق على أمتي، أو قال: على الناس، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة). وفي رواية: (لولا أن اشق على المؤمنين). وفي رواية: (على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن السواك غير واجب، لقوله: (لولا)، ولو كان واجبًا لأمرتهم به شق أو لم يشق. * وفيه دليل على أن ظاهر الأمر الوجوب؛ لأنه قال: (لأمرتهم)، ولولا أن أمره يكون واجبًا لم تكن في هذا القول فائدة. * وقد تكلمنا عن السواك في مسند حذيفة رضي الله عنه. -2137 - الحديث التاسع والتسعون (72/ ب) بعد المائتين: [عن أبي هريرة قال: (حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره).

وفي رواية لمسلم: (حفت) مكان حجبت)]. * معنى حجبت: سترت، أو الشيء لا يوصل إليه إلا بعد كشف ما ستر به. * وقوله: (حفت): المعنى: أحيط ذلك بها، ولا وصول إلى الشيء إلا بعد مجاوزة ما حفت به، والأغلب في المقرب إلى الجنة أنه مكروه عند النفس، وفيما يقرب إلى النار أنه مشتهى على أن تفسيره قد تقدم. -2138 - الحديث الثلثمائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليس الغنى عن كثرة العرض؛ ولكن الغنى غنى النفس)]. * في هذا الحديث من الفقه؛ أن الغنى المعروف بالألف واللام؛ لا يكون العرض؛ لأن ذلك إنما يكون داعية إلى فقر، من حيث إنه من ملك أعراضًا كثيرة من أجناس مختلفة، اضطر في حفظها ورعايتها إلى مؤن وكلف يزيده فقرًا، وإن كانت قد تعينه في حالة، فإنها تفقره في حالات.

* فأما الغنى الحقيقي الذي لا فقر معه؛ فإنه غنى النفس بربها سبحانه وتعالى؛ لأن النفس هاهنا معرفة بالألف واللام لا يشار بها إلى النفس التي لا تحتاج إلى غير ربها، ومن استغنى بربه افتقر إليه كل شيء؛ فمتى استغنت نفس بربها عز وجل عن جميع خلقه؛ فذاك هو الغنى على الحقيقة لا وجود شيء يوجب زيادة فقر. -2139 - الحديث الأول بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يصل أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء). وفي رواية: (على عاتقيه)]. * هذا نهي استحباب، فإنه إذا ارتدى تفاضل ثوبه كان أستر له، وأحسن في هيئته، لئلا يكون بين يدي ربه عاريًا، وذلك لغير الفقير على نحو الشكاية (73/ أ) فقد ترك الأقصد والأحسن، وأما الذي لا يجد فلا يؤمر بذلك لموضع فقره.

-2140 - الحديث الثاني بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله). وفي رواية: (يقول الله عز وجل (إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها، فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها بعشر أمثالها إلى سبعمائة). وفي رواية لمسلم: (إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرًا). وفي رواية: (من هم بحسنة فلم يعملها كتب له حسنة، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له سبعمائة ضعف، ومن هم بسيئ فلم يعملها لم تكتب، وإن عملها كتبت). وفي رواية: (قال الله عز وجل: إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم تعمل، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها، فأنا أكتبها له بمثلها). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قالت الملائكة: يا رب! ذاك عبدك يريد أن يعمل

سيئة- وهو أبصر به- فقال: ارقبوه، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة. إنما تركها من جراي). وفي رواية: (إذا هم عبدي بحسنة فلم يعملها كتبتها له حسنة، وإن عملها كتبت له بعشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعملها (73/ ب) لم أكتبها عليه، وإن عملها، كتبت سيئة واحدة)]. * هذا الحديث قد تقدم في مسند ابن عباس، وأوضحنا الكلام عليه هنالك، ونشير إليه هاهنا، فأقول: إن فضل الله سبحانه وتعالى لما كان فائقًا مقدار أماني الخلق بلغ من ذلك إلى أن بدل السيئة حسنة، إذا عملت السيئة فتاب عاملها منها انقلبت بعينها حسنة. ثم إن ذلك سرى إلى أنه متى هم الإنسان بسيئة فلم تتم هذه الهمة؛ بل تركها بأن هم به، أجرى الله سبحانه ذلك له في ديوان فضله، فإنما مقام الفعل الحسن، فكتب ذلك حسنة. * ومعنى قوله: (حسنة) فإن حسنة صفة لموصوف محذوف، ومعناه: كتب له فعله حسنة. * وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إلى سبعمائة ضعف) فإنها إذا انتقلت الهمة عن العزم إلى

الفعل ظهر نورها، وامتد على حسب مستندها من الإخلاص، ومعتمدها من الإيمان؛ فامتدت في التضعيف بمقتضى ذلك، فكانت ما بين العشرة إلى السبعمائة، وهذا النطق فلا يدل على أنه لا يضاعف أكثر من سبعمائة؛ إلى هذا هو الحد الموعود به وفق ما أنزل الله تعالى في كتابه، {كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة}. ثم المضاعفة من بعد ذلك كما قال سبحانه: {والله يضاعف لمن يشاء}، وإنما يتمثل هذا في التصوير بأنه إذا أخرج الرجل من ماله درهمًا عن طيب نفس منه متوجهًا به مواضع الاستحقاق في شدة الفاقة، أو نطق بكلمة حق في مقام يقل قائلو الحق فيه، أو ذكر الله بين الغافلين، أو قاتل عن الفارين، أو فعل فعلًا حميدًا في موطن حميد في إخلاص عن الشوائب؛ وملاحظة الخلق، فإن الله سبحانه وتعالى يحسن بفاعله المرة الواحدة منه ما بين العشر إلى السبعمائة، كأنه فعل ذلك سبعمائة مرة بعينه. (74/ أ). -2141 - الحديث الثالث بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم). وفي رواية: (ما نهيتكم فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما

استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلكم، واختلافهم على أنبيائهم). وفي رواية: (ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم ...) وذكر نحوه. وفي رواية: (خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أيها الناس، قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: كل عام يا رسول الله؟، فسكت حتى قالها ثلاثًا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو قلت: نعم، لو جبت، ولما استطعتم! ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم؛ فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن الإحسان يتناول هجران المنهي عنه ومباعدته، فهو أبلغ من الترك، فإنه يتناول الترك وزيادة. * وقوله: (وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) يعني: أنه لا عذر في مفارقته شيء من المنهي عنه، كالعدل في ترك بعض المأمور به عند عدم الاستطاعة مثل ما لو وجد من الماء ما يكفي بعض أعضائه للطهارة، فالواجب عليه استعماله، وتيمم للباقي لقوله: (فأتوا منه ما استطعتم)، وباقي الحديث

تقدم تفسيره فيما قبل. -2142 - الحديث الرابع بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم (74/ ب) أكن قدرته له؛ ولكن يلقيه النذر إلى القدر قد قدر له، فيستخرج الله به من البخيل، فيؤتيني عليه ما لم يكن يؤتيني عليه من قبل). وفي رواية: (لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم يكن قدرته له، ولكن يلقيه النذر وقد قدرته له، فيستخرج به من البخيل). وفي رواية لمسلم: (إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدره له، ولكن النذر يوافق القدر، فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج). وفي رواية: (نهى عن النذر، وقال: إنه لا يرد من القدر، إنما يستخرج به من البخيل). وفي رواية: (لا تنذروا؛ فإن النذر لا يغني من القدر شيئًا، وإنما يستخرج به من البخيل)].

* هذا الحديث قد سبق في مسند ابن عمر، وتكلمنا عليه هنالك. -2143 - الحديث الخامس بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (قال رجل لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على سارق، فقال: اللهم لك الحمد، لأتصدقن بصدقة؛ فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على غني، فقال: اللهم لك الحمد على سارق، وعلى زانية، وعلى غني، فأتي، فقيل له: أما صدقتك على سارق؛ فلعله أن يستعفف عن سرقته، وأما الزانية، فلعلها تستعف عن زناها، وأما الغني: فلعله يعتبر فينفق مما آتاه الله)]. * هذا الحديث يدل على أن الأعمال بالنيات، وأن الإنسان يثاب على نيته، ويدل على أن العظة بالأفعال بلغ مبلغ العظة بالأقوال ويزيد، فإن هذه الموعظة مثلها يزجر ويردع.

* وفيه أيضًا دليل على توفيق هذا المتصدق وحسن أدبه، فإنه لما تصدق يريد وجه الله فوقعت صدقته (75/ أ) على سارق وزانية وغني، وتحدث الناس بذلك، كان أول ما جرى على لسانه حمد الله تعالى، على سارق وزانية وغني. * وأما حمده في هذه المواطن فلا أراه إلا أنه قد كان من العلماء بالله الذين يحسنون التفويض إلى الله سبحانه، ويريضون بما قدر، فلذلك ما كشف الله له عن عواقب الأمور الثلاثة، عن كثب واتم بأن أتي؛ فقيل له: أما السارق، فلعله أن يستعف عن سرقته؛ فذلك كالتعريف له وجه الحكمة في وضع صدقته على السارق؛ فيجتمع في صدقتك عليه بين أن يحفظه به من أن يأخذ مال غيره، ويحفظ بصدقتك مال غيره أن يأخذه، ويحفظ به جوارحه وأطرافه من حدود الله تعالى، ويعرفه أن في عباد الله تعالى من يتصدق، ليلاً سرًا على من لا يعرفه، فيكون بمظنة أن لا يشكره عليه، ولا يدري من أي يد وصل إليه الشيء، ولا يرى وجهه ويعرفه، فيثنى عليه فيكون ذلك داعية إلى عظة نافعة للآخذ، وصدقة عليه بما يغنيه عن أن يسرق مال غيره، وصدقة على صاحب الشيء الذي كان يعرضه السرق لولا استغناء السارق بالصدقة عنه، فتنوعت أنواعًا، وتوجهت وجوهًا؛ حيث كان الإخلاص مراده، وتفويضه إلى الله تعالى في ظاهر الحال، وحمده لله سبحانه على ذلك. * وهكذا الزانية؛ فإنه لما تصدق عليها أعفها عن مواقعة الحرام التي لم تكن تواقع الفاحشة فيه إلا بأجر يأتيها معها، فإن الزنا لا يتصور إلا من اثنين، فكان ذلك بالغًا في الفضيلة لإعفاف الزانية والزاني بها، فوق ما في السارق وبمقدار تفاوت ما بين الحدين، ويعلم الله عز وجل السارق والزانية على ما كان من

عتوهما، فإن الله عز وجل لم يخرجهما عن الإسلام الذي يصح به الصدقة على أهله، وأن رأفة الله سبحانه وتعالى غير مقتضبة عنهما بدليل ما في الجواب، من قوله: (أما الزانية فلعلها تستعف عن (75/ ب) زناها) فإن ذلك إشارة إلى أن الصدقة قد اغنتها فعفت نفسها، ورجوعها. * وأما الغني فإنه لما تصدق عليه أخجله وعرضه للاقتداء، فكانت محسوبة للمتصدق بحسنة مضاعفة له بحسب الأجر بعمله؛ لاسيما وقد عمله كيف سلك في الصدق بالإخلاص في السر على من لا يعرف، فصار متصدقًا معلما، فكان ذلك من بركة إخلاصه. -2144 - الحديث السادس بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنما مثلي ومثل الناس، كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله، جعل الفراش وهذي الدواب، التي تقع في النار، تقع فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه، فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وهم يقتحمون فيها). وفي رواية: (إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش؛ وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن وتغلبنه فيقتحمن فيها. قال: فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار. هلم عن النار، فتغلبوني، وتقتحمون فيها)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمى أعمال النار نارًا؛ لأنها

تؤدي إليها، فهو كقوله عز وجل: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا} فهو - صلى الله عليه وسلم - بشرعه ووصاياه يمسك بالحجز عن التهافت في أعمال النار المؤدية إلى النار، والآدميون يتهافتون عليها تهافت الفراش على النار اتباعًا لطباعهم التي تؤدي من ذلك إلى ما يتلفها، فلا يعتبر منها الذي قد قارن الوقوع؛ بمن بين يديه ممن أهلكه تهافته؛ لأن ذلك كله من أحوال الإحساس دون العقول. -2145 - الحديث السابع بعد الثلثمائة: [(76/ أ) عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا إلى سليمان بن داود فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل رحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى) وقال أبو هريرة: والله إن سمعت بالسكين إلا يومئذ، ما كنا نقول

إلا المدية)]. * هذا الحديث أصل في التوصل إلى كشف الغامض من الحكومات بطرق ذلك. * وفيه أيضًا؛ جواز أن يفهم الله عز وجل الولد ما لم يفهمه الوالد. * وفيه أيضًا: جواز أن يغير الحكم إذا انكشف وقوعه خطأ، غير موافق للحق، إذا كان ما لا يقبل الاجتهاد، فأما قضاء داود عليه السلام للكبرى ولا أراه إلا أنه رأى علو السن مظنة الاتعاظ والبعد من قول الزور، فقضى لها به مع كونه قد كانت يدها منه على ما يعلق داود عليه السلام في الحكومة. فأما ما فهمه سليمان عليه السلام من أن تخويفهما بما ذكره لهما من أنه ولدها؛ فليس بولدها إذا شق، فإن المقصود الذي أملته يفوتها بهلاكه، فرأت أن تبقيته للأخرى من أجل أنه لم يحصل لها في شقه شيء، وهذا فإنما قاله سليمان عليه السلام ليستخرج به الغامض من عقول النسوان، وإلا فلم يكن عليه السلام ليستجز أن يقتل نفسًا زاكية لم يجز منها ما تستحق به القتل من أجل أمر أشكل في دعوى بين امرأتين، قصارى ما فيه أن التي ليس هو ابنها تكفله، ولما خوفهما من ذلك بما ظنتاه مفعولاً فانكشف الأمر، وصار هذا أصلاً في كل حكومة غامضة؛ لتوصل الإمام ومتولي المظالم من جانبه إلى

كشف ملتبس شفافة يفهمه الله تعالى إياها في كل واقعة (76/ ب) تقع في مثل هذا، فيكشف الله به الحق؛ فإن كان قد تقدم حكم حاكم على ظاهر الأمر على غير الحقيقة؛ فإن ذلك لا يمنع من كشف الحق وإماطة أذى الباطل. -2146 - الحديث الثامن بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (قال الله عز وجل: أنفق ينفق عليك) ولم يزد. وفي رواية: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، وقال: (يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يده، وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان يخفض ويرفع). وفي رواية: (يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القبض أو الغيض، يرفع ويخفض). وفي رواية عن أبي هريرة يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (قال الله تعالى: يا ابن آدم أنفق أنفق عليك، وقال يمين الله ملأى، سحاء، لا يغيضها شيء الليل والنهار).

وفي رواية قال: (إن الله قال لي: أنفق أنفق عليك). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يمين الله ملأى لا يغيضهما، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟، فإنه لم يغض ما في يده، قال: وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القبض والغيض يرفع ويخفض)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن يد الله بالخير ملأى، لا يغيضها الإنفاق، فذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا لئلا يتوهم متوهم أن كثرة عطاء الله وإنعامه يؤثر، فيقصر به المنة على مقدار مبلغ سؤاله. * ومعنى سحاء: دائمة الليل والنهار (77/ أ) فلا تعقب عطاياه للفقراء أبدًا، بل عطاء جامع بين التتابع والموالاة الليل والنهار، وجميع هذا مفسر لقوله في أول الحديث: (أنفق أنفق عليك)، فيا أهل الإنفاق، لا تظنوا أن ما أعطيتم كان من شيء يقبل النقص، فيمسك أحدكم عن إنفاقه، فإنه بقدر ما ينفق ينفق عليه لا أن يوكئ، فحينئذ يوكئ عليه؛ لأنه جنس مسيل العطاء من باب خرجه فانحبس من باب دخله، ولو لم يمسكه هاهنا لما أمسك عليه من هناك، وإنما أمسك عنه الفضل من حيث إنه منع الإنفاق، وأن الله سبحانه بحبه للإنفاق،

يبعث الفضل إلى من ينفقه لا إلى من يمسكه. * وقوله: (بيده الميزان)، قد مضى تفسيره في مسند أبي موسى رحمة الله عليه. -2147 - الحديث التاسع بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام). وفي رواية: (من غيره من المساجد إلا المسجد الحرام). وفي رواية عن أبي هريرة؛ يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام). وفي رواية عن أبي هريرة: (صلاة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخر الأنبياء، وإن مسجده آخر المساجد). قال أبو سلمة، وأبو عبد الله الأغر: لم نشك أن أبا هريرة كان يقول عن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)].

* فمعنى ذلك أن تسبيب أبا هريرة عن ذلك الحديث حتى إذا توفي أبو هريرة تذاكرنا ذلك، وتلاومنا ألا نكون كلمنا أبا هريرة في ذلك حتى يسنده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن كان سمعه منه، فبينا نحن (77/ ب) على ذلك جالسنا عبد الله بن إبراهيم أن ذكرنا ذلك الحديث، والذي فرطنا فيه من نص أبي هريرة رضي الله عنه، فقال لنا عبد الله بن إبراهيم: أشهد أني سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فإني آخر الأنبياء، وإن مسجدي آخر المساجد). وفي رواية يحيى بن سعيد؛ سألت أبا صالح: هل سمعت أبا هريرة يذكر فضل الصلاة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا، ولكن أخبرني عبد الله بن إبراهيم بن بارط: أنه سمع أبا هريرة يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة، أو كألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا أن يكون المسجد الحرام). * هذا الحديث قد تقدم في مسند ابن عمر، وتكلمنا عليه هنالك. -2148 - الحديث العاشر بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحببه، فيحبه جبريل عليه السلام، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض).

وفي رواية: (إن الله إذا أحب عبدًا دعى جبريل فقال: إني أحب فلانًا فأحببه، قال: فيحبه جبريل عليه السلام، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا دعى جبريل عليه السلام، فيقول: إني أبغض فلانًا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا، فأبغضوه، ثم يوضع له البغضاء في الأرض). وفي رواية عن سهيل بن أبي صالح، قال: كنا بعرفة، فمر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وهو على الموسم، فقام الناس ينظرون إليه، فقلت لأبي: يا أبي (78/ أ) إني أرى الله يحب عمر بن عبد العزيز. قال: وما ذاك؟ قلت: لما له من الحب في قلوب الناس، قال: بأبيك: إني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكر نحوه)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن الله سبحانه وتعالى إذا أحب عبدًا أعلم كل مرضي عنه عنده سبحانه بحبه إياه؛ لئلا يتعرض واحد منهم ببغض من يحبه الله، فيبدأ جل جلاله بإعلام جبريل ليكون جبريل موافقًا فيه محبة الله عز وجل، وليعلم أهل السماء ليكونوا عابدين لله بمحبة ذلك الإنسان متقربين إليه بحبه.

* وقوله: (ثم يوضع له القبول في الأرض): يعني، أنه يقبله أهل الحق الذين يقبلون أمر الله سبحانه، وإنما يحب أولياء الله من يحب الله. * فأما من يبغض الحق من أهل الأرض ويشنأ الإسلام والدين؛ فإنه يريد لكل ولي لله محبوب عند الله مقتًا وبغضًا، وإذا أبغض عبدًا أعلم جبريل بأنه يبغضه لئلا يختلج في قلب جبريل لذلك حب المبغض، فيكون مخالفًا لله عز وجل. وهكذا الملائكة، وكذلك أهل السماء، ويكونون عابدين لله عز وجل ببغض ذلك الإنسان، متقربين إليه سبحانه وتعالى بشنآنه، ثم يوضع له البغضاء في الأرض من أهل الخير وأهل الصلاح، فلا يحبه منهم من يعلم حاله. * فأما إن كان في حالة التباس وتمويه يخفى على كثير من الناس، فأحبه رجل على ظن منه أنه من أهل الخير، ولم يعلم بخبث باطنه، فذلك مما يشكر الله عليه ذلك المحب، إذ كان قد أنار له حبه؛ حبه لله سبحانه. ولمن ظن أنه من أهل ولاية الله سبحانه، يضاعف الله على ذلك المحبوب النقمة من أجل تغريره المسلمين في تشبهه بمن ليس منه، وإنما يعتبر ذلك بالشرع المشروع، والحق الموضوع؛ فإنه إذا كان عاملاً بالشرع كله في سره وعلنه فأحبه (78/ ب) المؤمنون على ذلك، أثنوا ولو كان في باطنه كافرًا، كما أنه لو خالف الشرع ولم يعمل به، فأبغضه المؤمنون على ذلك، فإنهم يثابون على بغضه، ولا ينجح له هو باطن ولو كان صالحًا.

-2149 - الحديث الحادي عشر بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله، تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم -وهو أعلم بهم -: ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا، والله ما رأوك. قال: فيقول: كيف لو رأوني؟! قال: يقولون: ولو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدًا، وأكثر لك تسبيحًا. قال: فيقول: فما يسألون؟ قال: فيقولون: يسألونك الجنة، قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا، والله يا رب ما رأوها، يقول: فكيف لو رأوها؟! قال: فيقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصًا، وأشد لها طلبًا، وأعظم فيها رغبة. قال: فمم يتعوذون؟ قال: فيقولون: يتعوذون من النار. قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ما رأوها، قال: فيقول: كيف لو رأوها؟ قال: يقولون: والله لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا، وأشد منه مخافة. قال: فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان، ليس منهم، إنما جاء لحاجة. قال: هم الجلساء لا يشقى جليسهم). وفي رواية لمسلم: (إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فضلا يبتغون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضًا بأجنحتهم، حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا

عرجوا وصعدوا إلى السماء. قال: فيسألهم الله عز وجل- وهو أعلم-: من أين جئتم؟ (79/ أ) فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض، يسبحونك، ويكبرونك، ويهللونك، ويحمدونك، ويسألونك. قال: فماذا يسألونني؟ قالوا: يسألونك جنتك. قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا يا رب. قال: وكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك. قال: ومم يستجيروني؟ قالوا: من نارك يا رب. قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا، قال: وكيف لو رأوا ناري؟، قالوا: يستغفرونك. قال: فيقول: قد غفرت لهم، وأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا. قال: فيقولون: ربنا، فيهم فلان، عبد خطاء. إنما مر فجلس معهم، قال: فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)]. * في هذا الحديث من الفقه: أشد الحرص، وأكمل البعث، وأعظم الندب إلى كثرة ذكر الله سبحانه وتعالى، ولاسيما إذا كان ذكرًا يتعلمه الجاهل ويستيقظ به الغافل، ويزداد به العالم. ألا تراه - صلى الله عليه وسلم - كيف قال: (يطوفون يلتمسون حلق الذكر)، فإن الذكر بالاجتماع له معنى بليغ في إصابة رضي الله عز وجل، فإن موسى عليه السلام قال: {واجعل لي وزيرًا من أهلي} .. إلى أن قال: {كي نسبحك كثيرًا (33) ونذكرك كثيرًا} أي: إني أسبحك وأذكرك

في الاجتماع معه أكثر من ذكري من الانفراد عنه. * وقوله: (يطوفون يلتمسون أهل الذكر) أي: يطوفون لذلك لا لغيره، وأنهم خلقوا لهذا التطواف؛ فلذلك قال فيهم: (فضل عن كتاب الناس) أي لا يشغلهم عن هذا التطواف غيره. * وقوله: (فضلاً عن كتاب الناس) أي: أنهم غير الذين يكتبون الذكر وغيره، ويرفعونه. وهؤلاء إنما هم حملة الذكر وسامعوه فقط؛ فكأنهم لا يكتبون إلا الذكر ولا يسمعون إلا إياه، ولا يحملون غيره، فهم على معنى المبشرين (79/ ب) وإذا وجدوا قوة ليذكروا الله بها ثم وأسلموا أي نادى بعضهم بعضًا، فقد يجتمع على الحلقة التي تكون فيها الذكر الجم الغفير من الملائكة. * و (هلم) كلمة تستعمل للواحد والجميع. قال عز وجل: {والقائلين لإخوانهم هلم إلينا}، وفيها لغة أخرى: إلحاق ضمير التثنية والجمع بها. * وقوله: (هلموا إلى حاجتكم) أي: هذا الذي كنتم تطلبونه، فإن ظفرتم به؛ لأنه كان حاجة الملائكة أن يتقربوا بحمل الأذكار. * وقوله: (فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا) يعني - صلى الله عليه وسلم -: أنهم يجعلون أجنحتهم وقاية ما بين رءوس الذاكرين وبين السماء؛ حتى لا يتطلع عليهم من ذكرهم ذلك شيطان يكدر من نياتهم ما صفا ذلك الذكر.

* وقوله: (فيسألهم ربهم) هذه الفاء للتعقيب، بلا مهملة، أي: يسألهم سبحانه عقيب استماعهم ذلك الذكر، وحملة؛ ليشعروا منه أن ذلك احتفال من الله عز وجل بما تنقله الملائكة إليه منه فلا يؤخر السؤال عنه. * وقوله: (وهو أعلم) يعني: أنه يكيف الله سبحانه بعلمه من ذلك لما هو فوق علم الملائكة نطقًا كما سمعه سبحانه وتعالى من الذاكرين إذ قالوه، فقالوا: (يسبحونك، ويكبرونك). وهذا الكلام نطق يشتمل على معان جمة، وكل كلمة من هذه الكلمات تدل على معنى له أسلوب، فيقول: (هل رأوني؟) هذا سؤال تقرير؛ لأنه جل جلاله يقول للملائكة مع علمه سبحانه أنهم يقولون: (لا يا ربنا ما رأوك). فدليل الحال: أنهم سبحوا وكبروا وحمدوا ومجدوا قبل أن يروا، فكيف لو رأوا. * وفي هذا الحديث دليل على جواز رؤية الله عز وجل لقوله: (لو رأوني)، وقول الملائكة: (كانوا يكونون لك أشد عبادة)، فإنهم استدلوا بهذا الثناء (80/ أ) الطويل العريض قبل الرؤية على زيادة ومضاعفة بعدها. * قوله: (ثم يقول: فما يسألونني؟) فيقولون: يسألونك الجنة، فإنه نظر في بغيتهم، فقالت الملائكة: يسألونك الجنة، يعنون: أنها منتهى رغبة كل مؤمن. فيقول الله: وهل رأوها؟ وهذا سؤال تقرير أيضًا. فيقول: فكيف لو رأوها) على معنى ما شرحنا في الكلام الأول. فيقول: (ومم يتعوذون) فذكر التعوذ هاهنا أبلغ من أن يقال: مم يهربون، أو مم يفزعون، أو يخافون، أو غير ذلك؛ لأن لفظ التعوذ مشتق من العوذ وهو العظم، فهو إشارة إلى أن تعوذ المؤمن بالله سبحانه من النار على معنى عوذ

العظم بالمخ الذي في باطنه، فلا يكاد تصل إليه آفة؛ فالله عز وجل يعيذ المؤمن بأن يكفيه من جميع نواحيه من كل آفة ومكروه، فإذا قالت الملائكة: (من النار)، قال سبحانه: (وهل رأوها؟) سؤال تقرير أيضًا. وقوله سبحانه: (أشهدكم أني قد غفرت لهم) يستدل منه على أنه جل جلاله إذا غفر لهم أدخلهم الجنة. والغفر: الستر؛ والعرب تزيد فيه تاء فتقول: اغتفرت لك، أي سحبت ذيل إحساني على إساءتك. * وقوله: (فيقول ملك: فيهم فلان، يقول: هم القوم لا يشقى جليسهم)، يعني: أن هذا الجليس الذي جاء لحاجة لما رآهم جلس معهم فلم يكن عزمته الأولى لذلك، ولكنه وافقهم في الجلوس، فبورك له في الجلوس حين لم يعرض عنهم، فكان له من مجالستهم أنه لحقته بركتهم، فأخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يشقي جليسهم)؛ ليرغب كل مؤمن في مجالسة أهل الذكر، فإن لم يكن من الذاكرين، ولا يعجز أحد في أن يجالس أهل ذكر الله، وإن بلغ به الأمر إلى أن لا يفهم ما يقولونه، ويؤمل أن يقول الله تعالى فيه: هم (80/ ب) الجلساء لا يشقى بهم جليسهم. ثم إن فاته الفهم في أول شيء فسيناله فيما بعد إن شاء الله تعالى. * قوله: (الملك فيهم فلان جاء لحاجة): فإنه يدل على أن الملائكة لا تكتم الله حديثًا، وأنه مما يدل على أمانة الملائكة فيما يخبرون به ربهم سبحانه، فكيف لا يؤدي الأمانة من يعلم أن السائل له يعلم الأمر المسئول عنه قبل وقوعه، وإنما أثار سؤال ذلك منه؛ ليكون مما يجيبه الله به عنه مبشرًا كل من أوى إلى

أهل الذكر، أو مر بهم؛ أو جاء لحاجة فجلس إليهم، فإن عرض جاه الذاكرين يشمله، وكفتهم تظله. * فأما قوله عز وجل: (هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم)، فإن معناه؛ أن ينعم بهم من جالسهم؛ لأنه لو قد قام ذلك الذي جلس إليهم لحاجة، ولم يغفر له معهم حتى رآهم في القيامة وقد فازوا، انقطع به هو لكان يرى أن مجالستهم لم تفده، فغار الله سبحانه لأهل ذكره من ألا تشمل بركتهم من جالسهم لحظة واحدة في عمره غير مباين لهم في عقائدهم فيه، فكان ذلك معتقًا رقبته، فكيف بمن تطول مجالسته إياهم! -2150 - الحديث الثاني عشر بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر). وفي رواية: (الولد لصاحب الفراش)]. * قوله: (للفراش): معناه لصاحب الفراش. وهذا لأن الزاني لا فراش له، والعاهر (الزاني). * قوله: (وللعاهر الحجر) أي لا حظ له في نسب الولد؛ كما يقال: لفلان

التراب، أي: لا شيء له. -2151 - الحديث الثالث عشر (81/ أ) بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة قال: (قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تشاجروا في الطريق بسبعة أذرع). وفي رواية: (إذا اختلفت الطريق جعل عرضه سبع أذرع). وفي رواية للبرقاني: (إذا اختلف الناس في الطريق فاجعلوه على سبع أذرع)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن القدر إذا تشاجروا في الطريق براحلته، والناس من جانبي الطريق، فقدرت الطريق بسبع؛ لأنها غاية ما يحتاج إليه المارون في الأكثر والأغلب، فإن كانت الطريق أوسع من ذلك، فلا يضيق على الناس أحد ببناء ظانًا أن وضعها على سبع أذرع أمر مقدر لا يزاد، وإنما ذلك الطريق يستحدث فيتشاح الجيران في مقدارها فيرجعون إلى ما قدره الشرع فيها. فأما الطريق الأعظم التي قد يلتقي فيها البعيران بحملهما، والثلاث والأكثر، فإنها لا تجوز أن تضيق عن ذلك الحال.

-2152 - الحديث الرابع عشر بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل، فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان). وفي رواية عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يعقد الشيطان على قافية أحدكم ثلاث عقد إذا نام، لكل عقدة يضرب: عليك ليل طويل، فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة قافية الرأس ومؤخره)]. * قال أبو عبيد: فكأن معنى الحديث، أن على قفا أحدكم ثلاث عقد للشيطان أن ثلاث أعداده بتسليطه (81/ ب) من الآدمي على ما لا يختص بنوم دون يقظة، ولا يقظة دون نوم، ولا صباح دون مساء، ولا مساء دون صباح، ولا إقامة دون سفر، ولا سفر دون إقامة؛ بل في سائر أحوال الآدمي له مكائد، وحال الآدمي معه على حال معترك القتال.

وأن الله سبحانه وتعالى أرسل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هاديًا لخلق لمصالحهم، ومنبهًا على مكائد شيطانهم، وكان من ذلك أن الإنسان عند نومه إذا أوى إلى مضجعه، وعقد الشيطان على رقبته ثلاث عقد، ثم فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - وبينها، وأنه يأتي بها الآدمي على جهة التنصح، وأنه يوهمه بطول الليل عليه ليسرق منه الزمان الذي يهب فيه لتهجده؛ فإنه لو جاء مجاهرًا بالمكر وآمرًا بترك التهجد لم يكن يقبل منه؛ لأنه كان يبدو له في صورة لا تخفى عليه أنه شيطان لدفعه عن الخير بالكلية، ولكنه لما جاءه يذكر يذكر بطول الليل عليه ونصحه من جهة الرفق ببدنه بقوله: (عليك ليل طويل) ليحظى منه إما بتفويته الأصل التهجد، أو قريبًا من الفجر؛ ليدخله فيه في وقت ضيق فيفوته التدبير بقراءته وأذكار صلواته الذي يتمكن منه في سعة الوقت عليه، فكان عقده على القافية، وهي ما فسره أبو عبيد أن قافية الرأس مؤخره، أي: فيأتيه من ورائه. وإذا استيقظ وذكر الله انحلت عقدة، وذلك أن ذكر الله عز وجل يبعده، فتنحل عقدة من عقده، وهي قربه منه، ثم إذا توضأ وتمضمض ويستنشر فغسل لموضع حبو منه على خياشيمه، ثم أزال الحدث عنه انحلت العقدة الثانية، فتوجه بعضده إلى العبادة، فإذا صلى انحلت العقد كلها. * وهذا فإنما يفعله -قاتله الله -مع أهل قيام الليل وذوي التهجد، فكيف بالغافلين! * فأما قوله: (فأصبح نشيطًا طيب النفس)، فإن المتهجد إذا قام من جوف الليل فيما بعد (82/ أ) نصف الليل إلى الصلاة، وكان وضوؤه وتكبيره

وركوعه وسجوده وجلوسه مدنيا طعامه عن معدته، وحاطبًا غداءه إلى قعر معدته التي بها هضمه، ثم يتبعها بعد ذلك نومة خفيفة يتمم هضمه، فيصبح نشيطًا طيب النفس، كما قال - صلى الله عليه وسلم -، وإن لم يفعل ذلك كان طعامه يقف بحاله في رأس معدته حيث الهضم أسوأ ما كان قبيح خبيث النفس كسلان. -2153 - الحديث الخامس عشر بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفله). وفي رواية: (انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم). وفي رواية: (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر هذا مداويًا به القلوب، فعلمها كيف تصنع، ووصف لها الدواء، فقال: (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق)، يعني: فثار له، أو خاف على نفسه نوع اعتراض أو تسخط، فليتدارك ذلك بأن ينظر إلى من دونه ممن قد فضله الله

عليه؛ فإنه إذا قال لنفسه: إن هذا الذي كنت قد رأيت له عليك فضلاً حتى أثر فيك، فإن ما فضلت به على غيرك مما إن قيس كان الذي فيك هو الذي نعمته من غيرك، فتطمئن نفسه، ويزول عنه العارض الخبيث، ويدل عليه قوله: (فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم). -2154 - الحديث السادس عشر بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو كان عندي (82/ ب) مثل أحد ذهبًا لسرني ألا يمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء، إلا شيء أرصده لدين). وفي رواية: (لو كان عندي أحد ذهبًا، لأحببت ألا يأتي ثلاث وعندي منه دينار، ليس شيئًا أرصده على دين علي، أجد من يقبله). وفي رواية: (ما يسرني أن لي أحدًا ذهبًا تأتي علي ثالثة، وعندي منه دينار إلا دينار أرصده لدين علي)]. * قد سبق الكلام في تعظيم أمر الدين، في مسند أبي قتادة، وهذا الحديث

يدل على تفخيم أمر الدين، وهذا لأنه يشغل الذمة ويرتبها، وحقوق المخلوقين مبنية على التضييق؛ فينبغي للإنسان أن يحذر من الدين مهما استطاع. -2155 - الحديث السابع عشر بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة يأثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تباغضوا، وكونوا إخوانًا، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك). وفي رواية: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا). وفي رواية: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا). وفي رواية: (ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا). وفي رواية: (ولا تناجشوا، وكونوا عباد الله إخوانًا).

وفي رواية: (لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا إخوانًا كما أمركم الله عز وجل). وفي رواية: (لا تهاجروا، ولا تدابروا، ولا تحسسوا، ولا يبيع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا). وفي رواية: (ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تنافسوا، وكونوا عباد الله إخوانًا). وفي رواية: (ولا تحاسدوا، ولا تناجشوا، (83/ أ)، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبيع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا- ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعرضه). وفي رواية: (إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم)، وأشار بأصابعه إلى صدره. وفي رواية لمسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)].

* قد سبق شرح هذا الحديث في مسند أنس بن مالك، وذكرنا هنالك التجسس والظن. وسبق بيان المنع من خطبة الرجل على خطبة أخيه، وبينا أن ذلك فيما قد تم وسكن كل منهما إلى صاحبه، فأما إذا كانت المرأة تعرض أن تخطب، ولم يسكن وليها إلى شخص جاز لآخر خطبتها، ونحو هذا بقوله: (ولا يبع أحدكم على بيع أخيه)، وقد تقدم شرحه، وسبق تفسير النجش وهو: أن يزيد في السلعة، وليس براغب فيها. * وقوله: (المسلم أخو المسلم)، قد فسرناه في مسند ابن عمر رضي الله عنه. * وقوله: (التقوى هاهنا)، أي المتقي هو المخلص في فعل التقوى، وليس بالذي يترك لأجل الناس، أو يفعل لأجل الناس. * وقوله: (كل المسلم على المسلم حرام)، قد فسرناه في مسند ابن عباس وغيره. * وقوله: (لا ينظر إلى صوركم)، حث على الاعتماد على النية وحسن القصد، وتحذير من الركون إلى صورة العمل. * فأما قوله: (بحسب المؤمن من الشر أن يحقر أخاه المسلم)، ففيه تحذير، وأي تحذير من ذلك؛ لأن الله تعالى لم يحقره إذ خلقه ورزقه، ثم أحسن تقويم

خلقه، وسخر ما في الأرض جميعًا (83/ ب) كله لأجله وأسجد له الملائكة جميعهم، ثم إنه سبحانه سماه مسلمًا، ومؤمنًا، وعبدًا، أو هو يرضه بأن يكون بالأمة من الأمم، وأن يعلم أنه بلغ من قدره إلى أن الله عز وجل جعل الرسول إليه منه، محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمن حقر مسلمًا من المسلمين فقد حقر ما عظمه الله، وكافيه ذلك حزنًا، وإن من احتقار المسلم المسلم ألا يسلم عليه إذا مر به، ولا يرد السلام عليه إذا بدأه هو به، وأن يراه دون أن يدخله الله الجنة أو يبعده من النار. * فأما ما ينقمه العالم على الجاهل، والعدل على الفاسق فليس ذلك احتقارًا لعين المسلم، ولا لذاته، وإنما كراهية للجهل والفسق اللذين اتصف بهما، فمتى فارق الجاهل جهله، وباين الفاسق فسقه، كان ذلك معيار صدق الذي أبدى الشنان لأجل الله تعالى، بعوده ومراجعته إلى الاحتفال به والرفع لقدره. -2156 - الحديث الثامن عشر بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: ومن يا رسول الله، قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه). وفي رواية: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)].

* في هذا الحديث: تشديد الحفظ للجار، والمصافي أصل وضع اسم الجار في لغة العرب هو الملتجئ والمستجير، وقد يكون المصافى والقريب المنزل، فإذا كان المستجير إنما قصد ولجأ إلى مسلم، ليكون دافعًا عنه البوائق عن غيره، فأي شيء أقبح من أن تأتيه البوائق من الشخص الذي استجار به لدفع البوائق؛ فلهذا كرر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النهي ثلاثا إنه: لا يؤمن. قال أبو عبيد: وبوائقه: غوائله وشره. -2157 - (84/ أ) الحديث التاسع عشر بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله عز وجل: (إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه، وإذا كره عبدي لقائي كرهت لقاءه). وفي رواية: (من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله؛ كره الله لقاءه)]. * هذا الحديث تقدم في مسند أبي موسى، وفي مسند عبادة بن الصامت،

وفي مسند أنس بن مالك، وقد شرحناه وأوسعنا الكلام في شرحه، وسيأتي مشروحًا في مسند عائشة، وشرحه هنالك. -2158 - الحديث العشرون بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (نعم المنيحة للقحة منحة، الشاة الصفي تغدو بإناء، وتروح بإناء). وفي رواية عن أبي هريرة يبلغ به، قال: (ألا رجل يمنح، أهل بيت ناقة تغدو بعشاء وتروح بعشاء، إن أجرها لعظيم). وفي رواية: (من منح منحة غدت بصدقة وراحت بصدقة؛ صبوحها وغبوقها). وفي رواية للبرقاني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يساوم الرجل على سوم أخيه، ونهى أن يتلقى الجلب، ونهى أن تسأل المرأة طلاق أختها، ونهى أن يمنع الماء مخافة أن يرعى الكلأ، ونهى أن يبيع حاضر لباد، ومن منح منيحة غدت بصدقة، وراحت بصدقة؛ صبوحها أو غبوقها -زاد بعض رواته فيه -ونهى عن التصرية والنجش)].

* في هذا الحديث من الفقه: أن المنيحة، وهي: الناقة أو البقرة أو الشاة منحها الرجل أخاه لينتفع بلبنها خاصة. * وقوله: (تغدو بإناء) أي تأتي بالرزق صباحًا وعشيًا، وإنما ذكر هذا؛ لئلا يحقر الإنسان المنيحة. * والشاة الصفي: الكثيرة اللبن، والصبوح: الشرب وقت الغداة من اللبن (84/ ب) والغبوق: شرب العشي وقد سبق تفسير باقي الحديث في مواضع. -2159 - الحديث الحادي والعشرون بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة قال: (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة، فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد؛ وعباس بن عبد المطلب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله ورسوله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا وقد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، والعباس بن عبد المطلب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي عليه صدقة ومثلها معها). قال البخاري، وقال ابن إسحاق: (هي علي ومثلها معها). وفي رواية لمسلم: (بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر رضي الله عنه على الصدقة،

فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما ينتقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا قد حبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي علي ومثلها معها، ثم قال: يا عم، أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه)]. * الصدقة المذكورة في هذا الحديث تنصرف إلى التطوع؛ لأنه قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة ولم يعرفها بالألف واللام، وكانت تنصرف إلى المفروض. * وفيه أيضًا: أنه إذا جرت صورة فعل بين جماعة اتفقوا في تلك الصورة، فإنه لا ينبغي أن يحمل الأمر منهم كلهم على محمل واحد، فإن هذا الحديث يدل على أن منع ابن جميل وخالد والعباس رضي الله عنهم كانت صورة امتناعهم صورة واحدة، فلم يحمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك منهم محمل واحد؛ بل فصل فقال: (ما ينتقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه (85/ أ) الله ورسوله من فضله عليه، ثم اعتذر لخالد: أنكم تظلمون يعني أنكم لصقتم صورة حاله لصورة حال ابن جميل، وأنتم تعرفون أنه قد وقف في سبيل الله درعه وأعتده، فكيف يظن أنه يمنع، وهو واجد في شيء يديه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وقوله في العباس: (فهي علي ومثلها معها) المراد من ذلك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

حكم في مال عمه. ومن روى: (فهي علي ومثلها معها) أي: إنما أؤدي ما التمس من العباس مضعفًا. * وفائدة هذا الحديث: أن الصورة إذا تشابهت تعين أن نفرق معانيها، ويحمل كل منها ما يليق بحال صاحب الصورة؛ لأن الله تعالى قال: {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين}. * وقوله: (عم الرجل صنو أبيه)، الصنو: المثل. -2160 - الحديث الثاني والعشرون بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (نحن الآخرون السابقون)، وقال: (لا يبول أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه). وفي رواية: (لا تبل في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه)]. * الماء الدائم: هو الذي لا يجري، وقد ذهب الشافعي وأحمد إلى أنه إذا كان الماء قلتين فصاعدًا ولم يتغير بوقوع النجاسة فيه فإنه لا ينجس، وقال أبو حنيفة بنجاسته.

وأما إذا كان دون القلتين، فقد ذهب مالك وأحمد في رواية أنه لا ينجس إلا بالتغيير. فأما الذي أراه أنا في هذا الحديث: فإن الرجل إذا ورد على ماء قليل واقف، فبال فيه، ثم اغتسل منه فإنه بغير شك قد خالط الماء الذي اغتسل به أجزاء من بوله، فلو قد كان جاريًا لكانت الجرية قد ذهبت (85/ ب) بالنجاسة. وعقب .... فأما إذا كان واقفًا، فإن النجاسة لم تندفع، وهو الذي يدل عليه نطق هذا الحديث، وحديث القلتين لم يخرجاه في صحيحيهما. -2161 - الحديث الثالث والعشرون بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه يهودي: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله). وفي رواية: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا عبد الله؛ هذا يهودي خلفي فاقتله إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود)].

* الغرقد: شجر له شوك، وقد ذكرناه في مسند علي عليه السلام. وقد تقدم شرح هذا الحديث في هذا المسند وغيره. -2162 - الحديث الرابع والعشرون بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد؟ قال: لا أجده، قال: (هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر!، قال: ومن يستطيع ذلك؟ قال أبو هريرة: إن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات. وفي رواية: (قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما يعدل الجهاد في سبيل الله، قال: (لا تستطيعونه) قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثًا، كل ذلك يقول: لا تستطيعونه)، قال في الثالثة: (مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل الجهاد في

سبيله (86/ أ) عملاً يعدله؛ لأنه لو كانت الأعمال التي تسن في مواقيت لا يقوم غيرها فيها مقامها لكان ذلك يحل بأرض كثير. مثاله: أنه لو دعي الناس إلى النفير، وخيف على بيضة الإسلام، وتعين الجهاد في كل مطيق له، فذهب بعض المطيقين له إلى بعض المساجد، فصام تطوعًا، وصلى وسرد الصيام، وجد في التعبد، فهل يخفى على من له أدنى عقل وأبرز حس أن تلك الصلاة في ذلك الوقت ليست مع ترك الجهاد في وقت إقبال العدو وهجومه على ديار المسلمين واقعة موقعها؛ بل ربما خرجت حينئذ مخرج المعاصي. فعلى هذا نقول: الجهاد إذا تعين لا يعدله غيره؛ كالحج إذا وجب، وصوم رمضان لمن حضر، والصلاة إذا دخل وقتها. * فأما التفاضل بين العبادات فإنما يتوجه فيها إذا حصل المقصود من قيام فروضها، وعاد فعلها تطوعًا ونفلاً، فحينئذ يقال: إيما أفضل نفل كذا، وفعل كذا، أو نفل كذا ولم يسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نافلة الجهاد، وهل يعدلها غيرها أو لا؟ وإنما سألوه عن الجهاد بالألف واللام الذي لا ينصرف إلا إلى المأمور به. * وأما الذي يعدله فقال: لا أجده، وكان من الحكمة في أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبين لهم كيفية سؤالهم في ذلك الوقت؛ لأنه كان وقتًا كل الجهاد فيه فرض متعين له، لم يقم فيه للمسلمين ديوان أجناد يقومون بفرض الكفاية فيه عن جمهورهم، وإنما كان شاملا للكل، فلم يكن حينئذ يعدله شيء، فلم يزد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قوله: (لا أجد)، يعني - صلى الله عليه وسلم -: لا أجد شيئًا من الأعمال يعدله.

* وقوله للرجل: (هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك، فتقوم ولا (86/ ب) تفتر)، فيه إشارة إلى فضل المجاهدين عن المصلين ما قدر المصلي على صلاته، ولا المتعبد على عبادته، ولأنهم بجهادهم يدفعون عن دار الإسلام. * وقول أبي هريرة: (إن فرس المجاهد ليستن في طوله)، المعنى: إذا كانت فرسه تتحرك لنفسها في طولها من غير تحريك المجاهد لها، فتكتب له بذلك حسنات، وما له في ذلك فعل، فكيف بما له فيه فعل من تحريكها والإسراع بها، والجهاد عليها؟ والمراد: أن هذا العمل يحتسب فيه بما ليس من فعل العامل، وليس غيره من الأعمال كذلك، فلذلك فضل. -2163 - الحديث الخامس والعشرون بعد الثلثمائة: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (وليأتين على أحدكم زمان لأن يراني أحب إليه من أن يكون له مثل أهله وماله). وفي رواية: (والذي نفسي بيده، ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني، ثم لأن يراني أحب إليه من أهله وماله معهم)].

* هذا الحديث يتضمن فضيلة المتأخرين من أمته. وقد سبق شرح هذا ومعناه، وبينا أنه إنما يؤثر أن يراه ليسأله عن مشكلات تعرض. * وأرى في هذا: أنه من تمنى رؤيته - صلى الله عليه وسلم - بعد موته - صلى الله عليه وسلم - في المنام، وكان متعرضًا لذلك، فإنه يتناوله هذا النطق إن شاء الله. إلا أني أري التعرض لرؤيته - صلى الله عليه وسلم - ولقائه له في المنام أن يحرص على ألا ينام إلا طاهرًا، ذاكرًا لله سبحانه وتعالى، فإنه قمين أن يراه. ومن أكبر ما يستعين به المؤمن على النوم ظاهرًا ألا يكون أكله فوق الحاجة. وقال الحميدي (87/ أ): تأولوا هذا الحديث على أنه نعي يهديه إليهم، وعرفهم ما يحدث لهم بعده من تمني لقائه عند فقدهم ما كانوا يشاهدون من بركاته - صلى الله عليه وسلم -. أفراد البخاري -2164 - الحديث الأول: [عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات) قالوا: وما المبشرات؟ قال: (الرؤيا الصالحة)].

* قد سبق الكلام في الرؤيا في مسند عبادة بن الصامت، وفي مسند ابن عمر، وفي مسند أنس بن مالك. -2165 - الحديث الثاني: [عن أبي هريرة: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيمن زنا لم يحصن بنفي عام، وإقامة الحد عليه)]. * قد سبق هذا في مسند عبادة. -2166 - الحديث الثالث: [عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا).

وفي رواية: (والذي نفسي بيده)]. * قد سبق الكلام على هذا في مسند أنس بن مالك. -2167 - الحديث الرابع: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول). وفي رواية: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله). وفي رواية: (أفضل الصدقة ما ترك غني، واليد العليا خير من اليد السفلى (87/ ب) وابدأ بمن تعول، تقول المرأة: إما أن تطعمني، وأما أن تطلقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني، ويقول الابن: أطعمني، إلى من تدعني؟ فقالوا: يا أبا هريرة: سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا، هذا من كيس أبي هريرة)].

* قد سبق تفسير هذا الحديث في مسند ابن عمر، وقد ذكرنا هنالك المراد باليد العليا. -2168 - الحديث الخامس: [عن أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إني رجل شاب، وأخاف على نفسي العنت، ولا أجد ما أتزوج به النساء؟ كأنه يستأذنه في الاختصاء. قال: فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا أبا هريرة، جف القلم بما أنت لاق، فاختص على ذلك أو ذر)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سأله أبو هريرة عن عجزه عن النكاح لعدم الطول، أمسك عنه - صلى الله عليه وسلم - مرة، ثم مرة، ثم مرة، كل واحدة منهن كافية في الانزجار عن أن يراجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك بالإشارة إلى الاختصاء؛ إذ ليس الفقر مما يمنع النكاح، فإن الله تعالى يقول: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله). * ولا يحل لفقير يجد في نفسه شهوة النكاح أن يفزع من ذلك إلى الاختصاء، ولا أن يردد ذكر ذلك على قلبه، فلما كرر أبو هريرة ذلك قال

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الثالثة ما لا أراه إلا مجرد إنكار في توعد، وهو قوله: جف القلم بما هو كائن، من أنه من كتب شقيًا فقد كتب، ومن كتب سعيدًا فقد كتب، فاختص على ذلك أو ذر. (88/ أ) وهذا نطق يفصح بالوعيد والتهديد؛ ليكون ذلك زجرًا له ولغيره من بعده، وليس إذنًا في الاختصاء. -2169 - الحديث السادس: [عن أبي هريرة، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (والله، إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)].

* في هذا الحديث من الفقه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقضي نهمته من استغفار ربه، والتوبة إليه. * وأما ذكر السبعين فلأنه أكثر ما ينتهي إليه العدد في عرف العرب، وكان هذا منه - صلى الله عليه وسلم - مع أنه قد باعده الله من الذنوب، وحفظه في سره وجهره، وقوله وفعله، إنما كان يفعله شارعًا ومعلمًا؛ لئلا يرى أحد بعده - صلى الله عليه وسلم - أنه مستغن عن الاستغفار وموالاته. * وقد مضى هذا في غير موضع من الكتاب مع ما قد مضى. -2170 - الحديث السابع: [عن أبي هريرة، قال: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، وقمنا معه، فقال أعرابي: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فلما سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: (لقد تحجرت واسعًا) يريد رحمة الله]. * في هذا الحديث ما يدل على قلة فقه الأعرابي، وأنه لم يكن من أهل المعرفة بالله سبحانه؛ فإن الله سبحانه يقول: (ورحمتي وسعت كل شيء) وإنما

قال الأعرابي ذلك، أو يقول مثله من يرى أن معاصي الخلق وإن كثرت تبلغ إلى أن تعالت حكم الله وكريم صفحه وعفوه. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لقد تحجرت واسعًا)، (88/ ب) أي: تحجرت تحجرًا واسعًا على فضل الله سبحانه وجوده، وقلت ما ليس لك قوله، وسألت ما لا يحسن سؤاله، فإن السيول الدوافع قد تكف، والبحور الزواخر قد تغيض، والغيوث الهوامع قد تقلع، وفضل الله عز وجل وجوده على خلقه لا يكف، ولا يغيض، ولا يقلع أبدًا. -2171 - الحديث الثامن: [عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله)]. .....

-2172 - الحديث التاسع: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟)]. * سبق هذا الحديث في مواضع، وشرحنا مذهبنا في الصفات وإمرارها على ما جاءت. * وهذا الحديث دال على عظمة الله تعالى وجلاله، وأن الأرض ومن عليها من ملوك الدنيا وغيرهم، والسموات ومن فيها في قبضة الله تعالى.

* وقوله: أين ملوك الأرض؟ فإن فيه تنبيهًا لمن اغتر من ملوك الدنيا بملكه الذي كان فيه صورة، إذا نظر في معناها يستوقف؛ لأن الملك من ملوك الدنيا في نفسه فقير إلى بنيانه، فقير إلى أعوانه، فقير إلى أرض تقله، فقير إلى سماء تظله، فقير إلى دوام صحته، فقير إلى أعضائه، فقير إلى مادة تدوم معها حياته، فقير إلى تناول مطعمه ومشربه، فقير إلى خروج أثقال غذاء يعييه، فقير إلى صاحبة ليسكن إليها، فقير إلى ولد يكون خلفًا منه بعد موته، حتى إنه ذو شعب في الفقر واسعة، وأصول له فيه معرفة، فهو بأن يسمى الفقير حقًا أولى من أن يسمى ملكًا، فكانت تسميته المجازية بذلك في مدة غرور الدنيا بين (89/ أ) أهلها، حتى إذا ظهر الحق وبطل الغرور، وذهبت مدة استيلاء الحسنى في دار الدنيا بأن حشد عورات الدنيا، وإن ما كان تسمى به من يتسمى من ملوكها مجازًا كان كشفية الحقيقة. * وذكر الله سبحانه لملوك الدنيا، فيه تنبيه على من دونهم في المنزلة فكان ذلك بالغًا في الموعظة والذكرى. -2173 - الحديث العاشر: [عن أبي هريرة، قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قد شرب الخمر، قال: (اضربوه) قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف، قال بعض القوم: أخزاك الله قال: (لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان)].

* في هذا الحديث: أن أصل الحد؛ كان على هذا الوصف حيث كان الناس غير متتابعين في الخمر؛ فلما تهافتوا عليها، انتقل الحد إلى السياط، وقد مضى شرح ذلك. * وأما قولهم للشارب: أخزاه الله، فإنه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إعانة للشيطان عليه، وقد كان حقيقًا أن يدعوا له بالتوبة، وأن يعينه الله على شيطانه، وأن يخزي شيطانه عن أعوانه. -2174 - الحديث الحادي عشر: [عن أبي هريرة، قال: (كانوا -أهل الكتاب -يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا ...) الآية]. * في هذا الحديث من الفقه (89/ ب): أن ما كان يقوله أهل الكتاب حينئذ،

كانوا مسندين ما يرونه منه إلى التوراة، فلا يصدقون في أخبارهم؛ غير أنهم لأجل كونهم كانوا يسندونه إلى التوراة لا يكذبون كذبًا مطلقًا؛ من أجل أن الإطلاق يشمل قولهم، ويتناول ما يسندون إليه من التوراة، فلذلك نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إطلاق تكذيبهم أيضًا، بل يقال لهم كما قال الله: {آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم}) وهذا لأنا نؤمن بأنه أنزل إليكم كتاب، لكنهم بدلوا، فنحن نؤمن بما أنزل على موسى. -2175 - الحديث الثاني عشر: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء به أحدهما)]. * هذا الحديث قد سبق في مسند ابن عمر. -2176 - الحديث الثالث عشر: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الشمس والقمر يكوران يوم

القيامة]. * يكوران: يلقيان؛ وذلك لأنه ذهب الدار التي كانا خلقا لأجلها، فإنه لم يبق لأهل الأرض إليهما حاجة، وليعلم من أهل الجمع كل من كان عبدهما أو واحدًا منهما، فأكورا بمرأى منه أنه كان من الكافرين. -2177 - الحديث الرابع عشر: [أخرجه البخاري تعليقًا عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن (90/ أ) يسلفه ألف دينار فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدًا، فقال: فائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر، فقضى حاجته، ثم التمس مركبًا يركبه يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركبًا، فأخذ خشبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني تسلفت فلانًا ألف دينار، فسألني كفيلاً، فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك، وسألني شهيدًا، فقلت: كفى بالله شهيدًا، فرضي بك، وإني جهدت أن أجد مركبًا أبعث إليه الذي له، فلم أقدر، وإني استودعتكها، فرمى بها في البحر، ولجت فيه، ثم انصرف، وهو في ذلك يلتمس مركبًا يخرج إلى بلده،

فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبًا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبًا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه، وأتى بألف دينار، فقال: والله ما زلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك؛ فما وجدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه، فقال: كنت بعثت إلي بشيء، قال: إني أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل الذي جئت فيه، قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثته في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشدًا)]. * في هذا الحديث: جواز الاستسلاف، وشغل الذمة بما يتخذه الرجل بضاعة يسعى فيها. * وفيه أيضًا: جواز أن يقترض الفقير المال الكثير توكلاً على أن الله سبحانه وتعالى يثمره (90/ ب) في يده، ويسهل له سداد دينه من ربحه. * وفيه أيضًا: جواز أن يقرض الرجل الرجل الفقير بغير كفيل ولا شاهد؛ اكتفاًء بشهادة الله عز وجل، واتكالاً عليه، ولا يكون ذلك مفرطًا ولا مضيعًا.

* وفيه أيضًا: جواز أن يقرض الرجل المال ثم يتجر فيه راكبًا البحر. * وفيه أيضًا: جواز أن يلقي الرجل مالاً في الملتفة اتكالاً على الله سبحانه بعد أن يحسن تدبير إلقائه على نحو ما فعله هذا الرجل، من جعل المال في الخشبة مع سطر صحيفة معه. * إلا أني أرى أن هذا الرجل لم يفعل ذلك إلا بعد أن اجتهد في أن يجد صحبة يبعث فيها المال على الأمر المعهود في مثله، فلم يجد، ورأى المال الذي سلفه إنما توكل على الله في إسلافه، ورضي بالله شاهدًا وكفيلاً، فلمح من الحال أن يقابل فعل صاحبه بمثله من أنه يرضى بالله حافظًا لهذا المال، ومؤديًا له إلى مستحقه، ومؤمنًا بأنه سبحانه وتعالى الحافظ في لجة البحر، كما هو الحافظ في ظهر البر، ففعل ذلك قوي الرجاء، شديد الطمع في أن الله سبحانه وتعالى يؤدي عنه إلى صاحبه إلا أنه مع ذلك استعمل الأحوط في إتيانه في الوقت الآخر بالألف الآخر، ولم يفعل ذلك شكًا في ربه سبحانه أنه يحفظ الودائع، وإنما خاف ألا يكون ما فعله من طرح المال في البحر من جنس ما فعل الآخر؛ لأن ذلك إنما أودع ذمة قابلة، فهذا فإنما وضع المال في مقام لا يوضع مثله فيه، وحمله على ذلك حرصه على أن يفي لصاحبه بما كان وعده به من الأجل المؤقت، وقد كان عليه أن يستثني في الأجل بمشيئة الله عز وجل؛ لكن الله سبحانه وتعالى لما رأى أن الحامل له على ذلك دينه وحرصه على ألا يخلف ميعادًا كانت التوثقة فيه الرضا بالله سبحانه كفيلاً، فسلم الله سبحانه وتعالى المال؛ فأداه إلى صاحبه، فلا رأى لغير هذا (91/ أ) الرجل أن يفعل مثل هذا إلى الرجل، إلا أن يجتمع فيه شرائطه التي اجتمعت في هذا، على الحالة التي

جرت لهذا المقبوض، استثنى عند قوله إلى أجل يذكر بمشيئة الله، فلم يقدر له في ذلك الوقت مركب يحمل فيه المال، فتأخر إلى وقت إمكانه لكان أفضل له وأولى، أولو كان حين سده عن استطاعة فرجع إلى ما قدره الله عز وجل من عدم الاستطاعة، وصبر إلى حين الإمكان؛ لكان يسعه ذلك، إلا أن إيراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الخبر علينا حكاية عمن تقدمنا ندب منه - صلى الله عليه وسلم - لنا إلى ما في هذا الحديث من حسن التوكل، وإشعار بأن الله سبحانه وتعالى وفي عمن اقترض عليه، ووفي سبحانه لمن رضي به توثقه من خصمه، وأنه جل جلاله عبر وأجاز الخشبة في البحر موصلاً لها إلى مستحقها خارقًا للعادة في مثل ذلك. *وفي الحديث أيضًا من الفقه: ما يدل على أمانة المقرض الذي وصلت إليه الألف في الخشبة؛ لأنه لما عرض عليه عزيمة الألف الآخر أبى أن يأخذها. * وفيه أيضًا من الفقه: ما يدل على أنهما معاً كانا أهلاً لما فعله الله تعالى معهما بتوكلهما على الله عز وجل. وفي الحديث: زجج، أي: سوى موضع النقرة. -2178 - الحديث الخامس عشر: ] عن أبي هريرة، قال: قام أعرابي، فبال في المسجد، فقام إليه الناس ليقعوا به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دعوه وأريقوا على بوله سجلًا من ماء؛ أو ذنوبًا

من ماء؛ فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين) *هذا الحديث قد تقدم في مسند أنس. *والسجل: الدلو الكبير. -2179 - (91/ب) الحديث السادس عشر: ] عن أبي هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تعالي قال: من عادى لي وليًا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله، ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته)].

*في هذا الحديث من الفقه: أن الله سبحانه قدم الإعذار إلى كل من عادى وليًا له، فإنه بنفس المعاداة للولي بإيذان الله له بأنه محاربه؛ فإنه أخذه على غرة، فإن ذلك بعد الإعذار بتقديم الإنذار. *وولي الله عز وجل هو الذي يتبع شرع الله. * ومعنى قوله: {من عادى له وليًا} أي: اتخذه عدوًا، ولا أرى المعنى إلا أنه عاداه من أجل ولايته الله، فإنه يشير إلى الحذر من إيذاء قلوب أولياء الله عز وجل على الإطلاق، إلا أنه إذا كانت الأحوال تقتضي نزاعاً بين وليين لله في محاكمة أو خصومة راجعة إلى استخراج حق أو كشف غامض، فإن هذا لا يتناول هذا القول، لكنه قد جرى بين أبي بكر وعمر خصومة، وبين العباس وعلي، وبين كثير من الصحابة رضي الله عنهم ما جرى، وكلهم كانوا أولياء الله عز وجل، إلا أن هذا يتناول من عادى وليًا لله مع كونه يشير إلى التحذير من إيذاء ولي الله. *وقوله: {وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه}، فإنه يشير إلى ألا تقدم نافلة على فريضة، وإنما تسمى النافلة نافلة إذا قضيت الفريضة، وإلا فلا يتناولها اسم (92/أ) نافلة، يدل على ما ذكرنا. *وقوله: {ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته}، لأن التقرب بالنوافل يكون تلو أداء الفرائض، بدليل أنها ذكرت بعد ذكر الفرائض، يعني إذا أدام العبد التقرب بالنوافل أفضي ذلك إلى أن يحبه الله. *ثم قال سبحانه: فإذا أحببته كنت سمعه، وهذا لا أراه إلا أنه علامة، وأنه لمن يكون الله قد أحبه أن يكون هو سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي

يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. وتصوير ذلك أنه لا يسمع ما لم يأذن الشرع له في سماعه، ولا يبصر ما لم يأذن الشرع في إبصاره، ولا يمد يداً إلى ما لم يأذن الشرع له في مدها إليه، ولا يسعي برجل إلا فيما أذن الشرع له في السعي بها إليه، فهذا هو الأصل، إلا أنه قد يغلب على عبد ذكر الله حتى يعرف بذلك، فإذا خوطب بغيره لم يكد يسمع لهم، وكذلك في المبصرات والمتناولات والمسعى إليها، وتلك طبقة عالية نسأل الله أن يجعلنا من أهلها. * وقوله: {لئن سألني لأعطينه}، يدل على أن العبد إذا صار من أهل حب الله سبحانه وتعالي لم يمتنع عن أن يسأل ربه حوائجه، ولا أن يستعيذ به مما يخافه، وقد كان الله عز وجل قادراً على أن يعطيه قبل أن يسأل، وأن يعيذه قبل أن يستعيذه، ولكن جل جلاله متعرف إلى عباده بإعطاء السائلين، وإعادة المستعيذين، فكان سؤال هذا العبد محبباً إلى ربه في عبادة منه له. *وقوله: {ما ترددت عن شيء أنا فاعله ما ترددت عن نفس المؤمن}، فإن المعنى فيه على ما أراه: أن المؤمنين لا يكرهون (92/ب) الموت إلا لنقلهم من الخدمة إلى النعمة، فيرون أنهم لم يقضوا نهمهم من عبادة الله ولا من خدمته سبحانه في أرضه، فإذا نقلوا إلى مقر الراحة وموطن الإباحة ومحل النعم، لم يكونوا إلى ذلك مشتاقين ولا عليه متهافتين. *فأما من دون هؤلاء في المقام، فإنهم قد يكرهون الموت لخوفهم من بعض أعمالهم، ويحبون البقاء لتدارك الفائت وتلافي الفارط.

*ودون هؤلاء أيضًا: من يكره الموت؛ لأنه لم يقض بعد أشغاله، ولم يفرغ من استعداد جهازه للقاء ربه. * وأما حكمة الله عز وجل في أن الموت لابد للمخلوق منه، فهي أنه سبحانه وتعالى خلق هذه الأرض وما عليها، والسموات وما فيها، بعض ذلك لينفع بعضاَ، وجزء لمصلحة كل، وكل لمصلحة جزء في تدبيره متيقن على رفقة محدودة مقصورة، وأنه سبحانه وتعالى خلق الأرض على مقدار علمه تتسمع لمقدار من الخلق يكون به، فلا ينزل نازل إلا بعد أن يرحل راحل، وكان في ذلك من حكمة الله سبحانه أن يقدر الأرض من بر وبحر، يعدل بذلك الهواء الذي يستنشقه ساكنوها من بين رطوبة البحر ويبس البر على مراح تركبت الآدمي، ثم خلق البحر مع خلجانه والأخام والأنهار والعيون ما يكون مناسباً للاعتدال في الإضافة إلى يبس التراب؛ فكأنه بمقدار لا يحتمل أن يزاد فيه ولا ينقص منه. ولما كان من حكمته سبحانه دوام ذلك كذلك، وكان الماء إذا كان عذبًا فطال مكثه في مقر أنتن وعفن، جعل ماء البحر ملحًا أجاجًا؛ لما ذكر من ذلك، فإنه لو كان عذبًا فأنتن بطول المكث فمرت عليه الرياح أكسبتها نتنًا وعفنًا إذا استنشقه الآدميون والحيوانات، وأهلكهم ذلك، وليس من الأغذية للحيوانات ما لا نملكه (93/أ) يمكنه أن يصبر زمانين إلا الهواء، فعدل الله الهواء وأصحه للاستنشاق، خلقه له من الآدمي والحيوان الذي ينتفع الآدمي به بتعديل ما بين البر والبحر عذباً فأنتن، لم يتصور في هذه الدنيا حياة حيوان. ولما كانت جبلة الآدميين لا تستسيغ إلا الماء العذب الذي جعل به سبحانه وتعالى حياة كل حي؛ جعل جل جلاله من الأرض عيوناً، تقذف الماء

العذب، ومن الجبال شعابًا وأودية تحفظ الثلوج؛ ليذوب في وقت السيول والعبوب، لتستمر جرية المياه العذبة الذي تفتأ به أرواحهم، وكانت رقعة هذه الأرض ليس بها شبر واحد-فيما أرى-فاضلاً لا يحتاج إليه؛ لأنها ما بين أنهار تجرى في أماكن لتصل بأماكن أخر، وجبال هي أوتاد الأرض تحفظها من التقطع، وتكن جمدها وثلوجها. فصارت الأرض رقعة على سعتها محاسبة مقدرة لا تتسع إلا لأهلها، فكان من حكمة الله سبحانه أن يذرأ من خلقه من علم كثرتهم في هذه الدار، فلم يكن يمكن أن يتركها قوم ويجئ بهذا المقدار إلا بعد رحيل آخرين، وكان في ذلك أيضًا من الحكمة أن يكون للخلق أول وآخر، فيعتبر الآخر بالأول، ويتعظ الخالف بالسالف، وليستكمل عدة المرسلين، فيكون كل رسول في وقته إلى أمة زمانه، فصارت من هذا حال موضحة لكل عاقل ألا يطمع في طول البقاء في هذه الدار؛ لأنها دار بلغة بين يديها من ينتظر ورود سكانها عليه، ووراءها من يتوقع قدوم رحيل القاطنينن فيها، فكيف يطمع في البقاء فيها عاقل. *وأما قوله: {ما ترددت في شيء}، قيل فيه أوجه (93/ب) إنه ترديد الله عز وجل الملائكة إلى عبده وتواريهم له عند قبض روحه؛ احتفالًا به وتعظيماً، كما رد الله الملائكة إلى إبراهيم وموسي ونبينا - صلى الله عليه وسلم -. -2180 - الحديث السابع عشر:] عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قال أنا خير من يونس بن متى

فقد كذب) [ *قد سبق هذا الحديث في مسند ابن مسعود رضي الله عنه. *وقوله: (أنا) فإنما يعني به النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه؛ إذ ليس في المسلمين من يفضل نفسه على يونس بن متى، ويدل عليه قوله: (لا تفضلوني على يونس بن متى). -2181 - الحديث الثامن عشر:] عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مثل المؤمن كمثل خامة الزرع، من حيث أتتها الريح تفيئها، فإذا اعتدلت تلقى البلاء، والفاجر كالأرزة صماء معتدلة، حتى يقصمها الله إذا شاء). وفي رواية: (مثل المؤمن مثل الزرع، لا تزال الريح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز، لا تهتز حتى تستحصد)، ومنهم من قال: بغته [.

* هذا الحديث قد سبق في مسند كعب بن مالك، وفسر هنالك. -2182 - الحديث التاسع عشر: ] عن أبي هريرة، قال: (بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس يحدث القوم، إذ جاءه أعرابي، فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال، فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه. قال: أين السائل عن الساعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله (94/أ) قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا

وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) [. *في هذا الحديث من الفقه: أن أمارة الساعة تضييع الأمانة، ومن الأمانة، بل من أكبر الأمانة: إسناد الأمر إلى أهله، وتضييع ذلك تضييع للأمانة. *وقد تقدم ذلك كله في مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه -2183 - الحديث العشرون:] عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يصلون لكم؛ فإن أصابوا فلكم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) [. *معنى هذا الحديث قد تقدم في غير موضع، وبالغنا في الكلام. -2184 - الحديث الحادي والعشرون:] عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كل أمتي يدخلون الجنة إلا من

أبى، قيل: ومن يأبى؟ قال: (من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) [. *قوله: (من أبى) دخول الجنة، وذلك إنما هو أن يأبى الطاعة، فمن أبى الطاعة يأبى دخول الجنة، وذلك أن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:أبى، يعني: أن دخول الجنة في الآخرة من طريق إليها، فالدنيا هي عند أهل العقل والنظر الصحيح جنة تنقل إلى جنة، فإن الطريق إلى الجنة في الآخرة إنما هي عبادة الله في الدنيا، بأنواع العبادات التي هي كلها حقائق الأمن وعروش الطمأنينة، كالصدق والبر؛ اللذين يكسبان المودة والصلة التي تؤكد الألفة، والأمكنة التي يقع بها عن الخلق الطمأنينة، وإتيان المعروف الذي تسكن إليه كل نفس، وهذا من الذي يستشير السر من كل ذي لب. والعفو عن المذنب وحقه (94/ب) الجاد، وإكرام الضيف، والصدق في القول، والوفاء بالعهد، وحفظ الأخ بالغيب، ومجانبة الهجر من الكلام، والطهارة والنظافة، واستعمال مكارم الأخلاق من الجود والشجاعة والعفة، وغير ذلك من مكارم الأخلاق التي تفوقها على كثرتها كلها أداء فرائض الله سبحانه التي بها يشرف العبد في عبادة ربه، وانقطاعه عن الخلق إليه، وإخلاص الإيمان له في الصوم والحج، ومعاداة أعداء الله سبحانه، وبذل النفس له، واستسهال الموت في سبيله، فإن ذلك مما كله، إذا نظر بعين الحقيقة

رأى أنه رياض جنات، تنقل إلى بحبوحة الجنة، فمن أبى ذلك فقد أبى الجنة العاجلة والجنة الآجلة. *فأما العبادات: فإنها للمؤمنين بثوابها، والناظرين إلى أنها في زمان مهلة، ودار رحلة، في موسم متجر يتجر، وذمته مع اليقين بسرعة الانتقال عنه، فإن كلا منها إذا نظره المؤمن بهذه العين، رأى أنه في مثل الجنة، إذا كان إنفاقه حياته في التزود للجنة، كما أن أحد تجار الدنيا إذا ورد في بعض أسفاره على معدن يرى نفاسته في أرضه إذا حمله فتزود من ذلك المعدن ما يأمل نفاقه في بلده إذا عاد إليه. فإنه كلما ازداد في الاستكثار من التزود من ذلك المتاع لأمله في ربحه عند العودة إلى مقره، فإنه يستلذ ذلك التعب، ويستطيب ذلك النصب؛ فالصلوات رياض جنات، وأي جنات للراكعين فيها، وعند تلاوتهم كلام ربهم قياماً بين يديه، قد شرع لهم قطع كلام الخلق، وألا يلتفتوا بصورهم عن معبودهم، إشارة بذلك ألا يلتفتوا بصور باطنهم عن مناجاته أيضًا خالا هي. * أما أماني أهل الجنة، وهي الخلوة عن الخلق بالرب سبحانه، واستمتاع كلامه ومناجاته بأذكاره (95/أ) والتذلل بين يديه، والخضوع له في طهارة ونظافة أثواب. *وأما الصوم، فانه لأهله من حيث إيمان بالله في الباطن، وصبر عما تؤثره النفس من المطعم والمشرب والنكاح غيبًا بين العبد وبين ربه، فإن المؤمن إذا رأي نفسه في ذلك سره وأفرط حتى يكون من تلذذه به أنه يجد لذة عند تزايد المشقة؛ فكأنه في جنة تنقل إلى جنة. *وأما الحج، فإن المؤمن إذا نهض قاصداً إلى بيت ربه، الذي جعله مجتمع

أذكار الأنبياء، وملتقى الأولياء، وإنه يهجر في قصده أهله ووطنه، ويركب من الأخطار في طريقة ما إذا نظر المؤمن إلى أن كل شيء إذا تأمله فرآه خارجاً عن الأغراض، بعيداً عن شهوات النفوس، فيمحض فيه الإيمان ويخلص فيه القصد ليستلذ به المؤمن التذاذاً لا يجده في كل عمل مشوب بمشاركة المنافع الدنيوية فوجد جنة من لذته في إخلاصه لربه من حجه وقصده مجالاً هي عند من ذاقها من المؤمنين على نحو رياض الجنة، فيجد الإنسان لذتها في وقتها، ثم إنه بعد انقضائها عنه كلما ذكرها يلتذ بها فكلما كانت مكابدتها أشق، كان ذكره لها بعد انقضائها ألذ. *وأما الجهاد فإن من المؤمنين من لو لم يشرع الله سبحانه الجهاد؛ الذي يبرهن على الإيمان بمقر آخر، والتصديق برب تبذل له النفوس، ويهون في عبادته قطع الرؤوس، فيعادي المؤمن فيه، ويقاتل لأجله، ويحارب من جرائه حالاً يفضح الشبه لأحوال فيها نداء بلا إله إلا الله محمد رسول الله لكان من المؤمنين من ربما مات كمداً، فانقضت نفسه حسرة، كيف لا يجد ما يظهر فيه دلائل تعلقه بالآخرة وهو ... لكن الله سبحانه من على عباده أن شرع لهم الجهاد، فرأى المؤمنون منا من الله (95/ب) لهم، فوزاً عجله له عليهم، فلذلك رياض جنة. فهذا معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:ومن أبى الطاعة فقد أبى الجنة، يعني - صلى الله عليه وسلم -:الآجلة الموجودة المعدة الموعودة، وقد بينا خصال الطاعات والعبادات المؤدية إلى الجنة المذكورة قد يسلك قاصدوه في الأفعال المذكورة سلوكاً يتبدلهم كالتذاذهم بالجنة؛ فكأنه من أبى الطاعة فقد فاتته الجنة الآجلة الحقيقية والعاجلة جميعاً.

-2185 - الحديث الثاني والعشرون: ] عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (كان يتحدث-وعنده رجل من البادية- أن رجلًا أستأذن ربه في الزرع؟ فقال له: ألست فيما شئت؟ قال: بلى، ولكني أحب أن أزرع، فبذر، فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده، فكان أمثال الجبال، فيقول الله: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيء، فقال الأعرابي: والله لا تجده إلا قرشياً أو أنصارياً، فأنهم أصحاب زرع، فأما نحن: فلسنا بأصحاب زرع، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)]. *في هذا الحديث من الفقه: ما يدل على أن الجنة في إخراج الحسرات من القلوب ونيل المشتهيات، وإن لطف الله عز وجل يبلغ بعباده وانبساطهم في كرمه يصل إلى أن يعودوا على مثل اللاعبين لغير حاجة؛ فإن هذا الرجل طلب أن يزرع في الجنة على مثل ما كان يزرع في الدنيا للحاجة إليه مع صبر فانتظار لإدراكه وحصاده ونفسه فيه فبلغ من ذلك ما أراد به نفسه، بحيث يكمل له ما أراد من تضاعف الريع وحسن الزرع يقوى الانتظار والتوقع الذي كان لا يشتهي، ألا ترى إلى قوله عليه السلام: فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده (96/أ).

وقول الله عز وجل: {دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيء، فإن الذي أراه فيه كالتعليم له أن لا يشبع، والمراد: لا يقنع من الفضل، ولا يقتصر في الطلب، وليس كما سبق إلى الأوهام أنه على معنى الزجر له عن الطلب. *وأما قول الأعرابي: والله لا تجده إلا قرشيًا وأنصاريًا، فإنه عني بذلك أن أهل الزرع قد كانوا يعانونه في الدنيا هم الذين يعرفون منه ما ينعم به عليهم، وأما أهل البوادي فإنهم ليسوا أهل زرع. *وهذا يدل على أنهم أهل كل عمل يبلغون فيما يبلغون الجنة إلى غاية من أمانيهم، حتى ما كانوا يكابدون فيه من هذه الدنيا أن يرده في الآخرة عفواً صفواً بغير مكابدة. -2186 - الحديث الثالث والعشرون: ] عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بينما أيوب يغتسل عرياناً خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى بي عن بركتك) [.

*في هذا الحديث من الفقه: جواز استكثار الغني من الغني بنية الإنفاق. *وفيه أيضًا: أنه إذا رأى المؤمن فضل الله سبحانه وتعالى نازلًا عليه، فلا يقطع تناوله ما دام نازلًا ويكون ناويًا بذلك أنه لا يشبع من رحمة الله كما قال أيوب، فإن الله سبحانه لا يحب من عبده أن يرد عليه فضله. * وأما قوله جل جلاله: ألم أكن أغنيتك؟ فإنه فيما أرى إنما قيل له؛ ليقول أيوب ما قاله، فيهتدي به في غير ذلك. -2187 - الحديث الرابع والعشرون: ] عن أبي هريرة عن النبي قال: (خفف على داود القرآن، فكان يأمر بدوابه فتسرج، (96/أ) ويقرؤه قبل أن تسرج دوابه، ولا يأكل إلا من عمل يده) [. *في هذا الحديث من الفقه: جواز الإسراع بالقراءة لأجل الحفظ والدراسة، وهذا ينبغي أن يكون في وقت، ويكون التدبر في وقت آخر. *وإن تدبر القرآن مما ندب الله سبحانه وتعالى إليه وحض عليه، قال عز وجل: {بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}.

فالعلم يكون عن التدبر، والحفظ يكون للدراسة، فقدم العلم الذي هو ثمرة التدبر. *فأما كون داود لا يأكل إلا من عمل يده، فإنه من أطيب الكسب وأحلاه عند الرجل، فلأن العامل بيده ينفع نفسه وينفع غيره، ويقوم من صنعته بفرض كفاية لأن يبيعها للناس، ولا سيما لمثل داود عليه السلام مع كونه جل صنعة في الأرض، فكان أكله من كسب يده أنفي للكبر عنه، وأبعد للتهمة فيه. -2188 - الحديث الخامس والعشرون: ] عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من يرد الله به خيرًا يصب منه) [. *في هذا الحديث من الفقه: أن إصابة الله عبده بمصائب هذه الدنيا دالة على خير، إلا أن الخير هاهنا نكرة، وليس معرفاً بالألف واللام، فإن المصائب في هذه الدنيا تكون خيراً من جملة الخير، كما أن العافية تكون خيراً من الخير أيضًا، إلا أنه لا يستدل بالمصيبة على سيئة للإنسان في دينه إذا أثارت من المصاب بها صبرًا وتسليمًا ورضًا وفهمًا، فإن أثارت غير ذلك كانت عليه عقوبة، كما أن العافية إذا أثارت شكرًا كانت نعمة، وإذا أثارت بطرًا كانت آفة. *وقوله: (يصب منه)، بمعنى يصيبه، أي: لا يستأصله، وإنما تمسه

بالإصابة على معنى التذكير والاتعاظ فيكون من يفقه الحديث (97/أ) أن الذين استأصلهم الله بالقوارع من نعمائه ليسوا ممن تناوله هذا الحديث. -2189 - الحديث السادس والعشرون: ] عن أبي هريرة، قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث، فقال: إن وجدتم فلانًا وفلانًا-لرجلين من قريش-سماهما- فأحرقوهم بالنار، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أردنا الخروج: إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانًا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما) [. *في هذا الحديث من الفقه: النهي عن الإحراق بالنار. *وفيه أيضًا: أن القول إذا سبق بأمر، ثم تجدد لرائيه بعد ما هو أمثل منه، ترك القول الأول، ورجع إلى الأصلح. -2190 - الحديث السابع والعشرون: ] عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء) [.

*قد سبق الكلام على هذا الحديث في مسند ابن مسعود، وفي مسند أنس بن مالك، وقد بينا أنه تضمن الندب إلى التداوي. *وفيه أيضًا: أنه ليس داء من الأدواء إلا وقد أنزل الله له شفاء من الأشفية، فيكون هذا محرضًا على تطلب الأدوية للأمراض، وقد سبق في هذا ما قد استوفي في بيانه. -2191 - الحديث الثامن والعشرون: ] عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما أعطيكم ولا أمنعكم، إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت) [. *في هذا الحديث من الفقه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعطي ولا يمنع أحدًا إلا بأمر من الله عز وجل، وأنه لم يكن يعطي من يعطي، ولا يمنع من يمنع لأمر راجع إليه صلى الله عليه وسلم (97/ب) * وفيه من الفقه: التنبيه لكل قاسم بعده أن يكون على مثل حاله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يمنع من منع لشنآن، ولا يعطي من يعطي لقربه منه، ولا لهوى يطيعه فيه، ولكنه يفعل ما يفعله من ذلك على حسب ما شرعه الله عز وجل.

-2192 - الحديث التاسع والعشرون: ] عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أخذ من أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه، ومن أخذها يريدها إتلافها أتلفه الله) [. *في هذا الحديث من الفقه: أن المقترض إذا اقترض بنية الأداء؛ فإن الله سبحانه وتعالى يؤدي ذلك. وإنما يقترض بنية الأداء إذا اقتصر في الاقتراض على مقدار حاجته، ولدفع ضرورته؛ فإن أخذ أموال الناس ليتلفها عليهم، غاراً لهم في ذمته بما ليس فيها، أتلفه الله، وهذا الإتلاف إن انصرف إلى المال فإنه يكون متسلفًا إلى إتلاف متلف المال، وإن كان منصرفًا إلى الرجل، فإنه يكون إتلافاً له لا يقف به على تلف الدنيا بل ينضم إليه تلف الآخرة. -2193 - الحديث الثلاثون: ] عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أول من يدعى يوم القيامة: آدم عليه السلام، فتراءي ذريته، فيقال: هذا أبوكم آدم؟ فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: أخرج بعث جهنم من ذريتك، فيقول: يارب، كم أخرج؟ فيقول: أخرج من كل مائة تسعة وتسعين، فقالوا: يا رسول الله، إذا

أخذ منا كل مائة تسعة وتسعون، فماذا يبقي منا؟ قال: (إن أمتي في الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود) [. *في هذا الحديث من الفقه: أن الأمم الذين كانوا قبلنا على كثرة عددهم لم يكن فيهم من المؤمنين إلا قليل، حتى إنهم قد كانوا (98/أ) يكون منهم في الألف الضالين: واحد منهم مهتد، وعلى هذا فإنه قد سبق فيما ذكرناه من قبل من فساد أهل الأرض على اتساع أقطارها وتباعد نواحيها يجوز أن يذكر ها هنا، إلا أنه قد تقدم ذكره. -2194 - الحديث الحادي والثلاثون: ] عن أبى هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه). وفي رواية: (والعمل به والجهل) [. *في هذا الحديث من الفقه: أن الصائم مأمور بتنزيه صومه عن أن يجرحه

بشيء من فلتات لسانه، حتى إن شهادة تبلغ في إفساد الصوم إلى أن يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فليس لله حاجة):فإنه كلام يشير إلى مغاضبة عليه مع العلم بأن الله عز وجل لا حاجة به إلى صيام صائم، وإنما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا إعلاماً لمن فعله أن الله سبحانه قد بلغ غضبه على شاهد الزور إلى ألا يراه معدودًا في الصائمين. -2195 - الحديث الثاني والثلاثون: ] أخرجه تعليقاً عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن إبراهيم يرى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة). وأخرجه بالإسناد: (يلقي إبراهيم أباه (آزر) يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك: لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يارب، إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين (98/ب) ثم يقال: يا إبراهيم، ما تحت رجليك؟ فنظر، فإذا هو بذيح ملتطخ، فيؤخذ بقوائمه، فيلقى في النار) [.

*في هذا الحديث من الدليل على عظم سخط الله سبحانه وشدة بأسه، وأن أمره واحد وسطوته تامة، حتى إن إبراهيم خليل الرحمن، الذي كان من مقامه ومنزلته: أن نبينا صلى الله عليه وسلم مع كونه شافع الجمع يوم القيامة، علم أمته أن يصلوا عليه بالصلاة على إبراهيم، ثم مع ذلك فلم يترك له أبوه حتى قال: يارب أي خزي أخزى من أبي؟ فلم يجب إلى ما تعرض له من الطلب؛ بل مسخ ذيحًا، والذيح: ذكر الضباع. فليعلم كل ذي لب أن الكفر بالله عز وجل، والجهل به سبحانه لا يتطاول إليه طمع طامع، ولا يعمل فيه شفاعة شافع؛ وليكون أيضًا في ذلك أسوة لمن يرى بجهله أن أبا طالب وغيرهما من المشركين بالله أن ينفعهم من الإشراك بالله نسب؛ إذ الإ6يمان بالله عز وجل أصل الأصول كلها الذي يترتب عليه اعتقاد صلة الأرحام ووشائج الأنساب، وغير ذلك. فإذا عدم أصل الأصول الذي يوصل الأرحام بفرع ينتمي إليه لم يكن لذلك الفرع مادة من الحق تصله، ولا أس يبتني ذلك الفرع عليه، وهذا فهو مشير إلى ألا يواد المؤمن مشركاً ولا كافراً، وإن كان ذا نسب منه بنوة، أو أخوة، أو رحم قريبة؛ إذ نسب إبراهيم من آزر أقرب في صلة الأنساب، ومع ذلك لم يعتد بذلك شيئًا. *وفيه أيضًا تنبيه على أن ذا الرحم إذا كان فاسقاً، فإنه يتعين أن يشاه المؤمن وإن كان يشيه على مقدار فسقه، كما أنه يتعين أن يود الرجل الصالح بصلاحه وإن كان لا نسب بينه وبينه.

-2196 - الحديث الثالث والثلاثون: (99/أ)] عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله يحب العطاس، ويكره التثاؤب، فإذا عطس أحدكم فحمد الله، فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته). وفي رواية: (أن يقول له: يرحمك الله). *فأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فليرده ما استطاع، وإذا قال: ها، ضحك منه الشيطان. وفي رواية: (إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم). وفي رواية: (التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاؤب أحدكم فليكتم إن استطاع) [. *في هذا الحديث من الفقه: أن العطاس يستدعي حمد الله سبحانه وتعالى، والحمد على أثره مشروع، ولأنه دليل على ظهور القوة ونهوضها، وعلى دفع فضلات البدن، وأبخرة الرأس، حتى قال الراوي: لا يكون العطاس أول

مرض أبدًاً، إلا أن يكون زكمة. ثم قال: إذا عرضت الزكمة أولاً فتورد بالعليل إلى التعطس سماه أو نحوها حتى تفتح مسام رأسه بالعطاس الزكمة. *فأما التثاؤب فهو ضد هذه الحال؛ لأنه يدل على ضعف القوى، وإن ما كان يخرج من المسام بالعطاس لم تنهض القوى لدفع ذلك، فلذلك تمددت الأعضاء في التثاؤب، ولأنه أيضًا يوسع على الشيطان طريق ولوجه، فإنه على ما ذكر الشيخ محمد بن يحي رحمه الله: أنه يدخل الشيطان إلى باطن الآدمي من مجاري النفس؛ لأنه قال: هو جسم لطيف يناسب الجو، فإذا فتح التثاؤب فكي العبد، أوسع طريق دخوله، ويصدق ذلك ما ذكر في الحديث فليرده ما استطاع، فإذا قال: ها، ضحك منه الشيطان. *فأما حب الله العطاس؛ فلأنه تبين حمده (99/ب) وكراهية التثاؤب؛ فإنه يفتح بابًا للشيطان. -2197 - الحديث الرابع والثلاثون: ] عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحدًا إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وابشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة). وفي رواية: (لن ينجي أحدًا منكم عمله)، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته، سددوا وقاربوا، واغدوا

وروحوا، وشيء من الدلجة، القصد، تبلغوا)]. *اليسر ضد العسر، ومعنى ذلك أن التيسير عند التعليم، وعند الإخبار، وحمل على اليسر على أسر محامله، وأحسن وجوهه، وهو الدين؛ إذ ذلك تأنيس للخلق، وتسهيل على العباد، فيكون قدر التأليف ولقاحاً لتكثير سواد المسلمين، وعلى ضده التعسير لما فيه من التنفير. *وقوله: {ولن يشاد هذا الدين}، أي يغلبه، يعني به من يتعمق متشدداً على نفسه وشارعاً بذلك للناس ما لم يشرعه الله؛ كالذين يواصلون الصيام المنهي عنه، ويتجوعون الجوع الذي يضعفون به قواهم، ويهجرون اللحم والنساء وغير ذلك مما أباحه الله لعباده من طيبات الرزق، فعني بقوله: لن يشاد الدين، أن الذي يشاد الدين يعود كالخصم له، فهو يريد أن يغلبه بنعمه، فأخبر أن الدين هو الغالب، وأن العاقبة له والمرجع إليه. *وقوله: {فسددوا}:التسديد: التصويب، مأخوذ من تسديد السهام إلى الأغراض، أي كونوا حراصًا على إصابة الحق ومتابعة الرسول، فإن لم تقدروا على ذلك فقاربوا ذلك، لأنه بدأ بالتسديد ثم أتبعه بالمقاربة، ثم أتبع ذلك بالبشرى (100/أ) لمن سدد وقارب. *وقوله: {واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة}، فقد جعل - صلى الله عليه وسلم -

الآخرة غاية، والأعمار طرقًا تسلك إلى الغاية، فكأنه قال: استعينوا على قطع هذا الطريق بالغدوة والروحة، إذ كل مسافر على المعهود إنما يقطع سفره بغدوة وروحة، فأراد صلى الله عليه وسلم كونوا في سيركم إلى الآخرة بقطع الأعمار على المعهود من سير جماهير المسافرين، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: (وشيء من الدلجة) وشيء نكرة، فأراد: ليكن في سيركم هذا شيء من الدلجة أحيانًا والدلجة: سير الليل، وذلك غير مؤقت بتوقيت الفرائض. *وقوله: (القصد القصد):أي: عليكم بالقصد تبلغوا، محذوف النون في جواب الأمر. -2198 - الحديث الخامس والثلاثون: ] عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره، فليصل رحمه) [. *هذا الحديث قد سبق في المتفق عليه من مسند أنس، وقد شرحناه هنالك، إلا أن نشير إليه هاهنا؛ حرصاً على تكرير ذكر ثواب صلة الرحم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من سره أن يبسط له في رزقه أو ينسأ له في أثره، فليصل رحمه، يشير بهذا إلى أن صلة الرحم يكون من ثوابها بسط الرزق وتطويل العمر، لأنه أتي (بأو) التي تأتي للتخيير، يعني: أنه أي هذين اختار فهو حاصل له، وليس هذا مما يدل على أنه إذا كانت رغبته في أن الأجر أحدهما

يحصل له؛ بل المراد: أن أي هذين أثار رغبته في صلة الرحم، فإن الثواب على صلة الرحم. *وفيه أيضًا: أن طول العمر إنما يسره (100/ب) عند من يسعه فيض الرزق، فلما ذكر ما يزيل التعين عن طول العمر وهو بسط الرزق، أفاد ذلك بأن من يطول عمره على صلته رحمه، فإنه يبسط له في رزقه مدة عمره ذلك الطويل، ليعلم أنه يحيا حياة طيبة ممزوجة بما تثيبها. *ويجوز أن تكون (أو) هنا بمعنى (الواو)، فيكون: من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره. -2199 - الحديث السادس والثلاثون: ] عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أعذر الله إلى أمريء أخر أجله حتى بلغ ستين سنة) [. *في هذا الحديث من الفقه: أن العمر القصد الذي يتجاوز عن أم الشبيبة، ويسلم من توهين الهم، هو سن الكهول، مابين الأربعين والستين، فإذا أمهل الله عبده حتى جاوز زمن الصبي والحداثة، وسن الشبيبة، ودخل في الكهولة، فقد أعذر إليه؛ لأنه لا يبقى بعد هذا من العمر إلا مالا يؤثر فيه النقص، ويستولى عليه الضعف، فلا يكون تركه ما يترك عن قدرة عليه، بل

عن عجز عنه، ولا يأخذ ما يأخذ إلا إضرارًا به، والحديث الآخر: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين). -2200 - الحديث السابع والثلاثون: ] عن أبي هريرة، قال: قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: (لقد ظننت يا أبا هريرة ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قبل نفسه) [. *في هذا الحديث من الفقه: ما يدل على أن شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، يوم يقوم الأشهاد، التي يكون عنها فصل القضاء في ذلك (101/أ) اليوم، فأسعد الناس بها أهل لا إله إلا الله، التي قد تقدم ذكرنا لها: أنها يقتضي أن يتبعها محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن فصل القضاء يومئذ يسعد به أهل لا إله إلا الله، ويشقى به الآخرون، فيكون هذا الحديث ميسرًا لذلك.

-2201 - الحديث الثامن والثلاثون: ] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بعثت من خير قرون بني آدم، قرنًا فقرنًاً، حتى كنت من القرن الذي كنت منه) [. *في هذا الحديث من الفقه: ما يدل على أن الله اختار نبينا - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان يختار من أكرم الآباء، وكان في الجيد فالجيد من كل قرن حتى أكرم الله به العرب، ثم أكرم قريشاً من العرب، ثم أكرم بني هاشم. -2202 - الحديث التاسع والثلاثون: ] عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: (يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة) [. *في هذا الحديث من الفقه: أن الله سبحانه جعل عوض احتساب الصفي إذا قبض جنته سبحانه، وذلك أن الجنة دار الأصفياء، فإذا احتسب العبد

صفيه، عاضه الله عز وجل باحتسابه دار الأصفياء، فإن كان قد سبقه إليها، اجتمعا فيها فتحققت التسمية من حلول الصفيين بها، وإن كان ليس من أهلها أبدل من أهلها صفيًا يرضيه. -2203 - الحديث الأربعون: ] عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصيمهم يوم القيامة، رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حرًا وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفي منه ولم يعطه أجره) [. *في (101/ب) هذا الحديث من الفقه: أنه لما كان كل واحد من هؤلاء الثلاثة ليس في أحوالهم الخصم على الحقيقة إلا الله تعالى، أقدر الله كل فاعل لواحدة من هذه الخصال إنه سبحانه الخصم له. *وبيان ذلك: أن الذي أعطي به ثم غدر، إنما أعطي عهده بالله جل جلاله، فكان الموافق إليه قد رضي بالله كفيلاً معتمدًا على أنه إن وفي له، وإلا فالله سبحانه المقابل له والمتولي مكافأته، فلما غدر به انتقلت الخصومة من البشر إلى خالق البشر سبحانه.

*وأما الذي باع حرًا: فإن الله تعالى ضرب الرق على من كفر به سبحانه، فأباح بيع الآدمي وشراءه من أجل أن أصله كان قد أشرك به جل جلاله، فإذا تعرض رجل من أبناء الناس إلى أن يبيع الحر الذي قد أعتق الله ربه رقبته أن يملكها سواه جل جلاله، فباعه وأكل ثمنه، فإنه قد باع عبداً لله سبحانه خالصاً، وقد ثبت في الشرع أنه من جني على عبد، فإن الخصم في تك الجناية سيده، فإذا باع حراً كان لخصم سيده، وهو الله عز وجل. *وأما الأجير: فإنه لما استأجره المستأجر على أن يوفيه الأجر، فاستوفي منه العمل ولم يوفه الأجر، فإنه رضي بأمانة المستأجر، فإذا خان تولى الله جزاء الخيانة. وذلك أن الأجير إذا وفي العمل كان إبقاؤه ذلك مشروطاً بأنه أعطى من نفسه كل ما يعلم الله عز وجل أنه قد بلغ فيه بذل وسعه، وكان الله عز وجل في غاية وسعه، فلما لم يوفه المستأجر، وهو صاحب العمل فإن الله عز وجل خصم الآخر من حيث إن ذلك أرضى الله عز وجل بما بلغ إليه من بذل وسعه بخلاف ما فعله الآخر من تعرضه لإسخاط ربه سبحانه وتعالى؛ لأنه جل جلاله هو الحاكم في مثل هذا (102/أ) الحال وقد أدى الأجير ما عليه، فعدل الله عز وجل يقتضي استيفاء الحق من خصمه، فتنتقل الخصومة من الأجير إلى ربه جل جلاله من ذلك الذي لوى من وفي له ومطل من أخيه دينه. -2204 - الحديث الحادي والأربعون: ] عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي

النار) [. *قد سبق في مسند أبي ذر، شرح هذا المعنى، وقد ذكر الخطابي في هذا الحديث وجهين: أحدهما: أن المعنى مادون الكعبين من قدم صاحبه ففي النار؛ عقوبة له على فعله. والثاني: أن المعنى أن صنعه ذلك معدود من أفعال أهل النار. -2205 - الحديث الثاني والأربعون: ] عن أبي هريرة، قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاءين، فأما أحدهما: فبثثته فيكم، وأما الآخر: فلو بثثته قطع هذا البلعوم) [. *أما الذي بينه: فهو الأحاديث الشرعية المروية عنه. *وأما الذي كتمه: فلا يجوز أن يكون من الشرعيات؛ لأن كتمانها لا يجوز، بل قد قيل: إنه مما يرجع إلى الفتن؛ كقتل عثمان والحسين رضي الله

عنهما وغير ذلك. -2206 - الحديث الثالث والأربعون: ] عن أبي هريرة، قال: يقول الناس أكثر أبو هريرة، فلقيت رجلًا فقلت: بم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البارحة في العتمة، فقال: لا أدري، فقلت: لم تشهدها؟ قال: بلى، قلت: لكن أنا أدري. قرأ سورة كذا وكذا) [. *في هذا الحديث ما يدل على شدة حفظ أبي هريرة، وكذلك كان رضي الله عنه فإنه كان كثير المحاضرة، مجموع الهم في الحفظ، إلا أن في هذا الحديث أنه يستحب للإنسان أن يجعل ذهنه إلى ما يقرؤه إمامه (102/ب). *وفيه: أنه من ذهل عما يقرأ أو ما تلاه في صلاته لم تبطل؛ لأنه لم يأمر ذلك الرجل بالإعادة، وإنما أبان للمصلي ذلك نفسه أن المعنى المراد بالصلاة من حضور قلبه لسماع ما يقرؤه الإمام على المأمومين في صلاتهم. -2207 - الحديث الرابع والأربعون: ] عن أبى هريرة، قال: إن الناس كانوا يقولون أكثر أبو هريرة، وإني كنت ألزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشبع بطني، حين لا آكل الخمير، ولا ألبس الحرير، ولا

يخدمني فلان ولا فلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية هي معي، كي ينقلب بي فيطعمني، وكأن خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، كأن ينقلب بي فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء، فيشقها فنلعق ما فيها) [. *في هذا الحديث ما يدل على أن أبا هريرة كان كثير الملازمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن له أرب في الدنيا سوى التعلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كان يقيم على ذلك قانعاً بشبع بطنه. *وفيه: جواز الشبع وأنه مباح. *ويعني بقوله: (حين لا آكل الخمير) العجين المختمر، ومراده: أني كنت لا آكل من الطعام ولا ألبس من الثياب ما يجوز جني المكد في تحصيله إلى مفارقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. *والذي وقع في الحديث: (ولا ألبس الحرير)، والصواب ولا ألبس الحبير، وهي ثياب معروفة. *وفي الحديث دليل على جواز ملازمة الرجل بشيء من الذكر والقرآن لمقصد يقصده الإنسان سجلت به بفعاله، أو يدفع به ضرورة؛ لقول أبي

هريرة: (وكنت أستقرئ الرجل الآية هي معي، لينقلب بي فيطعمني)، ولم ينكره (103/أ) عليه منكر. *وفيه: ما يدل على شرف جعفر بن أبي طالب وجوده (رضي الله عنه)، وأنه كان من الأجواد في الله سبحانه، لقوله: (وكان خير الناس للمساكين جعفر)، وبالمساكين يتبين الجود لله وفي الله؛ لأنهم ليسوا أهل مكافأة بالإحسان، ولا هم في الغالب من أهل الثناء والمدح باللسان، فخير الناس لهم أخلصهم لله سبحانه وتعالى. *ومما وصف به جود جعفر رضي الله عنه: كان ينفق في سبيل الله حتى يفرغ أوعيته، وأنه كان يستقصي تفريغها حتى يشق العكة التي لم يبق فيها ما يمكن إخراجه منها إلا أن تشق فيلعقون ما فيها. -2208 - الحديث الخامس والأربعون: ] عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنكم ستحرصون على الإمارة، وإنها ستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئس الفاطمة [(

*في حديث من الفقه: تنبيه - صلى الله عليه وسلم - على عيوب الإمارة، وبين جهل الحريص عليها بأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (نعم المرضعة، وبئست الفاطمة)؛ لأنه لا بد لكل مرضعة من فطام، فالإمارة تطيب أولًا، وتخبث ثانياً. *وقوله: (نعمت المرضعة) ليست بمدح لها على الإطلاق، لكنه كلام يبين ما بعده فيكون الحكم فيه لتمام الكلام. *وفيه أيضًا وجه آخر وهو: الأشبه من أنه إذا كانت الإمارة مرضعة تستوجب أفواه الراضعين ما في ضروع أوعيتها، فلا تدخر ولا تحبس درهمًا عن المستحقين، فنعمت المرضعة إذا كانت فاطمة وقاطعة لدرها عن غير الرضع المحتاجين إلى ذلك، مؤثرة جعل ثديها على إرضاع المحتاجين (103/ب) إليه، فبئست الفاطمة. -2209 - الحديث السادس والأربعون: ] عن أبي هريرة، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: (سمع الله لمن حمده)، قلنا: (اللهم ربنا ولك الحمد)، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع وإذا رفع رأسه يكبر، وإذا قام من السجدتين قال: الله أكبر) [.

*قد مضي الحديث في مواضع، منها مسند ابن عباس. -2210 - الحديث السابع والأربعون: ] عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء مما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام [. ( *في هذا الحديث من الفقه: تحذير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زمان لا يبالي المكتسب فيه مما اكتسب وممن أن يجد زمانًا، وأيما يعرف ذلك الزمان بأن أهل الاكتساب فيه لا يبدون بمعرفة علم الاكتساب، فإن كانوا تجارًا لم يعبأوا بالتعلم لعلم عقود البيوع وعلم الربا والصرف، وبيع ما لم يقبض، وبيع المكيل بالمكيل نساًء وغير ذلك. *وإن كان عاملًا جابيًا لم يعبأ بتعلم أحكام الأموال والصدقات، وما يجب فيه الخراج والجزية، ومقادير الزكوات والحبوب والثمار، ومصارف ذلك. * وعلى هذا، فإنه من لم يعلم علم كسب من وجوه المكاسب، فمتى دخل في عمل من أعمال الكسب على جهل منه تعلم ذلك الكسب لم يأمن أن يكون آكلًا للمال بالباطل.

-2211 - الحديث الثامن والأربعون: ] عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (104/أ): (من كانت عنده مظلمة لأخيه، من عرضه أو شيء منه، فليتحلله منه اليوم، من قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه) [. *في هذا الحديث من الفقه: أن المظالم عظيم أمرها شديد شأنها؛ لأنها تعود ديونا لبشر ذوي نفوس أحضرت الشح باللوم، فليس يطمع طامع في أن يترك له حقوقها إلا وهو كالقابض بكفه على الماء. *وفيه أيضًا: أنه إذا خلت الأكف في القيامة من الأغراض التي كانت يتعاطيها الناس في الدنيا، ويتظالمون فيها، انتقل جنس الأثمان إلى الحسنات، فأخذ منها ما يقوم به المظالم، فإن لم يكن للظالم حسنات وضع عليه من سيئات خصمه ما يقوم به أيضًا مظلمته؛ ليخف عن المظلوم، ويتضاعف الثقل على الظالم؛ عملاً بالحق، ووزنًا بالقسط، ويجرى من ذلك كله أن يستجد الرجل من أخيه في هذه الدنيا، على أن الغيبة ما لم تبلغ إلى من اغتيب، وقد ذكر الشيخ محمد بن يحي: أنه اتفق هو والشيخ أبو منصور الفقيه بزبيد في

هذه المسألة على أنه: يكفي فيها أن يستغفر المغتاب لمن كان اغتابه، فإن ذلك يجزئه قبل أن يبلغ إلى المقول فيه ذلك المقال فيه ما لم يضره، ثم أتبعه بما ينفعه، وهو الاستغفار له، فعلم ذلك ورجح. فأما إذا بلغته فإنها لا تخرج من ذمة قائلها إلا أن يحلل منها من اغتيب بها. -2212 - الحديث التاسع والأربعون: ] عن أبي هريرة، عن النبي قال: (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مآخذ القرون شبرًا بشبر، ذراعاً بذراع، {104/ب} فقيل: يا رسول الله الفارس والروم؟ قال: من الناس إلا أولئك [. ( *في هذا الحديث من الفقه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنه لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمته مآخذ القرون الماضية، وهذا فإنه يتبع هذا في كل نوع من الأنواع. وقد ذكر الشيخ أبو عبد الله؛ ابن بطة رحمه الله، في كتاب (الإبانة)، فقال: (من سنن من كان قبلنا ما قد حدث في وقتنا من فتاوى الكتاب، وإن ذلك من الأمور الفظيعة) أو كما قال، مما هذا معناه.

ورأيت بخط علي بن العقيل رحمه الله، أنه قال: لا أقول فتاوى الكتاب مما يفسق به فاعله، بل هو مما يكفر به فاعله؛ لأنه إنما يفتى الكتاب من كتب الخراج الموضوعة على قوانين الفرس التي هي من الأمور التي بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بنسخها ومحوها، وهؤلاء الكتاب فإن أفتوا بتلك القوانين التي نسخها الإسلام فإنما قد ردوا ما كان أزاله الإسلام فإنما قد ردوا ما كان أزاله الإسلام على وجه المسارقة. أو كما قال. *ولقد جري لي في هذه المسألة ما طال القول فيه، إلا أن منه أني أتيت بفتيا قد صدرت بما قد تقدم ذكره، وهو: ما يقول السادة الكتاب أحسن الله توفيقهم في ناحية ضرب عليها مقاطعة، والناحية كانت بين شركاء منهم وزير الوقت علي بن طراد، والباقون من أولاد السهام، ولما توفي علي بن طراد، قال أولاده: إن هذه المقاطعة مما نحلة الإمام رحمه الله لأبينا خاصة، فنحن نقوم بها له، ونستوفي من الشركاء مبلغ الخراج بكماله لنا، وقال الشركاء: بل هذه المقاطعة ضربت على هذه الناحية، ونحن فيها شركاء، ولا ميزة لأحد منا، فماذا يكون الحكم بينهم؟ أفتونا مأجورين! وقد أفتى فيها المعروف بابن عبدان النصراني-لعنه الله- وقد أفتى معه فيها (105/أ) ابن مهدويه بعدم خلط لا حاصل له سواهما قاله الأول. فلما أتيت بهذه الفتيا وجدتها ضالة كنت أنشدها، فبادرت وكتبت في الفتيا أن استفتاء الكتاب هذا حرام، وإعطاء إباحته كفر، ولا يحل أن يفتي في دين الله إلا علماء الشرع. وفيه بحمد الله جواب لكل مسألة من هذه وغيرها. *فالجواب فيها أن المرجوع في ذلك إلى الإمام، فإن خفف الخراج عن

شخص لحال يخصه فهو له دون الشركاء، وإن كان لحال يخص الناحية فهو لجميع الشركاء، أو نحو هذا، ثم سلمت الفتيا إلى الشخص الذي سلمها إلي، فلما رأى ما كتبته فيها ارتاد وجهه، ثم قال: أفسدتها علي، ثم أخذها وذهب عني فندمت على تسليمها إليه، وسمته أعاد بها فلم ينهيا ذلك، فكتبت إلى الإمام المقتفي لأمر الله رضي الله عنه شرح له ما جرى، وأذكر له ما في ذلك على الإسلام من الدخيلة، وما ذكر العلماء فيه من الخوف. فأجابني: بأن تضع فتيا وتأخذ فيها خطوط العلماء؛ لتنظر الإجماع، فوضعت فتيا، وأخذت خطوط الفقهاء من المذاهب الموجودة بما اتفقوا على تحريم ذلك والاشتداد في إثمه، وأنه مما لا يسع التجاوز عنه حتى كان من فتيا أبي عبد الله محمد بن يحيى رحمه الله أنه قال: إني لا أقول: إن هذه المسائل الاجتهادية التي يختص بعلمها العلماء دون غيرهم بل هي من الضروريات التي من شك في أنه لا تحل في أن يفتى في دار الإسلام بدين غير الإسلام، فإنه كافر. ثم إني عرضت الفتيا على الإمام المقتفي رضي الله عنه فأعادها علي، وكان من أمره في ذلك ما أعان الله على تتمة لانتقالي إلى ديوان الزمام فلا أعل خلاف (105/ب) حينئذ إلى وقتنا هذا يستفتى الكتاب فأعلمت فأما الكاتب إذا كان فقيهًا مسلمًا، وأفتى بالإسلام وبما يوجبه شرعه فأحسن بذلك وأكرم إذا كان مسندًا له إلى أحد المذاهب المعدودة. فأما أن يفتي بما لم يشرع الله سبحانه شيئًا منه، ولا ذهب إليه أحد من الفقهاء الأعلام مسندًا ذلك إلى فتاوى الكتاب، ذلك هو الحرام المحض الباطل

الصرف، ثم إن الله سبحانه نقل من ذلك إلى وزارة المقتفي رضي الله عنه وأزال ذلك من ديوان الخلافة المعظمة بعد أن كان يكتب النصارى واليهود في الفتاوى، وبالله التوفيق وكنا على كذا. فالله سبحانه وتعالى المحمود على ذلك حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وهو المسئول أن يكمل محو هذه البدعة، واستئصال ما كان قد حدث من هذه السنة، فإن الفتيا إنما يرجع فيها إلى ما أنزل الله على رسوله؛ ولذلك قوم معروفون بالفتيا فيه عن مذاهب استقرت، وأمور انتهى إليها، فهم يفتون في كل حادثة وواقعة، وليس بحمد الله في الفقه، إعواز عن أجوبة مسائل الخراج، بل هو كل في الفقه محرر مقرر، حتى إن الفقهاء اختلفوا في أجوز القسام، وأتين المساح، فقال قوم: إنها على المزارع، وقال قوم: على بيت المال، وقال قوم: بل غلتها، ومنهم من فريق بين الأجور والأتين على ما هو مذكور في كتب الأحكام السلطانية، والله تعالى يقول: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، وفي الآية الأخرى: {فأولئك هم الظالمون}، وفي الأخرى: {فأولئك هم الفاسقون}. ويدل على ما ذهبنا إليه في تفسير الحديث: أنه ذكر فارس والروم، فنهى عن اعتماد ما كانوا عليه.

*ومن (106/أ) ذلك تسبيل الأبنية، واتخاذ التيجان، وغير ذلك، وأن منه ما يراه ملوك العجم من إباحة قتل إنسان على سرقة بيضة، أو صلب رجل على تناول شيء زهيد من تمرة، تعاظمًا لذلك وتهويلًا، مع إنسان؛ فإن الواجب، حرمة يد المسلم وحرمة نفسه أعظم عند الله مما جنى فيه، والحق هو أن يعمل في السارق ما أوجبه الله شرعًا؛ وكذلك الناهب والسالب، فأما هذا الصنع من بطش الجبارين، قال الله عز وجل فيهم: {وإذا بطشتم بطشتم جبارين}. فهو من السنن الخبيثة إلى غير ذلك. -2213 - الحديث الخمسون: [عن أبي هريرة، قال: لما فتحت خيبر أهديت للنبي - صلى الله عليه وسلم - شاة فيها سم، فقال: (اجمعوا إلي من كان هاهنا من اليهود، فجمعوا له، فقال: إني سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقي عنه؟ قالوا: نعم، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: من أبوكم؟ قالوا: فلان، فقال: كذبتم، بل أبوكم فلان، قالوا: صدقت، قال: فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا، كما عرفت في أبينا، فقال لهم: من أهل النار؟ قالوا: نكون فيها يسيرًا، ثم تخلفونا فيها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اخسئوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبدًا، قال: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: هل جعلتم في هذه الشاة سمًا، قالوا: نعم، قال: فما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذبًا فنستريح منك، وإن كنت نبيًا لم يضرك)].

* في هذا الحديث من الفقه: حسن التوصل في تقرير الجاني بلسانه؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل ما سألهم عنه، فكذبوه فيه، فرد عليهم كذبهم منه، فاعترفوا بصدقة - صلى الله عليه وسلم - (106/ب) في تكذيبهم، ثم سأل عن العذاب إلى أن قررهم بأنهم وضعوا له السم في الشاة. * وفيه أيضًا: أنه أخذ عليهم القول باعترافهم أنهم في النار، ثم ادعوا الخروج منها. * وأما قولهم: (تخلقونا فيها)، فإنه ثبت عليهم ما اعترفوا به، ولم يثبت ما ادعوه علينا؛ فلذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: (اخسئوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبدًا) وهاهنا نبين حسن النظر في نطق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذه عليهم بمجامع طرق القول، وعنادهم غيرة بعد غيرة. * وقولهم: إنا وضعنا لك السم؛ حتى إن كنت كاذبًا نستريح، وإن كنت نبيًا لم يضرك، فهو يبين ما سولته لهم أنفسهم؛ لأنهم كتب عليهم إثم الشروع في قتل نبي، وبذل جهدهم فيه، ومع ذلك فكفاه الله كيدهم، فهذا من سوء ما تسوله الأنفس الخبيثة ويقذفه الشيطان في قلوب بني آدم، ولو كانوا اهتدوا أن ينظروا في أمره - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه كان أوضح من أن يخفى على العمي الصم من كل من خلق للنار، كما قال عز وجل: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس}.

* وقد سبق ذكر المرأة التي تولت إلقاء السم في طعامه، في مسند أنس بن مالك. -2214 - الحديث الحادي والخمسون: [عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (حرم ما بين لابتي المدينة على لساني). قال: وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بني حارثة، وقال: (أراكم يا بني حارثة قد خرجتم من الحرم) ثم التفت، فقال: (بل أنتم فيه)]. * قد سبق ذكر تحريم المدينة في مسند سعد وغيره. -2215 - الحديث الثاني والخمسون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من احتبس فرسًا (107/أ) في سبيل الله إيمانًا واحتسابًا بالله، وتصديقًا بوعده، فإن شبعه، وريه، وروثه، وبوله في ميزانه يوم القيامة) يعنى الحسنات].

* هذا الحديث قد سبق في هذا المسند وغيره. -2216 - الحديث الثالث والخمسون: أخرجه تعليقًا عن أبي هريرة، يعني قوله: (إن أخًا لكم لا يقول الرفث) أخرجه بالإسناد عن أبي هريرة: أنه قال في قصصه يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن أخًا لكم لا يقول الرفث) - يعني بذلك- ابن رواحة، قال: وفينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلو كتابه .... إذا انشق معروف من الفجر ساطع أرانا الهدى بعد العمى، فقلوبنا .... به موقنات أن ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشه .... إذا استثقلت بالكافرين المضاجع)] * في هذا الحديث دليل على أن الشعر إذا خلص من الرفث كان فاضلًا، إن كان في معنى فاضل؛ كالثناء على الله سبحانه، وعلى رسوله، ومدح الإسلام، ونحوه، أو مباحًا إن كان في معنى مباح. * وقوله: (إن أخًا لكم) يشير إلى الشعراء، فيما أراه.

-2217 - الحديث الرابع والخمسون: [عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يقول الله عز وجل: يشتمني ابن آدم، وما ينبغي أن يشتمني، ويكذبني وما ينبغي له. أما شتمه إياي: فقوله: إن لي ولدًا، وأما تكذبيه: فقوله: ليس يعيدني كما بدأني). وفي رواية: (قال الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولو يكن له ذلك، فأما تكذبيه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي، فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد (107/ب) الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد). وفي رواية: (كذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني، ولم يكن له ذلك؛ فأما تكذيبه إياي، فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان بدأته، وأما شتمه إياي، فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الصمد الذي لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوًا أحد)]. * هذا الحديث قد تقدم في مسند ابن عباس، وشرحناه هنالك.

-2218 - الحديث الخامس والخمسون: [عن أبي هريرة، قال: قالت الأنصار: اقسم بيننا وبينهم النخل، قال: (لا)، يكفونا العمل، ويشركونا في الثمرة)، قالوا: سمعنا وأطعنا]. وفي رواية: (قالت الأنصار للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: لا، وقالوا: تكفونا المئونة ونشرككم في الثمرة، فقالوا: سمعنا وأطعنا)]. * هذا جرى لما قدم المهاجرون المدينة، فإنهم قدموا فقراء، فمنحهم الأنصار من أموالهم الكثير، فلما فتحت خيبر أعادوا منائحهم عليهم، على ما بينا في مسند أنس. -2219 - الحديث السادس والخمسون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا تعجبون: كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟! يشتمون مذممًا، ويلعنون مذممًا، وأنا محمد

- صلى الله عليه وسلم -)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن الله سبحانه صرف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شر قريش وعن اسمه - صلى الله عليه وسلم -، فكانوا يقصدون بشتمهم مذممًا، واسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمد، وإنما أراد الله سبحانه تنزيه اسمه من أن يعلق به أذى مشرك، على أن إثم المشركين وأوزارهم على ما هي عليه من الثقل، فيضاعف الحوب في سوء القصد، وإنما (108/أ) نزه الله نبيه فقط. * وكذلك فإن أهل طرابلس، ونحوها من أقاصي الشام كانوا قد استولى عليهم الرفض وسب الصحابة، على ما بلغني، وكانوا يفحشون القول في الصحابة، فيقولون: أبو بأر، يريدون أبا بكر رضي الله عنه، فأحدث الله في لسانهم لثغة إذ أخرجوا الهمزة مخرج الكاف، وسلم الصديق رضي الله عنه من شتمهم، ويكمل أوزارهم سوء قصدهم. -2220 - الحديث السابع والخمسون: [عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده)].

* هذا الحديث قد تقدم في مسند أنس بن مالك رضي الله عنه، وشرحناه. -2221 - الحديث الثامن والخمسون: [عن أبي هريرة، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار)]. * هذا الحديث قد تقدم آنًفا في هذا المسند، واستوفينا شرحه، وأجبنا عن الإعراض عليه. -2222 - الحديث التاسع والخمسون: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يقال لأهل الجنة: خلود لا موت، ولأهل النار: يا أهل النار، خلود لا موت)]. *هذا الحديث قد تقدم في مسند ابن عمر رضي الله عنه وشرحناه.

-2223 - الحديث الستون: [عن أبي هريرة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يدخل أحد الجنة إلا أري مقعده من النار، لو أساء ليزداد شكرًا، ولا يدخل النار أحد إلا أري مقعده من الجنة؛ ليكون عليه حسرة)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن المنعم عليه إذا بولغ في الإحسان إليه، فإن من تمام الإحسان أن يشعر قدر السوء الذي خلص منه؛ ليكون عليه الإحسان من جهتين، ويشمله الطول من طرفين: نار وقاه الله البشر وغمسه في الخير، كما أن الكافر إذا اشتد به الانتقام، أري مقام الفوز الذي فاته؛ ليتضاعف حسرة من طرفين أيضًا: أحدهما: ما هو فيه، والآخر: توالي خسرانه على ما فاته من الخير ليكون همه من كلا جانبيه. -2224 - الحديث الحادي والستون: [عن مجاهد: أن أبا هريرة كان يقول: الله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر،

فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مربي عمر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل. ثم مربي أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -، فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: (يا أبا هر)، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: (الحق)، ومضى فاتبعته، فدخل، فاستأذنت، فأذن لي، فوجد لبنًا في قدح، فقال: (من أين هذا اللبن؟)، قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: (أبا هر)، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: (الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي). قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أنته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم، وأصاب (109/أ) منها، وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟، كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاءوا أمرني، فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، واستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، فقال: (يا أباهر). قلت: لبيك يا رسول الله، قال: (خذ فأعطهم). قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الآخر فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فأعطيه الآخر فيشرب حتى يروى، حتى انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إلي فتبسم، فقال: (أبا هر). قلت: لبيك يا رسول الله، قال: (بقيت أنا وأنت). قلت: صدقت يا رسول الله، قال: (اقعد فاشرب) فقعدت فشربت، فقال: (اشرب)،

فشربت، فما زال يقول: (اشرب) حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلًكا. قال: (فأرني) فأعطيته القدح، فحمد الله وسمى، وشرب بالفضلة). وفي رواية: (أصابني جهد شديد، فلقيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاستقرأته آية من كتاب الله، فدخل داره وفتحها علي، فمشيت غير معبد فخررت لوجهي من الجوع، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على رأسي، فقال: (يا أبا هر). قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، فأخذ بيدي، فأقامني، وعرف الذي بي، فانطلق بي إلى رحله، فأمر لي فعس من لبن فشربت منه، ثم قال: (عد يا أبا هر)، فعدت (113/ب) فشربت، ثم قال: (عد) فعدت فشربت، حتى استوى بطني فصار كالقدح. قال: فلقيت عمر، فذكرت له الذي كان من أمري، وقلت له قولي: الله ذلك، من كان أحق منك يا عمر؟ والله لقد أستقرئك الآية، ولأنا أقرأ لها منك، قال عمر: والله لأن أكون أدخلتك أحب إلى من أن يكون لي مثل حمر النعم)]. * في هذا الحديث من الفقه: الإخبار عن شدة عيش أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحسن صبرهم. * وفيه أيضًا: جواز الإخبار عن ذلك، على وجه شرح الحال؛ تسلية

للمؤمن الفقير، لا على وجه الشكاية من الأقدار. * وفيه أيضًا: جواز لأن يجعل الرجل لمحادثته أخاه سببًا لاستتباعه لدفع ضرورة. *وفيه أيضًا: استحباب سؤال الرجل عما يجده في بيت نفسه، إذا كان لا مادة لذلك الشيء من ماله يعلمها؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى اللبن سأل عنه، فيستدل أنه لم يكن له حلوبة في البيت؛ فلذلك سأل، فلما قيل له: أهداه لك فلان أو فلانة رضيه - صلى الله عليه وسلم -، واستطابه. * وفيه أيضًا: أن الإيثار من أشرف أخلاق المؤمنين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى لبًنا في قدح، وعلم حال أبي هريرة، ثم قال: (ادع لي أهل الصفة). * وفيه أيضًا: دليل على حسن الظن بالله سبحانه وتعالى: أنه يبارك في القليل من الزاد، فيعم الجمع الكبير. * وفيه إشارة إلى أن الإمام، والعظيم في قومه، والمؤمن يستحب أن يكون له بيت للضيافة يقصده من لم بدع؛ فإن (114/أ) أهل الصفة كانوا أضياف الإسلام، وأهل الصفة كما وصفهم لا يأوون إلى أهل ولا مال. ولا يجوز أن ينسب إليهم الصوفي، ولكن الصفي، وأما الصوفي: فلا أراه منسوبًا إلا إلى لبس الصوف، وقد كان التخصص بلبس الصوف مكروًها عند جماعة من العلماء، منهم: سفيان بن سعيد الثوري. ومعنى الصفة: أنها مجلس لا مال عليه، ولا حجاب دونه، وكانت هذه

صفة المسجد، يقصدها ضيوفه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءته صدقة وفرها على أهلها من أهل الصفة أو غيرهم، وإذا جاءته هدية لم يتفرد بها كما تفرد الفقراء عنه بالصدقة؛ ولكنه كان يوفر عليهم ما هو لهم، ويشركهم فيما هو له. * وفي الحديث دليل على أن الجوع قد يسحق المؤمن حتى تضيق نفسه؛ لقول أبي هريرة: فساءني ذلك، وقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟! وإنما أراد الله تعالى بذلك أن يظهر أنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه أيضًا دليل على أن السنة للشارب الجلوس. * وفيه أيضًا دليل على أن صاحب البيت يكون آخر القوم شربًا، وكذلك خادمه. * وفيه أيضًا دليل على أن من صور ضيافة الضيف: أن يدار عليهم في شرب اللبن، ولا يجعل بينهم فيشتركون، كما أن يستحب في غير هذه الصورة أن يجلس على القصعة من يتتبع القصعة لهم، فإذا شبعوا وخرجوا دخل غيرهم، كما قدمناه في مسند أنس. * وفيه أيضًا من الفقه: جواز الري من اللبن؛ فإنه غذاء يجمع بين الطعام والشراب. * وفيه: أن سؤر المؤمنين، وإن كانوا فقراء، فيه البركة، فلا ينبغي للمؤمن أن يستنكف منهم، ولا أن يترفع (112/ب) عن شربه؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرب من فضل أصحاب الصفة. * وفيه أيضًا ظاهرة دالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ روى ذلك القدح جميع

أهل الصفة، وأبا هريرة، حتى تناول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما فضل عنهم -2225 - الحديث الثاني والستون: [عن أبي هريرة، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة رهط سرية عينًا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة، بين عسفان ومكة، ذكروا لحي من هذيل، يقال لهم: بنو لحيان، فنفروا لهم بقريب من مائتي رجل رامٍ. وفي رواية شعيب: (من مائتي رجل، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزل نزلوه، فقالوا: تمر يثرب، فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى موضع- وفي رواية شعيب- إلى فدفد، فأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا فاعطونا بأيديكم، ولكم العهد والميثاق ألا نقتل منكم أحدًا، فقال عاصم بن ثابت: أما أنا، فلا أنزل على ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك - صلى الله عليه وسلم -، فرموهم بالنبل فقتلوا عاصًما- زاد في رواية شعيب - في سبعة، ونزل إليهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق، منهم خبيب وزيد بن الدفنة ورجل آخر، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيمهم فربطوهم بها، قال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن لي بهؤلاء أسوة -يريد القتلى- فجرروه وعالجوه، فأبى أن يصحبهم فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد بن الدفنة (113/أ) حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر، فابتاع خبيبًا بنو الحارث بن عامر ابن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب هو قاتل الحارث بن عامر يوم بدر،

فلبث خبيب عندهم أسيرًا حتى اجتمعوا على قتله، فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يتحد بها فأعارته، فدرج بنت لها وهي غافلة حتى أتاه، فوجدته مجلسة على فخده والموسى بيده، ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهها، فقال: تخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك. قال: والله ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب، فو الله لقد وجدته يومًا يأكل قطًفا من عنب في يده، وإنه لموثق في الحديد، وما بمكة من ثمرة، وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيبًا، فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل، قال لهم خبيب: دعوني أصلي ركعتين، فتركوه فركع ركعتين، فقال: والله لو أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت، وقال: اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تبق منهم أحدًا. ولست أبالي حين أقتل مسلمًا .... على أي شق كان الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ .... يبارك على أوصال شلو ممزع ثم قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث، فكان خبيب هو من سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرًا الصلاة، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه يوم أصيبوا خبرهم، وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت، حين حدثوا أنه قتل- أن يؤتوا بشيء منه يعرف، وكان قتل رجلًا من عظمائهم، فبعث الله تعالى لعاصم مثل الظلة من الدبر، فحمته من رسلهم، فلم يقدروا أن يقطعوا منه شيئًا). وفي رواية: (أن خبيبًا قتله ابن الحارث، واستجاب الله لعاصم بن ثابت

يوم أصيب، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه خبرهم يوم أصيبوا)]. * في هذا الحديث من الفقه: ما يظهر (109/ب) حكمة الله البالغة بأن يلهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث مثل هؤلاء الرهط فيكتب لهم الشهادة، ويعودوا قدوة لمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة، في امتناع عن امتنع عن النزول على حكم مشرك، وصبر من صبر لما غدر به الكفار، فكل هؤلاء قدوة بصورة حالة؛ ليكون الامتناع عن النزول على حكم مشرك رضي بتعجل الشهادة إلى يوم القيامة، أيضًا سائًغا غير مكروه ولا محظور اقتداء بعاصم بن ثابت؛ وليكون النزول على حكم المشركين رضى بعهدهم وأمانهم مباحًا اقتداء بخبيب بن عدي رضي الله عنه، وليبتلي الله عباده المؤمنين بمثل هذه الحادثة؛ ليميز الله من ثبت إيمانه عندها ممكن يضطرب قلبه، ويتبع وساوس الشيطان. * وفي قوله: كيف يرسل هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - قومًا تكون هذه عاقبتهم؟ وإنما كان ذلك بحكم من الله سبحانه، منها: أن يكشف الله بهم المنافقين حول نبيه - صلى الله عليه وسلم -، مع فوز من فاز بالشهادة مكتوبًا له أجر من اقتدى به في عمله. * وفيه أيضًا من الفقه: ألا يجاز المشرك في ولد له، صغيرًا أو غير ذلك، وإن كانوا هم يحاربون المسلمين؛ لأن خبيبًا لم يؤد الطفل مع قدرته على أذاه.

* وفيه أيضًا: أن الركعتين من خبيب صارت سنة؛ لكل من قتل صبرًا من المسلمين. * وفيه أيضًا: جواز ترك الإكثار من الصلاة، إذا خاف المصلي أن يظن المشركون أن صلاته تلك هرب من الموت، وتبعيد لوقته. * وفيه أيضًا: ما يدل على صدق عزم خبيب، وحسن ثبات عقله، حين قال هذا الشعر في مثل تلك الحالة الشديدة على تقبل الموت، ومعاينة القتل بأيدي الأعداء. * وأما إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بما جرى للقوم قبل وصول الخبر، فإنه يدل على نبوته (110/أ) - صلى الله عليه وسلم -. -2226 - الحديث الثالث والستون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تحاسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فهو يقول: لو أوتيت مثل ما أوتى هذا لفعلت كما يفعل، ورجل آتاه الله مالًا، فهو ينفقه في حقه، فيقول: إن أوتيت مثل ما أوتي لفعلت كما يفعل). وفي حديث لشعبة: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له ...) فذكره نحوه].

* هذا الحديث قد سبق في مسند ابن مسعود، وفي مسند ابن عمر رضي الله عنهما، وتكلمنا عليه بما يكفي إن شاء الله. -2227 - الحديث الرابع والستون: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض). وفي رواية: (تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعد سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبٍد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعت رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا على عبد الدينار والدرهم والقطيفة، والخميصة، بأن يتعس، ومعنى هذا: أنه يكون عبد درهمه، أو درهم غيره، وكذلك عبد خميصته أو خميصة يرجوها من غيره، أو قطيفة أو غير ذلك.

* ومعنى تعس: عثر فسقط لوجهه، والخميصة: كساء مربع له أعلام. وانتكس: بمعنى حر لوجهه، وشيك: إصابة الشوك، أي فلا انتفش: أي فلا قدر على إخراج ما شيك به. * وإنما يذم إذا كان لا يبالي (110/ب) من أين اكتسب ذلك، فأما المؤمن فإنه شرفت نفسه فلم يرض أن يملكها إلا خالق الخلائق كلهم، فيكون عبدًا لله يملكه الله ما يشاء من خلقه وعباده. * وفي حديث ما يدل على أن علامة هذا العبد الذي تملكه هذه الأشياء: ألا يرضى إلا إذا أعطي، ولا يسخط إلا إذا منع وحرم، فمن وجد ذلك في نفسه فليحذر أن يكون ممكن يتناوله هذا الدعاء. * وقوله: (طوبى لعبٍد آخذ بعنان فرسه)، يعني - صلى الله عليه وسلم -: إنه واحد وليس له من يملك فرسه، فهو آخذ بعنانها، إذا نزل عنها فهو وحيد فريد غير مذكور ولا معدود ولا معروف، وإنما خرج لله عز وجل متطوعًا لجهاد أعداء الله. * وقوله: (أشعث رأسه، مغبرة قدماه)، يعني: ليس له من يرجل رأسه، ولا له خفان. * وقوله: (إن كان في الحراسة أو في الساقة)، المعنى: أين كان هذا الرجل لم ينقصه ذلك من ثوابه. * قوله: (إن استأذن فلم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع)، يعني: إنه غير

معدود ولا محسوب؛ فلذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: (طوبى له). -2228 - الحديث الخامس والستون: [عن أبي هريرة، أن رجلًا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (أوصني). قال: (لا تغضب) فردد مرارًا، قال: (لا تغضب)]. * من الجائز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - علم من هذا الرجل كثرة الغضب، فخصه بهذه الوصية، وقد مدح رسول الله (الذي يملك نفسه عند الغضب، ذكرنا فيما تقدم من مسند ابن مسعود. وقد سبق في مسند سليمان بن صرد ذكر دواء الغضب فيما رأيناه، وهو: التعوذ من الشيطان -2229 - الحديث السادس والستون: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين

(111/أ) - يعني إصبعين-)]. * قد تقدم في مسند أنس بن مالك، وقد تكلمنا عليه، ومعناه: أنه ليس بينه وبين الساعة شيء. -2230 - الحديث السابع والستون: [عن أبي هريرة، قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين). وفي رواية: (وكان يعرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه)]. * قد سبق هذا الحديث في مسند أنس، وتكلمنا عليه.

-2231 - الحديث الثامن والستون: [عن أبي هريرة، قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كسب الإماء)]. * قال الخطابي: (كانت لأهل مكة وأهل المدينة إماء، عليهن ضرائب، يخدمن الناس، تخبزن، وتستقين الماء، إلى غير ذلك من الصناعات ويؤدين الضرائب إلى ساداتهن، والإماء إذا دخلن تلك المداخل، وتبذلن ذلك التبذل، لم يرمن أن يكون منهن الفجور فأمر - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن كسبهن). وقد روى أبو داود من حديث رفاعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن كسب الأمة، إلا إذا عملت بيديها، وقال بأصابعه هكذا، نحو الخبز، والغسل، والنقش يعني: نفش الصرف. -2232 - الحديث التاسع والستون: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو

أهدي إلى كراع أو ذراع لقبلت)]. * هذا الحديث يتضمن الندب إلى إجابة الدعوة، ويدل على حسن أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتواضعه، ويندب إلى قبول الهدية. * والكراع: كراع الشاة، وقد غلط قوم، فقالوا: (111/ب) أرادبه كراع الغنم، وهو موضع لأن الذراع يناسب الكراع، لا المكان -2233 - الحديث السبعون: [عن أبي هريرة، كنتم خير أمة أخرجت للناس، قال: خير الناس للناس، يأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام. وفي رواية عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن قوله: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) معناه: من أجل حبكم الخير لكل الناس، تريدون أن يدخل جميع الناس الجنة، وأن يسلموا ويعملوا الخير.

* وقوله: (عجب الله من قوم يدخلون في السلاسل)، يعني أنه لو وكل الناس إلى نهضاتهم لأبطئوا جدًا، ولكنه سبحانه ويدخلهم الجنة في السلاسل، أي: يسلكهم طرق الجنة على كره منهم. * وقوله: يقادون بالسلاسل، ونطق هذا الحديث يحتمل معنيين: أحدهما: أن قوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس، أي: إنكم خير أمة للناس أخرجت، أراد: بكم صلاح الناس وهداية الخلق، وجهادكم من جاهدتم من الناس ليهتدوا. والآخر: أنهم خير أمة، أي: أفضل الأمم. -2234 - الحديث الحادي والسبعون: [عن أبي هريرة، قال: (رأيت سبعين من أصحاب الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار، وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده؛ كراهية أن يرى عورته)]. * في هذا الحديث: جواز أن يأتزر الرجل بالثوب الواحد، ويصلي فيه؛ لأن الرداء فوق الحاجة.

* وفيه: جواز أن يبلغ الثوب الكعبين. * وفيه: جواز جمع المصلي ثوبه بيده في صلاته مخافة أن تنكشف عورته. -2235 - الحديث الثاني والسبعون: (112/أ) [عن أبي هريرة قال: ثلاث لم يبلغوا الحنث، ذكره البخاري، يعقب حديث أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للنساء: (ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من الولد إلا كان لها حجابًا من النار)]. * هذا الحديث قد تقدم في مسند أنس، وبسطت الكلام فيه. -2236 - الحديث الثالث والسبعون: [عن أبي هريرة أنه قال: لما أقبل يريد الإسلام ومعه غلامه، ضل كل واحد منهما عن صاحبه، فأقبل بعد ذلك وأبو هريرة جالس مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا أبا هريرة، هذا غلامك قد أتاك)، فقال: أما إني أشهدك أنه حر، قال: فهو حين يقول:

يا ليلة من طولها وعنائها .... على أنها من دارة الكفر نجت وفي رواية: (أن أبا هريرة قال: لما قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - قلت في الطريق: يا ليلة من طولها وعنائها .... على أنها من دارة الكفر نجت قال: وأبق مني غلام في الطريق، فلما قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا أبا هريرة، هذا غلامك؟) فقلت: هو حر لوجه الله تعالى، فأعتقته). وفي رواية: (لما أقبل أبو هريرة ومعه غلام، وهو يطلب الإسلام، فأضل أحدهما صاحبه)، يعني وذكره. وقال: وأما إنى أشهدك أنه الله)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن أبا هريرة قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس معه غير غلامه. * وفيه: أن من سر بشيء كان من شكر الله على المنعم أن يخرج لله عز وجل. * وفيه: أنه لا أثر للتعب إذا حصل المقصود، لقول أبي هريرة: يا ليلة من طولها وعنائها .... على أنها من دارة الكفر نجت * وفيه: ابتدأ على حائط ... .

-2237 - الحديث الرابع والسبعون: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الرهن يركب بنفقته، ويشرب لبن الدر إذا كان مرهوًنا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة)]. .... * * *

المجلد الثامن

- 2238 - (2/أ) الحديث الخامس والسبعون: [عن ابن سيرين، قال: (كنا عند أبي هريرة، وعليه ثوبان ممشقان، فتمخط فقال: بخ بخ، أبو هريرة يتمخط في الكتان، لقد رأيتني، وإني لأخر ما بين منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حجرة عائشة مغشيا علي، فيجيء الجائي، فيضع رجله على عنقي، ويرى اني مجنون، وما بي من جنون، ما بي إلا الجوع)] في هذا الحديث جواز لبس الرجل الكتان الممشق، وهو المصبوغ بالمشق، وهو المغرة. وفيه جواز امتخاط الرجل في ثوبه. وفيه استحباب أن يذكر عند نعمة تجدد له الشدة التي انتقل عنها إلى تلك النعمة، فيتضاعف وقع النعمة عنده، ويتضاعف شكره لله عليها. - 2239 - الحديث السادس والسبعون: [أخرجه البخاري تعليقا من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: (وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو الطعام، فأخذته، وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني محتاج،

وعلي عيال، وبي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟) قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالا، فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه قد كذبك وسيعود). فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صلى الله (2/ب) عليه وسلم، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: دعني، فإني محتاج، وعلي عيال، لا أعود، فرحمته، فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك؟) قلت: يا رسول الله، شكا حاجة وعيالا فرحمته، فخليت سبيله. فقال: (أما إنه قد كذبك وسيعود). فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ، وهذا آخر ثلاث مرات، إنك تزعم أنك لا تعود، ثم تعود، فقال: دعني فإني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله ألا هو الحي} فختم الآية، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما فعل أسيرك البارحة؟) قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله. قال: (ما هي؟) قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} وقال لي: لا يزال عليك من الله حافظ، ولن يقربك شيطان حتى تصبح، وكان

أحرص شيء على الخير - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث يا أبا هريرة؟) قال لا. قال: (ذاك شيطان)]. في هذا الحديث من الفقه جواز أن يرتب من يحفظ زكاة رمضان إلى أن يفرق. وفيه إثبات (3/أ) وجود الجن، وأنهم يتصورون في الصور الكثيرة. وفيه أن المؤمن قد يخدع بذكر الضعف والفقر؛ لأن أبا هريرة انخدع بذكر الفقر. وفيه أيضا أن السارق إذا ظفر به، فقال: إني لا أعود، جاز تركه، لأن أبا هريرة تركه، وذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفيه أيضا أن آية الكرسي دافعة للشيطان عن قارئها؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدق الجني في ذلك على كونه شهد بأنه كاذب في غير ذلك. وفيه أيضا دليل على أنه إذا قال الرجل المبطل كلمة الحق؛ فإنها تقبل منه، ولا ترد من أجل أنه قالها. - 2240 - الحديث السابع والسبعون: [عن أبي هريرة قال: (قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما بين أصحابه تمرا، فأعطى كل إنسان سبع تمرات، وأعطاني سبع تمرات إحداهن حشفة، فلم يكن فيهن تمرة أعجب إلي منها، شدت في مضاغي). وفي رواية: (تضيفت أبا هريرة سبعا، فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون

الليل أثلاثا، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا، وسمعته يقول: (قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه تمرا فأصابني سبع تمرات إحداهن حشفة). وفي رواية: (قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - بيننا تمرا؛ فأصابني خمس، أربع تمرات، وحشفة، ثم رأيت الحشفة أشدهن لضرسي)]. في هذا الحديث ما يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يساوي بين أصحابه في القسمة حتى في التمر فيعده عددا، وأما أن تكون تمرة أكبر من تمرة، فإن هذا مما يعفى عنه في القسمة (3/ب)؛ لأنه لا يحسن اعتباره. وفيه أيضا من الفقه أن الشيء إذا كان قليلا فالسنة فيه أن يوزع على مثل ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا التمر؛ لتبيين كل واحد من القوم أيضا؛ إذ ليس بالغا بواحد منهم مبلغ الكفاية فكان ربما يوسوس له الشيطان أن غيره قد وصل إليه أكثر مما وصل إليه هو. وفيه أيضا أن القليل النزر قد يسد من المؤمن مسدا. وفيه أن جوع أبي هريرة كان قد اشتد حتى حمله على مضغ الحشفة فلذلك طال زمان مضغه لها حتى قال: شدت في مضاغي. والحشف: أردأ التمر. والمضاغ: الطعام يمضغ.

-2241 - الحديث الثامن والسبعون: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين، فإنه قد ولي علاجه). وفي رواية: (فإنه ولي حره وعلاجه)]. وفي الحديث من الفقه أنه يكفي في مناولة الرجل عبده أو خادمه أو تناوله اللقمة واللقمتين، وليس عليه أن يساويه في ذلك بنفسه إلا أنه إن أجلسه معه كان أفضل، وقد سبق شرح هذا الحديث. - 2242 - الحديث التاسع والسبعون: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو أن الأنصار سلكوا واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار) فقال أبو هريرة: ما ظلم، بأبي وأمي، آووه ونصروه، وكلمة أخرى)].

(4/أ) قد سبق ذكر وبيان فضيلتهم في مسند ابن عباس وفي مسند أنس رضي الله عنهما. - 2243 - الحديث الثمانون: [عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أن داود النبي كان لا يأكل إلا من عمل يده)]. هذا الحديث يدل على فضيلة العمل باليد، وأنها متقدمة على غيرها من المحاسن. وقد سبق شرح هذا فيما تقدم. - 2244 - الحديث الحادي والثمانون: [عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (عرض على قوم اليمين فأسروا، فأمر أن يسهم بينهم في اليمين، أيهم يحلف؟)]. يسهم: بمعنى يقرع؛ وإنما يفعل هذا في حق الذين تساوت درجاتهم في

أسباب الاستحقاق مثل أن يكون الشيء في يدي اثنين كل واحد منهما يدعيه ويريد أن يحلف ويستحقه. - 2245 - الحديث الثاني والثمانون: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما سمي الخضر؛ لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز خلفه خضراء)]. هذا الحديث قد تقدم تفسيره في مسند أبي بن كعب. - 2246 - الحديث الثالث والثمانون: [عن أبي هريرة: (ما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد أكثر حديثا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا اكتب)].

* في هذا الحديث ما يدل على أن الكاتب من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين حفظه بقلبه وبين ضبطه بخطه، والراوي إذا سمع من غير كتابه فإنه يعتمد على ما يحفظ بقلبه خاصة فيكون ضبطه من وجه واحد، وأما الكاتب فإنه يضبط من وجهين. - 2247 - (4/ب) الحديث الرابع والثمانون: [عن أبي هريرة، قال: أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر بعدما افتتحوها، فقلت: يا رسول الله، أسهم لي، فقال بعض بني سعد بن العاص: لا تسهم له يا رسول الله، فقال أبو هريرة: هذا قاتل ابن قوقل. فقال ابن سعيد بن العاص: واعجبا لوبر تدلى علينا من قدوم ضأن، ينعى علي قتل رجل مسلم، أكرمه الله على يدي، ولم يهني على يديه، قال: فلا أدري أسهم له أو لم يسهم له). وفي رواية: (بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبان على سرية من المدينة قبل نجد، قال أبو هريرة: فقدم أبان وأصحابه على النبي - صلى الله عليه وسلم - بخيبر معدما افتتحها، وإن حزم خيلهم الليف، قال أبو هريرة: قلت يا رسول الله، لا تقسم لهم، فقال: أبان: وأنت بهذا يا وبر تحدر من رأس ضأن. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا أبان اجلس، فلم يقسم لهم).

زاد أبو مسعود، فقال أبو هريرة: هذا قاتل ابن قوقل، قال أبان لأبي هريرة: وا عجبا لك وبر تدلى من قدوم ضأن، ينعى علي امرأ أكرمه الله بيدي، ومنعه أن يهينني بيده)]. في هذا الحديث جواز التماس الرجل أن يسهم له من الغنيمة إذا قدم قبل القسمة؛ وإن لم يشهد الواقعة. وفيه أيضا جواز أن ينته الرجل على المعنى الذي هيج قول المشير بإنفاق العطاء؛ لأن أبا هريرة قال في الرجل الذي أشار بمنعه: هذا قاتل ابن قوقل، وقوقل: اسم (5/أ) لثعلبة الأنصاري، كان يقول للخايف: قوقل حيث شئت فإنك آمن. وقوله: (لوبر تدلى من رأس ضأن)، أي تعلق في انحطاطه. وقوله: (من قدوم ضأن) القدوم: ما تقدم من الشاة، وهو رأسها، وإنما أراد احتقاره وأنه لا قدر له، فشبهه بالوبر الذي يتدلى من رأس الضأن في قلة المنفعة والمبالاة، هكذا فسره العلماء. وقال بعضهم: قدوم ضأن اسم موضع جبل أو ثنية. قال الخطابي: وبر: دويبة يقال: إنه أشبه السنور. وقوله: (وأنت بهذا)، أي بهذا الكلام، فاختصر وحذف.

وقوله: (ينعى علي) أي يعيب علي. وقد تضمن هذا الحديث أن الصحابة قد كان يجري بينهم كلمات يثيرها الطباع، ونحن مأمورون بالسكون عما شجر بينهم رضي الله عنهم. - 2248 - الحديث الخامس والثمانون: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم) فقال أصحابه: وأنت؟ قال: (نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)]. قد روى هذا الحديث سويد بن سعيد عن عمرو بن يحيى بإسناد صحيح فقال فيه: كنت أرعاها بالقراريط. وقال سويد: كل شاة بقيراط. قال إبراهيم الحربي: القراريط: موضع، ولم يرد بذلك القراريط من الفضة. - 2249 - الحديث السادس والثمانون: [عن أبي هريرة، قال: (ابتعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرج لحاجته، وكان لا يلتفت،

فدنوت منه فقال: (ابغني حجارا استنفض بها (5/ب) أو نحوه، ولا تأتني بعظم ولا روث) فأتيته بأحجار بطرف ثيابي فوضعتها إلى جنبه، وأعرضت عنه، فلما قضى اتبعه بهن)]. قوله: (ابغني) أي ابغ لي، يقال بغيتك كذا، وبغيت لك أي طلبته لك، قال عز وجل: {يبغونكم الفتنة}. وقوله: (أستنفض بها) أي أزيل بها عني الأذى، والإشارة إلى الاستجمار. - 2250 - الحديث السابع والثمانون: [أخرجه تعليقا عن أبي هريرة قال: (كيف أنتم إذا لم تجتنبوا دينارا ولا درهما؟ فقيل: وكيف نرى ذلك كائنا؟. قال: أي والذي نفسي بيده، عن قول الصادق المصدوق، قالوا: عم ذلك؟ قال: تنتهك ذمة الله وذمة رسوله، فيشد الله قلوب أهل الذمة، فيمنعون ما في أيديهم)]. قوله في هذا الحديث: تنتهك ذمة الله؛ أي يستباح ما لا يحل. وفيه دليل على أن المسلمين إذا انتهكوا ذمة الله سبحانه وتعالى وفقدوا

الشروط التي شرطها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل الذمة: إما بهضم لحقوقهم أو فسحة لهم في التطاول إلى ما لم يتجه الشرع، كان عقوبة ذلك تقوية قلوب أهل الذمة حتى يمنعوا الجزية التي ضربها الله في رقابهم ذلا وصغارا. وهذا الحديث سيأتي بيانه في إفراد مسلم من هذا المسند في الحديث الحادي والتسعين إن شاء الله تعالى. - 2251 - الحديث الثامن والثمانون: [أخرجه البخاري تعليقا بمثل حديث قبله عن جابر قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم عيد، خالف الطريق)]. (6/أ) قد اختلف العلماء في سبب ذلك، فقال قوم: ليمر على قوم ما رأوه فتدركهم بركته، وقيل: إن الملائكة تقف يوم العيد على أفواه السكك فأراد أن يمر بملإ غير الملإ الآخر، وقيل: التسليم على من لم يسلم عليه، وقيل غير ذلك؛ ولأنه كان إذا انصرف إلى المصلى أعلن بالتكبير ذاهبا وغاديا فأراد - صلى الله عليه وسلم - أن يكون تعليمه للناس وتذكيره إياهم بتكبير الله عز وجل في الطريقين. - 2252 - الحديث التاسع والثمانون: [عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا وقع الذباب في شراب

أحدكم فليغمسه ولينزعه فإن في أحد جناحيه داء والآخر شفاء)]. قد سبق بيان هذا الحديث، وذكرنا أنه يدل على التداوي. - 2253 - الحديث التسعون: [عن أبي هريرة أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا قضى الله الأمر من السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزغ عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: للذي قال: الحق وهو العلي الكبير؛ فيسمعها مسترق السمع، هكذا، بعضه فوق بعض - ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته، حتى يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء). وفي رواية: فزع (بالعين)].

هذا الحديث يدل (6/ب) على تعظيم أمر الوحي حيث شبه الاستماع له بالاستماع بالسلسلة على الصفوان؛ لأن كلام الله عز وجل لا يشبهه شيء. والصفوان: الحجر الأملس. فإذا خرت السلسلة عليها أزعجت القلوب بالرعب. والخضعان: الخضوع والتطامن. وقد دل الحديث على أن كلام الله قول يسمع. وقولهم: (قال الحق) أي كل ما يقوله حق. وأما استراق الشياطين فقد سبق شرحه في مسند ابن عباس وإنما يتبهرج قول الكاهن على من لا يعتبر بعض قوله ببعض فيتبين له الحق من الباطل. - 2254 - الحديث الحادي والتسعون: [عن أبي هريرة قال: أشهد أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صلى في ثوب؛ فليخالف بين طرفيه)]. إنما أمر بهذا لأن المخالفة بين الطرفين أستر للعورة.

- 2255 - الحديث الثاني والتسعون: [أخرجه البخاري تعليقا عن أبي هريرة قال: (من صور صورة، ومن تحلم، ومن استمع يعقب، حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من تحلم بحلم لم يره، كلف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، أو يفرون منه، صب في أذنية الآنك يوم القيامة، ومن صور صورة عذب، وكلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ)]. وهذا قد مضى في مسند ابن عباس وشرح هنالك. - 2256 - الحديث الثالث والتسعون: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أنه رأى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك)]. هذا الحديث بعض حديث المعراج (7/أ) وقد تكلمنا عليه في مسند مالك ابن صعصعة.

(أفراد مسلم من مسند أبي هريرة) - 2257 - الحديث الأول: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا استيقظ أحدكم فيلفرغ على يده ثلاث مرات قبل أن يدخل يده في إنائه فإنه لا يدري فيم باتت يده؟). وفي رواية: (إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده؟). واختلف الرواة في قوله: (حتى يغسلها ثلاثا) فروى قوم: (ثلاثا) وروى قوم: (حتى يغسلها) ولم يقولوا: (ثلاثا). ورواه البرقاني: (إذا كان أحدكم نائما فاستيقظ فأراد الوضوء فلا يضع يده في الإناء حتى يصب على يده؛ فإنه لا يدري أين باتت يده؟). وفي رواية: (إذا استيقظ أحدكم فلا يغمس يده في طهوره حتى يفرغ عليها فيغسلها؛ فإنه لا يدري فيما باتت يده)]. هذا الحديث يقول بوجوب ما تضمنه غسل اليد أحمد بن حنبل رضي الله عنه، ويراه غيره أدبا واستحبابا.

- 2258 - الحديث الثاني: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قفل من غزوة خيبر سار ليلة، حتى إذا أردكه الكرى عرس، وقال لبلال: (اكلأ لنا الليل)، فصلى بلال ما قدر له، ونام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم، فلما تقارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر، فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلال وأحد من أصحابه، حتى ضربتهم الشمس، (7/ب) فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولهم استيقاظا، ففزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أين بلال؟) فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك. قال: (اقتادوا). فاقتادوا رواحلهم شيئا، ثم توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر بلالا فأقام الصلاة، فصلى بهم الصبح، فلما فرغوا الصلاة قال: (من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال: {وأقم الصلاة لذكري}). وكان ابن شهاب يقرؤها للذكرى. وفي رواية: (عرسنا مع نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليأخذ كل رجل برأس راحلته؛ فإن هذا منزل حصرنا فيه الشيطان)، ففعلنا، ثم دعا بالماء فتوضأ، ثم سجد سجدتين). وقال بعض الرواة: (ثم صلى سجدتين، ثم أقيمت الصلاة، فصلى الغداة)].

قوله: (اكلأ لنا الليل) أي: احفظه وراعه. وقد سبق هذا الحديث وشرحه في مسند عمران بن حصين وأنس بن مالك، إلا أنا نشير إليه ها هنا فنقول: إنه إنما لم يصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المكان الذي استيقظوا من النوم فيه فيما أرى من أجل أنه موطن ظهر في فلح الشيطان في ظاهر الحال، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باقتياد الرواحل من تلك البقعة خطوات، ثم صلى مشيرا بذلك إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - فارق الموضع التي فاتت منه الصلاة عن وقتها إلى بقعة أخرى، ليكون كل من جرى (8/أ) عليه شدوة أو غفلة في موطن غضب على نفسه أن ساكنها وعن البقعة التي شده فيها أن يسكنها وعلى أن الشيطان لم يظفر بشيء، فإن الله عز وجل جعل ذلك قدوة وأسوة لكل مصل يفوته الشيطان مثل ذلك بنوم أو سهو. فكان ما شرعه الله عز وجل من قضاء الفوائت التي ينام عنها المسلم أو ينساها غير ناقصة ولا هضمية؛ فأرغم الشيطان بذلك أبدا إلى يوم القيامة في كل مصل، فأراد الشيطان أن يربح أو يفرح بتلك النومة فانقلبت عليه خزيا مستمرا إلى يوم القيامة. - 2259 - الحديث الثالث: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا، ولا يؤذينا بريح الثوم)].

وقد سبق الكلام في هذا الحديث في مسند عمر بن الخطاب، وفي مسند ابن عمر، وفي مسند أبي أيوب رضي الله عنهم أجمعين. إلا أن نشير إليها ها هنا بعدما تقدم ذكره فنقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن أكل الثوم نهيا أشار به إلى كل طالب مجالسته بأن يتنزه عن كل ريح خبيثة؛ لكنه - صلى الله عليه وسلم - أسر إلى الجلساء بهذا القول إلى أنكم إذا أحببتم هذه الشجرة لأجل ريحها؛ فطنتم لكل ما يكون في معناها من عرق الإنسان وأبخرة مغابنه لكن ذلك في أصل الخلقة فلا يذكر فيكون كالمجاهرة بالتصريح في عيب الجليس؛ ولكنه ذكر له النهي عما يأكله اختيارا، فكان هذا (8/ب) الكلام منه - صلى الله عليه وسلم - يفصح عن إكرامه جلسائه، حتى أن هذا القول يشهد له - صلى الله عليه وسلم - أنه هو الكريم لا يشقى به جليسه. - 2260 - الحديث الرابع: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تبتاعوا الثمر حتى يبدو صلاحه، ولا تبتاعوا الثمر بالثمر). وفي رواية: (حتى يبدو صلاحها)].

هذا الحديث قد تقدم في مسانيد جماعة وتكلم عليها. - 2261 - الحديث الخامس: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أريت ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتوها، فالتمسوها في العشر الغوابر). وقال حرملة: (فنسيتها)]. قد تقدم في الكلام في ليلة القدر في مسند أبي ذر، وفي مسند ابن عباس، وفي مسند ابن عمر، وفي مسند عبادة، وفي مسند أبي بن كعب، وقد ذكرنا اختصاصها بالعشر. وقوله في هذا الحديث: (ثم أيقظني بعض أهلي) يدل على أن رؤيته لها - صلى الله عليه وسلم - كانت مناما، إلا أن منامه - صلى الله عليه وسلم - ومنام الأنبياء عليهم السلام وحي ويقظة، وليس هذا مما يدل على امتناع في اليقظة لكل مسلم. - 2262 - الحديث السادس: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تنتبذوا في الدباء، ولا في

المزفت) ثم يقول أبو هريرة: (واجتنبوا الحناتم). وفي رواية: (أنه نهى عن المزفت والحنتم والنقير). قال: قيل لأبي هريرة: ما الحنتم؟ قال: (الجرار الخضر). وفي رواية: (أنه نهى عن المزفت والحنتم والنقير). قال: قيل لأبي هريرة: ما الحنتم؟ قال: (الجرار الخضر). وفي رواية: (أنه قال لوفد عبد القيس (9/أ): (أنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير والمزادة المجبوبة، ولكن اشرب في سقايك وأوكه)]. المجبوبة: المقطوعة. سبق شرح هذا الحديث في مسند ابن عباس وغيره. - 2263 - الحديث السابع: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في مجلس عظيم من المسلمين -: (أحدثكم بخير دور الأنصار؟) قالوا: نعم يا رسول الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بنوا عبد الأشهل). قالوا: ثم من يا رسول الله؟ قال: (ثم بنوا النجار). قالوا: ثم من يا رسول الله؟ قال: (ثم بنوا الحارث بن الخزرج). قالوا: ثم من يا رسول الله؟ قال: (ثم بنوا ساعدة). قالوا: ثم من يا رسول الله؟ قال: (ثك في كل دور الأنصار خير).

فقام سعد بن عبادة مغضبا، فقال: أنحن آخر الأربع؟ - حين سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دارهم - فأراد كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رجل من قومه: اجلس ألا ترضى أن سمى رسول لله - صلى الله عليه وسلم - داركم في الأربع الدور التي سمى؟ فمن ترك فلم يسم أكثر ممن سمي، فانتهى سعد بن عبادة عن كلام رسول الله)]. هذا الحديث قد تقدم في مسند سهل بن سعد. - 2264 - الحديث الثامن: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير)]. الذي أراه في هذا الحديث أن هؤلاء القوم كانت قلوبهم على مثل قلوب الطير رقة لخلق الله ورحمة لعباده، وشفقة على المسلمين، فترى الواحد منهم يرفق بالطفل أكثر من أم ذلك (9/ب) الطفل بالطفل، ويشفق على الغلام أكثر من إشفاق الغلام على نفسه، وهذا على الكهل والشيخ، ثم شرف قلبه

لرحمة الحيوان، وحتى يتحرج من قطع الشجر عينا، حتى إنه لا تؤاتيه نفسه ولا يصلب قلبه على فعل شيء من ذلك. ويجوز أن يكون المراد به أنهم على مثل قلوب الطير من أنها لا تحتجز ولا تدخر؛ بل تغدوا خماصا وتروح بطانا. ويجوز أن تكون قلوبهم على قلوب الطير خوفا من الله في كل شيء حتى إنهم إن أطاعوا خافوا، وإن عصوا وعصى غيرهم خافوا لشدة محاذرتهم على أحوالهم مع ربهم سبحانه وتعالى. - 2265 - الحديث التاسع: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لقد رأيتني في الحجر، وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثلها قط. قال: فرفعه الله تعالى لي أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي، فإذا دخل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي، أقرب الناس شبها عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم، يعني نفسه، فحانت الصلاة فأممتهم، فلما فرغت من الصلاة قال قائل: يا محمد، هذا مالك خازن النار فسلم عليه، فالتفت إليه فبدأني بالسلام).

وفي رواية: (لما كذبتني قريش قمت في الحجر، فجلى الله لي بيت المقدس (10/أ) فطفقت أخرهم عن آياته وأنا أنظر إليه)]. قد سبق هذا الحديث في مواضع، وقد بينا أن الله تعالى رفع له بيت المقدس، وهو بمكة، فوصفه لقريش حتى عرفهم منه من قد كان شاهده، وإنما فعل الله سبحانه ذلك تقوية له وتثبتا لأمره وإتماما لما أراده الله به. وفي أن الصادق الأمين إذا قال القول، وهو صادق فيه عند الله، فاعترض له في ذلك الامتحان له ما لا ينكشف للخلق فاشتد كرب الصادق لذلك وحزبه وعظم عليه من حيث إنه يخاف باختلاف الأمر فيه أن يجحدوا حقه ويكذبوا صدقه، فبلغ ذلك منه المبلغ النائي لقلبه ريثما يفرجه الله عنه ويدركه بصونه فيه بإظهار الحق وإقامة البرهان على صدقه؛ فإن ذلك غير قادح في مقامه عند ربه لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فكربت كربة ما كربت مثلها قط)، وكان - صلى الله عليه وسلم - عالما أن الله يعلم صدقه فيما قاله. - 2266 - الحديث العاشر: [عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (عذبت امرأة في هرة، ربطتها

لم تطعمها، ولم تسقها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض). ومنهم من قال: (من حشرات الأرض). وفي رواية: (دخلت امرأة النار من جراء هرة ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها، ترمرم من خشاش الأرض حتى ماتت هزلا)]. ترمرم: تأكل، ويقال البقر ترمرم من كل الشجر. وخشاش الأرض: هوامها. وقد سبق هذا الحديث في مسند ابن عمر (10/ب) مشروحا. - 2276 - الحديث الحادي عشر: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألم تروا إلى ما قال ربكم؟ قال: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين، يقولون: الكوكب، والكوكب). وفي رواية: (ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين، ينزل الله تعالى الغيث فيقولون الكوكب كذا وكذا)].

هذا الحديث قد تقدم في مسند زيد بن خالد مشروحا، إلا أنا نشير إليه ها هنا فنقول: بعد ما تقدم من قولنا فيه، أن هذا النطق يحذر من أن ينسب إلى الكوكب فعل في شيء أصلا سوى أنها مصابيح وزينة ورجوم للشياطين؛ وليهتدى بها في البر والبحر. وفيه أيضا ما يدل على أن قول المعتقدين إن لها تأثيرا يقضي بالكفر بنطق الماضي؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن ربه تعالى قال: (أصبح فريق من الناس كافرين) يعني يصبحون كفارا؛ إذا أسندوا شيئا من نعمي إلى الكواكب. وفيه أيضا تنبيه على أن الآدمي بلغ من إغضاب ربه، وإسخاط خالقه سبحانه إلى المبلغ الذي لايقوم له السموات والأرض؛ لأنه سبحانه وتعالى ينزل الغيث على عباده رحمة لهم، ونظرا في أحوالهم؛ ليستدلوا بذلك على إحسانه سبحانه، ويشكروا فضله، ويعتبروا رحمته، فلا يكونون من شكل النعمة بحيث يستحق ولا يقفوا على المقام الدون على ألا يشكروا؛ بل تخرجهم تلك النعمة بعينها إلى أن يسندوها إلى غير الله وينحوها افتراء منهم إلى سواه سبحانه (11/أ)، فذلك معنى قوله: (أصبح فريق منهم بها كافرين) وهذا الضمير في قوله: (بها) عائد إلى النعمة. - 2268 - الحديث الثاني عشر: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (سيحان وجيحان، والفرات،

والنيل، كل من أنهار الجنة)]. هذه الأنهار منبعها من عند الله عز وجل، ومطلعها من علمه وقدرته، وهي من الجنة. وقد سبق شرح هذا في مسند مالك بن صعصعة في النيل والفرات. والكلام في سيحان وجيحان كالكلام فيهما، إلا أن الإنسان إذا نظر إلى مادة هذه الأنهار فأنكر أنه ليس عند مطلع كل نهر منها ما يستمد منه ذلك النهر، بل إنها تخرج من عيون مخروقة في الصعيد الذي هو ضد الماء ثم تستمر دفعا وصبا في الأودية ليلا ونهارا، أيقن أنها ما يوجده الله عز وجل حالا فحالا بقدرة تمنع الأعوار فيما يحتاج إليه. كما أنه يعدم الله سبحانه فضلاتها عن أن تملأ ما يصب فيه. فهذه آيات بادية ظاهرة فيكون معنى أنها من الجنة أي إنها من جنس العطاء الذي لا يفرغ، فذلك فيما أرى معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من الجنة) ولا ينفذ. - 2269 - الحديث الثالث عشر: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما

سمع)]. قد سبق هذا في مسند ابن مسعود. نشير إليه ها هنا فنقول: إنه من حدث بكل ما سمع، فإنه يخرج بذلك عن أن يكون من أهل الانتقاد أو التمييز؛ بل يكون حاكيا ما يسمعه على نحو الطيب، وإنما ينبغي للإنسان أن يحدث ببعض ما سمع بعد انتقاده وتمميزه (11/ب)، وذكر النافع منه والصالح وخبر الصادق دون غيره. - 2270 - الحديث الرابع عشر: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الذهب بالذهب وزنا بوزن، مثلا بمثل، والفضة بالفضة، وزنا بوزن، مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا). وفي رواية: (الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما). وفي رواية: (التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، إلا ما اختلفت ألوانه)]. الألوان: الأجناس. قد سبق هذا الحديث في مسند عمر بن الخطاب، وشرحنا علة تحريم الربا

هنالك شرحا نرجو أن يكون لم يسبق إليه، وهذا الحديث مذكور في مسند عبادة بن الصامت قد تقدم. - 2271 - الحديث الخامس عشر: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أيما امرأة أصابت بخورا؛ فلا تشهد معنا العشاء الآخرة). وفي رواية: (إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا)]. في هذا الحديث كراهية الطيب للنساء اللاتي يشهدن الجماعة، فإذا خالفت امرأة وتطيبت فلا تشهد الجماعة حتى يذهب ريح الطيب. وهذا لأنه يوجب الالتفات إليها ويثير الشهوة ويشعر بممرها المطرق عن مثلها والأعمى بما ينبه على نفسها بريحها. - 2272 - الحديث السادس عشر: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)].

إنما لم يجز صلاة بعد الإقامة غير المكتوبة لتحتم المكتوبة. المتحتم: متعين الفعل فلا يقدم عليه غيره. وقد سبق شرح هذا الحديث فيما تقدم. - 2273 - الحديث السابع عشر: (12/أ) [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)]. في هذا الحديث ما يدل على أن المتحابين بجلال الله أي في جلاله، والباء ها هنا بمعنى في، فحروف الصفات تنوب بعضها عن بعض. يظلهم الله في ظله: وذلك أن المتحابين استظلوا في الدنيا بظل الله، وكانوا حزبا وعصبة مستظلين بظله، فهو الذي كان في الدنيا حائلا بينهم وبين حرور الشهوات، وسموم الآفات، واستمر لهم ذلك الظل، وانتقل من المعنى إلى الصورة؛ فأظلهم يوم لا ظل إلا ظله في عرصة القيامة، ثم يستمر الظل عليهم أبدا من غير تقلص بحال إن شاء الله تعالى.

- 2274 - الحديث الثامن عشر: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكتاله). وفي رواية: (أن أبا هريرة قال لمروان: أحللت بيع الربا؟ فقال مروان: ما فعلت؟! فقال أبو هريرة: أحللت بيع الصكاك وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام حتى يستوفى. فخطب مروان، فنهى عن بيعه. قال سليمان بن يسار: فنظرت إلى حرس يأخذونها من أيدي الناس)]. الصكاك: رقاع كانت تكتب لهم بأرزاقهم من الطعام فكانوا يبيعون ما في الصكاك قبل استيفائه؛ فلذلك نهى أبو هريرة. والحديث قد تقدم في مسند ابن عباس وابن عمر والكلام عليه هنالك. - 2275 - الحديث التاسع عشر: [عن سليمان بن يسار قال: تفرق الناس عن أبي هريرة. فقال له ناتل أهل الشام: أيها الشيخ: حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله (12/ب) عليه وسلم. فقال: نعم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن أول

الناس يقضى يوم القيامة عليه، رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت؛ ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن تنفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار)]. في هذا الحديث من الفقه أن هؤلاء الثلاثة فيما أرى: لم تكن أفعالهم إلا ليقال عنهم. فأما لو كانت أفعالهم لأجل الله تعالى؛ ثم عقب ذلك أن يقال جريء وعالم وجواد فسرهم ذلك لم تكن إيثارهم لهذا المدح مما يحل عقدة عزمهم الأول، ولم يكن هذا التوبيخ متناولا لهم؛ لأنه إذا تعلم العالم العلم لله ثم سره أن يقال إنه عالم لم يتناوله هذا الذم، وكذلك المنفق والمجاهد إذا قيل بعد خلوص نيتهما جواد وجريء لم يضرهما إذا لم يكن مبنى قصدهما لذلك.

والذي أرى لكل مجاهد ومعلم (13/أ) للخير ومنفق في سبيل الله عز وجل أن يجتهد في إخفاء ذلك ليسلم أو في إظهاره ليقتدى به؛ فإن عرض له في إحدى الطريقين عارض نزغ من الشيطان أتبعه بالاستغفار والإنابة، والله الموفق لكل مؤمن. والدليل على ما ذهبنا إليه من معنى هذا الحديث الدعاء في نطق الحديث: (ولكنك تعلمت ليقال) فأتى باللام المستغرقة للجزاء عن الفعل، وهو قوله: (ولكنك فعلت ليقال) وهذا لا يدخل فيه من فعل شيئا لله فقيل فيه؛ فسره أن قيل. ويدل على أنه لم يكن في فعله إرادة الله سبحانه بشيء ما ولا مخالطة بحال؛ لأن اللام قد أخبر به عما احتوت إرادته عليه في فعله، ولم يكن في ذلك شيء لله، فلذلك ما كان جزاه الحق أنه لم يكن له في الآخرة من نصيب؛ لأنه لم يكن في عمله شيء لها. - 2276 - الحديث العشرون: [عن أبي هريرة: {ولقد رآه نزلة أخرى} قال: رأى جبريل. وعن ابن مسعود، قال: (رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح)]. هذا الحديث قد تقدم في مسند ابن مسعود.

الحديث الحادي والعشرون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كافل اليتيم، له أو لغيره، أنا وهو كهاتين في الجنة، وأشار بالسبابة والوسطى)]. هذا الحديث قد تقدم في مسند سهل بن سعد وتكلمنا عليه هنالك. وقوله: (له أو لغيره) يعني بقوله له: إذا كان له ولد وقد ماتت أمه فخلفها عليه في لزامها له وحنوها وصبرها على تحرمه واحتمال تعنته. وقوله: لغيره: معناه أن يكون أيضا راحما لليتيم على (13/ب) الإطلاق. - 2278 - الحديث الثاني والعشرون: [عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (سمعتم بمدينة، جانب منها في البر، وجانب منها في البحر؟) قالوا: نعم يا رسول الله، قال: (لا تقوم الساعة

حتى يغزوها سبعون ألفا من بني إسحاق، فإذا جاؤوها نزلوا، فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله فيسقط أحد جانبيها). قال ثور بن يزيد: لا أعلمه إلا قال: الذي في البحر. (ثم يقول الثانية: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيفرج لهم، فيدخلوها فيغنمون، فبينما هم يقتسمون المغانم، إذ جاءهم الصريخ فقال: إن الدجال قد خرج، فيتركوا كل شيء ويرجعون)]. إن هذا الحديث يشير إلى أمر له وقت ينتظر فيه، وقوله - صلى الله عليه وسلم - حق لا بد من كونه كما أخبر. وفيه من الآيات أن القتال كان يكون بالسلاح على قول الشهادة بالتوحيد؛ فصار القتال بها ثابتا غني عن السلاح، فلما افتتح بها كان ذلك أقوى دليل على صحتها. وفيه أيضا إشارة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كل مجاهد في سبيل الله أن لا يستبعد أن يفتح الله الحصون، ويهدم المعاقل، بقول: لا إله إلا الله، والله أكبر. وقوله: (من بني إسحاق) يجوز أن يكونوا من أهل المدن، أسلموا من أهل الكتاب.

- 2279 - الحديث الثالث والعشرون: [عن أبي هريرة قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما، ثم انصرف فقال: (يا فلان: ألا تحسن صلاتك؟ ألا تنظر المصلي إذا صلى كيف يصلي؟ فإنما يصلي لنفسه، إني لأبصر من ورائي (14/أ) كما أبصر من بين يدي)]. هذا الحديث قد تقدم، وسبق الكلام عليه. - 2280 - الحديث الرابع والعشرون: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل معنى حديث قبله، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يا معشر النساء، تصدقن وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار) فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: (تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن) قالت: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين؟ قال: (أما نقصان العقف، فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان

الدين)]. هذا الحديث قد تقدم في مسند ابن عمر. وفيه أيضا من الفقه إشارة إلى أن من كانت حاله حال أهل النار، فإنه فيه دواء من ذلك بالاستغفار وإكثار الصدقة بقوله - صلى الله عليه وسلم - لهن: (تصدقن وأكثرن الاستغفار). - 2281 - الحديث الخامس والعشرون: [عن أبي هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها). وفي رواية: (ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)]. في هذا الحديث من الفقه أن يوم الجمعة أفضل الأيام، وهو واسطة الأسبوع، فمن أحد جانبيه الخميس، ووراءه يومان إلى الاثنين، ومن الجانب (14/ب) الآخر الاثنين، ووراءه يومان، وفيه خلق آدم. وقد تقدم ذكرنا لذلك، وذلك أن المخلوقات من الأرض والجبال والشجر والمكروه والنور والحيوان بعدد الستة الأيام، وكانت الجمعة التي خلق فيها

ساكن الدار. وإن هذه الأشياء خلقت لأجله كما قد تقدم ذكره. وفيه أن آدم أدخل الجنة يوم الجمعة، فأرى أن ذلك يرثه عنه ذريته ومحقق هذه الوراثة في المسلمين منهم؛ فإنهم في كل جمعة يجتمعون لذكر الله سعيا إليه، وتركا للبيع والتجارة فيه، فيثيبهم الله عز وجل عن ذلك بأن يجعل دخولهم الجنة في ذلك يعينه جزاء إعراضهم عن الدنيا وإقبالهم إلى الآخرة فيه، وكما تركوا البيع والتجارة الدنيوية فيه، أورثهم الله فيه تجارة لن تبور. فأما خروج آدم من الجنة في يوم الجمعة فإنه يستشف من هذا أهل الفطن أنه خرج منها خروج عائد إليها، وسكن في الدنيا سكون راحل عنها. فالجنة دار آدم على الحقيقة؛ لأن الله عز وجل قال: {اسكن أنت وزوجك الجنة}، وكذلك لم يقل سبحانه اخرج من الجنة ولكن نسب خروجه منها إلى إبليس، فقال عز وجل: {فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه} وإخراج إبليس غير مستقر لأنه إخراج غير ملل {وقال فاخرج منها فإنك

رجيم} وكان ذلك الخروج الذي لا يعقبه دخول. فأما قيام الساعة يوم الجمعة فإنه يوم الدين، وفيه دولة اليقين، فيوم القيامة (15/أ) ترتفع رايات المسلمين وتنفذ أقوال الصالحين، ويتناوؤن من الكافرين، فكان قيام الساعة في يوم الجمعة جزاء من الله سبحانه لعباد المؤمنين بثوابهم عن الجمعة). - 2282 - الحديث السادس والعشرون: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس)]. وقد سبق هذا الحديث في مسند ابن عمر، وتكلمنا عليه هنالك. - 2283 - الحديث السابع والعشرون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي جل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن

قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان)]. في هذا الحديث ما يدل على أن من المؤمنين القوي والضعيف؛ فإن في كل خير؛ إلا أن المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وذلك لأن المؤمن القوي ينفع نفسه وينفع غيره؛ وربما تعدت منفعته إلى أهله وقومه وإمة دهره. والمؤمن الضعيف قد يقتصر بنفعه على نفسه، وأخاف على ضعفه أيضا أن يضعف على حفظ نفسه؛ ولأن المؤمن القوي يعرضه أن يكسر حزب الشيطان بقوله إذا قال، وبفعله إذا فعل. والمؤمن الضعيف أخاف عليه في مواطن يضعف فيها؛ فيكون كاسرا لحزب الحق، (15/ب) والقوة في الإيمان أن يعمل المؤمن بعزائم الشرع في مواطنها، وأن لا يجبن على الأخذ برخص الشرع في مواطنها، وأن لا يترك المسلمين من يده حفاظا لدينهم، ومهتما بهم، ذكرهم وأنثاهم، عالمهم وجاهلهم، مهتما بتدبير العامة، عالما بأسرار الخاصة، إن كان ذا أمر، وإلا قال لكل ذي لب إنه يصلح أن يكون ذا إمرة. وأما المؤمن الضعيف فعلى ضد ذلك قانعا بأن يسلم بنفسه. فأما قوله: (ولا تعجز) فإنه لا يحسن بالمؤمن أن يعجز؛ وقد بقي في الأمر مطلع لاحتيال. وقوله: (إذا أصابك شيء) يعين إذا احتلت ولم تفد فقد أعذرت ولا يترك

الاحتياط؛ لأن تارك الاحتياط لا يربح إلا الحسرة. وفيه ما يدل على أنه يستحب للإنسان أن لا يكثر من قول: (لو) فإنها تفتح عمل الشيطان، ولكن ليتعض منها بذكر (قدر الله عز وجل ومشيئته)، ونعم العوض ذلك. - 2284 - الحديث الثامن والعشرون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء، أو لتخطفن أبصارهم)]. قد سبق هذا الحديث في مسند أبي قتادة وتكلمنا عليه، ونشير إليه ها هنا فنقول: إن رفع المصلي بصره إلى السماء سوء أدب منه فإنه ممثلا نفسه قائما بين يدي خالقه وليس من الأدب عند الوقوف بين يدي الملك برفع البصر إلى السماء. قال الله عز وجل واصفا أدب نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء بقوله سبحانه: {ما زاغ البصر} أي: ما التفت يمينا وشمالا (16/أ) {وما طغى} أي: ما زاد في الارتفاع. فإذا رفع طرفه إلى السماء في الصلاة فإن ذلك طغيان من طرفه. وكذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: (لينتهين أقوام أو لخطفن أبصارهم). فأما كون عقوبتهم

أن تخطف أبصارهم؛ فإنه من نحو قول جبريل عليه السلام: (لو تقدمت أنملة لاحترقت). - 2285 - الحديث التاسع والعشرون: [عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدرك شيخا يمشي بن ابنيه، يتوكأ عليهما؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما شأن هذا؟) قال ابناه: يا رسول الله كان عليه نذر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اركب أيها الشيخ؛ فإن الله غني عنك وعن نذرك)]. قد سبق في مسند أنس وتكلمنا عليه. - 2286 - الحديث الثلاثون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من عرض عليه ريحان فلا يرده، فإنه خفيف المحمل، طيب الريح). وفي رواية: (من عرض عليه طيب)]. في هذا الحديث من الفقه أن الريحان من أقوات الروح، وليس ذا قذر

فيرده الكريم مثله؛ لأنه إنما يرده لو رده لكراهية الإثابة عليه. أولا بأطيب الريح. والمؤمن يثيره عن الخلتين فلذلك نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رده. - 2287 - الحديث الحادي والثلاثون: [عن أبي هريرة قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشغار). زاد ابن نمير: (والشغار أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك وأزوج ابنتي؛ أو زوجني أختك وأزوجك أختي)]. قد تقدم هذا الحديث في مسانيد جماعة وتقدم الكلام عليه. - 2288 - (16/ب) الحديث الثاني والثلاثون: [عن أبي هريرة قال: (نهى رسول الله عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر)]. وهذا قد تقدم في مواضع إلا أنه قد قيل: إن بيع الحصاة هو أنه كان المتبايعان إذا رمى أحدهما من يده حصاة كان ذلك علامة لتمام البيع، فنهى

عن هذا؛ وأبدلهم الشرع منه الإيجاب والقبول. - 2289 - الحديث الثالث والثلاثون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل: إني صائم). وفي رواية: (إذا دعي أحدكم فليجب؛ فإن كان صائما فليصل، وإن كان مفطرا فليطعم)]. في هذا الحديث من الفقه أنه إذا دعي الإنسان وهو صائم صوما واجبا فليقل: إني صائم. وأما إن كان صائما نفلا فقد جاء في حديث آخر: أنه يفطر، ويقضي يوما مكانه، إلا أنه في قوله: (فليقل إني صائم)، دليل على جواز إظهار العبادة، وفي ذلك تنوير الاقتداء به في ذلك، وليعلم أخوه المسلم أنه ما كان امتناعه إلا لأجل صومه لا لأنه تحرج من أن يأكل طعامه، أو لأنه عازم في أمره على غير الجميل، فلذلك امتنع لأن من عادة العرب ذلك في أنهم إذا أضمروا لأحد شرا لم يأكلوا من طعامه، فلذلك ارتاع إبراهيم من امتناع ضيفه. وقوله: (فليصل) أي فليدع.

- 2290 - الحديث الرابع والثلاثون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تعالى يبعث ريحا من اليمن ألين من الحرير، فلا تدع أحدا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته). وقال بعض الرواة: (مثقال ذرة)]. هذا المذكور في الحديث (17/أ) يتوقع كونه، وهو من علامات الساعة ولا بد من كون ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيجب الإيمان بكونه. وفيه أيضا دليل على أن الله سبحانه وتعالى يرفق بالمؤمنين عند قبض أرواحهم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فيبعث ريحا ...) الحديث. - 2291 - الحديث الخامس والثلاثون: [عن الأغر قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد: أنهما شهدا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده). وفي رواية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر

على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه). وفي رواية: (لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره يوم القيامة). وفي رواية: (لا يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستره يوم القيامة)]. في هذا الحديث من الفقه أشياء منها: أن قوله: (لا يقعد قوم) فإن قوما ها هنا نكرة؛ والنكرة شائعة في جنسها، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول: أي قوم قعدوا (17/ب) يذكرون الله، كان لهم ما ذكر كله؛ فلم يشترط - صلى الله عليه وسلم - ها هنا في (قوم) هنا قوما علماء، أو قوما لا ذنوب لهم؛ أو قوما فقهاء؛ ولا زهادا ولا ذوي مقامات. وقوله: (يذكرون الله) فالذكر ها هنا ينصرف إلى الحمد لله والثناء عليه، فهذا هو الوجه الأظهر، ولا يبعد أن يكون منه أنه إذا قعد قوم فذكروا الله فيما يذكرون أنهم يباينون بذلك قوما يقعدون فلا يذكرون الله. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: (إلا حفتهم الملائكة) ومعنى حفتهم الملائكة أي ضايقتهم

الملائكة من قوله عز وجل: {حافين من حول العرش} فكأن الملائكة قربت منهم قربا لم تترك بينهم وبينهم فرجة تتسع للشيطان. (وغشيتهم الرحمة): في لغة العرب لا تستعمل إلا في شيء يشمل المغشي من جميع أجزائه وجوانبه، والمعنى في هذا فيما أرى أن غشيان الرحمة لهم يكون بحيث يستوعب كل ذنب تقدمه إن شاء الله. وأما قوله: (ونزلت عليهم السكينة) والسكينة: فعليه من السكون، يقتضي المبالغة، وذلك أن أهل ذكر الله على عقيب غشيان الرحمة لهم في ذكرهم لربهم، تنزل عليهم السكينة من الله، فلا ينزعجون لمخيف من دنيا؛ لعلمهم أنه لا يكون إلا تحت قدرة مذكورهم؛ فسكنوا واطمأنت نفوسهم بموعود الآخرة، استدلالا على حصوله بتوفيق ربهم بأن جعل ذكره شعارهم وشغلهم. وقوله: (وذكرهم الله فيمن عنده) فإن قوله - صلى الله عليه وسلم - (18/أ) وذكرهم الله فيمن عنده يقتضي أن يكون ذكر الله لهم في الأنبياء وكرام الملائكة بأن يذكرهم جل جلاله، ويجوز أن يكون معناه وذكرهم الله أي أثبتهم الله فيمن عنده؛ كما يقول الإنسان لأخيه اذكرني في كتابك. وأما التنفيس: فإنه إنما ينصرف في العادة إلى الجزء اليسير من حل عقد فكان ثواب التنفيس عن المؤمن تنفيس كربة عنه يوم القيامة. فأما التيسير على المعسر؛ فإنه أبلغ من التنفيس؛ ولذلك كان ثوابه في الدنيا والآخرة. وأما ستر المسلم فيجوز أن يكون إذا رآه على ذنب يستره أو يكون يستره بما

يحمله على أن لا يهتك ستر نفسه: مثل أن يكون محتاجا إلى النكاح فيتوصل في تزويجه أو إلى الكسب فيقم له وجه بضاعة فيتجر بها. وقوله: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) فإن هذا الإجمال لا يسغ تفصيله الطروس إلا أن منه أن العبد إذا عزم على معاونة أخيه فينبغي أن لا يجبن عن إنفاذ قول إيمانا بأن الله في عونه. ومنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل إن الله في عون العبد لحالة خاصة؛ بل ما دام العبد في عون أخيه؛ فإن الله في عون ذلك العبد المعين على الإطلاق. وقد فسرت ألفاظ هذا الحديث في مواضع سابقة. - 2292 - الحديث السادس والثلاثون: [عن الأغر عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (العز إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته). كذا فيما رأيناه في (18/ب) نسخ كتاب مسلم، وأخرجه البرقاني: (يقول الله: العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني شيئا منهما عذبته)].

قال الخطابي: معنى هذا الحديث أن الكبرياء والعظمة صفتان لله عز وجل اختص بهما لا يشركه فيهما أحد، ولا ينبغي لمخلوق أن يتعاطاهما لأن صفة المخلوق التواضع والتذلل، وإنما ضرت الرداء والإزار مثلا، يقول: - والله أعلم - كما لا يشرك الإنسان في ردائه وإزاره أحد فلا يشركني في الكبرياء والعظمة مخلوق. وأقول: إن متن الحديث قوله: (العز إزاره، والكبرياء رداؤه) وهذا العز معرفة، يعني أنه العز الذي لا ينبغي لغيره. فأما العز فإن المؤمن إذا اعتز بالله كان في الحسن على نحو الخضوع لهيبة الله، وليس الاعتزاز بالله منازعة له سبحانه في العز، بل إيمان بأن العزة له، وثقة بأنه يعز حزبه، وينصر عباده، قال الله عز وجل: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون}. وأما قوله: (والكبرياء رداؤه) فإن ذلك مما ينبغي لكل أحد أن يخرج الكبرياء من جميع أجزائه؛ لأن العبودية منافية للكبرياء؛ بل يخضع العبد لربه ويذل لسيده. - 2293 - الحديث السابع والثلاثون: [عن الأغر عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ينادي مناد: إن لكم

أن تصحوا ولا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبتئسوا أبدا، وذلك قوله عز وجل: {ونودوا أن تلكم الجنة أو ورثتموها (19/أ) بما كنتم تعملون}. وفي رواية: (من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، لا يبتلى ثيابه، ولا يفنى شبابه)]. يبأس وتبأس: لغتان، والمعنى لا يرى البؤس، وهو شدة الحاجة. وقوله: (تبتئسوا) المبتئس: الحزين، وهذا مما ينادى به أهل الجنة إذ أدخلوها؛ ليزيد طيب قلوبهم ويعظم بالنعيم والخلود سرورهم، جعلنا الله وإياكم منهم. وذلك أن الصحة إنما آفتها السقم، والحياة والشباب إنما آفتهما الموت والهرم، والنعيم إنما آفته البؤس. فهي التي كانت تخاف على هذه الأحوال فتنغصها على أهلها إما بحدوثها عليها، وإما بتخويف وقوعها، فلما كانت أول بشراهم في الجنة أن كل ضد كان لنعمة من هذه النعم قد آمنوا وقوعه، كان تناولهم كل لذة على تمام كمالها آمنين من كل مخوف فيها؛ إذ لولا أن يقال ذلك في كل نعمة من هذه النعم لم تصلح أن يكون من نعيم الجنة.

- 2294 - الحديث الثامن والثلاثون: [عن عبيد الله بن أبي رافع قال: (استخلف مروان أبا هريرة على المدينة، وخرج إلى مكة، فصلى لنا أبو هريرة يوم الجمعة فقرأ بعد سورة الجمعة، في الركعة الآخرة: {إذا جاءك المنافقون}. قال: فأدركت أبا هريرة حين انصرف، فقلت: إنك قرأت بسورتين كان علي بن أبي طالب عليه السلام يقرأ بهما في الكوفة، فقال أبو هريرة: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهما في الجمعة. وفي رواية: فقرأ (سورة الجمعة) في السجدة الأولى، وفي الآخرة: {إذا جاءك المنافقون}]. في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله (19/ب) - صلى الله عليه وسلم - إنما قرأ بهاتين السورتين لما في سورة الجمعة من ذكر الجمعة، ولما في سورة المنافقين من ذمهم وتخلفهم عن الجمعة، وعن غيرها من الفرائض تحذيرا من مثل حالهم، والله أعلم. وقال بعض العلماء: إنما سن في يوم الجمعة أن تقرأ سورة الجمعة في صلاتها؛ لأن فيها امتحان اليهود، واعتبار دعواهم، وتبيين كذبهم بتمني الموت؛ وأما سورة المنافقين فلما فيها من ذكر المنافقين والإعلان بالعناء وتبكيت من زعم أنه إذا لم ينفق على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انفض أصحابه من حوله

لقوله سبحانه: {ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون} وامتحان من ادعى العزة وتبكيته وكيده بقوله سبحانه: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون}. - 2295 - الحديث التاسع والثلاثون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك)]. وقد سبق الكلام على فضيلة الإنفاق على الأهل، وأنها مقدمة على الإنفاق في غيرها من جهات الخير في مسند سعد بن أبي وقاص، وفي مسند أبي مسعود الأنصاري، وإنما فضل الإنفاق على الأهل؛ لأن ذلك واجب بخلاف غيره من النوافل، ونشير إليه هنا بزيادة: وإنما فضلت النفقة على الأهل بعدها على الواقع في قلوب الناس؛ فإن المنفق درهما في رقبة أو على مسكين يرى بعين المتطوع المتنفل، ويرى أنه أنفق ما أنفق بفضله، والذي ينفق على (20/أ) أهله إنما أنفق ما كان واجبا عليه وبعيدا عن الحمد عليه، والأعمال إنما تتقرب إلى الله بقدر ما تبعد من الدنيا وتبعد من الله بقدر ما تقرب من الدنيا.

- 2296 - الحديث الأربعون: [عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أو عن أبي سعيد سأل الأعمش، قال: (لما كان يوم غزوة تبوك، أصاب الناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا، فأكلنا وادهنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (افعلوا)، فجاء عمر فقال: يا رسول الله، إن فعلت قل الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (نعم)، قال: فدعا بنطع، فبسطه ثم دعا بفضل أزوادهم، قال: فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، قال: ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير. قال: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبركة، ثم قال: (خذوا في أوعيتكم)، قال: فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلى ملؤوه. قال: فأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة). وفي رواية: (كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسير، فقال: فنفدت أزواد القوم، حتى هم بنحر بعض جمالهم. قال: فقال عمر: يا رسول الله، لو جمعت ما بقي من أزواد القوم، فدعوت الله عليها؟ قال: ففعل، قال: فجاء ذو البر ببره، وذو التمر بتمره، قال: وقال مجاهد: وذو النواة بنواة (20/ب).

قلنا: وما كانوا يصنعون بالنوى؟ قال: يمصونه ويشربون عله الماء، قال: فدعا عليها، حتى ملأ القوم أزودتهم، قال: فقال عند ذلك: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة)]. في هذا الحديث من الفقه أن نحر الظهر عند اشتداد الضرورة جائز، لإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. وفيه أيضا أن العدول عن ذلك لما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جميع الأزواد والدعاء عليها أفضل. وفيه جواز أن يشير على الإمام ذو الرأي والكلمة المسموعة من أصحابه كإشارة عمر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفيه أيضا دليل على جواز الرجوع إلى قول الصاحب عن معاينة الأولى والأجدر، وترك العزم الأول. وفيه أيضا من الفقه جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقية أزواد القوم ليدعوا فيها بالبركة التي لا تخفى منها مكانها ولم ينكر لهم سؤال أطعمه. وفيه أيضا دليل واضح على صحة نبوته - صلى الله عليه وسلم -، فإنه قد دل هذا الحديث على أنه ملئ من ذلك القدر الطفيف كل مزادة في العسكر، وفصلت فضله حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله). وفيه أيضا دليل على أنه يستحب تجديد الشهادة عند تجديد كل نعمة أو ظهور آية؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن على شك من أنه لا إله إلا الله وأنه رسول الله؛ لأنه شهد بالوحدانية ولنفسه بالرسالة عند تجدد هذه النعمة.

* (21/أ) وفيه أيضا أن كل من لقي الله غير شاك في الكلمة لم يحجب عن الجنة. - 2297 - الحديث الواحد والأربعون: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة، في شجرة قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي الناس). وفي رواية: (أن شجرة كانت تؤذي الناس، فجاء رجل فقطعها، فدخل الجنة). وفي رواية: (مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق، فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأدخل الجنة). وفي رواية قال: (بينما رجل يمشي بطريق، وجد غصن شوك على الطريق، فأخره، فشكر الله له، فغفر له)]. * هذا الحديث قد سبق في المتفق عليه من هذا المسند، وتكلم عليه هناك. * وقوله: (يتقلب في الجنة) يعني يذهب منها حيث شاء؛ كما يقال: يقلب المسافر في الأرض. * وفيه أيضا أن الشجرة إذا كانت تؤذي عموم الناس في طرقهم؛ فإنها تقطع

وإن كانت ملكا لواحد منهم من غير إذنه، إلا أن هذا يبني على أن الشجرة تكون قد أحدثت بعد الطريق المسلوك فيها لأنه لم يذكر في هذا الحديث أنها كانت غير مملوكة، بل أطلق فأدخل في الإطلاق ما يملكه الآدميون وما لا يملكونه. - 2298 - الحديث الثاني والأربعون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس)]. * هذه الكلمات قد فسرناها في مسند سمرة بن جندب وأوضحنا الكلام عليها هناك، وفي مواضع قد تقدمت. * ومعنى الحديث: لو كان له ذلك الفقه في سبيل الله كان التسبيح أكبر ثوابا؛ إذ لا يعادل (21/ب) ذكر الله شيء، إلا أني أشير ها هنا مع أنه ما تقدم ذكره إلى التنبيه على حسن هذا الترتيب في النطق بهذا التسبيح فأقول: إن قوله - صلى الله عليه وسلم - (سبحان الله) مبتدئا بها على سائر الكلمات لأنها تنزيه الله سبحانه، فكانت مستحقة للتقديم لأن الثناء إنما يترتب على أس التنزيه نفي لكل ما لا يجوز، فلما انتفت النقائض، وكل ما لا تجوز عليه سبحانه، كان ذلك على نحو إخراج الكفر من القلوب، ثم إيداعها الإيمان بقوله سبحانه: {فمن يكفر بالطاغوت

ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها}، وليكون العاقبة للحق فلما قال العبد: سبحان الله أتبعها حينئذ بالحمد لله. * وفي قول القائل: (الحمد لله) ثناء ممزوج بشكر ومدح من محسن إليه بنعم منها توفيقه لذلك التنزيه المتقدم على هذا الحمد. * فإذا قال العبد بعد سبحان الله: (الحمد لله، ولا إله إلا الله)، كان قوله لها بعد نفي النقائص عن الذات وبعد الحمد نفيا للشركاء والأنداد والآلهة، ثم أتبعها بقوله: (الله أكبر) والله أكبر بعد ذكر لا إله إلا الله في أحسن مواقعها؛ لأنها تشتمل على أن يكون سبحانه أكبر من أن يكون معه إله غيره، وأكبر من أن يحمد سواه وأكبر من أن لا ينزه؛ وكأنها خاتمة النظام. - 2299 - الحديث الثالث والأربعون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)]. * في هذا الحديث من الفقه (22/أ) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم القسم على ما يريد الإخبار به؛ احتفالا منه بذلك؛ وليمهد في كل قلب سامع يحقق ما يريد

أن يخبر به، وذلك أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ثم أتبع هذا بأن قال: (ولا تؤمنوا حتى تحابوا) يعني - صلى الله عليه وسلم - أن الله سبحانه وتعالى قضى بين المؤمنين بالأخوة؛ فكل مؤمن أخو كل مؤمن، وإنما يتميز أخو الرجل من النسب بالميراث؛ الذي كثيرا ما يكون سبب العداوة؛ كما أن المؤمن مع المؤمن قد غرس الله في كل قلب منهما مقتضى الوداد. * إيمان المؤمن بالله يستدعي أنسه بالمؤمن؛ لأنه رفيقه في طريق قليلة السالك ومعينه في ماقط كثير الخصوم، وأمينه على أسراره التي لا يطلع عليها إلا المؤمنون. * فهو يجد منه ضالة، ويكفي منه عونا، ويصادق منه مسلاة وعوضا عن فوائت. فالتحابب في المؤمنين يكثر سوادهم القليل وينعش جرمهم الضئيل. * ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: (أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟: أفشوا السلام بينكم) فأرشد إلى ما يغرس الحب، وهو إفشاء السلام، وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - نبه بأيسر ما يأتي به العبد منها بذلك على ما فوقه. - 2300 - الحديث الرابع والأربعون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا). وفي رواية: (من اغتسل، ثم أتى الجمعة، فصلى ما قدر له، ثم أنصت

حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلي معه غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام)]. * هذا الحديث (22/ب) يتضمن استعمال أدب الجمعة، ويدل على أن الغسل لها ليس بواجب، ويأمر بالاستماع للخطبة، ويحث على القرب من الخطيب، ويحرص على الإنصات. * فأما مس الحصا؛ فإنه يحدث صوتا يلفت بعض الحاضرين عن سماع الخطبة؛ فكأن فاعل ذلك قد تكلم. * وأما قوله: (غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام) فلأن الحسنة بعشر أمثالها؛ فكانت الأيام الثلاثة متممة للعشر. - 2301 - الحديث الخامس والأربعون: [عن أبي هريرة، قال: جاء أناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن نتكلم به، قال: (وقد وجدتموه؟) قالوا: نعم. قال: (ذاك صريح الإيمان)]. * هذا الحديث قد تقدم في مسند ابن مسعود وشرحناه هنالك وبينا أن

صريح الإيمان هو المانع من قبول وسوسة الشيطان. وتعاظم ذلك في نفوسهم هو الإيمان. وقد ذكرناه أيضا في خصال الإيمان وشعبه. - 2302 - الحديث السادس والأربعون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت)]. * أما الطعن في النسب: فإنه من عظائم الذنوب؛ لأنه يوجب القذف، والقذف كبيرة. * وأما النياحة فقد أوضحنا الكلام فيها في مسند عمر بن الخطاب وابن عمر رضي الله عنهما، ومعنى تسمية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخصلتين كفرا (23/أ) فإن الكفر في أصل اللغة: معناه التغطية، وأن الطاعن في نسب إنسان فإنه يريد تغطية الحق في نسبه، فهو يكفر من هذه الجهة؛ وكذلك النياحة فإنها من قبيل التشنيع على القدر وإظهار التسخط لما كان من حكم الله، مع إعراض النائحة عن نعم الله تعالى البواقي، وعما يجب له سبحانه وتعالى من الصبر تسليما لحكمته وحسن نظره لعبده؛ فتكون النياحة كفرا من هذا الوجه.

- 2303 - الحديث السابع والأربعون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خلفات عظام سمان؟) قلنا: نعم، قال: (فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان)]. * هذا الحديث قد سبق في هذا المسند، فهو بعد السبعين والمائتين من المتفق عليه، وقد فسرناه هنالك، وأشير إليه ها هنا فأقول: إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خلفات عظام سمان؟) فلا أراه ذكر الثلاث إلا أنه أقل الجمع فيعني أنه كلما زاد قراءة الآيات من المصلي في صلاته كان له بعددهن من الثواب. * فأما قوله: (أن يجد فيه) فالضمير فيه عائد إلى البيت. والمعنى في ذلك: أن مظنة القراءة والتطويل فيها إنما يكون في البيوت ومما يصلي فيه الإنسان لنفسه دون الجماعات؛ فإن تلك لا يستحب فيها التطويل كهذه.

- 2304 - الحديث الثامن والأربعون: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (المدينة حرم (23/ب) فمن أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل). زاد في حديث سفيان عن الأعمش: (وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم؛ فمن أخفر مسلما، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة عدل ولا صرف). وفي رواية: (ومن وإلى غير مواليه بغير إذنه). وفي رواية: (من تولى قوما بغير إذن مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل)]. * أما فضيلة المدينة وكونها حرما، وذكر من أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا، فقد سبق شرح ذلك كله، فذكرناه في مسند سعد بن أبي وقاص، وفي مسند عبد الله بن زيد الأنصاري، وفي مسند سهل بن حنيف، وأشير إليه ها هنا فأقول: إنما غلظ إثم المحدث بالمدينة من حيث إنه يعتدي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمرأى منه، ويحدث في شريعته بحضرته المقدسة؛ فإن من يعصي ملكا من

ملوك الدنيا يعينه أهون من أن يحضر معصيته في مجلسه أو بحضرته، وقد قيل: إن الصرف: النافلة، والعدل: الفريضة. * وقوله: (ذمة المسلمين واحدة) قد سبق بيانه، وكذلك قد شرحنا قوله: (من تولى قوما بغير إذن مواليه) وبينا أن المراد المنع من ذلك لأن مواليه لا يأذنون أن يتولى غيرهم. - 2305 - الحديث التاسع والأربعون: [عن أبي هريرة قال: أتت فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله خادما؟ فقال لها: (قولي اللهم رب السموات السبع ...). (24/أ) وفي رواية سهيل بن أبي صالح، قال: كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام: أن يضطجع على شقه الأيمن، ثم يقول: (اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، خالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وغننا من الفقر). وكان يروي ذلك عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وفي رواية: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا أخذنا مضطجعنا أن نقول ... وذكر مثله، إلا أنه قال: (أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها). وفي رواية: أن فاطمة رضي الله عنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله خادما وشكت العمل، فقال: (ما ألفيتيه عندنا) وقال: (ألا أدلك على ما هو خير لك من خادم؟ تسبحين ثلاثا وثلاثين، وتحمدين ثلاثا وثلاثين، وتكبرين أربعا وثلاثين حين تأخذين مضجعك)]. * أما ما يرجع من هذا الحديث إلى فاطمة عليها السلام وذكر الخادم، فقد سبق شرحه في مسند علي رضي الله عنه. * وأما ما يرجع إلى القول عند النوم، ففيه من الفقه: أنه ذكر السموات بلفظ الجمع، وذكر الأرض بلفظ التوحيد، ثم جمع ذلك كله بقوله: (رب العرش العظيم) فإن العرش محيط بالأشياء كلها، فهن في جنبه كحلقة ملقاة في أرض فلاة، فدعى - صلى الله عليه وسلم - بالتفصيل والإجمال. * وقوله: (ربنا) (24/ب) أي رب الخلق. وقوله: (رب كل شيء) إجمال يشمل على الصور والمعاني وسائر الموجودات، ثم ذكر مصنوعاته فقال: (فالق الحب والنوى) فإنه إذا نظر ناظر بعين فهمه إلى فلق الحبة والنواة عن سنبلة ونخلة رأى كلا منهما ينغلق عن كمام فيها ودائع من جنس ما أنشئنا منه، فعلم أن فاعل ذلك لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ثم ذكر إنزاله الكتب

فقال: (منزل التوراة والإنجيل والفرقان) فهذه هي الكتب المتأخر نزولها، التي أفضى إليها أمر ما كان نزل قبلها، على أنها تصدق كل ما نزل بين يديها. * وقوله: (فليس قبلك شيء) فالمعنى أنت الأول ولا قبل لك، (وأنت الآخر) ولا بعد ذلك أي شيء بعدك، ويجمع هذا أي جمع قوله عز وجل: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن}. * وقوله: (اقض عنا الدين) فيه دليل على استحباب سؤال ذلك، وسؤال الغني من غير كراهية لذلك. - 2306 - الحديث الخمسون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويلتي، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار)]. * هذا الحديث يدل على فضيلة السجود، ومما يزيد المؤمن رغبة فيه أنه يحزن به الشيطان ويسوؤه. * وفيه أنه يكمد إبليس من حيث إنه الذي كان سبب بعده وطرده هو الامتناع عن السجود؛ فلما وفق الله لذلك المسلمين عند ذكر كل سجود كان أنكأ لقلبه؛ لأنه تجديد لمصابه، فهو كنكأ للجرح.

* (25/أ) وفيه: أن السجود من الملائكة كان لله عز وجل من أجل آدم ومعنى قوله سبحانه: {لآدم} أي من أجل آدم، والدليل عليه قوله عز وجل: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون}. * وفيهم حملة العرش، ومن تتباعد المسافة بين مقامات عباداتهم، فلم يكن سجودهم إلا لله سبحانه، وهذه اللام: لام من أجل، وهذا مما ذكره الشيخ محمد بن يحيى رحمه الله. - 2307 - الحديث الحادي والخمسون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)]. * في هذا الحديث ما يدل على تشديد التحريم لنيل الصحابة بسب أو قذع أو أذى؛ ولقد أتى في هذا النطق ما يخبر أن درجاتهم لا تبلغ تقليل، وأن أحدهم لا يقال له قليل؛ حتى إن أحدنا لو أنفق مثل الأرض ذهبا لما بلغ من جنس

الإنفاق ما يكون مقداره مدا واحدا من الصحابة أنفقه أحدهم ولا نصف ذلك المد، وهذا إنما ضربه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلا في النفقات فيقاس عليه: الصلوات والصيام والحج والجهاد وسائر العبادات؛ فإنها في معناه. * وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لو أن أحدكم) بكاف الخطاب للحاضر المواجه؛ فإنه خطاب في هذه الصورة لأبي هريرة، فينصرف التحذير منه - صلى الله عليه وسلم - لسائر الصحابه؛ ممن رآه - صلى الله عليه وسلم - من أن يسب أفاضل الصحابة الذي تخصصوا بصحابته وكثرة (25/ب) ملازمته، والهجرة معه، والقدم في الإسلام، هذا يكون أشد في النهي عن ذكر الصحابة إلا بالخير لمن جاء بعدهم، لأنه إذا كان من شمله اسم الصحابة ولحقته بركتها وحظي بهذا الاسم الكريم لا يبلغ عمله لو أنفق مثل أحد مد أحد القدماء من الصحابة والفضلاء ولا نصف المد، فكيف لمن جاء بعدهم!. * وفيه أيضا إشارة إلى أن الله تعالى أطلع رسوله على الغيب من أن قوما يجيئون في آخر الزمان وينتقصون أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم، فكان تحذيره كافة أصحابه من ذلك في ضمن قوله: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا) ولم يذكر أنه لو أن أحدكم سب واحدا منهم لم يكفر عنه ذلك كذا وكذا؛ بل رفع طبقة أصحابه من أن تجوز سب أصحابه عنهم؛ ولكن أشار إلى أن لحقا مرتبتهم وبلوغ شأنهم في الفضل ممتنع يستحيل؛ لأن أحدكم غاية أمره أن ينفق مثل أحد ذهبا في سبيل الله، ولو أنفقه لما أدرك به مدا لواحد من الصحابة القدماء ولا نصيفه، فإنا كان هذا حال من يريد أن يبلغ إلى مراتبهم، فما الظن لمن يذهب إلى تنقصهم أن يسبهم مما جاء بعدهم.

- 2308 - الحديث الثاني والخمسون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء)]. * في هذا الحديث من الفقه ما يدل على استحباب الدعاء في السجود. * وفيه ما يدل على أن قرب العبد من ربه، إنما هو عند انتهائه (26/أ) في التواضع إلى غاية وسعه؛ فإن حالة سجود العبد هي غاية ما يناله وسعه من الخضوع بين يدي ربه. - 2309 - الحديث الثالث والخمسون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجوده: (اللهم اغفر لي ذنبي كله: دقه وجله، وأوله وآخره، وعلانيته وسره)]. * كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستغفر ربه جل جلاله بهذا الاستغفار، فإن صح أنه كان قبل نزول سورة الفتح؛ فإن الله استجاب له فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وإن كان بعدها فإن استغفاره شكر لربه عز وجل، واستجابة لرحمته وفضله. * وقوله: (دقه وجله) فإن دق الذنوب يصلح أن يستغفر منه؛ كما يستغفر من

الجل. * وقوله: (وأوله وآخره) هذا طلب لمحو أثر الذنب كله، وأما ذنوب البشر فإنها تعظم لمواجهة الخالق وحده بها، وأما ذنوب العلانية فكشهادة المسلمين بها فاستغفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الكل، ويجوز أن يكون استغفاره هذا لأمته. - 2310 - الحديث الرابع والخمسون: [عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بغزو، مات على شعبة من نفاق)]. * في هذا الحديث من الفقه الحث على الجهاد أو تمنيه؛ لمن لم يمكنه النهوض إليه، فإن لم ينهض فهو على شعبة من النفاق؛ فإن النفاق ضد الصدق، والصدق في أعداء الله تجريد حربهم سرا وجهرا، فشأن المؤمن أن يكون محاربا (26/ب) لأعداء الله إن استطاع ذلك معلنا به، وإلا كان ناويا وعازما عليه؛ فإذا ضرب عن ذلك في جهره، ثم أضرب عنه في سره؛ فإنه على شعبة من النفاق؛ إذ الشعبة قد تؤدي إلى الوادي. - 2311 - الحديث الخامس والخمسون: [عن أبي هريرة يرفعه مرة قال: (تعرض الأعمال في كل يوم خميس

واثنين، فيغفر الله عز وجل لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا إلا امرءا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحان). وفي رواية: (تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين ....) وذكر نحوه. وفي أخرى: (اتركوا هذين - أو اركوا هذين - حتى يفيئا). وفي رواية: (تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر الله لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلى رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: أنظروا هذين حتى يصطلحا). وفي رواية: (إلا المتهجرين). وحكى أبو مسعود: (تفتح أبواب السماء كل اثنين وخميس)]. * سبق النهي عن هجر المسلم أخاه ما قد سبق في مسند أبي أيوب، وفي مسند ابن عمر، وفي مسند أنس رضي الله عنهم. * والشحناء: العداوة، ومعنى (اركوا هذين حتى يفيئا) أي أخروهما حتى يرجعا عن التقاطع، وإنما يؤخر غفران ما بينهما لأجل أن أمرهما لم ينفصل بعد بينهما، وفي هذا تحذير من العداوة واللجاج. وإنما جعل هذان اليومان كالفصلين في الأسبوع، يتقدم كل يوم منهما

يومان، ويتأخر عنه يومان، وتكون الجمعة منفردة بنفسها. * وفيه تنبيه على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (27/أ) أعلم أمته بأن الله يستعرض صحائف الخلق في كل أسبوع مرتين، فيمحو السيئة، ويغفر الهفوة، ويعفو عن الزلة، إلا حالة المتشاحنين؛ فإنه لو غفر أحدهما كان ذلك طيا لحق مشاحنه، فلما كان الأمر بينها واقفا من جهتهما معا وقف الأمر في قضيتهما على ما يفضي إليه حالهما، وكان هذا شديدا في تحذير المؤمن من المشاحنة، وهي أن يطيع كل من المسلمين شحناه في الآخرة، ويتبع حقده ودخله ووتره. * فأما موجباتها فكثيرة، فمنها ما يكون من حسد يبلغ بصاحبه إلى بغض المحسود ومشاحنته، وأكثر ما يعرض هذا في الأقرب نسبا أو حالا أو دارا أو ولاية فالأقرب. * وقد يكون الشحناء عن الكبر؛ فإني رأيت أكثر ما يثير الشر بين المسلمين الكبر؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} يعني حل لطباعه أن تمتد إلى ما تقصر عنه مقاديرهم. ولقد كتبت إلى الإمام المقتفي رضي الله عنه مرة، وأنا في المخزن، فقلت له: إني أخاف أن أكون قد أحللت نفسي منك بمنزلة لم تحلني أنت بها، فاقطع أنا بمقتضى ظني قطعا زائدا، وإذا أقمت أنت أمري على ما أنزلتني فيه من ظنك، كان ذلك المقام متأخرا عن المقام الذي طمعت فيه، فيثبت ذلك فيما بيننا في الأحوال والأقوال، فتعود مسألة خلاف تثير جدلا لا تنطق به الألسن ولا تحتوي عليه الطروس، ولكن تشهد به الأحوال، وتفصح عنه الاتفاقات،

فقد رأيت أن أتداوى من هذا الداء أنني لا أشير إلى مرتبة إلا وأقمت نفسي دونها، ولا أنجذب بطبعي (27/ب) إلى درجة إلا أنزلت نفسي إلى الانحطاط عنها. فالكبر أصل فساد ما عليه الناس، فإن من يتكبر لا يقنع بأن يتكبر هو على الناس نفسه، حتى يعمل على ذلك غيره، فيلوم أهل التواضع فعلهم إياه، من حيث إنهم يظهرون شعارا السنة التي تكسر بدعته، ويحبون منها ما أماته من جهله. والكبر فهو غمط الناس وبطر الحق، هذا هو حده، فليس منه أن يكون الرجل جميل الثوب، طيب الريح، طويل السمت، كريم الجلساء، وإن من جمال ثوب الإنسان طهارته في نفسه، وحله في جنسه، وكونه وفقا للسنة في هيئته، وليس من جماله أن يبالغ في ترقيعه، ولا أن يجعله يسحب من ورائه. * ومن الشحناء: البغي، والبغي يتنوع، وأظهره وأشده الذي يفضي بصاحبه إلى قتال أهل الحقن كما قال سبحانه وتعالى: {فإن بغت إحداهما} الآية. وقد ذكرنا فيما تقدم من ذلك ما فيه وضوح بحمد الله سبحانه. * ومن البغي أيضا أن يبغي الرجل على أخيه، ويرى أن أخاه هو الباغي، وهذا فيه خلاص له من دائه هذا بأن يحكم في علته أمر الشرع، فإن حكم الشرع لصاحبه انقادا، وله قنع.

* وقد بينا أن الشحناء نتيجة الكبر وفرعه، وأن الكبر هو بطر الحق وغمط الناس، ويحتاج إلى بيان هذين الحدين اللذين يحتوي الكبر عليهما لينتهى عنهما؛ فنحيت الشيء من أصله ويحسم مادته من بابه. * فأما بطر الحق؛ فالذي أراه فيه أنه ينبغي للمحق أن يكون في حقه حذرا من أن يتجاوز بنفسه في رؤيته أنه محق، فيبطر بذلك الحق (28/أ) بطرا يظهر عليه في الناس، ويكون على نحو الذنب الذي لا يتوب منه صاحبه؛ لأنه يرى أنه قد استطال بواجب شمخ على الناس بحق، فهذه من آفات المحقين. فينبغي أن يكونوا على نحو من أن يثقل في الميزان انكسارا لمذنبين عند بطرهم هم لحقهم فيسف ويحف بحقهم ببطرهم فيه، ويثقل انكسار المذنبين، ويرزن بتواضعهم فيه. وهذا فإنما يكون السالم منه من وفقه الله في حقه؛ لأن يكون متمنيا أن يبلغ إليه كل مسلم لم يلحق درجته، وأن يرحم من قصرت به قدرته عن لحاقه، وأن هذا من آفات هذا البطر أن يعرض المقصود عمن قصده ولا سيما إذا كان قصده في الدين أو يشرع في تنفير خلق الله عن أبواب الله أو يشدد عليه حكم الله، إذا سأله عنه بغير ما أمر الله به إلى غير ذلك من آفات بطر الحق. * فأما غمط الناس؛ فقد روي ذلك بالطاء والصاد، والمعنيان متقاربان، وكلاهما يعود إلى احتقار الناس، والتطاول عليهم، فدل هذا الحديث الذي نحن في تفسيره أن الله تعالى يغفر في كل اثنين وخميس للعباد إلا للمتشاحنين، والمتشاحنان أن يكون كل منهما ذا شحناء فلا يتناول هذا النطق أن يكون رجل يخاف شر رجل ولا يأمن السوء من جهته، وذلك الآخر غير

خائف منه، كما يخاف الآخر؛ فإن ذلك الخائف لا يزول استحاشة مما يخافه إلا بوجود أمنة منه؛ فلا يكون الخائف أحد المتشاحنين. وكذلك رجل هجر رجل في بدعة ابتدعها في الدين، وهجره لأجل الله تعالى، ولئلا يراه المسلمون زائرا له، (28/ب) ومقاربا سبيله، فيعتقدون صحة ما عليه المبتدع؛ فاستمر على هجرانه ذلك لأجل هذه الحال؛ بعد أن نصحه فلم ينتصح، واجتهد في إصلاحه فلم ينصلح؛ فهجره، فليس ذلك بمشاحن؛ إلا أنه ينبغي له أن يكون راحما له في الباطن، وداعيا له بأن يرحمه الله، ويرده إلى الحقن كما روي عن أحمد رضي الله عنه من الدعاء في ذلك بما قدمناه. * وليس من التشاحن الرجلان يكون بينهما الحكومة أو العرض أو المعاملة فيبغي أحدهما على الآخر كما قال سبحانه: {وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض}. إلا أن هذا في الخلطاء من المؤمنين لا ينبغي أن يبلغ بهم إلى التقاطع والتهاجر؛ بل أحبهما إلى الله أرفقهما بصاحبه، وأيسرهما لأخيه، وأصبرهما على رفيقه لقوله: (يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام). * فأما المتشاحنان الذي ينصرف إليهما إرجاء الغفران؛ فإنهما قد يكونا متحاسدين أو متكبرين أو باغيين أو متقاطعين أو متنافسين أو متماثلين أو متقاربين؛ فليحذر المؤمن من هذه الحالة، وليغفرها لأخيه خائفا أن يفوته

شحناء أخيه ود ومحبة الله لهن وليبادر الفيئة منها؛ فإن من استبدل من محبة الله ومغفرته شحناء أخيه لممن يشمله قول الله عز وجل: {بئس للظالمين بدلا}. - 2312 - الحديث السادس والخمسون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (عليك السمع والطاعة، (29/أ) في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك)]. * قد سبق شرح هذا المعنى في مواضع كثيرة فيما تقدم. - 2313 - الحديث السابع والخمسون: [عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة. فقال: (أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضرك)].

* في هذا الحديث من الفقه أن من كلمات الله التامات قوله للشيء: كن، إذا أراد تكوينه؛ فإذا استعان الإنسان بما عنه تنشأ المكونات كان ذلك حسما لمطالع ما يخافه من المؤذي. * وفي هذا الحديث جواز أن يقول الرجل: لو كان كذا؛ لكان كذا. - 2314 - الحديث الثامن والخمسون: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا جلس أحدكم على حاجته، فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها)]. * هذا الحديث قد تقدم في مسند أبي أيوب، وتكلمنا عليه.

- 2315 - الحديث التاسع والخمسون: [عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر)]. * هذا الحديث يشتمل على دعاء شامل، وهو من جوامع الكلم التي أوتيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * فأما قوله: (أصلح لي ديني) فإنه بدأ بالأهم، وهو الدين (29/ب)، ثم وصفه بأنه عصمة الأمر في الدنيا من الهلكة، وفي الآخرة من النار. * ثم ذكر بعد ذلك الدنيا فقال: (وأصلح لي دنياي) والدنيا صفة لموصوف محذوف، والمحذوف هو الحياة، فإذا قلت الدنيا؛ فمعناه الحياة الدنيا؛ فلما أضافها - صلى الله عليه وسلم - فقال: (دنياي) أضاف الصفة إليه - صلى الله عليه وسلم -. * ثم ذكر العذر في سؤاله إصلاحها؛ بأن قال: (التي فيها معاشي) يعني التي أعيش فيها لأعبدك، ومن المعاش الكسب والسعي في الأرض لاستجلاب الرزق وذلك قد يكون عبادة لله عز وجل، ثم عقب ذلك بأن قال: (وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي) فرتب - صلى الله عليه وسلم - الآخرة بعد الدنيا من

حيث إنها بعدها زمانا ووقتا، ثم ذكرها - صلى الله عليه وسلم - ليكون ذكره لها إيمانا بها وإقرارا بالمعاد إليها، ثم طلب - صلى الله عليه وسلم - ليكون ذكره بعد ذلك كله، أن يجعل الله سبحانه وتعالى الحياة زيادة له في كل خير؛ لأن الحياة إنما يقصد بها المؤمنون أن يزدادوا من الخير عند ربهم جل جلاله. * ثم قال: (واجعل الموت راحة لي من كل شر) فأراد - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل الموت راحة له من كل شر، لا من عبادة الله سبحانه وخدمته، فإن العبادة خير. - 2316 - الحديث الستون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي، إلا كنت له شفيعا يوم القيامة أو شهيدا)]. * قد سبق قبل هذا الحديث بقريب ذكر هذا الحديث وأحلنا فيه (30/أ) على ما شرحناه في مسند سعد بن أبي وقاص وغيره فيما يتعلق بالمدينة. - 2317 - الحديث الحادي والستون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يمينك على ما يصدقك به صاحبك).

وفي رواية: (على ما يصدقك عليه صاحبك). وفي رواية: (اليمين على نية المستحلف)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن الحالف إذا حلف على شيء وتأول في ذلك تأويلا يخرج منه عند نفسه من يمينه لم يبر ولا يكون صادقا إلا أن يكون مظلوما أو مقهورا. فأما إن تأول في يمينه، كرجل قال: والله (بالرفع)، وكان مستحلفه لا يعرف العربية، ولا يعلم أن من شرط القسم أن يكون مجرورا؛ فإذا حلف على هذا الوصف لمن قد ظلمه على اليمين من جورة السلاطين؛ فإن ذلك يضع عنه الحرج في مثل هذه الصورة، فإن كان ظالما فإنه يحنث ويكون كاذبا عند الله. وكذلك لو مر عليه رجل قد هرب من ظالم فرآه ثم سأله الظالم عنه، قال: والله ما رأيته، يريد ما ضربت رئته، والظالم يظن أنه يريد ما رأيته، فإنه لا بأس بمثل هذا في هذه الصورة. - 2318 - الحديث الثاني والستون: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان على جبل حراء، فتحرك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اسكن حراء، فما عليك إلا نبي أو صديق، أو شهيد)، وعليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص.

وكذا رواية مسلم، لم يذكر عليا وزاد سعدا، وكذا أخرجه البرقاني. وقد أخرجه البرقاني من رواية معاوية بن أبي صالح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (30/ب) كان على حراء ومعه أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنهم أجمعين، فتحول الجبل فقال - صلى الله عليه وسلم -: (اسكن حراء فليس عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد، فسكن الجبل). وفي رواية: (كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعلي وعثمان وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اهدأ فما عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد)]. * هذا الحديث قد تقدم في مسند سهل بن سعد، وفي مسند أنس، وذكرنا ما بلغنا أن أبا الحسين بن سمعون رأى في ذلك أن اهتزاز الجبل طربا بهم أو عجزا عن حملهم إلا أن الذي أرى فيه مع استحساني ما ذكره ابن سمعون رضي الله عنه أنه إشارة من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى شهادة لأبي بكر بالصديقية وللباقين بالشهادة، فمن قتل منهم فهو شهيد، ومن مات منهم فإنه لم يمت إلا متمنيا لأن يستشهد في سبيل الله. * وفيه أيضا: أن الصديق أفضل من الشهيد؛ لأنه قدمه عليه، وجعله مرتبة

بين النبوة والشهادة. - 2319 - الحديث الثالث والستون: [عن أبي هريرة، أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، إن وجدت مع امرأتي رجلا أأمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: (نعم). وفي رواية أن سعد بن عبادة الأنصاري، قال: يا رسول الله، أرأيت الرجل يجد (31/أ) مع امرأته رجلا أيقتله؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا). قال سعد: بلى، والذي أكرمك بالحق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اسمعوا إلى ما يقول سيدكم). وفي رواية قال سعد: يا رسول الله، لو وجدت مع أهلي رجلا، لم أمسه حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (نعم). قال: كلا والذي بعثك بالحق؛ إن كنت لأعالجه بالسيف قبل ذلك. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اسمعوا إلى ما يقول سيدكم أنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني). كذا في كتاب مسلم: (لأعالجه). وفي رواية البرقاني: (لمعالجه)]. * هذا الحديث قد تقدم في مسند ابن مسعود وغيره، وبينا فيه أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (والله أغير مني) فإن الله عز وجل على كونه أشد غيرة من خلقه فإنه هكذا

شرع لئلا ينفسح متتابع إلى ما لم يشرعه الله عز وجل مسميا ذلك غيرة. - 2320 - الحديث الرابع والستون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حلف على يمين، فرأى خيرا منها، فليكفر عن يمينه، ولفعل الذي هو خير). وفي رواية: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه). وفي رواية: (أعتم رجل عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم رجع إلى أهله فوجد الصبية قد ناموا، وأتاه أهله بطعامه، فحلف لا يأكل من أجل صبيته، ثم بدا (31/ب) له فأكل، فأتى سول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر له، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليأتها، وليكفر عن يمينه)]. * هذا الحديث قد تقدم في مسند عدي بن حاتم، وفي مسند عبد الرحمن ابن سمرة، وفي مسند أبي موسى، وتكلمنا عليه.

- 2321 - الحديث الخامس والستون: [عن أبي هريرة أنه قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاؤا به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا. اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه)، قال: ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك التمر. وفي رواية: (كان يؤتى بأول الثمر فيقول: (اللهم بارك لنا في مدينتنا، وفي ثمارنا، وفي مدنا، وفي صاعنا، بركة مع بركة). ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان)]. * الوليد: الصبي الصغير، وجمعه ولدان، وإنما دعا عند وجود أول الشيء بالبركة فيه ليكثر، وإنما ناوله الصغير فيما رأى للمناسبة بينهما من أن هذا قريب العهد بالوجود وهذا أيضا؛ ولأن أنفس الصبيان تتوق إلى باكورة الشيء أكثر من غيرهم. - 2322 - الحديث السادس والستون: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا (32/أ) توضأ العبد المسلم -

أو المؤمن - فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء، أو آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كانت بطشتها يداه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيا من الذنوب)]. * قد سبق الكلام على هذا الحديث في مسند عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأشير إليه فأقول: إنه اشترط وضوء العبد المسلم أو المؤمن فعلى هذا أنه إذا تقدم إسلامه أو إيمانه، كان وضؤه بالغا في الفضل ما ذكره - صلى الله عليه وسلم -. * وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (كل خطيئة نظر إليها بعينيه) فإنما ذكره بعضا من كل، وجزءا من جملة ليدل بذلك على الباقي؛ فإنه كما تخرج الخطايا التي نظر إليها بعينيه، وكذلك تخرج الخطايا التي نشقها بأنفه، والتي نطقها بفيه، وعلى هذا المعنى قصد المؤمن بهذا الحديث يكون وجوب المضمضة والاستنشاق أجلى من كونها سنة. - 2323 - الحديث السابع والستون: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلكهم).

قال بعض الرواة: لا أدري أهلكهم بالرفع أو أهلكهم بالنصب)]. * في هذا الحديث من الفقه: أنه ينبغي للإنسان لا يقنط من رحمة الله، ولا يرى أن ظل الجود يقلص عن شمول الخلق، فإذا قال: هلك الناس؛ فإنه قول منذر بيأسه (32/ب) لهم من رحمة الله تعالى، فهو أهلكهم (برفع الكاف). ومن رواه بالنصب فالمعنى أنه هو الذي أهلكهم بزعمه، فأما هم فلم يهلكوا، على أن أخلاق المؤمنين أن يكون المؤمن خائفا على نفسه، راجيا لغيره، بخلاف حال قائل هذا القول، بل لو أبغض معاصيهم وأحب لهم الخير؛ لكان ذلك أصلح لهم وله. - 2324 - الحديث الثامن والستون: [عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كان في سفر وأسحر، يقول: (سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا وأفضل علينا، عائذا بالله من النار (]. * قوله: (سمع سامع) يجوز أن يكون إخبارا على معنى أن حمد الله في أحوال السفر وكلفه، وتوالي النصب، يتضاعف للحامد فيه أجر حمده، فيكون قوله: (سمع سامع بحمد الله) إخبارا، ويكون المراد بالسامع الواحد

من الخلق فما فوقه، فاقتصر على الأقل ودل على الأكثر. * ويجوز أن يكون على معنى الدعاء على معنى قوله: (سمع الله لمن حمده)، فيكون المعنى أنه دعى الله أن يشغله بحمده، حتى يسمع ذلك منه ولو سامع من أنه حمد الله على حسن بلائه عليه في سفره، لأنه مقام ابتلاء واختبار واحتمال شق وضيق أخلاق وتنكر رفقة، ويقل في ذلك الأحوال الحمد، وازداد أن يكون حامدا لله حمدا يسمع منه، ويذكر عنه ولو لم يسمعه إلا سامع، والبلاء ها هنا النعمة. * وأسحر: دخل في وقت السحر؛ فإن ذلك الوقت في الأكثر * ويجوز أن يكون على معنى الدعاء على معنى قوله: (سمع الله لمن حمده)، فيكون المعنى أنه دعى الله أن يشغله بحمده، حتى يسمع ذلك منه ولو سامع من أنه حمد الله على حسن بلائه عليه في سفره، لأنه مقام ابتلاء واختبار واحتمال شق وضيق أخلاق وتنكر رفقة، ويقل في ذلك الأحوال الحمد، وازداد أن يكون حامدا لله حمدا يسمع منه، وذكر عنه ولو لم يسمعه إلا سامع، والبلاء ها هنا النعمة. * وأسحر: دخل في وقت السحر؛ فإن ذلك الوقت في الأكثر وقت الرحيل من المنزل والتوجه إلى منزل آخر. * وقوله: (ربنا صاحبنا) أي (33/أ) احفظنا، ولم يقتصر على نفسه وإنما ذكره بلفظ الجمع، فأرادها صاحبني ومن معي أو من يتبعني إلى يوم القيامة. * (وأفضل علينا): أي إذا أمسك المفضلون في الأسفار فضلهم، وضاقت أخلاقهم، وتنكرت رفقهم، فأفضل علينا أنت. * ثم قال: (عائذا بالله من النار) وعائذا ها هنا منصوب على الحال، والمعنى أقول هذا عائذا، وأراد أن السفر قطعة من العذاب، فذكر بذلك ما يجب الاستعاذة منه، وهذا أشد العذاب، وهو النار. - 2325 - الحديث التاسع والستون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تدخل الملائكة بيتا فيه

تماثيل أو تصاوير)]. * قد مضى هذا الحديث في مسند أبي طلحة وغيره من المسانيد، وتكلمنا عليه. - 2326 - الحديث السبعون: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف، من أدرك أبويه عند الكبر: أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة)]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كرر ذكر إرغام الأنف ثلاثا لمن أدرك أبويه أحدهما فلم يدخل الجنة؛ لأنه قد وجد بوجودهما أو وجود أحدهما بابا مفتوحا إلى الجنة يدخل منه، وهو برهما، أو بر أحدهما؛ فإذا لم

يفعل استحق دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لو امتثل أمر الله في طاعتهما بعد الإيمان به لأحبط ذلك عنه حال السوء، وتضاعف له درجات الخير، فإذا بلغ من الخذلان إلى أنه لم يمتثل أمر ربه في طاعة والديه، ولم يعرف (33/ب) لهما إحسانهما المتقدم من حقه، ولم يلحقه عليهما رأفة حين ضعفهما، يماثل بها رأفتهما عليه حين ضعفه، فقد فاتته ثلاث درجات، فكان قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - رغم أنفه ثلاث مرات كل واحدة منهن في جواب إخلاله بحال توجب عليه برهما؛ الأول: وصية الله إياه في الإحسان إليهما، والثانية: مكافأتهما في إحسانهما إليه، والثالثة: عدم رحمتهما مع الكبر. - 2327 - الحديث الحادي والسبعون: [عن أبي هريرة قال: أرادت عائشة أن تشتري جارية تعتقها فأبى أهلها إلا أن يكون لهم الولاء، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (لا يمنعك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق)]. * هذا طرف من حديث بريرة، وسيأتي شرحه في مسند عائشة عليها السلام. - 2328 - الحديث الثاني والسبعون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تقوم الساعة حتى تزول الروم

بالأعماق - أو بدابق - فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا، قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله، لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم؟ فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا، ويقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الثلث، لا يفتنون أبدا، فيفتحون قسطنطينية. فبينما هم يقتسمون الغنائم، قد علقوا سيوفهم بالزيتون، إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح (34/أ) قد خلفكم في أهاليكم فيخرجون، ذلك باطل، فإذا جاؤوا الشام خرج، فبينا هم يعدون للقتال، يسوون صفوفهم، إذا أقيمت الصلاة، فينزل عيسى بن مريم، فأمهم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته)]. * هذا الحديث يتضمن أمورا غيبية وعد بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا بد من كونها وعد، والإيمان بذلك واجب؛ لأنه خبر صادق. - 2329 - الحديث الثالث والسبعون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا).

وفي رواية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على صبرة طعام، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس. وقال: من غشنا فليس منا)]. * الغش ضد النصح، وإظهار ما ليس في الباطن. * قال الخطابي: ومعنى قوله: (فليس منا): ليس على مسيرتنا ومذهبنا. * وفي هذا الحديث: أن الإمام أو من استنابه الإمام إذا ارتاب أو شك أن بعض الناس له يد عادية في غض المسلمين أو اهتضام لحقوقهم، كان له أن يسأل في ذلك، وأن يبحث، وإن أدى سؤاله وبحثه أن يتصرف في مال المظنون به الغش من غير إذنه تصرفا يتوصل به إلى كشف الغش والغل من غير إضرار، (34/ب) جاز له. ألا ترى إلى غمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده في طعام هذا الغاش من غير إذنه، حتى نالت البلل، وعلى هذا فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له بعد ذلك: (من غشنا فليس منا) يعني (بمن) ها هنا أنه ليس من خاصتنا ونفوسنا؛ إذ ليس مجرد أن الغش مما يخرج به صاحبه عن الإسلام. * وقد ينصرف هذا النطق على أن من غش كل المسلمين فليس من المسلمين، إلا أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا تحذير من جزء الغش وجملته.

- 2330 - الحديث الرابع والسبعون: [عن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: (هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة، ليست في سحابة؟) قالوا: لا. قال: (فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر، ليس في سحابة؟) قالوا: لا. قال: (فو الذي نفسي بيده، لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما). قال: (فيلقى العبد فيقول: أي فل! ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع. فيقول: بلى. فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك كما نسيتني. ثم يلقى الثاني فيقول: أي فل ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ قال: فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك كما نسيتني. ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول: أي رب، آمنت بك وبكتابك ورسلك، وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول: ههنا إذ، قال: ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك، ويتفكر في نفسه: من ذا (35/أ) الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي؛ فينطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، ذلك ليعذر من نفسه. وذلك

المنافق، وذلك الذي يسخط الله عليه)]. * قد سبق شرح قوله: (لترون ربكم). * وفيه من الفقه: أن عدل الله سبحانه وتعالى وإعذاره إلى عباده بلغ إلى أن يقول جل جلاله للواحد من خلقه يا فل! يعني يا فلان باسمه، ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل؟ فيعترف بذلك كله اعترافا لا يمكنه غيره؛ لأن أحوال هذه الأشياء كلها شاهدة عليه. * وترتع: (بالتاء) أي: تنبسط فيما شئت، وتربع (بالباء) أي: تأخذ المرباع، والمرباع ما كان يأخذه الرئيس من الغنيمة، وترأس: أي تكون رئيسا، فإذا حمل هذا الشخص إلى النار كان حمله من جملة كرامات الإيمان في الدنيا؛ لأنه لو كان يتناول العفو من لم يؤمن بالله لكان ذلك مسويا بين الإيمان والكفر تعالى الله عن ذلك، فإذا أقر هذا الكافر على نفسه أنه لم يكن مؤمنا بالله ولا استدل شيء من هذه النعم التي أنعم بها عليه يوما من الدهر على حاله كان ذلك إيضاحا كافيا عند الخلائق، ثم يحمل إلى النار بعدل الله سبحانه وتعالى وحقه. وكذلك الآخر، ثم يجاء بعدهما بالمنافق، وهو الذي يظهر الإيمان ويسر الكفر، فيقرره الله بنعمه، فلا يمكنه جحدها ثم يسأله عن الإيمان به، فيدعي على الله ما لم يكن، فلذلك يقول عز وجل: ها هنا إذن؟ فيجوز أن يكون المعنى ها هنا أيضا أي: إنك قد بهت المخلوقين، ثم تعدى ذلك بك إلى أن بهت

ربك وتجاحده (35/ب)، وأنت تراه وذلك لا ينفع، وهذا تأويل قوله: {يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم} أي: إن فيهم من الجرأة والقحة بين يديه، والجهل به، أنه لا يعلم البواطن، حتى يحلفون أنهم مؤمنون، وهم على كفرهم. * ويجوز أن يكون المعنى: إيمانك ها هنا إذن لا ينفعك، فيكون لا ينفعك محذوفا من قوله: إذن ثم يختم الله على لسانه، وتنطق جوارحه بشهادة قد علمها الله عز وجل قبل نطق الجوارح بها، وإنما يوضح الله بذلك للأنبياء والمرسلين والصالحين من عباده من شاهدي الموقف يوم القيامة عدله وجور عبده. * وقوله: (وذلك الذي يسخط الله عليه) يعني أنه لم يكف المنافق أنه أسر الكفر في الدنيا، حتى أضاف إليه البهت والجحد في الموقف، ولذلك قال: فذلك الذي يسخط الله سبحانه وتعالى عليه. - 2331 - الحديث الخامس والسبعون: [عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر)].

* قد تقدم ذكر فضيلة الأنصار ولزوم محبتهم في مسند أنس وغيره، وقد ذكر ذلك أيضا في شعب الإيمان. - 2332 - الحديث السادس والسبعون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة)]. * هذا الحديث يدل على فضيلة سورة البقرة، وتقديمها على غيرها، وإنها لكذلك؛ فإنها جمعت من أحكام الشرع ما لم تجمعه سورة في القرآن. * وهي مشتملة على صفات المؤمنين، وصفات المنافقين، وشرح قصص بني إسرائيل، والزجر عن السحر والربا (36/أ)، وذكر القبلة والصلاة والصوم والحج والعمرة والطلاق والعدد والديون والشروط والرهن والقصاص، وغير ذلك من الأحكام.

- 2333 - الحديث السابع والسبعون: [عن أبي هريرة، قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة والمرابنة)]. * قد سبق شرح هذا الحديث في مسانيد جماعة قد تقدمت. - 2334 - الحديث الثامن والسبعون: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: (لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، قال: فتساورت لها رجاء أن أدعى لها، قال فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأعطاه إياها، وقال: (إمش، ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك)، قال: فسار علي شيئا، ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ: يا رسول الله، على ماذا أقاتل الناس؟ قال: (قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)].

* هذا الحديث مذكور في مسند سهل بن سعد، وأشير إليه ها هنا فأقول: إنما صرخ بما أراد استفسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يلتفت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون مخالفا لأمره في قوله: (لا تلتفت)؛ ولأن المندوب إلى الشدائد إذا طول وكرر الاستفسار أشعر القول بذلك عن نوع من الجبن وإيثار لتأخير يولجه في الشديدة. - 2335 - الحديث التاسع والسبعون: (36/ب) [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أشد أمتي لي حبا، ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن المؤمنين من أمته إذا ذكر لهم عنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان من مقاماته ومواطن الحروب التي اشتدت، وضيق العيش الذي أصابه - صلى الله عليه وسلم -، وغير ذلك، مما يود كل مؤمن أنه لو كان قد رآه ففاز بالنصر له في الحرب، والمواساة في الشدة، أو السؤال له عما يختلج في صدره من المسائل، أو التعلم منه، أو التبرك برؤيته، إلى غير ذلك، مما فاز به أصحابه دون غيرهم؛ فكل

واحد من المؤمنين يود لو رآه، فلا يبقى له أهل ولا مال، فيؤثر رؤيته على ذلك لقوة إيمانه. - 2336 - الحديث الثمانون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليست السنة بألا تمطروا، ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا، ولا تنبت الأرض شيئا)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الجدب يسمى في لغة العرب السنة، وليس ذلك بألا يقع المطر بل أن يعدم النبات، وذلك أن المطر إذا وقع فإنه يحتمل ما يكون من بوادر أذاه لما يرجى من عموم نفعه في الإنبات، فإذا كان غير منبت انضم إلى أذاه الأول أذى ثان. - 2337 - الحديث الحادي والثمانون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر)].

* (37/أ) في هذا الحديث كراهية الجلوس على القبر، وذلك لأنه ينبغي للمسلم إذا رأى قبرا أن يتعظ به، وينزجر برؤيته. فأما أن يتخذه موطنا لجلوسه أو لراحته، فإنه بخلاف ما وضع له، ويعني بذكر الجمرة أنها لو أحرقت ثوب هذا الرجل، وخصلت على جلده، فأحس بوقعها نفر أن يجلس عليها، وأن جلوسه على القبر لا يخلص إليه فيه ألم يحس به ويزعجه عن مقره ذلك؛ بل هو ألم معقول يكسبه عند الله مذمة وسوء حالة، فكانت الجمرة أهون من هذا. - 2338 - الحديث الثاني والثمانون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا سافرتم في الخصب، فأعطوا الإبل حظها من الأرض، وإذا سافرتم في السنة فبادروا بها نقيها، وإذا عرستم فاجتنبوا الطرق، فإنها طرق الدواب ومأوى الهوام بالليل). وفي حديث جرير: (وإذا سافرتم في السنة فأسرعوا السير)]. * في هذا الحديث من الفقه: تعليم المسافر أن يسافر حين تنوير الأرض، وكثرة المرعى؛ فإنه يستحب له ألا يغذ السير على الظهر؛ ليكون لسيره ذلك بين قطع الأرض برفق، وبين إصابة الظهر من الكلأ. وإذا سافر في السنة يعني الجدب، فإنه يغد السير ليقطع الأرض المجدبة مغتنما بقاء ما في طهره من

النقي، وهو الشحم، وقد عبروا بالنقي عن مخ العظام قبل أن يعطب ظهره في أرض جدبة ليس فيها تخلف على ظهره ما أفناه السير منه. * وقوله: (إذا عرستم) أي: نزلتم في آخر الليل وذلك هو التعريس (37/ب) فاجتنبوا الطرق، يعني الجواد لأنها يستلينها الدبيب، فيسعى فيها، فإذا وقع في الجادة مسافر كان معترضا لنهش الهوام التي تسعى في تلك الجواد. - 2339 - الحديث الثالث والثمانون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس). وفي رواية: (الجرس مزامير الشيطان)]. * في هذا الحديث من الفقه: كراهية الجرس في الرفقة، وذلك فيما أرى أنه منذر بالسيارة في طرقها من يريد بها الأذى من لص أو أذى غارة أو محارب أو غير ذلك، ولأن العادة أن الأجراس لا تجعل إلا في الإبل، والإيل والبغال دون الخيل، فإذا سمع اللصوص صوت الأجراس، تيقنوا أن السالكين ليسوا

على خيل فكان ذلك معرضا لاستضعافهم، ولو لم يكن الجرس كان لتجويز أن يكونوا فرسانا يبعد من الإقدام عليهم. فأما الكلب فإنه إنما يصحب في الأكثر الرعاء وبعض السيارة؛ فإذا دل عليهم بالنباح كان على نحو الجرس. * وقوله: (الجرس مزامير الشيطان) أي إنه يسمعها اللصوص وأهل الفساد فيتسلطون على السيارة. * فأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس) فالذي أراه فيها أنه من الأصخاب، وذلك أنه من سمع نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تعليق الجرس واستصحاب الكلب الذين يشعران بضعف السائرين، فإنه يكون بمخالفته رسول الله صلى الله (38/أ) عليه وسلم في نصحه، قد تعرض لأن لا تصحبه الملائكة الذين يصحبون في الطرق بالعون والسلامة، ويكون هؤلاء خارجين عن الكتبة. وهذا النطق يدل على أن من امتثل وصايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفره؛ فإن الله يصحبه ملائكة يدافعون عنه الأذى، ويؤنسون وحشته، ويكثرون وحدته. - 2340 - الحديث الرابع والثمانون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه)].

* في هذا الحديث من الفقه أن المسلم إنما يبدأ المسلم بالسلام إشعارا أنه في أمن منه. * فأما الكافر وإنه إذا كان في ذمة منه، فقد سبق له منها ما سبق على شروط يحمل عليها يقتضى منه مثلما يقتضى له، فلا ينبغي أن يحدد له ما يجعله في أمر مجدد من غير اشتراط، ولأن البداية للكافر بالسلام مع كونه في ذمة نوع امتناع في استجلاب ود ممن هو بغيض إلى الله والى رسوله، فلذلك لم يجز. * وأما اضطرارهم إلى أضيق الطرق؛ فإني لا أراه إلا غير مقصور على طرق السعي بالإقدام؛ بل في كل الطرق بمقتضى ما شورطوا عليه؛ ليكون ذلك دائم الإشعار لهم بالصغار، وأنهم عند المؤمن في مقام العداوة والبغضاء لكفرهم بالله وتكذيبهم رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون ذلك في طرق السعي بالأقدام وغيرها، كما يقول الرجل للرجل إياك تسلك بي (38/ب) في طرق ضيقة من قول أو غيره. - 2341 - الحديث الخامس والثمانون: [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف). وفي رواية عن أبي هريرة يرفعه قال: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا. والأرواح جنود

مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)]. * أما قوله: (الناس معادن) فقد مضى في هذا المسند وفي غيره. * وأما قوله: (الأرواح جنود مجندة) فالمعنى أنها جنود الله عز وجل مجندة في أرضه فتعين الروح منها بالروح، (فما تعارف منها) يعني بتلك المعرفة أن تكون المعرفة متقابلة من روحين لأن تعارف في معنى تفاعل، والغالب في هذا أن يكون بين اثنين، ويعني - صلى الله عليه وسلم - بتعارف الروحين أنه يقع التعارف بشيء من الأشياء أو قسم من أقسام المعرفة، فذلك التعارف داعية للتآلف؛ لأنه يكون ذلك الشيء المعروف جامعا لما بين الروحين فيأتلفان فيه، كما أنه لو عرف هذا الروح شيئا فأنكره هذه الروح فإنهما يفترقان في ذلك، فمن كان عارفا بالله وقع له الائتلاف مع كل عارف بالله، ومن كان منكرا للحق وقع بينه الافتراق وبين كل عالم بالحق، ووقع بينه الاتفاق وبين كل منكر للحق، فعلى هذا يكون تآلف غير المؤمنين بالسبب الجامع بينهم في الكفر، وتناكر هؤلاء وهؤلاء مع هؤلاء لما ذكرناه. - 2342 - الحديث السادس والثمانون: (39/أ) [عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا قام أحدكم).

وفي رواية: (قام من مجلسه؛ ثم رجع إليه، فهو أحق به)]. * هذا الحديث يدل على احترام المؤمن وإن مكانه قد تلبس لحرمة جلوسه فيه، فكان أحق به، فإذا قام ثم عاد كان أحق بمكانه الذي سبق اختياره له، وتوطيده إياه، وهذا يفهم منه أنه محمول على من قام من مجلسه ففهم الباقون أنه عائد إليه، فيكون في جلوس غيره في مجلسه إشارة إلى أنه قد كان متطلعا إلى مكانه، وقد استراح إلى قيامه فأخذ مكانه. * والذي أرى في هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكره موقظا به فظن الإخوان للتنبيه إلى مراعاة حسن الآداب في الصحبة، ومجانبة كل ما يكلف وجوه الصفا بينهم حتى في هذا. - 2343 - الحديث السابع والثمانون: [عن أبي هريرة، أن عمر بن الخطاب جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعنده نسوة قد رفعن أصواتهن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما استأذن عمر ابتدرن الحجاب - ثم ذكر نحو حديث قبله فيه - فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يعني فدخل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك، فقال عمر رضي الله عنه: أضحك الله سنك يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب) قال عمر رضي الله عنه: فأنت يا رسول الله أحق أن

يهبن، ثم قال عمر: أي عدوات أنفسهن؛ أتهبنني ولا تهبن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلن: نعم، أنت أغلظ وأفظ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (39/ب): (والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان قط ساكنا فجا إلا سلك فجا غير فجك)]. * هذا الحديث قد تقدم هو وتفسيره في مسند سعد بن أبي وقاص، إلا أنا نشير في هذا المكان إليه، فنقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم عمر بما كان من مبادرة النسوة إلى الحجاب عند معرفتهن بإتيان عمر رضي الله عنه واستئذانه، ولو يعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر رضي الله عنه لم يكن عنده من ذلك علم، فلا أرى إعلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر رضي الله عنه إلا ليسر قلبه بأنه من صالحي المؤمنين؛ الذين وعد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه هو سبحانه وتعالى وليه وجبريل وصالح المؤمنين في حالة كانت أيضا من أمر النساء، فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف كانت تلك الحالة موضحة لكلام الله سبحانه وتعالى في ذلك. * فأما قوله: (والذي نفسي بيده) إلى آخر الكلام، فإنه يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر عمر رضي الله عنه أن مقامه وهيبته زادت عن أن يثبت له الشيطان في درب أو طريق أو فلاة حتى قال فجا، والفج قد يتسع إلى القطر من الأرض، وكان من حماية الله لعمر رضي الله عنه أنه إذا سلك فجا هرب الشيطان من ذلك الفج إلى فج غيره، حتى إنه إن كان في فج شرقي هرب الشيطان إلى فج

غربي، أو كان في فج جنوبي أجفل الشيطان إلى فج شمالي وعلى ذلك. * وفي هذا الحديث من الفقه أيضا: تعين طلب العلم على النساء، حتى إذا لم يكن في أزواجهن من العلم ما يكتفين به وقصدن العالم وسألنه؛ فإن هذا الحديث لم يصرح فيه أن النساء اللواتي كن عند (40/أ) النبي - صلى الله عليه وسلم - أزواجا، بل قال: نسوة. نكرة. * وفيه أيضا: أنهن راجعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى ارتفعت أصواتهن عليه، وأنه لما دخل عمر رضي الله عنه ابتدرن الحجاب، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وضحكه يدل على أنه لم يكن ذلك القول في سؤال بفقه ولا ما يجلب مغيظة، بل قد كان في حالة مباثة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مسائل النسوان الفقهية التي لا يسأل عنها العالم إلا في خلوة. * وفيه أيضا: أن سؤال المرأة عن أمر دينها واجب عليها، وإذا لم تصل إلى معرفته إلا بأن تسعى إلى العالم وجب عليها ذلك، إذا حضرت عند العالم فلا يخلون بها من غير امرأة أخرى تكون ذات محرم أو يكلمها في السوق أو في المسجد أو نحوه بحيث لا تتطرق الريبة. وهذا فعلى ما ذكرنا منه، وأنه لا ينبغي أن يصل الأمر فيه إلى أن يفعله كثير من الجهال حتى تقول المرأة للرجل الذي هو غير ذي محرم منها: إني أواخيك، أو يقول الرجل للمرأة الأجنبية مثل ذلك؛ فلا يحل لرجل مسلم أن يخلو بامرأة غير ذات محرم منه.

- 2344 - الحديث الثامن والثمانون: [عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا). وفي رواية: (إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا أربعا). وفي رواية: (فإن عجل بك شيء فصل ركعتين في المسجد، وركعتين إذا رجعت)]. * قد سبق في المتفق عليه (40/ب) من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد الجمعة ركعتين. * قال الترمذي: وبحديث ابن عمر يقول الشافعي وأحمد رضي الله عنهما. وقال إسحاق: إن صلى بعد الجمعة في المسجد صلى أربعا، وإن صلى في بيته صلى ركعتين. * قال الأثرم: الوجه في هذه الأحاديث أن الكل جائز، وهو الذي أراه.

- 2345 - الحديث التاسع والثمانون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من قتل وزغة في أول ضربة فله كذا وكذا حسنة، ومن قتلها في الضربة الثانية، فله كذا وكذا حسنة، لدون الأولى، ومن قتلها في الضربة الثالثة، فله كذا وكذا لحسنة، لدون الثانية). وفي رواية: (من قتل وزغا في أول ضربة كتب له مائة حسنة، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك). زاد بعض الرواة أنه قال: (في أول ضربة سبعين)]. * قد ذكرنا في مسند سعد بن أبي وقاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الوزغ، وذكرنا ذلك في مسند ابن مسعود، وإنما أزاد الأجر على قدر قوة القلب في قتل الوزغ، فإذا ضعف القلب تردد الضارب بين جبن وخور فاحتاج إلى ضربة ثانية وثالثة، وذلك أن الوزغ من ذوات السموم، وقد عده الأطباء فيما يؤذي أو يقتل نهشته.

- 2346 - الحديث التسعون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه)]. * (41/أ) في هذا الحديث من الفقه: أن جزاء الولد للوالد بقدر استحقاقه غير متصور. لما سبق من شرحنا هذا المعنى فيما تقدم، وإنما صور النبي - صلى الله عليه وسلم - صورة نادرة الوقوع، وهي أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه، ليدل على غزارة فضل الوالدين، على أنه اشتراه عتق من غير أن يعتقه. - 2347 - الحديث الحادي والتسعون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر أردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم) شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه)]. * في هذا الحديث: إنذار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنع البلاد الحقوق المضروبة عليها

عصيانا. وقد ذكر أن هذا قد كان، ثم إن الله تدارك رفعه. * وقد سبق هذا الحديث في الحديث السابع والثمانين من إفراد البخاري من هذا المسند، وقد دل هذا الحديث على أن الخراج في العراق قفيز ودرهم، وقد عين الفقهاء القفيز: ثمانية مكاكيك، والمكوك: صاع ونصف، وهذه المقادير المضروبة كلها حقوق لبيت المال في الأرضين. والمدي: مكيال لأهل الشام، يقال: إنه يسع خمسة عشر مكوكا. والأردب: مكيال أهل مصر، يقال: إنه يسع أربعة وعشرين صاعا. - 2348 - الحديث الثاني والتسعون: (41/ب) [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تبلغ المساكن إهاب أو يهاب). قال زهير: قلت لسهيل: وكم ذلك من المدينة؟ قال: كذا وكذا ميلا)]. * في هذا الحديث ما يدل على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه أشار إلى اتساع المدينة وكثرة أبنيتها وكذلك كان، فإنها بلغت مساكنها الموضع الذي ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

- 2349 - الحديث الثالث والتسعون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا)]. * قد سبق هذا الحديث والكلام عليه، والله الميسر. - 2350 - الحديث الرابع والتسعون: [عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أخذ شبرا من الأرض طوقه إلى سبع أرضين)]. * قد تقدم هذا الحديث في مسند سعيد بن زيد.

- 2351 - الحديث الخامس والتسعون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكم ثلاثا، فيرضى لكم أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئان وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بين ما يرضى الله لعبده وما يكرهه منه (42/أ)، فبدأ بالمرضيات فجعل أولها: عبادة الله عز وجل، ثم أتبع ذلك بتوحيده وأن لا يشرك به، ثم عقب ذلك بالاعتصام بحبل الله، وهو اجتماع كلمة المسلمين على إمامهم، وألا يتفرقوا عنه. * وبين سبحانه وتعالى ما يكرهه: وهو قيل وقال، ثم أعقبها بكثرة السؤال فيجوز أن يكون سؤال الناس ما في أيديهم، ويجوز أن يكون السؤال عما لا يعني إلا أنه كره من ذلك الكثرة. فأما سؤال المضطر بقدر الحاجة فهو جائز، وكذلك السؤال عما يعني فإنه متعين.

* فأما إضاعة المال فإنه مكروه، وإنما يتحقق في صورة هي أن يبذل المال فيما لا يكسب أجرا في الآخرة، ولا حمدا في الدنيا، فذلك التبذير، إلا أن كسب الحمد إذا كان لا للاقتداء ولا لمجرد الإيمان، بل لمجرد حب المدح، فإني لا أرى المال فيه إلا ضائعا. * فأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يرضى لكم أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله ولا تتفرقوا) فإن هذه الثلاث المرضيات: كل منها عظيم؛ لأن حبل الله هو الخلافة - كما قدمنا - فإنها تجمع كلمة المسلمين، وتأتلف ذات بينهم، فلما ضم ذلك إلى عبادة الله وألا يشرك به في جملة القسم الذي يرضاه لعباده، استدللنا بذلك على عظيم شأن الاعتصام بحبل الله. * وكذلك لما ذكر المكروهات، بدأ يقيل وقال، أما (قيل): فإنه قد تحيل الناطق فيه على قائل غير مسمى، وأما (قال): فإن الناطق يحيل فيه على ناطق مسمى، وقد (42/ب) تكون اللفظتان، وهما (قيل) و (قال) على معنى واحد، وهو كثرة القول من غير تمييز، والرواية عن كل ما حدق، والحكاية لكل من يسمع، وأن يقنع الإنسان من الأعمال بالأقوال. * وأما كثرة السؤال؛ فإنه قد مضى شرحه، كذلك إضاعة المال إلا أن منه أن يهمل الإنسان خدمة فرسه، والقيام على بعيره وشأنه، وتعليم عبده وأمته وغير ذلك.

- 2352 - الحديث السادس والتسعون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما تعدون الشهيد فيكم؟) قالوا: يا رسول الله، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: (إن شهداء أمتي إذن لقليل) قالوا: فمن هو يا رسول الله؟ قال: (من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد). قال ابن مقسم: أشهد على أبيك في الحديث أنه قال: (والغريق شهيد)]. * قد سبق هذا الحديث في مسند عبادة بن الصامت، وتقدم الكلام عليه. - 2353 - الحديث السابع والتسعون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا).

وفي رواية: (يوشك إن طالت بك مدة، أن ترى قوما في (43/أ) أيديهم مثل أذناب البقر، يغدون في غضب الله، ويروحون في سخط الله)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعد بأن هذين الصنفين يكونان في أمته، يأتون بعده، فلذلك قال: (لم أرهما) ثم ميز وصف هؤلاء من هؤلاء، فقال: (قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس). * وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ذكر أن هذا من وصف أهل النار؛ إذا كان ضربا للناس بالسياط؛ فكيف في ضربهم بالعصي، التي على مثال أعمدة الفساطيط والسيوف، فإنا لله، لكن هذا إنما ينصرف إلى ضرب في باطل ومتابعة الهوى، ولا يتناول هذا الضرب في الحدود ولا في التعزير الشرعي. * وقوله: (ونساء كاسيات عاريات) يعني به اللواتي يتبوقن في تخفيف

القمص حتى تتبارين أيتهن أخف ثوبا، حتى إنهن لا يرين الرفيع منه إلا يصف البشرة، فهن الكاسيات العاريات. * وقوله: (مميلات) يعني أنهن يملن فتنة الناس إليهن ويملن هن إليهم. * وقوله: (رؤوسهن كأسنمة البخت) يعني أن شعورهن غير مفروقة، لأن الفرق للعرب، ولعلهن يصلن بشعورهن شعورا قد قطعت من رؤوس أخر؛ فتعظم لذلك رؤوسهن. - 2354 - الحديث الثامن والتسعون: [عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه، فإنه لا يدري في أيتهن البركة)]. * هذا الحديث (42/ب) قد تقدم في مسند ابن عباس، وفي مسند أنس بن مالك، وفي مسند كعب بن مالك، وقد تكلمنا عليه. - 2355 - الحديث التاسع والتسعون: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يجتمعان في النار اجتماعا

يضر أحدهما الآخر). قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: (مؤمن قتل كافرا ثم سدد). وفي رواية: (لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن المؤمن إذا قتل كافرا في سبيل الله، ولأجل الله؛ فإن الله سبحانه وتعالى أكرم من أن يجمع بينه وبين من قتله فيه في دار واحدة، وقد علم سبحانه أنه إنما عاداه لأجله جل جلاله، فلو قد رآه معه في دار الخزي لكان، وإن لم ينطق الكافر بلسانه؛ فإنه حاله كانت تقول: ما الذي قتل به في الخزي، وكلانا في دار الهوان، وقد كنت قتلتني في الله. * وقوله: (اجتماعا يضر أحدهما الآخر) كذا روي في الحديث، ولعله ينظر أحدهما الآخر؛ فإن كان للمؤمن خطيئته أوجبت له دخول النار بعد ذلك المقام؛ فإنه يكون في مكان لا ينظر إليه الكافر، لئلا يشمت به، ولو حملناه على ما روي كان الضرر أن يشمت به ويعيره ويفسره. * قوله: (لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا) فإن كان ولا بد من دخول القاتل النار، كان في مكان لا يراه الكفار، إلا أن هذا الحديث مما يدل على أن المؤمن لا ينبغي له أن يجبن عن قتل الكافر (44/أ) لأن الله سبحانه قال: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون} وتنبيها بذلك أن قتل المؤمن الكافر متقدم على أن يقتل الكافر المؤمن.

- 2356 - الحديث المائة: [عن أبي هريرة قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نهض في الركعة الثانية، استفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين، ولم يسكت)]. * هذا الحديث يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يشتغل في الركعة الأولى بالاستفتاح، فأما الثانية فإنه لما لم يكن فيها استفتاح؛ كان يستفتح بالحمد. - 2357 - الحديث الأول بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من سأل الناس أموالهم تكثرا، فإنما يسأل جمرا، فليستقل أو ليستكثر)]. * قد سبق الكلام في ذم المسألة في مسند الزبير، وفي مسند ابن عمر. وهذا الحديث وارد فيمن سأن وهو غني، فإن الذي يناله جمر كما قال عز وجل: {إنما يأكلون في بطونهم نارا}.

- 2358 - الحديث الثاني بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره الشكال من الخيل)]. * قال سفيان: والشكال أن يكون الفرس في رجله اليمنى بياض، وفي يده اليسرى، أو يده اليمنى، أو رجله اليسرى. * قال أبو عبيد: الشكال أن يكون ثلث قوائم من الفرس محجلة، وواحدة مطلقة، أخذ من الشكال الذي تشكل به الخيل. * والذي أراه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكره شيئا من خلقة الله عز وجل، ولعله كان يؤثر غير هذه (44/ب) الصفة، فظن أنه كان يكرهها، ولا أراه إلا أن الحافر إذا كان تسور عن قائمة سوداء تسور فإنه أصلب على مصالة الأجسام القوية، وإذا كان الفرس محجل الأربع أو الثلث وهو الذي فيه الشكال، فإن حوافره أو الأكثر منهن بيض في قوائم بيض، فيكون الحافر رخوا، فلا يثبت على مصالة الأجسام الصلبة. وهذا هو مذكور معروف في صفات الخيل، فإذا أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإيثاره من الخيل ما كان صلب الحافر؛ ليكون اختياره - صلى الله عليه وسلم - أكرم الاختيار، كما أن القنا وهو اعوجاج الأنف، والفطس: وهو انقعاصه مكروهان في صفات

الخيل؛ لأن العوج في الأنف بالإحديداب أو الانقعاص يطول مسافة مجرى النفس في حالة الجري، غير متمكن القلب من نيل الهواء كل التمكن، فيقصر بمقتضى ذلك. وكذلك فإنه إذا قصر شعر سيب الفرس أو قل أو شعر أعرافهن كره ذلك في صفات الخيل؛ لأنه يدل على ضعف أعضائها، التي هي ربط مفاصلها عند حركات الجري، وإذا زاد ذلك دل على عرر جوهر العصب، وكما أن ظهور الحجبتين، وهما رأس الوركين، يستحب في الصفات؛ لأنه يدل على طول رجل الفرس، وطول رجل كل عاد معين له في الجري. وكما احديداب الضلوع يستحب في صفات الخيل؛ لأن ذلك يدل على سعة المحزم، فتكون رئة الفرس عند انتشاقها الهواء إذا كانت في مكان يضيق عنها انبهرت، وإذا كان المكان واسعا تمكنت من استيفاء الهواء، ولذلك إذا كانت الأرساغ قصارا عراضا استحب ذلك؛ لأنه كلما قصر (45/أ) الرسغ وعرض اشتد، وهو حامل الفرس، وحامل ما يحمله الفرس. وكذلك إذا كان المبسح عاليا صحيحا شديدا استحب ذلك في صفات الخيل؛ لأنه يدل على قوة خرزة الظهر التي يتحمل بها الفرس. وكذلك إذا عرض المتنن وهو من خرزة الصلب ما بين أواخر الضلوع على كفل الفرس، فإنه يستحب في صفات الخيل جدا، وذلك أنه يدل على قوة خرزة الصلب وعرضها في أحرج ما كانت من الأمكنة إلى العرض فيه. وكذلك إذا احتد المنكب وبرز الصدر استحب ذلك في الفرس؛ لأنه يدل

على أن القلب في مكان واسع مع كون مؤخر العضدين يحفظ من المحزم ما يخاف انبهاره. وكذلك يستحب طول العنق وقصر الظهر في صفات الخيل. فأما طول العنق فليسهل الجري؛ لأن الفرس كالقفان فإذا عظم عنقه حدب باقيه. وأما قصر ظهره فليكون معينا في الجري أيضا، وليكون أشد وأقوى، إلى غير ذلك من صفات الخيل. فلا أرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يؤثر الشكال في الخيل إلا على ما ذكرته، ولأن الشكال أيضا لا يكره أن لو كانت القوائم الأربع بيضاء كما يكره لو أن بعضها بيض وبعضها سود؛ فإن ما ذكرناه فيما تقدم يدل على أن الأرض تأكل من الحافر الأبيض ما لا تأكل من الحافر الأسود؛ فيكون الاختلاف في قوامها معرضا للعثار لأجل الاختلاف. - 2359 - الحديث الثالث بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم أو ليلة؛ فإذا هو بأبي بكر (45/ب) وعمر، فقال: (ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟) قالا: الجوع يا رسول الله، قال: (وأنا، والذي نفسي بيده؛ لأخرجني الذي أخرجكما، قوموا). فقاموا معه فأتى رجل من الأنصار، فإذا هو ليس في

بيته، فلما رأته المرأة، قالت: مرحبا وأهلا، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أين فلان؟) قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه ثم قال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني، قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا، وأخذ المدية، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إياك والحلوب) فذبح لهم، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق، وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: (والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم)]. * في هذا الحديث من الفقه: وجوب السعي إذا اشتدت الضرورة؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما اشتدت ضرورته نهض ساعيا في سدها، ووافق ذلك من نهوض أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لمثله ما وافق. * وفيه أيضا: دليل على جواز دخول بيت الصديق من المؤمنين على مثل هذه الحالة، وإن كان غير حاضر. وفيه أيضا: استحباب مبادرة الضيف بما حضر، وإن كان الضيف كريم القدر، ألا ترى إلى الأنصاري كيف بادر بعذق كان عنده (46/أ) متقادم

العهد، حتى اجتمع فيه الرطب والتمر والبسر، وضيفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصديق والفاروق رضي الله عنهما. * وفيه أيضا: جواز أن يمنع صاحب المنزل من ذبح حلوبه، وهي ذات الدر واللبن إذا كانت الضرورة يسدها لبنها فحسب، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إياك والحلوب). * وفيه أيضا: دليل على أن مثل هذا النعمة التي تعقب الله بها تلك الشدة مما يسأل الله تعالى عن شكره لزوال الشدة بهذه المواهبة مع سوق الثواب إلى المؤمن فينفعه الله به، وينفع بهذه الآداب كل من سمعها إلى يوم سمعها إلى يوم القيامة؛ فكانت هذه من النعيم الذي يسأل الله عز وجل عنه. * وفيه أيضا: دليل على أن كل نعيم يأتي بعد شدة؛ فإنه يعظم وقعه ومبلغه ومبلغ من الطيب مكانه فيتعين الزيادة في شكر الله عز وجل عليه يحتسب زيادته في جنسه، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: (لتسألن عن هذا النعيم) يعني وجود النعيم على أثر تلك الضرورة. - 2360 - الحديث الرابع بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تقيء الأرض أفلاذ كبدها، أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول: في هذا قتلت، ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول: في

هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا)]. * في هذا الحديث يدل على أن الأرض قبل (46/ب) طيها تقيء أفلاض كبدها، أي تخرج الكنوز المدفونة فيها، والفلذ: القطعة من كبد البعير، وذلك ليرى كل من عصى الله في شيء ذلك الشيء مشاهدا بعينه، ولا يصلح له يومئذ؛ ولا يغني عنه نقيرا، فيقول القائل: في هذا قتلت، ويقول السارق: في هذا قطعت يدي، وذلك كالندب على النفس بهذا القول. * وقوله: (فلا يأخذون منه شيئا) يزيد أنه لا ينفع حينئذ؛ وقد رأوا عاقبة أخذه كيف كانت. - 2361 - الحديث الخامس بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن الفواحش قد تغلظ في صورة معينة؛ كما أن

الزنا من كل أحد قبيح، ولكنه من الشيخ الذي قد ضعفت قوته وعدمت أو كادت شهوته، أقبح. والكذب من كل أحد قبيح، إلا أنه من الملك الذي لا يخاف إذا صدق ولا يبالي بأحد إذا هو صدع بالحق، أقبح. وكذلك الكبر من كل أحد قبيح، إلا أنه من العائل، أي: الفقير الذي ليس من أحواله ما يناسب الكبر، أقبح، فكانت هذه المعاصي في حق هؤلاء أغلظ منها في حق غيرهم، لهذه المعاني التي بيناها؛ فلذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم). - 2362 - الحديث السادس بعد المائة: (47/أ) [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أيها الناس، إن الله طيب، لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، قال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم}. وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم}. ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟)].

* في هذا الحديث من الفقه ما يدل على أن الطيب هو الذي يطيبه الشرع؛ لأكله بالإباحة والحل، وإن كان ليس طيبا في الطعم، فإذا أنفق العبد نفقة طيبة، كانت هي التي تزكو وتثمر، وإذا أنفق نفقة لم يطبها الشرع؛ فإنها إن كانت من عصب فهي على ملك صاحبها، فتصدق الغاصب بها لم يؤجر عليه؛ بل يكون آثما بالتصرف فيها. * وأما ذكر: (الأشعث الأغبر) فالمراد به من يحج أو يغزو أو يسافر فيما دون ذلك، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، فإنه لا يجبره شعثه وغباره من إثم مطعمه ومشربه، فيرفع يديه فيقول: يا رب يا رب فأنى يستجاب لذلك، أي: كيف يستجاب له، ومتى يستجاب له، والقوة التي مد بها يديه نشأت عن مخالفة وعصيان. - 2363 - الحديث السابع بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم. فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل (47/ب) ذلك، لأطأن رقبته، أو لأعفرن وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، وهم ليطأ على رقبته، قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه. قال: فقيل له: مالك؟ قال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا). قال: فأنزل الله عز وجل - لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه: {كلا إن الإنسان ليطغى (6) أن رآه استغنى (7) إن إلى ربك الرجعى (8)

أرأيت الذي ينهى (9) عبدا إذا صلى (10) أرأيت إن كان على الهدى (11) أو أمر بالتقوى (12) أرأيت إن كذب وتولى (13) ألم يعلم بأن الله يرى (14) كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية (15) ناصية كاذبة خاطئة (16) فليدع ناديه (17) سندع الزبانية (18) كلا لا تطعه} قال: وأمره بما أمره به)]. * في هذا الحديث ما يدل على آية كاملة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن الله سبحانه وتعالى حماه من كيد الكفار بما ذكر، مما أراه الله إياه من خنادق النار وأجنحة الملائكة. * وقوله: (لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا) مما يشد قلوب المؤمنين، وأن الله سبحانه وتعالى أخر ذلك عن الكافر إلى يوم بدر نقلا إلى أيدي المؤمنين ليسلمه الله سبحانه للمؤمنين ليواف قتله يوم بدر، فنزلت فيه هذه الآيات. * وقوله: (هل يعفر وجهه) أي: يلصقه بالتراب، ويقال للتراب: العفر. - 2364 - الحديث الثامن بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (48/أ): (ضرس الكافر - أو

ناب الكافر - مثل أحد، وغلظ جلده: مسيرة ثلاث)]. * في هذا الحديث من الفقه ما يدل على أن الله تعالى يعظم جثة الكافر، وبقدر ما يعظم جثته يعظم عذابه، كما أن المؤمن يعظم جثته فيعظم نعيمه ولذته، وذلك لأنه ليس جزء من الأجزاء، إلا وهو يقبل الماء على حدة، فكلما انبسط جلده وجسمه، كان العذاب في كل شيء من ذلك بحسبه فلا يقي جزء عن جزء، ولا يمنع من ألم جزء، وكذلك في النعيم. - 2365 - الحديث التاسع بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من تطهر في بيته، ثم مضى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة)]. * هذا الحديث قد تقدم في مسند ابن مسعود وشرحناه هنالك.

- 2366 - الحديث العاشر بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمه عند الموت: (قل لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة)، فأبى، فأنزل الله عز وجل: {إنك لا تهدي من أحببت ...} الآية. وفي رواية: أنه قال لعمه: (قل لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة)، قال: لولا أن تعيرني قريش. يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها عينك، فأنزل الله عز وجل: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}]. * في هذا الحديث ما يدل على أنه لا يكون إلا ما يريده الله عز وجل، فإن (48/ب) النبي - صلى الله عليه وسلم - حرص على إيمان عمه، فلما لم يرد الله ذلك لم يكن. * وغلط أبو طالب في موضعين عجيبين، أحدهما قوله: (لولا أن تعيرني قريش)، فترك الحق خوفا أن يعير، ثم قال: (لأقررت بها عينك)، فأراد أن يقولها - لو قالها - لأجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا لأنها عنده حق، فلذلك لم يوفق.

- 2367 - الحديث الحادي عشر بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء)]. * هذا الحديث قد تقدم في مسند ابن مسعود، وفي مسند ابن عمر، وسبق الكلام عليه. - 2368 - الحديث الثاني عشر بعد المائة: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن (لا إله إلا الله) هي العاصمة للدم في الدنيا لك من قالها، فإذا قالها القادم على الآخرة رجاء أن تكون عاصمة له من عذاب الآخرة، كما كانت عاصمة من عذاب الدنيا؛ ولأن تكون آخر كلمة يقولها في الدنيا. * وفي الفقه: أنه لو قد بهت الإنسان عند الموت أو شده عن قول: (لا إله إلا الله) حتى لقنه ملقن فقالها، كتبت له كما لو قالها من غير تلقين.

- 2369 - الحديث الثالث عشر بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فقال: (يا عائشة، ناوليني الثوب)، فقالت: إني حائض، فقال: (إن حيضتك ليست في يدك)]. * في هذا الحديث ما يتضمن مخالفة اليهود في اجتنابهم (49/أ) الحائض على كل حال، فبين - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما تجتنب من الحائض مكان الحيض لموضع النجاسة فحسب. - 2370 - الحديث الرابع عشر بعد المائة: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في ركعتي الفجر: ({قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد})]. * قد سبق الكلام في فضيلة السورتين، وسبب تفضيلهما: ما اشتملتا عليه من نفي الأنداد وإثبات التوحيد.

- 2371 - الحديث الخامس عشر بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: خرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أقرأ عليكم ثلث القرآن)؟ فقرأ: {قل هو الله أحد (1) الله الصمد}، حتى ختمها. وفي رواية: قال: (احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن)، فحشد من حشد، ثم خرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ: {قل هو الله أحد}، هم دخل، فقال بعضنا البعض: إني أرى هذا خبر جاءه من السماء، فذاك الذي أدخله، ثم خرج نبي الله فقال: (إني قلت: سأقرأ ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن)]. * قد سبق شرح هذا في مسند أبي الدرداء، وبين كيفية كونها ثلث القرآن.

- 2372 - الحديث السادس عشر بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي)]. * في هذا الحديث: النهي عن الاستغفار للمشركين، وقد دلت عليه الآية، وهي قوله تعالى: {ما كان للنب والذين (49/ب) آمنوا أن يستغفروا للمشركين}. فأما زيارة القبر فإنها عظة وتذكرة. - 2373 - الحديث السابع عشر بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أصبح منكم اليوم صائما؟) قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. قال: (فمن تبع اليوم منكم جنازة؟) قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. قال: (فمن أطعم اليوم منكم مسكينا؟) قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. قال: (فمن عاد منكم اليوم مريضا؟) قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما اجتمعن

- 2374 - الحديث الثامن عشر بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: تذاكرنا ليلة القدر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أيكم يذكر حين طلع القمر وهو مثل شق جفنه)]. * الشفق: النصف، والجفنة: جفنة الطعام، شبه القمر فيما بعد العشرين بشق الجفنة، وقيل: أراد به ليلة سبع وعشرين. - 2375 - الحديث التاسع عشر بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه رجل، فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنظرت إليها؟) قال: لا. قال: (فاذهب فانظر إليها؛ فإن في أعين الأنصار شيئا). وفي رواية: (أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هل نظرت إليها؟ فإن في عيون الأنصار شيئا)، قال: قد نظرت إليها. قال: (على كم تزوجتها؟) قال: على أربع أواق. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إلى أربع أواق؟، كأنما تنحتون من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه)،

قال فبعث بعثا إلى بني عبس، فبعث ذلك الرجل فيهم]. * في هذا الحديث من الفقه: أن النصح لكل مسلم متعين، ومن ذلك (50/ب) أن يرشد المسلم المسلم إلى ما يأمن معه الندم، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنظرت إليها؟) فلما قال: لا، قال: (انظر إليها). * وفيه: أن المسلم إذا علم في زوجة ليزوجها رجل مسلمن أو مبيع يشتريه، أو معامل يعامله، ما لو علمه المتزوج أو المبتاع لم يفعل، وجب عليه أن يطلعه على ذلك ويعرفه إياه. وكذلك إن كان قد يكون فيه ذلك الشيء وقد لا يكون فيه، إلا أنه قد يكون فيه غالبا، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإن في أعين الأنصار شيئا)، وهذا يدل على أنه لم يتيقن ذلك الشيء في جميع الأشخاص ولكن أراد الغالب، وكذلك في المبيع وغيره. * وفي هذا الحديث ما يدل على أن السنة أن ينظر الرجل إلى الزوجة قبل عقد النكاح. * وفيه أيضا من الفقه: استحباب تخفيف الصداق، لقوله: (كأنما تنحتون من عرض هذا الجبل) أي من جانبه، إلا أن هذا كما قال الله عز وجل: {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره}.

* وفيه أيضا: دليل على أن ذلك يتم ويمضي، وإن كان المستحب غيره؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مضاه وأقره. * وقوله: (ما عندنا ما نعطيك) يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ولي كل ذي دين حتى يقضيه إذا قدر على قضائه. - 2376 - الحديث العشرون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله ادع الله على المشركين، قال: (إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة)]. * في هذا (51/أ) الحديث من الفقه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل أن يدعو لم يفعل، وأراه لو سئل أن يدعو لهم بالهداية لما امتنع. * وإن بقاء المشركين من رحمة الله للمؤمنين؛ ليتخذ منهم شهداء بأيديهم، وليستمر بقاء الجهاد في سبيل الله لاستمرار بقائهم. * وقوله: (لم أبعث لعانا)، أي: لم أبعث لأهلك الخلق، لأن اللعنة إذا وقعت منه - صلى الله عليه وسلم - أهلكت. - 2377 - الحديث الحادي والعشرون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ سمع وجبة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:

(تدرون ما هذا؟) قال: قلنا الله ورسوله أعلم، قال: (هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا، فهو يهوي في النار الآن، حين انتهى إلى قعرها). زاد في رواية: (فسمعتم وجبتها)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن الله عز وجل أسمع رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن حضر معه من أصحابه وجبة: وقوع هذا الحجر في النار، ليجري على لسانا رسوله - صلى الله عليه وسلم - ذكر مقدار عمق جهنم، وأنها مسيرة سبعين سنة للحجر الذي يهوي به في هذا الهبوط على سرعة تشابه سرعة النجم، والله تعالى يرحمنا بإعاذتنا من هذه النار. - 2378 - الحديث الثاني والعشرون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ليأتين على الناس زمان، لا يدري القاتل في أي شيء قتل؟، ولا يدري (51/ب) المقتول في أي شيء قتل؟). وفي رواية محمد بن فضيل: فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: (الهرج، القاتل والمقتول في النار)].

* في هذا الحديث من الفقه أن هذا القاتل والمقتول يكونان في زمان ليس فيه إمام يعرف به الحق من الباطل. وقد تقدم هذا المعنى ما يكفي في مواضع كثيرة. - 2379 - الحديث الثالث والعشرون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قام أحدكم من الليل، فليفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين)]. * قد سبق أن ابتداء العمل يحتاج إلى تدريج للدخول فيه، فأمر بتخفيف الركعتين في الأول؛ ليكون توطيدا للدخول وتدريجا للنفس. - 2380 - الحديث الرابع والعشرون بعد المائة: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة: كفارات لما بينهن). وفي رواية: (ما لم تغش الكبائر). وفي رواية: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى

رمضان: مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر)]. * لما كانت الصلوات الخمس، كالأعلام بين الأوقات، والجمعة كالعلم في الأسبوع، ورمضان في السنة، أثر كل وقت من هذه الأوقات المكرمة فنسخ الظلمة التي توجد فيما يليه من الأوقات من تأثير الذنوب. فأما الكبائر فإنها تفتقر إلى قصد من الإنسان لمحوها، فهي كعين النجاسة التي تفتقر إلى الخبث، وصغائر الذنوب كالشيء الذي يزول من غير احتياج إلى خبث. - 2381 - (52/أ) الحديث الخامس والعشرون بعد المائة: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله على مدرجته ملكا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذا القرية. قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله. قال: فإني رسول الله إليك؛ بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)]. * المدرجة: الطريق، وجمعها مدارج.

* وقد دل هذا الحديث على فضيلة زيارة الإخوان في الله عز وجل، وإنما فضلت لأنها تجمع تطيب قلب الأخ بقصده، ولا تخلو من ذكر الله وحمده، ويذكر كل منهما الآخر ويقويه، وديمومة كل منهما ببقاء من يعينه على سلوك طريق الآخرة، ويحثه عليها ويؤنسه في وحدة سفره. - 2382 - الحديث السادس والعشرون بعد المائة: [عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟، قال: أما علمت أن عبدي فلانا فرض فلم تعده؟، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب: وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟، يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني. قال: يا رب، كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، (52/ب) أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن الله تعالى لطيف بعباده، وألان لهم القول ألانة تجاوزت حد مقاديرهم لطفا منه، فلطف سبحانه بالمريض والعائد بأن

جعل العيادة له جل جلاله، من حيث إنها من أجله، وفيه، وفي سبيله. * وقوله: (أما لو عدته لوجدتني عنده) فاشعر كل عائد لمريض أنه جل جلاله عند ذلك المريض، فهو سبحانه أول عواده لئلا يستنكف بعد سماع هذا الحديث مسلم عن عيادة مسلم، فهو جل جلاله يعود عبده بعوائده الجميلة الحسنة. * وكذلك إذا استطعم مسلم مسلما فلم يطعمه، وهو قادر على إطعامه من غير إخلال بواجب؛ فإن الله تعالى هو المستطعم له، إرادة منه سبحانه وتعالى أن يعرفه أنه يستطعمه، بلسان أجوف يقبل الإطعام، فإذا لم يطعمه كان الرد منه لربه فيما خلقه. * وكذلك المستسقي إذا استسقى أخاه، فلم يسقه، فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي استسقاه على لسان عبده. * وقوله: (لو سقيته وجدت ذلك عندي) أي وجدت ثواب ذلك عندي والجزاء عليه. - 2383 - الحديث السابع والعشرون بعد المائة: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (كان زكريا نجارا)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن الآدمي خلق مهيئا لكل صناعة، فإن أقدر

لئن يعلم علم كل صناعة، فناهيك به، وإلا فلا أقل من أن يعلم علم صناعة (53/أ) واحدة مما هيئت خلقته لها. والنجارة من جملة الصناعات التي يقوم بها مصالح الدهماء، وهي صناعة صالحة، وكانت هذه الصناعة لا تمنع زكريا من أشغال النبوة وتعليم الخلق، فحصل بها من الكسب ما يستغني به، ليظهر أثر قوله تعالى: {قل لا أسألكم عيه أجرا}. - 2384 - الحديث الثامن والعشرون بعد المائة: [عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن أدنى مقعد أحدكم من الجنة من يقول له: تمن تمن، فيتمنى ويتمنى فيقول له: هل تمنيت؟، فيقول: نعم، فيقول له: فإن لك ما تمنيت ومثله معه)]. * هذا الحديث قد تقدم في مسند ابن مسعود، وأوضحنا الكلام عليه.

- 2385 - الحديث التاسع والعشرون بعد المائة: [عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أقيموا الصف في الصلاة؛ فإن إقامة الصف في الصلاة من حسن الصلاة)]. * قد سبق في تسوية الصفوف في مسند أبي موسى، وفي مسند النعمان بن بشير، وفي مسند أبي مسعود الأنصاري، وفي مسند أنس بن مالك. - 2386 - الحديث الثلاثون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قام أحدكم من الليل، فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدرك ما يقول، فليضطجع)]. * قد تقدم هذا الحديث في مسند أنس بن مالك (53/ب)، وتكلمنا عليه هنالك.

- 2387 - الحديث الحادي والثلاثون بعد المائة: [عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيما قرية أتيتموها وأقمتم فيها، فسهمكم فيها، وأيما قرية عصت الله ورسوله، فإن خمسها لله ولرسوله، ثم هي لكم)]. * في هذا الحديث من الفقه: أنه إذا أقام المسلمون في قرية مما فتح الله عليهم، فإن سهم المقيمين بها من المسلمين في تلك القرية؛ لئلا يحتاج الإمام في نقل أرزاقهم من قرية أخرى إلى مؤونة، وفي نقل ما في تلك القرية إلى آخرين في قرية أخرى إلى مؤونة؛ وليكون ذلك داعية إلى استمرار مقامهم فيها؛ لحفظها وحراستها من كرات العدو. * وقوله: (وأيما قرية عصت الله ورسوله) يعني أنها تعود فيئا، والفيء على الإطلاق لله خمسه وللرسول، وهذا الخمس هو الذي ينصرف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقسمه أسهم، سهم له - صلى الله عليه وسلم - يصرفه في الكراع والسلاح، وسهم في صلبية بن هاشم، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل، وأربعة أخماس لمن شهد الواقعة.

- 2388 - الحديث الثاني والثلاثون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: (أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي فقال: (خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء (54/أ)، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيه الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة، في آخر الخلق، في آخر ساعة من النهار، مما بين العصر إلى الليل)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن الله تعالى خلق التربة؛ التي كونها أرضا يوم السبت، ثم رتب المخلوقات شيئا بعد شيء إلى أن خلق آدم، فذكر ابن جرير الطبري أن خلق هذه الأشياء، إنما كان بين يدي آدم احتفالا بأمره، وإظهار الملائكة تقديم ترتيب مسكنه، ومسكن ذريته، بأن جعل كل شيء منها في يوم. * قال يحيى بن محمد رحمه الله: فلما خلق التربة في يوم، وهي المهاد، ثم خلق الجبال وهي التي تمسك التربة، وتتمم مصالحها على ما تقدم ذكره في مواضع، ثم لما تم السكن ممهدا، وكان الأدمي أجوف لا يستغنى عن درور الرزق له، كان في اليوم الثالث خلق الأشجار التي تشتمل على أنواع النبات

من الحبوب والثمار والرياش والأدوية وغير ذلك، ثم لما اجتمعت هذه الأشياء، وصارت للأدمي في حاجة منه إلى تناول مما خلق له، وتعب في تحصيله، وهرب مما يتصور الأرمى منه فيه، جرى القدر بذلك يوم الثلاثاء حين كمل المسكن والقوت؛ فكان تناول الآدمي ذلك عن تعب، وقوته إياه عن تقصير. فكان هذا مكروها له فقضى يوم الثلاثاء، فلما كان الأمر في تجنب المكروه، وتوخي المحبوب، وتحصيل المطلب ازورار عن المطالب كله مما يناسب النور الذي يهتدي الإنسان إلى (54/ب) ما يهتدي من ذلك، وبعدمه يضل عما يضل. فمن ذلك قضى الله عز وجل النور يوم الأربعاء، ثم لما كان الآدمي غير مستغن من الدواب عما تحمله، ويأكل منه، بث الله سبحانه وتعالى من الدواب في يوم الخميس، لكن لما كانت الدواب مجانسة الآدمي في الحياة، كانت بث الدواب بعد خلق المكروه والنور لتكون الدواب ملهمة تجنب المكروه، وتوخي المطلوب بلو الآدمي في ذلك. ثم جعلها بين حامل للآدمي ومحمول له، وطعام له، دواء وسم وغير ذلك، لكن جعل بث ذلك له بعد أن قدم خلق المكروه وخلق النور، الذي يهتدي به لتجنب المكروه، فلما كملت هذه الأشياء في ستة أيام، كما قال عز وجل، واستتب أمر الدار مستدعية بلسان حالها قدوم الساكن حين تهيئه

الأسباب، والفراغ من الرزق والمركب والرياش، وتبيين ما يكره وما يطلب، كان خلق ساكن الدار أبي البشر في يوم الجمعة عند آخر النهار في وقت يساريه إلى أن الملائكة وجميع ما بث من الدواب انتظروا قدومه، وطال توقعهم لمجيئه جملة النهار إلى أن خلقه الله سبحانه وتعالى عن آخر يومه، فذلك من شأن حكمة الله تعالى، وإظهار محل خليفته، وشرفه - صلى الله عليه وسلم -. - 2389 - الحديث الثالث والثلاثون بعد المائة: [عن عبد الله بن قارظ، أنه وجد أبا هريرة يتوضأ في المسجد، فقال له: إنما أتوضأ من أثوار أقط أكلتها، لأني سمعت رسول (55/أ) الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (توضئوا مما مست النار)]. * الأثوار: جمع ثور، والثور: القطعة من الأقط، والأقط: شيء يعمل من اللبن ويجفف. * وهذا الحديث قد سبق وبينا أنه منسوخ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل لحما ثم صلى ولم يتوضأ.

- 2390 - الحديث الرابع والثلاثون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ليهلن بن مريم بفج الروحاء، حاجا أو معتمرا أو ليثنينهما)]. * هذا الحديث يتضمن ذكر وعد بأمر لا بد من كونه، فيجب الإيمان بوقوع ما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه واقع، وقد دل الحديث على أن عيسى بن مريم يحج ويكون في زمنه ظهور الدين وإقامة الحج. - 2391 - الحديث الخامس والثلاثون بعد المائة: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بينا رجل بفلاه من الأرض، فسمع صوتا في سحابة: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب، فأرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعب ذلك الماء كله، فتتبع الماء، فإذا رجل قائم في حديقة يحول الماء بمساحته، فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحابة. فقال له: يا عبد الله لم سألتني عن اسمي؟ قال: إني سمعت في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان، لاسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أما إذ قلت هذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها، فأتصدق (55/ب) بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثا، وأرد فيها ثلثه).

في رواية: (وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن كل قطرة تنزل من السماء؛ فإنما تنزل بأمر من الله سبحانه وتعالى في وقت معلوم وبقدر عنده جل جلاله، فليس من ذلك شيء بكون سدى ولا هملا ولا يقع شيء منه إلا في المكان الذي يعين من السماء. * وأما سماع الرجل للصوت: (اسق حديقة فلان) فإنه كان وقت سماعه لهذا النطق يعرف أن الغيث يقع ناحية من الحديقة، ثم يسيل إليها لقوله: (اسق حديقة فلان) وإنما يكون السقي عن ماء يسيل فجمع له بين أن يروي حديقته من ماء السماء وبين ألا يبل له ثوبا ولا يفسد عليه طريقا. * وقوله: (ما تصنع في هذه الحديقة) أي: ما تصنع في حاصلها، فأخبره بحسن تدبيره في حاصل تلك الحديقة بأنه يأكل منه ثلثه، ويتصدق في سبيل الله بثلثه، ثم يرد في عمارتها وحفظ أصلها ثلثه، فلما أحسن تدبير النعمة عنده، تولى الله سبحانه وتعالى تدبير سوق الماء إلى حديقته. ولم يذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث إلا منبها لأمته على الاقتداء بهذا الرجل؛ في أن يكون لكل من ينفق في سبيل الله من حاصل فرع على نحو الثلث، كما رخص في ذلك لسعد بن أبي وقاص في الوصية، وقد تقدم ذكر المعنى في مسنده.

* والحرة: أرض ذات حجارة سود والشراج: مسايل الماء في الأرض المرتفعة إلى السهل. - 2392 - الحديث السادس والثلاثون بعد المائة: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)]. * إنما كانت المساجد أحب البقاع إلى الله عز وجل لذكر الله فيها، فإنها تكون أمانا لغيرها. وأما الأسواق فإن الغالب عليها القول الخالي عن ذكر الله: أدخل النطق في الأسواق وأجير أقطيتها، والغالب عليها بعد السلامة من الأيمان الفاجرة، ووصف السلع بما ليس فيها من الصفات الباطلة، وخداع، وختل، وخلابة، وغش، وربا، واطراح لما شرعه الله من الإيجاب والقبول وغير ذلك. - 2393 - الحديث السابع والثلاثون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها

بفاتحة الكتاب فهي خداج) يقولها ثلاثا. وفي حديث سفيان: (فهي خداج)، ثلاثا، (غير تمام)، فقيل لأبي هريرة: إني أكون وراء الإمام؟، فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل). وفي حديث مالك وابن جريج: (فنصفها لي، ونصفها لعبدي؛ فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين}، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرحمن الرحيم}، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مالك يوم الدين}، قال: مجدني عبدي - وقال مرة: فوض إلي عبدي -، وإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين}، قال: هذا بيني وبين عبدي (56/أ) ولعبدي ما سأل، وإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل)]. * في هذا الحديث من الفقه: وجوب قراءة فاتحة الكتاب في كل صلاة، وقد تقدم ذكر هذا.

* والخداج: النقصان. * وقوله: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين}) فبدأ بالحمد ولم يذكر بسم الله الرحمن الرحيم، وليست آية من فاتحة الكتاب، بل هي آية منها ومن كل سورة، فإنما لما كانت مذكورة في كل سورة لم تكن ها هنا داخلة في القسمة، إذ كل سورة لا بد فيها من بسم الله الرحمن الرحيم، فأرى امتيازها على باقي الآيات بذلك، إلا أن ينقص فضيلتها. * فأما قوله: {الحمد لله رب العالمين} فإن القسمة التي قسم الله سبحانه وتعالى يفهم منها أن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا الذكر مشاطرا عبده معناه ما بين حمده والثناء عليه، وتمجيده وعبادته، ومن عنده من استعانته وهدايته، وتجنبه الضلالة والغضب، وكانت هذه أربعة بإزار أربعة. * وقوله: (ولعبدي ما سأل) أي: من الإعانة والهداية، وصرف غضب وضلال، ثم ذكر سبحانه صفة الهداية فقال: {الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم}، فكمل سبحانه الوصف في سؤال المنعم به، ثم اختصر ذكر {المغضوب عليهم ولا الضالين} اختصارا شاملا لأن ذلك لا يكون من الأدب تعديد موجباته. * (57/أ) فأما هذه السورة فإنها جامعة من العلوم أشياء لو قد كان مقدار كتابنا هذا كله في شرح معانيها لما استغرقها، بل قد كان الشيخ محمد بن يحيى رحمه الله يقول في ذلك: ما إذا ما ذكر استدل به على صدق هذه الدعوى،

وهو أنه قال: إن الباقي بسم الله الرحمن الرحيم فيها معنى لا إله إلا الله، وهي أصل، ومنها يستخرج جميع العلوم. ثم قال: والباء متعلقة بفعل محذوف، يجوز أن يكون ذلك الفعل صيغته أبدأ باسم الله، ويجوز أن يكون مصدرا تقدير أبتدأ ببسم الله أو يكون بسم الله الرحمن الرحيم أبتدئ، فيكون الخبر محذوفا، أو يكون بدأت بسم الله الرحمن الرحيم. وهذا القول منه حكاية عن أقوال الناس، إلا أن هذا الضمير لو برز فذكر هنا المحذوف لتعين وجه واحد من هذه الوجوه وسقط باقيها، فلما حذف واستمر كمونه كان محتملا لكل وجه من هذه الوجوه. ثم قال غيره: إن تقديم بسم الله الرحيم الرحيم من أجل أنه تفرد الله به فلا يسمى به غيره، فهم اسم علم لا يسمى به غير الله، فضمن من المعاني ما قد تقدم ذكره، إلا أنه لما كان الرحمن صفة تبعت الاسم، ولما كانت هذه الصفة - أعني - الرحمن صفة لا يوسف بها غيره قدمت على الرحيم الذي قد يتسمى به غيره. فأما الحمد فكان من كلام الشيخ محمد بن يحيى رحمه الله أنه كان في قوله الحمد لله هذه اللام، لام الملك، ولام الولاية، فالمعنى الحمد لله ملكا، والحمد لله ولاية، ولا يحمد غيره إلا بأمره. ثم قال: لما ذكر ها هنا بهذا الاسم العلم الذي لا يسمى به غيره (57/ب)، ثبت عند السامعين لذكر اسمه جل جلاله الذي لا يتسمى به سواه، لكنه سبحانه وتعالى اتصف بزيادة اتصاف فقال: {رب العالمين}،

فصارت هذه صفة يمتاز بها سبحانه عن جميع العالمين؛ لأنه ربهم، فلما بلغ الامتياز بهذه الصفة إلى هذا المبلغ زاد سبحانه وتعالى بأن قال: {الرحمن الرحيم} فاتصف بصفتين بلغتا بعد قوله: {رب العالمين}، لما ما لم يبق له فيه مشارك، ثم إنه اتصف بعد ذلك بالصفة التي تممت كل مطلوب بأن قال: {مالك يوم الدين}، فإن يوم الدين هو يوم المعاد الذي ينتهى الأمور إليه، وتعاد الحقوق فيه، ولا يملك الحساب في ذلك اليوم والمجازاة غيره، فتعين في الدنيا والآخرة التعين الذي لم يبق بعده احتمال، فلذلك خرج النطق من المعاينة إلى المشاهدة، فقال حينئذ بكاف الخطاب: {إياك نعبد وإياك نستعين}. فأما غيره فقد قال: إن هذا جواب قوله: إذا أضمرت قولوا: بسم الله الرحمن الرحيم، وقولوا: إياك نعبد، ذكر هذا الرازي صاحب الأحكام، إلا أن الذي قال الشيخ أعلى فيما أرى. ثم قال الشيخ: فمن هذه السورة يمكن أن نستخرج علوم الدنيا والآخرة كلها، وذلك أنه يقال في هذه السورة علم الحمد، وعلم الألوهية، وعلم الربوبية، وعلم العالمين، وعلم الرحمة، وعلم الملك، وعلم الدين، وعلم العبادة، وعلم الاستعانة، وعلم الهداية، وعلم الصراط، وعلم الاستقامة، وعلم النعمة، وعلم ما يجتنب من الغضب، وعلم ما يجتنب من الضلالة.

- 2394 - الحديث الثامن والثلاثون بعد المائة: (58/أ) [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) فقال: فكيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولا)]. * في هذا الحديث من الفقه: أنه محمول على ما إذا كان دون القلتين؛ فإنه يعود مستعملا باغتسال الجنب فيه، فحينئذ يحتاج أن نتناوله تناولا كما ذكره أبو هريرة، وإن كان كثيرا وهو واقف، فإن دوام الاغتسال فيه يوجب استقذاره؛ فلذلك وقع النهي. - 2395 - الحديث التاسع والثلاثون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط)]. * قوله: (ألا أدلكم) هو تقدمة، قول ينبه الفهم، ويوقظ الفكر، ويستدعي

حسن الاستماع. * وقوله: (ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات) وهذا مما يجمع بين نفي وإثبات؛ وخفض ورفع، من محو الخطايا ورفع الدرجات. * وأما (إسباغ الوضوء على المكاره) فيجوز أن يكون المراد بالمكاره إسباغ الوضوء في البرد، ويجوز أن يكون إسباغه مرغما بذلك معاطيس الشيطان وأعداء الله، ومشعرا في ذلك بإيمانه. * وأما (كثرة الخطا إلى المساجد): فيجوز أن يكون ذلك بقصد المسجد من بعد، ويجوز أن يكون بكثرة التردد إلى المسجد. * (58/ب) وقوله: (وانتظار الصلاة بعد الصلاة) لأن انتظار الصلاة يجوز أن يكون وهو الأفضل، والأكمل أن يكون شوقا إليها؛ لأنها تخلص من مخاطبة الخلق وعذر في ترك أجوبتهم، وانقطاع إلى الخالق سبحانه وتعالى، ويجوز أن يكون الانتظار لها اهتماما بآدابها وخوفا من فوت فاضل وقتها، وهذا فإذا كان من ذي شغل كان داخلا في الموصوفين بقوله تعالى: {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله}، وإن كان من متفرغ فإنه يدخل في قوله تعالى: {وتبتل إليه تبتيلا}. * وقوله: (فذلك الرباط) يعني أن المواظبة على ذلك كالجهاد.

- 2396 - الحديث الأربعون بعد المائة: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الصديق من المؤمنين ينبغي له أن يكون حافظا للسانه عن أن يلعن شيئا من خلق الله لا يستحق: كالدابة، والبعير، وغير ذلك، فأما لعنة الكافرين؛ فإن هذا لا يخرج عنه الصديقون، فإذا لعنوا الكافرين كانوا لاعنين لا لعانين؛ لأن اللعان الذي يكثر منه اللعن فيتجاوز به الحد المشروع، واللاعن: هو الذي يلعن من لعنه الله ورسوله. - 2397 - الحديث الحادي والأربعون بعد المائة: [عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله: أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: (فلا (59/أ) تعطه). قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: (قاتله). قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: (فأنت شهيد). قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: (هو في النار)].

في هذا الحديث دليل على جواز دفع الرجل عن ماله وقتاله دونه، وأنه إن قتل دون ماله فهو شهيد، وإن قتل فإن ذلك المقتول على التماس الباطل في النار، كما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن ذكره للنار ولم يذكر الخلود يدل على أن ذلك مما يوجب العقوبة بالنار لا الخلود. - 2398 - الحديث الثاني والأربعون بعد المائة: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس)]. * قد مضى هذا الحديث في مسند ابن عمر وتكلمنا عليه هنالك. - 2399 - الحديث الثالث والأربعون بعد المائة: [عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، ما سوى ذلك فهو ذاهب، وتاركه للناس)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الإنسان يقول: مالي مالي، لقلة تحريره نطقه

لأنه ليس له من ماله على الحقيقة إلا ما قد فرغ منه، إما بأكل أو لبس أو إعطاء، فذلك الذي يحقق أنه له. * فأما ما عدا ذلك؛ فيجوز أن يكون له ويجوز أن يكون لغيره، بأن يأخذه من يده. * ويدل على ما قلنا قوله: (ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى) كله بلفظ الماضي، لكنه ذكر - صلى الله عليه وسلم - (59/ب) أن كل ما يأكله فأفناه، وما لبسه فقد أبلاه، فما جاء ذكر العطاء قال: (اقتنى)، ففرق بين هذا وذيلك؛ لأن هذا مما اقتناه، وليس قوله: أكل فأفنى، مما يدل على أنه لا ثواب له فيه، فإن المؤمن يثاب على ما يأكله بحسب النية فيه، وكذلك يثاب على ما يلبسه بحسب النية فيه، ولكن هذان نشاهد فيهما الفناء والبلى من حيث الصورة، وما أعطاه فقد اقتناه فصار قنية له وذخرا. - 2400 - الحديث الرابع والأربعون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألم تروا إلى الإنسان: إذا مات شخص بصره؟) قالوا: بلى، قال: (فذلك حين يتبع بصره نفسه)]. * هذا الحديث يدل على أن الروح تخرج من جسد العبد خروجا يراه بصره وقت موته، ويدل على أن الروح جسم؛ لأنها لو لم تكن جسما لم تر، وأن

شخوص البصر بعد خروج الروح على إثرها نظر إليها. - 2401 - الحديث الخامس والأربعون بعد المائة: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)]. * في هذا الحديث من الفقه الحث على مبادرة الفتن بالأعمال، فإن من الفتن ما يعرض للقلوب فتصبح مؤمنة وتمسي كافرة في تلك الفتنة، فتثبط العامل عن عمله، أو بعمله ما يعمل على ارتياب وشك؛ فلا ينفعه عمله (60/أ)، وهذه الفتن قد يكون فيها ما يعم الناس. وقد يكون فيها ما يخص، وأن منها الكلمة الخبيثة؛ التي يقذفها الشيطان على لسان ولي من أولياء الشيطان ليقولها، إما جادا أو هازلا، ليسمعها الضعيف القلب فيفتنن بها؛ الفتنة التي لا يخلص منها إلى يوم القيامة؛ لأن القلوب كثيرة التقلب من ربقة الحق، شديدة التطلع إلى منافذ الضلال، فإذا قذف في روعها شيء من المضللات وجد عندها داء قاتلا وشرا مستعدا، كالنار التي تقع في الخراق، فينبغي للإنسان أن يكون أشد خوفا وحذرا على دينه وإيمانه، متعاهدا له بالذكر

ومدارسة القرآن وامتثال أمر القرآن بالنظر والتدبر والفكر المؤدي له إلى الحق صباح مساء؛ بل في كل وقت ونفس وساعة. - 2402 - الحديث السادس والأربعون بعد المائة: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (اتقوا اللاعنين). قالوا: وما اللاعنان؟ قال: (الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم)]. * في هذا الحديث اشتداد كراهية التخلي في طريق الناس، لأن فاعل ذلك يعرض الناس لأن يلعنوا فاعل ذلك، من حيث إنه ينجس ثيابهم أو يقع عليه الذباب، ثم يقع على ثوب أحدهم في أمد لا يجف مثله فيه. وكذلك إذا كان في الظل الذي يستريح إليه الناس ويؤذيهم، وسمى المكان لاعنا لأنه سبب للعن. - 2403 - الحديث السابع والأربعون بعد المائة: (60/ب) [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صلى علي

واحدة، صلى الله عليه عشرا)]. * في هذا الحديث من فضل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يشعر أن الواحد من أمته إذا صلى على نبيه مرة واحدة، لم يرض الله عز وجل أن يتولى الصلاة على ذلك العبد المصلي على نبيه، نبي مرسل، ولا ملك مقرب، ولكن هو جل جلاله يصلي عليه. ثم لا يرضى له عز وجل بأن يصلي عليه جل جلاله صلاة واحدة، بإزاء صلاة واحدة؛ ولكن يصلي عليه عشر صلوات، إنه يعذبه بالنار بعد ذلك. ولقد كنت يوما جالسا على سطح وأنا مستقبل القبلة، على هيئة التشهد أصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعيناي مغمضتان، فرأيت من وراء جفني كاتبا جالسا يكتب بمداد أسود في قرطاس أبيض، الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكلما قلت: اللهم صل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، رأيته كيف يرقم ما أقوله من الصلاة بذلك المداد الأسود في ذلك القرطاس الأبيض، أرى الحروف كيف تكتب: اللهم صل على محمد، فقلت لنفسي: افتح عينيك، وانظر إلى هذا الذي يكتب، ففتحت عيني، فرأيت عن يميني بياض ثوب وقد توارى، فرأيت بياض ثوبه كأشد ما يكون من الثياب البيض. وكان ببغداد رجل يقال له: أبو علي بن مهدوية كاتب زمام في ديوان

الخليفة، فشفع إلي نسيب لي في إيصال رقعة إلى الخليفة المقتفي لأمر الله رضي الله عنه في إطلاق شيء من البرز لمسجد بناه أبو ذلك النسيب من مال الوقف (61/أ)، فوقع له الخليفة رضي الله عنه بذلك. فأرسلت بهذا التوقيع إلى ابن مهدوية ليوقع به على العادة، فوقع بالتوقيع على ظهر نسخة الرقعة، ولم يصل فيها على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرددته إليه، وقلت له: صل على النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الرسول: فأخذ القلم ليصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم أدركته الشقاوة فلم يفعل، وقال للرسول: عد إلي في غد لأمر الكاتب الذي كتب هذا التوقيع أن يصلي على النبي فيه بخطه. فعاد الرسول إلي فأخبرني بذلك فقلت: إنا إن هذا جيد حيث ينتهي الكتاب فيما بعد أن يخلو بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا، ثم إني أرسلت به إليه من الغد على يد ذلك الشخص، فعاد إلي وقال لي: إنه قال: إن هذا لم تجر به عادة، وامتنع من إثبات الصلاة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرقعة، فكتبت إلي المقتفي رضي الله عنه كتابا، أبلغت فيه، وقلت له: إن هذا ديوانك إنما هو على الحقيقة ديوان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا لم يصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ديوانه، فأين يصلى عليه؟ وهذه الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي حق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإني لأخشى بجدال أن تهضم حقوق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وقت تكون أنت النائب عنه في استيفائها، ثم سألت أن يوقع توقيعا بأنه لا يكتب من ديوانه ومخزنه (61/ب) كتابا، وإن كان على ظهر رقعة حتى يصلي

فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوقع بذلك، فأرسلت بالتوقيع على يد ذلك الإنسان الذي أرسلت به أولا، وهو حاجب كان في الديوان، يقال له ابن الظهيري فعرضه على الوزير ابن جهير حتى يتقدم بموجبه، فقال: سمعا وطاعة، ثم إن التوقيعات بعد ذلك جاءت إلى عندي بالمخزن، وكنت حينئذ بالمخزن، وليس فيها الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان ذلك الوزير قد مرض مرضة لا أحسبها إلا قبل أن يجري هذا، فحضرت لعيادته، فرأيته في شدة، فالتفت إلي وقال لي: كالمسلي لنفسه عن الحياة: هب أني قد قمت من مرضتي هذه، ثم عشت عشرين سنة ثم وقعت وقعتي هذه لأموت، أليس هذه كانت تكون كتلك. فاحسب أن هذه تلك وما الذي آسى عليه يفوتني أكل كذا وكذا من الغنم. فقلت له: فاقلب هذه المسألة إن عافاك الله من مرضتك هذه، فعمرت عشرين سنة أن تجعل هذه العشرين سنة لله عز وجل، ومتى نازعتك نفسك إلى الدنيا فقل لها أنا مت منذ عشرين سنة. فقال لي: أفعل وهاك يدي على ذلك. فقلت له: انظر إني عنيت بذكري الزهد في الدنيا، وأنك تلبس القميص الأزرق، وتجلس في زاوية لهؤلاء الدبرة العجزة. فقال: وإلا فماذا؟ فقلت: لا بل تكون على ما أنت عليه من إعانة الخلافة ناظرا لمصالح المسلمين

وسادا ثغور الحق (62/أ) فقال لي: هذا لا يصلح لي. فقلت له: بلى مما نعني، فقمت عنه ولم يقع بيننا اتفاق، ثم إني عدت إليه فرأيت حاله قد اشتدت. فقلت له: هيه ماذا تقول؟ فقال لي: وافقتك على ما ترى. فكان من قدر الله عز وجل أنه أبراه من تلك المرضة، وتكاملت عافيته، وعاد إلى منصبه، فحضرت عنده في الديوان مقتضيا تنفيذ أمره بذلك التوقيع في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان من قوله لي: على ضعف فيه: إن هذا كاتب الزمام قد أرسل إلي وقال: إن هذا فلانا، يعنيني، لا يعرف العوائد، وأنها قد استمرت في هذا الموضع بألا نصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في ظهور الرقاع، ثم قال: أما لو كتب رجل كتابا فبدأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم لم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخره وجب عليه قطع يده. فأما على ظهور الرقاع فلا يبدأ في أولها ببسم الله الرحمن الرحيم، فلا يصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخرها. قال: إن هذا الديوان قد كان فيه أبوك وجدك وعمك والخلفاء كلهم، ولم يجر الحال إلا على هذا حتى قد جاء فلان، يعنيني بغرض، وذكر كلمة نال من عرضي بها، وإن الناس كانوا على ضلال فعجبت من نسبته لي إلى العرض، وقلت في نفسي: أتراني لو قدرت صحة قوله كنت ذا عرض لنفسي أو لإقامة حرمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأمثلي ولأمثله في هذا إلا كما حكي عن نظام الملك أن رجلا جاءه فقال له: إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (62/ب) في المنام، وهو يقول لي: اذهب إلى نظام الملك فقل له يزوج بناتك. فقال له: وكم هن؟ قال: ثلاث. قال: كم يكفيهن؟. قال: ثلاثمائة، فأعطاه، فلما ذهب قيل للنظام رحمه الله: إن كان هذا قد كذب. قال: وما علي أنا؟ فعلت بمقتضى حكايته لمنامه، فإن كذب

فالخصومة بينه وبين من كذب عليه. ثم قلت أنا للوزير: هيه وما قلت أنت؟ قال: أنا أصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - على التوقيعات إذا جاءت إلي بخطي، ثم لم يفعل ذلك، ولا وفى بما استقر بيني وبينه، فكتبت إلى الخليفة رضي الله عنه ما حكيت له فيه ما قالوه عني، وأبطلت ما ذكروه، بأن قلت: أما ما قاله هذا من أنه إذا كتب رجل بسم الله الرحمن الرحيم في رقعة ثم لم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فيها؛ فإنه يجب عليه قطع يده، فقد أبطل في هذا؛ لأنه لا يجب في ذلك قطع اليد. فأما قوله: إن في ظهور الرقاع، فإنه لا يصلي فيها على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه شده أو ذهل عن الواجب، فإن ديوانكم قد كان أكثر كتابه نصارى، وعادتهم أنهم كانوا إذا كتبوا عن نفوسهم لم يصلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا كتبوا عنا كتابا صلوا فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت له: فإذا كتبوا عنك ولم يصلوا ظن أن ذلك الكتاب عنهم لا عنك، ثم هذا النزاع فيما ذهب أنه لا يجب ذلك، أيختلف المسلمون أنه الفاعل هذا ثوابا، ثم قدر أن ذلك قد استمر فأحيا هذه السنة فضيلة خبأها الله لك، فكتب إلسي (63/أ) رضي الله عنه عما صنعته: قد ذكروا انك لا تعرف العوائد، وحيث جرى لي هذا حديثا فلا بد من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكنت بالمخزن لا أمكن أن تكتب رقعة وإن كانت على ظهر حتى يصلي فيها على النبي - صلى الله عليه وسلم -. فأما في ديوان الزمام فلج ذلك المسكين، واستمر على ترك الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وضعف ذلك الوزير، وذهب الأيام حتى إنني كنت ليلة في دار

أحمد بن محمد المعروف بالجويزي، وكان عندنا أستاذ الدار ابن رئيس الرؤساء وكنا جلوسا، فحضر عند أستاذ الدار من قال له: قد حضر عندك صاحب الديوان، يعني ابن مهدوية الخصم في المسألة، فقام إليه فكتبت بكرة إلى الخليقة أعلمه أنني كنت في دار فلان ومعنا فلان فأتاه آت فقال: قد حضر فلان فقام ولا أعلم أني كتبت قبل ذلك قط مثل ذلك إليه ولا أعلم أني الآن ماذا أردت بذلك، لكن الله سبحانه وتعالى جعله سببا لإعلامي بما قدره في ذلك الإنسان. فوقع الخليفة رضي الله عنه جواب ذلك التوقيع من يومه، أما ابن المهدوية الفاعل الصانع ويرب عليه ثم قال: قد تقدم بعزله، وكان عزله مطويا فلم يعلم أحد بعد وزير الوقت قبلي فيما أظن، ثم إني أعلمت به أحمد بن محمد، وأعلم به أستاذ الدار رفيقنا. فقالا جميعا: إن الرجل ما عنده خبر من هذا، ثم بان الحديث في غد ذلك اليوم، أنه عزل، وكان الوزير قد دافع عن عزله، ثم إنه لينظر كأنه واحد، فبدل (63/ب) شيئا كبيرا حتى قيل إنه كان مبلغه ألف وخمسمائة دينار، وإنه صحح النصف وعرض مشدودا مختوما عليه في فرطه فأصبحت أنا وليس عندي في ذلك شيء سوى أن الله تعالى أوقع في نفسي أن أكتب وأعرض نفسي للموضع مع كوني ليس عندي ما أبذله، فكتب إلى الخليفة رقعة أعرض نفسي فخرج جوابها في يومها بما مضمونه تقوية الطمع فكتبت بعد ذلك جوابه وقلت له: إنني لا بدل عندي، فكان جواب الثانية التوقيع لي

بما يدل على أنه سيرتبني في ذلك. وحضر عندي حاجب الوزير أبي القاسم علي بن صدقة رحمه الله وقال لي: قد أمر بترتيبك في ديوان الزمام مكان الذي خاصمته، وذهب عني حينئذ ذكر هذه المسألة، ثم قال لي: قد رسم أن يعلم به في هذه الليلة، وكان الوزير قد ركب من الديوان إلى داره فركبت إليه فوفقت وقت أذان المغرب، فقام المؤذن فأذن وكان رجلا صالحا يعرف بعمر بن ظفر المقدي، ثم قام وتقدم فصليت أنا والوزير وراءه، فقرأ فاتحة الكتاب ثم أتبعها بهذه الآية: {ولق سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (171) إنهم لهم المنصورون (172) وإن جندنا لهم الغالبون} فسررت بذلك تفاؤلا بهذه الآية، وذهب عني ذكر المسألة. فلما كان بعد أيام، وأنا قائم في الصلاة أخطر في قلبي أن تلك الآية، إنما ذكرت في جواب منازعتي الذي كان في هذا المنصب على معنى الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن صرف ذلك وترتيبي مكانه نصر لرسول (64/أ) الله - صلى الله عليه وسلم -، وتلك الآية إنما كانت في ذلك، فبلغني بعد ذلك أن الخليفة رضي الله عنه رد عليهم الذهب بختمه، وكان مبلغه سبعمائة ونيفا نقدا مع ضمان الباقي نسبة، ورتبني مكانه بغير بدل، ثم إن الله سبحانه نقلني من ذلك الموضع إلى الوزارة فحضر عندي بعض الناس وقال لي: إن هذا ديوان الزمام يسمى وادي الأفاعي، فقلت له: لا تخف علي فإن أمري أنا قرره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان كما ذكرت بحمد الله، ثم تابع الله نعمه، ووالاها وأسبغها وأصفاها، وكان ذلك من فضله سبحانه وتعالى ونصره جل جلاله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ببركة نصري للصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -.

- 2404 - الحديث الثامن والأربعون بعد المائة: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)]. * هذا الحديث قد تقدم في مسند أنس وتكلمنا عليه. - 2405 - الحديث التاسع والأربعون بعد المائة: [عن أبي هريرة، أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أبي مات ولم يوص، أفينفعه أن أتصدق عنه؟. قال: (نعم)]. * هذا الحديث قد تقدم وتكلمنا في ذلك وبينا أن كل فعل من الخير كالصدقة والقراءة يصل ثوابه (64/ب) إلى الميت.

- 2406 - الحديث الخمسون بعد المائة: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)]. * هذا الحديث ضرب مثل وإن كنت قد سمعت بعض العلماء يقول: إن الله تعالى يبعث أصناف الحيوان، ثم يقتص لكل جنس من جنسه، ثم يصير الكل إلى التراب. - 2407 - الحديث الحادي والخمسون بعد المائة: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)]. * هذا الحديث يدل على أن الصدقة لا تنقص من المال، والمراد بذلك أنها لا تنقص منه من حيث المعنى، أن الله يبارك في ذلك المال الذي تصدق به بما ينفع منه، ويوفر وجوهه في الخرج أضعاف تلك الدقة، وقد يكون ذلك صدقة،

فإنه حدثني والدي رحمه الله قال: قفلت من الحج، فلما وصت إلى فيد وزنت ما كان في خرقتي، وكان مبلغه ثلاث دنانير ودانقين، أو قال: ودانقا، ثم قال: إني أنفقت من ذلك منذ كنت بغيد إلى أن جئت العراق، ثم وزنته فكان مثل ما وزنته بفيد من غير أن ينقص. وأما أنا فحصل لي مرة مقدار من الحنطة، فأخرجت منها فيما (65/أ) أظن قريبا من ربعها أو ثلثها، ثم كلت الباقي فلم ينقص شيئا فيما أظن، فأما من حيث المعاني؛ فإن ذلك فيما لا أحصيه كثرة. * وقوله: (وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا) فإن العفو عز في وقته، وبعد ذلك، فما زاد به أحد إلا عزا، وإذا وسوس الشيطان للمسلم بأن هذا يخرجه الناس مخرج الذل؛ فتلك خديعة منه، فكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دواء لذلك الداء. * وأما قوله: (وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) فقوله: (الله) يعني ألا يكون تواضعه لأهل الدنيا، ثم يتكبر على أهل الدين، ولكن يتواضع لله فيرفعه الله تعالى جل جلاله. - 2408 - الحديث الثاني والخمسون بعد المائة: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (المستبان ما قالا، فعلى البادئ ما لم

يعتد المظلوم)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن البادئ بالسباب، هو الذي أثار ذلك الشر، فكان عليه إثمه وإثم من أجابه أو اقتدى به فيهن إلا أن يعتدي المظلوم اعتداء يخرجه عن الحق، فعليه من ذلك مقدار اعتدائه. - 2409 - الحديث الثالث والخمسون بعد المائة: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أتدرون ما الغيبة؟) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (ذكرك أخاك بما يكره) قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن حد الغيبة: الصدق في وصف من يغتاب انتهازا للفرصة. * (65/ب) الغيبة من الشخص ليؤكل لحمه وذلك معنى قوله عز وجل: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا} ومعنى ذلك أن الغائب قد وضع عرضه عند الحاضر بمنزلة الميتة ليس دونه من يدافع عنه، ولا يناضل دونه، فإذا رضي الإنسان لنفسه أن يغتاب فقد قام مقام أكل الميتة التي ليس

فيه حراك يدفع عن نفسها، فمعنى الآية: يا أيها العرب، ويا أهل النخوة، من كان منكم يرضى أن يأكل لحم الميتة، فإن عرض الغائب في معنى الميتة. * ولقد أجاد القائل: وأكبر نفسي عن جزاء بغيبة .... وكل اغتياب جهد من ماله جهد فوضع الغيبة أن يصدق المغتاب فيمن اغتابه. فأما إذا كذب عليه فذلك البهت الذي ذكر في الحديث، فإذا كان الصدق في ذلك هو أكل لحم المسلم ميتة، فما ظنك بالبهتان والكذب في الإثم والشر؟!. - 2410 - الحديث الرابع والخمسون بعد المائة: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا)]. * قد سبق الكلام في هذا المعنى في مسند أبي مسعود وفي مسند جرير.

وأشير إليه فأقول: إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من دعا إلى هدى) فإن هدى هنا نكرة، يعني هدى من الهدى، فإن ذلك الداعي يكون له أجر دعائه، وأجر دعاء كل داع (66/أ) يدعو إلى الله إلى ذلك الهدى بعده، ولا أرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بذكر هدى نكرة إلا إشارة منه إلى أن هدى الله عز وجل كبير واسع، فيكون منه ما لم يكن قد ذكر إلى أنه يستنبط من الأذكار المروية، ويعرف من آثار الله في عباده، ودلائله في صنائعه، والفوائد من كتابه والأسرار في كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيكون ذلك الهدى الذي يدعو إليه العبد له أجرهن وأجر كل من يدعو به. * وأما الضلالة: فإن من يدعو إليها بكلمة خبيثة أو عقد إشكال أو نابضة شك أو طليعة حيرة؛ فإنه عليه إثمها وإثم كل من يضل بها إلى يوم القيامة، ليؤخذ منه ما يؤخذ، ثم يبقى له بقية، وينهض به إلى الخير والسلامة. - 2411 - الحديث الخامس والخمسون بعد المائة: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أتدورن من المفلس؟) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: (إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من

حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)]. * هذا الحديث قد سبق بيان أمثاله، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل أصحابه عن المفلس؟ فأخبروه بالصورة المعروفة في الدنيا، فأخبرهم (66/ب) بالمعنى الموجود من الإفلاس في الآخرة. * وهذا الحديث يقتضي أن القصاص يأتي على جميع الحسنات، حتى لا يبقى منها شيء، فينبغي لمن عليه مظالم أن يستكثر من الحسنات. - 2412 - الحديث السادس والخمسون بعد المائة: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه: هلم إلى الرخاء! هلم إلى الرخاء! والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده لا يخرج أحد منهم أحدا رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيرا منه، ألا إن المدينة كالكير، تخرج الخبث، لا تقوم الساعة حتى تخرج المدينة شرارها، كما ينفي الكير خبث الحديد)]. * قد تقدم شرح هذا الحديث في مسند سعد وغيره.

- 2413 - الحديث السابع والخمسون بعد المائة: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم له بعمل أهل الجنة)]. * قد تقدم شرح هذا الحديث في مسند سهل بن سعد وغيره. - 2414 - الحديث الثامن والخمسون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الدنيا سجن المؤمن، من حيث إن الإسلام حابس (6/أ) له بمنعه من كل شيء لا يبيحه له الإسلام، والإيمان قيده في ذلك الحبس، يحول بينه وبين الحركة فيما لا يطابق إيمانه عن أمر من أمر ربه، فإذا خرج المؤمن من هذا الحبس إلى دار الإباحة كان في صورة من انتقل من السجن إلى السعة، وهي جنة الكافر، ومن حيث إنه لا يرد عن شهواته فيها

شرع، ولا يقيده إيمان، ولا يرعه ذكر أخرى، فينتقل من السعة إلى الضيق، ذلك معنى الحديث. - 2415 - الحديث التاسع والخمسون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} ... الآية، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير)، فلما قرأها القوم، وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله عز وجل في إثرها: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} (67/ب) فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله عز وجل: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاحذنا إن نسينا أو أخطأنا}، قال: (نعم) {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} قال: (نعم) {ربنا ولا

تحملنا ما لا طاقة لها به} قال: (نعم) {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}، قال: (نعم)]. * وقد سبق هذا الحديث وفسرنا هاتين الآيتين، إلا أن في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمهم الأدب بأن يقولوا عند تكليف الرب سبحانه: (سمعنا وأطعنا)، ونهاهم - صلى الله عليه وسلم - عن غير ذلك فنزلت: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه} فاعترفوا أن الله سبحانه وتعالى رفع عنهم ثقل إصر لو حملهم لكان في ذلك عادلا؛ لكنه تفضل برفعه عنهم. - 2416 - الحديث الستون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قال الله تارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه)]. * في هذا الحديث من الفقه أبلغ التشديد في أمر الشرك؛ بأبلغ لطف في النطق، وذلك أن الله سبحانه وتعالى حرم أن يشرك به، فإذا أشرك به أحد من عبيده تنزه سبحانه عن ذلك الشرك نطقا، كما تنزه عنه سبحانه حقيقة (68/أ)، ثم إنه سبحانه لما كان جالب هذا الإشراك هو هذا العبد بجهله، مع

كونه ملكا لله عز وجل، تنزه الله عن ذلك بأن ترك العبد الذي جلب الشرك وما أثاره جهله. وقوله: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك) ولأن الشريكين إنما يشتركان لكون قوة كل واحد منهما لا تنهض بانفرادها في مقاومة المقصود بما ينهض به مع مشاركة القوة الأخرى، والله سبحانه وتعالى خالق القوى غير محتاج إلى شركة غيره، فهو سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك. * وقوله (تركته وشركه) أي تركت المشرك لي والشرك أيضا. * ومعنى الحديث أن كل عمل يشرك فيه بالله غيره؛ فإنه لا يقبل الله منه شيئا لقوله: (تركته وشركه). - 2417 - الحديث الحادي والستون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في طريق مكة، فمر على جبل يقال له جمدان، فقال: (سيروا، هذا جمدان، سبق المفردون)، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: (الذاكرون الله كثيرا والذاكرات)]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر بانفراد هذا الجبل المفردين، وقد روي (بكسر الراء وفتحها)، فمن رواه بكسر الراء: فإن الذي

أراه فيه أنهم أفردوا الله سبحانه بالطلب منه للخير والنصر، فهم الذين أفردوا الله بطلابهم لمقاصدهم، وأما بفتح الراء: فيجوز (68/ب) أن يكون المراد الذين أفردهم الناس لعدم المثلية؛ فصاروا أفراد في زمانهم، ويجوز أن يكونوا الذين أفردهم الله عز وجل في كل زمان للقيام بسنته. * وقوله: (سيروا) يجوز أن يكون المعنى أنه قال لهم وهم يسيرون: (سيروا) أي تلاحقوا لتسمعوا هذا، وذكرهم لسبق المفردين عند سيرهم هم، وقد فسرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (الذاكرون الله كثيرا والذاكرات)، فيعني - صلى الله عليه وسلم - أن السير والسبق إنما هو بالذكر، فهو سير بالهمة، فهو يشبه في قطع مفازات الأعمار بسعي الأقدام في قطع مفاوز الأرض. - 2418 - الحديث الثاني والستون بعد المائة: [عن أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله، إن لي قرابة، أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي فقال: (لئن كنت كما قلت، وكأنهم تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك)]. * في قوله: (تسفهم) قولان: أحدهما: تطعمهم من قولك سففت الدواء أسفه، فشبه ما يدخل عليهم من الإثم والنقص في أديانهم بما يدخل على من

يتناول الرماد الحار من الألم والتنغيص. والثاني: أن معنى (تسفهم) تسفي في وجوهم الملة، والملة والملل التراب الحار والرماد، ومعناه أنه مأخوذ من السبق، فإن من عادة العرب أن يقولوا للسابق: حثثت في وجه من سابقك التراب، أي إنك سبقته حتى جعلت ترابك (69/أ) الذي أثرته في وجهه، فيعني - صلى الله عليه وسلم - أنك لو كنت وصلت الواصلين منهم لكنت أحسنت، فكيف إذا وصلت القاطعين فإنك سبقت السبق البعيد حتى أسففتهم المل، يعني أنك على فضلك، فإن سوء قطيعتهم يكون ما تسفهم إياه، تنزل عن درجة التراب إلى الملل، وهو الرماد الذي لم يبق فيه منفعه إلى أنه حار ينال بجزء من العذاب. - 2419 - الحديث الثالث والستون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (رب أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره)]. * قد سبق شرح هذا في مسند أنس، وهو يشير إلى أن في الأولياء: الأخفياء الذين لا يعرفون.

* وفيه أن الطلب من الأبواب لمن تلجئه إلى ذلك ضرورته؛ لا ينقصه ذلك من مرتبة ولايته. * وفيه أن العبد الصالح إذا انتهت حاله إلى درجة الولاية؛ فإن إيمانه يمنعه أن يستنكف عن أن يسأل من الأبواب. * وفي قوله: (مدفوع بالأبواب) وجهان: أحدهما: أنه يدفع من باب إلى باب. والثاني: أنه مدفوع أي ملجأ إلى تلك الحالة، أي فلم يسأل إلا وليس له مسكة يجوز له في الشرع أن يترك الطلب معها. - 2420 - الحديث الرابع والستون بعد المائة: [عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من خير معاش الناس لهم، رجل

مسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة، أو فزعة، طار عليه، يبتغي القتل والموت مظانه، أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف، أو بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، لم من الناس إلا في خير). وفي رواية: (في شعبة من هذه الشعاب)]. * هذا الحديث يدل على أن خير الكسب الجهاد؛ لأنه يكون فيه إرغام أعداء الله وإعزاز أوليائه، وعلى هذا القياس كل كسب يكون في فروض الكفايات؛ وتحمل بعض أعباء الخلق، كالزراعة والتجارة في جلب الأشياء النافعة لعموم الناس وغير ذلك، فإنها تكون من أطيب الكسب الذي يجبع فيه الكاسب بين الارتزاق ونفع الخلق. * والهيعة: الصوت المفزع المخوف من عدو أو غيره. * وقوله: (يبتغي القتل مظانه) أي في مظانه، ومظان الشيء: أماكنه التي يظن وجوده فيها، وشعفات الجبال: أعاليها، واليقين: الموت، والشبعة: واحدة الشعاب، وهي الطرق في الجبال.

- 2422 - الحديث السادس والستون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل أعمى، قال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله (70/أ) - صلى الله عليه وسلم - أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: (هل تسمع النداء بالصلاة؟) قال: نعم، قال: (فأجب)]. * هذا الأعمى هو ابن أم مكتوم. * وفي الحديث دليل على وجوب الجماعة، وقد سبق هذا الحديث وشرحه. - 2423 - الحديث السابع والستون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم)]. * هذا الحديث يدل على أن المراد من العبد الذل وإظهار العبودية، وبذلك

يبين عز الربوبية. * وفيه من الفقه تقديم القسم قبل ذكره الحديث، توطئة لكمال التصديق. * وقوله: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم) فما قال إلى الجنة؛ بل أطلق، والإطلاق ها هنا قد ينصرف إلى الإعلام، فيشير كل الإشارة لأهل العلم إلى أن الله عز وجل إنما خلق الخلق إيجادا لما كانت صفته القائمة به سبحانه وتعالى يقتضيه من أنه غفور عفو صفوح متجاوز، لم يكن من إيجاد الخلق يذنبون فيغفر لهم، ويخطئون فيعفو عنهم، ويخالفون فيتجاوز لهم. * ولا أرى قول الله سبحانه وتعالى لملائكته: {إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} إلا أنهم لما عرفوا من صفات الله العفو، فقالوا: إن ذلك يقتضي إيجادك من يذنب فيغفر له ويخطئ فتعفو عنه، ثم قالوا: {ونحن نسبح بحمدك} ولا تكون هذه الواو إلا واو حال أي: ونحن نسبح بحمدك، فما خاطبوه بخطاب (70/ب) العلماء أجابهم عز وجل بقوله: {إني أعلم ما لا تعلمون}. - 2424 - الحديث الثامن والستون بعد المائة: [عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يقطع الصلاة: الكلب، والمرأة، والحمار، ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل)].

* قد سبق هذا الحديث في مسند أبي ذر رضي الله عنه. - 2425 - الحديث التاسع والستون بعد المائة: [عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا أداها الله إليك، فإن المساجد لم تبن لهذا)]. * قد سبق هذا الحديث في مسند بريدة وتكلمنا عليه. - 2426 - الحديث السبعون بعد المائة: [عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق)].

* قد ذكرنا ما يلزم المالك في حق المملوكين من الإحسان إليهم والرفق بهم في مسند أبي ذر ومسند أبي مسعود. - 2427 - الحديث الحادي والسبعون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يفرك مؤمن مؤمنه، إن كره منها خلقا رضي آخر)]. * في هذا الحديث من الفقه أن المؤمن لا يخلو من خلق حسن، فإنه إذا كانت المرأة مؤمنة لم يطرد فيها ما يكرهه المؤمن، والمؤمنة يحملها الإيمان على استعمال خصال محمودة يحبها المؤمن فيحمل ما لا يحب لما يحب، (71/أ)، وإنما يكره المؤمن من المؤمنة الخلق الذي لا يرضاه، وفيها الخلق الذي يرضاه، وبعد أن يكون إيمانها موجودا فإنه يغتفر لذلك ما يكون منها. * والفرك (بكسر الفاء): البغض. - 2428 - الحديث الثاني والسبعون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تذهب الأيام والليالي حتى

يملك رجل من الموالي، يقال له الجهجاه)]. * هذا من الأمور الغيبية التي أخبر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالإيمان بكون ذلك واجب؛ لأنه خبر صادق. - 2429 - الحديث الثالث والسبعون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة - يهودي ولا نصراني - ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار)]. * في هذا الحديث من الفقه وجوب اتباعه - صلى الله عليه وسلم -، ونسخ جميع الشرائع بشرعه، فمن كفر به؛ لم ينفعه إيمانه بغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم أجميعن. - 2430 - الحديث الرابع والسبعون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في

القدر، فنزلت: {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر (48) إنا كل شيء خلقناه بقدر}]. * في هذا الحديث من الفقه أن المشركين وأهل الفسق يتعلقون بالأقدار، طالبين بذلك النكول عن الأعمال، فيريدون (71/ب) بخوضهم في ذلك الفتنة، لا التماس الحق، وقد أنزل الله عز وجل في ذلك الكافي المقنع قي قوله سبحانه وتعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}. والقراء السبعة اتفقوا على نصب كل، وتقدير نصبه بفعل محذوف، معناه إنا خلقنا كل شيء، خلقناه بقدر، فيستنبط من هذا أن الله سبحانه خالق كل شيء من خير وشر، وأن الله سبحانه وتعالى خلق ما خلقه بقدر سبق ومقدار لا يزيد عنه شيء من ذلك ولا ينقص. * فأما من تعلق بقراءة شاذة، وهي رفع كل، فإنها قراءة ضعيفة؛ لأن معناها إنا كل شيء خلقناه فهو بقدر، وهذا لا يرتضى معناه، وهذه الآيات إنما نزلت دواء لسقم من يقبل الإصلاح دون من أعضل به داؤه، فصار من الهالكين. - 2431 - الحديث الخامس والسبعون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: لما نزلت: {من يعمل سوءا بجز به} بلغت من

المسلمين مبلغا شديدا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة، حتى النكبة ينكبها، والشوكة يشاكها)]. * في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى جزع المسلمين من هذا النطق، وهو قوله: {من يعمل سوءا يجز به} فسره - صلى الله عليه وسلم -: بأن المؤمن يكفر الله عنه بما يصيبه في دنياه، حتى الشوكة يشاكها، فذاك ينبئ أنه لا يشاك المسلم شوكة فما فوقها إلا كانت حاطة عنه (72/أ) خطيئة أو رافعة له درجة، فإذا كان جزاء العبد في دنياه بما سبق له من خطيئة كان ذلك تطهيرا له. * وأما الأماني؛ فإنها كانت عن شدوه عن عدل الله سبحانه في مجازاة المسيء على إساءته حسب ما سبق به تنزيله، نذارة لعباده لئلا يتظالموا فيما بينهم ولا يتعدوا حدود ما أمرهم به، فإن كرمه جل جلاله على سعته لا ينافيه نفاذ أمره في وعيده عدلا منه سبحانه وتعالى. - 2432 - الحديث السادس والسبعون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يشربن أحد منكم قائما، فمن نسي فليستقئ)].

* قد سبق في مسند انس مثل هذا الحديث وسيأتي في مسند أبي سعيد الخدري مثله. * وقد تقدم في مسند علي رضي الله عنه أنه شرب قائما، وقال: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كما رأيتنوني فعلت). * وكذلك الأكل متكئا يخالف الأصوب. * فأما شرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - قائما، فأراد به شأن الرخصة لئلا يحرج الأمة، فإنه قد يعرض الإنسان العطش، وهو في الطريق يسير، ولا يتأتى له الجلوس، فيجوز له ذلك. - 2433 - الحديث السابع والسبعون بعد المائة: [عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم (72/ب) ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم). وفي رواية: (يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، وإياكم وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم)].

* في هذا الحديث من الفقه تشديد النهي عن الابتداع والتحذير من أهل البدع، والحض على الاتباع، وهو ينبه الإنسان ألا يكون في شيء من أمره إلا متبعا لمن يثق بسلامة ناحيته؛ وكونه ممن يصلح اتباعه على سبيل سنة وحال رواية. - 2434 - الحديث الثامن والسبعون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع)]. * هذا الحديث قد سبق في مسند أنس وأشير إليه فأقول: إن قوله: (أول شافع) يدل على أن الشفعاء يتبعونه، وأن أحدا لا يقبل شفاعته إلا بعد شفاعة نبينا - صلى الله عليه وسلم -. - 2435 - الحديث التاسع والسبعون بعد المائة: [عن أبي هريرة، قال: (كنا قعودا حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، معنا أبو بكر

وعمر في نفر، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا، فأبطأ علينا، وخشينا أن يقتطع دوننا، وفزعنا فقمنا، فكنت أول من فزع. فخرجت أبتغي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى أتيت حائطا للأنصار لبني النجار، فدرت به هل أجد له بابا؟ فلم أجد، فإذا (73/أ) ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجه، (والربيع: الجدول) قال: فاحتفزت، قدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (أبو هريرة؟) فقلت: نعم يا رسول الله، قال: (ما شأنك؟) قلت: كنت بين أظهرنا، فقمت فأبطأت علينا، فخشينا أن تقتطع دوننا، ففزعنا، فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط، فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، فدخلت وهؤلاء الناس ورائي، فقال: (يا أبا هريرة) - وأعطاني نعليه - فقال: (اذهب بنعلي هاتين، فمن لقيت من وراء الحائط يشهد ألا إله إلا الله، مستيقنا بها قبله، فبشره بالجنة). فكان أول من لقيت عمر رضي الله عنه، فقال: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟ قلت: هاتان نعلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بعثني بهما من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قبله بشرته بالجنة، فضرب عرب بين ثديي، فخررت لاستي، فقال: ارجع يا أبا هريرة، فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجهشت بالبكاء وركبني عمر، فإذا هو على أثري، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما لك يا أيا هريرة؟) قلت: لقيت عمر فأخرته بالذي بعثني به، فضرب بين ثديي ضربة خررت لاستي، فقال: ارجع، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا عمر ما حملك على ما فعلت؟) قال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أبعثت أبا هريرة بنعليك من

لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشره (73/ب) بالجنة؟ قال: (نعم). قال: فلا تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فخلهم)]. * في هذا الحديث من الفقه جواز أن يقوم سيد القوم فلا يتبعه أصحابه، إذا فهموا من قيامه أنه لأمر لا يقتضي المشاركة، ويدل على هذا أنهم جلسوا على انتظار عوده، فلما أبطأ عليهم بطأ خافوا معه عليه - صلى الله عليه وسلم -، قاموا يطلبونه. * وفيه أيضا جواز أن يحمل الشفيق إشفاقه على مصحوبه إلى أن يلج عليه في المكان الذي هو فيه من غير بابه؛ كما فعل أبو هريرة، وإنما يرخص في مثل هذا إذا جرى مثل تلك الحال من الخوف على رسوال لله - صلى الله عليه وسلم - وإلا فلا تؤتى البيوت إلا من أبوابها. * وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أخبره أبو هريرة بشدة إشفاق المسلمين عليه وحذرهم عرف - صلى الله عليه وسلم - أن هذا من إمارة الإيمان، وأراد أن يسر قلوبهم بهذه البشرى، فقال له: اخرج وخذ نعلي، وإنما أعطاه نعليه لتكون أمارة على أنه هو الذي أرسله بتلك الرسالة. * فأما تخصيص ذلك بالنعل، فلا أرى ألا أنه - صلى الله عليه وسلم - قد كان في ذلك الانفراد مناجيا لله عز وجل، وقد كان موسى عند دنوه للمناجاة أمر بخلع نعليه، فإن كان أراد أن الجمع بين خلع النعلين وبين جعلهما علامة لم يذكره أبو هريرة عنه

فذاك، وإنما أمر موسى عليه السلام بخلع النعلين لأنهما ....... - 2436 - الحديث الثمانون بعد المائة: [عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولك (الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة)].

- 2437 - الحديث الحادي والثمانون بعد المائة: [عن أبي هريرة، قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أكره، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي. قلت: يا رسول الله، إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره. فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم اهد أم أبي هريرة) فخرجت مستبشرا بدعوة (74/أ) نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما جئت فصرت إلى الباب؛ فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي فقالت: يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد عبده ورسوله. قال: فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله أبشر فقد استجاب الله دعوتك، وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وقال: (خيرا). قال: قلت: يا رسول الله، ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحببهم إلينا، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم

حبب عبيدك هذا - يعني أبي هريرة - وأمه، إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهما المؤمنين، فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني، إلا أحبني). وقد ذكره البرقاني وأبي مسعود، وفيه: (والله ما خلق الله مؤمنا يسمع بي ولا يراني إلا أحبني) قلت: وما علمك بذلك يا أبا هريرة. قال: إن أمي كانت امرأة مشركة، وكنت أدعوها إلى الإسلام فتأبى علي)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن أبا هريرة، كان من توفيقه أنه لما كانت أمه تسمعه ما يكره على إسلامه، لم يقابلها بمثله، ولكنه أتى الأمر من بابه، وطلب الفضل من أهله، ورأى أن يطلب لها الخير على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ليكون قد بلغ ما أراده في بر والدته، فطلب لها (74/ب) من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جرى به قدر الله، لأن الله تعالى جعل إسلامها آية دالة على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسالته؛ ليعلم كل سامع هذا الحديث أن النار لا تطفئ بمثلها من النار، ولكن بالماء، ويستدفع السوء بالدعاء، وتطلب المستصعبات من القادر على الأشياء. ألا ترى أنه لما طلب ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجابه، كان إسلام أمه في وقته، فهدى الله أمه ببركته وتوفيقه لسؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، كما أنه وفقه لأن يطلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلبا يعم سائر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في كل من أحبه، فهذا يدل على أن أبا هريرة مع دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن آية الإيمان حبه؛ فإذا رأيت أحدا من الناس لا يحب أبا هريرة بعد هذا الحديث فاتهمه.

- 2438 - الحديث الثاني والثمانون بعد المائة: [عن ابن عمر، وأبي هريرة، أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على أعواد منبره: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو يختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين)]. * هذا الحديث قد تقدم في مسند ابن عمر، وفي مسند ابن عباس رضي الله عنهما، وتكلمنا عليه، ونشير إليه ها هنا فنقول: إن فيه إشارة إلى تحذير من ترك الجمعة إهمالا لها مع اعتقاد وجوبها عليه؛ إلا أن فيه من التحذير لمن لا يعتقد (75/أ) وجوب الجمعة، ما هو أشد مما هو لمن يتركها مع اعتقاد وجوبها، وهو كل من لا يصلي الجمعة معتقدا أنها لا تجب عليه من الرافضة بتأويل يعلقونه على مستحيل. * وفيه: أن هذا الذنب في ترك الجمعة يتعلق به عقوبتان في الدنيا، مع عذاب الآخرة، وهما الختم على القلب، ثم غمور الغفلة. * وقوله: (ليكونن) باللام والنون المؤكدين، دليل على قوة ذلك، وعلى أن كل تارك للجمعة، فإنه إذا اعتبر سره وجد فيه نوع عداوة للدين من حيث إنه

لا يستطيع أن يرى علن أمر الإسلام وظهور شعاره في عبادة الله والصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد أبى الله سبحانه وتعالى إلا إظهار ذلك وليكره المشركين. - 2439 - الحديث الثالث والثمانون بعد المائة: [عن أبي الشعشاء، قال: (كنا قعودا في المسجد مع أبي هريرة، فأذن المؤذن، فقام رجل يمشي، فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن الإنسان لا يجوز له الخروج من المسجد بعد الأذان، إلا أن يكون له عذر؛ فإن فعل لغير عذر فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -. لأن هذا الحديث إشارة إلى ما تقدم في الحديث الذي قبله من أنه إذا خرج من المسجد بعد الأذان ولا عذر له في خروجه مع كونه متطهرا؛ لقد أشعر بأنه إنما كره صلاة الجماعة، فكانت معصية النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أري أن أحدا ممن ينتمي إلى (75/ب) الإسلام، يعتمد هذا في الجماعة والجمعة في الحديث المتقدم إلا الرافضة.

- 2440 - الحديث الرابع والثمانون بعد المائة: [في فتح مكة، عند عبد الله بن رباح، قال: (وفدت وفود إلى معاوية، وذلك في رمضان، فكان يصنع بعضنا الطعام، فكان أبو هريرة رضي الله عنه مما يكثر أن يدعونا إلى رحله، فقلت: ألا أصنع طعاما فأدعوهم إلى رحلي؟ فأمرت بطعام يصنع، ثم لقيت أبا هريرة من العشي، فقلت: الدعوة عندي الليلة، فقال: سبقتني، فقلت: نعم فدعوتهم. فقال أبو هريرة: ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معاشر الأنصار؟ ثم ذكر فتح مكة فقال: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قدم مكة، فبعث الزبير على إحدى المجنبتين، وبعث خالدا على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسر، فأخذوا بطن الوادي، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتيبة، قال: فنظر فرآني، فقال: (أبو هريرة) فقلت: لبيك رسول الله، فقال: لا يأتيني إلا الأنصاري). ومن الرواة من قال: فقال: (اهتف لي بالأنصار)، قال: فأطافوا به، ووبشت قريش من أوباشا لها وأتباعا. فقالوا: تقدم هؤلاء، فإن كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم؟) ثم قال بيديه - إحداهما على الأخرى - ثم قال: (حتى توافوني بالصفا). قال: فانطلقنا، فما شاء أحد منا أن يقتل أحدا إلا قتله، وما أحد منهم (76/أ) يوجه إلينا شيئا، قال: فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله، أبيدت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم. قال: (من دخل دار أبي سفيان فهو

آمن). فقالت الأنصار بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته. قال أبو هريرة: وجاء الوحي، وكان إذا جاء لا يخفى علينا، فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ينقضي الوحي - فلما قضى الوحي - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا معشر الأنصار، قالوا: لبيك يا رسول الله، قال: (قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، قالوا: قد كان ذلك، قال: كلا، إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم، فأقبلوا أليه يبكون ويقولون: والله! ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله ورسوله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله ورسوله يصدقانكم، ويعذرانكم). قال: فأقبل الناس إلى دار أبي سفيان وأغلق الناس أبوابهم. قال: وأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الحجر فاستلمه، ثم طاف بالبيت. قال: فأتى على صنم إلى جانب البيت كانوا يعبدونه، قال: وفي يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوس، وهو آخذ بسية القوس، فلما أتى على الصنم جعل يطعن في عينه، ويقول: (جاء الحق وزهق الباطل) فلما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه، حتى نظر إلى البيت، ورفع يده، فجعل يحمد الله ويدعو ما شاء الله أن يدعو). (76/ب) وفي الحديث بهز نحوه، وزاد ثم قال بيديه، إحداهما على الأخرى: (احصدوهم حصدا)، وفيه قالو: قلنا: ذاك يا رسول الله. قال: (فما اسمى إذن، كلا إني عبد الله ورسوله).

وفي رواية: (وفدنا إلى معاوية بن أبي سفيان، وفينا أبو هريرة فكان كل رجل منا يصنع طعاما يوما لأصحابه، فكانت نوبتي، فقلت: يا أبا هريرة اليوم نوبتي، فجاؤوا إلى المنزل، ولم يدرك طعامنا، فقلت يا أبا هريرة: لو حدثتنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يدرك طعامنا؟ فقال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادي. فقال: (يا أبا هريرة، ادع لي الأنصار) فدعوتهم، فجعلوا يهولون، فقال: يا معشر الأنصار: هل ترون أوباش قريش؟ قالوا: نعم. قال: (انظروا إذا لقيتموهم غدا: أن تحصدوهم حصدا) وأخفى بيده، ووضع يمينه على شماله، وقال: (موعدكم الصفا). قال: فما أشرف لهم يومئذ أحد إلا وأناموه. قال: وصعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصفا، وجاءت الأنصار فطافوا بالصفا، فجاء أبو سفيان، فقال يا رسول الله أبيدت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن؟) فقال الأنصار: أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته، ورغبة في قريته، ونزل الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: قلتم (77/أ) (أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته، إلا فما اسمي إذن؟ (ثلاث مرات) أنا محمد عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم، قالوا: والله! ما قلنا إلا ضنا بالله ورسوله. قال: (فإن الله ورسوله يصدقانكم

ويعذرانكم)]. * قي هذا الحديث من الفقه: أن بركات الضيافة كانت سببا في ذكر الحديث. * وفيه: أن العسكر يكون له مجنبتان، يجعل على كل من المجنبتين زعيم معروف بالنجدة والبأس، لأن الزبير وخالد بن الوليد، كانا مشهورين بشدة المطلع. * وفيه أيضا من الفقه: تمييز الحسر من الدارعين لئلا يكون من الدارعين حاسر؛ فإنه لا ينتصف إن هو وصل إلى حيث يصلون، أو أن يضعفهم وقوفهم عليه، إن هو تأخر عنهم. * وفي أيضا: أن الحسر يرتب لهم أمير، يكف ذا الشرة والحدث من أن يخف إلى إلقاء نفسه على وجه يخاف منه أن يعود بوهن على المسلمين. وفيه أيضا من الفقه: أن زعيم الجيش لا ينكشف لعدو بمفرده، ولكن يكون في الكتيبة والجماعة منقطعا في المعسكر، كما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في كتيبة. * وقوله: (اهتف لي بالأنصار) أي: ادعهم دعاء ظاهرا مسمعا. * وقوله: (فأطافوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختارهم في وقت الشدة للإطاحة بنواحيه؛ أمنا لهم عليه من حيث ثقتهم في الدين ومن حيث شجاعتهم وصدقهم النزال، وكفى هذا شرفا لهم. * (77/ب) ووبشت قريش: أي: جمعت من قبائل شتى.

* وفيه أيضا: أن هناك في مثل تلك الحالة مقنعة عن الإفصاح؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشار لهم بيده على الأخرى، لما كنى به عن حبهم واستيصالهم. * وفيه أيضا: دلالة على أنه وثق لهم بالنصر لقوله: (حتى توافوني بالصفا). * وقوله: (أبيدت خضراء قريش) أي: أهلكت واستوصلت. * وفيه: أن الحال إذا بلغت إلى استنزال واستعطاف من العدو يدل ذلك له مع أمن العاقبة، فإن أبا سفيان لما استعطف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: (من دخل دار أبا سفيان فهو آمن) أي: من دخلها وترك القتال. * فأما تخصيص دار أبي سفيان بذلك؛ فقال ثابت البناني إنما قال هذا لأنه كان إذ أوذي بمكة دخل دار أبي سفيان فأمن، فكافأه على ذلك بهذا القول. والحسر: جمع حاسر، وهو الذي لا درع عليه ولا مغفر. * وقوله: (فإذا جاء الوحي لا يرفع أحد طرفه إليه) هذا من أدب الصحابة، وأنهم كانوا لا يرفع أحد منهم طرفه إليه وقت الوحي احتراما. * وفيه من الفقه: إن الرجل قد يظن الظن غير الصالح ثم يفيء عن قريب لكون الأنصار قالوا: أما الرجل فأدركته رغبة في قومه. * وفيه أيضا: أن الله تعالى تداركهم بما أوحى إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى أخبرهم بما كانوا نطقوا به، فاعترفوا رضي الله عنهم اعترافا فأمحى ما كان من هفوة، حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المحيا محياكم، والممات مماتكم (78/أ) فقالوا: ما قلنا إلا بالضن بالله وبرسوله. الضن. البخل والشح، يعنون: إنا ما قلنا ما

قلنا شكا في نبوتك، ولكن لما رأينا رفقك بعشيرتك وقومك، خفنا أن تؤثر المقام عندهم على المقام عندنا، فكان جوابه لهم: المحيا محياكم والممات مماتكم، فكان مقصودهم صالحا، إلا أن النطق الذي ذكروه لم يحترزوا فيه حق الاحتراز لقولهم: أخذه رأفة بعشيرته ورغبة في قريته، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - لا يرأف إلا بالمؤمنين لقوله عز وجل: {بالمؤمنين رءوف رحيم} فكيف كان يرأف بكافر. * وقوله: (فإن الله ورسوله يصدقانكم) أي: في هذا المقصد، ويعذرانكم فيما كان من هذا النطق. * وفيه أيضا: من الدليل على أن الرجل يستحب له أن يكون في يده شيء من السلاح، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استعان بالقوس حتى طعن بسيتها، وضرب عين الصنم، فأقامها مقام العصي، ونزه يده الشريفة عن أن يطعن الصنم بها، أو أن يمس بها صنما. * وفيه أيضا: استحباب حمد الله تعالى، والثناء عليه على آثار النعم لكونه صعد إلى الصفا عند تمام الفتح حامدا لله عز وجل. * وأما البياذقة: فقيل: إنهم الرجالة. * وقولهم: (فما أشرف لهم أحد) أي: ظهر لهم، إلا أناموه، أي: قتلوه.

- 2441 - الحديث الخامس والثمانون بعد المائة: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات، مات موتة جاهلية، ومن (78/ب) قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبية، فقتل فقتله جاهلية، ومن خرج على أمتي، يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لدى عهده فليس مني ولست منه)]. * هذا الحديث قد سبق، إلا أنا نتكلم عليه فنقول: قوله: (من خرج من الطاعة) فإنه إن كان - صلى الله عليه وسلم - عنى بقوله الطاعة، طاعة إمام المسلمين، فإنه بين عن ذلك: تعريفه الطاعة (بالألف واللام) التي للعهد، فيكون خروج الخارج عن الطاعة، هو خروجه عن طاعة الإمام، وإن كان ينصرف إلى طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن من مهمها طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طاعة إمام المسلمين إذ هو نائب عنه - صلى الله عليه وسلم -، فيكون الخارج عن طاعة الإمام هو الخروج عن طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وأما قوله: (وفارق الجماعة) فإنه يعني به جماعة المسلمين إذا اجتمعت على إمام وأعطته سفقة إيمانها عن كتاب الله وسنة رسوله ففارقهم واحدا

وجمعهم في معنى واحد، فإنه يشملهم هذا الوعيد بمفارقة الجماعة التي قد عرفت بالألف واللام اللتين للعهد، وهي جماعة المسلمين. * وقوله: (فمات) يعني إن أدركه الموت على حال فرقته للمسلمين فإنه يموت ميتة الجاهلية، والجاهلية هم الذين ماتوا كفارا، فحذر رسول (79/أ) الله - صلى الله عليه وسلم - كل من يموت من فرقته تلك من أن يموت ميتة جاهلية قد أخرجتها النخوة، وصرفتها الحمية الباطلة، عن أن يأتمر لأمير المؤمنين وإمام المسلمين النائب عن رسول رب العالمين. * وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه من تاب ورجع إلى الجماعة وطاعة الإمام قبل أن يموت، خرج عن هذا الوعيد لأن الفاء من حروف العطف من غير مهلة. * وقوله: (من قاتل تحت راية عمية) فإن هذا المقاتل تحت الراية يزيد في الشر على الذي خرج ولم يقاتل؛ فإن هذا لم يرض بخروجه حتى أضاف إليه أن يقاتل طائفة الحق تحت راية عمية، وقد فسر أحمد بن حنبل رضي الله عنه هذا فقال، هو الأمر الأعمى الذي لا يستبان وجهه بالعصبية. والذي يتحصل من قول أحمد رضي الله عنه أنه إنما تكون الراية العمية إذا كانت ليست لإمام، ولا من جانب إمام، وإنما يناشب لها من يناشب تحاميا للأنساب والقبائل، أو هوى يغلب، أو ضلالة ينشرها في الناس التعصب وإنما

قال: فقتل، لأنه ذكر الراية والقتال، وذكر الكلام الأول ليس فيه قتال، فلذلك قال: فمات، ويعني بقوله: فقتلة جاهلية، أنه من قتله المسلمون من الجاهلية فإنه أعظم شرا ممن مات حتف أنفه من الجاهلية؛ لأن هذا قد حاد المسلمين حتى قتله الله بأيديهم، فكان هذا أغلظ حوبا. * وقوله: (من خرج على أمتي) فإنه - صلى الله عليه وسلم - إنما يعني به من خرج على أمته كلها لا يفرق بين (79/ب) محق منها ومبطل، ولا يميز بين صالح منها وغوي، ولا يعتبر حال مؤمن من حال كافر، فإن هذا لا يكون خروجه لهوى في دين ولا لضلالة في مذهب، وإنما يكون شغله الباطل للدنيا خاصة، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ليس مني ولست منه)، فكرر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نطق التبري مرتين، فإنه ليس مني وأنا لست منه، تأكيدا لتبرئه - صلى الله عليه وسلم - منه، ونفيه عنه ليعرف بذلك. - 2442 - الحديث السادس والثمانون بعد المائة: [عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (خير أمتي القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم)، والله أعلم: أذكر الثالث أم لا؟ - قال: ثم يخلف قوم يحبون السمانة، يشهدون قبل أن يستشهدوا)]. * أما فضيلة من يليه من القرون - صلى الله عليه وسلم - فلصحبته ورؤيته.

* وأما قوله: (يشهدون ولا يستشهدون) فقد سبق في مسند عمران بن حصين. * وقوله: (ثم يخلف قوم) فإنه (ثم) يقتضي العطف، ولكن مع المهلة فقد يتناول هذا النطق من يكون في القرن الثالث، وقد يتناول ما بعد ذلك. * فأما قوله: (يحبون السمانة) فإن الذي أرى فيه أن السمانة مصدر لقولنا سمن يسمن، سمننا وسمانة، وذلك أنهم إذا كانوا من أهل حب الراحة التي تعقب آفات منها السمانة فقد أحبوها. وذلك أن الراحة عند المؤمن في هذه الدار غير مأمونة لأنها ممر إلى غيرها، فهي إذا تعرض لها متعرض أفادته (80/أ) الراحة الحقيقية. وأن من نتائج حب الراحة رهل البدن وكثرة لحمه، إلا أنه يسمى كثرة اللحم عن الراحة سمنا، فأما كثرة اللحم عن الرياضة فقد يسمى بدنا، وذلك محمود في البدن، لأن يكون بقدر الله عن جودة الهضوم واستقامة المزاج. وأما السمن عن الراحة فيكون عن قلة تحلل الفضول، واحتقان الأبخرة، فهو إلى قتل صاحبه قريب، ثم إنه في أعمال الخير معوق وفي مواضعة الأعداء مؤخر، وعن نفع الخواص نقضا للحوائج، وإنفاق القوى الفاضلة عليهم مثبط بخلاف البدن؛ فإنه في هذه الأحوال كلها معين كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بدن وعلاه اللحم ولم يقل أنه سمن - صلى الله عليه وسلم -.

فأما باغي الراحة قبل دخول الجنة فهو كالكاتب على الماء، ولقد أجاد أبو تمام حين يقول للمعتصم: بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها .... تنال إلا على جسر من التعب - 2443 - الحديث السابع والثمانون بعد المائة: [عن أبي هريرة قال: (إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها)، قال حماد بن زيد: فذكر من ريح طيبها، وذكر المسك - قال: (ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض، صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق به إلى ربه، ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل)، قال: وإن الكافر إذا خرجت روحه - قال حماد - وذكر من نتنها، وذكر لعنا، فيقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض، قال فيقال: (80/ب)

انطلقوا به إلى آخر الأجل). قال أبو هريرة: فرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ريطة كانت عليه، على أنفه، هكذا)]. * في هذا الحديث من الفقه: أن روح المؤمن جسم وليست عرضا. * وفيه أيضا: أنه يصعد بها. * وفيه دليل على أنها هي الشيء لعمر البدن، فإذا فارقته بالخرب. * وقوله: (فذكر من ريح طيبها)، وذلك أبلغ من قوله من (طيب ريحها)، لأن النطق الأول أشمل. * وقوله: (جاءت من قبل الأرض) وهو معنى يصعد بها، وأن الروح إذا صعد بها إلى الله، قال: انطلقوا بها إلى آخر الأجل، فذلك قوله عز وجل: {ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده}، وهو يوم القيامة؛ لأن الله تعالى قال: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل}. * وأما الكافر فروحه نتنة وذكر لعنا، أراه بأن تقول الملائكة لروح المؤمن صلى الله عليك، وعلى جسد كنت تعمرينه. * وفيه أيضا دليل على جواز الصلاة على كل مؤمن، لقول الملائكة صلى الله عليك، وعلى جسد كنت تعمرينه.

* والريطة: كل ملاءة لم تكن لفقين، ومعنى (رد ريطة على أنفه) أي وقى أنفه من نتن ريح الكافر، وإنما فعل ذلك ليفقه السامع أنه أراد - صلى الله عليه وسلم - خبث معنى الكافر ونتن أحواله، إذ لم يكن هنالك بين يديه حينئذ كافر يرد طرف ردائه على أنفه، ولكن قد كان الذكر حينئذ في النطق ذفر يحسه الروح الصافي كروح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يحس غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنتن إلا عند وجود صورة النتن. - 2444 - (81/أ) الحديث الثامن والثمانون بعد المائة: [عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة، صلاة الليل). وفي رواية: عن أبي هريرة، يرفعه، قال: (سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ وأي الصيام أفضل بعد شهر رمضان؟ قال: (أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة، الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان، شهر الله المحرم)]. * في هذا الحديث ما يدل على فضيلة شهر المحرم، من حيث إنه أول العام فيستقبله بالعبادة، فيرجى بذلك أن يكون مكفرا لباقي العام، كما ذكرنا في فضيلة الذكر في أول النهار.

* فأما صلاة الليل فقد تقدم ذكر فضيلتها، وأنها أبعد عن الرياء، وأقرب إلى الإخلاص، وأشد وطأة، وأقوم قيلا. * وأرى في هذا الحديث إشارة إلى أنه لما كان القتال محرما في المحرم، وكان انتهاز وقته للصوم فرصة من أجل أن أوقات إباحة القتال لا يقتضي أن يكون المؤمن فيها صائما لما يضعف الصوم أهله، وكان ذلك في المحرم؛ ولأن القتال ربما أدى إلى السباب، والصائم مأمون بترك السباب، ولذلك جاء في الحديث في الصائم: (فإن امرؤ قاتله فليقل: إني صائم). - 2445 - الحديث التاسع والثمانون بعد المائة: [عن أبي هريرة، أنه قال: (سجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في: {إذا السماء انشقت} و {اقرأ باسم ربك}]. * هذا الحديث قد تقدم (81/ب)، وبينا أنه حجة على من لا يرى في المفصل سجدة. * * * وهذا آخر مسند أبي هريرة رضي الله عنه * * *

صفحة فارغة

مسند جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه

مسند جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أخرج له في الصحيحين مائة وعشرة أحاديث المتفق عليه منها ثمانية وخمسون وانفرد البخاري بستة وعشرين، ومسلم بستة وعشرين - 2446 - الحديث الأول من المتفق عليه: [عن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لما كذبتني قريشن قمت في الحجر،

فجلى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه). وفي رواية: (لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس ...)]. * هذا الحديث قد تقدم، وبينا أن الله عز وجل أزال معاذير قريش بما أوضح لهم من دلالة صدقه - صلى الله عليه وسلم -. * ومعنى: (طفقت أخبرهم): أخذت في الوصف؛ ولما كذبته قريش في أنه أسري به إلى بيت المقدس في بعض ليلة، وبلغ ذلك منهم، كما جاء في الحديث الذي تقدم، في قوله: (فبلغ ذلك مني)، فقال - صلى الله عليه وسلم - في الحجر، وكان هذا القيام قيام صورة تدركه العيون، وقيام ببادية ما أرسل به تدركه بصائر أهل الحق. فلما رآه الله سبحانه وتعالى قائما بأمره في المعنى، قائما بصورته في العيان، أدركه بغوثه، فجلى له البيت المقدس، وهو في الحجر، فشاهده ورأى آياته، فأخبر بها عن معاينة طرية، فهي أبلغ مما لو كان قد علم - صلى الله عليه وسلم - حين دخله في النوبة الأولى أن قريشا ستسأله، ويطوفه طواف مستثبت لأثاره؛ بل لما فوض إلى (82/أ) الله عز وجل، أتاه مبتغاه وقت حاجته إليه، فجلى له بيت المقدس وقت سؤالهم إياه، فجعل يخبرهم وهم لا يشاهدون.

* وفيه أيضا دليل على أن الله سبحانه وتعالى إذا جلى عن مرئ صار ما بين الرأي وبينه من أجرام الجبال والجدر عدما. * وفيه أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر هذا، مشعرا به أمته، أن كل محق منهم إذا أتى بالحق، ونطق بالصدق، فكذبه مكذب، فإن عون الله عز وجل منه قريب، ونصره إياه سريع غير متراخ ولا مترتب، فإن أبي هو من قبل سوء ظنه، واضطرب قلبه هنالك، فإن الإيمان يناديه: لا تلم الغوث، إذا كنت غير مؤمن بسروعه، نزله قائمة إنما ينزل على كل موقن. - 2447 - الحديث الثاني: [عن جابر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: (فبينا أنا أمشي، سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت منه رعبا، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها المدثر (1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3) وثيابك فطهر (4) والرجز فاهجر} قبل أن تفرض الصلاة، وهي الأوثان). وفي رواية: (فجثثت منه حتى هويت إلى الأرض). وفيه: قال أبو سلمة (والرجز: الأوثان) قال: ثم حمى الوحي، وتتابع.

وفي أول حديث عقيل، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثم فتر الوحي عني فترة، فبينما أنا أمشي ... ثم ذكر نحوه). وفي رواية: (سألت أبا سلمة: أي القرآن أنزل قبل؟، قال: {يا أيها المدثر}، قلت: أو {اقرأ} (82/ب)، فقال جابرا: أحدثكم ما حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: (جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري، نزلت فاستبطنت بطن الوادي، فنوديت، فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وعن شمالي، فلم أر أحدا، ثم نوديت، فرفعت رأسي، فإذا هو قاعد على عرش في الهواء - يعني جبريل عليه السلام - فأخذتني رجفة شديدة، فأتيت خديجة، فقلت: دثروني، فدثروني، وصبوا علي ماء، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها المدثر (1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3) وثيابك فطهر}). وفي رواية: (فإذا هو جالس على العرش بين السماء والأرض)]. * في هذا الحديث دليل على أن الوحي فتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزوله وتتابعه؛ ليشتد إليه شوقه، فيكون نزوله إليه يصادف شوقا منه. * وفيه أيضا دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - شاهد الملك على كرسي جالس بين السماء والأرض بعد أن كان جاءه بحراء على غير تلك الصورة.

* والذي أراه أن الله سبحانه وتعالى أراد بذلك زيادة إكرام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحيث جعل الرسول إليه جالسا مجلس الملك على سرير، وهو أعظم صورة تكون لملوك الدنيا، ليكون الاحتفال بالرسول والرسالة مناسبا لهذا التعظيم. * قوله: (فجثثت منه) أي: فرقت رعبا، أي: فزعا، فقلت زملوني، فكل ملتف بثوبه فهو متزمل، ولا أرى هذا الفزغ إلا لاستشعار ثقل ما يحمله - صلى الله عليه وسلم - بحسب فخامة الأمر. * وفيه دليل على أن الرجل إذا أصابه (83/أ) فزع فأثر ذلك على بدنه، فإنه يفزع إلى الدئار، ولا يكون ذلك ناقصا في فضله. * واصل المدثر: المتدثر، فأدغمت التاء في الدال لقرب مخرجهما، والغالب في حال المتدثر أن يكون قاعدا، فإنه يجتمع ليتمكن الدثار منه، فنودي بالقيام، فقيل له: قم فأنذر، والمعنى قم في الأمر، وليس المراد به القيام الذي هو الانتصاب؛ إنما هو القيام بالنذارة وعبر عن القعود الذي هو ضد هذا القيام بأحسن نطق، وهو قوله: {يا أيها المدثر}. * وقوله: (حمى الوحي، وتتابع) أي بعد هذا الأمر، فلما قام - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى ما أمر به من القيام، تتابع الوحي. * وهويت: بمعنى سقطت. * وقوله: (جاوزت بحراء) أي: أقمت فيه. * وفيه دليل على أن حب الخلاء تعرضا لنفحات الخير من الله تعالى مظنة الإقبال، وأن الله جعل إنزال الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقيب تحنثه وانفرادته

لعبادته، واعتزاله أهل وقته من المشركين. * وهذا الحديث يدل على أن قوله: {يا أيها المدثر} أول من أنزل من القرآن. * وفي حديث عائشة أن أول ما أنزل: {اقرأ باسم ربك} ولما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصوت نظر إلى الجهات المعهودة، فلما لم ير أحدا رفع رأسه، وكانت الإشارة في مناداته من فوقه أن الأمر نازل عليه من السماء وليس من الأرض. * فأما كونه صبوا عليه ماء: فإنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أمرهم بالدثار، وإنما هم صبوا عليه الماء برأيهم. * وفترة الوحي: انقطاعه، وأصل الفترة: السكون، والرجعة: الاضطراب. - 2448 - (83/ب) الحديث الثالث: [عن جابر، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمر الظهران نجني الكباث، قال: (عليكم بالأسود منه، فإنه أطيب)، فقلت: أكنت ترعى الغنم؟ قال: (نعم)، قال: (وهل من نبي إلا رعاها؟)]. * مر الظهران: موضع. وقال الأصمعي: البرير، ثمر الأراك. والغض منه

المرد، والنضيج الكباث وأسوده أشده نضجا. * وفي هذا الحديث ما يدل على أنه يتعين النضج واختيار الأجود للمسلمين في كل شيء يدلون عليه، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دلهم على الأطيب. * وقد سبق في مسند ذكر رعيه الغنم. - 2449 - الحديث الرابع: [عن جابر قال: (إنه غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل نجد، فلما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت سمرة فعلق بها سيفه، فنمنا نومة، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: (إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال: من يمنعك مني؟، فقلت: الله - ثلاثا - ولم يعاقبه، وجلس). وفي رواية: (كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلق بالشجرة، فاخترطه، فقال: تخافني؟ فقال: (لا) فقال: من يمنعك

مني؟ قال: (الله)، فتهدده أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقيمت الصلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائقة الأخرى ركعتين، فكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أربع، وللقوم ركعتان). وأول حديث أبان في رواية عفان عنه: (أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بذات الرقاع). قال البخاري: وقال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر: اسم الرجل: غورث بن الحارث، وقاتل فيها محارب بن خصفة) لم يزد البخاري على هذا. وقد ذكر أبو بكر الإسماعيلي متنه من حديث أبي عوانة عن أبي بشر عن سليمان بن قس عن جابر قال: قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محارب خصفة فرأوا من المسلمين غرة، فجاء رجل منهم يقال: غورث بن الحارث، حيث قام على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسيف، فقال: من يمنعك مني؟ قال: (الله)، فسقط السيف من يده، قال: فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السيف من يده، فقال: من يمنعك مني؟ فقال: خيرا تجد، فقال: تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، قال: لا، ولكن أعاهدك على أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلا سبيه، فأتى الصحابة، فقال: جئتكم من عند خير الناس ثم ذكر صلاة الخوف، وأنه صلى أربع ركعات بكل طائفة ركعتين. وقال البخاري: وقال بكر بن سوادة: حدثني زياد بن نافع، عن أبي موسى - وهو موسى بن علي - أن جابرا حدثهم قال: (صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم محارب وثعلبة) لم يزد البخاري على هذا، حذف المتن، وهو أنه - عليه

السلام - (صلى صلاة الخوف يوم محارب وثعلية: لكل طائفة ركعة وسجدتين) كذا ذكر بعضهم، قاله أبو مسعود الدمشقي. وأخرج البخاري حديث أبان تعليقا، وأخرجه مسلم من رواية عفان عن أبان مدرجا على أحاديث للزهري في ذلك قبله، وذكر منه أولن ثم قال: (بمعنى حديث الزهري) وليس في شيء مما قبله من الروايات عن الزهري ما في حديث أبان من صلاة الخوف، وعلمنا ذلك من إيراد البخاري كذلك، ثم وجدنا مسلما قد أخرجه بعينه متنا وإسنادا بطوله في الصلاة، ولم يدرجه، فصح أن مسلما قد أخرجه بعينه متنا وإسنادا بطوله في الصلاة، ولم يدرجه، فصح أن مسلما عني (بمعناه) في البعض، لا في الكل، وإن كان قد أهمل البيان. وقال البخاري في كتابه في المغازي: وقال عبد الله بن رجاء: أخبرنا عمران القطان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه في الخوف: في غزوته السابعة غزوة ذات الرقاع) لم يزد. وأخرجه مسلم بطوله، وفيه كيفية الصلاة بنحو ما مر آنفا في حديث أبان ابن يحيى، وافرد مسلم منه أيضا صلاة الخوف من رواية معاوية بن سلام عن يحيى، وأخرج البخاري منه تعليقا ذكر صلاة الخوف، فقال: قال: ابن إسحاق: سمعت وهب بن كيسان، سمعت جابرا قال: (خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذات الرقاع من نخل، فلقي جمعا من غطفان، فلم يكن قتال، وأخاف الناس بعضهم بعضا فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتي الخوف)].

* (84/أ) ولكونه قد نقض بتخليه من عدون، فأخذ على وعد يجوز أن يفي به، ولأن الله تعالى جعل عاقبة ذلك الأعرابي الإسلام، وكان في ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتله إظهاره لعفوه عن قدره يشعر أنه على ثقة من الظهور فلا يحتاج إلى قتل المستضعفين، وليكون - صلى الله عليه وسلم - حليما عن قدره. * وقد مضى الكلام في صلاة الخوف. - 2450 - الحديث الخامس: [عن جابر، أن عمر جاء يوم الخندق، بعدما غربت الشمس، فجعل

يسب كفار قريش، وقال: يا رسول الله: ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (والله ما صليتها)، فقال: فقمنا إلى بطحان، فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب)]. * في هذا الحديث من الفقه: أنه - صلى الله عليه وسلم - شغله المشركون عن ذكر صلاة العصر حتى غربت الشمس. * وفيه أيضا: أن عمر رضي الله عنه من شدة جزعه لما كاد يفوته من وقتها فقال قولا ذكر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة حتى قال له: (والله ما صليتها) فأقسم على ذلك، وفي قسمه - صلى الله عليه وسلم - إشارة إلى أن غيظه اشتد على من شدهه عنها، فلذلك حلف مظهرا الشدة، الأمر الذي شدهه إذ ليس في هذا (84/ب) ما كان يحتاج أن تثبيته بيمين، وإنما هو لشدة الغيظ على الكفار. * وبطحان: كل مكان متسع. * وإنما قدر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى العصر بعد المغرب، بعذر يكون له من فاتته برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

- 2451 - الحديث السادس: [عن جابر، قال: (قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرى لمن وهبت له). وفي رواية: (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فإنه للذي أعطيها، لا ترجع إلى الذي أعطاها، لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث). وفي رواية: (من أعمر رجلا عمرى له ولعقبه، فقد قطع قوله حقه فيها، وهي لمن أعمر وعقبه). وفي رواية: (إنما العمرى التي أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها) قال معمر: وكان الزهري يفتي بها. وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيمن أعمر له ولعقبه، فهي له بتلة، لا يجوز للمعطي فيها شرط ولا ثنيا). وفي رواية: (العمرى جائزة، وفي رواية: (العمرى ميراث لأهلها). وفي رواية: (أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمري فهي للذي أعمره حيا وميتا، ولعقبه). وفي رواية عن أبي الزبير، قال: (أعمرت امرأة بالمدينة حائطا لها ابنا لها، ثم توفي، وتوفيت بعده، ونزل ولدا، وله أخوة بنون (85/أ) للمعمرة، فقال ولد المعمرة: رجع الحائط إلينا، وقال بنو المعمر: بل كان لأبينا حياته ومماته، فاختصموا إلى طارق - مولى عثمان - فدعا جابرا، فشهد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

بالعمرى لصاحبها، فقضى بذلك طارق، ثم كتب إلى عبد الملك فأخبره ذلك، وأخبره بشهادة جابر، فقال عبد الملك: صدق جابر، فأمضى ذلك طارق، فإن ذلك لبني المعمر حتى اليوم). وفي رواية: (أن طارقا قضى بالعمرى للوارث، لقول جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)]. * العمرى في العطايا، أن يقول الرجل لصاحبه: قد أعطيتك هذه الدار عمري، أو عمرك، وعقب الرجل: ولده وولد ولده. قال أبو عبيد: كان الرجل يريد أن يتفضل على صاحبه بالشيء فيستمتع به ما دام حيا، فإذا هو الموهوب له لم يصل إلى ورثته منه شيء، فجاءت سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - تنقض ذلك، وحكم بأن من ملك شيئا حياته فهو لورثته من بعده. * وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة، فذهب أحمد رضي الله عنه أن العمري توجب تمليك رقبة الشيء، فإذا قال له: أعمرتك داري فقد ملكها المعمر، فإذا مات انتقلت إلى ورثته، وهو قول أبي حنيفة والشافعي. قال مالك: العمري تمليك المنافع، فإذا مات المعمر رجعت إلى المعمر،

فإذا قال فيها ولعقبك فانقرض عقبه عادت إلى المعمر. - 2452 - الحديث السابع: (85/ب) [عن جابر قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفرغ على رأسه ثلاثا). وفي رواية عن أبي جعفر: (أنه كان عند جابر بن عبد الله، هو وأبوه، وعنده قومه، فسألوه عن الغسل؟ فقال: يكفيك صاع، فقال رجل: ما يكفيني، فقال جابر: كان يكفي من هو أوفى منك شعرا، وخيرا منك، ثم أمنا في ثوب). وفي رواية عن أبي جعفر، قال: (أتاني ابن عمك يعرض بالحسن ابن محمد الحنفية، فقال: كيف الغسل من الجنابة؟ فقلت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذ ثلاثة أكف فيفيضها على رأسه، ثم يفيض على سائر جسده، فقال الحسن: إني رجل كبير الشعر، فقلت، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر منك شعرا)]. * في هذا الحديث دليل عن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان كثير الشعر، وإنه كان يغتسل مع ذلك بالصاع، وإنه كان يؤم الناس في ثوب واحد.

* وفيه أيضا دليل على استحباب إفراغ ثلاث على الرأس. * ويقال: إن الحسن هذا هو أول من قال بالإرجاء، فإن كان هاج به هذا لمرض، فقد كانت تبدر به نوابض رأي كونه أنه يقنعه في الاغتسال ما أقنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. - 2453 - الحديث الثامن: [عن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل). وفي رواية: (أكلنا (86/أ) زمن خيبر الخيل، وحمر الوحش، ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحمار الأهلي)]. * في هذا الحديث ما يدل على جواز أكل لحوم الخيل، وقد سبق ذكر النهي عن الحمر الأهلية والكلام عليه في مواضع.

- 2454 - الحديث التاسع: [عن جابر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو قد جاء مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا، فلم يجيء مال البحرين حتى قبض النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما جاء مال البحرين، أمر أبو بكر رضي الله عنه فنادى: من كان له عند رسول الله عدة أو دين فليأتنا، فأتيته، وقلت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لي كذا وكذا، فحثا لي حثية، فعددتها فإذا هي خمسمائة، فقال: خذ مثليها). وفي رواية: (أن جابرا قال: فأتيت أبا بكر رضي الله عنه فسألته فلم يعطني، ثم أتيته فلم يعطني، ثم أتيته الثالثة، فقلت: سألتك فلم تعطني، ثم سألتك فلم تعطني، فإما أن تعطيني وإما أن تبخل عني، قال: قلت: تبخل عني ما منعتك من مرة إلا وأنا أريد أن أعطيك؟. قال ابن المنكدر في روايته: وأي داء أدوأ من البخل؟)]. * قوله: (لو قد جاء مال من البحرين) فيه إشارة إلى أن ذلك لا يجيء وأنا

حي، ولو قال: إن جاء أعطيتك، دل على أنه يعيش إلى أن يجيء مال البحرين، فلما قال: (لو قد جاء مال البحرين) خلص الله نطقه إلا أن يكون كما قال. * وفيه يدل على استحسان سماحة الإمام في وقت العطاء بترك (86/ب) التشديد في التحقيق. * وفيه: أنا أبا بكر رضي الله عنه لما حثا حثية عدها وأعطى مثليها عددا ولم يعطه باقي الحثيات بيده من أجل أنه رضي الله عنه حثى حثية أولى، وكان قدرها ذلك، وكان قادرا على التحقيق بها، ومن قبل الحثية الأولى ما كان قادرا. فدل هذا على أنه مهما استطاع الإنسان التحقيق فلا يعدل إلى الحدس، ولأنه يدرك بالحثية الأولى حيث لم يكن منها بد، وجعل يده في مكان يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكونه نائبا عنه لم يخلص من الحثيتين الأخرتين أن لا يزيد في بسط يديه فيكون في ذلك كالمائل على بيت مال المسلمين، أو بقبضها فيكون كالمائل على المعطي، فرأى أنه يعدل في التحقيق من عد الحثية الأولى، ثم اعطاؤه مثلها مرتين ليخلص من درك حثيتين حيث لم يتهيأ له أن يتخلص من درك الحثيات الثلاث منبها بذلك على الاحتراز في مثل هذا الحال لنفقة لها من احتياج إليها. * والحثية: ما أخذ بالكف مبسوطة. * وهذا الحديث يدل على حسن خلافة أبي بكر رضي الله عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإقامته سنته، وإنجازه وعوده، وسيره بسيرته - صلى الله عليه وسلم -.

- 2455 - الحديث العاشر: [عن محمد بن عمرو، قال: (قدم الحجاج)، وفي رواية: (كان الحجاج يؤخر الصلوات، فسألنا جابر بن عبد الله؟ فقال: (87/أ) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس نقية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء أحيانا يؤخرها، وأحيانا يعجل؛ إذا رآهم يجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطؤوا أخر، والصبح - كانو، أو - وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليها بغلس)] , * هذا الحديث يدل على أن الصلاة في وقتها أفضل. * وقد سبق شرح هذا الحديث في مسند ابن مسعود. * ويدل على أن مراعاة حضور الجيران أولى لقوله: (إذا رأهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطؤوا أخر). - 2456 - الحديث الحادي عشر: [عن جابر قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فرأى رجلا قد اجتمع الناس عليه، وقد ظلل عليه، فقال: ماله؟ قالوا: رجل صائم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

(ليس من البر أن تصوموا في السفر). وفي رواية: (ليس من البر الصوم في السفر)]. * قد ذكرنا في مسند أبي الدرداء، وفي مسند ابن عباس، وفي مسند أنس الصيام في السفر. * وهذا الحديث يدل على استحباب الرفق بالنفس.

- 2457 - الحديث الثاني عشر: [عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا). وفي رواية: (وليقعد في بيته، وإنه أتى بقدر فيه خضرات من بقول، فوجد لها ريحا فسأل؟ فأخبر بما فيها من البقول، فقال: (87/ب) قربوها إلى بعض أصحابه، فلما رأوه كره أكلها، قال: كل، فإني أناجي من لا تناجي). وفي رواية: (من أكل من هذه البقلة؛ الثوم، وقال مرة: البصل، والثوم، والكراث، فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم). وفي رواية: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل البصل والكراث، فغلبتنا الحاجة فأكلنا منها، فقال: (من أكل هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس)].

* قد سبق في مسند عمر رضي الله عنه، وفي مسند ابن عمر، وفي مسند أبي أيوب، وفي مسند أنس رضي الله عنهم النهي عن أكل الثوم والبصل لكراهية ريحه، وذلك يدل على أن الإنسان مأمور بتطييب ريحه واجتناب الريح الخبيثة، ولا سيما تطهير فمه، ولا سيما إذا أراد أن يناجي من له قدر من الخلق، فكيف بمن يناجي بالتلاوة للقرآن الحق عز وجل. فأما إذا أميتا بالطبخ فزالت ريحهما لم يكره أكلهما. * فأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للصاحب: (كل فإني أناجي من لا تناجي) فيجوز أن يكون أراد به - صلى الله عليه وسلم - مناجاته لربه، ويجوز أن يكون أراد أنه يناجيه من الناس العدد الكثير في حوائجهم وأسرارهم وأشغالهم، فليس حكمه في ذلك حكم من لا يناجي إلا نادرا فيستحب اجتناب هاتين الشجرتين، ولا سيما لذوي الأقدار، ومن يكثر مناجاة الناس. * وفي هذا الحديث (88/أ) أن الملائكة تجد الريح، فكما أنه لا يستحب له أن يأكل الثوم لئلا تتأذى الملائكة بريحه، فكذلك يستحب له تعاهد مغابنه ومواضع نفض فضلات قلبه ودماغه وكبده، فإن منفضى القلب الإبطان والدماغ، وكذا الأذنان. والكبد: الحالبان. وإنما كانت هذه الأعضاء الرئيسية لشرفها وقوتها نفضت عنها المؤذي

ليكون في راحة منه فينبغي لكل مؤمن أن يتعاهد نفسه ولا ينزل بها أذى يتأذى به الملك ليكون حسن الصحبة لملائكة ربه، فإنهم غير قادرين على فراقه لأنهم مأمورون بملازمته. * وقوله: (أتى بقدر)، كذا وقع في الكتاب، وهو تصحيف، والصواب: (ببدر)، وكذلك رواه أبو داود في السنن بالباء. قال ابن وهب: البدر: الطبق. وقال الخطابي: سمى الطبق بدرا لاستدارته وحسن اتساقه، تشبيها له بالقمر إذا امتلأ نورا. - 2458 - الحديث الثالث عشر: [عن جابر، قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبعثني في حاجة، وهو يصلي على راحلته، ووجهه على غير القبلة، فسلمت عليه فلم يرد علي، فلما انصرف، قال: (أما إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت أصلي). وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي التطوع وهو راكب على راحلته في غير القبلة). وفي رواية: (كان يصلي على راحلته نحو المشرق، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة). وفي رواية: (رأيت النبي صلى الله (88/ب) عليه وسلم في غزوة أنمار

يصلي على راحلته متوجها قبل المشرق متطوعا). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثني لحاجة، ثم أدركته وهو يصلي). وفي رواية: (وهو يسير، فسلمت عليه، فأشار إلي، فلما فرغ دعاني، فقال: (إنك سلمت آنفا وأنا أصلي، وهو موجه حينئذ قبل المشرق). وفي رواية: (أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو منطلق إلى بني المصطلق، فأتيته وهو يصلي على بعيره، فكلمته، فقال لي بيده هكذا وأومأ زهير بيده، ثم كلمته، فقال لي هكذا - وأومأ زهير بيده نحو الأرض - وأنا أسمعه يقرأ، يومئ برأسه، فلما فرغ قال: (ما فعلت في الذي أرسلتك له؟ فإنه لم يمنعني أن أكلمك إلا أني كنت صلي)]. * في هذا الحديث جواز صلاة المصلي على راحلته حيث توجهت به. * وقد سبق هذا في مسند ابن عمر رضي الله عنه. * وفيه دليل على أن الرجل إذا كلم الرجل في السفر وهو يصلي عرفه إذا فرغ من صلاته أن الصلاة هي التي منعته من الكلام، فيجمع بذلك بين تطييب نفسه عن ترك الرد وبين أن يثير همته للاقتداء به.

* وفيه جواز إشارة المصلي وهو في الصلاة. - 2459 - الحديث الرابع عشر: [عن جابر، قال: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المخابرة، والمحاقلة، وعن المزابنة، وعن بيع الثمر، وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، وأن لا يباع إلا بالدينار والدرهم، إلا العرايا). وفي رواية (89/أ): (عن بيع الثمرة حتى تطعم). وفيه قال عطاء: (فسر لنا جابر فقال: أما المخابرة، فالأرض البيضاء يدفعها الرجل إلى الرجل فينفق فيها، ثم يأخذ من الثمر، وزعم أن المزابنة: بيع الرطب في النخل بالتمر كيلا، والمحاقلة في الزرع على نحو ذلك ببيع الزرع القائم بالحب كيلا. وفي رواية: (عن جابر، (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، وأن يشتري النخل حتى يشقه، والإشقاه: أن يحمر، أو يصفر، أو يؤكل منه شيء. والمحاقلة: أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم، والمزابنة: أن يباع النخل بأوساق من في التمر، والمخابرة: الثلث والربع وأشباه ذلك، قال زيد: قلت لعطاء: أسمعت جابرا يذكر هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. وفي رواية: (نهى عن بيع الثمر حتى يطيب). وفي رواية: (عن بيع التمر حتى يشقح، قلت لسعيد: ما تشقح؟، قال:

تحمار، أو تصفار، أو يؤكل منها). وفي رواية: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة، والمزابنة، والمعاومة، والمخابرة -، قال أحدهما: بيع السنين هي المعاومة - وعن الثنيا، ورخص في العرايا). وفي رواية: (نهى عن بيع السنين)]. * قد فسرنا المحاقلة والمزابنة في مسند ابن عباس، وفسرنا قوله: (نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه) في مسند زيد بن ثابت، وهنالك فسرنا العرايا أيضا. * فأما قوله: (نهى أن يشترى النخل حتى تشقه أو تشقح)، وفسره في الحديث، فقال: تحمار أو (89/ب) تصفار. قال الخطابي: (إنما قال تحمار وتصفار لأنه لم يرد اللون الخالص، فإذا استقر اللون قيل: تحمر وتصفر، والمعاومة: هي بيع السنين، وذلك أن بيع الرجل ما يثمره النخلة أو النخلات سنتين أو ثلاث، وهذا غرر؛ لأنه يبيع شيء غير موجود).

* فأما الثنيا: فهو أن يبيع ثمر بستانه ويستثني منه جزءا غير معلوم. - 2460 - الحديث الخامس عشر: [عن جابر، (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي، فكنت في الصف الثاني أو الثالث). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (قد توفي اليوم رجل من الحبش، فهلم فصلوا عليه، قال: فصففنا، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن). وفي رواية: (كنت في الصف الثاني، وعن ابن جريح: اصحمه). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على أصحمة النجاشي، فكبر عليه أربعا). وفي رواية: (أن أخا لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه، قال: فقمنا فصفنا صفين)]. * هذا الحديث قد تقدم في مسند عمران بن حصين، وتكلمنا عليه.

- 2464 - الحديث السادس عشر: [عن جابر، قال: كانت لرجال منا فضول أرضين، فقالوا: نؤاجرها بالثلث والربع والنصف، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه). وفي رواية: (ولا يؤاجرها إياه). وفي رواية: (ولا يكريها) (90/أ)، وفي رواية: (فإن أبى فليمسك أرضه). وفي رواية: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كراء الأرض وعن بيعها السنين، وعن بيع الثمر حتى يطيب). وفي رواية: (نهى أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ). وفي رواية: (نهى عن كراء الأرض). وفي رواية لمسلم: (من كان له فضل أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه، ولا تبتعوها، فقلت لسعيد: ما لا تبتعونها، يعني الكراء؟ قال: نعم). وفي رواية: (كنا نخابر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنصيب من القصرى، ومن كذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من كانت له أرض فليزرعها أو فليحرثها أخاه وإلا فليدعها). وفي رواية: (نهى عن بيع الأرض البيضاء سنتين أو ثلاث).

وفي رواية: (من كانت له أرض فليهبها أو ليعرها). وفي رواية: (فليزرعها أو ليزرعها رجلا). وفي رواية: (نهى عن كراء الأرض). وفي رواية عن ابن عمر: (كنا نكري أرضنا، ثم تركنا ذلك حين سمعنا حديث رافع بن خديج). وفي رواية عن جابر: (أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن المزابنة والحقول، فقال جابر: المزابنة: الثمر بالثمر، والحقول: كراء الأرض). وفي رواية: (نهى عن بيع السنين)]. * هذا الحديث قد تقدم في مسند رافع بن خديج، وبعضه أيضا تقدم في

مسند ابن عمر، وفسرنا في الحديث الذي قبله حديث النهي عن بيع السنين. * والقصرى: على وزن الفعلاء لغة أهل الشام، وبعضهم يقول: قصرى على وزن فعلى، وقوم يقولون (90/ب): القصارة: وهو ما سقي في السنبل من الحب بعدنا يداس. والأرض البيضاء: هي التي لا شجر فيها ولا زرع.

- 2462 - الحديث السابع عشر: [عن جابر قال: (كنا نعزل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقرآن ينزل). وفي رواية: (أن رجلا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن لي جارية هي خادمنا في النخل، وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل؟ فقال: (أعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها)، فلبث الرجل، ثم أتاه، فقال: إن الجارية قد حبلت، فقال: (قد أخبرتكم أنه سيأتيها ما قدر لها). وفي رواية: (أنه قال: يا رسول الله، حملت، قال: (أنا عبد الله ورسوله)]. * في هذا الحديث جواز العزل، إلا أنه يجوز للإنسان مع أمته من غير أن يستأذنها، ولا يجوز مع زوجته الحرة إلا بإذنها. والعزل لا يدفع ما قدر إنما هو يضعف فاعله على أن يفوت المرأة شطر لذتها؛ وذلك غير مستحب. - 2463 - الحديث الثامن عشر: [عن جابر قال: (كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث، فأرخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (كلوا وتزودوا)، قال ابن جريج: فقلت لعطاء: قال

جابر حتى جئنا المدينة، قال: نعم). وفي رواية: (قال ابن جريج): قلت لعطاء: قال حتى جئنا المدينة، قال: لا). وفي رواية: (كنا نتزود لحوم الهدي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة). (91/أ) وفي رواية: (كنا نتزود لحوم الأضاحي إلى المدينة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية: (كنا لا نمسك لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فأمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نتزود منها ونأكل منها، يعني فوق ثلاث). وفي رواية لمسلم: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فأمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - ن ثم قال بعد: كلوا وتزودوا، أو ادخروا)]. * إنما امتنعت الصحابة عن ذلك بمنع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما منعهم لأجل قوم من الفقراء قدموا المدينة فأراد أن يواسوهم، ثم أباحهم بعد ذلك. * سيأتي هذا البيان في مسند عائشة رضي الله عنها مشروحا إن شاء الله تعالى.

- 2464 - الحديث التاسع عشر: [عن جابر، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح وهو بمكة يقول: (إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام)، قيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة؟ فإنها يطلى به السفن، ويدهن بها الجلود، وتستصبح بها الناس؟ فقال: (لا، هو حرام) ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: (قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها، أجملوه ثم باعوه، فأكلوا ثمنه)]. * بيع الخمر باطل بالإجماع، وثمنها حرام، وكذلك بيع الميتة وثمنها، والأصنام، ومن صور صورة فإنما يبيع صنما، فبيعها يحرم وابتياعها؛ (91/ب) وكذلك يحرم بيع شحوم الميتة. * وأجملوها: اذابوها وقتئذ، بيناه في مسند عمر رضي الله عنه، وإن جمل وأجمل لغتان.

- 2465 - الحديث العشرون: [عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا استجنح الليل، أو كان جنح الليل، فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من العشاء فحلوهم، وأغلق بابك، واذكر اسم الله، وأطفئ مصباحك، واذكر اسم الله، وأوك سقاءك، واذكر اسم الله، وخمر إناءك، واذكر اسم الله، ولو تعرض عليه شيء). وفي رواية: (فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا). وفي رواية: (وأطفئوا المصابيح، فإن الفويسقة ربما جرت الفتيلة، فأحرقت أهل البيت). وفي رواية: (وخمروا الطعام والشراب، قال همام: أحسبه قال: ولو بعود). وفي رواية لمسلم: (غطوا الإناء، وأوكوا السقاء، وأغلقوا الباب، واطفئوا السراج، فإن الشيطان لا يحل سقاء، ولا يفتح بابا، ولا يكشف إناء، فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عودا، ويذكر اسم الله فليفعل، فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم). وفي رواية: (ولا ترسلوا فواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء، فإن الشياطين تنبعث إذا غابت الشمس؛ حتى تذهب فحمة العشاء).

وفي رواية: (غطوا الإناء وأوكوا السقاء، فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء يمر بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه (92/أ) وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء). قال الليث: فالأعاجم عندنا يتقون ذلك في كانون الأول). وفي رواية: جاء أبو حميد يقدح من لبن النقيع، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا حمرته ولو أن تعرض عليه عودا). وفي رواية: (كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستسقى، فقال رجل: يا رسول الله ألا نسقيك نبيذا؟ قال: (بلى)، فخرج الرجل يسعى، فجاء بقدح فيه نبيذ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا خمرته ولو تعرض عليه عودا)، قال: فشرب)]. * جنح الليل وجنحه: طائفة منه، والمعنى: إذا اشتدت ظلمته. * وقوله: (فكفوا صبيانكم) يعني: أول الليل بعد صلاة العشاء، فإن الجن إذا صليت العشاء وانكفأ المصلون إلى منازلهم؛ فكأنهم رأوا أن الطريق قد أخليت لهم في ميقات يشبه بطواف الذين لم يبلغوا الحلم وما ملكت اليمين

في العورات الثلاث، فكأنهم ما دامت الصلوات الانتشار فيها يمتنعون من أجل وقت الصلاة، فإذا انقضت استخلوا الطرق فيسعوا فيها. * والجن منقسمون إلى: مؤمن مأمون على من يلقاه، ومن لا يؤمن منهم لا يؤمن لكفره، ولا يؤمن على الأطفال والصبيان، لأن الصبي غير كامل العقل الذي لا يهوله التهويل، وليس عنده من أسماء الله عز وجل ما يتحصن به من كيد الشيطان غالبا، فأمر بكف الصبيان لذلك. * وقوله: (إذا مضت ساعة من العشاء) فخلوهم لا أراه أشار بذلك إلا إلى الجن، والمعنى خلوهم والطرق. * وأما قوله: (وأغلق بابك واذكر اسم الله) فإن ذلك ليأمن الإنسان (92/ب) من يؤذي. * وقوله: (فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا) فلعله مما قد شرطه عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة لقيهم، على أنهم إنما يسلطون على كل سيء التدبير لتفريط في أمر، والمفرط لا يغلق بابه، ولا يخمر إناءه، ولا يؤكئ سقاءه، فيرونه بإهماله نفسه كالمبيح لهم التطريق إلى ما أهمله من أمره. فأما المحتاط باعتماد الصواب في أموره، فإنه بمقتضى ما يكون قد شرطه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا طريق لهم عليه. * وقوله: (أطفئ مصباحك) فقد تقدم ذكر المراد منه في مسند ابن عمر رضي الله عنه. * وأما قوله: (وأوك سقاءك) فإنه إذا نزل السقاء مكشوفا لم يأمن من أن يلج فيه بعض ذوات السموم.

* وأما تغطية الإناء فقد ذكرنا فيما سبق أنه ينبغي أن يحترس فيه حتى من الذر فإن في الذر داء. * فأما ذكر اسم الله على هذه الأشياء كلها، فإن ذكر اسم الله بركة؛ وليكون كل فعل للعبد يقصد به ربه عز وجل، وامتثال أمره، فيذكر اسم الله على كل شيء من ذلك فتصح له النية فيه؛ ولأن الشياطين يرجمون بشهب ذكر الله عز وجل، فإذا أحسوا بشيء قد ذكر اسم الله عليه لم يقربوه. * وفي هذا الحديث ما يدل على أنه ليس لأحد أن يقول: إنني أترك بابي غير مغلق مدعيا أنه يفعل ذلك متوكلا؛ فإن ذلك مطية ولوج الشيطان إلى داره وإلى قلبه، وكذلك في الأسقية والأواني وغير ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقوم الأمور على قوانين انتهت إليها، فالتوكل إنما هو لمعالم حكمة (93/أ) الله عز وجل، فإذا أراد العبد أن يهدم معلما من معالم الله عز وجل بما توسوس له نفسه فيما يدعيه توكلا، لم يكن توكله ثمنا لما هدمه من الأمر المسبب في العالم. * وقوله: (ولو أن تعرض عليه عودا) وهذا يجوز أن يكون لأن الذر يتجافى مثل ذلك، أو لأنه قد يصون ذلك العود ما يواريه من الإناء، فيكون هذا القول من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على معنى إن استطعت أن تحفظ الكل بالتخمير وإلا فلا أقل أن تحفظ بعضه على وجه المبالغة والتأكيد. * وقوله: (لا ترسلوا فواشيكم) الفواشي: كل منتشر من المال كالإبل، والبقر، والغنم السائمة، وأصل ذلك من قولك: فشا الشيء إذا ظهر.

* (وفحمة العشاء) (بكسر الحاء وسكونها): شدة سواد الليل وظلمته. * وأما قول الليث: إن الأعاجم يتقون ذلك في كانون الأول؛ فإنه يريد بذلك أن أرض الأعاجم شديدة البرد والوباء يكون في ذلك، ويجوز أن يكسب كل إناء لم يخمر تلك الليلة حالا وبية لمن يأكل ما في ذلك الإناء، فقد حذر الأطباء من قريس تبيت في سرادب أو سمك يصطنع بالخل ويترك في سرداب ليلة فإنه يعود كالسم، وليس ذلك إلا لاجتماع البرودات فيه، وكذلك حذروا من البزماورد إذا بات. ويجوز أن يكون بشدة حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تخمير الآنية لم يعين هذه الليلة ليكون الحذر من كشف الآنية كل ليلة يجوز أن تكون تلك الليلة. - 2466 - الحديث الحادي والعشرون: [عن جابر، (أن رجلا أعتق غلاما من دبر، فاحتاج، فأخذه النبي صلى (93/ب) الله عليه وسلم، فقال: (من يشتريه مني؟، فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا، فدفعه إليه). وفي رواية: (أن رجلا من أصحابه أعتق غلاما عن دبر؛ لم يكن له مال غيره، فباعه بثمانمائة درهم، ثم أرسل بثمنه إليه). وفي رواية: (دبر رجل من الأنصار غلاما له، لم يكن له مال غيره، فباعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاشتراه ابن النحام عبدا قبطيا، مات عام الأول في إمارة

ابن الزبير). وفي رواية: (أن رجلا أعتق عبدا له، ليس له مال غيره، فرده النبي - صلى الله عليه وسلم -، فابتاعه منه نعيم بن النحام). وفي رواية لمسلم: (أعتق رجلا من بني عذرة عبدا له عن دبر، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (ألك مال غيره؟) قال: لا، قال: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي، بثمانمائة درهم، فجاء بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدفعها إليه، ثم قال: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها؛ فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فللذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك فهكذا وكذا، يقول: فبين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك). وفي رواية: (أن رجلا من الأنصار - يقال له: أبو مذكور - أعتق غلاما له عن دبر، يقال له: أبو يعقوب)]. * وذكره في هذا الحديث جواز بيع المدبر، ولا سيما إذا احتاج سيده.

* فأما قوله: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها) فقد سبق بيان هذا المعنى، وتدبير العبد: عتقه عن دبر من المعتق، أي بعد إدباره عن الدنيا بالموت. - 2467 - (94/أ) الحديث الثاني والعشرون: [عن جابر، قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الزبيب، والتمر، والبسر، والرطب). وفي حديث جرير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يخلط الزبيب، والتمر، والبسر). وفي رواية: (نهى أن ينبذ الرطب والبسر جميعا هكذا)]. * قد سبق في مواضع.

- 2468 - الحديث الثالث والعشرون: [عن جابر، (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم الفطر فبدأ بالصلاة قبل الخطبة). وعن ابن عباس وجابر قالا: (لم يكن يؤذن يوم الفطر). زاد في رواية: (ثم سألته، يعني عطاء، بعد حين عم ذلك؟ فأخبرني عن الأذان قال: فأخبرني جابر: أن لا أذان للصلاة يوم الفطر حتى يخرج الإمام، ولا بعدما يخرج، ولا إقامة، ولا نداء، ولا شيء، لا نداء يومئذ، ولا إقامة). وعن جابر (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام فبدأ بالصلاة، ثم خطب الناس، فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن، وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه يلقي فيه النساء صدقة). قلت لعطاء: (أترى حقا على الإمام أن يأتي النساء فيذكرهن؟، قال: إن ذلك لحق عليهم، وما لهم أن لا يفعلوا؟). وفي رواية: (شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئا على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس (94/ب) وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكرهن، وقال: تصدقن، فإن أكثركن حطب جهنم، فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين، فقالك: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن الشكاية، وتكفرن العشير، فقال: فجعلن يتصدقن من حليهن، يلقين في

ثوب بلال من أقرطتهن وخواتمهن)]. * أما البداءة بالصلاة قبل الخطبة بالعيد، فالفرق بينها وبين الجمعة، وفيه تنبيه على أن صلاة العيد لا تجب على الأعيان؛ لأن الخطبة قبل الجمعة كالانتظار للناس، فلما لم يجب هذه على الأعيان بدئ بالصلاة. * وأما باقي الحديث فقد تقدم في مسند ابن عباس وتكلمنا عليه. * وذكر النساء بأنهن أكثر أهل النار قد تقدم في مسند ابن عباس وعمران بن حصين، وسيأتي في مسند أبي سعيد وأسامة بن زيد. - 2469 - الحديث الرابع والعشرون: [عن جابر بن عبد الله، قال: (كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، وكنت على جمل ثقال، إنما هو في آخر القوم، فمر بي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (من هذا؟ فقلت: جابر بن عبد الله، قال: مالك؟ قلت: إني على جمل ثقال، قال: أمعك

قضيب؟ قلت: نعم، قال: (أعطنيه)، فأعطيته، فضربه فزجره فكان من ذلك المكان في أول القوم، قال: (بعنيه)، فقلت: بل هو لك يا رسول الله، فقال: (بل بعنيه)، قد أخذته بأربعة دنانير، (95/أ) ولك ظهره إلى المدينة). فلما دنونا إلى المدينة أخذت أرتحل، قال: (أين تريد)؟ قلت: تزوجت امرأة قد خلا منها، قال: فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟ قلت: إن أبي توفي وترك بنات، فأردت أن أتزوج امرأة قد خلا منها، قال: (فذلك) فلما قدمنا المدينة، قال: يا بلال، اقضه وزده، فأعطاه أربعة دنانير، وزاده قيراطا، قال جابر: لا تفارقني زيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكن القيراط يفارق قراب جابر بن عبد الله). وفي رواية: (أنه قال له: قد أخذت جملك بأربعة دنانير، ولك ظهره إلى المدينة). وفي رواية: (غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلاحق بي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا علي ناضح لنا قد أعيى، قال: فتخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعا له، فما زال بين يدي الإبل، قدامها يسير، فقال لي: (كيف ترى بعيرك؟) قلت: بخير، قد أصابته بركتك، قال: أفتبيعنيه؟ قال: فاستحييت، ولم يكن لنا ناضح غيره، قال: فقلت: نعم!، قال: فبعته إياه، على أن لي فقار ظهره، حتى أبلغ المدينة، قال: فقلت: يا رسول الله، إني عروس، فاستأذنته، فأذن لي فتقدمت الناس إلى المدينة؛ حتى أتيت المدينة، فلقيني خالي، فسألني عن البعير، فأخبرته بما صنعت فيه؛ فلامني، قال: وقد كان قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل تزوجت بكرا أم ثيبا، قلت: تزوجت ثيبا، قال: هلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك؟

قلت: يا رسول الله، توفي (95/ب) والدي، أو استشهد، ولي أخوات صغار، فكرهت أن أتزوج مثلهن فلا تؤدبهن ولا تقوم عليهن، فتزوجت ثيبا، لتقوم عليهن وتؤدبهن، قال: فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غدوت عليه بالبعير، فأعطاني ثمنه؛ ورده علي). وفي رواية عن جابر: (أنه كان يسير على جمل له قد أعيى، فمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فضربه ودعا له، فسار يسير ليس يسير مثله، ثم قال: (بعنيه بأوقية)، قلت: لا، ثم قال: (بعنيه بأوقية)، فبعته، واستثنيت حملانه إلى أهلي، فلما قدمنا أتيته بالجمل ونقدني ثمنه، ثم انصرفت، فأرسل على أثري فقال: (ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك، فهو مالك). وفي رواية: (أفقرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظهره إلى المدينة). وفي رواية: (فبعته على أن لي فقار ظهره حتى أبلغ المدينة). قال عطاء وغيره: (ولك ظهره إلى المدينة). وفي رواية: (وشرط ظهره إلى المدينة). وفي رواية: (ولك ظهره حتى ترجع). وفي رواية: (أفقرناك ظهره إلى المدينة). وفي رواية: (تبلغ عليه أهلك)، قال البخاري: (الاشتراط أكثر، وأصح عندي). وفي رواية: (أخذته بأربعة دنانير)، قال البخاري: (وهذا يكون أوقية، على حساب الدينار بعشرة).

وفي رواية: (أوقية ذهب). وفي رواية: (مائتي درهم). وفي رواية: (أنه اشتراه بطريق تبوك، أحسبه قال: بأربع أواقي). وفي رواية: (اشتراه بعشرين دينارا). (96/أ) وفي رواية لمسلم: (أنه كان يسير على جمل له قد أعيى فأراد أن يسيبه، قال: فلحقني النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدعا لي وضربه، فسار سيرا لم يسر مثله، فقال: بعنيه بوقية، قلت: لا، ثم قال: بعنيه، فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي). وفي رواية: (خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة، فأبطأ بي جملي، فأتي علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا جابر، فقلت: نعم، قال: ما شأنك؟ قلت: أبطأ بي جملي وأعيا فتخلفت، فنزل فتحجنه بمحجنه، ثم قال: اركب، فركبت، فلقد رأيتني أكفه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أتزوجت؟ فقلت: نعم، ثم ذكر نحوه). وفيه: (أما أنك قادم، فإذا قدمت فالكيس الكيس). وفيه: (فاشتراه مني بأوقية). وفيه: (قدمت بالغداة فجئت المسجد فوجده على باب المسجد فقال: الآن قدمت؟ قلت: نعم، قال: فدع جملك، وادخل فصل ركعتين، قال: فدخلت فصليت، ثم رجعت، فأمر بلالا أن يزن لي أوقية، فوزن لي بلال، فأرجح في الميزان، قال: فانطلقت، فلما وليت قال: ادع لي جابرا، فدعيت

فقلت: الآن يرد علي الجمل، ولم يكن شيء أبغض إلي منه، فقال خذ جملك وله ثمنه). وفي رواية: (كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة فلما أقبلنا تعجلت على بعير لي قطوف، فلحقني راكب من خلفي فنخس بعيري بعنزة كانت معه، فانطلق بعيري كأجود ما أنت راء من الإبل، فالتفت، فإذا أنا برسول الله صلى (96/ب) الله عليه وسلم، فقال: ما يعجلك يا جابر؟، قلت: يا رسول الله، إني حديث عهد بعرس، قال: أبكرا تزوجتها أم ثيبا؟ - فذكره - قال: فلما ذهبنا لندخل فقال: أمهلوا حتى ندخل ليلا - أي: عشاء - كي تمشط الشعثة، وتستحد المغيبة). وفي رواية: (إذا قدمت فالكيس). وفي رواية: (إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلا). وفي رواية: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطرق أهله ليلا). وفي رواية: (لئلا يتخونهم أو يطلب عثراتهم)، قال ابن مهدي عن سفيان: لا أدري هذا في الحديث أم لا؟ يعني قوله: (يتخونهم ويطلب عثراتهم). وفي رواية: (أقبلنا من مكة إلى المدينة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعيى جملي - وذكر نحوه - وفيه قال لي: بعني جملك هذا، قلت: لا، بل هو لك، قال: (بل بعنيه)، قلت: لا، بل هو لك يا رسول الله، قال: (بل بعنيه)، قلت فإن لرجل علي أوقية ذهب، فهو لك بها، قال: قد أخذته، فتبلغ عليه إلى

المدينة، فلما قدمت المدينة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبلال: (أعطه أوقية من ذهب وزده)، قال فأعطاني أوقية من ذهب وزادني قيراطا، قال: فقلت: لا تفارقني زيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان في كيس لي، فأخذه أهل الشام يوم الحرة). وفي رواية: (كنا في مسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا على ناضح، إنما هو في أخريات الناس، فضربه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (97/أ) أو قال نخسه (أراه قال) بشيء كان معه، قال: جعل بعد ذلك يتقدم الناس، ينازعني حتى إني لأكفه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أتبيعنيه بكذا وكذا؟ والله يغفر لك؟ قال: قلت: هو لك يا نبي الله، قال: أتبيعنيه كذا وكذا والله يغفر لك؟ قال: قلت: هو لك يا نبي الله، قال ذلك ثلاثا، وقال لي: أتزوجت بعد أبيك؟ قلت: نعم وذكره، قال أبو نضرة: وكانت كلمة يقولها المسلمون: افعل كذا وكذا والله يغفر لك). وفي رواية: (فنخسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لي: اركب بسم الله، وفيه: (ما زال يزيدني ويقول: والله يغفر لك). وفي رواية: (أتى علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أعيى بعيري، قال: فنخسه، فوثبت، فكنت بعد ذلك أحبس خطامه لأسمع حديثه، فما أقدر عليه؛ فلحقني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (بعنيه)، فبعته بخمس أواقي، قال: قلت: على أن لي ظهره إلى المدينة، قال: فلما قدمت المدينة أتيته به، فزادني أوقية، ثم وهبه لي). وفي رواية عن أبي المتوكل قال: (أتيت جابرا فقلت: أخبرني ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: سافرت معه في بعض أسفاره. قال الراوي: - لا

أدري غزوة أو عمرة -، فلما أن أقبلنا، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أحب أن يتعجل إلى أهله فليتعجل)، قال جابر: فأقبلنا، وأنا على جمل لي أرمك ليس فيه شية والناس خلفي، فينما أنا كذلك إذ قام علي (97/ب) فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا جابر استمسك) فضربه بسوطه فوثب البعير مكانه، فقال: أتبيع الجمل؟ قلت: نعم، فلما قدمنا المدينة ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد في طوائف من أصحابه دخلت إليه، وعقلت الجمل في ناحية البلاط، فقلت له: هذا جملك، فخرج فجعل يطيف بالجمل ويقول: (الجمل جملنا)، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه بأواقي من ذهب فقال: أعطوها جابرا، ثم قار: استوفيت الثمن؟ قلت: نعم، قال: (الثمن والجمل لك). وفي رواية: (تزوجت، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما تزوجت؟ فقلت تزوجت ثيبا، فقال: مالك وللعذارى ولعابها). وفي رواية: (فأين أنت من العذارى ولعابها). وفي رواية: (هلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟). وفي رواية: (أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: مشعر أراه، قال: فقال: صل ركعتين، وكان لي عليه دين فقضاني وزادني). وفي رواية: (بعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيرا في سفر، فلما أتينا المدينة قال: أئت المسجد، فصل ركعتين، فوزن، قال شبعة: أراه فوزن لي فأرجح، فما زال منها شيء حتى أصابها أهل الشام يوم الحرة). وفي رواية: (اشترى مني النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيرا بوقيتين ودرهم، أو ردهمين،

فلما قدم صرارا أمر ببقرة فذبحت، فأكلوا (98/أ) منها، فلما قدم المدينة، أمرني أن آتي المسجد فأصلي فيه ركعتين، ووزن لي ثمن البعير). وفي رواية: (هلك أبي وترك سبع - أو تسع - بنات، فتزوجت امرأة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتزوجت يا جابر؟ قلت: نعم، وذكر الحديث، واعتذاره عن نكاحه الثيب، قال: فبارك الله عليك). وفي رواية: (أصبت). وفي رواية: (تزوجت امرأة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا جابر: تزوجت؟ قلت: نعم، فقال: بكر أم ثيب؟، قلت: ثيب، قال: فهلا بكرا تلاعبها؟ قال: قلت: يا رسول الله، إن لي أخوات، فخشيت أن تدخل بيني وبينهن، فقال: ذاك إذا، إن المرأة تنكح على دينها، ومالها، وجمالها فعليك بذات الدين تربت يداك). حكى أبو مسعود فيه أنه رأى عليه أثر صفرة وليس ذاك فيما عندنا من كتاب مسلم)].

* قوله: (على جمل ثقال) البطيء السير، القليل الحركة. * وقوله: (فمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما لك؟) يدل على أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يعتبر الرفقة في ساقتهم؛ لأن الضعفة إنما تعتقد عند آخر القوم، فلذلك كان - صلى الله عليه وسلم - معتربا حال الرفقة في الساقة، ولما رأى جابرا متأخرا قال: من هذا؟، فأراد سؤاله عنه أن يعلم حاله، وهل تأخره عن ضعف في حاله أم عن غير ذلك، فلما قال له: مالك؟، أراد أن يعلم إن كان تأخره عن اختيار منه للتأخر (98/ب) أم لعرض عليه. فلما شكى إليه بطء جمله، قال له: أمعك قضيب؟ يريد بذلك إن لم يكن معك قضيب فقد فرطت في ترك ما تسوق به الجمل، فلما قال له: نعم، قال: أعطنيه، فأراد - صلى الله عليه وسلم - أن جابرا قد كان استعمل لتسوق الجمل آلته؛ لكن ما أخذ رسول الله ذلك القضيب بعينه فضرب الجمل فتقدم حتى كان أول الناسن ظهرت في ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية لم تكن لجابر ولا لغير جابر.

* فأما قوله: (بعنيه) فإنه لما رأى جابرا قد شكى بطء ذلك الجمل، وإنه تأخر به، أراد أن يشتريه منه، ويركبه إياه حتى إن عطب كان من مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وقوله: (قد أخذته بأربعة دنانير، ولك ظهره إلى المدينة) هذا يدل على أن الشرط في البيع صحيح لأنه اشتراه منه واشترط له ظهره إلى المدينة. * وقد روى هشام بن عروة عن عروة عن عائشة أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حق بربرة: قد أبى أهلها إلا أن يشترطوا ولائها، فقال: (اشتريها فإنما الولاء لمن أعتق). وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن بيع وشرط). فهذه الأحاديث الثلاثة تختلف. وقد اختلف الفقهاء في ذلك، والذي أرى فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط، وما قال: كل بيع، والمراد بذلك البيع الذي نافى صحته الشرط مثل (99/أ) أن يبيعه دارا ويشترط سكناها، وكذلك حديث بربرة فإنهم لما شرطوا ولائها، والولاء إنما هو ثمرة الملك، كان ذلك كالمنافي للصحة في البيع، فحكم بصحة البيع دون ذلك الشرط الفاسد.

* وفي الحديث دليل على جواز تقديم القبول على الإيجاب لأنه قال: (قد أخذته بأربعة دنانير) إلا أنه بلفظ الماضي، فيدل على جواز تقديم الإيجاب على القبول، والقبول على الإيجاب، ولكن بلفظ الماضي. * وقوله: (قد خلا منها) أي قد قضى من عمرها. * وقوله: (فهلا بكرا) وذلك إنه اختار له الأجود والأفضل؛ ولأن أصلح ما قصد به في التزويج أن يلائم بين القرنين المتجانسين بعد حصول الدين أن ينكح الشاب الشابة، والكهل الكهلة، والحسيب الحسيبة، وهذا يدل أن جابرا كان شابا. * وفي الحديث دليل على جواز ملاعبة الرجل المرأة، والمرأة الرجل، لأن في ذلك ألفة وغرس محبة. * وفيه أيضا أنه لما سمع جابر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الأصلح، وكان عنده من العذر ما تنكب الأصلح لأجله، وهو أراد به امرأة تقوم بمصالح البنات، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فذاك) أي فذاك إذا عذر. * وفيه أن الإنسان إذا اشترى شيئا في ذمته؛ فالمستحب له أن يوفي الثمن وزيادة ما كانت، وأن لا يخل بذلك ولو كان قيراطا، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل زده قيراطا وإنما قال له: (زده)، فكان تقدير الزيادة بالقيراط من بلال على معنى أن أهل الثمن (99/ب) يناسبه أن تكون الزيادة على نحو القيراط. * وفيه أن الرجل المؤمن قد يسره أن يزيد ماله ببركة ونمو، لقول جابر: لا

تفارقني زيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يعني أنها بركة ينمي بها ماله ويثرى. * وأما قوله: (فأعطاني ثمنه ورده علي) والذي أراه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يرد بذلك إلا أن يكون حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للبعير بحث جابر واقعا في ملك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لئلا يكون قد حث بعيرا ليس له. * وفيه أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى جابرا قد أزمع على تسيب البعير حين وقوفه عليه، ساقه له وابتاعه، وحمل عليه جابرا ورد له، وفي ذلك إشارة إلى أن كل ردية يرديها ركب فإنه لا ينبغي أن تهمل، بل يصبر عليها، ويرفق بها ويحسن التوصل إلى إيصالها، فيكون فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حمل جابر تعليما لمثله في كل ردية وظهر مقصر. * فأما قوله: (إن المرأة تنكح على دينها ومالها وجمالها) أنه - صلى الله عليه وسلم - قد أباح بهذا القول أن تنكح المرأة على جمالها وعلى مالها إلا أنه - صلى الله عليه وسلم - عين أن ذات الدين أولاهن بالإيثار. * وقوله: (تربت يداك) فإنه قول يحض به، وإن كان مخرجه مخرج الدعاء. * وفيه أيضا: (أن ذات الدين خيرهن) فإن كانت جامعة للأوصاف، فهي من قرة الأعين؛ وإلا فدينها كاف عند ذي الدين. * وقوله في هذا (100/أ) الحديث: (وأنا على ناضح) الناضح: ما استقى عليه ليسقي النخل والزرع.

* والأوقية: أربعون درهما وجمعها (أواقي) بالتشديد. * وقوله: (أفقرني ظهره) أي أعارني فقاره لأركبه، والفقار: الظهر، والمحجن: عصا في طرفها انعقاف. * وقوله: (فإذا قدمت فالكيس) قال ابن الأعرابي: الكيس: الجماع، والكيس: العقل، كأنه جعل طلب بالجماع عقلا. وقال أبو سليمان: ويحتمل أن يكون قد أمر بالتوفي والحذر من إصابة أهله إن كانت حائضا لطول غيبته. والبعير القطوف: البطيء المشي. * وقوله: (وتستحد المغيبة) قال أبو عبيد: الاستحداد: الاستحلاق بالحديد، والمغيبة التي غاب عنها زوجها. * قوله: (فلا يطرق أهله ليلا) الطروق: إتيان المنازل بالليل خاصة. * وقوله: (لئلا تخونهم) أي تتبع خيانتهم. * وقوله: (على جمل أرمك) الأرمك: الذي يضرب لونه إلى الكدرة. * وقوله: (ليس فيها شية) أي لا لون فيه يخالف كدرته بل كله لون واحد. * وقوله: (في ناحية البلاط) البلاط: كل شيء فرشت فيه المكان من حجر أو غير، ثم سمي المكان بلاطا لما فيه من ذلك على المجاز. * وقوله: (فلما قدم ضرارا) وهو اسم موضع.

- 2470 - الحديث الخامس والعشرون: [عن جابر، قال: (أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالحج، وليس مع أحد منهم هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلحة، فقدم علي رضي الله عنه من اليمن معه هدي، فقال: أهللت بما أهل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - (100/ب) أصحابه: أن يجعلوها عمرة ويطوفوا، ثم يقصروا ويحلوا، إلا امن كان معه الهدي، فقالوا: ننطلق إلى منى، وذكر أحدنا يقطر، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت)، وحاضت عائشة، فنسكت المناسك كلها، غير أنها لم تطف بالبيت، فلما طهرت طافت بالبيت، وقالت: يا رسول الله، تنطلقون بحجة وعمرة، وأنطلق بحج؟ فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج). وفي رواية عن جابر: (أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا رضي الله عنه أن يقيم على إحرامه، وذكر قول سراقة، وزاد في رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (بما أهللت يا علي؟) قال: بما أهل به النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فأهل وامكث حراما). وفي رواية عن أبي شهاب، قال: (قدمت مكة متمتعا بعمرة، فدخلنا قبل التروية بثلاثة أيام، فقال لي أناس من أهل مكة: تصير الآن حجتك مكية، فدخلت على عطاء أستفتيه، فقال: حدثني جابر بن عبد الله أنه حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ساق الهدي معه، وقد أهلوا بالحج مفردا، فقال لهم: أحلوا من إحرامكم، واجعلوا التي قدمتم بها متعة، فقالوا: كيف نجعلها متعة، وقد

سمينا للحج؟ فقال: افعلوا ما أقول لكم، فلولا إني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله، ففعلوا). (101/أ) وفي رواية: (فقدمنا مكة لأربع خلون من ذي الحجة فأمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نطوف بالبيت، والصفا والمروة، ونجعلها عمرة، ونحل إلا من معه هدي، وذكره، وفيه قال: فلقيه بسراقة بن مالك وهو يرمي الجمرة. قال في حديث عبد الوهاب: بالعقبة، فقال: يا رسول الله، ألنا هذه خاصة؟ قال: بل للأبد) وذكر قصة عائشة واعتمارها من التنعيم. وفي رواية عن عطاء: (قال: سمعت جابر بن عبد الله في ناس معي قال: أهللنا أصحاب محمد بالحج خالصا وحده، قال عطاء: قال جابر فقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - صبح رابعة مضت من ذي الحجة فأمرنا أن نحل). وفي رواية: (أهللنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج، فلما قدمنا مكة، أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة، فكبر ذلك علينا، وضاقت به صدورنا، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فما ندري أشيء بلغه من السماء، أم شيء من قبل الناس، فقال: (أيها الناس، أحلوا، فلولا الهدي الذي معي فعلت كما فعلتم)، قال: فأحللنا حتى وطئنا النساء، وفعلنا ما نفعل الحلال، حتى إذا كان يوم التروية، وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج). وفي رواية: (قدمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نقول: لبيك بالحج، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعلناها عمرة).

وفي رواية عن جابر وأبي سعيد، قالا: (قدمنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن نصرخ بالحج صراخا). وفي رواية عن جابر: (أقبلنا مهلين (101/ب) مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج مفردا وأقبلت عائشة بعمرة، حتى إذا كنا بسرف عركت، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحل منا من لم يكن معه هدي، قال: فقلنا: حل ماذا؟ قال: الحل كله، فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابا وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال. ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة رضي الله عنها فوجدها تبكي فقال: (ما شأنك؟) قالت: (شأني، إني قد حضت، وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن) فقال: (إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم؛ فاغتسلي ثم أهلي بالحج) ففعلت، ووقفت المواقف كلها، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة، ثم قال: (قد حللت من حجك وعمرتك جميعا) فقالت: (يا رسول الله، وإني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت) قال: (فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم) وذلك ليلة الحصبة). وفي رواية: (دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على عائشة وهي تبكي، فذلك مثل حديث الليث). وفي رواية: (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا سهلا، إذا هويت الشيء تابعها عليه).

وفي رواية: (خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج، معنا النساء والولدان (102/أ)، فلما قدمن مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من لم يكن معه هدي فليحلل) وذكره، ثم قال: فلولا كان يوم التروية أهللنا بالحج، وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة، وأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشرك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة). وفي رواية: (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى، قال: فأهللنا من الأبطح). وفي رواية: (لم يطف النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا، طوافه الأول). وفي رواية: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، وإن القرآن قد نزل منازله فأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم الله وابتوا نكاح هذه النساء؛ فلأن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة) , وفي رواية: (فأفصلوا حجكم من عمرتكم؛ فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم). وفي رواية: (استمعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما)].

* قد سبق حديث التمتع في الحج في مسند سعيد، وسبق قوله سراقة: (ألنا هذه أم للأبد) في مسند ابن عباس، وسبق قوله: (ابتوا نكاح هذه النساء) في مسند عمر رضي الله عنه. * ومعنى (عركت): حاضت. * وقول جابر: (استمتعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله (102/ب) عنهما، قد تأوله مسلم بن الحجاج على متعة النساء، ويدل على تأويله حديث سيأتي بعد خمس وستين حديثا من إفراد البخاري من هذا المسند، وهذا محمول ممن فعله على أنه لم يبلغه النهي عنه، وإلا فهذا منسوخ، وقد ذكرنا ذلك في مسند عمر رضي الله عنه. * وقوله: (كان - صلى الله عليه وسلم - سهلا)، وقوله: (كانت عائشة إذا هويت الشيء تعابعها عليه) فيه دليل على أن الخلق المحمود أن يكون الرجل سهلا، كما وصف جابر

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: كان سهلا. * وقوله: (كانت إذا هويت أمرا تابعها عليه) فإنه يكون تحريره إذا استأذنته في شيء نافع لها، أذن لها فيه؛ فإن عائشة رضي الله عنها لم تكن تحب من الأمر إلا ما قرب إلى الله عز وجل، كهذه الحال التي رواها في هذا الحديث، فإنها شكت إليه ما تعرض في صدرها وتحل من رحيلها عن الكعبة، ولما نطق قال: يا عبد الرحمن اذهب بها، وفي هذا ما يدل على شرف عائشة، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرف منها إيثارها الحق وميلها إلى مقتضيات الإيمان والدين، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتابعها في ذلك لعلمه بها وما جربه منها، ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - جبارا ولا جافيا للحق إذا أذكره به غيره، وليس ينصرف هذا من مقصود جابر في نطقه به أن عائشة كانت تهوي غير الحق، ولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتابع أحدا في (103/أ) غير الحق. - 2471 - الحديث السادس والعشرون: [عن جابر، قال: (جاء أعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعه على الإسلام، فجاء من الغد محموما، فقال: أقلني بيعتي، فأبى، ثم جاءه فأبى، ثم جاء فقال: أقلني بيعتي، فأبى، فخرج الأعرابي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما المدينة كالكير، تنفي خبثها وينصع طيبها)].

* قد سبق فضيلة المدينة في مسند سعد وغيره. * وقال أبو سفيان: قد قيل إن الكير: الزق الذي ينفخ فيه الحداد على الحديد. والكوز: ما كان مبنيا من طين يخلص، وناصع كل شيء: خالصه. * وفي هذا الحديث من الفقه أنه ليس لأحد خيار في ترك الحق والعود إلى الباطل، فإن هذا الأعرابي حين بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحق لم يبق له خيار وخالف الكافر الذي لم يبايع على الإسلام، فإنه لو دخل بعهد أو ذمة وجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام جبرا، فأما هذا فإنه حين أعطي صفقته لم يبق في ذلك إلا وفاؤه أو قتله إن ارتد. * وفيه أيضا من الفقه أنه لا يحل أن يفك عن مثله ربقة الحق في ظاهره ما بقي في هذه الدنيا، وإن كانت أمارات نطقه دالة على أنه قد ارتد من جهة أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستقيله البيعة من أجل أنه حم ليعود إلى الكفر، فلم يقله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع أنه لم يقله في حالته تلك بهذه الردة؛ بل ترك ظاهره في قيد الحق شرعا ليفي إن فاء (103/ب)، وإلا فالنار من ورائه في الآخرة،

وهذا إنما يحمل على حال هذا من جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلتمس فك العقد، فأما من أظهر الردة لنفسه وخلق الربقة من عنقه هو وارتد؛ فإنه يقتل. * وفيه أيضا من الفقه أنه ليس ما يعرض من الأمراض والأوصاب والفقر والشدة على من يعرض له ذلك مما يدل على باطل، فإن ذلك الأعرابي لقلة فقهه ظن أن الحمى إنما أتته من حيث إنه دخل في الإسلام ولم يكن ذلك كذلك، فأرى أن كل من دخل في طريق من طرائق الخير فعرض له عارض ابتلاء فنفر من سلوك ذلك الطريق الذي دخل فيه، فإنه على نحو قلة فقه هذا الأعرابي الذي أراد أن يرتد عن الإسلام من أجل الحمى. فقد حكي أن أبا طالب الأنصاري قال: دخلت على الشيخ محمد بن يحيى في سنة الجهد وقد بلغ الأمر من المسلمين من ضيق العيش إلى أنه لم يكن يلحق الزاد إلا نادرا، وكان الشيخ محمد بن يحيى حينئذ ذا عيال كثير، قال: فسمعته وهو يقرأ: {نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون}. * وفي هذا الحديث ما يدل على تحريم التشاؤم بأي شيء كان، فإن هذا الأعرابي أتى من تشاؤمه بالحمى التي تشاءم بالإسلام من أجلها، والمدينة تنفي خبيثها، وطيبها هو الناصع.

- 2472 - الحديث السابع والعشرون: [عن جابر، قال: (ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا (104/أ) قط فقال: لا)]. * في هذا الحديث من الفقه أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقل لسائل: لا. * وأما لغير السائل فإنه إذا سأله سائل عما لا جواب له إلا (لا)، فإنه لا يدخل ذلك في هذا، والسائل إذا أطلق لم ينطلق إلا على الطالب، فهو الذي لا يقول لا. وهذا مما يدل على أن التوفيق في تجنب لا ما استطاع الإنسان أن يجعلها جوابا لإنسان. ومن مفهوم هذا الخطاب أنه بمقدار فتح لا في أجوبة المسائل يكون حسن نعم. - 2473 - الحديث الثامن والعشرون: [عن جابر، قال: (ندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس يوم الخندق، فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن لكل نبي حواري وحواري الزبير)، قال سفيان: الحواري: الناصر. وفي رواية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الأحزاب: (من يأتينا بخبر القوم؟)

فقال الزبير: أنا، ثم قال: (من يأتينا بخبر القوم) فقال الزبير: أنا، ثلاثا، الحديث. وفي رواية: (ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس فانتدب الزبير)]. * هذا الحديث قد سبق في مسند ابن مسعود، وقد بينا في مسند ابن عمر أن يوم الخندق هو يوم قريظة فلا اختلاف من الألفاظ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما انقشع عنه عسكر المشركين يوم الخندق، قال: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة). * وفيه من الفقه (104/ب) أن الزبير رضي الله عنه لما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستدعي الهمم بادر إلى إغشام السبق في ذلك، إلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبعثه ضنا بمقامه؛ فإنه كان يصلح أن يعد في ملزومة العسكر، وإنما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا يتخير له، وهذا الأمر يصلح له من هو دون الزبير، والموضع المعد له الزبير من كونه في ملزومة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولتبيته لا يصلح فيه كل أحد لنفسه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحسن بلائه في المواطن. * فأما المعنى في كون الزبير لم يكتف بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل منه ما بذله في

أول مرة حتى بذل نفسه ثانية وثالثة، والذي أراه فيه الزبير رضي الله عنه لما سمع رسول الله يندب الناس إلى ما ذكر معه، لأنه صار إجابته فرض كفاية، فلو لم يجب الزبير أثم الكل؛ لكنه أسقط الفرض عنهم بقوله: أنا، وكذلك لما لم يجيبوا في الثانية والثالثة، فلما رده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرار تيقن حينئذ أنه ليس بباعثه. - 2474 - الحديث التاسع والعشرون: [عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هل لكم من أنماط؟ قلت: وأنى يكون لنا الأنماط؟، قال: أما إنها ستكون لكم الأنماط، قال: فأنا أقول لها يعني امرأته - (105/أ) أخري عني أنماطك، فتقول: ألم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ستكون لكم الأنماط فادعها؟)]. * في هذا الحديث دليل على صحة نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأن الله تعالى أعلمه بما يفتح به على أمته، وأنه سيكون من الفتوح والخير ما يتكون منه الأنماط، وهي جمع نمط، وهي ضروب من البسط والفرش. * وفيه أيضا دليل على أن الأنماط إذا كانت للمؤمن فلا تضره، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ستكون لكم أنماط) يشير إلى أصحابه، ولقول امرأة جابر: (ألم يقل

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستكون لكم أنماط؟). - 2475 - الحديث الثلاثون: [عن جابر، قال: (كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت: {نساؤكم حرث لكم})]. * قد سبق الكلام في هذا الحديث، والحرث: حيث يزكو البذر. - 2476 - الحديث الحادي والثلاثون: [عن ابن المنكدر، قال: (رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن صياد الدجال، فقلت: أتحلف بالله تعالى؟ قال: إني سمعت عمر رضي الله عنه يحلف على ذلك عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينكره النبي - صلى الله عليه وسلم -)].

* قد سبق حديث ابن الصياد في مسند عمر رضي الله عنه وغيره. - 2477 - [عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (رأيتني دخلت (105/ب) الجنة، فإذا أنا بالرميضاء امرأة أبي طلحة، وسمعت خشفة، فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال، ورأيت قصرا بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر ابن الخطاب، فأردت أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك، فوليت مدبرا فيها، فبكى عمر، قال: أعليك أغار يا رسول الله؟)]. * في هذا الحديث من الفقه أن الجنة مخلوقة، وأن جواريها خلقن، فهن يتقلبن في النعيم انتظارا لقدوم المؤمنين عليهن. * وفيه ما يدل على أن القصور معروفة الأصحاب، وأن أهل ذلك القصر يعرفون صاحب قصرهم، ألا ترى إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فقلت لمن هذا القصر؟) يعني أن القصور معينة لأصحابها، (فقيل لي: لعمر). * وقوله: (فأردت أن أدخله)، فأرى أنه كان مراده أن يدخله ليصفه لعمر

رضي الله عنه عن مشاهدة، ثم ذكر أن في دخوله إياه يرى الحور على تبذلهن في مساكنهن فذكر غيرة عمر رضي الله عنه فرجع. * وأما قول عمر رضي الله عنه: (أعليك أغار؟) أراد أن الغيرة إنما تكون على من يجوز عليه ما لا يجوز عليك، وأما أنت فلا يغار منك، فأتى عمر رضي الله عنه بحسن الأدب، وفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما فعل على طريق الاحتياط. * وقد تقدم قوله: (في الخشفة) أنه من الضمنة وكثرة الحشمة. - 2478 - الحديث الثالث والثلاثون: [عن جابر، قال: (أصيب أبي يوم أحد، فجعلت أكشف الثوب (106/أ) عن وجهه وأبكي، وجعلوا ينهونني، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينهاني، وجعلت فاطمة بنت عمرو تبكيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تبكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه). وفي رواية: (لما كان يوم أحد جيء بأبي مسجى، وقد مثل به). وفي رواية: (جيء بأبي يوم أحد مجدعا فوضع بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -)].

* في هذا الحديث من الفقه أنه يجوز كشف الثوب عن وجه الميت ليتزود من نظره، وقد تقدم قولنا في القبلة له، ويجوز البكاء أيضا على الميت لقول جابر: (ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينهاني). * وفيه دليل على أن بكاء المرأة على الميت من غير نياحة ولا ندب جائز إلا أنه على الشهيد غير مستحب من حيث إن الإيمان يشهد له بفوز لا يستحسن معه البكاء عليه. * وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تبكيه أو لا تبكيه) يعني أنها إن بكته فإن بكاها عليه لا تنقصه. وقوله: (أو لا تبكيه) يعني أن صبرها عنه في موضعه. * وقوله: (ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه) فإن معناه تكنفه بأجنحتها، وتكون له سترا من الشمس، وانساله إلى أن جئتم إليه فرفعتموه، أي على السرير إلى قبره، وليس قوله: (حتى رفعتموه) يدل على أن إظلال الملائكة له انقطع، وإنما هو إشارة إلى ابتداء إظلالهم. - 2479 - الحديث الرابع والثلاثون: [عن جابر، قال: ولد الرجل منا غلام، فسماه القاسم، فقلنا: (106/ب) لا نكنيك، حتى نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي).

وفي رواية: (فقالت الأنصار، لا نكنيك أبا القاسم ولا ننعمك عينا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أحسنت الأنصار، تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي). وفي رواية: (ولد لرجل من الأنصار غلام، فأراد أن يسميه محمدا). وفي رواية: (أراد أن يسميه القاسم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي، فإني إنما جعلت قاسما أقسم بينكم). وفي رواية: (ولد لرجل منا غلام فسماه محمدا، فقال له قومه: لا ندعك تسمي باسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانطلق بابنه حامله على ظهره، فذكر أنه ذكر له ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تسموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي فإنما أنا قاسم أقسم بينكم)]. * هذا الحديث قد تقدم، وقد فيل: إنما كره ذلك في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لئلا يقع الاشتباه.

- 2480 - الحديث الخامس والثلاثون: [عن جابر، قال: (أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في دين كان على أبي، فدققت الباب، فقال: (من ذا؟) قلت: أنا، فقال: (أنا، أنا!!) كأنه كرهها)]. * في هذا الحديث من الفقه كراهية أن يقول الرجل إذا طرق باب أخيه أو باب بيته، فقيل: من ذا؟ أن يقول: أنا، لأن قوله: أنا، كلمة تتناول كل طارق، فلم يرد على معنى طرقه الباب شيئا يستدل به عليه؛ فلذلك كرهه (107/أ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والسنة أنه إذا طرق الباب أن يتبع ذلك اسمه حتى في بيته نفسه ليعلم به أهل داره فيتأهبوا لدخوله. - 2481 - الحديث السادس والثلاثون: [عن جابر، قال: (مرضت، فأتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني وأبو بكر، وهما ماشيان، فوجداني أغمي علي، فتوضأ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم صب وضوءه علي، فأفقت، فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله: كيف أصنع في مالي؟ كيف أقضي في مالي؟ فلم يجيبني بشيء حتى نزلت آية الميراث). وفي رواية: (فعقلت، فقلت، لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض).

وفي رواية: (فنزلت: {يوصيكم الله في أولادكم}. وفي رواية: (جاءني النبي - صلى الله عليه وسلم - يعودني ليس براكب بغل ولا برذون)]. * قد سبق ذكر الكلالة في مسند عمر. * وفي هذا الحديث استحباب عيادة المريض، وأن يكون العائد ماشيا، وأن يعود المصحوب أصحابه ولا يتكبر عليهم في هذا. - 2482 - الحديث السابع والثلاثون: [عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اهتز العرش لموت سعد بن معاذ)، زاد البخاري في رواية: فقال رجل لجابر: (فإن البراء يقول اهتز السرير؟ فقال: إنه يقول كان بين هذين الحيين ضغائن، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ).

وفي رواية: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجنازة سعد (107/ب) بن معاذ بين أيديهم: (اهتز لها عرش الرحمن)]. * اختلفوا في المراد بالاهتزاز على قولين، أحدهما: التحرك كاهتزاز التحرك بالفرح، والثاني: أنه بمعنى الاستبشار والسرور، يقال فلان يهتز للمعروف أي يستبشر ويسر، وإن فلانا لتأخذه هوة، أي ارتياح وطلاقة، قاله ابن قتيبة. - 2483 - الحديث الثامن والثلاثون: [عن جابر، قال: (لما بنيت الكعبة، ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - والعباس ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اجعل إزارك على رقبتك فخر إلى الأرض، فطمحت عيناه إلى السماء فقال: (أرني إزاري) فشده علي. وفي رواية: (فسقط مغشيا عليه، فما رأي بعد ذلك عريانا)].

* في هذا الحديث ما يدل على أن الله حفظ رسوله - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه من الدنايا، وأنه لما انحل إزاره شخص إلى السماء حتى رد عليه إزاره كرامة له - صلى الله عليه وسلم -. * وقوله: (طمحت عيناه) يقال: طمح بصره، أي علا، وكل مرتفع طامح. - 2484 - الحديث التاسع والثلاثون: [عن جابر، قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد: أرأيت إن قتلت، فأين أنا؟، قال: في الجنة، قال: فألقى تمرات كن في يده ثم قاتل حتى قتل)]. * هذا الحديث يدل على قوة إيمان الصحابة وحرصهم على الآخرة، وتصديقهم بوعد الله ووعيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وانظر إلى استعجال (108/أ) هذا الرجل في طلب الآخرة، وإنما حثه إيمانه وكأنه شاهد ما وعده به رأي عين. - 2485 - الحديث الأربعون: [عن جابر، قال: عزونا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان من المهاجرين رجل لعاب، فكسع أنصاريا، فغضب الأنصاري غضبا شديدا، حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يال للأنصار؟، وقال

المهاجر: يال للمهاجرين؟، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ما بال دعوى الجاهلية؟ ثم قال: ما شأنهم؟) فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دعوها فإنها خبيثة)، وقال عبد الله بن أبي بن سلول: أقد تداعوا علينا؟ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال عمر: ألا نقتل يا نبي الله هذا الخبيث - لعبد الله - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه). وفي رواية: (فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأل القود؟ فقال: دعوها، فإنها منتنة). وفي رواية لمسلم: (اقتتل غلامان: علام من المهاجرين، وغلام من الأنصار، فنادى المهاجر - أو المهاجرون - يال للمهاجرين، ونادى الأنصاري: يال للأنصار، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (ما هذا، دعوى الجاهلية؟) قالوا: لا يا رسول الله، إلا أن غلامين اقتتلا، فكسع أحدهما الآخر، فقال: (لا بأس، ولينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما، إن كان ظالما فلينهه، فإنه له نصر، وإن (108/ب) كان مظلوما فلينصره)]. * في هذا الحديث ما يدل على سوء مغبة اللعب؛ لأنه وإن كانت بدايته ما

تجلب الضحك، فإنه ينتهي إلى ما يكون عاقبته أشد البكاء. * وفيه أيضا أن دعوى الجاهلية، وقول القائل: فلان يجيب؟ تكون إجابة الداعي لأجل الأنساب أو الدار أو الحال الجامعة مع الإعراض عن ذكر الله تعالى، وأن يكون إجابة الداعي لأجله وفي سبيله من جملة الكلم الخابث، فينبغي أن لا يقر على ذلك قائل يقول شيئا منه. * وكسع: بمعنى ضرب دبره بيده أو رجله، وتداعوا: استغاثوا بالقبائل إلى الأباء يستنصرون بهم في ذلك، والدعوى: الانتماء، وكانت الجاهلية تنتمي في الاستعانة إلى الأباء فيقولون: يا آل فلان، وذلك من العصبية، وإنما ينبغي أن يكون الاستعانة بالإسلام وحكمه، فإذا وقعت بغيره فقد أعرض عن حكمه. * وفي هذا الحديث دليل على قبح قتل الملك أصحابه؛ لأنهم أولى الناس منه بالرفد، فكيف يحسن منه قتلهم، لكن إذا رأى من أحدهم خيانة، فذلك الخائن هو الذي أتى على نفسه السوء، فتجافى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل صاحب مسيء كراهية أن يؤثر عنه ذلك من غير تفصيل، وذلك أن قتل الملك أصحابه ينيل عدوه مناه في ناصريه وقد أعدوه في أبوابه، وأيضا لأن قتل الإنسان صاحبه مشعر بلوم في غدر مع جبن؛ لأن هذه إذا ثبتت كانت مما نزه الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - (109/أ) عنها.

- 2486 - الحديث الحادي والأربعون: [عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الحرب خدعة)]. * قد سبق هذا الحديث في مسند علي عليه السلام وفي مسند غيره. - 2487 - الحديث الثاني والأربعون: [عن جابر، قال: (دخل رجل يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فقال: صليت؟، قال: لا، قال: فصلي ركعتين). وفي رواية: (قم فاركع). وفي رواية: (قم فصلي الركعتين). وفي رواية: (إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فليركع ركعتين). وفي رواية: (جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد على المنبر، فقعد سليك قبل أن يصلي). وفي رواية: (جاء سليك الغطفاني ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخطب فجلس). وفي رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (أركعت ركعتين؟) قال: لا، قال: (فقم واركع).

وفي رواية: فقال له: (يا سليك! قم فاركع ركعتين، ولتتجوز فيهما)]. * في هذا الحديث من الفقه أنه يستحب لمن دخل يوم الجمعة والإمام يخطب أن يصلي ركعتين، ويدل على أن الكلام في حال الخطبة لا يحرم على الخطيب. * وقوله: (وتجوز فيهما) أي خففهما ولا تطل؛ لأجل استماع الخطبة. - 2488 - الحديث الثالث والأربعون: [عن جابر، قال: (أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أبي، بعدما أدخل حفرته، فأمر به فأخرج، فوضعه على ركبتيه (109/ب) ونفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه، والله أعلم، قال: وكان كسا عباسا قميصا). وفي رواية: (وكان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قميصان، فقال له ابن عبد الله: يا رسول الله، ألبس عبد الله قميصك الذي يلي جلدك، قال سفيان: فيرون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألبس عبد الله قميصه مكافأة لما صنع). وفي رواية: (لما كان يوم بدر أتي بأسارى، وأتي بالعباس ولم يكن عليه

ثوب، فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - قميصا فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه، فكساه النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه، فلذلك نزع النبي - صلى الله عليه وسلم - قميصه الذي ألبسه)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن حسن المكافأة يلتزم بها الكريم حتى إن فاته محسن فإن سبق عليه الموت اجتهد في مكافأته، ولو بعد موته، كمثل هذه الحال، فكسى هذا الشخص قميصا بعد موته، كما كسا العباس حال حياته. * وفيه ما يدل على أن الصنيعة على عمر الرجل صنيعة إليه. - 2489 - الحديث الرابع والأربعون: [عن جابر بن عبد الله، قال: (بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحن ثلاثمائة راكب، وأميرنا أبو عبيدة بن الجراح نرصد عيرا لقريش، فأقمنا بالساحل نصف شهر، فأصابنا جوع شديد، حتى أكلنا الخبط، فسمي جيش الخبط، فألقى لنا البحر دابة، يقال لها: العنبر، فأكلنا منها نصف شهر (110/أ) وأدهنا من ودكها، حتى ثاب أجسامنا، قال: فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه فنصبه، ثم نظر إلى أطول رجل في الجيش وأطول جمل، فحمله عليه فمر تحته، قال: وجلس في حجاج عينه نفر، قال: وأخرجنا من عينه كذا

وكذا قلة ودك، قال: وكان معنا جراب من تمر، فكان أبو عبيدة يعطي كل رجل منا قبضة قبضة، ثم أعطانا تمرة تمرة، فلما فني وجدنا فقده). وفي رواية: (وكان فينا رجل، فلما اشتد الجوع نحر ثلاث جزائر ثم نهاه أبو عبيدة). وفي رواية: (فألقى البحر حوتا ميتا لم ير مثله). وفي رواية: (فأكل منها الجيش ثماني عشرة ليلة). زاد في رواية هشام: (ونحن ثلاثمائة، نحمل زادنا على رقابنا). وفي رواية: (بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثا إلى أرض جهينة، واستعمل عليهم رجلا). وفي رواية: (بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر علينا أبا عبيدة، نلتقي عيرا لقريش، وزودنا جرابا من تمر، لم يجد لنا غيره، وكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة)]. * وهذا الحديث مذكور بطوله في مسند أبي عبيدة، وقد سبق الكلام عليه هناك.

- 2490 - الحديث الخامس والأربعون: [عن جابر، قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية: (أنتم اليوم خير أهل الأرض، وكنا ألفا وأربعمائة، قال جابر: ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة)]. * قوله: (أنتم خير أهل الارض) فهذا يدل على أن أهل بيعة الرضوان لا يلحقهم غيرهم في فضل بحال. - 2491 - الحديث السادس والأربعون: [(110/ب) [عن جابر، قال: (مر رجل بسهام في المسجد، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمسك بنصالها). وفي رواية: (مر رجل بسهام في المسجد قد بدا نصولها فأمر أن يأخذ بنصولها لا يخدش مسلما). وفي رواية لمسلم: (أنه أمر رجلا كان يتصرف بالنبل في المسجد أن لا يمر

بها إلا وهو آخذ بنصالها). * نصال: السهام، ونصولها: حديدها. * وقوله: (كان يتصرف بالنبل) (هكذا كتب الحميدي) والصواب: (كان يتصدق بالنبل)، وكذلك ذكره أبو سعيد الدمشقي وغيره. - 2492 - الحديث السابع والأربعون: [عن جابر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يخرج قوم من النار بالشفاعة، كأنهم البعارير)، قلت: وما البعارير؟ قال: (الضغابيس). وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله يخرج ناسا من النار فيدخلهم الجنة). وفي رواية: (أن الله يخرج قوما من النار بالشفاعة)].

* هذا الحديث يدل على الشفاعة، وقد تقدم الكلام في الشفاعة. والبعارير والضغابيس: صغر القثاء. - 2493 - الحديث الثامن والأربعون: [عن جابر، قال: (كان معاذ يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء، ثم يأتي فيؤم قومه، فصلى ليلة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء، ثم أتى قومه فأمهم، فافتتح بـ: {سورة البقرة}، فانحرف رجل مسلم ثم صلى وحده وانصرف، فقالوا: إنما نافقت يا فلان، قال: لا والله، ولآتين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرنه (111/أ)، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنا أصحاب نواضح نعمل بالنهار، وأن معاذا صلى معك العشاء ثم أتى فافتتح بـ {سورة البقرة}، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على معاذ، فقال: يا معاذ أفتان أنت؟ اقرأ بكذا، أو اقرأ بكذا). قال سفيان: فقلت لعمرو رضي الله عنه: وإن أبا الزبير حدثنا عن جابر أنه قال: اقرأ بـ {الشمس وضحاها}، و {والضحى}، و {والليل إذا يغشى} و {سبح اسم ربك الأعلى}، فقال عمرو: ونحو هذا). وفي رواية: (أقبل رجل بناضحين وقد جنح الليل، فوافق معاذا يصلي - فذكر نحو - وقال في آخره: فلولا صليت بـ {سبح اسم ربك الأعلى}،

{والشمس وضحاها}، {والليل إذا يغشى}؟ فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة) أحسب في الحديث. وفي رواية: (قرأ معاذ في العشاء بـ {البقرة}. وفي رواية: (أن معاذا كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عشاء الآخرة، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة)]. * في هذا الحديث دليل على أن المفترض إذا ائتم من تنفل صحت صلاته ولم ينقص ذلك من فضلها، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه. * وفيه من الفقه ما يدل على أن تطويل الإمام للصلاة تعريض للمأمومين بالفتنة، ووجه الفتنة أنه يعرض العبادة للضجر منها، فينبغي للإنسان أن يجتنب ذلك.

* وفي معناه: القارئ إذا أتى قوما عاكفين على حديث قد شرعوا فيه فقرأ عليهم من القرآن في حال هم عنه معرضون؛ فإني أخاف أن يكون ذلك القارئ متعرضا (111/ب) لعقاب الله عز وجل، كيف عرض كلام الله تعالى لأن يعرض عنه، أو ينتظر الفراغ من قراءته، بل يمسك حتى إذا فرغوا ما كانوا فيه بسبيله قرأه عليهم على مكث كما قال الله عز وجل، ومعنى مكث: أي يقرأوه على ترتيل وتثبت ليتمكن سامعوه من تدبيره. * وفيه أيضا وجه آخر، وهو أن يكون معنى القراءة على مكث على أمن، إذا ليس فيه بحمد الله ومنه ما يتناقض ولا يتنافى ولا يزيده التفسير والتتبع من أهل الحق إلا نورا، وفيه وجه آخر أيضا، وهو أنه يقرأه على مكث أي على حاله ساكنة من سامعيه، وهذا يعود إلى معنى الوجه الأول. - 2494 - الحديث التاسع والأربعون: [عن جابر، قال: (نزلت هذه الآية فينا: {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا}، بني سلمة وبني حارثة، وما أحب أنها لم تنزل والله عز وجل يقول: {والله وليهما})].

* في هذا الحديث من الفقه أن جابرا فهم من قول الله عز وجل: {والله وليهما} ما عرف أنه يرجح بما كان من إزماعها على القتل. - 2495 - الحديث الخمسون: [عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله؟)، قال محمد بن مسلمة: أتحب أن أقتله؟ قال: (نعم)، قال: إئذن لي فلأقل، قال: (قل)، فأتاه، وقال له وذكر ما بينهم، وقال: إن هذا الرجل قد أراد الصدقة، وقد عنانا، فلما سمعه قال: وأيضا والله (112/أ) لتملنه، قال: إنا قد ابتعناه الآن، ونكره أن ندعه، حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره؟ قال: وقد أردت أن تسلفني سلفا، قال: فما ترهنني؟ ترهنني نساءكم؟ قال: أنت أجمل العرب، أرهنك نساءنا، قال له: ترهنونني أولادكم؟، قال: يسب ابن أحدنا، يقال: رهن في وسقين من تمر، ولكن نرهنك الأمة - يعني السلاح -، قال: نعم. وواعده بأن يأتيه بالحارث، وأبي عبس بن جبر، وعباد بن بشر، قال: فجاءوا، فدعوه ليلا، فنزل إليهم، قال سفيان: قال غير عمرو، قالت له امرأته: إني لأسمع صوتا كأنه صوت دم، قال: إنما هذا محمد ورضيعه أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلا لأجاب، قال محمد: إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه، فإذا استمكنت منه فدونكم، قال: فلما نزل، نزل وهو متوشح، فقالوا: نجد منك ريح الطيب؟، قال: نعم، تحتي فلانة أعطر نساء العرب، قال: فتأذن لي أن أشم منه؟، قال: نعم، فسم، فتناول، فشم

منه ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: فاستمكن منه، ثم قال: دونكم فقتلوه). وفي رواية: (إنما هو محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة ... فقتلوه، ثم أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه، قال: وقد جاء محمد بن مسلمة معه برجلين، وقال غير عمرو، وأبو عبس بن جبر، والحارث بن أوس، وعباد بن بشر)]. * (كان كعب بن الأشرف من رؤساء اليهود، وكان شاعرا يهجو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وبكى قتلى قريش يوم بدر، وكان قد حرضهم على (112/ب) القتال بالشعر، وكان أبو نائلة واسمه سلكان بن سلامة بن وقش الأشهلي، أخا كعب من الرضاعة). * وقوله: (إنما هذا محمد ورضيعه) إنما قال كعب: ورضيعي فقال الراوي: (ورضيعه) وهذا مبين من الرواية الأخرى التي ذكرناها، وإنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتله لنقضه العهد.

- 2496 - الحديث الحادي والخمسون: [عن محمد بن عباد، قال: (سألت جابر بن عبد الله وهو يطوف بالبيت: أنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيام يوم الجمعة؟ قال: نعم ورب هذا البيت). وفي رواية: (أن ينفرد بصومه)]. * قد سبق هذا الحديث والكلام عليه في مسند أبي هريرة. - 2497 - الحديث الثاني والخمسون: [عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن كان في شيء من أدويتكم شفاء، ففي: شرطة محجم، أو لدغة بنار، وما أحب أن أكتوي). وفي رواية: (إن كان في شيء من أدويتكم خير، ففي شرطة محجم، أو شربة من عسل، أو لدغة بنار). وفي رواية: (أن جابر بن عبد الله عاد المقنع بن سنان، فقال: لا أبرح حتى تحتجم، فإني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن فيه شفاء). وفي رواية لمسلم: (بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بن كعب طبيبا، فقطع منه

عرقا، ثم كواه عليه). وفي رواية: (رمي سعد بن معاذ في أكحله، فحسمه النبي - صلى الله عليه وسلم - (113/أ) بيده بمشقص، ثم ورمت، فحسمه الثانية)]. * قوله: (إن كان في أدويتكم) ولم يقل في الأدوية، يريد بذلك ما كانوا يتداوون به مما لم يرتضي منه. * الأشرطة: حجام، ثم قال: أو لدغة بنار، ثم عقبها بقوله: (وما أحب أن أكتوي) لما قدمنا ذكره في مسند عمران بن حصين، وقد تكلمنا هنالك في الكي. * وقوله: (فحسمه) قال أبو عبيد: أصل الحسم القطع، وإنما أراد بالحسم أنه قطع الدم عنه. والمشقص: نصل السهم إذا كان طويلا وليس بالعريض، فإذا كان عريضا وليس بالطويل فهو معبله.

- 2498 - الحديث الثالث والخمسون: [عن جابر، قال: (مرت جنازة، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقمنا معه، فقلنا: يا رسول الله، إنها يهودية، فقال: إن الموت فزع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا). وفي رواية: (قام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لجنازة يهودي حتى توارت)]. * قد سبق الكلام في أن هذا القيام منسوخ. - 2499 - الحديث الرابع والخمسون: [عن جابر، قال: (بينما نحن نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبلت عير تحمل طعاما، فالتفتوا إليها، حتى ما بقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا اثنا عشر رجلا، فنزلت هذه الآية: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما}. وفي رواية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائما، فجاءت عير من الشام، فانفتل الناس إليها).

وفي رواية: (113/ب) (بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - قائم يوم الجمعة إذ قدمت عير إلى المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا، منهم أبو بكر وعمر، قال: ونزلت هذه الآية: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها}، زاد أبو مسعود: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد لسال بكم الوادي نارا). وفي رواية: (فلم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا)]. * في هذا الحديث من الفقه أن البيع والشراء بعد النداء للجمعة غير جائز، فأما قبل ذلك وبعده فجائز، إلا أن المستحب للمسلم أن يوقر يوم الجمعة أو يعظمه على عبادة الله عز وجل من صلاة الجمعة وغسلها وآدابها. - 2500 - الحديث الخامس والخمسون: [عن جابر، قال: (عطش الناس يوم الحديبية، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين يديه ركون، فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه).

وفي رواية: (جهش الناس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما لكم؟) قالوا: يا رسول الله، ليس عندنا ما نتوضأ به، ولا نشرب إلا ما في ركوتك، قال: فوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، قال: فشربنا وتوضأنا، فقلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة). وفي رواية: (كم كنتم يومئذ؟ (114/أ) قال: ألفا وأربعمائة). وفي رواية للبخاري: (أن جابرا قال: قد رأيتني مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد حضرت العصر، وليس معنا ماء غير فضله، فجعل في إناء، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأدخل يده فيه، وفرج بين أصابعه، وقال: (حي على أهل الوضوء، والبركة من الله تعالى)، فقد رأيت الماء يتفجر من بين أصابعه، فتوضأ الناس وشربوا، فجعلت لا آلوا ما جعلت في بطني منه، وعلمت أنه بركة، فقلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: ألف وأربعمائة). وفي رواية: (خمس عشرة مائة، الذين بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية). وفي رواية، أن ابن المسيب قال: (نسي جابر، كانوا خمس عشرة مائة)].

* قد سبق هذا الحديث في مسند سلمة بن الأكوع وتكلمنا عليه، وأشير إليه ها هنا فأقول فيه: إن من السر في تفجر الماء بين أصابعه - صلى الله عليه وسلم - أن الله سبحانه وتعالى جعل يده المباركة مادة ريهم، وكانت يده تعطيهم ما تحوي عليه، فلما لم تكن في ذلك الوقت فيها من الأعراض ما يدفع ضرورة ذلك الوقت أجرى الله العيون منها نفسها، فلم يزل رزقهم عنها، وقد أجاد القائل في هذا حيث يقول: بنانه خلج تجري وغرته ستر .... من الله مسبول على الحرمم * وقد تقدم قولنا أن هذا أفضل مما وقع من انفجار الماء من حجر موسى على نبينا وعليه السلام، إذ الحجارة قد تتفجر منها الأنهار ويشقق منها ما يخرج الماء منه، فأما يد بشر، فإنه (114/ب) لم تنفجر منه الماء إلا يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه أيضا أن يده - صلى الله عليه وسلم - كانت على مثل هذا تجري منها العيون من الجود في المعنى دائما، فلما كثر ذلك منها ظهر في صورتها بقدرة الله عز وجل فتفجرت منها العيون والناس ينظرون. * وفيه أيضا جواز تقديم الشرب على الوضوء، العطاش، وذلك في كل مقام؛ لأن الوضوء منوب عنه التيمم، حتى إذا اشتد به العطش ومعه ما شربه وتيمم؛ لأن التيمم يقوم مقام الوضوء وشرب الماء لا يقوم مقامه شيء. * وفيه أيضا أنه لم يقل ادخرنا منه؛ ولكن دفعوا الضرورة الحاضرة من الشرب والوضوء لأن من يرى تلك الآية لا يحسن به حمل الماء. * وفيه أن جابرا لما سأله السائل عن عدتهم، فهم مقصود السائل بهذا

السؤال، وأنه أراد أن ينظر هل العدة كانت تلائم ما كان مقدار في الركوة، فقال له قولا يقطع نوابض توهمه الفاسد؛ لأنه قال: (لو كنا مائة ألف لكفانا). ثم قال له: (كنا ألف وأربعمائة أو خمس عشرة مائة)، وهذا العدد فإنه يشتمل من الشرب والوضوء على ما يرجع إلى ألفي رطل على أقل الأحوال، وهذا لا يخفى على آدمي أن ركوة لا تسع وضوء ثلاثة وشربهم فلذلك قال: (لو كنا مائة ألف لكفانا) وكونه فرج - صلى الله عليه وسلم -، إنما فعله؛ ليبين كيف يخرج الماء منها لكل من ينظر إلى ذلك حتى لا يتمارى فيه اثنان. * وفيه أيضا دليل على أن كل واحد منهم كان يستكثر منه البركة (115/أ) وظهور الآية فيه لقول جابر: (فجعلت لا آلوا ما جعلت في بطني منه) وعلمت أنه بركة. - 2501 - الحديث السادس والخمسون: [عن جابر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم يحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)].

* قد سبق بيان هذا الحديث من مسند حذيفة، وفي مسند أبي ذر، وفي مسند أبي هريرة، وأشير إليه فأقول: إنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر هذه الخمس مشعرا بها أن كلا منها لم يعطها نبي قبله، فهي زيادة له غير مما أعطيه الأنبياء قبله، بهذه الخمس يخصص بها وحده غير ما شارك الأنبياء فيه صلى الله عليه وسلم وعليهم، وهذه الخمس فهي جامعة شاملة: * أولها: أن الله تعالى نصره - صلى الله عليه وسلم - بالرعب، وهو أنه جعل جنده في قلوب أعدائه، وهو الرعب، فخذلهم وهزمهم، وبينه وبينهم مسيرة شهر مسافة، لا يصلها سهم ولا ينالها رمح، ولا يدركها عدو جواد من الخيل، وهي زهاء ثلاثمائة فرسخ. وكان في قوله - صلى الله عليه وسلم - مخبرا لنا بهذا الحديث أن لله جنودا منها ما يرى صورته، ومنها ما يرى أثره، ومنه الرعب الذي نصر به نبيه. فأما مسيرة شهر فالذي أراه فيه: أنه لما سخر الله الريح (115/ب) لسليمان فكان غدوها شهر ورواحها شهر، أي مسيرة شهر، إلا أن الرعب الذي يكون مسيرة شهر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل، لأن مسيرة شهر من بلده إلى وقت الرواح مسيرة شهر عند انتهاء وصولها. وذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان حين يذكره الأعداء يقع رعبه في القلوب في

الحال، فحاله أتم، فقد فضلت حاله على سليمان من هذا الوجه، ومن وجه آخر، وهو أن سليمان كان يصل إلى الأعداء الذين يقاتلهم وقلوبهم لهم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصل إلى الأعداء وقد سبقه الرعب فصارت قلوبهم له، فهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لم يعطهن أحد قبلي) ثم عقب ذلك بقوله: * (وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) يعني أن الله سبحانه أباحه الأرض شرقها وغربها، وأنها جعلت له مسجدا، وهذا مما يدل على كل عاقل أن الله تعالى علم كثرة أمته، وأنه لا يسعهم مسجد ولا جامع فجعل الأرض لهم كلها مسجدا، فأباح الله سبحانه وتعالى الصلاة في كل موضع من الأرض. ثم لما علم الله عز وجل من حرص أمته على الطهور واهتمامهم بصلواتهم، أباحهم البسيطين، الثرى والماء، لطهورهم، فأوجب عليهم الطهارة بالماء إذا وجدوه، والتراب إذا عدموه، فلما نصروا بالرعب وأقاموا الفريضة ذكر إحلال الغنائم فقال: * (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي) هذا يذكره - صلى الله عليه وسلم - (116/أ) مبينا به فضل أمته، فإنه يعني أن إيمان أمته زاد وصدق إلى أن لا يضره تناول الغنيمة في إخلاصهم في الجهاد، فإن من كان قبلهم إنما كانت الغنائم تأكلها النار؛ من أجل إيمان من تقدم لم يكن في قوة إيمان هذه الأمة؛ إذ الغنائم لا يؤثر تناولها في إخلاصهم في جهادهم وإرادتهم به وجه مولاهم وخالقهم. وكان ذلك لنزول إيمان من تقدم عن درجة إيمان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت تأكلها احتياطا للغزاة، حينئذ جاهدوا من أجل الغنائم، من أجل الغنائم لأمة محمد يشير أن مقامهم أشرف من أن يكون جهادهم لأجل الغنائم.

ثم ذكر الشفاعة وهي شفاعة في الجمع كله، أولهم الأنبياء، وهذه الشفاعة العظمى تشمل كل مرسل، ومرسل إليه، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعث إلى الناس عامة، يعني - صلى الله عليه وسلم - إني بعثت إلى الأسود والأحمر، والجن والإنس، مشيرا بهذا القول إلى كل من طلعت عليه الشمس في فج من فجاج الأرض إذا بلغته دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يؤمن به فهو من أهل النار. - 2502 - الحديث السابع والخمسون: [عن جابر، قال: (لما حفر الخندق رأيت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - خمصا؛ فانكفأت إلى امرأتي، فقلت: هل عندك شيء؟ فإني رأيت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمصا شديدا، فأخرجت إلى جرابا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن، فذبحتها وطحنت (116/ب) ففرغت إلى فراغي، وقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: لا تفضحني برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، فجئته فساررته، فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا وطحنت صاعا من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك، فصاح النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا أهل الخندق، إن جابرا قد صنع لكم سورا فحيهلا بكم، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء). فجئت، وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدم الناس، حتى جئت امرأتي فقالت: بك وبك، فقلت: قد فعلت الذي قلت؟ فأخرجت عجيننا، فبصق فيه وبارك،

ثم عمد إلى برمتنا فصق وبارك، ثم قال: (ادع لي خابزة فلتخبر معك، واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها، وهم ألف) فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، فإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا لتخبز كما هو). وفي رواية: (أتيت جابرا فقال: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة، فجاءوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: (أنا نازل)، ثم قام وبطنه معصوب - ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا - فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - المعول، فضرب فعاد كثيبا أهيل. فقلت: يا رسول الله، إئذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا، ما في (117/أ) ذلك صبر، فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعناق، فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي - صلى الله عليه وسلم - والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافي، قد كادت أن تنضج، فقلت: طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان. قال: (كم هو؟) فذكرت له، قال: (كثير طيب)، قال: (قل لها لا تنزع البرمة، ولا الخبز من التنور حتى آتي، فقال: قوموا) فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحك، جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم، فقال: ادخلوا، ولا تضاغطوا. فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه، يقرب إلى أصحابه، ثم ينزع، فلم يزل ويكسر ويغرف حتى شبعوا،

وبقي منه، فقال: (كلي هذا وإهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة)]. * الخمص: الجوع، المخمصة: المجاعة. وقوله: (فانكفأت إلى امرأتي) أي رجعت، والداجن: ما يحبس في البيت من الغنم، والسويقة: الطعام. * وفي قوله: (فحي أهلا بكم) هذه كلمة تقال عند الحث على الشيء. * وقوله: (فقالت: بك وبك) كناية عن اللوم والسب. * وقوله: (بسق فيه) أي بزق، يقال بسق، وبزق، وبصق، وفي هذا دليل على إظهاره البصاق. * وقوله: (إن برمتنا لتغط) أي يغلي بما فيها، والكدية: القطعة من الأرض الغليظة الصلبة. * وقوله: (وبطنه معصوب) أي مشدود بالعصابة من الجوع. * وقوله: (فعاد كثيبا: أهيل) (117/ب)، الأهيل: المنهار الذي لا يتماسك. * وقوله: (ادخلوا ولا تضاغطوا) أي لا تزاحموا.

* وفيه من الفقه أن جابرا لما استكشف من حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخمصة اهتم بها إلا أنه لم يبدأ بأن يذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيئا حتى ذهب إلى أهله وسأل عما عندهم، فلما أخبرته بطعام يكفي الواحد أو الاثنين، رأى أنه يسد به خصاصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن جابر يدعو ذلك الخلق كله على طعامه ذلك، وإنما أعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما عنده وأنه كاف للرجل أو الاثنين، فاستصحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس كافة، فكانوا أضياف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضيف جابر فيما بلغه وسعه، والخلق ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يناله وسعه. * فأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كم هو؟) فإنني لا أراه إلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد بسؤاله عنه لجابر أن يطيبه عنده ويكثره، ولا يكون جابر على انكسار ولا خجل، إذا رأى ذلك الخلق عنده. * وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن لا ينزع البرمة ولا الخبز من التنور، فيجوز أن تكون البرمة على الأثافي، وفي ذلك أنه إذا لم ينزل القدر ولم يظهر الخبز من التنور نال الضيف ذلك وهم سخن، فيكون في هذا نوع (118/أ) فائدة لأكله من حيث علم البدن. * وفيه أيضا أنه لفرق ما بين الاتجاد والعدم، فإن ذلك لو كان قد دفعت الحجر، وكان قد قطع عنها مادة ما ولو كان الخبز رفع من التنور، لكان قد فرغ منه، وعلم عدده، لم يقطع مادة الاتجاد، ولو اطلع على ذلك لعلم عدده، فلما كان باقيا على حاله جعل سترا بين الاتجاد والعدم، وإلا فما يخفى على الآدمي أن قدر بهيمة وصاع شعير مما يستحيل أن يأكل منه ألف.

* ثم يقول - صلى الله عليه وسلم -: (كلي هذا، واهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة) ثم يكون الطعام كأنه لم يصب منه، ولأن أبقاه على ذلك الحال يجعله عند التناول على سخونته. * وفيه أن الكدية التي عرضت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستصعبة حتى ضربها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمعول فانهالت، لا أراه إلا أن الله سبحانه وتعالى أذنه بانهيال الأمر وتسهله بعد صعوبته، وأن الخندق لم يبق بعده شدة، وأن الصعوبة تسهلت. * وفيه أيضا أن المؤمن ينبغي له أن يكون متفقدا لأحواله وخطراته، وذهابه وإتيانه، وكل شخص يلقاه ويكلمه ناظرا إلى أن الله سبحانه هو محرك حركات الوجود، والعالم بخطراتهم وحركاتهم، وإن ذلك قد يكون منه ما يخاطب به العبد، ويناجي به بإشارة ورموز على وجه يكون الحاضرون حوله ما فيهم من يدري ما يجري على نحو انهيال الكدية بعد صعوبتها. فهذا من أحسن السر وأصونه، وهذا لا أراه إلا في اليسر (118/ب) لأنها لو تصعبت عليه لم يستدل بذلك على صعوبة لأن ذلك يكون تشاؤما والأول تفاؤلا، فإن تم على أحد شيء من ذلك نادرا، فإن ذلك إنما فعل ليعتبر به إيمانا. - 2503 - الحديث الثامن والخمسون: [عن جابر بن عبد الله، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى دارا فأكملها وأحسنها، إلا موضع لبنة، وجعل الناس يدخلونها

ويعجبون، ويقولون: لولا موضع اللبنة). وفي رواية: (فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء)]. * هذا الحديث قد تقدم في مسند أبي هريرة وتكلمنا عليه، وأشير إليه فأقولك إنه - صلى الله عليه وسلم - لما يقدمه الأنبياء والمرسلون ما يقدموا به، شبههم - صلى الله عليه وسلم - ببناء دار بنيت حتى لم يبق فيها إلى موضع لبنة، حتى إن تلك اللبنة إذا وضعت لم يبق فيها محل لأن يعمل فيها شيء، فكان خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا مشعرا أنه ختم الأنبياء كما ختمت تلك اللبنة ذلك البناء، فلم يبق بعده لبان عمل لأنه - صلى الله عليه وسلم - تمم البناء. - 2504 - الحديث التاسع والخمسون: [عن ابن المنكدر، قال: (دخلت على جابر وهو يصلي في ثوب، ملتحفا به، ورداؤه موضوع، فلما انصرف قلنا: يا أبا عبد الله، تصلي ورداؤك موضوع؟ قال: نعم، أحببت أن يرني الجهال مثلكم، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي كذلك). (119/أ) وفي رواية: (صلى بنا جابر في إزار قد عقده من قبل قفاه، وثيابه موضوعة على المشجب، فقال له قائل: يصلي في إزار واحد؟ قال: إنما

صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك، وأينا كان له ثوبان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟). وفي رواية سعيد بن الحارث، قال: (سألت جابر بن عبد الله عن الصلاة في الثوب الواحد؟)، فقال: خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، فجئت مرة لبعض أمري فوجدته يصلي، وعلى ثوب واحد، فاشتملته وصليت إلى جانبه، فلما انصرف قال: (ما السرى يا جابر؟) فأخبرته بحاجتي، فلما فرغت، قال: (ما هذا الاشتمال الذي رأيت؟) قلت: كان في ثوب واحد، قال: (فإن كان واسعا فالتحف به، وإن كان ضيقا فاتزر به). وفي رواية: (كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فانتهينا إلى مشرعة، فقال: ألا تشرع يا جابر؟، قلت: بلى، قال: فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشرعت، قال: ثم ذهب لحاجته ووضعت له وضوءا، قال: فجاء فتوضأ، ثم قام فصلى في ثوب واحد خالف بين طرفيه، فقمت خلفه، فأخذ بأذني، فجعلني عن يمينه). وفي رواية: (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في ثوب واحد متوشحا به). وفي رواية عن أبي الزبير: (أنه رأى جابر بن عبد الله يصلي في ثوب واحد متوشحا به، وعنده ثيابه، وقال جابر: إنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك)].

* في هذا (119/ب) الحديث جواز الصلاة في ثوب واحد مع القدرة على ثوبين. والمشجب: أعواد متداخلة يجعل عليها الثياب. * وقوله: (ما السرى يا جابر؟)، السرى: سير الليل، والمعنى لأي شيء كان مسراك الليلة. * وقوله: (ما هذا الاشتمال) الاشتمال: الالتفاف بالثوب حتى يشمله فلا يخرج منه يده، فلهذا أنكره عليه. * قوله: (ألا يشرع) معناه: ألا يورد الإبل المشرعة. - 2505 - الحديث الستون: [عن جابر، قال: (بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم غنيمة بالجعرانة، إذ قال له رجل: أعدل، فقال: لقد شقيت إن لم أعدل). وفي رواية لمسلم: (أتى رجل بالجعرانة - منصرفة من حنين - وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبض منها ويعطي الناس، فقال: يا محمد، أعدل، فقال: (ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟، لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل) فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال: (معاذ الله أن يحدث أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من

الرمية). وفي رواية: (أنه عليه السلام كان يقسم مغنم حنين بنحوه)]. * أما هذا الرجل فيقال له ذو الخويصرة، والثاني شقيت (مفتوحة) لأن المعنى أنك إذا اتبعت من لم يعدل فقد شقيت. * (120/أ) وقوله: (يمرقون من الدين) قد سبق شرحه في مسند أبي ذر رضي الله عنه. * * * أفراد البخاري - 2506 - الحديث الأول: [عن جابر، قال: (قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل مال لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة)].

* هذا الحديث يدل على وجوب الشعفة فيما لم يقسم وهو المشاع، وقد نفاها عن ما قد قسم، وعند أحمد ومالك والشافعي: أن الشفعة لا تستحق بالجوار، وقال أبو حنيفة: تستحق بالجوار. - 2507 - الحديث الثاني: [عن جابر، (أن إهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من ذي الحليفة، حين استوت به راحلته)]. * قد سبق هذا الحديث في مواضع. - 2508 - الحديث الثالث: [عن جابر، قال: (لما حضر أحد، قال: دعاني أبي من الليل فقال: ما أراني إلا مقتولا في أول من يقتل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإني لا أترك بعدي

أعز علي منك، غير نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن علي دينا فاقض، واستوص بأخواتك خيرا، فأصبحنا فكان أول قتيل، ودفنت معه آخر في قبره، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته غير أذنه). وفي رواية: (فجعلته في قبر على حده)]. * في هذا الحديث ما يدل على أن الشهداء لا سبيل للبلى عليهم، ولو كانت صورة جسم أحدهم قد يطرق عليها ما فرق أجزاءها لم يكن ذلك إلا لزيادة في كرامة (120/ب) الشهيد، فإنه يستطيب كل ما زاد ما يناله من الأذى في سبيل الله. * وفيه أنه قال: (أعز علي منك) ولم يقل أحب؛ لأنه لم يكن يظن به أنه يحب إلا الله، وكان أفاضل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه، كما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: (اللهم إن عمر أحب الناس إلي)، ثم قال: اللهم أغزو، وألو، لك الوطء. * وفيه جواز أن يغزو الغازي وعليه دين فيوصي بقضائه. * وفيه جواز أن يكون للرجل البنات الشديدي الحاجة إلى بقائه؛ فيؤثر على القيام عليهن الجهاد في سبيل الله. * والرجل الذي دفن معه: عمرو بن الجموح، ولا أرى كون جابرا أراد إفراد أبيه عن عمرو بن الجموع على علو قدريهما إلا إيمان جابر رضي الله عنه حقق

عنده وجود الحور العين عند كل واحد منهما، وعرف أن اجتماعهما مع وجود زوجاتهما في قبر واحد يضر بأنسهما الكامل، فأراد أن يفرد إباه عن عمرو بن الجموح، ليكون كل منهما خاليا مع زوجاته من الحور العين، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دفن بعض الشهداء أعرض وقال: (رأيتهن ناديات سوقهن)، يشير إلى الحور. - 2509 - الحديث الرابع: [عن جابر، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن من حلق قبل أن يذبح ونحوه، فقال: (لا حرج، لا حرج)]. * قد سبق هذا في مسند ابن عباس وغيره. - 2510 - الحديث الخامس: (121/أ) [عن جابر، قال: لما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأم سنان

الأنصارية: (ما منعك من الحج؟) قالت: ليس لنا إلا ناضحان، أو فلان - تعني زوجها - حج على أحدهما، والآخر: يسقي أرضا، قال: (فإن عمرة في رمضان تقضي حجة أو حجة معي)]. * قد سبق في مسند ابن عباس. * فأما كون العمرة في رمضان تعدل حجة، فيجوز أن يكون المعتمر فيه يكون صائما، فيعبد الله من طريقين وينالهن إن شاء الله تعالى من بابين. - 2511 - الحديث السادس: [عن جابر، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كل معروف صدقة)]. * قد سبق الكلام عليه في مسند حذيفة، ونشير إليه فنقول: إنما أشعر - صلى الله عليه وسلم - بهذا القول المتصدق أنه ليس الصدقات مقصورة على الأموال التي ربما لا يقبلها إلا غنيا؛ إن الصدقة قد تكون كلمة حكمة فيتصدق بها على الجهال، وفي هدايتك الطريق لمن لا يعرفها، وإن كان الملك فإنك متصدق عليه بالهداية

وهذا هو. وإن كان في طريق السعي بالأقدام صدقة فإنه في طريق السعي إلى الحق صدقة فوق هذه الصدقة، وهكذا إذا تصدقت على رجلين متنازعين في مسألة حساب لا يعرفان كلمة للفصل بينهما؛ فأتيتهما بها، وفصلت بينهما بذكرها كنت متصدقا عليهما بقضاء يفصل بينهما، وكذلك إذا رأيت أخاك المؤمن وقد استشاط به غضبه ألهاه عن معرفة الصواب في سبيل يسلكها من القول وأشرت له إلى (121/ب) الإناة، وحررت له قولا يخلصه فيه من حوادث الغضب الشديد كنت متصدقا عليه بذلك. وكونك إذا رأيت المسلم وقد ذهب به إسلامه ونهض في إسلامه إيمانه إلى أن حمل نفسه من أعباء العبادة ما لم يندبه المشرع إليه تصدقت عليه تبصرنه الحق، وأن من صدقتك عليه أمره بالرفق كنت في ذلك متصدقا، وكذلك إذا رأيت أخاك المسلم قد كشف بسوء تدبيره شيئا من أسرار حاله؛ الصالح له كتمها وسترها، فمددت دليل حلمك وعقلك على ما كشفه خرقه، فسترت ذلك منه كنت متصدقا عليه بصدقة، وعلى ذلك فكل معروف صدقة يقبلها من لا يقبل المال، ويتصرف في مواطن لا يغني كثير المال ما يغني القليل من هذه فيها.

- 2512 - الحديث السابع: [عن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (رحم الله رجلا سمحا، إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى)]. * قد سبق في مسند أي مسعود البدري فضل التجاوز والتساهل، ووجه هذا أن المشاحة في البيع والشرى أمارة على البخل، ودليل على الشح ولا سيما مع الإخوان من المسلمين؛ الذين ينبغي إيثارهم بالشيء، وتقتضي المروءة إعطاءهم بلا ثمن، فإذا باعهم بثمن فلا أيسر من أن يقف على أنه سيكون سمحا بائعا، وسمحا مشتريا، وسمحا متقضيا، فإنه إذا استبدل السماحة العسر في كل ذلك دالا من شيمه على أنه ليس (122/أ) تناله دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. - 2513 - الحديث الثامن: [عن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمد الوسيلة والفضيلة،

وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة)]. * النداء ها هنا: الأذان، والوسيلة: قد سبق شرحها، والمقام المحمود الذي يحمده لأجله جميع أهل الموقف. قال ابن مسعود: هو الشفاعة للناس يوم القيامة، وذلك أن هذه الدعوة هو سنها، وعلى لسانه ذكرت، فكل قائل يقولها فثوابها له إلى يوم القيامة، فيكون قول القائل: (اللهم آت محمدا الوسيلة) جزاء لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وحسن مكافأة. * وقوله: (آت محمدا الوسيلة) فإن الوسيلة قد روي فيها ما روي، إلا أنها في وضع اللغة: هي التي يدلي بها الطالب، فيكون سؤال الناس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوسيلة سؤال لنفوسهم؛ فإن الوسيلة والمقام المحمود والدرجة الرفيعة كله ليستنزل ويسأل الصفح عنهم والعفو. * وفي هذا الحديث ما يدل على أن وقت الأذان قمن بالإجابة. - 2514 - الحديث التاسع: [عن جابر، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما

يعلمنا السورة من القرآن، يقول: (إذا هم أحدكم (122/ب) بالأمر؛ فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسلك من فضلك العظيم، فإنه تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: في عاجل أمري وآجله - فاقدره لي أو يسره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به)، قال: ويسمي حاجته]. * في هذا الحديث دليل على طلب الخيرة من الله سبحانه وتعالى قبل الشروع في الأمر، والاستخارة أن يسأل الله خير الأمرين. * ومعنى: (فاقدره لي) وقدره وقيضه، وقد علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المستخير أحسن لفظ ينطق به في الاستخارة. * وقوله: (أستخيرك بعلمك) فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب الخيرة من الله، ثم علق ذلك بعلم الله، وأشار فيما أرى بهذا، إلى قوله: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو

خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}. فلما كانت عواقب الأمور لا يعلمها العبد، قال: (أستخيرك بعلمك) أي ما تعلم أنت أن عاقبته لي الخيرة مقدما علم الله سبحانه واختياره على حد مبلغ علم آدمي واختياره لنفسه. * وقوله: (أستقدرك بقدرتك) (123/أ) فإنه يعني أنه بعد أن سأله أن يختار له سبحانه بمقتضى علمه في عواقب الأمور، أي فقد سألتك أن تقديري على ما يقتضيه علمك في ذلك الأمر ولا تقدرني على ما ليست عاقبته جميلة، أي لا تبسط قدرتي إلا على ما هو الخيرة في علمك. ثم عقب ذلك بأن قال: (فأسألك من فضلك) أي لما عرفت أن الخيرة بعلمك والقدرة مني بقدرتك حينئذ سألتك من فضلك العظيم، ولما لم يعين عند سؤاله من الفضل جنسا من الفضل، كان هذا الفضل متناول كل جنس من الفضل، ولما كان ذلك راجعا إلى إنعام الله وصفه بأنه عظيم. ثم قال: (فإنك تقدر ولا أقدر) أي أنت تقدر، وحالي أنا إني لا أقدر، فأما تأخير ذكر العلم وتقديم ذكر القدرة على خلاف أول الكلام، ويجوز أن يكون من أجل أن آخر الكلام الثناء على الله بعلم الغيب، فختم ذلك بما يناسب العلم، ويجوز أن يكون حث بدأ بذكر العلم عند قوله: (أستخيرك بعلمك) حتى يذكر العلم أيضا؛ لأن الاستخارة تتعلق بالعلم، والله أعلم بما أراد رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

* وأما قوله: (إن كنت تعلم أن هذا الأمر حير لي في ديني ومعاشي)، فإنه لم يذكر اسم الدنيا وإنما ذكر اسم المعاش، وذلك أن إصلاح المعاش معونة على العيشة، وعيشة العبد في الدنيا لعبادة ربه، فطلب إصلاح ما يقوم به العبادة عبادة، وكذلك عاجل أمري وآجله. * وقوله: (فاقدره لي) أي كونه ثم طلب (123/ب) التيسير والتسهيل في ذلك التكوين. * وقوله: (فاصرفه عني) يعني اصرفه عني، فلا تطرقه إلي، واصرفني عنه فلا أنظر إليه. * وقوله: (رضني به) أي إذا قدرت لي الخير، فاحمي قلبي من أن يستزيد بعد أو يرى أنك لم تختر لي الأفضل، ولم يقل صبرني عليه، ولكن قال: (رضني به) أي اجعلني من الراضين فإن مقامه فوق مقام الصبر، فينبغي له إذا صرف عنه الأمر أن لا يتأثر بالصرف، كما أنه ينبغي له إن حصل له أن يكرهه، وهذا طريق واضح على طلب الخيرة، إلا أن الذي أنزله الله تعالى في القرآن أعم وأشمل وهو قوله تعالى: {يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار (39) من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب}. فإذا نهض العبد في أمر فإنه يعلم عاقبته من هاتين الاثنين؛ لأنه إن كان دينا علم أن عاقبته السلامة، وإن كان سيئة علم أن عاقبته الندامة، وهذه الأقسام تشمل جميع ما يتحرك العبد فيه. وهذا مما كان الشيخ محمد بن

يحيى رحمه الله يقوله. - 2515 - الحديث العاشر: [عن جابر، قال: (اصطبح الخمر يوم أحد ناس، ثم قتلوا شهداء)]. * الاصطباح: شرب أول النهار، والخمر إنما حرمت بعد وقعة أحد. - 2516 - الحديث الحادي عشر: (124/أ) [عن جابر، قال: (لما أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} قال: (أعوذ بوجهك)، {أو من تحت أرجلكم} قال: (أعوذ بوجهك)، {أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} قال: (هاتان أهون أو: أيسر)].

* قد مضى معنى (العوذ) وأنه في لغة العرب: العظم، وكأن المستعيذ بالله يتحصن من وجوه السوء، يحصن المخ في داخل العظم، فلما عظم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما نزل من هذه الآية عرف أن هذا حيث نزل به القرآن عليه لا يعيذ منه إلا أجل الأشياء وهو وجه خالقها سبحانه، فقال: (أعوذ بوجهك) فهذه أفضى غايات العوذ لكل مستعيذ. * فأما قوله: (هاتان أهون) فإنه يشعر بهذا أن هذه العوذة لا ينبغي أن تبذل في كل ما صح احتمال، ولكن إنما يستعاذ بها عند تفاقم الأمر. * وأما قوله: (من فوقكم) فيجوز أن يكون المكان ويجوز أن يكون المراد به القدرة. * وقوله: (أعوذ بوجهك) هو على معنى: بعفوك من عقوبتك، إلى أن قال: (أعوذ بك منك)، إلا أن فيه إشارة إلى أن الآفات والمخاوف وكل شيء يحذر إذا كان العائذ منه وجه الله سبحانه وتعالى، تقاصرت المخوفات كلها عن أن تدنوا أو تقارب أو تكون موجودة عند جلاله وعظمته، فإذا قال المستعيذ: أعوذ بوجهك فقد استجاش بما لا تثبت له مخلوقات، فإنه سبحانه لما تجلى للجبل جعله دكا. * وفي قوله: (أو من تحت (124/ب) أرجلكم) معنيان: أحدهما: من تحت الأرض، والثاني: من التحوت أي يأتيكم العذاب

ممن لا قيمة له، ويدل على هذا التأويل أنه لما قال: {أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} قال: (هاتان أهون)؛ لأن المعنى إن كان عذابا كان بيد الأكفاء والأمناء. - 2517 - الحديث الثاني عشر: [عن جابر، قال: (الذي قتل حبيبا ابو سروعة)]. * قد سبق هذا في مسند أبي هريرة رضي الله عنه. - 2518 - الحديث الثالث عشر: [عن جابر، قال: (شهد بي خالاي العقبة، قال ابن عيينة: أحدهما البراء بن معرور، وفي رواية: أنا وأبي وخالي من أهل العقبة)]. * في هذا الحديث جواز إخبار الرجل عن مناقب أهله؛ ليكون في ذلك ذاكرا

من مناقبهم ما يجعله طريقا إلى قول روايتهم فيما يرونه وحسن اتباعهم فيما يعتمدونه؛ وليكون أيضا ذاكرا ما يأمن معه المتأخرون الألباس من تشبه غيرهم فيه بهم؛ ولأن ذكر ذلك تذكير للنعم وتحدث بها، وذلك من الشكر. - 2519 - الحديث الرابع عشر: [عن جابر: (أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر، فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليشفع إليه، فجاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخلة بالذي له، فأبى، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النحل، فمشى فيها، ثم قال لجابر: (جد له (125/أ) فأوف الذي له) فجده بعدما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأوفاه ثلاثين وسقا، وفضل له سبعة عشر وسقا، فجاء جابر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبره بالذي كان، فوجده يصلي العصر، فلما انصرف أخبره بالفضل، قال: (أخبر بذلك ابن الخطاب)، فذهب جابر إلى عمر فأخبره، فقال عمر: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليباركن فيها). وفي رواية عن جابر: (توفي أبي وعليه دين، فعرضت على غرمائه أن يأخذوا التمر بما عليه، فأبوا، ولم يروا أن فيه وفاء، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقال: إذا جددته فوضعته في المربد آذني؛ فلما جددته فوضعته في المربد، آذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء ومعه أبو بكر وعمر، فجلس عليه ودعا بالبركة فيه، ثم قال: ادع غرماءك فأوفهم، فما تركت أحدا له دين على أبي إلا قضيته، وفضل ثلاثة عشر وسقا، سبعة عجوة، وستة لون - أو ستة عجوة

وسبعة لون - فوافيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغرب، وذكرت له ذلك فضحك، وقال: ائت أبا بكر وعمر فأخبرهما فقالا: قد علمنا إذ صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما صنع أن سيكون). وفي رواية: (توفي عبد الله بن عمرو بن حرام وعليه دين، فاستعنت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في غرمائه أن يضعوا من دينه، فطلب إليهم، فلم يفعلوا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اذهب فصنف تمرك أصنافا: العجوة على حدة، وعذق زند (125/ب) على حدة، ثم أرسل إلي، ففعلت، ثم أرسلت إليه فجلس على أعلاه، أو في وسطه، ثم قال: كل للقوم، فكلت لهم حتى أوفيتهم الذي لهم، وبقي تمري كأنه لم ينقص منه شيء). وفي رواية: (فما زال يكيل لهم حتى أدى). وفي رواية: (أصيب عبد الله وترك عيالا ودينا، فطلبت إلى أصحاب الدين أن يضعوا بعضا، فأبوا، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستشفعت به عليهم، فأبوا، فقال: صنف تمرك، كل شيء على حدة، ثم أحضرهم حتى آتيك، ففعلت، ثم جاء فقعد عليه، وكال لكل رجل حتى استوفى، وبقي التمر كما هو كأنه لم يمس، وغزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ناضح لنا، فأزحف الجمل فتخلف علي، فوكزه، ثم ذكر نحو ما تقدم من أمر الجمل، وبيعه وسؤاله عما تزوج وجوابه، وإتيانه أهله، ولوم خاله له، وفي آخره: فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - غدوت إليه بالجمل، فأعطاني ثمن الجمل والجمل، وسهم مع القوم). وفي رواية عن جابر: (أن أباه استشهد يوم أحد، وترك ست بنات، وترك عليه دينا، فلما حض جداد النخل أتيت، فقلت: يا رسول الله، قد علمت

أن والدي استشهد يوم أحد وترك دينا كثيرا، وأحب أن يراك الغرماء، قال: (اذهب فبيدر كل تمر على ناحية) ففعلت، ثم دعوته، فلما رأوه أغروا بي تلك الساعة، فلما رأى ما يصنعون طاف حول أعظمها بيدرا ثلاث مرات، ثم جلس عليه، ثم قال: (ادع أصحابك)، فما زال الكيل لهم، حتى أدى الله أمانة والدي، وأنا والله راض أن يؤدي الله (126/أ) أمانة والدي ولا أرجع إلى أخواتي بتمرة، فسلم الله البيادر كلها، حتى إني أنظر إلى البيدر الذي عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنه لم ينقص منه تمرة واحدة). وفي رواية: (أن أباه توفي وعليه دين، قال: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إن أبي ترك عليه دينا، وليس عندي إلا ما يخرج نخله؛ ولا يبلغ ما يخرج سنتين ما عليه، فانطلق معي لكي لا يفحش علي الغرماء، فمشى حول بيدر من بيادر التمر، فدعا، ثم أخر، ثم جلس عليه، ثم قال: تمزعوه، فأوفاهم الذي لهم وبقي مثل ما أعطاهم). وفي رواية: (أن أباه قتل يوم أحد شهيدا، فاشتد الغرماء في حقوقهم، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلمته، فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطي، ويحللوا أبي، فأبوا، فلم يعطهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حائطي، ولم يكسره لهم، ولكن قال: سأغدو عليك، فغدا علينا حين أصبح، وطاف في النخل، ودعا في تمرها بالبركة، فجددتها فقضيتهم حقوقهم، وبقي لنا من تمرنا بقية، ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر وهو جالس: اسمع يا عمر، فقال عمر: ألا يكون قد علمنا انك لرسول الله، والله إنك لرسول الله)].

* في هذا الحديث ما يدل على أنه قد يكون على الرجل الصالح الدين ويبقى إلى أن يموت. * وفي أيضا جواز الانتظار للغريم. * وفيه جواز التكليم لصاحب الدين في حق الغريمة. * وفيه دليل على حرمان الكافر (126/ب) البركة لسوء مخالفته رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما لوم اليهودي ولم يحترم خطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، التمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفضل من ربه لجابر، فوفى اليهودي وأسقط منته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يجعل له عنده يدا، وأفضل لجابر فضلة لم يكن يأملها، وأما فضل سبعة عشر وسقا فكان سبعة عشر تزيد على نصف الثلاثين، وثلاثة عشر ينقص عن النصف باثنين، فلما كانت الفضلة زائدة عن النصف باثنين أو ناقصة باثنين، أراد الله أن يكشف في هذا أن الزيادة كانت عن بركة أوجدها عن مشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحائط، إذ مثل هذه الزيادة التي هي النصف من

الأصل زائدا وناقصا لا يخفى مثلها؛ إن لو كانت قبل ذلك فلم يكن اليهودي يمنع من أخذ ذلك بدينه، وهو ثلاثون وسقا حتى كشف الله سبحانه ذلك. * وقوله: (أعلم عمر)، وفي رواية (أئت أبا بكر وعمر) فإنه يدل على أن المؤمن وإن كان صديقا فإنه تزيده دواعي ودلائل الحق إيمانا فوق إيمانه، وخيرا على خير لقوله: (أعلم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما) ليزدادا بذلك من الإيمان وليسرهما بذلك - صلى الله عليه وسلم -. * وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتفل بشأن جابر حتى جاء بنفسه بيدرة. * وفيه أن رسول الله صلى الله عليه (127/أ) وسلم قال له: (صنف تمرك) أي بينه، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - أمره بالكشف ونزهه عن الغش، فلما أتى بالصدق ووفى لإيمانه، وفى الله عز وجل عنه دين أبيه، وفضلت له فضلة. * وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل له أعلم بذلك الناس كافة؛ ولكن كانت هذه الآية مفهومة بدركها ذوو الألباب تخص بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيار المؤمنين مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وهذه حالة يفهمها ذوو الألباب والأصفياء. - 2520 - الحديث الخامس عشر: [عن جابر، قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تنكح المرأة على عمتها وخالتها)].

* قد سبق في مسند أبي هريرة، ووجه الحكمة في ذلك الحذر من قطع القرابة والرحم. - 2521 - الحديث السادس عشر: [عن جابر، قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الظروف، فقالت الأنصار: لا بد لنا منها، قال: فلا إذا)]. * قد سبق البيان بأنه إنما نهى عن الظروف لخوف الاشتداد فيها، ثم أطلق المنع لكل مشتد فلم يبق للظروف حكمه. - 2522 - الحديث السابع عشر: [عن جابر، قال: كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا)]. * المراد بالصعود: العلو على المكان المرتفع، والتكبير يناسب الصعود فيكون المعنى أنه أكبر من كل عظيم، فإذا نزل سبح (127/ب) فنزه الله عن كل

نقص. - 2523 - الحديث الثامن عشر: [عن جابر، قال: (جاءت ملائكة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلا، فاضربوا له مثلا، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مائدة، وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار، وأكل من المائدة، فقالوا: أولوها يفقهها، فقال بعضهم: إن العين نائمة، والقلب يقظان، فالدار الجنة، والداعي: محمد، فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله، ومن عصى محمد فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس). وفي رواية: خرج علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إني رأيت في المنام كأن جبري عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا .... الحديث)]. * في هذا الحديث أن الراوي قد ذكر هذه الحال تارة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتارة بصيغة نطقه؛ فيعدل إلى صيغة نطق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قوله: (كأن جبريل عند رأسي) فإنه يفضي على تقديم جبريل على ميكائيل، وكذلك قدمه الله

عز وجل في قوله: {وجبريل وميكال}. وهذا الإتيان من جبريل في منام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع كونه كان إيتائه إياه صلى الله (128/أ) عليه وسلم دالة في اليقظة. فالذي أراه في ذلك أنه جاءه مناما هو وميكائيل بإيتائه يضرب هذا المثل؛ فإن هذا مثل متصور من اثنين ولو قد جاء يقظة لكانت الرسالة شركة بين جبريل وميكائيل، وقد كان جبريل مخصوصا بالرسالة في اليقظة، فلما كانت حاله منام نزل مع جبريل غيره. * وإنما ضرب الله هذا مثلا لأنه أراد به ذكر الآخرة، فالناس في الدنيا نيام فإذا ماتوا انتبهوا، والمراد أن هذه الدار التي بناها الله لخلقه فنصب فيها مائدة، وأن الداعي إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا أنه لم يذكر في هذا الحديث أن الله خلق نارا، وجعل البذارة محذرة منها؛ لأنه قد تقدم قولنا إن النار إنما خلقت كرامة لأهل الجنة؛ لأنه لولا وجود العذاب ما حلت النعمة ولا انتصر مظلوم فاشتفى قلبه. * أما قول الملائكة: (العين نائمة، والقلب يقظان) فإنه الحق، وفيه دليل على أن غيره - صلى الله عليه وسلم - ينام قلبه على إثر نوم عينه، فامتاز هو بأن قلبه لا ينام إذا نامت عيناه. وأما كونه عنى بالدار الجنة، فإن الله تعالى لما بنى الجنة على بناء لم يكن يستغرق وصفه القول أحب جل جلاله أن تراها عباده، وأن يدعو إليها

أولياءه، لينظروا ما أعد جل جلاله فيها، فأرسل داعيا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل على لسانه {والله يدعو إلى دار السلام} (128/ب)، فمن أجاب هذا الداعي إلى تلك الدار فقد أمده الله بتوفيقه، وناهيك من دار الله عز وجل بانيها، والدالي إليها محمد - صلى الله عليه وسلم -. * وأما قوله: (فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله)؛ لأن محمد - صلى الله عليه وسلم - ليس له إرادة غير ما كان لله، وأيضا فإن الله أمر بطاعة رسوله فمن أطاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطاع الله، وكذلك من عصى رسوله فقد عصاه. * وقوله: (محمد فرق ين الناس) أي يفرق بين الكافر من المسلم والطائع من العاصي؛ فهو فرق بين الناس. - 2524 - الحديث التاسع عشر: [عن جابر، قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب ثم يقول: (أيهم أكثر أخذا للقرآن؟) فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: (أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة) وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصل عليهم)]. * أما تقديم أكثرهم قراءة؛ فلأنه جعله كالإمام للآخر، والحديث: (يؤم

القوم أقرأهم)، وما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تكفين الرجل في الثوب الواحد، يدل على جواز مثل ذلك في مثل تلك الحال من ضيق الأماكن وقلة الأكفان؛ كما كان مقتضى ذلك في تلك الحال، ويكون ما جرى من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك تعويلا على قدرة الله من اتصال النعم ولقاء الحور إلى كل شخص وحده بخلاف ما تقدم من نقل جابر (129/أ) فإنه فعل ما في وسعه من نقل أبيه. * وأما قوله: (أنا شهيد) فالمعنى أنا شهيد فعيل معنى فاعل شاهد. والذي أراه أنه دل بهذا الكلام على أن الشهداء في وقته وبحضرته فوق الشهداء بعد ذلك. فقوله: (أنا شهيد على هؤلاء) أي إنهم قتلوا بين يدي في سبيل الله، في موطن أنا شاهده تكريما لهم وتفضيلا. * وأما ترك الغسل فلوجهين: أحدهما: أن الشهيد إنما استشهد في مواطن يضيف مثلها عن الغسل وشغل الأحياء بذلك عما هو أهم إليهم من ناصعة العدو. الثاني: أن كلومهم تأتي يوم القيامة على هيئتا، فإذا غسل الدم عنها، كان ذلك على نحو إزالة الحلية عن العروس. * وأما الصلاة عليهم فإن الصلاة على الميت مشروعة في الميت، والشهيد

فحاله أرفع من أن يشفع فيه غيره، فهذا يخبرك أن الله رفع منزلة الشهداء أن يحضر من ليس بشهيد، فيقول: جئنا شفعاء فيه؛ فإن لسان حاله يناديه أن الواحد من قد شفع في الأمة منكم ما من ليس بشهيد. - 2525 - الحديث العشرون: [عن جابر، قال: (كان بالمدينة يهودي، وكان يسلفني في تمري إلى الجداد، وكانت لجابر الأرض التي بطريق الرومة، فحبست الفحل عاما، فجاءني اليهودي عند الجداد، ولم أجد منها شيئا، فجعلت أستنظره إلى قابل، فأبى، فأخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لأصحابه: (امشوا، نستنظر لجابر من اليهودي) فجاؤوني في (129/ب) نخلي، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يكلم اليهودي فيقول: أبا القاسم لا أنظره، فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قام فطاف في النخل، ثم جاءه فكلمه؛ فأبى، فقمت فجئت بقليل رطب، فوضعته بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأكل، ثم قال: (أين عريشك يا جابر؟) فأخبرته، قال: (افرش لي فيه) ففرشته فدخل فيه فرقد، ثم استيقظ، فجئته بقبضة أخرى، فأكل منها، ثم قام فكلم اليهودي، فأبى عليه فقام الرطاب والنخل الثانية، ثم قال: (يا جابر جد واقض) فوقف في الحداد، فجددت منها ما قضيته، وفضل لي مثله، فخرجت حتى جئت النبي - صلى الله عليه وسلم - فبشرته، فقال: (أشهد أني رسول الله)].

* قد سبق هذا الحديث قبل ستة أحاديث. * وقوله: (فحبست الفحل عاما واحدا) يعني النخل أي تأخرت عن قبول الآبار، ولم يؤثر فيها التأثير الكامل، فلم يستكمل حملها. * وقوله: (اين عريشك؟)، العريش: مثل الخيمة يعمل يعمل خشبا أو من قصب وحشيش ونحو ذلك يستظل به. * وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أشهد أني رسول الله) يشير إلى كل مسلم أن الله تعالى إذا أوجد له نعمة أو أظهر له كرامة، فإنه ليست باتفاق ولا عن مصادفة؛ بل إن الله عز وجل أظهر له ذلك ليزداد به إيمانه؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كونه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى هذه البركة قال: (أشهد أني رسول الله) فكان هذا مما بقي (130/أ) سنة إلى يوم القيامة للمسلمين؛ أنهم إذا رأوا شيئا من ذلك أيقنوا أنه من الله، يجدد إيمانهم. - 2526 - الحديث الحادي والعشرون: [عن جابر، قال: (كان جذع يقوم إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما وضع المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشار، حتى نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده عليه). وفي رواية: (كان المسجد مسقوفا على جذوع من نخل، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم -

إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر، فكان عليه سمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار، حتى جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده عليه فسكن). وفي رواية: (أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله: ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه، فإن لي غلاما نجارا، قال: (إن شئت)، قال: فعملت له المنبر، فلما كان يوم الجمعة قعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر الذي صنع له، فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت تنشق). وفي رواية: (فصاحت النحلة صياح الصبي، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أخذها فضمها إليه فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت، حتى استقرت، قال: بكت على ما كانت تسمع من الذكر)]. * قد سبق هذا الحديث في مسند ابن عمر، وفي مسند انس، وتكلمنا عليه، وأشير إليه فأقول: إن حنين الجذع الذي سمعه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كونه كان آية صادعة (130/ب) وبينة ظاهرة على نبوته - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه فيه تنبيه لأصحابه على زيادة حبهم له، وحنينهم لفراقه واستيحاشهم لتخلفهم

ساعة واحدة عن صحبته، وما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلب وقت التذكير عن الجذع، كان الجذع موطئا يطلب منه ويعرف به حالة التذكير، فكان ذلك الدولة للجذع، فلما رأى الجذع أن دولته قد تغيرت بانتقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المنبر حن. - 2527 - الحديث الثاني والعشرون: [عن جابر، (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على رجل من الأنصار، ومعه صاحب له، فسلم النبي - صلى الله عليه وسلم - على صاحبه فرد الرجل، فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، وهي ساعة حارة، وهو يحول في حائط له، يعني الماء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن كان عندك ماء بات في شنة، وإلا كرعنا) فقال الرجل: يا رسول الله عندي ماء بارد، فانطلق إلى العريش، فسكب في قدح ماء، ثم حلب عليه من داجن له، ثم شرب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم أعاد فشرب الرجل الذي جاء معه)]. * في هذا الحديث ما يدل على إيثار الماء البارد بقوله: (إن كان عندك ماء بات في شنة، وإلا كرعنا) يعني إن لم يجد البارد شربنا من الحار، وذلك أن الماء البارد أفضل إذا وجد؛ لأنه فيه من صالح البدن أنه يجزئ منه القليل، فالشربة من الماء البارد (131/أ) التي يشربها الرجلان لو قد كانت من غير الماء

البارد لشربها الواحد، وأيضا فإن الماء البارد ينزل على المعدة فيجمعها فيستولي على ما فيها من الطعام فيهضمه، والماء السخن يرخي المعدة فلا تشتمل على ما فيها من الغذاء. * فأما قوله: (إن كان ماء بات في شنة) فإن تبيت الماء في الشنة مع كونه يبرد له ذلك فإنه يصفيه من ريقه. * وقوله: (فإن لم يكن عنده وإلا كرعنا) ولم يقل مصصنا؛ فإن المص يكون للماء البارد الذي كلما مصه قليلا قليلا نزل فعمل عمله؛ فأما الماء الحار فليس كذلك. - 2528 - الحديث الثالث والعشرون: [عن جابر، قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم عيد خالف الطريق)]. * قد سبق هذا في مسند أبي هريرة، وتكلمنا عليه.

- 2529 - الحديث الرابع والعشرون: [عن سعيد بن الحارث، أنه سأل جابرا عن الوضوء مما مست النار؟ فقال: (لا، قد كنا زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نجد مثل ذلك الطعام إلا قليلا، فإذا نحن وجدناه لم يكن لنا مناديل إلا كفنا وسواعدنا وأقدامنا، ثم نصلي ولا نتوضأ)]. * هذا الحديث عليه العمل؛ وأنه لا يتوضأ مما مست النار. * * * أفراد مسلم - 2530 - الحديث الأول: [عن أبي جعفر، عن جابر أنه سأله: متى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الجمعة؟، قال: (كان يصلي، ثم نذهب (131/ب) جمالنا فنزيحها حين تزول الشمس، يعني الناضح)]. * هذا الحديث يدل على التبكير لصلة الجمعة في أول وقتها.

- 2531 - الحديث الثاني: [عن جابر، قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب: احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين؛ ويقرن بين إصبعيه: السبابة والوسطى، ويقول: أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة ضلالة، ثم يقول: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي). وفي رواية: (كانت خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة بحمد الله، ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول على إثر ذلك، وقد علا صوته). وفي رواية: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس: بحمد الله، ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله)]. * في هذا الحديث ما يدل على جواز تهيؤ الرجل للقول الذي يناسب فيه بين قوله وحاله، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خطب علا صوته واحمرت عيناه كأنه منذر جيش، وذلك لأن القول أصل وضعه (132/أ) إرادة إفهام السامع ما

يكون في قلب الناطق، فإذا كان القول مما شأنه الجد لم يناسب ذلك أن يكون في صورته نوع إهمال ولا فتور، كما أنه إذا شرع في نطق بمقتضى التدقيق والتلطيف لم يناسب ذلك أن يكون صورته على حالة غضب ولا دفع صوت فذلك يكون في الحالين زيادة إفهام للمعنيين. * وفيه أن الواعظ والمحدث إذا أتى من صورته وحاله بما يتكلفه ليفهم السامعين؛ لم يكن ذلك رياء. * وقوله: (أنا أولى بكل مؤمن من نفسه) الحديث، وهذا يدل على ما ذكرنا في مسند أبي هريرة، أي إن قضاه في الفيء. * وقوله: (خير الحديث) يعني القول كتاب الله، وخير الهدي: هدي محمد، والهدي: السمت والدال، ويعني بهذا أنه من ذهب في سمته وداله ولبسته ومشيته إلى غير ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الحق. * وقوله: (وشر الأمور محدثاتها) يعني كل ما أحدث بعده في كل شيء إذا كان مخالفا لما شرعه - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك قوله: (كل بدعة ضلالة) إذا كانت مخالفة أيضا، وأصل البدعة من حيث الاشتقاق: الانفراد، فصاحبها ينفرد بها من جهة أنه ابتدأها، ومنه قوله: أبدع بي أي أفردت، فلما لم يرها المسلمون حسنة، كانت ضلالة. * وقوله: (أنا والساعة (132/ب) كهاتين) يعني ليس بيننا شيء إلى الساعة، فأما تزول وتنتهي؛ فإنه يدعو إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -.

- 2532 - الحديث الثالث: [عن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء، فرفعه حتى نظر الناس ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام؟ فقال: (أولئك العصاة، أولئك العصاة). وفي رواية: (فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيها فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر)]. * في هذا الحديث جواز إفطار المسافر بعد أن نوى الصيام، والفطر له أفضل من الصوم؛ والصوم جائز. * وقد سبق ما يدل على ما قلنا في مسند أنس، سبق نحو حديث جابر في مسند ابن عباس. * فأما قوله: (أولئك العصاة) فلأنه إذا أمر أمرا يجب امتثاله، وتارة يأمر بمقاله، وتارة يأمر بفعاله، فلما أفطر كان أمرا بلسان الحال قاصدا بذلك الرخصة؛ ليقوى بالفطر على ما نهض له من الجهاد، فلما حمل أقواما بتطلعهم على أن يرغبوا عن فعله كانوا على غاية الغلط؛ لأنهم إن ظنوا أن

صومهم أفضل من فطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحسبك بهذا خطأ ونقصان فهم، وإن كانوا لم يعلموا أن فطرهم أقوى لهم على الجهاد فإنه سوء فهم أيضا (133/أ)، وكذلك كل من شرع في تعبد يخالف أمر الشرع، فلذلك سموا عصاة من حيث إن فعلهم ذلك؛ تجاوزوا فيه الشرع ولم يلينوا لقبوله. - 2533 - الحديث الرابع: [عن جابر، في حديث أسماء بنت عميس، حين نفست بذي الحليفة: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر رضي الله عنه فأمرها أن تغتسل وتهل)]. * فيه دليل على أن الغسل يخفف من الحدث، ويناسب لبس النظيف من الثياب. - 2534 - الحديث الخامس: [عن محمد بن علي، قال: (دخلنا على جابر بن عبد الله، فسأل عن القوم حتى انتهى إلي، فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين، فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زري الأعلى، ثم نزع زري الأسفل، ثم وضع يده بين ثديي وأنا يومئذ غلام شاب، فقال: مرحبا بك، يا ابن أخ!، سل عما شئت، فسألته، وهو أعمى، وحضر وقت الصلاة فقام في نساجة ملتحفا بها كلما وضعها على

منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها، ورداؤه إلى جنبه على المشجب. فصلى بنا، فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعقد بيده تسعا، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويعمل مثل عمله. فخرجنا معه، حتى أتينا ذا الحليفة، (133/ب) فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف أصنع؟، قال: (اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي). فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء، نظرت إلى مد بصري بين يديه، من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به، فأهل بالتوحيد: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك). وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يزد عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا منه، ولزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلبيته، قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}،

فجعله المقام بينه وبين البيت فكأن أبي يقول: ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يقرأ في الركعتين {قل هو الله أحد} و {قل يا أيها الكافرون}. ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} (أبدأ بما بدأ الله به)، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت (124/أ) فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره وقال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، ثم دعا بين ذلك، وقال مثل هذا ثلاث مرات. ثم نزل إلى المروة، حتى انصبت قدماه في بطن الوادي رمل، حتى إذا صعدتا مشى، حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: (لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة). فقال سراقة بن جعشم فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: (دخلت العمرة في الحج) مرتين، (لا؛ بل لأبد الأبد). وقدم علي رضي الله عنه من اليمن ببدن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست صبيغا، واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: أبي أمرني بهذا، قال: فكان علي رضي الله عنه يقول بالعراق: فذهبت إلى

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرشا على فاطمة؛ للذي صنعت، مستفتيا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكر عليها، فقال: (صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟) قال: قلت: اللهم، إني أهل بما أهل به رسولك، قال: (فإن معي الهدي فلا تحل). قال: فكان جماعة الهدي الذي (134/ب) قدم به علي رضي الله عنه من اليمن؛ والذي أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة، فحل الناس كلهم وقصروا، إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج، وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية. فأجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي، وقال: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وأن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة ابن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل. وربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله،

ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن علكم رزقهن (135/أ) وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، قال باصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: (اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات). ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص. وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس، السكينة السكينة، كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا، حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا. ثم اضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى طلع الفجر، فصلى الفجر، حين تبين له الصبح، بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا. فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس، وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما، فلما دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرت به ظعن يجرين،

فطفق الفضل بنظر إليهن، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على (135/ب) وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده من الشق الآخر على وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر، حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلا، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، حتى الخذق رمى من بطن الوادي. ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بيده، ثم أعطى عليا رضي الله عنه فنحر ما غبر وأشركه في هديه من لحمها وشربا من مرقها، ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتي بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: (انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم) فناولوه دلوا فشرب منه. وفي رواية: (وكانت العرب يدفع بهم أبو سيارة على حمار عري، فلما أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المزدلفة بالمشعر الحرام، لم تشك قريش أنه سيقتصر عليه، ويكون منزله ثم، فأجاز ولم يعرض له، حتى أتى عرفات فنزل). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (نحرت ها هنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت ها هنا، وعرفة كلها موقف، ووقفت (136/أ) ها هنا، وجمع كلها موقف). وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه، ثم مشى على يمينه، فرمل ثلاثا ومشى أربعا).

وفي رواية: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمل الثلاثة الأطواف من الحجر إلى الحجر الأسود). وفي رواية: (رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف)]. * في هذا الحديث دليل على أنه يستحب للرجل إذا دخل عليه قوم أن يتعرفهم، فإن كان ذا بصر فيبصره، ويسأل عن من لم يعرفه ليعرف، وإن كان ضريرا يسأل عنهم؛ ليعطي كل إنسان من التفاته وقربه وحديثه ما يستحقه؛ لأن حال كل إنسان تطالبه بمبلغها من القول القرب والخطاب، ولهذا لما عرف جابر، محمد بن علي احتفل به وأكرمه. * فأما مد يده إليه وحل إزاره فذلك ليبسطه، فإن الإنسان إذا دخل بيت نفسه حل إزاره، فأراد جابر أن يعرفه أنك في مثل منزلك، وإنما وضع يده على صدره ليؤنسه ويبسطه ليسأل عما بدا له من غير احتشام؛ ولأنه أراد أن يمر يده التي جاهد بها في سبيل الله، وصافح بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صدره ليكرمه بذلك. * وقوله: (فقام في نساجة) وهي ضرب من الملاحف المنسوجة، والمشجب: أعواد مركبة يوضع عليها الرحل والثياب، وهذا يدل على أنه يعد رداءه للخروج إلى الناس. * وانظر إلى توفيق الله هؤلاء الجماعة الذين حضروا عند جابر، كيف

حضروا عنده (136/ب) وقت صلاة، ليكون جامعا لهم مايحدثموه وبين صلاته ليقتدوا به؛ لأنه صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وأما قوله: (من صغرها) فإنه يعني أنه إذا تركها على منكبه وأدارها من تحت يده لم يكن طولها بحيث يتمكن من وصولها إلى ظهره وصولا مسترسلا بمنعها من أن تعود. * وقوله: (فعقد بيده تسعا) أي مضت تسع سنين من الهجرة، وهذا لم يسله عنه السائل، ولكنه من حسن فهم المسئول؛ أنه إذا سئل عن شيء أتى به وبأطرافه التي يمكن فيها الخبر، يوسع فيها نطق القول. * وفيه دليل على جواز العقد بالأصابع في الحساب، وظاهر هذا الحديث يدل على أن الحج فرض عليه في السنة التاسعة، وأنذر الناس بالحج في السنة العاشرة، وقد يحتج بهذا من يرى وجوب الحج على التراخي وهو الأشبه. * وفيه أيضا حرص المؤمنين على الائتمام برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتعلم منه مناسك الحج وأركانه وواجباته ومسنونناته نظرا لفعله إذ هو أثبت في القلب من حفظه عن النطق. * وفيه جواز خروج الحامل المقرب إلى الحج؛ لقوله: (فولدت أسماء محمد ابن أبي بكر). * وفيه أن النفساء إذا أرادت الإحرام اغتسلت؛ ليناسب الشطف ما يلبسه من ثياب إحرامها، وتفعل ما يفعله المحرم من التلبية واجتناب ما يجتنبه. * (137/أ) وفيه أن المرأة إذا نفست وهي محرمة، فالاحتياط لها في خيطها أشد من غير المحرمة لقوله: (استثفري بثوب)، وقوله: (فصلي في المسجد) يدل على أنه ابتدأ الصلاة قبل الإحرام.

* وقوله: (أهل بالتوحيد راكبا) الظاهر أن المراد بالتوحيد توحيد الله عز وجل؛ لأنه لو أراد إفراد الحج لقال: الإفراد .. * وفيه أن التلبية إذا ذكر فيها توحيد الله عز وجل نحو قوله: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) ونحو ذلك؛ فإن ذلك جائز لقوله: (وأهل الناس بهذا الذي يهلون) وقد ذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يرد عليهم شيئا منه. * وقوله: (لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة) يعني أن أفردنا الحج. * وقوله: (استلم الركن) أي مسحه بيده. * وقوله: (فرمل ثلاثا) أي أسرع، والرمل من الشعر ما يقارن أجزاؤه. * وقوله: (ثم نفذ إلى مقام إبراهيم) يدل على أن الصلاة هناك بعد الطواف. * وفيه دليل على أنه قد قدم وأخر في قوله: فقرأ: {قل هو الله أحد} و {قل يا أيها الكافرون} فإنه إنما كان يقدم {قل يا أيها الكافرون}، وقرأ هاتين السورتين في الصلاة على معنى قوله: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله} فإن التبرء من الكفر على معنى التبرء من الطاغوت، وسورة الإخلاص على معنى الإيمان بالله، فأما استلامه ثانيا؛ فإن المستحب أن لا يمر بالحجر إلا ويستلمه. * فأما قوله: (أبدأ بما بدأ الله (137/ب) به) فإن الله بدأ بالصفا قبل ذكر المروة، وأرى فيه أنه إذا خرج عن مقام إبراهيم قاصدا إلى الصفا كانت الكعبة عن يمينه ولو قصد المروة أولا فجعل الكعبة عن يساره.

* وقوله: (فرقى عليه حتى رأى البيت) هذا يدل على أن رؤية البيت عبادة. * فأما قوله: (لا إله إلا الله) فقد سبق تفسير الكلمات كلها. * وقوله: (لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة). فقد أبان بهذا أنه انكشف له في ثاني الأمر ما لم يكن ما رآه الأولى، وذكر - صلى الله عليه وسلم - مشعرا بذكره للناس هذه الحال، لئلا يحجم أحد عن فعل الصواب إذا استبان له من ثاني الحال، وقد كان خفى عليه في أولها. * وقوله: (دخلت العمرة في الحج) قد سبق تفسيره في مسند ابن عباس. * وقوله: (وقدم علي رضي الله عنه من اليمن ببدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يعني بهديه الذي ساقه في ذلك العام. * وقوله: (وكانت فاطمة عليها السلام مما حل) يعني أنها نزعت الإحرام من أجل أنها جعلته عمرة، والثياب الصبيغ: المصبوغة، وفي هذا ما يدل على فسخ الحج إلى العمرة، وإنكار علي على فاطمة رضي الله عنهما لما رآها قد فسخت الحج إلى العمرة فأنكر ذلك على مقدار ما وصل إليه. فلما قالت له: إن أبي أمرني بذلك، تعني قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من لم يكن معه هدي فليحل) يعني أنه أمر بأمر عام كنت فيمن دخل فيه، فمضى علي رضي الله عنه محرشا عليها، والتحريش الإغراء، ولا أراه (138/أ) ذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - شكا في خبرها، بل لم يرض أخذها بأمر عام للناس مع قدرتها من قرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الاستثياب، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (صدقت صدقت)

أي أني أمرت بأمر دخلت فيه هي وغيرها. * وقوله: (إني أهل بما أهل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فيه دليل على أنه علق إحرامه على إحرام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمضى له ذلك. * قوله: (أمر بقبة من شعر) فيه جواز دخول المحرم القبة، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمد ما كانت الجاهلية تعتمده من وقوفها في الحرم؛ بل خرج إلى عرفة. * وقوله: (إن دماءكم حرام) قد مضى تفسيره، وأما وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دماء الجاهلية؛ لأنها دما نفوس مشركة لا دية ولا قود فوضعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لئلا يثير شرا بين المسملين. * وقوله: (إن أول دم أضع دم ابن ربيعة) وربيعة هو ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وقد شهد ربيعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة والطائف وثبت معه يوم حنين. أما ابن ربيعة فاختلفوا في اسمه على ثلاثة أقوال: أحدها: إياس، والثاني: تمام، والثالث: آدم، وكان هذا الولد قد استرضع في هذيل، فقتله بنو ليث بن بكر في حرب كانت بينهم، كان يحبو أمام البيوت فرضخوا رأسه (138/ب) فأهدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دمه، وأسقط الربا، وابتدأ بربا العباس وأراد أني إنما أبدأ باستعمال ما أمرت به في أهلي، فأضع دم ابن عمي وربا عمي. * وقوله: (بأمان الله) أي بعهده، وهذا لأن المرأة عند الرجل أمانة، فنفس

تسليمها إليه نفسها مقتض أنه قد أمنها من جوره وظلمه؛ لأنها رحلت من نصارها وحماتها إلى عقوة زوجها، وتوارت عنده بالخدر أو السجوف، يفعل بها ما يشاء، ويسير بها كيف يشاء، فلذلك كانت عنده بأمان الله. * وقوله: (استحللتم فروجهن بكلمة الله) يعني بالكلمة نفس العقد الذي تنشأ من كلمتي إيجاب وقبول من الولي والزوج، فلما أوصى بهن ذكر ما عليهن فقال: (أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه) وذلك أنه لما كانت العادة في العرب أن النساء يأذن للرجال، فأراد لا يدخلوا بيوتكم من تكرهونه ولا ينصرف هذا إلى الزنا؛ فإنه لم يكن ليقنع في جوابه بضرب غير مبرح وهو وإن لم ينصرف إلى الزنا، فهو يعرف قدر عظم الزنا؛ لأنه إذا نهين عن إدخال رجل يكره دخوله؛ فما ظنك بما وراء ذلك. * وقوله: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) على قدر الحال الذي ينفق فيها ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله. * وقوله: (تركت فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به) يدل على أن كتاب الله سبب الهدى؛ فمن تمسك به لم يضل. * (139/أ) ومن كتاب الله قوله: {وما آتاكم الرسول فخذوه}، فالتمسك بكتاب الله يوجب التمسك بكل ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وقوله: (إنكم تسألون عني فماذا تقولون؟) ففهموا من قوله ما يريد بقوله ماذا يقولون؟ يعني أيقولون: إني بلغتكم ما أرسلت به، فأجابوه: إنا نقول: بلغت وأديت، فأشار بيده إلى السماء بذلك على أن ربهم هو الأعلى.

* قوله: (وينكبها إلى الناس) أي يميلها إليهم، يشهد الله عليهم، وقد كان تيقين أن الله قد سمع وشهد، وإنما أراد أن يعلمهم أنه قد استحفظ الله سبحانه تلك الشهادة واستودعه إياها، وإنما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الوصايا في خطبته يوم العيد، مغتنما اجتماع الخلق وحضور الناس، فذكر فيها كل أمر يتعلق بعموم الناس، ليذهب به سامع إلى قومه فينشر ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم - في سائر الآفاق. * وفي الحديث أن وقت الدفع عن عرفات بعد غروب الشمس، وذلك لأنه بغروب الشمس يستكمل اليوم كله في الحج؛ فإذا دفع الناس من عرفات قبل أن يكملوا يومهم؛ كان ذلك قادحا في إيفائهم حق الوقوف فيكونون على نحو من يركع فلم يطمئن، أو يسجد فلم يطمئن، فلذلك ما كان من تمام الوقوف أن لا يدفع الحاج من عرفات إلا بعد غروب الشمس. * وقوله: (وجعل حبل المشاة بين يديه) الحبل: ما استطال من الرمل. * وقوله: (قد شنق القصواء الزمام) يقال: شنق الرجل زمام ناقته إذا ضمه إليه (139/ب) كفا لها عن الإسراع، وأراد بذلك أن يملك رأسها ليكون سيرها على السكينة عند الدفع من عرفات؛ لئلا يخرج الناس من ذلك سراعا، فيدل إسراعهم حين الخروج على نوع قلة خيرة يسرق الوقوف هنالك، فإنه الله سبحانه وتعالى يباهي بهم ملائكته، فإذا رأتهم الملائكة سراعا متفلتين إلى المفارقة لم يكن ذلك مما يحسن أن يؤثر عنهم. * وقوله: (ليصب مورك رحله) مورك الرجل: ما يكون بين يدي الرحل يضع الراكب رجله عليه. وإنما كان يرخي للناقة عند الحبال المتهلية؛ لأنه

إعانة للناقة، وليكون سيرها في الحبل مع الإرجاء على نحو شنقها في الجلد. * وفيه أن يدفع الحاج من المشعر الحرام قبل طلوع الشمس، وذلك لأنه كما يوفي الوقوف بعرفة جملة اليوم؛ فكذلك يوفي المبيت جملة الليل بمزدلفة. * وفيه دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أردف ابن عمه وراءه، وفيه أنه لما خاف عليه من نظره إلى الظعن لوى عنقه، فإذا كان هو ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبلغ الحلم، فصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكهه، وفي هذا رد على من شط من الجهال إلى رؤية النسوان، ويقول للمرأة أنت أختي لا يضرني رؤيتك، ولا الخلوة بك. * فأما إسراعه في وادي محسر، فإذا أراه إلا لضيق ما بين الجبلين لئلا يحمل الناس البطء في السير على شدة الزحام. * فأما رمي الجمرات فإنه مما جعل الله آية، من جهة أن الحجاج يرمون فيه الجمار، ثم لبس (140/أ)، ثم ما يقتضي أن يكون هو المرمي فيها مع كون كل حاج لا بد أن يرمي إحدى وعشرين حصاة كل يوم، وذلك على طول السنين، فلولا أن الله يرفع منه ما يقبله لكانت كل جمرة كالجبل، فإن في أماكن يرجمها بعض الحاج لا الكل، وليست من المناسك، وقد اجتمع عليها ما قد أصارها على نحو الجبل، وهذا من آيات الله عز وجل. * وقوله: (فنحر ثلاثا وستين بدنة) فقد أشار إلى سر هذا العدد سعيد بن المسيب فقال: ذلك على عدد سني عمره. فأما أمره: (من كل بدنة ببضعة أن يطبخ)، فالذي أرى فيه أنه أحب أن يتمثل قوله تعالى: {فكلوا منها} فلم

يترك نسيكة إلا وقد أكل منها جزءا. * قوله: (انزعوا يا بني عبد المطلب) أي استقوا من زمزم ليشر الناس، وأراد بذلك أن يكون الناس في ضيافتهم بماء زمزم، وأن يريحوا الناس من الاستقاء. * وقوله: (لولا أن يغلبكم الناس لنزعت معكم) يريد أن هذا الفعل عبادة وإنما شرب من الماء الذي استقوه ليعلم أن الشارب من ماء استقاه غيره لا ينقصه من ثواب ما لو استقاه. * وفيه دليل على أن عرفة كلها موقف، ومنى كلها منحر، وفي ذلك من الحكمة أن الله سبحانه وتعالى جعل للنحر مكانا غير مكان الوقوف، فإن وقوف الناس بعرفات نزه عن أن يجعل مسفكا للدماء ومجمعا للفروث؛ ولكنهم إذا انصرفوا عن الموقف إلى مكان عين للنحر نحروا به. والحمد لله حق حمده. * * *

§1/1