الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام

القرطبي، شمس الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم رب يسر وأعن يَا ألله الْحَمد لله الَّذِي من علينا بتوحيده وَجَعَلنَا من أفضل عبيده الَّذِي جنبنا الْأَهْوَاء المذلة والآراء المضلة أرانا الْحق إِذْ هدَانَا لبرهانه وَدَلِيله وَأظْهر لنا الْبَاطِل وتفضل علينا بالعدول عَن سَبيله نحمده بمحامده الَّتِي لَا تحصى ونشكره على الْآيَة الَّتِي لم تزل تترى ونسأله الصَّلَاة على نجبه من كَافَّة الورى أنبيائه وَرُسُله أَئِمَّة الْهدى وخصوصا الْمَبْعُوث إِلَى الثقلَيْن الْمفضل على الْعَالمين الْمُؤَيد بِالْآيَاتِ الصادعة والبراهين القاطعة موضح الْحق بواضحات الدَّلَائِل ومرهق الْكفْر وَالْبَاطِل صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله الطيبين وعَلى جَمِيع النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ ورضى الله عَن خلفائه الرَّاشِدين وَعَن صحابته أَجْمَعِينَ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الدّين أما بعد فقد وقفت وفقك الله على كتاب كتب بِهِ بعض المنتحلين لدين الْملَّة النَّصْرَانِيَّة سَمَّاهُ كتاب تثليث الوحدانية بعث بِهِ من طليطلة أَعَادَهَا الله إِلَى مَدِينَة قرطبة حرسها الله متعرضا فِيهِ لدين الْمُسلمين نائلا فِيهِ من عِصَابَة الْحق الْمُوَحِّدين سَائِلًا عَمَّا لَا يعنيه ومتكلما بِمَا لَا يدريه فأمعنت النّظر فِيهِ فَإِذا بالمتكلم يهرف بِمَا لَا يعرف وينطق بِمَا لَا يُحَقّق نَاقض وَلم يشْعر وعمى من حَيْثُ يظنّ أَنه يستبصر {أم تحسب أَن أَكْثَرهم يسمعُونَ أَو يعْقلُونَ إِن هم إِلَّا كالأنعام بل هم أضلّ} يلحن إِذا كتب ويعجم مَتى أعرب ... وَذي خطل فِي القَوْل تحسب أَنه مُصِيب فَمَا يلمم بِهِ فَهُوَ قَائِله ... دلّ بقوله على ضعف عقله وبمكاتبته على سوء محاولته تعاطى دَرَجَة النظار وسود بأباطيله ذَلِك الطومار ليستزل بِهِ الأغبياء

الأغمار وَيحصل بذلك على مآكله شنار {فويل لَهُم مِمَّا كتبت أَيْديهم وويل لَهُم مِمَّا يَكْسِبُونَ} وليته إِذا ادّعى النّظر سلك طَرِيقه وألتزم شُرُوطه فاعترف بالبديهيات وَلم ينظر الضروريات الَّتِي هِيَ أصُول النظريات وَلَكِن حل من عُنُقه ربقة الْعُقُول فَهُوَ فِي كل جَهَالَة يجول وإليها يَدْعُو وَبهَا يَقُول فليته لَو دفن من عواره مَا كَانَ مسطورا وَلَكِن كَانَ ذَلِك عَلَيْهِ فِي الْكتاب مسطورا ... وَإِن لِسَان الْمَرْء مَا لم تكن لَهُ حَصَاة على عوراته لدَلِيل ... فاستخرت الله تَعَالَى فِي جَوَابه على تَخْلِيط مَعَانِيه وتثبيج خطابه بعد أَن أَقُول لَهُ اعْلَم يَا هَذَا إِن الْبُغَاة بأرضنا لَا تستنسر والتمييز عندنَا بَين الْفضة والقصة متيسر وَهَا أَنا إِن شَاءَ الله تَعَالَى أجاوبك على مَا كتبت حرفا حرفا وَأبين فَسَاده الَّذِي لَا يكَاد يخفى على أَنهم لَو فتح عَلَيْهِم بَابا من السَّمَاء {فظلوا فِيهِ يعرجون لقالوا إِنَّمَا سكرت أبصارنا بل نَحن قوم مسحورون} فَكيف لَا وَقد ركبُوا من اسْتِحَالَة الإتحاد والتثليث والحلول مَا يدْرك فَسَاده بضرورة الْعُقُول وَقد قَالُوا فِي الآب والإبن والأقانيم مَا تمجه بفطرته الأولى كل ذِي فهم مُسْتَقِيم وَلَا يَتَّسِع لقبوله قلب ذِي عقل سليم ... وَمن كَانَ اللعين لَهُ لِسَانا فَكل جداله زور ونكر فَكل مقالهم إفْك وزيغ وَنَصّ كِتَابهمْ شرك وَكفر ... وَمن أعظم مَا ظهر عَلَيْهِم من الْفَاسِد فصرفوا لذَلِك عَن التَّوْفِيق والرشاد إنكارهم مَا يدل على نبوة نَبينَا من المعجزات وواضح الدلالات وَقد قاربت الضرورات حَتَّى أَنْكَرُوا مَا جَاءَ فِي كتبهمْ من الْإِعْلَام على نبوته وَإِيجَاب إتباع شَرِيعَته فَلَقَد كانو يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم ويعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم وسأذكر إِن شَاءَ الله تَعَالَى مَا وَقع فِي أَنَاجِيلهمْ من وَصفه وصحيح نَعته وَلما تبين للعقلاء عنادهم سقط لذَلِك إرشادهم وَوَجَب حملهمْ على السَّيْف وجهادهم فقد يفعل الله بِالسَّيْفِ وَاللِّسَان مَا لَا يفعل بالبرهان وَمن كَلَام الْحُكَمَاء يزغ الله بالسلطان مَالا يزغ بِالْقُرْآنِ فَأَعْرض الْعُقَلَاء عَنْهُم

واكتفوا من الرَّد عَلَيْهِم بحكاية مَذْهَبهم ووكلوا النَّاظر فِيهِ لظُهُور تناقضه وَفَسَاد مَعَانِيه وَقد كنت عزمت على الإقتداء بالعقلاء فِي الْإِعْرَاض حَتَّى أَكثر هَذَا الْمُتَكَلّم من التَّعَرُّض والإعتراض فَتعين لذَلِك الْجَواب وَأَنا أسأَل الله التَّوْفِيق للصَّوَاب ومجانبة الْخَطَأ وَمَا يُوجب العتاب أَنه ولى التَّوْفِيق وَهُوَ بإجابة السَّائِلين حقيق فصل لتعلم يَا هَذَا المنتسب لدين الْمَسِيح أَنى أجاوبك إِن شَاءَ الله تَعَالَى بمنطق عَرَبِيّ فصيح أسلك فِيهِ مَسْلَك الأنصاف وأترك طَرِيق التعصب والإعتساف على أَن كلامك لَا يسْتَحق الإصغاء إِلَيْهِ وَلَا الْجَواب عَنهُ لِأَنَّك لَا تحسن السُّؤَال وَلَا تعرف تَرْتِيب الْمقَال بل تَقول مَا لَا تفهم وتكتفي بأنك تَتَكَلَّم وَلكَون كلامك هَذَا كثير الْغَلَط ظَاهر التَّنَاقُض والشطط وَأَنت مَعَ ذَلِك لَا تعرف مَذَاهِب النَّصَارَى الْمُتَقَدِّمين الَّذين كَانُوا بِنَوْع نظر مُتَمَسِّكِينَ وَإِن كَانُوا عَن مَذْهَب الْحق ناكبين حَتَّى أَنهم لَو سمعُوا كثيرا مِمَّا ذكرته لتبرأوا عَنهُ ولأنفوا مِنْهُ إِذْ لَا ينْسب أَكثر ذَلِك إِلَى من تكايس مِنْهُم وَلَا يرْوى بِحَال عَنْهُم على أَنهم فِي أصُول عقائدهم مُخْتَلفُونَ وَفِي ورطة الْجَهْل مرتبكون وسنبين لَك ذَلِك كُله إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَلما تبين ذَلِك مِنْك أعرض الْمُسلمُونَ عَن جوابك ونزهوا أنفسهم عَن خطابك إِذْ الْأَعْرَاض عَن الْجَاهِلين شرعة رب الْعَالمين على لِسَان سيد الْمُرْسلين وَأَيْضًا فَمن لم يعرف شُرُوط النّظر وَلم يسْلك مسالك الْبَحْث والعبر فَالْكَلَام مَعَه ضرب فِي حَدِيد بَارِد وَعمل لَيْسَ لَهُ جدوى وَلَا عايد وَلما أَعرضُوا عَنْك لجهالتك تبجحت بذلك عِنْد عصابتك فَظَنَنْت أَن سكوتنا عَنْك إِنَّمَا هُوَ لرهبة مِنْك حَتَّى لقد أبلغتنا عَنْك نكرا وَقلت فِي كتابك هَذَا فحشا وهجرا فَنحْن وَإِيَّاك كَمَا قَالَ ... سكت عَن السَّفِيه فَظن أَنى عييت عَن الْجَواب وَمَا عييت ... فَعظم هَذَا الْأَمر حِين نمى خَبره إِلَى مَعَ أَنه رغب إِلَى فِي ذَلِك جمَاعَة من الإخوان فَصَارَ ذَلِك على كَأَنَّهُ من فروض الْأَعْيَان فاغتنمتها

فرْصَة وسررت بهَا قصَّة لعلمي أَن النكاية فِي الْعَدو بالبرهان وَاللِّسَان أوقع من نكاية السَّيْف والسنان والرجا من مَالك الدَّاريْنِ الْجمع بَين الْأَمريْنِ واحراز أجر العملين على أَنى لَا أتعرضهم بقزع السباب وَلَا أنزل مَعَهم إِلَّا إعتذار وعتاب وَإِنَّمَا هُوَ إِظْهَار جهلهم وتناقض مَذْهَبهم وَقَوْلهمْ فأذكر كَلَام هَذَا السَّائِل كَمَا بَلغنِي وَأبين من خطئه وتناقضه مَا شَاءَ الله أَن يفهمني فأناقشه فِي لَفظه وَأظْهر سوء نَقله وَحفظه فَتَارَة أسأله وَأُخْرَى أجاوبه ليعلم أَن النَّاقِد بَصِير والباحث خَبِير وليتبين عيه وجهله للكبير وَالصَّغِير ثمَّ من بعد الْفَرَاغ من تتبع كَلَامه أعطف بالمناظرة على أقسته ورهبانه فأحكى مذاهبهم كَمَا دونوها فِي كتبهمْ وعَلى مَا تلقفوها من أسقاقفتهم ثمَّ أسبرها على محك الْعرض وَأبين بعض مافيها من الْفساد والنقض وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل وَقد استخرت الله تَعَالَى فِي أَن أجمل هَذَا الْكتاب على صدر وَأَرْبَعَة أَبْوَاب الْبَاب الأول فِي الْكَلَام على الأقانيم الْبَاب الثَّانِي: فِي الِاتِّحَاد والحلول الْبَاب الثَّالِث فِي الْكَلَام على النبوات وَإِثْبَات نبوة نَبينَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْبَاب الرَّابِع فِي جمل من فروع أحكامهم أبين فِيهَا أَن لَيْسَ لَهُم فِي أحكامهم مُسْتَند إِلَّا مَحْض الْهوى والتحكم واللدد وكل بَاب من هَذِه الْأَبْوَاب يتَضَمَّن فصولا وَأَنا أسأَل الله تَعَالَى أَن يُطلق ألسنتنا بِالْحَقِّ وَالْحكمَة ويخرسها عَن الْبَاطِل والفتنة أَنه ذُو الْفضل وَالنعْمَة وَالْعَفو وَالرَّحْمَة

صدر الكتاب

صدر الْكتاب نذْكر فِي هَذَا الصَّدْر كَلَام هَذَا السَّائِل فِي خطْبَة كِتَابه وَالْجَوَاب عَلَيْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فصل فِي حِكَايَة كَلَام السَّائِل فِي خطْبَة كِتَابه قَالَ كتاب تثليث الوحدانية فِي معرفَة الله ثمَّ قَالَ الْحَمد لله بَالغ القوى الَّتِي فطرنا عَلَيْهَا وأمرنا بِحَمْدِهِ فَنحْن نحمده ونشكره ونعظمه بِمثل تعارفنا فِي الْحَمد وَالشُّكْر والتعظيم لملوكنا وَأهل الرهبة من ذَوي السُّلْطَان منا فرضا لَهُ شاكرين حامدين معظمين غير واقفين على ذَاته وَلَا مدركين لشَيْء مِنْهُ وَإِنَّمَا نقع على أَسمَاء أَفعاله فِي خليقته وتدبيره فِي ربوبيته الْجَواب عَن تَرْجَمته أما قَوْله تثليث الوحدانية فَكَلَام متناقض لفظا وفاسد معنى بَيَان ذَلِك أَن قَوْله تثليث الوحدانية كَلَام مركب من مُضَاف ومضاف إِلَيْهِ وَلَا يفهم الْمُضَاف مَا لم يفهم الْمُضَاف إِلَيْهِ فَأَقُول لفظ الوحدانية مَأْخُوذ من الْوحدَة وَمَعْنَاهَا رَاجع إِلَى نفى التَّعَدُّد وَالْكَثْرَة فَهِيَ إِذن من أَسمَاء السلوب فَإِذا وَصفنَا بهَا مَوْجُودا فقد نَفينَا عَنهُ التَّعَدُّد وَالْكَثْرَة والتثليث مَعْنَاهُ تعدد وَكَثْرَة فَإِذا أضَاف هَذَا الْقَائِل التَّثْلِيث للوحدة فَكَأَنَّهُ قَالَ تَكْثِير مَالا يتكثر وتكثير مَالا يتكثر بَاطِل بِالضَّرُورَةِ فَأول كلمة تكلم بهَا هَذَا السَّائِل متناقضة وباطلة بِالضَّرُورَةِ وَأما قَوْله فِي معرفَة الله فَقَوْل لم يحط بِمَعْنَاهُ وَلَا فهم مُسَمَّاهُ وَإِلَّا فَمَا حد الْمعرفَة وَكم أقسامها وَهل يَصح أَن تكون مكتسبة لنا وَهل يجوز عقلا أَن يكلفنا بهَا الْأَنْبِيَاء وَإِن جَازَ ذَلِك فَمَا طَرِيق تَحْصِيلهَا ثمَّ هول بِهَذَا اللَّفْظ وأوهم أَنه حصل مِنْهَا على حَظّ فَإِن كَانَ دليلك يَا هَذَا على معرفَة الله تَعَالَى مَا ضممته كتابك فابك على مصابك واقرع

أسفا على عقل نابك فَإِن الْوَاقِف على مَعْنَاهُ المقتحم لفحواه علم على الْقطع والقط أَنَّك لم تعرف الله تَعَالَى قطّ لِأَنَّك لم تذكر فِيهِ دَلِيلا صَحِيحا نعم وَلَا قولا فصيحا وَإِن كَانَ لَك دَلِيل آخر على معرفَة الله تَعَالَى لم تذكره هُنَا فَهَذِهِ تَرْجَمَة بِلَا معنى وَاسم يهول بِلَا مُسَمّى كلامك ياهذا كفارع حمص خلى من الْمَعْنى وَلَكِن يجمع ... ثمَّ نظم هَذِه التَّرْجَمَة على مَا أبديناه من التَّنَاقُض أَن يُقَال تَكْثِير مَا لَا يتكثر فِي معرفَة الله وَأي رابط بِهَذَا الْكَلَام وَهل هَذَا إِلَّا مضحكة الْخَاص وَالْعَام وعار لم يصل إِلَيْهِ أحد من عقلاء الْأَنَام ثمَّ بعد ذَلِك شرع هَذَا الْقَائِل فِي الخطابة وصنعة الْكِتَابَة فسحب على سحبان ثوب النسْيَان وأنسى أبان كل مَا أبان وصير فصيح وَائِل أعيا من بَاقِل فَقَالَ الْحَمد لله بَالغ القوى الَّتِي فطرنا عَلَيْهَا فيا للعجب وَيَا لضيعة الدّين وَالْأَدب ... دع المكارم لَا ترحل لبغيتها واقعد فَإنَّك أَنْت الجائع العاري ... أما قَوْله الْحَمد لله فَكَلَام حق ومقال صدق عِنْد من عرف مَعْنَاهُ وَفهم فحواه وَأما عنْدك فَكَلَام سمعته وَمَا وعيته وَكَيف تعيه أَو تطمع فِي أَنَّك تدريه وَأَنت بمعزل عَن اللِّسَان عرى عَن تَحْصِيل شَرَائِط الْبُرْهَان دَلِيل ذَلِك أَن الْحَمد لله يتَوَجَّه لأسئلة وَأَنت لَا تهتدي لفهمها فَكيف لحلها مِنْهَا لفظية وَمِنْهَا معنوية فأولها حَده وَإِلَى مَاذَا يرجع وَمَا الْفرق بَينه وَبَين الشُّكْر وَهل هُوَ فِي هَذَا الْموضع عَام أم لَا وَهل يَصح أَن يُطلق على غير الله وَإِن أطلق فَهَل بِالْحَقِيقَةِ أم بالمجاز وعَلى أَي وَجه يُضَاف إِلَى الله تَعَالَى أَعلَى جِهَة الْملك أَو على جِهَة الإستحقاق أَو غَيرهمَا من أَنْوَاع الْإِضَافَة ولأي شَيْء يوضع فِي أَوَائِل الْكتب وَلَا يَكْتَفِي عَنهُ بِالتَّسْمِيَةِ وَأما قَوْلك بَالغ القوى فَكَلَام مختل صدر عَمَّن لم يحصل تَنْزِيل مَفْهُومه على فَائِدَة لِأَن الْمُتَكَلّم بِهِ عمل بَالغ مَوضِع مبلغ ثمَّ ذهب

بمبلغ إِلَى معنى خَالق وَالْعرب الَّذين تكلم هَذَا السَّائِل بكلامهم وتعاطى مَفْهُوم خطابهم لَا يَتَكَلَّمُونَ بَالغ فِي معنى الْخَالِق لتباين اللَّفْظَيْنِ وإختلاف المفهومين وَمعنى الْخلق الْمَشْهُور عِنْدهم إختراع مَا لم يكن والإبلاغ هُوَ أَيْضا لَهُ كَائِن إِلَى غَايَة مَا فَإِن أنكر هَذَا الْمُتَكَلّم أَن يكون أَرَادَ هَذَا فقد شهد على نَفسه بالغلط واعترف بِأَن كَلَامه من أرذل أرذل السقط ثمَّ أضَاف بَالغ إِلَى القوى والقوى جمع قُوَّة وَهِي الْقُدْرَة والشدة فَإِن كنت تُرِيدُ هَذَا فَأَي فَائِدَة للفظك وَأي لَطِيفَة لِقَوْلِك الَّتِي فطرنا عَلَيْهَا وَفِي الثيران والأباعير وَالْحمير من هُوَ أَشد مِنْك وَأقوى فقد فَضلهَا عَلَيْك حَيْثُ أبلغهَا من الشدَّة أَكثر مِمَّا أبلغك وَلَقَد كَانَ يَنْبَغِي لَك يَا هَذَا أَن تذكر من نعم الله عَلَيْك النِّعْمَة الْخَاصَّة بالإنسان وَهُوَ الْمَعْنى الَّذِي بِهِ تميز عَن أَصْنَاف الْحَيَوَان ثمَّ من عَجِيب أَمر هَذَا السَّائِل وأدل دَلِيل على بلادته وجهله أَن هَذِه الْخطْبَة الَّتِي صدر بهَا كِتَابه على مَا هِيَ عَلَيْهِ من تثبيج النّظم وَعدم الفصاحة إِنَّمَا نقلهَا من رِسَالَة عبد الرَّحْمَن بن عصن ختن شبيب الَّتِي كَانَ أساقفة النَّصَارَى كتبُوا بهَا إِلَى الإِمَام الزَّاهِد أبي مَرْوَان بن ميسرَة ونسبوها لعبد الرَّحْمَن وَكَانُوا قد اجْتَمعُوا على كتَابَتهَا بطليطلة أَعَادَهَا الله فَلَمَّا كتبوها بعثوا بهَا إِلَى القَاضِي أبي مَرْوَان بن ميسرَة فَبعد أَن بذلوا جدهم وأجهدوا جهدهمْ كتبُوا لَهُ رِسَالَة مفتتحها هَذِه الْخطْبَة فِي بطاقة صَغِيرَة عدد أسطارها نَحْو ثَلَاثِينَ لحنوا فِيهَا وصحفوا فِي تِسْعَة وَعشْرين موضعا مِنْهَا وَمَعَ ذَلِك فأخلوا بالْكلَام وَلم يتَحَصَّل لَهُم من سُؤَالهمْ مطلب وَلَا مرام فأجابهم الإِمَام القَاضِي رَحمَه الله وَأحسن فِي الْجَواب وَأظْهر لَهُم جهلهم وتبلدهم فِي ذَلِك الْكتاب فَلَو كَانَ هَذَا السَّائِل عَارِفًا بمصالحه مُمَيّزا بَين محاسنه ومقابحه لاكتفى بإفحام أساقفته الْمُتَقَدّمَة وعثرته الجاهلة المضممة ولكان يستر ظَاهر خطاياهم وركيك كَلَامهم وَلَكِن أَرَادَ الله تَجْدِيد مَا قدم لَهُم من الفضيحة بمقالة صابية صَحِيحَة ثمَّ ليته إِذْ نقل إِلَى كِتَابه كَلَامهم لم يُفَسر الْمَعْنى وَلم يُغير اللَّفْظ بل غَيره تغييرا يدل على عدم الهجاء وَقلة الْحِفْظ فَقَالَ الحمدلله بَالغ القوى وَهِي فِي كِتَابهمْ الْمُتَقَدّم الذّكر الَّذِي نقل مِنْهُ الحمدلله بألغ القوى وَبَين مَفْهُوم كَلَامه

وَكَلَامهم مَا بَين الْقرن والقدم وَمَا بَين فصاحة الْعَرَب ورطانة الْعَجم وَأما قَوْلك وأمرنا بِحَمْدِهِ فَقَوْل لَا تعرف حَقِيقَته وَلَا تسلك طَرِيقَته حَتَّى تعرف إِن كَانَ الله آمرا أم لَا وَإِن كَانَ آمرا فَمَا حَقِيقَة أمره وَإِلَى مَاذَا يرجع وَهل هُوَ قديم أَو حَادث إِلَى أسئلة كَثِيرَة لَا تعرف أَنَّك مَأْمُون من جِهَة الله تَعَالَى حَتَّى تعرفها فأعد للمسائل جَوَابا وللسائل خطابا وَأما قَوْله فَنحْن نحمده ونشكره ونعظمه بِمثل تعارفنا فِي الْحَمد وَالشُّكْر فَكَلَام يَدُور على اللِّسَان وَلم يسْتَقرّ لَك شَيْء مِنْهُ بالجنان وَكَيف يحمد الله من ينتقصه وَكَيف يشكره من يكفره وَهل الْحَمد وَالنُّقْصَان وَالشُّكْر والكفران إِلَّا أَمْرَانِ متناقضان بَيَان ذَلِك أَنكُمْ تَجْعَلُونَ لله مَا تَكْرَهُونَ لأنفسكم وتنتقصون بِهِ أَبنَاء جنسكم هَا أَنْتُم تَكْرَهُونَ لرهبانكم وأقستكم إتخاذ الزَّوْجَة وَالْولد لِئَلَّا يتلطخ برذيلة مجْرى الْبَوْل وَدم الْحيض أَو تتشبه نِسْبَة الزَّوْجَة وَالْولد ثمَّ إِنَّكُم بجهالتكم تَزْعُمُونَ أَن اللاهوت تدرع بناسوت الْمَسِيح وَسكن فِي ظلمَة الرَّحِم مُدَّة ثمَّ خرج على مجْرى الْبَوْل وَدم الْحيض وتعلقت نِسْبَة الْوَلَد وَالزَّوْجَة وَأَنْتُم تَجْعَلُونَ لله مَا تَكْرَهُونَ وتصف أَلْسِنَتكُم الْكَذِب لَا جرم أَن لكم النَّار وأنكم مفرطون وَكَيف يعظمه من يعبد غَيره ويعظم سواهُ وَيُخَالِفهُ فِي أمره ويرتكب مَا عَصَاهُ وَهَا أَنْتُم قد اتخذتم الْمَسِيح إِلَهًا أَو شطر إِلَه وعبدتم من دون الله غَيره وعظمتم سواهُ وخالفتم فِي ذَلِك قَول الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام وعصيتم أَمر خالقه ومرسله ذِي الْجلَال وَالْإِكْرَام وَأَنْتُم تقرأون فِي كتابكُمْ عَن أشعياء عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ عَن الله مبشرا بالمسيح عَلَيْهِ السَّلَام هَذَا غلامي الْمُصْطَفى وحبيبي الَّذِي ارتضت بِهِ نَفسِي وَكَذَلِكَ تقرأون فِي إنجيل ماركش أَن الْمَسِيح قَالَ

للْعَالم الَّذِي سَأَلَهُ عَن أول العهود إِن السَّيِّد إلهك إِلَه وَاحِد وَذكر كلَاما فَقَالَ لَهُ الْعَالم قلت الْحق يَا معلم إِن الله وَحده وَلَا إِلَه غَيره فَالله تَعَالَى يَقُول عَن الْمَسِيح هُوَ غلامي وَأَنْتُم تَقولُونَ هُوَ ولدك والمسيح يَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنْتُم تَقولُونَ أَنْت إِلَه آخر فتعالى الله عَمَّا تَقولُونَ وسبحانه عَمَّا تصفون وَسَيَأْتِي الْكَلَام على هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فها أَنْتُم قد خالفتم أَمر الله وعظمتم سوى الله وَهَذَا إنجيل متاؤوش يشْهد عَلَيْكُم بِخِلَاف مَا إِلَيْهِ صرتم فَإِن فِيهِ أَن الْمَسِيح قَالَ لإبليس حِين رام خديعته قد صَار مَكْتُوبًا أَن تعبد السَّيِّد إلهك وتخدمه وَحده وَأَنْتُم تَعْبدُونَ غير الله وتسجدون لسواه تتحكمون فِي ذَلِك بأهوائكم وتخالفون قَول أنبيائكم {وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله} وَتقول بالعظائم على الله وَأما قَوْلك بِمثل تعارفنا فِي الْحَمد فَإِن كَانَ وضع تعارف مَوضِع معرفَة فقد أخل بِالْمَعْنَى وَخَالف اللُّغَة وَلَو كَانَ يشم رَائِحَة من كَلَام الفصحاء لوبخ نَفسه على القالة هَذِه الشنعاء وَلَو نزلناه على أَنه أَرَادَ مَا تعارفه مخاطبوه فِيمَا بَينهم فِي معنى حمدالله لَكَانَ كَلَامه أَيْضا متناقضا وفاسدا وَعَن الصَّوَاب حايدا فَإِن حمد الله عِنْدهم ذمّ وشكرهم لَهُ كفر كَمَا تقدم وَمن كَانَ حَمده لله ذما

وشكره لَهُ كفرا وَكَانَ مَعْرفَته مثل شكره وحمده فقد حصل من الْعلم على ضِدّه وَخرج من الشُّكْر عَن حَده وَأما قَوْلك والتعظيم لملوكنا وَأهل الرهبة من ذَوي السُّلْطَان منا فَقَوْل لَا يدل على زهدك فِي الدُّنْيَا وإقتدائك بورع الْمَسِيح عِيسَى وبخشية المعمد يحيى عظمت الْمُلُوك لملكهم طَمَعا فِي نيل سحت ملكهم وأعرضت عَن القسيسين ونسكهم وَلَو هديت السَّبِيل لَكَانَ الْأَنْبِيَاء والحواريون أَحَق وَأولى بالثناء والتبجيل لَكِن استهواك الطمع وإستفزك الجشع فآثرت الدُّنْيَا عَن الْآخِرَة فصفقتك اذن خاسرة وتجارتك بائرة وَأما قَوْلك فرضا لَهُ شاكرين حامدين معظمين فَكَلَام غير مُنْتَظم وَلَيْسَ لَهُ مَفْهُوم ملتئم ذهب مَعْنَاهُ لِكَثْرَة لحنه يمجه الْعَاقِل ببديهة ذهنه أتلفت مَعْنَاهُ رضانة الْعَجم فَكَأَنَّهُ تبقى فِي نفس قائلة مكتتم وَأما قَوْلك غير واقفين على ذَاته وَلَا مدركين لشَيْء مِنْهُ فلعمري لقد صدقت وَبِمَا أَنْت عَلَيْهِ من الْجَهْل بمعبودك نطقت فَأَيْنَ هَذَا من قَوْلك كتاب تثليث الوحدانية فِي معرفَة الله فقد جعلت هَذَا الْكتاب بزعمك موصلا إِلَى معرفَة الله ثمَّ لم ترجع النَّفس حَتَّى شهِدت على نَفسك بِالْجَهْلِ بِاللَّه فَظهر تنَاقض إعتقادك على لسَانك وَفِي تقييدك وَكَذَلِكَ يفعل الله بِكُل جَاهِل مهذار وَكَيف يعرف الله من لم يقف على معرفَة ذَاته وَلَا علم شَيْئا من صِفَاته وَهل ذَاته تَعَالَى إِلَّا عبارَة عَن وجوده فَإِن الموجودات الْمَوْجُود من غير مزِيد على مَا يعرف فِي مَوْضِعه بالبرهان فَمن لم يعرف ذَاته تَعَالَى لم يعرف وجوده وَمن لم يعرف وجوده فإمَّا شَاك وَإِمَّا جَاهِل وَأما قَوْله وَإِنَّمَا نقع على أَسمَاء أَفعاله فِي خليقته وتدبيره فِي ربوبيته فَكَلَام لم يُورِدهُ فصيحا وَلَا فهمه صَحِيحا دَلِيل أَنه لم يردهُ فصيحا أَنه أَرَادَ بقوله نقع نَعْرِف وَإِلَّا لم يستقم كَلَامه فَكَأَنَّهُ قَالَ وَإِنَّمَا نَعْرِف أَسمَاء أَفعاله وَأَيْنَ نَعْرِف من نقع وَأي جَامع بَينهمَا عِنْد من عقل وَسمع فَإِن مَفْهُوم وَقع وَحَقِيقَته سقط الشَّيْء من أَعلَى إِلَى أَسْفَل وَلَيْسَ لهَذَا الْمَعْنى فِي كَلَامه مدْخل وَأما أَنه لم يفهمهُ صَحِيحا فَيدل عَلَيْهِ أَنه لَا يُجيب إِذا سُئِلَ عَنهُ فأصخ يَا هَذَا

سَمعك واستعن ملاك جمعك فَإِنِّي أَسأَلك وإياهم عَن حد الإسم وَحَقِيقَته وَهل هُوَ الْمُسَمّى أَو غَيره فَإِن كَانَ غَيره فَمَا حد الإسم وَمَا حد الْمُسَمّى وَمَا حد التَّسْمِيَة ثمَّ هَل يَنْقَسِم الإسم بِالْإِضَافَة إِلَى الْمُسَمّى أم لَا يَنْقَسِم فَإِن انقسم فعلى كم قسم وَإِنَّمَا أوردت عَلَيْهِ هَذِه الأسئلة كَيْلا لَهُ بضَاعَة وليكون ذَلِك أبلغ فِي دَفعه وأقطع لنزاعه ثمَّ إِنَّه أضَاف أَسمَاء إِلَى أَفعَال الله وَلَا يشك عَاقل فاهم فِي أَن أَفعَال الله تَعَالَى إِنَّمَا يُرَاد بهَا مخلوقاته ومخلوقاته وخليقته وَاحِد فِي الْمَعْنى فَكَأَنَّهُ قَالَ على مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهر كَلَامه وَإِنَّمَا نقع على أَسمَاء مخلوقاته فِي مخلوقاته فأبدل لفظ مخلوقاته بأفعاله وَهَذَا كَلَام قَلِيل العائدة بل عديم الْفَائِدَة ثمَّ أَسمَاء أَفعاله إِنَّمَا هِيَ عبارَة عَن الْأَلْفَاظ الدَّالَّة على أَفعاله وأفعاله كَمَا قُلْنَا مخلوقاته كَلَفْظِ السَّمَاء وَالْأَرْض وَغير ذَلِك فَمن عرف الْأَلْفَاظ الدَّالَّة على هَذِه الْمَخْلُوقَات أَي شَيْء يحصل لَهُ بِسَبَبِهَا من معرفَة الله تَعَالَى وَأي دلَالَة وَأي نِسْبَة بَين معرفَة اللَّفْظ الَّذِي يدل على السَّمَاء فِي التخاطب مثلا وَبَين معرفَة الله تَعَالَى وَهل قَوْله هَذَا إِلَّا هذيان من القَوْل وارتباك فِي ورطة الْجَهْل وأا قَوْله وتدبيره فِي ربوبيته فَالظَّاهِر من لفظ التَّدْبِير السَّابِق مِنْهُ إِلَى الْفَهم أَنه عبارَة عَن التفكر النَّفْسِيّ وَالتَّقْدِير الذهْنِي والباري سُبْحَانَهُ متعال عَن التَّدْبِير الَّذِي هُوَ التفكر وَالتَّقْدِير فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر إِلَّا فِي حق من جهل شَيْئا فَأَرَادَ أَن يسْتَعْمل فكرة فِي تَحْصِيل الْعلم بِهِ وَالْجهل على الله محَال فالتدبير بِمَعْنى الْفِكر عَلَيْهِ محَال فَإِن أَرَادَ السَّائِل بِكَلَامِهِ غير هَذَا فَلَا بُد من بَيَانه وإيضاح برهانه وَأما الربوبية فَلفظ مُشْتَقّ من لفظ الرب والرب فِي مُسْتَعْمل كَلَام الْعَرَب لَهُ مَعْنيانِ مستعملان أَحدهمَا السَّيِّد وَالثَّانِي الْمَالِك فَإِن أَرَادَ بِهِ الْمَعْنى الأول الَّذِي يرجع إِلَى السؤدد والشرف فَهُوَ خطأ من حَيْثُ أَن سؤدده وَاجِب لَهُ فَلَا يحْتَاج فِي تَحْصِيله إِلَى سَبَب من تَدْبِير وَلَا مُقْتَضى تفكير وَمُقْتَضى كَلَامه وَمَفْهُومه أَنه دبر فِي ربوبيته وأوجدها عَن تَدْبيره لنَفسِهِ وَهَذَا جهل بواح وَكفر صراح وَإِن أَرَادَ بِهِ الْمَعْنى الثَّانِي الَّذِي يرجع مَعْنَاهُ إِلَى الْملك فَلَا يَسْتَقِيم أَيْضا على ظَاهر كَلَامه فَإِنَّهُ يكون معنى كَلَامه أَنه دبر فِي ملكه وأوجده

عَن التَّدْبِير الَّذِي هُوَ روية وتفكير ويتعالى عَن ذَلِك الْخَالِق الْقَدِير المنزه عَن خواطر النَّفس وهواجس الضَّمِير ثمَّ لما فرغ هَذَا السَّائِل من خطبَته الغراء البديعة الْإِنْشَاء الَّتِي من وقف عَلَيْهَا علم أَنه عَن المعارف مَصْرُوف وَأَنه لَا يفهم الْمعَانِي وَلَا يحسن كِتَابَة الْحُرُوف شرع فِي طَريقَة الْجِدَال وَكَيْفِيَّة الإستدلال فَكَأَنَّهُ فِي نظم مقعولاته الطوسى وَفِي آدَاب جدله البروى ولعمر الله لَو كَانَ هَذَا السَّائِل عَاقِلا لستر عواره وَلم يبد غَارة وَلكنه جهل فَقَالَ وَحَيْثُ وَجب أَن يسكن جال وَلَقَد كَانَ يَنْبَغِي لهَذَا السَّائِل أَلا يتَكَلَّم فِي شَيْء من عُلُوم الإعتقاد حَتَّى يحسن شُرُوط النّظر وَيحكم مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الْموَاد والفكر وَلما بَادر إِلَى الْكَلَام فِي ذَلِك من غير تَحْصِيل شَيْء مِمَّا هُنَالك تثبج عَلَيْهِ كَلَامه وصعب عَلَيْهِ مرامه فَرُبمَا كَانَ الْمَعْنى الَّذِي يَقْصِدهُ قَرِيبا فيبعده أَو مجتمعا فيبدده وسيتبين ذَلِك فِي كَلَامه وَلما كَانَ ذَلِك رَأَيْت أَنى إِن تتبعت كَلَامه كَمَا تتبعت خطبَته خرج الْأَمر الإعتدال وَأدّى ذَلِك إِلَى الكسل والملال وضياع الزَّمن فِي ضروب الهذيان هُوَ غَايَة الخسران فَرَأَيْت أَن أعرض عَن آحَاد كَلِمَاته وأناقشه فِي مَعَانِيهَا ومفهوماتها ثمَّ إِنِّي رُبمَا لَا أَتكَلّم مَعَه حَتَّى أحكى مذْهبه وَأبين لَهُ مَا أَرَادَهُ بِكَلَام حسن وجيز ليَكُون ذَلِك أبلغ فِي الْفَهم وَأمكن فِي التَّمْيِيز وَإِلَى الله عز وَجل أَرغب وَعَلِيهِ أتوكل فِي أَن يشْرَح صدورنا وييسر علينا أمورنا ويستعملنا فِيمَا يقربنا مِنْهُ وينفعنا عِنْده أَنه ولى ذَلِك الْقَادِر عَلَيْهِ تمّ الصَّدْر والآن نشرع فِي الْأَبْوَاب

في بيان مذاهبهم في الأقانيم وإبطال قولهم فيها

الْبَاب الأول فِي بَيَان مذاهبهم فِي الأقانيم وَإِبْطَال قَوْلهم فِيهَا الأقانيم أَسمَاء وأفعال أقانيم الْقُدْرَة وَالْعلم والحياة تَعْلِيل التَّثْلِيث دَلِيل التَّثْلِيث فِي بَيَان اخْتلَافهمْ فِي الأقانيم

الفصل الأول

الْفَصْل الأول الأقانيم أَسمَاء أَفعَال فِي حِكَايَة كَلَام السَّائِل وَالْجَوَاب عَنهُ قَالَ السَّائِل الْآن وَجب على أَن أَسأَلك فِي أَمر التَّثْلِيث عَن خلق الله لجَمِيع مَا خلق إِن كَانَ خلقهمْ بقدرة وَعلم وَإِرَادَة أم خلقهمْ بِغَيْر هَذَا فَإِذا اضطرتك الْمَسْأَلَة إِلَى القَوْل بهَا فإنى أَسأَلك إِن كَانَت أَسمَاء لذاته أَو أَسمَاء لأفعاله فَإِن قلت هِيَ أَسمَاء لذاته فقد نقضت وجعلتها أَسمَاء للذات وَوَقعت فِيمَا أنْكرت من الْجِسْم وَإِن قلت من أَسمَاء أَفعاله الَّتِي مِنْهَا سمى قَادر عَالم مُرِيد فَهُوَ التَّثْلِيث الَّذِي أمرنَا بِهِ الْجَواب عَنهُ سَأَلت يَا هَذَا الْمِقْدَام بعد إعجام واستبهام هَل خلق الله تَعَالَى الْخلق بقدرة وَعلم وَإِرَادَة أم بغيرهم وَهَذَا السُّؤَال كَانَ يَنْبَغِي لَك أَلا تسْأَل عَنهُ حَتَّى تفرغ من معرفَة الْمَرَاتِب الَّتِي قبله وَذَلِكَ أَنَّك لَا تصل إِلَى مَا سَأَلت عَنهُ حَتَّى تعرف معنى الْخلق وَهل الْعَالم مَخْلُوق وَإِن كَانَ مخلوقا فَهَل يحْتَاج إِلَى خَالق أم لَا فَإِذا بلغت إِلَى هُنَا وَقطعت هَذِه المفاوز الَّتِي لَا تقطع بالمنى وَلَا يتَخَلَّص مِنْهَا بالهويني وَلَا يَكْتَفِي فِي تَحْصِيل الْعلم بذلك بالتقليد بل بِالنّظرِ الشَّديد والبرهان العتيد حِينَئِذٍ كَانَ يَنْبَغِي أَن تسْأَل عَمَّا سَأَلت عَنهُ لكنك يجهلك بطريقة النّظر قدمت وأخرت {وَفعلت فعلتك الَّتِي فعلت} وَلَو كَانَت مِمَّن لَهُ فِي النّظر نصيب لضَرَبْت فِيهِ بِسَهْم مُصِيب ولاقتديت بمعلمكم الأزعم وأسقفكم الْأَعْظَم أغشتين فها هُوَ يَقُول فِي مصحف الْعَالم

الْكَائِن فِي أول ورقة مِنْهُ يَنْبَغِي أَن يَجْعَل الْكَلَام فِي النظريات على منَازِل ودرجات ليَكُون من اجْتمع مَعنا فِي الدرجَة الأولى تكلمنا مَعَه فِي الدرجَة الثَّانِيَة وَمن اجْتمع مَعنا فِي الدرجَة الثَّانِيَة تكلمنا مَعَه فِي الدرجَة الثَّالِثَة ثمَّ نمضى كَذَلِك إِلَى أقْصَى نهايات الْكَلَام فَإِنَّمَا يكون فَسَاد الْكَلَام وتناقضه وإشتباهه من قبل النَّقْص فِي معرفَة هَذَا الدرج لأَنا مَتى ناظرنا فِي الدرجَة الثَّانِيَة من لم يجْتَمع مَعنا فِي الأولى لم يبلغ الْكَلَام غَايَة وَلم يقف على نِهَايَة وعَلى منواله نسج حَفْص بن الْبر فِي أَقْوَاله وَلَقَد كَانَ لَك فيهمَا أُسْوَة لَو كنت أَهلا للقدوة فبينك وَبَين من سؤالك هَذَا ثَلَاثَة أدراج حارت فِيهَا عقول كثير من النظار وفنيت أزمان ونفدت أَعمار فكلامك يَا هَذَا فَاسد هجين بِشَهَادَة قسيسكم أغشتين وَأما قَوْلك فَإِذا اضطرتك الْمَسْأَلَة إِلَى القَوْل بهَا فَقَوْل غير صَحِيح وَالْجهل على قَائِله يلوح وَكَيف تضطر الْمَسْأَلَة مَعَ نظر سقيم أخذت مقدماته بالتحكم وَالتَّسْلِيم وَإِنَّمَا كَانَ يلْزم ذَلِك لَو نزلت فِي

كلامك على شَرط السبر والتقسيم ونهجت مَنْهَج النّظر القويم والا فَبِمَ تنكر على الدهرى حَيْثُ يَقُول لَا أسلم أَن الْعَالم مَخْلُوق وَبِمَ تنكر على الفلسفي حَيْثُ يَقُول أسلم أَنه مَخْلُوق لَكِن لَا أسلم أَنه مُحْتَاج إِلَى خَالق مخترعه بعد الْعَدَم وَبِمَ تنكر على الطبيعي حَيْثُ يَقُول لَا يحْتَاج عَالم الطبائع إِلَى خَالق ذِي قدرَة وَعلم وَإِرَادَة وحياة ثمَّ لأي شَيْء تحكمت وَقلت إِنَّهَا ثَلَاثَة فلعلها أَكثر أَو أقل وَلَا بُد لَك من معرفَة إبِْطَال مَذَاهِب هَؤُلَاءِ بالبرهان وَحِينَئِذٍ تحصل على مرتبَة الإيقان وَهَذَا لَيْسَ بغشك فاضطجع على نمشك ... خلى الطَّرِيق لمن يبْنى الْمنَار بِهِ واقعد ببرزة حَيْثُ اضطرك الْقدر ... وَأما قَوْلك فَإِنِّي أَسأَلك إِن كَانَت أَسمَاء لذاته أَو أَسمَاء لأفعاله فَإِن قلت هِيَ أَسمَاء لذاته هِيَ أَسمَاء لذاته فقد نقضت وجعلتها أَسمَاء للذات وَوَقعت فِيمَا أنْكرت من الْجِسْم فسؤال لَا يسْتَحق أَن يسمع وَلَا لصَاحبه فِي الْعقل مطمع قسمت وسبرت وَبقيت عَلَيْك أَقسَام وَمَا شَعرت إِذْ لقَائِل أَن يَقُول لَيست هَذِه الْأَسْمَاء من أَسمَاء الذَّات وَلَا من أَسمَاء الْأَفْعَال بل هِيَ قسم آخر وَهُوَ أَسمَاء الصِّفَات والتقسيم مَتى لم يكن دائرا بَين النفى وَالْإِثْبَات فَهُوَ معرض للنقوض والآفات ثمَّ أطرف من العنقاء شرعة فِي أول كَلَامه فِي المسميات ثمَّ أَخذه فِي الْكَلَام فِي الْأَسْمَاء وَلم يفرق بَين الإسم والمسمى فَهُوَ جَاهِل أعمى ثمَّ انْظُر بله هَذَا السَّائِل وَعدم حسه فَلَقَد خرج بجهله عَن أَبنَاء جنسه كَيفَ قَالَ فَإِن قلت هِيَ أَسمَاء لذاته فقد نقضت وجعلتها أسما للذات وَأي فرق بَين قَوْله فِي الْمُقدم وَبَين قَوْله فِي التَّالِي وَهل هَذَا إِلَّا بِمَثَابَة من يَقُول إِن قلت هَذَا الْيَوْم نَهَارا فقد نقضت وَجَعَلته نَهَارا فَمَا أعرفك يَا هَذَا بنتيجة الشرطى الْمُتَّصِل وحدوده وبحد النقيض وشروطه فَلَو استرزقت الله عقلا لَكَانَ الأحرى بك من الْكَلَام فِي المعتقدات وَالْأولَى ثمَّ أعجب من ذَلِك كُله أَنَّك لَزِمت من قَالَ إِن الْعلم وَالْقُدْرَة والإرادة أَسمَاء للذات القَوْل بالتجسيم وَهَذَا نتيجة الْجَهْل الصميم والفهم الْمُسْتَقيم وَهَذَا من أَيْن يلْزم

أَمن نقيض التَّالِي أَو عين الْمُقدم فوالذي خص الأذكياء بالعقول لقد أربيت فِي جهلك على كل جهول وأتيت بِمَا لَيْسَ بِمَفْهُوم وَلَا مَعْقُول وَأما قَوْلك وَإِن قلت من أَسمَاء أَفعاله الَّتِي مِنْهَا سمى قَادر عَالم مُرِيد فَهُوَ التَّثْلِيث الَّذِي أمرنَا بالْقَوْل بِهِ فَيقْضى أَن الأقانيم من أَسمَاء الْأَفْعَال فَهَذَا قَول لَا يَقُول بِهِ المجانين وَلَا الْأَطْفَال فَإِن معنى تَسْمِيَة الله تَعَالَى بأسماء الْأَفْعَال إِنَّمَا مَعْنَاهَا عِنْد الْعُقَلَاء أَن يخلق الله فعلا يُسمى ذَلِك الْفِعْل باسم فيشتق لله تَعَالَى من ذَلِك الْفِعْل إسم مِثَال ذَلِك خَالق ورازق يقالان على الله تَعَالَى بِاعْتِبَار خلق الْخلق ورزق الرزق فَإِن أردْت هَذَا الْمَعْنى كَانَ ذَلِك محالا على الصِّفَات العلى فَإِن صِفَاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيست بمخلوقة على مَا يعرف فِي مَوْضِعه وَأَيْضًا فَلَو جَازَ أَن يُسمى بِعلم يخلقه عَالما وبإرادة يخلقها مرِيدا وبقدرة يخلقها قَادِرًا جَازَ أَن يُسمى بحركة يخلقها متحركا وبصوت يخلقه مصوتا وَذَلِكَ مجْرى إِلَى جهالات لَا يَقُول بهَا عَاقل فَإِن أَرَادَ هَذَا السَّائِل بأسماء الْأَفْعَال أَمر آخر فَهُوَ إِنَّمَا اصْطلحَ مَعَ نَفسه فَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَن يُفَسر مَا يَقُول إِذْ لم يتَكَلَّم بِمَا اصْطلحَ عَلَيْهِ أَرْبَاب الْعُقُول وَأما قَوْلك فَهُوَ التَّثْلِيث الَّذِي أمرنَا بالْقَوْل بِهِ فَقَوْل فِيهِ كذبت وعَلى الله وَرُسُله افتريت فَإِن الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام لم تَأمر بإعتقاد التَّثْلِيث لأحد من الْأَنَام بل قَالَت الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام مَا يعرفهُ الْخَاص وَالْعَام {فآمنوا بِاللَّه وَرُسُله وَلَا تَقولُوا ثَلَاثَة} وَلَقَد حصل للعقلاء بالتواتر وَعَلمُوا بالوراثة أَن الله تَعَالَى قَالَ {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة} ثمَّ قَوْلك هَذَا تُرِيدُ بِهِ أَنكُمْ أمرْتُم بإعتقاد آلِهَة ثَلَاثَة وَإِنَّكُمْ قيل لكم اعتقدوا فِي الله تَعَالَى أَنه آلِهَة ثَلَاثَة إِلَه وَاحِد وَقُولُوا بِهِ وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك عِنْد رهبانكم الْمُتَقَدِّمين وأساقفتكم الماضين هَذَا أغشتين يَقُول بعد أَن تكلم فِي الأقانيم مَا تثبت أَنَّهَا صِفَات على مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامه ذَلِك أَنه قَالَ وَهَذَا قَوْلنَا فِي الأقانيم الثَّلَاثَة الَّتِي لَا يُمكن جَحدهَا مِنْهُ وَلَا وَصفه بغَيْرهَا وَهَذَا تَصْرِيح

مِنْهُ بِأَنَّهَا صِفَات ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك فَهَذَا قَوْلنَا فِي التَّثْلِيث الَّذِي وَصفه الْإِنْجِيل وأمرنا بِالْإِيمَان بِهِ وَسَيَأْتِي نَص كَلَامه وَلم يقل أمرنَا بِأَن نعتقد أَن الله وَاحِد ثَلَاثَة فَإِن الْوَاحِد لَا يكون ثَلَاثَة وَالثَّلَاثَة لَا تكون وَاحِدًا كَمَا قد تبين فَسَاده بل مَفْهُوم قَوْله أَن الْإِنْجِيل وصف أَن الله تَعَالَى مَوْصُوف بِهَذِهِ الصِّفَات وأمرنا بالتصديق بذلك وَلَو أنكتم عَن أَلْسِنَتكُم أَمر التَّثْلِيث واعتقدتم أَن الله تَعَالَى وَاحِد مَوْصُوف بِصِفَات الْكَمَال ونعوت الْجلَال لوفقتم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة للصَّوَاب ولحصلتم مِنْهَا على الْحق بِلَا ارتياب وَلَكِن من حرم التَّوْفِيق استدبر الطَّرِيق وَنكل عَن التَّحْقِيق على أَن مَا ذكرته فِي أَمر التَّثْلِيث لَا يَسْتَقِيم على رَأْي الْمُتَقَدِّمين من أحباركم هَذَا صَاحب كتاب الْمسَائِل السَّبع وَالْخمسين يَقُول فِيهَا لَا نقُول إِن التَّثْلِيث ممتزج فِي أقنوم وَاحِد كَقَوْل شباليش وَلَا إلهية متحدة أَو متبعضة الذَّات كفرية آريش بل أَن أقنوم الآب غير أقنوم الإبن وأقنوم الإبن غير الرّوح لَكِن التَّثْلِيث الْمُقَدّس ذَات وَاحِدَة فَإِذا لم تكن ممتزجة وَكَانَ كل أقنوم مِنْهَا غير الآخر والأقنوم مَعْنَاهُ عنْدكُمْ الشَّيْء المستغنى بِذَاتِهِ عَن أصل جوهره فِي إِقَامَة خَاصَّة جوهريته فَكيف يَتَّسِع عقل لِأَن يَقُول إِن هَذِه الثَّلَاثَة المتغايرة الَّتِي هِيَ على مَا ذكر وَاحِد وَهل قَائِله إِلَّا معتوه أَو معاند

الفصل الثاني

الْفَصْل الثَّانِي أقانيم الْقُدْرَة وَالْعلم والحياة فِي حِكَايَة كَلَامه أَيْضا قَالَ فَإِن قلت لم لَا تَقولُونَ بِسم الْعَالم الْقَادِر المريد إِذا قُلْتُمْ بإسم الآب والإبن وَالروح الْقُدس فيتبين آب وَابْن وروح الْقُدس ثَالِثا اعْلَم أَن الْمَسِيح لما بعث الحواريين إِلَى جَمِيع الْأَجْنَاس قَالَ لَهُم من آمن مِنْهُم فعمدوه على اسْم الآب والإبن وَالروح الْقُدس وَإِنَّمَا خاطبنا بِمثل تعاقلنا فَجعل هَذِه الْأَسْمَاء كاختلاف قضايا تِلْكَ الْأَفْعَال ثمَّ وَاسِط ثمَّ أخر فَأول القضايا خلق الله الْجَمِيع بيد سَمَّاهَا أَبَا وأضافها إِلَى الْقُدْرَة وأضاف قَضِيَّة وعظ الْمَسِيح للنَّاس إِلَى الْعلم وَسَماهُ ابْنا لِأَن الْعلم لَا يُوقع عَلَيْهِ حَتَّى يتَوَلَّد كلَاما وأضاف قَضِيَّة فنَاء جَمِيع الدُّنْيَا ومكافأة أَهلهَا بأعمالهم إِلَى الْإِرَادَة وسماها روح الْقُدس الَّذِي هُوَ قَادر عَالم مُرِيد اسْما للْوَاحِد الَّذِي لَا يتكثر وَالْجَوَاب عَن قَوْله اعْلَم يَا هَذَا إِنَّك لم تحسن السُّؤَال وَلَا حصلت مِنْهُ على صَوَاب مقَال بل حصل مِنْهُ فِي عُنُقك غل وَفِي رجليك عقال قلبت السُّؤَال وَلم تشعر وجهلت من حَيْثُ ظَنَنْت أَنَّك تستبصر اردت أَن تَقول فِي الإعتراض الَّذِي وجهته على نَفسك لم لَا تكتفون باسم الْقَادِر الْعَالم المريد وَلَا تَقولُونَ باسم الآب والإبن وروح الْقُدس فَقدمت وأخرت وباللفظ وَالْمعْنَى أخللت

ثمَّ أنتجت النتيجة قبل ذكر الْمُقدمَات فَصَارَ لذَلِك كلامك من أرك الترهات فَقلت فِيهَا فيتبين آب وَابْن وروح الْقُدس ثَالِثا وَهَذَا كَلَام مختل نَاقص مشوب بِالْفَسَادِ غير خَالص وَإِنَّمَا كَانَ صَوَابه أَن يَقُول فيتبين أَنه آب وَابْن ثمَّ قلت ثَالِثا بِالنّصب بخطك ضَبطه مشعرا بأنك أعربته بل بالإتفاق كتبته وَلم تشعر بأنك قلبته وَأما قَوْلك إِن الْمَسِيح لما بعث الحواريين إِلَى جَمِيع الْأَجْنَاس فكلاما نقلته مُدعيًا أَنَّك رويته وَنحن يجب علينا أَن نتوقف فِي أخباركم وَلَا نقطع بتصديقكم وَلَا بأكذابكم بل نقُول مَا أمرنَا بِهِ الرَّسُول وبلغنا على أَلْسِنَة النقلَة الْعُدُول آمنا بِاللَّه وَرُسُله فَإِن صَدقْتُمْ لم نكذبكم وَإِن كَذبْتُمْ لم نصدقكم وَمَعَ تَسْلِيم ذك جدلا فَلَا بُد أَن نباحثكم فِيمَا نقلتم ونتفقه فِيمَا حكيتم فَنَقُول ظَاهر قَوْلك هَذَا يفهم مِنْهُ أَن رِسَالَة عِيسَى كَانَت عَامَّة لجَمِيع الْأَجْنَاس وَلَيْسَ الْأَمر على مَا زعمتم وَسَيَأْتِي الْكَلَام على هَذَا فِي بَاب النبوات وَكَذَا الْكَلَام على المعمودية وَمَا يلْزم عَلَيْهَا يأتى فِي بَاب الْكَلَام على أحكامهم إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأما استدلالاته على اعْتِقَاد وجوب الآب والإبن وَالروح الْقُدس وَإِطْلَاق القَوْل بذلك بِمَا قَالَه عِيسَى للحواريين فَلَا حجَّة لَك فِيهِ إِذْ لَيْسَ بِنَصّ قَاطع بل هُوَ مِمَّا تَقولُونَ أَنْتُم فِيهِ متشابه فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يكون مُرَاده بِهِ عمدوهم على تَركهم هَذَا القَوْل كَمَا يَقُول الْقَائِل كل على اسْم الله وامش على اسْم الله أَي على بركَة اسْم الله وَلم يعين الآب والإبن من هما وَلَا مَا الْمَعْنى المُرَاد بهما فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْأَبِ هُنَا الْملك الَّذِي نفخ فِي مَرْيَم أمه الرّوح إِذْ نفخه سَبَب علوق أمه وحبلها بِهِ وَأَرَادَ بالإبن نَفسه إِذْ خلقه الله تَعَالَى من نفخة الْملك فالنفخة لَهُ بِمَثَابَة النُّطْفَة فِي حق غَيره

ثمَّ لَا يبعد أَيْضا فِي التَّأْوِيل إِن صَحَّ عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه كَانَ يُطلق على الله لفظ الْأَب أَن يكون مُرَاده بِهِ أَنه ذُو حفظ لَهُ وَذُو رَحْمَة وحنان عَلَيْهِ وعَلى عباده الصَّالِحين فَهُوَ لَهُم بِمَنْزِلَة الْأَب الشفيق الرَّحِيم وهم لَهُ فِي الْقيام بحقوقه وعبادته بِمَنْزِلَة الْوَلَد الْبَار وَيحْتَمل أَن يكون تجوز بِإِطْلَاق هَذَا اللَّفْظ على الله تَعَالَى لِأَنَّهُ معلمه وهاديه ومرشده كَمَا يُقَال الْمعلم أَبُو المتعلم وَمن هَذَا قَوْله تَعَالَى فِي كتَابنَا {مِلَّة أبيكم إِبْرَاهِيم هُوَ سَمَّاكُم الْمُسلمين من قبل} على أحد تأويلاته وَمن هذَيْن التَّأْويلَيْنِ يَصح حل مَا وَقع فِي أَنَاجِيلهمْ من هَذَا اللَّفْظ بل هَذَانِ التأويلان ظاهران وسائعان فهيا وَيشْهد لهذين التَّأْويلَيْنِ قَول عِيسَى للحواريين على مَا جَاءَ فِي سُورَة الْوَصِيَّة حَيْثُ قَالَ لَهُم إِذا صليتم فَقولُوا يَا أَبَانَا السماوي تقدس إسمك وَقرب ملكك ثمَّ قَالَ بعد كَلَام ووصايا فَإِذا كُنْتُم أَنْتُم على شرتكم تعرفُون إِعْطَاء الْخيرَات أَوْلَادكُم فَكيف أبوكم السماوي وَكَذَلِكَ وَقع فِي إنجيل يوحنا يحيى أَن عِيسَى قَالَ للْيَهُود أَنا عَالم أَن من نسل إِبْرَاهِيم وَلَكِن تُرِيدُونَ قَتْلَى لأنكم

لَا تعلق بكم وصيتي فأعلمكم بِمَا رَأَيْت عِنْد الآب وَأَنْتُم إِنَّمَا تَعْمَلُونَ مَا رَأَيْتُمْ من أبيكم فَأَجَابُوهُ وَقَالُوا إِنَّمَا أَبونَا إِبْرَاهِيم فَقَالَ لَهُم إِن كُنْتُم بنى إِبْرَاهِيم فاقفوا أَثَره وَلَا تريدوا قَتْلَى على أَنى رجل وذنبي إِلَيْكُم الْحق الَّذِي سَمِعت عَن الله وَلم يفعل إِبْرَاهِيم غير هَذَا إِنَّكُم تقفون آثَار أبيكم فَقَالُوا بِهِ لسنا أَوْلَاد زنا وَإِنَّمَا نَحن بَنو الله فَقَالَ لَهُم لَو كَانَ الله أَبَاكُم لحفظتموني لأنني مِنْهُ ثمَّ نقُول لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام وَإِن كَانَ يُطلق هَذِه الْأَسْمَاء فَإِنَّمَا كَانَ يطلقهَا متمثلا بهَا وَهَكَذَا أَكثر كَلَامه الَّذِي يحكون فِي إنجيلهم ثمَّ قد نهى عَن إِطْلَاقهَا فِي الْإِنْجِيل الحواريين قَالَ فِي إنجيل لوقا للحواريين مَا تَقولُونَ أَنْتُم فَأَجَابَهُ سمعون بيطر وَقَالَ لَهُ أَنْت الْمَسِيح ابْن الله فنهاهم وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُول إِذا كَانَ يخرج الْجُنُون عَن المجانين فَكَانَت تخرج وَهِي تَقول أَنْت ابْن الله فَكَانَ ينتهرهم ويمنعهم من هَذَا القَوْل

فَهَذَا يدل دلَالَة بَيِّنَة على أَن الْمَسِيح كَانَ يُطلق لفظ الآب على الله تَعَالَى بِالْمَعْنَى الَّذِي يُطلق على إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَنه أَب وَذَلِكَ بِمَعْنى الْمعلم الشفيق وَكَذَلِكَ جَاءَ اللَّفْظ فِي كتَابنَا {مِلَّة أبيكم إِبْرَاهِيم} وَبِذَلِك الْمَعْنى تَقول الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي إِبْرَاهِيم وَلَيْسَ على حَقِيقَة الْأُبُوَّة وَمَعَ ذَلِك ف {مَا كَانَ إِبْرَاهِيم يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفا مُسلما وَمَا كَانَ من الْمُشْركين} وَكَذَلِكَ فِي الْإِنْجِيل فِي غير مَا مَوضِع قَالَ لكم أبوكم وَقلت لأبي وَيلْزم على مساق هَذَا أَلا يخص الْمَسِيح باسم الإبن وَلَا الله تَعَالَى باسم الْأَب وَمَا بالنا نطول الأنفاس مَعَ هَؤُلَاءِ الْجُهَّال فَإِنَّهُ إِذا احْتمل هَذِه التأويلات كَانَ من المتشابهات وَلَا يَنْبَغِي أَن يصير إِلَيْهِ فِي الإحتجاجات وخصوصا فِي الإعتقادات ثمَّ نقُول لَا يَخْلُو الْمُسْتَدلّ بذلك أَو مَا يُقَارِبه على الْمَعْنى الْمُتَقَدّم أما أَن يُرِيد بِهِ حَقِيقَة الْأَب والإبن أَو لَا يُرِيد ذَلِك فَإِن أَرَادَ الْحَقِيقَة كَانَ محالا وباطلا فَإِن حَقِيقَة الْأَب عِنْد الْعُقَلَاء حَيَوَان ولد من نُطْفَة حَيَوَان هُوَ من نَوعه وبهذه النِّسْبَة وَالصّفة تفهم حَقِيقَة الإبن وَهَذَانِ الوصفان محالان على الْقُدْرَة وَالْعلم فَإِن الْعلم لَيْسَ بحيوان مَوْلُود من نُطْفَة حَيَوَان وَلَا الْقُدْرَة حَيَوَان يخرج مِنْهَا نُطْفَة يتَوَلَّد مِنْهَا حَيَوَان وَهَذَا مَعْلُوم الْبطلَان بِالضَّرُورَةِ

وَإِن أَرَادَ بذلك الْمجَاز فَلَا يَصح لَهُ حمله على الْمجَاز حَتَّى يجْتَمع الْمجَاز والحقيقة فِي أَمر مَا فَإنَّك إِذا قلت زيد أَسد إِنَّمَا تجوزت بِلَفْظ الْأسد وأطلقته على زيد لأجل الشجَاعَة الجامعة بَين الْأسد وَزيد وَلَوْلَا ذَلِك لما صَحَّ الْمجَاز فَإِذن لَا بُد لهَذَا المتجوز من جَامع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فَمَا الْجَامِع الَّذِي لأَجله تجوز هَذَا المحتج فَإِن قَالَ الْأَمر الْجَامِع أَن الْقُدْرَة أصل الْعلم وَقد قَالَ ذَلِك فِي دَاخل كِتَابه منعنَا ذَلِك وَلم نَسْأَلهُ وَقُلْنَا الْمَفْهُوم من الْقُدْرَة والمعقول مِنْهَا عِنْد الْعُقَلَاء صفة بهَا يُوجد مَا لم يكن مَوْجُودا والمعقول من الْعلم أَنه صفة كاشفة نَفسهَا ومعلومها يصدر عَنْهَا الْأَحْكَام والإتقان وهما فِي حق الله تَعَالَى أزليان عندنَا وَعِنْدهم وَإِذا كَانَا كَذَلِك فَلَا يتَقَدَّم أَحدهمَا على الآخر فِي الْوُجُود وَإِذا لم يَصح ذَلِك فَلَا يكون أَحدهمَا أصلا للْآخر فَإِن أَرَادَ هَذَا الْقَائِل التَّقَدُّم فِي الذِّهْن فالعلم هُوَ الْمُتَقَدّم فِي الذِّهْن لِأَنَّهُ لَا يَصح فعل اخْتِيَاري من غير عَالم فَإِن الْعلم شَرط الإيجاد وَالشّرط مُتَقَدم فِي الذِّهْن على فَعلم ويتحقق هَذَا الْمَعْنى على الْقطع عِنْد من عرف الْفرق بَين الْعلم الْمَشْرُوط بِالضَّرُورَةِ وَكَذَلِكَ نقُول علم زيد فَقدر وَلَا نقُول قدر الفعلى والإنفعالي وَلَو عكستم مَا ذكرْتُمْ فسميتم الْعلم أَبَا وَالْقُدْرَة ابْنا لَكَانَ أَحَق بذلك وَأولى ثمَّ نقُول لأي شَيْء صرتم إِلَى الْجَامِع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز هُوَ الَّذِي ذكرْتُمْ وَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَن هُنَالك وَجها آخر لم تطلعوا عَلَيْهِ ثمَّ تحكمتم بِتَعْيِين هَذَا الْوَجْه الَّذِي ذكرْتُمْ ثمَّ نقُول أَنْتُم قاطعون بِتَعْيِين هَذَا الْوَجْه الَّذِي أبديتم أَو غير قاطعين فَإِن زَعَمُوا أَنهم قاطعون فَمَا مُسْتَند قطعهم فَلَا بُد من إبدائه وَلَا شكّ فِي أَنهم يَجدونَ فِي هَذَا الْمَعْنى نصا قَاطعا فَإِن زَعَمُوا أَنهم لَيْسُوا بقاطعين فقد اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُم شاكون فِي إعتقادهم وَقد كفونا مُؤنَة الْكَلَام مَعَهم فَإِنَّهُم أسندوا إعتقاداتهم إِلَى الشَّك وَكفى بذلك زورا وإفكا ثمَّ يلْزمهُم على تَسْلِيم مَا ذَكرُوهُ من الْجَامِع الَّذِي أبدعون أَن يكون الْبَارِي تَعَالَى وتنزه وتقدس أَبَا لكل الْمَخْلُوقَات إِذْ هُوَ أصل كل المحدثات أَي موجدها ومخترعها وَأما قَوْلك فَجعل هَذِه الْأَسْمَاء ثَلَاثًا فيفهم مِنْهُ أَن هَذِه الثَّلَاثَة لأقانيم الَّذِي تقدم ذكرهَا مجعولة وَأَن الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي جعلهَا

وَإِن كَانَت بِجعْل الله فَهِيَ بخلقه وَمَا كَانَ بخلقه فَهُوَ مُحدث فيلزمك على ظَاهر قَوْلك أَن هَذِه الأقانيم محدثة باختراعه تَعَالَى وَأَنْتُم تَقولُونَ أَنَّهَا أزليات قديمَة وَأما قَوْلك الَّتِي هِيَ أَسمَاء أَفعاله فقد أبطلناه فِيمَا تقدم حَيْثُ بَينا حَقِيقَة أَسمَاء الْأَفْعَال وَمن وقف على ذَلِك تبين بُطْلَانه هُنَالك وَأما قَوْلك مُخْتَلفَة الْأَسْمَاء كاختلاف قضايا تِلْكَ الْأَفْعَال ثمَّ وَاسِط ثمَّ أخر فَكَلَام لَا يروقك منظره وَلَا يُعِيد فَائِدَة مخبره يشْهد على قَائِله بالجنون ويضحك من عدم فَائِدَته وارتباطه العاقلون أَرَادَ هَذَا الْجَاهِل أَن يتَكَلَّم فخرس وَكَذَلِكَ يفعل الله بِكُل مُبْطل إِذا نكس وَإِنَّمَا أَرَادَ هَذَا الْمُبْطل وَلم تطاوعه الْعبارَة لما لم يحصل أَن هَذِه الأقانيم الثَّلَاثَة إِنَّمَا سميت أَبَا وإبنا وروح الْقُدس بِاعْتِبَار قضايا ثَلَاث وَذَلِكَ أَن الْقُدْرَة إِنَّمَا سميت أَبَا بِاعْتِبَار أَنَّهَا أصل الموجودات إِذْ بهَا وجدت وَإِنَّمَا سمى الْعلم ابْنا بِاعْتِبَار أَنه اتَّحد بالإبن الَّذِي هُوَ الْمَسِيح وَصدر عَنهُ وَإِنَّمَا سميت الْإِرَادَة روح الْقُدس بِاعْتِبَار مُكَافَأَة الْخلق فِي الدَّار الْآخِرَة بالنعيم فَإِن زعمت أَنَّك لم ترد هَذَا فكلامك غير مَعْقُول وقولك لَيْسَ بمقبول وَهَذَا الَّذِي أبديته فِي هَذَا الْكَلَام لم يقل بِهِ أحد فِيمَا علمت من عقلاء نَصَارَى الْأَنَام وَكفى بِقَوْلِك عارا مُبين مُخَالفَته لأسقفكم أغشتين فها هُوَ يَقُول فِي مصحف الْعَالم الْكَائِن إِنَّمَا سمى الْعلم ابْنا بإضافته إِلَى الْقُدْرَة إِذْ الْقُدْرَة أَصله وكما صَار التعارف الأعجمي أَن تسمى الْقُدْرَة الَّتِي هِيَ الأَصْل والدا كَذَلِك صَار التعارف فِي ذَلِك اللِّسَان أَن يُسمى الْعلم الْمَنْسُوب إِلَيْهَا ابْنا فَقَوله هَذَا مُخَالف لِقَوْلِك ورأيه غير مُوَافق لرأيك على أَنه غلط فِي قَوْله أَن الْقُدْرَة أصل الْعلم ويتبين غلطه عِنْد من وقف على مَا قَدمته قبل لكنه وَإِن كَانَ قد غلط فَالْأَمْر عَلَيْهِ أقرب وَالْخلاف مَعَه أَهْون لِأَنَّهُ رَجَعَ الْخلاف مَعَه إِلَى إِطْلَاق لفظ وَلَيْسَ وَرَاء ذَلِك كثير حَظّ وَأما قَوْلك لِأَن الْعلم لَا يُوقع عَلَيْهِ حَتَّى يتَوَلَّد كلَاما فَكَلَام حطيط يُنبئ عَن جهل وتخليط فَإِن الْعلم لَا يتَوَلَّد كلَاما إِذْ لَو جَازَ ذَلِك لانقلبت حَقِيقَة الْعلم وَلَو جَازَ انقلاب حَقِيقَة وَاحِدَة لجَاز انقلاب كل حَقِيقَة فيقلب الْقَدِيم حَادِثا والحادث قَدِيما والجسم عرضا

والسواد بَيَاضًا إِلَى غير ذَلِك من أَنْوَاع إنقلاب الْحَقَائِق ثمَّ قَوْلك فَاسد وباطل بِالضَّرُورَةِ فَإنَّا نعلم أمورا من غير كَلَام موصل إِلَى ذَلِك فقولنا بِوُجُود أَنْفُسنَا وبإلهنا ولذاتنا ومحسوساتنا بديهيات ثمَّ قد صرحت بِلَفْظ التولد وَهُوَ بَاطِل من أَصله فَإِن المتولدات ممكنات وكل مُمكن مَقْدُور بقدرة الله تَعَالَى فَكل المولدات مقدورة بقدرة الله تَعَالَى وَإِنَّمَا ثَبت أَنَّهَا حدثت بقدرة الله تَعَالَى فَلَا يُقَال أَنَّهَا متولدات أَقُول هَذَا وَالْكَلَام شجون وَالْعلم فنون على أَنِّي أعرف أَنَّك لَا تفهم مَا أَقُول وَإِنَّمَا أخاطب أهل الْفَهم والعقول وَأما قَوْلك الَّذِي هُوَ قَادر عَالم مُرِيد اسْما للْوَاحِد الَّذِي لَا يتكثر فَقَوْل يدل على تخبطك وَسُوء تناولك نقضت بِهِ مَا تقدم من قَوْلك حَيْثُ جعلت الأقانيم أَسمَاء أَفعَال بزعمك ثمَّ قد صرحت هَا هُنَا بِأَنَّهَا أَسمَاء للْوَاحِد الَّذِي لَا يتكثر وَلَو حكى مثل هَذَا الْكَلَام عَن المستغرقين النوام لقيل هَذَا أضغاث أَحْلَام وَبعد هَذَا فلتعلم أَنِّي تجاوزت عَنْك فِي هَذَا الْفَصْل وَلم أؤاخذك بِكُل مَا فِيهِ من خطل القَوْل خشيَة طول الْكَلَام وتبدد الْمطلب وَبعد المرام وَأول ذَلِك أَنَّك لحنت وصحفت فِي ثَمَانِيَة مَوَاضِع تتبين للناشئين بل المراضع

الفصل الثالث

الْفَصْل الثَّالِث تَعْلِيل التَّثْلِيث فِي حِكَايَة كَلَامه أَيْضا ثمَّ قَالَ فَإِن قلت بالتثليث لِأَنَّهَا أَسمَاء أَفعَال الله فأسماء أَفعاله أَكثر من ثَلَاثَة فَقولُوا بهَا كقولكم بالتثليث لِأَن عَزِيز وقوى وغلوب وَسميع وقاهر وبصير وغفور وراضي وساخط ومعاقب وَغَيرهَا من أَسمَاء أَفعاله فَقولُوا بهَا أجمع كقولكم بالتثليث قلت لَك هَذِه الَّتِي ذركناها هِيَ أصُول جَمِيع التَّسْمِيَة وَمِنْهَا تنبثق وفيهَا تندعم فعزير وَقَوي وغلوب وقاهر وَمَا أشبههَا أَصْلهَا الْقُدْرَة وَمِنْهَا تنبثق وَفِيمَا تندغم وغفور وَرَحِيم وراضي وساخط ومعاقب أَصْلهَا الْإِرَادَة مِنْهَا تنبثق وفيهَا تندغم فَإِن قلت فقديم وَحي لَيست منبثقة مِنْهَا وَلَا مندغمة فِيهَا فَقولُوا بالتخميس قلت لَك إِن قديم وَحي أَسمَاء ذَات لَا أَسمَاء أَفعَال وكل اسْم للذات إِنَّمَا يُؤَدِّي معنى وَاحِدًا لنفي ضِدّه فقديم لنفي مُحدث وحى لنفي ميت وَرب لنفى مربوب وإله لنفى مألوه فَكل اسْم من هَذِه الْقُدْرَة وَالْعلم والإرادة الَّتِي هِيَ أَسمَاء أَفعَال ثَلَاثَة لذات وَاحِدَة لَا يتكثر وكما أَنا قد فهمنا أَن نفس الْإِنْسَان لَا يقوم لَهَا فعل إِلَّا عَن ثَلَاثَة إِن نقص مِنْهَا وَاحِد لم يتم لَهُ فعل وَإِن زَاد فِيهَا رَابِع لم يتَّفق كَذَلِك فهمنا عَن خالقنا أَن تَدْبيره بِنَا عَن ثَلَاثَة وَذَلِكَ أَن الْإِنْسَان لَا يقوم لَهُ فعل دون الثَّلَاثَة وَذَلِكَ الْقُدْرَة وَالْعلم والإرادة وَلَا رَابِع مِنْهَا فَإِن عجزت مِنْهَا وَاحِدَة لم يتم لَهُ بالإثنين فعل لِأَنَّهُ إِن علم وَأَرَادَ وَلم يقدر فقد عجز وَإِن قدر وَعلم وَلم يُرِيد فَلَا يتم لَهُ شَيْء إِلَّا بالإرادة وَإِن قدر وَلم يعلم لم يتم لَهُ فعل بِالْجَهْلِ فَقرب لنا الْكتاب معرفَة الْخَالِق بخلقه لَهُم بِمثل تعارفنا فِي أَنْفُسنَا أَن الْقُدْرَة وَالْعلم والإرادة خَواص قَائِمَة هِيَ المتممة للْفِعْل منا وَإِنَّهَا لذات وَاحِدَة وَكَذَلِكَ التَّثْلِيث فِي الله وَاحِد الْجَواب عَن مَا ذكر اعْلَم يَا هَذَا أَنَّك اعترضت على نَفسك بِمَا يدل على كلال ذهنك وَعدم حدسك لِأَنَّك أخللت بالسؤال وتحكمت فِي

الإنفصال أما إخلالك بالسؤال فَأول ذَلِك أَنَّك لحنت فِي هَذَا الْفَصْل فِي ثَمَانِيَة عشر موضعا وَذَلِكَ بَين عِنْد من تَأمل مكتوبك وثانية أَنه كَانَ يَنْبَغِي لَك أَن تقدم قبل هَذَا السُّؤَال النّظر فِي حد هَذِه الأقانيم وحقيقتها ثمَّ فِي الدَّلِيل على وجودهَا فَإِن النّظر فِي كَون الشَّيْء وَاحِدًا أَو كثيرا إِنَّمَا يُصَار إِلَيْهِ بعد معرفَة حَقِيقَته وَمَعْرِفَة وجوده فَإِذا فرغت من ذَلِك نظرت فِيهَا هَل وجودهَا زَائِد على الذَّات أعنى ذَات الْفَاعِل أم هُوَ عين الذَّات فَإِذا عرفت هَذِه المطالب كلهَا حِينَئِذٍ كَانَ يمكنك أَن تنظر هَل هِيَ وَاحِدَة أم كَثِيرَة أَو هَل ترجع إِلَى شَيْء أَو يرجع إِلَيْهَا شَيْء لَا بُد لكل نَاظر ينظر فِيهَا نظرت أَنْت فِيهِ أَن تعرف قبله مَا ذكرته بالبراهين القاطعة وَإِلَّا فَكيف تَتَكَلَّم فِي فرع لم يثبت عنْدك أَصله وَلَو كنت فِي نظرك من المتفطنين لنظرت على الطَّرِيقَة الَّتِي علمهَا لكم أغشتين وَأما تحكم فِي الإنفصال فَإِنَّمَا يتَبَيَّن إِذا حكيت كلامك وفهمت مرادك وَذَلِكَ أَنَّك وجهت على نَفسك كَانَ قَائِلا قَالَ لَك لم جعلت الأقانيم ثَلَاثَة وَأَسْمَاء الله تَعَالَى أَكثر من ذَلِك قانفصلت عَن ذَلِك وَقلت أَسمَاء اللة تَعَالَى وَإِن كَانَت كَثِيرَة فَإِنَّمَا ترجع إِلَى هَذِه الثَّلَاثَة فقاهر وَقَوي وغلوب وَمَا أشبههَا رَاجع إِلَى الْقُدْرَة وغفور وَرَحِيم وَمَا أشبههما رَاجع إِلَى الْإِرَادَة هَذَا مُقْتَضى كلامك بعد التّكْرَار والإكثار وَهَذَا كُله مِنْك تحكم بِمَا لم يقم لَك عَلَيْهِ دَلِيل وَلَا يشْهد لَهُ من كلامك نظر وَلَا تَعْلِيل وَإِلَّا فَمَا الَّذِي يدلك على أَن أَسمَاء مُخْتَلفَة المفهومات والحقائق رَاجِعَة إِلَى معنى وَاحِد وَإِن جَازَ أَن ترد الْأَسْمَاء الْمُخْتَلفَة المفهومات إِلَى معنى وَاحِد بالتحكم جَازَ أَن تقضى بعكس ذَلِك وَهُوَ أَن ترد الْأَسْمَاء المترادفة على معنى وَاحِد إِلَى معَان مُخْتَلفَة وَذَلِكَ لَا يَقُوله الغبي الْجَاهِل بله الْكيس الْفَاضِل تَقول على جِهَة السُّؤَال وَبِه يظْهر تحكمك فِي الإنفصال بِمَ تنكر على من يزْعم أَن جَمِيع صِفَات الْكَمَال مثل الْقُدْرَة وَالْعلم والإرادة والسمع وَالْبَصَر وَالْكَلَام والحياة والقدم والبقاء وَغير ذَلِك من صِفَات الْكَمَال والإستغناء هِيَ أقانيم الموجودات وأصولها فَإِن الممكنات إِنَّمَا يتبدل عدمهَا بوجودها بإيجاد موجد متصف بِصِفَات الْكَمَال ومنزه عَن صِفَات النَّقْص والإفتقار وَإِن اتّصف بِصِفَات النَّقْص والإفتقار كَانَ مُحْتَاجا إِلَى مزيل النَّقْص

عَنهُ وَمن كَانَ مُحْتَاجا كَانَ مُمكنا وكل مُمكن فلابد أَن يسْتَند وُجُوبه إِلَى سَبَب وَاجِب الْوُجُود فَحصل من هَذَا أَن صِفَات الْكَمَال والإستغناء كلهَا لَا يَصح إِيجَاد مَوْجُود مُحدث إِلَّا مِمَّن اتّصف بمجموعها وَأَن من لم يَتَّصِف بهَا فَلَا يَصح مِنْهُ إِيجَاد مَوْجُود فَإِذن هِيَ أصُول الموجودات الممكنة فَإِذن هِيَ أقانيم على قَوْلك وَسَيَأْتِي مزِيد كَلَام فِي الأقانيم ثمَّ نقُول إِن قضيت بِرُجُوع هَذِه الْأَسْمَاء بَعْضهَا إِلَى بعض مَعَ تبَاين مفهوماتها وَاخْتِلَاف مَعَانِيهَا فَلم لَا تقضى بِرُجُوع الْإِرَادَة إِلَى الْعلم وبرجوع الْعلم إِلَى التجرد عَن الْمَادَّة كَمَا زعمت الفلاسفة وَلم لَا تقضى بِرُجُوع الْقُدْرَة إِلَى الْوُجُود كَمَا قد ذهب إِلَيْهِ طوائف من النَّصَارَى الْمُتَقَدِّمين فقد كَانَ طوائف مِنْهُم لَا يعدون الْقُدْرَة أقنوما وَكَانُوا يردونها إِلَى الْوُجُود وَكَانُوا يردون الْإِرَادَة للحياة فالأقانيم عِنْدهم الْوُجُود وَالْعلم والحياة وَسَيَأْتِي حِكَايَة مَذْهَبهم إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَهَذَا كُله يدل على أَنكُمْ فِي عقائدكم متحكمون لَا ترجعون فِيهَا إِلَى أصل عَلَيْهِ تعولون وَأما سؤالك الثَّانِي الَّذِي وجهت على نَفسك فوارد عَلَيْك ولازم لَك وَلم تنفصل عَنهُ على أَنَّك أخللت بِهِ فَإِن الَّذِي يعْتَرض بِهِ عَلَيْك أَكثر من قديم وَحي اذ قد يرد عَلَيْك الْوُجُود فان اصل الاقانيم ة السّمع وَالْبَصَر فَإِن لَا يَصح رُجُوعهَا بِحَال إِلَى الْعلم فَإِن الْعلم لَا يَنُوب عَن الْإِدْرَاك فَأَنا بِالضَّرُورَةِ نعلم الْفرق بَين الْعلم بالصوت وَسَمَاع الصَّوْت وَبَين الْعلم بالمرئى ورؤية المرئى مِثَال ذَلِك أَنا نعلم مَعْلُوما على غَايَة مَا يُمكن من الْعلم ثمَّ إِذا رَأَيْنَاهُ حصل لنا بِالضَّرُورَةِ مزِيد وضوح ومزيد بَيِّنَة على الْعلم بِهِ وَكَذَلِكَ فِي المسموع فَذَلِك الْمَزِيد وَتلك الْمَزِيد أما أَن نقُول أَن الله تبَارك وَتَعَالَى مدرك لَهَا أَو لَيْسَ مدْركا لَهَا فَإِن لم يُدْرِكهَا فقد فَاتَهُ بعض المزايا وَلم يحصل لَهُ ذَلِك الوضوح فَيكون من يُدْرِكهَا وحصلت لَهُ أكمل مِمَّن لم تحصل لَهُ فَيُؤَدِّي إِلَى أَن يكون الْمَخْلُوق أكمل من الْخَالِق والمصنوع أشرف وَأتم من الصَّانِع وَذَلِكَ محَال وَإِن كَانَ مدْركا لَهَا فبذلك الْإِدْرَاك يُسمى بَصيرًا سمعيا وَهُوَ زَائِد على الْعلم فَإِن الْعلم لَا يغنى عَنهُ كَمَا تقدم ولسنا تشْتَرط فِيهَا بنية مَخْصُوصَة وَلَا جارحة وَلَا

اتِّصَال أشعة بل تنزه الله تَعَالَى عَن كل مَا يُوهم النَّقْص الْقُصُور فِي حَقه وَهَذَا كَمَا أَنا لم نشترط فِي كَونه تَعَالَى عَالما قلبا وَلَا دماغا وَلَا فِي كَونه قَادِرًا بنية وَلَا آلَة بل السّمع وَالْبَصَر ادراكان أعنى صفتين متعلقتين بالمسموعات والمبصرات على مَا يعرف فِي مَوْضِعه فَإِذا تبين أَنَّهُمَا لَا يرجعان إِلَى الْعلم فعدوهما أقنومين زائدين على مَا ذكرْتُمْ وَهَذَا مَا لَا محيص عَنهُ وَلَا جَوَاب عَلَيْهِ وَأما قَوْلك وكل اسْم للذات إِنَّمَا يُؤَدِّي معنى وَاحِدًا لنفى ضِدّه فَكَلَام من لم يحنكه الإعتبار وَلَا عرف اصْطِلَاح النظار وَذَلِكَ أَنَّك أطلقت صِفَات الذَّات وصفات الْأَفْعَال على مَا لم يُطلقهُ عَلَيْهِ النظار وَلَا أستعمله فِي نظره أحد من عُلَمَاء الْأَمْصَار وَنحن نذْكر اصْطِلَاح النظار المعتبرين فِي صفة النّظر والأفكار فِي إِطْلَاق هَذِه الْأَسْمَاء ليتبين للْوَاقِف على هَذَا الْكتاب أَنَّك لم تعرف شَيْئا من اصطلاحاتهم ولاحطت على شَيْء من مفهوماتهم قَالُوا إِنَّمَا تطلق الْأَسْمَاء بِحَسب المسميات والمسميات إِمَّا ذَات أَو أَمر زَائِد على الذَّات فَالَّذِي يدل من الْأَسْمَاء على الذَّات هُوَ الَّذِي يُقَال عَلَيْهِ اسْم ذَات مِثَال قَوْلنَا إِنْسَان وَملك وَمن أَسْمَائِهِ تبَارك وتعال الله وَالْحق وَأما الَّذِي يدل على أَمر زَائِد على الذَّات فَذَلِك الْأَمر إِمَّا أَن يكون نفى شَيْء عَن الذَّات أَو ثُبُوت شَيْء للذات فَالَّذِي يدل على نفي شَيْء عَن الذَّات هُوَ الَّذِي يُقَال عَلَيْهِ اسْم سلب مِثَال ذَلِك فَقير وَسَالم وَمن أَسْمَائِهِ تبَارك وَتَعَالَى القدوس وَالسَّلَام فَإِنَّهَا تدل على الْبَرَاءَة من الْعُيُوب وعَلى نَفيهَا وَأما الَّذِي يدل على ثُبُوت شَيْء للذات فَذَلِك الثَّابِت إِمَّا أَن يقوم بِالذَّاتِ أَو لَا يقوم بهَا فَالَّذِي يقوم بِالذَّاتِ هُوَ الَّذِي يُقَال عَلَيْهِ اسْم صفة وَمِثَال ذَلِك عَالم وقادر وَسميع وبصير فَإِن هَذِه صِفَات زَائِدَة على الذَّات وَأما الزَّائِد على الذَّات الَّذِي لَا يقوم بهَا فَهُوَ الَّذِي يُقَال عَلَيْهِ إسم الْفِعْل وَقد يُقَال عَلَيْهِ اسْم الْإِضَافَة مثل خَالق ورازق وَمَا أشبه ذَلِك فَحصل من التَّقْسِيم أَن الْأَسْمَاء على أَرْبَعَة أضْرب أَسمَاء ذَات وَأَسْمَاء صِفَات وَأَسْمَاء سلوب وَأَسْمَاء أَفعَال وَقد يُقَال عَلَيْهَا

المعتبرين فَإِن كنت اصطلحت مَعَ نَفسك على غير مَا تعارفه النظار خلست على شَيْء مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ الْعلمَاء والأحبار فَتكلم باصطلاحك مَعَ نَفسك وَلَا تخاطب بِهِ أحدا من أَبنَاء جنسك وَلَا يظنّ ظان أَن هَذَا السَّائِل اراد بأسماء الْأَفْعَال الْأَسْمَاء الَّتِي لَا يُوجد الْفِعْل إِلَّا بهَا مثل الْعلم وَالْقُدْرَة والإرادة فَإِنَّهُ قد جعل من أَسمَاء الْأَفْعَال مَالا يُوجد بِهِ فعل كسميع وبصير وَغَيرهمَا مِمَّا ذكر وَفِيمَا أَحسب أَنه أَرَادَ هَذَا الْمَعْنى وَلم تساعده الْعبارَة فعنى وعنى وَأما قَوْلك حَيّ لنفى ميت وَرب لنفى مربوب وإله لنفى مألوه فَكَلَام مَجْنُون معتوه فَإِنَّهُ إِن جَازَ أَن يكون حَيا من أَسمَاء السلوب والنفى فَمَا الْمَانِع من أَن يكون الْعلم من أَسمَاء السلوب فَإِنَّهُ مُمكن أَن يُقَال عَالم لنفى جَاهِل ومريد لنفى كَارِه وقادر لنفى عَاجز وَهَكَذَا يجْرِي فِي جَمِيع الصِّفَات والأسماء الَّتِي لَهَا نقائض وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى جهالات وَجحد المعقولات وَأَيْضًا فَإِن كَانَت الْحَيَاة سلبا فيستحيل أَن تكون شرطا للْعلم وَالْقُدْرَة والإرادة وَغَيرهَا وَكَونهَا شرطا لهَذِهِ الصِّفَات مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ والنفى لَا يكون شرطا وَلَا مَشْرُوطًا فِي مثل مَا نَحن فِيهِ ثمَّ نقُول قَوْلك هَذَا مُخَالف لما تَقوله أقستكم هَذَا صَاحب كتاب الْحُرُوف يَقُول الْبَارِي تَعَالَى لم يزل حَيا بِرُوحِهِ وناطقا بكلمته فمهما قلت لم يزل حَيا وَلم يزل ناطقا أوجبت فِي نطقك لِحَيَاتِهِ ونطقه الأزلية وَهَذَا مِنْهُ تَصْرِيح بِأَن الْحَيَاة لَيست ترجع إِلَى نفى الْمَوْت ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك بِكَلَام وروحه أعنى حَيَاته أقنوم خَاص كَامِل لم يزل وَسَيَأْتِي الْكَلَام مَعَه فِي هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأما قَوْلك رب لنفى مربوب فَقَوْل مختلط عقله مغلوب فَإِن الرب مَعْنَاهُ الْملك فَهُوَ من أَسمَاء الْإِضَافَة وَالْأَفْعَال وَأما الْإِلَه فَهُوَ من الْآلهَة وَهِي الْعِبَادَة فَهُوَ مألوه أَي معبود آلِهَة عبَادَة فَهُوَ من أَسمَاء الْأَفْعَال وَالْإِضَافَة وَأما قَوْلك وكما أَنا قد فهمنا أَن نفس الْإِنْسَان لَا يقوم لَهَا فعل إِلَّا عَن ثَلَاثَة كَذَلِك فهمنا عَن خالقنا أَن تَدْبيره بِنَا عَن ثَلَاثَة فَقَوْل يدل على سوء نظرك وَقلة تثبتك وَذَلِكَ أَن مَفْهُوم مَا ذكرته فِي هَذَا

الْفَصْل على تثبيجه وَسُوء ترتيبه هُوَ أَنَّك قلت إِن الْإِنْسَان لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ فعل حَتَّى يكون قَادِرًا عَالما مرِيدا فَإِن نَقصه مِنْهَا وَاحِد لم يَصح إِيجَاد الْفِعْل مِنْهُ فَكَذَلِك خالقنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ قَادر عَالم مُرِيد وَلَو نَقصه مِنْهَا وَاحِد لم يَصح مِنْهُ إِيجَاد فعل كالإنسان هَذَا مَفْهُوم كلامك على كثرته وَهَذَا كَلَام فَاسد لِأَنَّهُ قِيَاس الْغَائِب على الشَّاهِد إِذْ هُوَ قِيَاس خَال عَن الْجَامِع وَأَيْضًا فَلَو كَانَ هُنَالك جَامع لَكَانَ بَاطِلا فَإِنَّهُ قِيَاس جزئي على جزئى وَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ صَالح للظنيات لَا للعمليات وَلَو جَازَ قِيَاس الْبَارِي سُبْحَانَهُ على خلقه للَزِمَ أَلا يكون قَادِرًا حَتَّى يكون ذَا آلَة وَعصب وَيَد الْجَارِحَة فَإِن الْوَاحِد منا لَا يكون قَادِرًا حَتَّى يكون كَذَلِك وَكَذَلِكَ كَانَ يلْزم أَلا يكون عَالما حَتَّى يكون ذَا قلب ودماغ إِلَى غير ذَلِك من المحالات ويلزمك على مساق قَوْلك أَن يكون الْبَارِي تعلى جسما فانك كَمَا لم ترى موجدا وَلَا فَاعل لفعل الا قَادِرًا عَالما مرِيدا كَذَلِك لم ترد فَاعِلا وَلَا موجدا إِلَّا جسما وَهَذِه جهالات لَازِمَة على قَوْلك ومنتجة عَن صمم جهلك فَلَا تنْتَفع بِهَذَا الْكَلَام حَتَّى تسبره على محك النظار الْأَعْلَام وَلَو تتبعنا خطاك فِي هَذَا الْفَصْل لطال الْكَلَام ولكثر عَلَيْك التوبيخ والملام لَكنا نكل النَّاظر فِيهِ للوقوف على فَسَاد مَعَانِيه

الفصل الرابع

الْفَصْل الرَّابِع دَلِيل التَّثْلِيث فِي حِكَايَة كَلَامه أَيْضا قَالَ فَإِن سَأَلَ سَائل من الْمُخَالفين فَقَالَ فَمَا الدَّلِيل على صدق مَا تدعون من تثليث وحدانية الْخَالِق وَكَيف يُمكن أَن تكون الثَّلَاثَة وَاحِدًا وَالْوَاحد ثَلَاثَة مَعَ مَا ابتدأتم بِهِ من القَوْل وإثباتكم إِيَّاه فَردا لم يزل قُلْنَا لَهُم أما أَن تكون الثَّلَاثَة وَاحِدًا وَالْوَاحد ثَلَاثَة فَلذَلِك لعمرى مَالا يُمكن كَونه وَلَكِن نقُول أَن جوهرا قَدِيما لم يزل مَوْجُودا بِثَلَاث خَواص أزليات جوهرات غير متباينات وَلَا متفرقات فِي الْجَوْهَر الْقَدِيم الأزلي اليذي لَا يَتَبَعَّض وَلَا يتَجَزَّأ بِعَيْنِه وكماله فَلَا هُوَ ثَلَاثَة وَجَمِيع الثَّلَاثَة خَواص هِيَ بِمَعْنى مَا هُوَ وَاحِد وَلَا هُوَ وَاحِد بِمَعْنى مَا هُوَ ثَلَاثَة أعنى لَيْسَ هُوَ خَاصَّة وَاحِدَة بل ثَلَاثَة خَواص فَهَذَا مَذْهَبنَا فِي تثليث وحدانية الْخَالِق الْجَواب عَنهُ هَذَا السُّؤَال الَّذِي وجهت على نَفسك وَارِد عَلَيْك ولازم لَك وَأما انفصالك عَنهُ فمخرجك عَن مِلَّة النَّصْرَانِيَّة وَلَا يبْقى عَلَيْك مِنْهَا بَقِيَّة وَذَلِكَ أَن مرادك من هَذَا الْجَواب أَنَّك قلت كلَاما مَعْنَاهُ أَن كَون الْوَاحِد ثَلَاثَة وَالثَّلَاثَة وَاحِدًا غير جَائِز عقلا وَلَكِن معنى التَّثْلِيث أَن الله تَعَالَى جَوْهَر قديم لم يزل مَوْصُوفا بِثَلَاث خَواص أوليات فَهُوَ وَاحِد بِمَجْمُوع الأقانيم وَثَلَاثَة بتفريق الأقانيم وَتلك الأقانيم لَا تفارق وجوده وَلَا تباينه وَلَا يُمكن أَن يحمل كلامك إِلَّا على هَذَا وَإِن حمل على غَيره فَهُوَ بعيد وَغَيره مُفِيد وَهَذَا الَّذِي ذكرته لَا يسْأَله لَك أَكثر النَّصَارَى بل يتبرأون عَنهُ وَلَا يرضون بِشَيْء مِنْهُ إِذْ نَصَارَى قبلك أَكْثَرهم متفقون على أَن الأقانيم الثَّلَاثَة آلِهَة وَأَنَّهَا إِلَه وَاحِد فَأَنت تَقول هِيَ خَواص وهم يَقُولُونَ آلِهَة فَأَي شَيْء يجمع بَين الخاصية والإلهية وَبَينهمَا مَا بَين السَّمَاء

وَالْأَرْض وَالرَّفْع والخفض وسيتضح ذَلِك اذا نقلنا مذاهبهم فِي ذَلِك ان شَاءَ اللة تَعَالَى ثمَّ نقُول لَهُم لأي شَيْء تحكمتم بِتَسْمِيَة خالقكم جوهرا وَفِي أَي مَوضِع كتب الْأَنْبِيَاء وجدْتُم الْأَمر بذلك أَو على لِسَان من بَلغَكُمْ الْأَمر بِهِ وَلَا تَجِدُونَ لإِثْبَات الْأَمر بذلك سَبِيلا غير التحكم وَلَو كُنْتُم مِمَّن يستحى من الله لما تحكمتم عَلَيْهِ بِأَن سميتموه بِمَا لم يسم بِهِ نَفسه وَلَو أَن وَاحِد مِنْكُم سمى لَهُ ولد بِغَيْر أمره لأنف من ذَلِك وعظيم عَلَيْهِ ولوبخ الْمُسَمّى لِأَنَّهُ تصرف فِيمَا لَا يَنْبَغِي لَهُ هَذَا إِذا كَانَ الإسم مِمَّا يفهم مِنْهُ الْمَدْح فَمَا ظَنك لَو سمى بلقب يفهم مِنْهُ النَّقْص وَالْعَيْب وَلَفظ الْجَوْهَر فِي الْمُتَعَارف عِنْد النظار وَغَيرهم يطلقونه على المتحيز وَهُوَ الجرم الشاغل قدرا من المساحة وَلَا بُد لَهُ من الْحَرَكَة والسكون وهما دَلِيلا تغيره وحدوثه فَإِن أردْت بِهِ معنى آخر فَلَا بُد من بَيَانه إِذا لم تَتَكَلَّم بِمَا تكلم بِهِ أَرْبَاب النّظر المذللول سبل العبر

الفصل الخامس

الْفَصْل الْخَامِس فِي بَيَان اخْتلَافهمْ فِي الأقانيم نبين فِي هَذَا الْفَصْل مَذَاهِب أوائلهم ونتكلم مَعَهم فِيهَا ونوضح مسائلهم فِيهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى ونحكى مذاهبهم بألفاظهم كَمَا وَجدتهَا فِي كتبهمْ وَلم أعول فِي ذَلِك على نقل عُلَمَائِنَا عَنْهُم فَقَط بل تتبعت مَا أمكنني من كتبهمْ وَالله الْمُوفق قَالُوا لما أفهمتنا الشواهد الْعَقْلِيَّة أَن الْخَالِق لم يزل حَيا وَلم يزل ناطقا قُلْنَا فَهَل يحِق أَن يكون هُوَ بحياته ونطقه شخصا وَاحِدًا جَامعا لأجزاء مُخْتَلفَة كَمَا يُقَال فِي حد الْإِنْسَان أَنه حَيَوَان نَاطِق مائت إِذْ تسمى أَجزَاء جوهره مَعَ أعراضه الْمُخْتَلفَة فِيهِ أقنوما وَاحِدًا شخصا وَاحِدًا وَلَا يُسمى كل جُزْء وكل عرض مِنْهَا أقنوما أنسيا وَذَلِكَ لِأَن اسْم الأقنوم وَاجِب للشَّيْء المستغنى بِذَاتِهِ الْقَائِم بشخصه لالذي الإضطرار ولالذي الإشتباك كالأعراض فَإِن الْأَجْزَاء والأعراض لَا تقوم مكتفية بذواتها كَمَا أَن حر النَّار الَّذِي هُوَ جُزْء من قوى النَّار لَا يقوم بِذَاتِهِ أقنوما مُنْفَردا دون أَصْلِيَّة النَّار وضوئها وَكَذَلِكَ الْأَعْرَاض المشتبكة فِي الْجَوْهَر كالسواد وَالْبَيَاض وَمَا أشب 4 ههما لَا تقوم أشخاصها مكتفية بذواتها دون الْجَوْهَر اللَّازِم لَهَا فالأقنوم هُوَ المستغنى بِذَاتِهِ عَن أصل جوهريته كالإنسان المستغنى بخاصية إنسانه عَن النَّاس والشجرة عَن الْأَشْجَار وَالدِّينَار عَن الدَّنَانِير فامتناع أَجزَاء الْإِنْسَان من الْقيام أشخاصا لاضطرارها وعجزها عَن الْقيام بذواتها كروحه العاجزة عَن الْقيام بتحديدها إنْسَانا دون جِسْمه ونطقه وَكَذَلِكَ نُطْفَة وجسمه يعجز كل وَاحِد مِنْهُمَا عَن الْقيام بتحديده إنْسَانا دون روحه وَذَلِكَ لاضطرار كل جُزْء مِنْهَا إِلَى صَاحبه فِي الْقيام بإنسانيته فَإِذا تقرر هَذَا فحياة الله ونطقه لَا يَخْلُو من أَن يَكُونَا جزأين من جوهره كَمَا هُوَ من الْإِنْسَان أَو غير جَوْهَرَة فان قُلْنَا هما جزءان من الجوهره ألزمنا مَا يلْزم الْإِنْسَان من الإضطرار والتأليف لأَنا وجدنَا

أَجزَاء الْإِنْسَان لاضطرار بَعْضهَا إِلَى بعض تقصر عَن إحتمال أَسمَاء الأقانيم وَهَذَا يَسْتَحِيل على الْجَوْهَر الأزلي إِذْ هُوَ ومتعالى عَن الْأَجْزَاء والتأليف والتركيب والأعراض فأوجبوا أَن تكون خواصه لغنائه وكمالها تسمى أقانيم قَائِمَة بخواصها ومستحقة الَّذِي تُوصَف بِهِ بجوهرية قديمَة كقدمه لَا جزأين مركبين وَلَا عرضين منفصلين لِأَنَّهُ لم يزل حَيا وناطقا بكلمته وَمن زعم أَن الْحَيَاة من الله والنطق مِنْهُ محدثان وصف الله تَعَالَى فِي أزليته بِالْمَوْتِ وَالْجهل وَإِن قُلْنَا حَيَاته ونطقه غير جوهره أزليان فقد أشركنا مَعَ الله فِي أزليته غَيره فَلذَلِك يُسمى كل وَاحِد من الرّوح والكلمة جوهرية خَاصَّة فَوَجَبَ أَن يكون جَوْهَر الْخَالِق تَعَالَى أقنوما خَاصّا قَائِما كَامِلا بخاصيه لم يزل ونطقه الَّذِي هُوَ كَلمته أقنوما خَاصّا كَامِلا قَائِما بخاصية لم تزل وروحه أعنى حَيَاته أقنوما خَاصّا كَامِلا بِخَاصَّة لم يزل فَهَذِهِ ثَلَاثَة أقانيم مَعْرُوفَة بمعانيها لَا متفاصلة وَلَا متركبة وَلَا متشابكة جَوْهَر وَاحِد ذَات وَاحِدَة هَذَا كَلَام صَاحب الْحُرُوف وَهُوَ عِنْدهم القسيس الْمَعْرُوف وَلَقَد رام تَحْسِين مَذْهَبهم وتبيين مطلبهم وَلَكِن لَا يَسْتَوِي الظل وَالْعود أَعْوَج وَلَا يصلح الْمَذْهَب وقائله أهوج ... وَهل يصلح الْعَطَّار مَا أفسد الدَّهْر ... وهم مَعَ ذَلِك فِيمَا ذَكرْنَاهُ من الأقانيم مُخْتَلفُونَ وبالحيرة عمهون هَذَا صَاحب كتاب الْمسَائِل يَقُول هَذِه الثَّلَاثَة الأقانيم متوحدة لأجل الآب مُتَسَاوِيَة لأجل الإبن منتظمة الرّوح فنؤمن أَن الْأَب أَب لأجل أَنه ذُو ابْن والإبن ابْن لِأَنَّهُ ذُو أَب وَالروح الْقُدس منبثق لِأَنَّهُ من الآب والإبن فالأب أَصْلِيَّة الإلهية لِأَنَّهُ كَمَا لَا يَخْلُو قطّ أَن يكون إِلَهًا كَذَلِك لم يَخْلُو قطّ أَن يكون أَبَا الَّذِي الإبن مِنْهُ مَوْلُود وَالَّذِي الرّوح الْقُدس مِنْهُ لَيْسَ مولودا لِأَنَّهُ لَيْسَ ابْنا وَلَا غير مَوْلُود لِأَنَّهُ لَيْسَ مخلوقا لِأَنَّهُ لَيْسَ من شَيْء بل إِلَه منبثق من الآب والإبن إِلَه

وأقنوم الآب غير أقنوم الإبن وأقنوم الإبن غير أقنوم الرّوح الْقُدس لَكِن التَّثْلِيث الْمُقَدّس ذَات وَاحِدَة إلهية وَاحِدَة وَهَذَا تَصْرِيح بِأَن الأقانيم آلِهَة وَإِن كَانَ وَاحِد مِنْهَا غير الآخر وَقد ذهب شباليش إِلَى أَن الثَّلَاثَة الأقانيم ممتزجة فِي أقنوم وَاحِد وَهُوَ عِنْد كثير مِنْهُم مكفرا وكالمكفر وَقد ذهب آريش إِلَى أَنه إلهية الأقانيم منخزلة ومتبعضة الذَّات وَهُوَ عِنْدهم مفتر خارجي وَقَالَ صَاحب كتاب الْمسَائِل لسنا نؤمن أَن فِي التَّثْلِيث شَيْئا مخلوقا أَو خَادِمًا كَالَّذي أنشأه دنونيشيش أَو غير معتزل كَقَوْل أونوميش أَو نَاقص الإمتنان كَقَوْل أوتفش أَو مقدما أَو مُؤَخرا أَو صَغِيرا كَقَوْل آريش وَلَا ذَا جَسَد كَقَوْل مالطه وترتليان وَلَا مصورا بالحيدية كَقَوْل أَرْبَد ونمرشيش أَو محجوبا بعضه عَن بعض كَقَوْل أوريان وَلَا مربيا من الْمَخْلُوقَات كَقَوْل فرشاط وَلَا متفرق الإدارة والعوائد كَقَوْل مرحيون وَلَا منقلبا من ذَات التَّثْلِيث إِلَى طبيعة الْمَخْلُوقَات كَقَوْل فلاطون وترتلليان وَلَا مُنْفَردا فِي رُتْبَة مُشْتَركا فِي أُخْرَى كَقَوْل أوريان وَلَا ممتزجا كَقَوْل شباليش بدل كُله كَامِل لِأَنَّهُ كُله وَاحِد وَمن وَاحِد لَا تعدد كزعم شلبانش وَإِذا وفقت على هَذِه الْأَقَاوِيل الضعيفة والآراء السخيفة لم تشك فِي تخبطهم فِي عقائدهم وحيرتهم فِي مقاصدهم قَالُوا فِي الله تبَارك وَتَعَالَى بآرائهم وَاتبعُوا فِيهَا ظَاهر أهوائهم فهم فِي ريبهم يَتَرَدَّدُونَ ولجهالهم مقلدون وبضلالهم مقتدرون وَلما رَأينَا هَذِه الْمذَاهب الرَّكِيكَة لَا تسْتَحقّ أَن تحكى بل يضْحك من ذهَاب عقول أَرْبَابهَا ويبكي أَعرَضت عَنْهَا أَعْرَاض المطلع على عوره أَمَام من يخَاف جوره فعزمت على نقل مَذْهَب كَبِيرهمْ أغشتين فَإِن مذْهبه فِي الأقانيم مقارب فِي الصِّفَات مَذْهَب الْمُسلمين وَذَلِكَ أَنه قَالَ بعد مُقَدّمَة كَلَام يرجع حَاصله إِلَى مَا نذكرهُ

لما أقرّ عُلَمَاء الْمَجُوس بِالْقُوَّةِ الماسكة لكل شَيْء وَأَرَادَ بَعضهم أَن ينزلوها جوهرا غير حَيّ وَلَا مستغن بِنَفسِهِ وَجب علينا أَن نحتج عَلَيْهِم بِمَا يضمهم إِلَى الْإِقْرَار بِأَن تِلْكَ الْقُدْرَة ذَات علم وَإِرَادَة قَالَ وَقد رد علينا هَذِه الْمقَالة برفيريش فَقَالَ لَا نقُول أَنه شَيْء فَيكون قد سميناه بالإشياء الَّتِي لَا تسلم من عيب وَلَكنَّا نقُول إِنَّه وَلَا نقُول شَيْء ثمَّ قَالَ ألستم تقرأون أَن الَّذِي قدر هُوَ الَّذِي علم وَأَن الَّذِي علم هُوَ الَّذِي أَرَادَ فَهُوَ وَاحِد فِي جَمِيع الْمعَانِي وَإِنَّمَا الْقُدْرَة وَالْعلم والإرادة أَسمَاء صَارَت فِيمَا بَين الْخلق والمخلوق وَلَيْسَت لَا خالقة وَلَا مخلوقة لِأَنَّهُ لَو لم يكن الشَّيْء الْمَقْدُور لم يسم ذَا قدرَة وَلَو لم يكن الشَّيْء الْمَعْلُوم لم يسم ذَا علم وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْإِرَادَة فَهَذِهِ الْأَسْمَاء إِنَّمَا هِيَ أَعْرَاض وَأَسْمَاء فِيمَا بَينه وَبَين الْخلق مثل قَوْلنَا ذُو رَحْمَة وَذُو حكم وَذُو عِقَاب فَلَو لم يكن الْخلق المرحوم لم يلْزمه اسْم الرَّحْمَة وَكَذَلِكَ غَيرهَا قَالَ أغشتين فِي جَوَابه عَن قَوْله لَا نقُول أَن لكل شَيْء عقيب وَمَا لم يكن لَهُ عقيب فَلَيْسَ بِشَيْء لِأَن عقيب شَيْء لَا شَيْء وَإِذا كَانَ إِنَّمَا ينفى عَنهُ اسْم شَيْء لِأَن الْأَشْيَاء كلهَا لَهُ فَمثل ذَلِك يجب عَلَيْهِ فِي قَوْله أَن أَو قَوْله كَانَ مَعَ أَنا لَا نَعْرِف شَيْئا نقُول فِيهِ أَن إِلَّا بعد معرفتنا إِيَّاه شَيْئا وحسبنا فِي هَذَا قَوْلنَا شَيْء لَيْسَ كشيء من جَمِيع الْأَشْيَاء قَالَ وَأما قَوْله أَن الْقُدْرَة وَالْعلم إِنَّمَا هِيَ أَعْرَاض لزمنه فِيمَا بَينه وَبَين الْخلق وَأَنَّهَا مثل الرَّحْمَة وَالْحكم فَأَنا نحتج عَلَيْهِ فِي ذَلِك بِأَن نقُول لست تنكر أَنه كَانَ قبل الْأَشْيَاء وَدون الْأَشْيَاء بِلَا إبتداء فَهَل تقدر أَن تجحد أَنه كَانَ أبدا قَادِرًا فَإِذا أَقرَرت أَنه لم يزل قَادِرًا فقد أَقرَرت أَن الْقُدْرَة صفة أزلية فَإِن قلت أَنه لَا يجوز أَن يُسمى قبل أَن يكون الشَّيْء الْمَقْدُور عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يُسمى قَادِرًا بعد كَون الشَّيْء الْمَقْدُور علينا قُلْنَا أَفَكَانَ يقدر على أَن يقدر أم لَا فَلَا بُد لَك من أَن تَقول كَانَ يقدر على أَن يقدر أم لَا فَلَا بُد لَك من أَن تَقول كَانَ يقدر فيلزمك وَصفه بِالْقُدْرَةِ على كل حَال

وَكَذَلِكَ قَوْلنَا فِي الْعلم والإرادة وقولك يرحم وَيغْفر وَيحكم لَيْسَ مثل قَوْلنَا يقدر وَيعلم وَيُرِيد لِأَنَّك لَا تَقول كَانَ أبدا يرحم وَكَانَ أبدا يخلق وَلَا بُد من أَن تَقول كَانَ أبدا يقدر وَكَانَ أبدا يعلم وَكَانَ أبدا يُرِيد ثمَّ قَالَ بعد كَلَامه مَعَ الفلاسفة فَنحْن مَا لم نصفه بِالْعلمِ والإرادة لم نصفه بمدبر وَلَا حَيّ ثمَّ قَالَ إِن قُلْنَا عَرفْنَاهُ بوحدانيته وعلمناه بِذَاتِهِ من غير نَظرنَا إِلَى فعله الدَّال على قدرته وَعلمه وإرادته فقد كذبنَا لِأَنَّهُ لَا يقدر أحد أَن يَقُول أَنه وَقع على مَعْرفَته إِلَّا بِمَا نظر إِلَيْهِ من خلقه وتفكر فِيهِ من حكمه وبمعرفته بِنَفسِهِ وكل هَذَا إِقْرَار بِالثَّلَاثَةِ الأقانيم الَّتِي ذكرنَا لأَنا لما وجدنَا الْخلق الَّذِي لم يقدر أَن يكون بِنَفسِهِ وَجب الْإِقْرَار بالشَّيْء الَّذِي قدر أَن يكون وَهِي الْقُدْرَة الَّتِي سَمَّاهَا عُلَمَاء الْمَجُوس الهيول ثمَّ لما نَظرنَا إِلَى تَدْبِير الْخلق وَجب الْإِقْرَار بِالْعلمِ والإرادة لِأَن التَّدْبِير لَا يكون إِلَّا مِمَّن يعلم وَيُرِيد فثلاثتها إسم لإله وَاحِد ونعت لمدبر فَرد وَلَا تَجِد هِيَ غَيره وَلَا يجد هُوَ غَيرهَا فَهَذَا قَوْلنَا فِي التَّثْلِيث الَّذِي وَصفه الْإِنْجِيل وَأمر بِالْإِيمَان بِهِ وَسَماهُ بِاللِّسَانِ العجمي الآب والإبن وَالروح الْقُدس فَهَذَا كَلَام هَذَا القس وَالنَّصَارَى يعترفون بِأَنَّهُ أعرفهم بدينهم وأعلمهم بشرعهم ويقينهم ينص على أَن الأقانيم الثَّلَاثَة صِفَات ونعوت للْوَاحِد الْفَرد وَلَا يُقَال فِيهَا أَنَّهَا هُوَ وَلَا هِيَ غَيره وَهُوَ لعمرى من المسددين فِي هَذَا النّظر إِذْ قد سلك مناهج الْبَحْث والعبر وَلَقَد قَارب الحنيفية وتباعد عَن الْملَّة النَّصْرَانِيَّة إِلَّا أننا ننازعه نزاعين أَحدهمَا فِي تَسْمِيَة هَذِه الصِّفَات الآب والإبن وَالروح الْقُدس على مَا تقرر وَهَذَا نزاع لَفْظِي لَيْسَ بكبير وَلَا لَهُ حَظّ خطير والنزاع الثَّانِي فِي أَنه قصر الأقانيم على هَذِه الثَّلَاثَة وَلم يعد الْحَيَاة فِيهَا كَمَا فعل غَيره مِنْهُم وَكَذَلِكَ الْوُجُود الْمَوْصُوف بِهَذِهِ الصِّفَات لم يعده أقنوما وَقد صرح بِأَنَّهَا صِفَات وَلَا بُد للصفات من مَوْصُوف بهَا

الجواب عن ما ذكره المصدر كلامه

وسنعطف عَلَيْهِ بِالرَّدِّ إِذا تكلمنا مَعَ غَيره إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَمَعَ هَذَا فقد سلك هَذَا الرجل مَسْلَك أَرْبَاب الْعُقُول وتبرأ من جَهَالَة كل جهول وَإِذا كَانَ كَذَلِك فسبيلنا أَن نتكلم مَعَ الَّذِي صدرنا هَذَا الْفَصْل بِذكر كَلَامه فَإِنَّهُ كثير الْفساد مضرب عَن الرشاد ويتضمن الرَّد عَلَيْهِ الرَّد على غَيره مِمَّن يَقُول مثل قَوْله أَو مَا يُقَارِبه مستعينين بِاللَّه متوكلين عَلَيْهِ الْجَواب عَن مَا ذكره الْمصدر كَلَامه لتعلم أَيهَا النَّاظر فِي كتَابنَا أننا يمكننا أَن نناقش هَذَا الْقَائِل كَمَا ناقشنا السَّائِل فَإِن كَلَامه كثير الْغَلَط ظَاهر التَّكَلُّف والشطط لَكنا تركنَا مناقشته اللفظية وصرفنا المناقشة للمباحثة المعنوية كَرَاهَة للإكثار وميلا للإيجاز والإختصار وَأَيْضًا فَإِن نفس الله فِي الْعُمر وَصرف عَنَّا عوائق الدَّهْر فسنرد عَلَيْهِ فِي كتاب مُفْرد إِن شَاءَ الله تَعَالَى أبين فِيهِ غلطاته وأوضح جهالاته وسقطاته بحول الله وقوته فَنَقُول لَهُ لَا يشك عَاقل سليم الْفطْرَة أَن خَالق الْعَالم مَوْجُود لَيْسَ بمعدوم وَقد اعترفتم بِأَنَّهُ حَيّ عَالم وَمن لم يعْتَرف بذلك أُقِيمَت عَلَيْهِ الْبَرَاهِين القاطعة فَإِذا تقرر ذَلِك قُلْنَا فمفهوم أَنه حَيّ هُوَ عين مَفْهُوم أَنه عَالم أَو غَيره فَإِن كَانَ عينه فقولكم حَيّ عَالم كقولكم حَيّ حَيّ أَو عَالم عَالم وَالْفرق مَا بَينهمَا مَعْلُوم ضَرُورَة وَلَو كَانَ عينه لاختلطت الْحَقَائِق فَثَبت أَنَّهُمَا متغايران متعددان فَإِذا ثَبت ذَلِك فَأَما أَن يرجعا إِلَى الْخَالِق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَوْلكُم أَنه حَيّ عَالم أَو لَا يرجعان فَإِن لم يرجعا لم يَصح الْإِخْبَار عَنهُ بهما وَلم يَكُونَا وصفين لَهُ فَثَبت أَنَّهُمَا يرجعان إِلَيْهِ وَإِذا ثَبت ذَلِك فَأَما أَن يَكُونَا من أَوْصَافه تَعَالَى النفسية أعنى الذاتية فَإِن كَانَا من أَوْصَافه النفسية أدّى ذَلِك إِلَى أَن يكون ذَاته وماهيته متركبة متبعضة وَذَلِكَ محَال على مَا قررتم فِيمَا تقدم من كلامكم وَأَيْضًا لَو عقل كَون الْعلم والحياة من الْأَوْصَاف النفسية فِي مَحل عقل ذَلِك فِي كل مَحل وَيلْزم من ذَلِك كَون الْعلم والحياة من صِفَات أَنْفُسنَا وَذَلِكَ مَعْلُوم الْبطلَان بِالضَّرُورَةِ

وَأَيْضًا فَلَو جَازَ ذَلِك للَزِمَ أَن يكون الْعلم والحياة قَائِمين بأنفسهما أعنى موصوفين لِأَن جُزْء الْقَائِم بِنَفسِهِ قَائِم بِنَفسِهِ وَقد ثَبت بالأدلة القاطعة أَن الْبَارِي تَعَالَى قَائِم بِنَفسِهِ والمعقول من الْعلم والحياة أَنَّهُمَا صفتان لَا موصوفان فَإِذا تقرر ذَلِك وَثَبت لزم مِنْهُ أَنَّهُمَا زائدان على النَّفس فَإذْ ثَبت ذَلِك فَأَما أَن يقوما بِهِ أَو لَا يقوما بِهِ فَإِن لم يقوما بِهِ لم يَتَّصِف بهما وَلَو جَازَ أَن يَتَّصِف فِيمَا لَا يقوم بِهِ لجَاز ذَلِك فِي حَقنا فَكَانَ يلْزم عَلَيْهِ أَن يكون علم زيد يَتَّصِف بِهِ عَمْرو وَذَلِكَ محَال ضَرُورَة فَدلَّ ذَلِك على أَنَّهُمَا قائمان بِهِ فَإِذا قاما بِهِ وهما وجودان زائدان على الذَّات حصل من ذَلِك كُله أَن ذَاته وَاحِدَة لَا تركيب فِيهَا وَلَا تعدد وَأَن صِفَاته الزَّائِدَة هِيَ المتعددة وَهَذَا لَا إِحَالَة فِيهِ بل هُوَ الْحق الَّذِي لَا غُبَار عَلَيْهِ وَلَا بُد لكل نَاظر من الرُّجُوع وَأَن تخبط إِلَيْهِ فَهَكَذَا يَنْبَغِي أَن تفيهم صِفَات الْبَارِي تبَارك وَتَعَالَى وتقدس وتنزه عَمَّا يَقُول الجاحدون والكافرون علوا كَبِيرا وَهَذِه الطَّرِيقَة البرهانية تجرى فِي كل صفة يدعى ثُبُوتهَا للباري تَعَالَى وَبعد الإنتهاء إِلَى هَذَا الْمحل ينظر هَل أَوْصَافه أزلية أم لَيست أزلية وَالْحق أَنَّهَا أزلية وَلَا مُحرز أَن يكون شَيْء مِنْهَا حَادِثا إِذْ لَو كَانَ شَيْء من صِفَاته حَادِثا للَزِمَ عَلَيْهِ أَن يكون محلا للحوادث وَيلْزم على ذَلِك حُدُوثه تَعَالَى وَهُوَ محَال على مَا يعرف فِي مَوْضِعه فَإِذا تمهد هَذَا الأَصْل قُلْنَا بعده للمتكلم مَعَه الأقانيم عنْدكُمْ لَا تَخْلُو من أَن ترجع إِمَّا إِلَى صِفَاته النفسية أَو إِلَى صِفَاته المعنوية أعنى الزَّائِدَة على النَّفس وَلَا وَاسِطَة بَين الْقسمَيْنِ فَإِن رددتموها إِلَى الْقسم الأول لزمكم مَا تقدم من المحالات حَذْو النَّعْل بالنعل وَإِن رددتموها إِلَى الْقسم الآخر فلأي معنى قُلْتُمْ فِي حد الأقنوم أَنه الشَّيْء المستغنى بِذَاتِهِ عَن أصل جوهره فِي إِقَامَة خَاصَّة جوهريته وَهل الْمَفْهُوم من هَذَا إِلَّا أَنه صفة نفس لِأَن المستغنى بِذَاتِهِ عَن أصل جوهره هُوَ الَّذِي نعبر نَحن عَنهُ بالقائم بِنَفسِهِ ويعبر عَنهُ غَيرنَا من النظار بالموجود لَا فِي مَوْضُوع وَأَيْضًا إِن كَانَ أَرَادَ هَذَا الْقَائِل أَن الأقنوم هُوَ الصّفة الزَّائِدَة على الذَّات فَيلْزمهُ أَن يَجْعَل الْأَعْرَاض أقانيم فَإِنَّهَا زَائِدَة على الذَّات

وَمن عَجِيب أمره أَنه ألزم من قَالَ إِن الْعلم والحياة غير الْجَوْهَر الْإِشْرَاك بِهِ وَأي إشراك يلْزم من قَالَ إِن صِفَات الْمعَانِي زَائِدَة على ذَات الْمَوْصُوف بهَا وَكَيف يُمكن أَن يَقُول عَاقل إِن الصّفة الزَّائِدَة على الْجَوْهَر أَنَّهَا عين الْجَوْهَر وَهل قَائِل هَذَا إِلَّا جَاهِل أَو متجاهل فَتحصل من هَذَا كُله أَن الأقانيم لَا يَصح عِنْدهم أَن تقال على الصِّفَات النفسية وَلَا على الصِّفَات المعنوية وَلَا يعقل هُنَالك أَمر آخر متوسط بَينهمَا فَقَوْلهم فِي الأقانيم غير مَعْقُول فَكَأَنَّهُ قَول مَجْنُون مخبول ثمَّ نقُول لهَذَا الْقَائِل لأي شَيْء لم تجْعَل الْقُدْرَة من الأقانيم كَمَا ذهب إِلَيْهِ مقدمكم الأقدم وأسقفكم الأزعم أغشتين فَتكون الأقانيم أَرْبَعَة فَإِن قَالَ إِن الْقُدْرَة ترجع إِلَى الْوُجُود كَمَا صرح بذلك بَعضهم فَنَقُول لمن يَقُول ذَلِك وَلم ذَلِك وَهل لَا يرجع الْعلم والحياة إِلَى الْوُجُود وَمَا الْفَصْل بَينهمَا إِلَّا مَحْض التحكم وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْإِرَادَة ترجع إِلَى الْحَيَاة قيل لَهُ إِن صَحَّ ذَلِك فَليرْجع إِلَيْهَا الْعلم وَإِن جَازَ شَيْء من ذَلِك فَلْتَرْجِعْ كل وَاحِدَة من هَذِه الصِّفَات إِلَى الْأُخْرَى وَيرجع الْكل إِلَى الْمَوْجُود والوجود هُوَ نفس الذَّات فترجع الأقانيم الثَّلَاثَة إِلَى وَاحِد وَهُوَ محَال على مَا تقدم لكم وَعَلَيْكُم وَيكون هَذَا أَيْضا قولا بإمتزاج الثَّلَاثَة الأقانيم فِي أقنوم وَاحِد كَقَوْل الْخَارِجِي الْجَاهِل شباليش وَأَنْتُم لَا ترْضونَ شَيْئا من قَوْله وَلَا مذْهبه ثمَّ نقُول لأي شَيْء تحكمتم بِأَن الأقانيم ثَلَاثَة وهلا أضفتم إِلَيْهَا الْقُدْرَة وَالْعلم والسمع وَالْبَصَر كَمَا تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ أَو لَعَلَّهَا اثْنَان وَعدم انتصارهم يدل على ضعف أنصارهم وَلَا حجَّة لَهُم فِي هَذِه المواطن كلهَا أَكثر من التحكم فَيَنْبَغِي إِذن أَن يتَكَلَّم مَعَهم على جِهَة المناقضة والتهكم وغايتهم فِي ذَلِك أَن يرجِعوا إِلَى الإستقراء والتمثيل وهما فِي المعتقدات طَرِيقا الْخَطَأ والتضليل ثمَّ نقُول هَذِه الأقانيم الثَّلَاثَة قد قُلْتُمْ أَن كل وَاحِد مِنْهَا مستغن بِذَاتِهِ عَن أصل جوهره وَإِذا كَانَ ذَلِك فَأَما أَن يكون كل وَاحِد مِنْهَا

إِلَهًا أَو جُزْء إِلَه أَو يكون مجموعها إِلَهًا وَاحِدًا فَإِن كَانَ جُزْء إِلَه لزم عَلَيْهِ أَن يكون الْإِلَه متركبا متبعضا ويلزمكم على ذَلِك إبِْطَال التَّثْلِيث الَّذِي تَقولُونَ بِهِ ويلزمكم على ذَلِك الإمتزاج الَّذِي ذهب إِلَيْهِ شباليش وَإِن كَانَ كل وَاحِد مِنْهَا إِلَهًا بإنفراده لزمكم على ذَلِك أُمُور كَثِيرَة مشينة بَاطِلَة مِنْهَا أَن يكون كل وَاحِد من هَذِه الأقانيم حَيا عَالما مرِيدا قَادِرًا مَوْصُوفا بِصِفَات الْكَمَال إِذْ الْإِلَه هُوَ الْمَوْصُوف بِصِفَات الْكَمَال المتعالى عَن صِفَات النَّقْص فَإِذا الْتزم ذَلِك مُلْتَزم لزم عَلَيْهِ أَن تقوم الصّفة بِالصّفةِ وَإِن جَازَ ذَلِك جَازَ أَن يقوم الْعلم وَالْقُدْرَة بالإرادة والإرادة وَالْقُدْرَة بِالْعلمِ وَالْقُدْرَة وَالْعلم بالحركة وَالْحَرَكَة وَالْقُدْرَة وَالْعلم باللون إِلَى غير ذَلِك من أَنْوَاع الجهالات الَّتِي لَا يبوء بهَا عَاقل وَلَا يرضى بسماعها فَاضل وَإِن جَازَ قيام الصّفة بِالصّفةِ جَازَ أَن يقوم بِالصّفةِ صفة وبتلك الصّفة صفة ويتسلسل وَمَا يتسلسل لم يتَحَصَّل وَيلْزم عَلَيْهِ أَن تكون الأقانيم لَا نِهَايَة لَهَا إِذْ الْعلم يقوم بِهِ حَيَاة وَتلك الْحَيَاة حَيَّة بحياة إِلَى غير آخر وَمِنْهَا أَن تكون الْقُدْرَة قادرة بقدرة وَالْعلم عَالم بِعلم والحياة حَيَّة بحياة إِلَى غير ذَلِك من الصِّفَات وَهَذَا غير مَعْقُول فَإِن الْعلم وَالْقُدْرَة وسائرصفات الْمعَانِي إِنَّمَا توجب أَحْكَامهَا للمحال الَّتِي تقوم بهَا لَا لأنفسها بِالْعلمِ لَا يكون عَالما وَلَا قَادِرًا وَكَذَلِكَ الْقُدْرَة لَا تكون عَالِمَة وَلَا قادرة وَكَذَلِكَ سائرها وَإِنَّمَا الْعَالم والقادر والمريد والحي هُوَ الذَّات الَّذِي تقوم بِهِ هَذِه الصِّفَات وَهَذَا مَعْلُوم من غير أَسبَاب وَلَا أطناب وَمِنْهَا أَن يكون الْإِلَه صفة لموصوف فَإِن الْمَفْهُوم الْمَعْقُول من هَذِه الأقانيم أَنَّهَا صِفَات لَا موصوفات على مَا تقدم إِلَى أُمُور كَثِيرَة يطول الْكَلَام بذكرها ثمَّ نرْجِع إِلَى بَقِيَّة التَّقْسِيم فَنَقُول وَإِن لم تكن هَذَا الأقانيم حَيَّة وَلَا عَالِمَة وَلَا قادرة فَلَا تكون إلهية وَقد أطبق النَّصَارَى على أَنَّهَا آلِهَة ويلزمهم أَن لم تكن الأقانيم مَوْصُوفَة بِهَذِهِ الصِّفَات وصفهَا بأضدادها أَو بالإنفكاك عَنْهَا إِن لم يُوصف بحياة وصفت بالإنفكاك عَنْهَا والمنفك عَن الْحَيَاة ميت فَيلْزم عَلَيْهِ أَن يَقُولُوا بآلهة أموات وَكَذَلِكَ يلْزم فِي سَائِر الصِّفَات

وَقد كع الْمصدر بِكَلَامِهِ عَن هَذَا الْإِلْزَام وصعب عَلَيْهِ المرام فَتكلم بِمَا لَا يعقل فليته سكت وَلم يتقول وَبعد الْخبط والتأوه قَالَ هَذَا مَا لَا يجوز لنا بِهِ التفوه وَمن أَرَادَ أَن يقْضِي الْعجب العجاب فليقف على ذَلِك الْكتاب وتلخيص مَا ذكره فِي الإنفصال أَن قَالَ إِن قُلْنَا إِن الْأَب لَيْسَ يحيا كذبنَا وَإِن قُلْنَا هُوَ الْحَيَاة أبطلنا فَإِذا كَانَ لَيْسَ حَيا وَلَيْسَ بحياة وَجب أَن يكون حَيا بِلَا محَالة وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْعلم والحياة وَمن أفْضى بِهِ إِلَى هَذَا الهذيان بَحثه ونزاعه فقد تعين تَركه وإنقطاعه وحسبك فِي شَرّ سَمَاعه وَذَلِكَ كُله يدل على أَنهم لَيْسُوا من الْعُقَلَاء وَلَا معدودين من جملَة الْفُضَلَاء بل قد انخرطوا فِي سلك الحمقاء الجهلة الأغبياء فهم قد جعلُوا إلههم هواهم فأضلهم لذَلِك وأرداهم فهم كَمَا قَالَ الله الْعَظِيم فِي مُحكم كِتَابه الْكَرِيم {أَرَأَيْت من اتخذ إلهه هَوَاهُ أفأنت تكون عَلَيْهِ وَكيلا أم تحسب أَن أَكْثَرهم يسمعُونَ أَو يعْقلُونَ إِن هم إِلَّا كالأنعام بل هم أضلّ سَبِيلا} أما حِكَايَة صَاحب كتاب الْمسَائِل فَكَلَام يدل على أَن الْقَوْم لَيْسَ فيهم مستحي وَلَا عَاقل كابروا الضرورات وجحدوا المعقولات تَارَة يتناقضون وَأُخْرَى يتواقحون إفتراء على الله وإستهانة بحرم الله وحسبك دَلِيلا على ذَلِك إختلافهم فِي البديهيات هُنَالك وَقد وكلت النَّاظر فِيهِ لظُهُور تناقضه وَفَسَاد مَعَانِيه فَإِن غَايَة النَّاظر فِي كَلَامه أَن يلْزمه من الْمحَال والتناقض مثل مَا صرح بإلتزامه وَمن أنكر الضروريات وارتكب المحالات فدار المرضى والمجانين أولى بِهِ وأليق من اشْتِغَاله بالمعقولات

في بيان مذاهبهم في الإتحاد والحلول وإبطال قولهم فيها

الْبَاب الثَّانِي فِي بَيَان مذاهبهم فِي الإتحاد والحلول وَإِبْطَال قَوْلهم فِيهَا أتحاد الْكَلِمَة معنى الإتحاد الْوَاسِطَة بَين الله وَبَين مُوسَى تجسد الْوَاسِطَة كَلَام الْمُتَقَدِّمين مَذْهَب أغشتين إِذْ هُوَ زعيم القسيسين

الفصل الأول

الْفَصْل الأول إتحاد الْكَلِمَة فِي حِكَايَة كَلَام هَذَا السَّائِل قَالَ السَّائِل ثمَّ نبدأ بالْقَوْل فِي الإتحاد فَإِن قلت فَإِذا كَانَ التَّثْلِيث عنْدكُمْ أَسمَاء أَفعَال لخواص قَائِمَة والذات وَاحِد لَا يَنْقَسِم وَلَا يَتَبَعَّض فَلم بعضتموه دون الآب وروح الْقُدس وَلم سميتموه أَبَا وروح الْقُدس أعلم أَنَّهَا لما تعارفت القضايا بالأفعال اخْتلفت أسماءها كَمَا قدمنَا فاختلفت قَضِيَّة خلق الخليقة بيد إِلَى الْقُدْرَة وَسميت أَبَا وأضفت قَضِيَّة الموعظة إِلَى الْعلم الْمُتَوَلد كلَاما وسمى ابْنا وانفردت قَضِيَّة الْوَعْظ باللحمة دون غَيرهَا لِأَن الْمَسِيح إِنَّمَا اتخذ فِي الدُّنْيَا للموعظة لَا لخلق الخليقة لِأَن الله لَو اتخذ جسما ليخلق بِهِ الْخلق بيد يُسمى الْجِسْم أَبَا وأضفت اللحمة إِلَى الْأَب وَلكنه إِنَّمَا اتَّخذهُ لموعظة الْخلق والوعظ مُضَاف إِلَى الْعلم الْمُتَوَلد كلَاما فَسمى إبنا فَلذَلِك قَالَ الْإِنْجِيل التحمت الْكَلِمَة وسكنت فِينَا فأفرد الْكَلِمَة بالإلتحام لِأَنَّهَا الواعظة بِالْأَمر والنهى دون الْقُدْرَة والإرادة فَهَذَا أخصر شرح الإتحاد الْجَواب عَن كَلَامه يَا عجبا من بلادة صَاحب هَذَا السُّؤَال كَيفَ لم يحسن إِذْ تثبج عَلَيْهِ الْمقَال وَكثر عَلَيْهِ اللّحن والإختلال حَتَّى أخل بمفهومه وَعدل عَن السُّؤَال فَصَارَ كَلَامه لذَلِك كَأَنَّهُ كَلَام مَجْنُون مخبول إِذا تهذبن وَلم يثبت فِيمَا يَقُول وَذَلِكَ أَنه وجد على نَفسه فِي كَلَامه هَذَا أسئلة انْفَصل بِزَعْمِهِ عَن وَاحِد مِنْهَا وتغافل عَن سائرها جهلا مِنْهُ بورودها وحيدا عَن جوابها

أحد الأسئلة أَنه أَرَادَ أَن يَقُول قد قُلْتُمْ أَن التَّثْلِيث قد رردتموه إِلَى ثَلَاثَة خَواص لوَاحِد لَا يَتَبَعَّض فَلم بعضتم مَا لم يَتَبَعَّض وَثَانِيها لم اتَّحد الإبن بالمسيح دون الآب وروح الْقُدس وَهَذَا تضمنه كَلَامه حَيْثُ قَالَ دون الآب وروح الْقُدس وَثَالِثهَا لم سميتم الْمَسِيح إبنا وَرَابِعهَا لم سميتم الله تَعَالَى أَبَا وخامسها لم سميتم إِرَادَة الله تَعَالَى روح الْقُدس على أَن ظَاهر كَلَامه يدل على أَن السؤالين الْأَخيرينِ إِنَّمَا هما راجعان إِلَى الْمَسِيح أَلا ترى أَنه أعَاد الضَّمِير أعنى ضمير سميتموه عَلَيْهِ لكنه لم يرد هَذَا وَيدل عَلَيْهِ أَنه لم يسم أحد مِنْهُم الْمَسِيح أَبَا وَلَا روح الْقُدس وَإِنَّمَا سموهُ إبنا فَتَارَة يَقُولُونَ عَلَيْهِ ابْن الله وَتارَة ابْن الْإِنْسَان وَأما روح الْقُدس فقد تقدم فِي اصْطِلَاح هَذَا السَّائِل أَنه أَرَادَ بِهِ الْإِرَادَة وَمن اصْطِلَاح غَيره أَنه أَرَادَ بِهِ الْحَيَاة وَلم يقل قطّ أحد مِنْهُم أَن الْمَسِيح أتحدت بِهِ إِرَادَة الله وحياته وَلم يقل قطّ أحد مِنْهُم أَن الْمَسِيح اتّحدت بِهِ إِرَادَة الله وحياته فَلَمَّا وَجه على نَفسه هَذِه الأسئلة الَّتِي لم يشْعر بِوَجْه لُزُومهَا وَلم ينْفَصل عَن شَيْء مِنْهَا أَخذ بعد ذَلِك بِزَعْمِهِ يتفضل بِكَلَام لَا يلتئم وَلَا يتَّصل فأسهب فِي التّكْرَار والترداد فَصَارَ كَلَامه لذَلِك أبرد من حَدِيث معاد ثمَّ قَالَ فِي الْجَواب مَا كَانَ قد فرغ مِنْهُ وَلَقَد كَانَ يَسْتَغْنِي عَنهُ قد قدمنَا أَن الأقانيم الثَّلَاثَة إِنَّمَا سميت بالإبن والآب وروح الْقُدس لاخْتِلَاف القضايا الثَّلَاث فأضيف الْخلق إِلَى الْقُدْرَة وسمى أَبَا وأضيفت الموعظة إِلَى الْعلم وسمى إبنا وَهَذَا كَلَام مُكَرر مُسْتَغْنى عَنهُ فِي جَوَاب مَا سَأَلَ عَنهُ إِذْ لاتعلق لَهُ بِهِ وَإِنَّمَا الْكَلَام الَّذِي يُمكن أَن يكون جَوَابا لبَعض مَا سَأَلَ عَنهُ هُوَ قَوْله إنفردت قَضِيَّة الْوَعْظ باللحمة دون غَيرهَا لِأَن الْمَسِيح إِنَّمَا اتخذ فِي الدُّنْيَا للموعظة وسكنت فِينَا لَا لخلق الخليقة وَلذَلِك قَالَ الْإِنْجِيل التحمت الْكَلِمَة وسكنت فِينَا هَذَا مُقْتَضى كَلَامه فِي الإنفصال 2 بعد تلفيق مبدد وتهذيب مثبج الْمقَال وَمَعَ هَذَا فَكَلَام هَذَا السَّائِل لَا يقبل التلفيق من صانع فَإِن الفتق اتَّسع على الراقع وَبعد تَقْرِير هَذَا نقُول قد تقدم جوابك عَن أَكثر هَذَا الْفَصْل فِيمَا تقدم حَيْثُ تكلمنا فِي الأقانيم وعَلى أَسمَاء الْأَفْعَال وعَلى التَّثْلِيث وعَلى القضايا الثَّلَاث بِمَا أغْنى عَن إِعَادَته فَمن أَرَادَ أَن يتَحَقَّق فَسَاد هَذَا الْكَلَام فليعد نظرا

فِيمَا تقدم وَإِنَّمَا الْكَلَام مَعَك هُنَا على قَوْلك إِنَّمَا اتّحدت بالمسيح الْكَلِمَة الَّتِي هِيَ الْعلم لِأَن الْمَسِيح اتخذ للموعظة كَيفَ يتَمَكَّن عَاقل من أَن يَقُول هَذَا الَّذِي ذكرته وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام قد اتَّخذهُ الله تَعَالَى لابراء الأكمه والأبرص وإحياء الْمَوْتَى وَخلق الطير من الطين وَهَذِه الْأُمُور كلهَا لَا يُمكن أَن تقع إِلَّا بِالْقُدْرَةِ والإرادة فَقولُوا أَنَّهُمَا اتحدتا بِهِ وَلَا فرق بَينهمَا وَبَين الْعلم لَوْلَا مَحْض الْجَهْل والتحكم لاسيما وَقد جَاءَ فِي بعض كتبهمْ أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ قدرته قدرتي ومشيئته مشيئتي أَو قُولُوا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يفعل هَذِه الْأُمُور الخارقة للْعَادَة بِغَيْر قدرَة فيلزمكم أَن يَفْعَلهَا بِغَيْر علم ثمَّ يلزمك على مساق كلامك أَن يكون كل من اتخذ للموعظة من الْأَنْبِيَاء وَالْعُلَمَاء أَن يتحد بلحمة الإبن وَأما قَوْلك إِن الله لَو اتخذ جسما ليخلق بِهِ الْخلق لسمى ذَلِك الْجِسْم أَبَا فَهُوَ الزام مَالا يلْزم فَإِن الله تَعَالَى قد اتخذ الأَرْض وَالْمَاء والهواء وَالنَّار ليخلق بهم الخلوقات وَلَا يلْزم من ذَلِك أَن يكون أَبَا وَلَا أَن يُسمى أَبَا وَهِي أجسام وَأما قَوْلك فَلذَلِك قَالَ الْإِنْجِيل التحمت الْكَلِمَة وسكنت فِينَا فَلَقَد خَالَفت التَّنْزِيل وحرفت التَّأْوِيل فَهَلا عَلَيْك سترت على مكرك وَلم تلبس على نَفسك وخصمك ولأي شَيْء لم تذكر الْكَلَام من أَوله وتسوقه على مَنَازِله أتظن أَن الْمُسلمين لَيْسُوا بكتبكم عارفين وَلَا لتحريفكم وتلبيسكم منتهين تالله لقد فيهم من تعرف مِنْهَا الْحق الَّذِي لَا تعرفُون ويتحقق مِنْهَا الْحق الَّذِي لَا تعرفُون ويتحقق مِنْهَا مَا أَنْتُم فِيهِ تشكون وَيعلم مِنْهَا مَا أَنْتُم بِهِ جاهلون وَمن ذَلِك أَن هَذَا الْكَلَام الَّذِي حكيته عَن الْإِنْجِيل وسلكت بِهِ مَسْلَك التجهيل هُوَ فِي إنجيل يوحنا بن سبداي المصور بزعمكم بِصُورَة عِقَاب يَقُول عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام من يقبله مِنْهُم وآمن بإسمه أَعْطَاهُم سُلْطَانا ليكونوا أَوْلَاد الله وهم الَّذين لم يتولدوا من دم وَلَا شَهْوَة لُحُوم وَلَا شَهْوَة رجل لَكِن تَوَالَدُوا من

الله فالتحمت الْكَلم وسكنت فِينَا ورأينا عَظمته كعظمة ولد الله الْفَرد المحشو رضوانا وصدقا هَذَا مساق كَلَامه فِي الْإِنْجِيل وَهَذَا الْكَلَام لَا يسْتَدلّ على مَا ذكرت وَلَا على غَيره حَتَّى يعلم أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ الَّذِي قَالَه وَلَيْسَ هُوَ فِي الْإِنْجِيل مَرْفُوعا إِلَى عِيسَى وَلَا مُسْندًا إِلَيْهِ وَلَا مخبرا بِهِ عَن الله تَعَالَى وغايته إِن صَحَّ أَن يكون مَوْقُوفا على يوحنا وَمن قَوْله وحاشا عَن قَول مثله ثمَّ لَو سلمنَا ذَلِك فَلَيْسَ بمعصوم فَإِن الْعِصْمَة إِنَّمَا ثبتَتْ للأنبياء أَو لمن أخبر الْأَنْبِيَاء عَنْهُم أَنهم معصومون وَهَذَا لَيْسَ بِنَبِي وَلَا بلغ عَن الْأَنْبِيَاء بطرِيق قَاطع أَنه مَعْصُوم وَسَيَأْتِي الْكَلَام على هَذَا فِي بَاب النبوات إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَبِتَقْدِير أَنه مَعْصُوم فكتابكم قَابل للتحريف والتغيير فَإِنَّهُ لم تكمل فِيهِ شُرُوط التَّوَاتُر فَإِنَّهُ رَاجع إِلَى أَخْبَار آحَاد لَا تفِيد علما على مَا نبينه وعَلى التَّقْرِيب إِن أناجيلكم إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَة عَن أَرْبَعَة كل وَاحِد مِنْهُم لَا يُفِيد خَبره الْعلم بِأَنَّهُ خبر وَاحِد وَمَعَ ذَلِك فَلَو أَنهم تواردوا على نقل خبر وَاحِد لَكَانَ نقلهم لَا يُفِيد الْيَقِين فَإِن الْخَبَر الَّذِي يحصل بِهِ الْعلم الْيَقِين إِنَّمَا هُوَ الْمُتَوَاتر حَقِيقَة الْخَبَر الْمُفِيد للْعلم بالمخبر عَنهُ الَّذِي تحيل الْعَادة على ناقليه الْغَلَط والتواطؤ على الْكَذِب على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله وعَلى تَسْلِيم أَنه لَا يقبل التَّغْيِير وَلَا التحريف فَهَذَا الْكَلَام لَيْسَ بِنَصّ قَاطع بل هُوَ مُحْتَمل للتأويل وتأويله معضود بسياقة اللَّفْظ وَذَلِكَ أَن مساق هَذَا الْكَلَام يقتضى أَن كل من آمن بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام

فَإِنَّهُ توالد من الله والتحمت الْكَلِمَة بِهِ وسكنت فِيهِ وَلذَلِك قَالَ وَلَكِن تَوَالَدُوا من الله فالتحمت بِالْكَلِمَةِ وسكنت فِينَا فَإِن كنت تُرِيدُ أَن تستدل بِهَذَا اللَّفْظ على أَن الْكَلِمَة اتّحدت بالمسيح خَاصَّة فَلَيْسَ لَك فِيهِ دَلِيل بل يدل ظَاهره على أَن كل من آمن بِهِ التحمت الْكَلِمَة بِهِ وسكنت فِيهِ وَهَذَا شَيْء لَا تَقولُونَ بِهِ وَلَا يذهب إِلَيْهِ أحد مِنْكُم فَهَلا عَلَيْكُم فهمتم كِتَابه وتدبرم خطابه ورددتم آخر الْكَلَام على أَوله حَتَّى تعرفوا نَصه من مؤوله على أَنه لَو كَانَ نصا قَاطعا لَا يحْتَمل التَّأْوِيل لما كَانَ يَنْبَغِي لعقل أَن يَقُول بِمُقْتَضَاهُ فَإِن الإتحاد محَال قطعا على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى إِذْ تكلمنا على حَقِيقَة الإتحاد والحلول وَأما قَوْله فأفرد الْكَلِمَة بالإلتحام لِأَنَّهَا الواعظة بِالْأَمر والنهى فَقَوْل لم يقلهُ الْإِنْجِيل وَلَا دلّ عَلَيْهِ ظَاهر وَلَا تَأْوِيل وَغَايَة مَا فِي الْإِنْجِيل أَن الْكَلِمَة التحمت وَلَيْسَ فِيهِ لِأَنَّهَا الواعظة فَمن عرفك أَن الْكَلِمَة اتّحدت لهَذِهِ الْعلَّة بل لَعَلَّهَا التحمت لعِلَّة أُخْرَى لم تعلمهَا أَنْت وَلَا غَيْرك لَعَلَّهَا التحمت لَا لعة بل لنَفسهَا وَإِنَّمَا نزلنَا فِي هَذَا الْمحل على تَسْلِيم الإلتحام وَإِن كَانَ بَاطِلا بالبرهان ليتبين أَن هَذَا الْمَذْهَب هذيان وَأما قَوْله لِأَنَّهَا الواعظة بِالْأَمر والنهى فَقَوْل من لَا يعرف فرق مَا بَين الْأَمر والنهى والوعظ وَلَا حصل من الشَّرْع وَلَا من الْعقل على حَظّ فَإِن الْوَعْظ مُخَالف لِلْأَمْرِ والنهى بحقيقته ومقصوده إِذْ قد يعظ الْوَاعِظ من غير أَمر وَلَا نهى وَينْهى وَيَأْمُر وَلَا يعظ فهما أَمْرَانِ مفترقان غير متلازمين على مَا يعرف فِي مَوْضِعه وَأما قَوْله فَهَذَا أخصر شرح الإتحاد فالسين مَوضِع الصَّاد أليق إِذْ الخسران إِلَيْهِ أقرب وَبِه ألزق لِأَنَّك أوهمت أَنَّك شرحت وأوضحت واختصرت وأوجزت بل أخللت وطوت وبفائدة مَا أتيت وَكَيف تصح لَك هَذِه الدَّعْوَى وَقد قلت كلَاما لَا فَائِدَة لَهُ وَلَا جدوى دَلِيل ذَلِك أَنَّك اعترضت على نَفسك بإعتراضات كَثْرَة ثمَّ إِنَّك حدت عَن الْجَواب وَلم تأت بفصل خطاب بل أتيت بِكَلَام يشْهد عَلَيْك عِنْد الْعُقَلَاء بالبلادة وقله التَّحْصِيل وَعدم الإجادة

وَقد كَانَ يَنْبَغِي لَك أَن تبين حققة الإتحاد والحلول وَتبين فرق مَا بَين مَذْهَب الرّوم فِيهِ وَبَين مَا بِهِ تَقول وَتبين الْفرق بَينه وَبَين الإختلاط والإمتزاج وَبعد ذَلِك تستدل على صِحَة وُقُوعه وعَلى اخْتِصَاص عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام بِهِ دون غَيره من الْأَنْبِيَاء فَلَو فعلت ذَلِك حِينَئِذٍ كَانَ يَنْبَغِي لَك أَن تَدعِي أَنَّك شرحت وأوضحت وَأما الْآن فقد جهلت وافتضحت

الفصل الثاني

الْفَصْل الثَّانِي معنى الإتحاد من حِكَايَة كَلَامه أَيْضا قَالَ فَإِن سَأَلَ سَائل عَن معنى الإتحاد قُلْنَا نقُول بذلك تقليدا للإنجيل والنبيين ورسل رب الْعَالمين فِيمَا نقلوا من ذَلِك وأعلموناه عَمَّن الله وَفِيمَا نَص لنا عَنْهُم تَصْدِيق الْأَخْبَار الَّذِي لَا تكاذب فِيهَا فَإِن قلت وَكَيف يجوز أَن يتوحد الْقَدِيم بالحادث والخالق بالمخلوق قُلْنَا على تَقْلِيد الْكتاب وعَلى الْجَائِز فِي الْعُقُول وَذَلِكَ أَنا لَا نقُول إِن الْقَدِيم فِي الْجَوْهَر صَار حَادِثا وَلَا الْحَادِث فِي الْجَوْهَر صَار قَدِيما وَلَكنَّا نقُول صَار الْحَادِث إِلَهًا وَلَا نقُول صَار الْإِلَه حَادِثا كَمَا نقُول صَارَت الفحمة نَارا وَلَا نقُول صَارَت النَّار فَحْمَة فَإِن قلت فَمَا عِلّة هَذَا الإتحاد قيل لَك الْإِرَادَة وسائلك هَذَا كسائل يسْأَل فَقَالَ لم خلق الله الْعَالم فَمن الْجَواب لَهُ أَن يُقَال لَهُ أَرَادَ ذَلِك فَإِن قلت أَفَهَذَا الإتحاد قديم أَو حَادث قيل لَك قديم وحادث فَإِن قلت فَكيف يكون قَدِيما وحادثا قيل لَك قديم بِالْقُوَّةِ حَادث بِالْفِعْلِ وكل عِنْده حَاضر لِأَنَّهُ تبَارك وَتَعَالَى لَا تَأْخُذهُ الْأَزْمَان وَلَا يعد الْأَشْيَاء بالأعداد وكل عِنْده حَاضر مُقيم الْجَواب عَنهُ هَذَا كَلَام تمجه الأسماع وتنفر عَنهُ الطباع سَأَلَ فِيهِ قَائِله عَن حَقِيقَة الإتحاد وَمَعْنَاهُ فَأَجَابَهُ بِالدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَمَا جرى مجْرَاه وَمن حق الإنفصال أَن يكون مطابقا للسؤال فَكَانَ يلزمك لما سُئِلت عَن معنى الإتحاد أَن تجيب بحده وَحَقِيقَته ثمَّ بعد ذَلِك تستدل على صِحَّته ووجوده إِن صَحَّ ذَلِك وَأمكن الإستدلال هُنَالك

أما قَوْلك فِي جَوَاب من سَأَلَك عَن الإتحاد وَحَقِيقَته نقُول بذلك تقليدا للإنجيل والنبيين ورسل رب الْعَالمين فَكَلَام غير متين لَا يصدر مثله عَن عقل رصين لتعلم يَا هَذَا أَن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام صَادِقُونَ مصدقون والصادق مَا يخبر بِصِحَّة مَا يعلم بالعقول فَسَاده وإستحالته فَإِن الصَّادِق لَا يُنَاقض قَوْله دَلِيل الْعقل وَلَا يُعَارضهُ بل يصدقهُ وَيشْهد بِصِحَّتِهِ فَلَو فَرضنَا شخصا جَاءَ بِأَمْر معجز فِيمَا يرى وَادّعى أَنه أرْسلهُ الله لنا ليخبرنا أَن الثَّلَاثَة وَاحِد من حَيْثُ هِيَ ثَلَاثَة وَأَن الْوَاحِد ثَلَاثَة من حَيْثُ أَنه وَاحِد وَفهم ذَلِك مِنْهُ بِنَصّ لَا يقبل التَّأْوِيل لبادر الْعُقَلَاء إِلَى تَكْذِيبه ولعلموا أَن مَا أظهره على جِهَة المعجزة إِنَّمَا هِيَ حِيلَة ومخرقة لِأَن المعجزة إِنَّمَا هِيَ دَلِيل الصدْق وَلَا يقلب دَلِيل الصدْق دَلِيل الْكَذِب وَكَذَلِكَ لَو قَالَ إِن الضدين يَجْتَمِعَانِ بعد مُرَاعَاة شُرُوط التضاد وَكَذَلِكَ لَو أخبر أَن الله تَعَالَى يقلب جوهرا عرضا ولونا وطعما إِلَى غير ذَلِك من أَنْوَاع المحالات وَمن هَذَا الْقَبِيل هُوَ مَا ادعيتم من الإتحاد وسيتبين إِن شَاءَ الله وَبعد هَذَا فَلَو فَرضنَا نَبينَا علمنَا صدقه على الْقطع تكلم بِشَيْء من هَذَا فَيكون ذَلِك الْكَلَام لَا يدل على ذَلِك الْمَعْنى دلَالَة قَاطِعَة بل دلَالَة مُحْتَملَة أَو ظَاهِرَة فسبيلنا أَن نتأول إِن وجدنَا وَجها للتأويل أَو نتوقف على تَأْوِيله إِن لم نجد لَهُ محملًا فِي التَّأْوِيل مَعَ أَن الْعقل يعلم اسْتِحَالَة الظَّاهِر ويكل معرفَة بَاطِنه إِلَى الله تَعَالَى فَإِن الشَّرَائِع وَإِن لم تأت بِمَا يُخَالف الْعُقُول فقد تَأتي مِمَّا تقصر الْعُقُول عَن دركه وَفرق بَين يُعلمهُ الْعُقَلَاء بَين الْعلم بالإستحالة وَبَين عدم الْعلم بالإستحالة فَإِن عدم الْعلم بالإستحالة لَا يلْزم مِنْهُ نفى الْجَوَاز وَلَا إثْبَاته ولانفى الْوُجُوب وَلَا إثْبَاته وَهَذَا مِمَّا لَا خَفَاء بِهِ عِنْد الْعُقَلَاء وَأما قَوْلك وعَلى الْجَائِز فِي الْعُقُول فَيَنْبَغِي لنا أَن نَسْأَلك هُنَا أسئلة تبين أَنَّك بِمَا ادعيت جهول فَنَقُول لَك مَا حد الْعقل أَولا وَمَا حد الْجَائِز الْعقلِيّ وَمَا حَقِيقَته وَكم أقسامه وَمَا حد الْوَاجِب

الْعقلِيّ وَكم أقسامه وَمَا حد الْمحَال الْعقلِيّ وَكم أقسامه فَإِذا فرغت من جَوَاب هَذِه الْمسَائِل سألناك هَل أَحْكَام الْعقل تَنْحَصِر فِي هَذِه الثَّلَاثَة أم تزيد عَلَيْهَا أم تنقص عَنْهَا ولعمري مَا يَنْبَغِي أَن تَتَكَلَّم مَعَ من لَا يعرفهَا وَأعلم على الْقطع والثبات أَنَّك لَا تعرفها وَلَا قَرَأت على من يفهمها وَإِلَّا فَالْجَوَاب وَإِن لم تجب وَإِلَّا فَيظْهر أَنَّك من دينك على شكّ وإرتياب ثمَّ نقُول كَيفَ يتجاسر عَاقل أَن يَقُول إِن علم الله تَعَالَى الَّذِي هُوَ صفته ولازم لَهُ وقديم أزلي حل فِي جَسَد إِنْسَان حَادث بعد أَن لم يكن حَالا فِيهِ وَمَعَ أَنه حل فِيهِ فَهُوَ لم يُفَارق الله تَعَالَى وَلَوْلَا الله تَعَالَى سلبكم عقولكم وإبتلاكم بظلمة التَّقْلِيد الَّذِي أفْضى بكم إِلَى مُكَابَرَة الْعُقُول وإنكار الْبِدَايَة لما وجد مثل هَذَا الْمَذْهَب مُسْتَقرًّا فِي قلب مَجْنُون فَأجرى فِي قلب غافل وَلَكِن لله تَعَالَى سر فِي أبعاد بعض الْعباد {وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد} وَأما قَوْلك إِنَّا لَا نقُول أَن الْقَدِيم فِي الْجَوْهَر صَار حَادِثا وَلَا الْحَادِث فِي الْجَوْهَر صَار قَدِيما وَلَكنَّا نقُول صَار الْحَادِث إِلَهًا فَهَذَا القَوْل مِنْك يدل على أَنَّك تَقول بحلول الْحَادِث فِي الْجَوْهَر وإتحاده بِهِ وَلم يقل بِهَذَا قطّ أحد من الْمَخْلُوقَات وَهَذَا أشنع وأقبح وأمحل من إتحاد الْقَدِيم بالحادث وحلوله فِيهِ وَهَذَا الَّذِي ذكرت أَنه يلزمك يدل عَلَيْهِ قَوْلك وَلَا الْحَادِث فِي الْجَوْهَر صَار قَدِيما فنفيت عَن الْحَادِث الْقدَم وأبقيت عَلَيْهِ الْحُلُول فِي الْجَوَاهِر وَهَذَا بَين بِنَفسِهِ من كلامك ثمَّ هَذَا الَّذِي فَرَرْت مِنْهُ يلزمك وَذَلِكَ أَنا نقُول هَذَا الْقَدِيم الْحَال لَا يَخْلُو أَن يكون حَالا فِي ناسوت الْمَسِيح قبل خلق الْمَسِيح أَو لم يكن فَإِن كَانَ حَالا فِيهِ قبل خلقه كَانَ محالا وباطلا بِالضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ قبل خلقه مَعْدُوم وَالْمَوْجُود لَا يحل فِي الْمَعْدُوم وَإِن كَانَ حُلُوله فِي ناسوته بعد خلقه فَقبل خلقه لم يكن حَالا فقد حدث لَهُ حُلُول وَقد صَار حَالا بعد أَن لم يكن حَالا وَيلْزم على هَذَا أَن تقوم الْحَوَادِث بالقديم وَهُوَ محَال فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى حُدُوثه على مَا يعرفهُ أَرْبَاب النّظر وَأما قَوْلك صَار الْحَادِث إِلَهًا فَكَلَام تشمئز مِنْهُ النُّفُوس

وَيشْهد لقائله بِالْوَيْلِ والعكوس وَكَيف لَا يستحي الْعَاقِل من مثل هَذَا الْكَلَام الَّذِي وَالله هُوَ عَار على الْأَنَام وَكَيف يتَصَوَّر أَن يعقل الإلهية لمحدث مَخْلُوق يحزن تَارَة ويفرح أُخْرَى ويجوع تَارَة ويشبع أُخْرَى ويتبول ويتغوط وتظفر بِهِ أعداؤه ويعذبونه بِالضَّرْبِ والإهانة والشوك والصلب وَالْقَتْل بزعمكم وَهُوَ مَعَ ذَلِك يَقُول {اعبدوا الله رَبِّي وربكم} وَيَقُول لكم إِذا صليتم فَقولُوا يَا أَبَانَا السماوي تقدس اسْمك وَقرب ملكك وَيَقُول إِن الله وَحده وَلَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَيَقُول لإبليس إِنَّمَا أمرت أَن تعبد السَّيِّد إلهك وَحده وَيَقُول حِين قرب رَفعه وأعلمه الله بِهِ سيلقى ابْن الْإِنْسَان مَا كتب لَهُ يعْنى نَفسه ثمَّ تقدم وَسجد على الأَرْض ودعى أَن يزاح عَنهُ مَا هُوَ فِيهِ وَقَالَ يَا أبتاه إِنَّك قَادر على جَمِيع الْأَشْيَاء فرج عني هَذِه الكأس وَقَالَ فِي إنجيل لوقا يَا أبتاه إِن كَانَت هَذِه الكأس لَا تقدر تجاوزني حَتَّى أشربها فلتكن إرادتك

وَمن اطلع على أناجيلكم علم على الْقطع أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام برِئ مِمَّا تَدعُونَهُ بِهِ وتنسبونه إِلَيْهِ وستلقونه بَين يَدي الله فِي الْوَقْت الَّذِي يَقُول الله تبَارك وَتَعَالَى {يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم أَأَنْت قلت للنَّاس اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله} فيتبرأ من ذَلِك القَوْل فَيَقُول {سُبْحَانَكَ مَا يكون لي أَن أَقُول مَا لَيْسَ لي بِحَق إِن كنت قلته فقد عَلمته تعلم مَا فِي نَفسِي وَلَا أعلم مَا فِي نَفسك إِنَّك أَنْت علام الغيوب مَا قلت لَهُم إِلَّا مَا أَمرتنِي بِهِ أَن اعبدوا الله رَبِّي وربكم وَكنت عَلَيْهِم شَهِيدا مَا دمت فيهم فَلَمَّا توفيتني كنت أَنْت الرَّقِيب عَلَيْهِم وَأَنت على كل شَيْء شَهِيد} وَقد جَاءَنَا على لِسَان من دلّت المعجزة بصدقه أَن الله تَعَالَى إِذا حشر الْخَلَائق فِي صَعِيد وَاحِد يعْنى يَوْم الْقِيَامَة فَيُقَال لِلنَّصَارَى مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ فَيَقُولُونَ كُنَّا نعْبد الْمَسِيح ابْن الله فَيَقُول لَهُم كَذبْتُمْ مَا اتخذ الله من صَاحبه وَلَا ولد ثمَّ يُقَال لَهُم أَلا تردون فيحشرون إِلَى جَهَنَّم كَأَنَّهَا سراب يحطم بَعْضهَا بَعْضًا فَالله الله أدْرك بَقِيَّة نَفسك قبل حُلُول رمسك وَاسْتعْمل سديد عقلك وَلَا تعول على تَقْلِيد فَاسد نقلك وَاتبع الدّين القويم دين الْأَب إِبْرَاهِيم فَمَا كَانَ {يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفا مُسلما وَمَا كَانَ من الْمُشْركين} فَالله يعلم أَنِّي أنظر إِلَيْك وَإِلَى كَافَّة خلق الله بِعَين الرَّحْمَة وأسأله هِدَايَة من ضل من هذة الْأمة وأتأسف على الأباطيل الَّتِي ينتحلون فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي النبوات كَلَام على حقائق الْملَل وَتبين الهداة والضالين من ذَوي النَّحْل وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَأما قَوْلك كَمَا نقُول صَارَت الفحمة نَارا وَلَا نقُول صَارَت النَّار فَحْمَة فتمثيل لَيْسَ بِمُسْتَقِيم وَلَا جَار على مَنْهَج قويم وَذَلِكَ

أَن الفحمة مهما صَارَت نَارا فقد حدثت النارية وانعدمت الفحمية وَلَيْسَ هَذَا مُسَاوِيا لِقَوْلِك صَار الْحَادِث إِلَهًا فَإِن الشَّيْء الَّذِي صَار بِهِ الْحَادِث إِلَهًا عنْدكُمْ هُوَ قديم فَكيف تشبهه بالنارية الطارئة وَهِي حَادِثَة وَإِن ساويت بَينهمَا لزمك أَن يكون الْحَال فِي الناسوت حَادِثا أَو النارية قديمَة فترتفع الفحمية وَهُوَ محَال بِالضَّرُورَةِ وَأما قَوْلك فَإِن قلت فَمَا عِلّة هَذَا الإتحاد قيل لَك الْإِرَادَة فَهَذَا قَول فَاسد فَإِن الْإِرَادَة إِنَّمَا يَصح تعلقهَا بالجائزات وَلَا يَصح تعلقهَا بالمحالات والإتحاد محَال فَلَا تتَعَلَّق بِهِ الْإِرَادَة على مَا نقرره إِن شَاءَ الله إِذا نقلنا مَذَاهِب أقستكم فِي هَذَا الْمَعْنى وتكلمنا مَعَهم عَلَيْهَا وَأما قَوْلك فِي جَوَاب سَائِلك عَن الإتحاد هَل حَادث أَو قديم حَيْثُ قلت إِنَّه قديم وحادث فَقَوْل لم يقل بِهِ مُؤمن وَلَا ناكث فَإِن الْجمع بَين الْقدَم والحدوث مِمَّا يعلم فَسَاده بضرورة الْعقل فَإِن معنى الْقَدِيم الَّذِي لَا أول لوُجُوده والحادث هُوَ الَّذِي لوُجُوده أول وَالْجمع بَين نفى الأولية وَإِثْبَات الأولية محَال وَأما قَوْلك قديم بِالْقُوَّةِ حَادث بِالْفِعْلِ فَكَلَام لَيْسَ لَهُ أصل إِذْ لَا يعقل الْعُقَلَاء فِي الْقدَم قُوَّة وَلَا فعلا فَإِن الْقدَم من أَسمَاء السلوب وَالْقُوَّة وَالْفِعْل فَإِنَّمَا يتواردان عِنْد الْقَائِلين بهما على الصِّفَات الوجوديات وعَلى عدمهَا مَعَ إِمْكَان وجودهَا ثمَّ إِنَّا نَسْأَلك عَن حد الْقُوَّة وحقيقتها وَمَا الْفرق بَينهمَا وَبَين الْإِمْكَان وَهل هِيَ مَوْجُودَة وَعَن حد الْفِعْل وَمَا حَقِيقَته فَإنَّك تَكَلَّمت بِمَا سمعته وَمَا حصلته وَلَا وعيته وَأما قَوْلك وكل عِنْده حَاضر مُقيم فَكَلَام حق ومقال صدق إِن كنت أردْت بحاضر أَنه مَعْلُوم وَقد أَخْطَأت بإدخالك مُقيم فِي هَذَا الْمَعْنى فَإِن الْمُقِيم إِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذ من أَقَامَ بالموضع إِذا ثَبت فِيهِ فَإِن أردْت هَذَا الْمَعْنى لزمك أَن تكون المعدومات الممكنة مَوْجُودَة عِنْده فِي حَال عدمهَا وَذَلِكَ محَال وَإِن أردْت غَيره فَكَانَ يَنْبَغِي لَك أَن تبين مرادك فَإنَّك لم تَتَكَلَّم بِهِ على مُقْتَضى كَلَام الْقَوْم الَّذين تعاطيت التَّكَلُّم بلسانهم

ثمَّ قَوْلك لِأَنَّهُ تبَارك وَتَعَالَى لَا تَأْخُذهُ الْأَزْمَان ذكرته موهما أَنَّك تستدل بِهِ على أَنه تَعَالَى عَالم بِجَمِيعِ الْأُمُور مُحِيط بِالْكُلِّ وَلَا يدل ذَلِك على مَا أردته وَإِلَّا فكونه قَابلا للزمان أَو غير قَابل للزمان مَا الْمُنَاسبَة بَينه وَبَين كَونه عَالما بِجَمِيعِ المعلومات أَو بِبَعْضِهَا وَلَا بُد أَن يسْأَل عَن الزَّمَان مَا هُوَ وَهل هُوَ مَوْجُود أَو مَعْدُوم فَإِن كَانَ مَوْجُودا فَهَل هُوَ جَوْهَر أَو عرض وَإِن كَانَ جوهرا أَو عرضا فَهَل هُوَ فِي زمَان أوليس فِي زمَان فَإِن لم يكن فِي زمَان فلتستغن الموجودات كلهَا عَن زمَان وَيلْزم عَلَيْهِ إِثْبَات موجودات لَيْسَ بزمانية غير الْبَارِي تَعَالَى وتقدس وَذَلِكَ محَال على مَا تقرر وَإِن كَانَ فِي زمَان فَهَل ذَلِك الزَّمَان فِي زمَان ويتسلسل فَلَا بُد لَك من علم هَذِه الْمسَائِل إِن أردْت أت تلْحق بالصنف الْعَاقِل وَمن أَرَادَ أَن يعلم فليرحل على الرَّأْس والقدم وَأما قَوْلك وَلَا يعد الْأَشْيَاء بالأعداد فيفهم مِنْهُ أَن المعلومات لَا تَتَعَدَّد عِنْده وَإِذا لم تَتَعَدَّد المعلومات عِنْده لَا تتَمَيَّز جزئياتها وَإِذا كَانَ ذَلِك فَإِنَّمَا يعلم الْأُمُور على وَجه كلي وَهُوَ مَا تَقوله الفلاسفة وَأهل الشَّرَائِع كلهم مطبقون على أَن الله تَعَالَى يعلم جزئيات الْأُمُور وَإِن دقَّتْ على التَّفْصِيل وَمن لم يقل هَذَا يحكم عَلَيْهِ فِي كل مِلَّة بالتكفير والتضليل فَأَنت يَا هَذَا فِي أَكثر كلامك بَين أَمريْن إِمَّا أَن تنكر الضروريات أَو تكفر بالشرعيات فنسأل الله تَعَالَى أَن ينور بصائرنا ويسدد أحوالنا وأمورنا وَأَن لَا يَجْعَل وبالا علينا أَعمالنَا وأقوالنا أَنه سميع الدُّعَاء قريب مُجيب

الفصل الثالث

الْفَصْل الثَّالِث الْوَاسِطَة بَين الله وَبَين مُوسَى من حِكَايَة كَلَام السَّائِل قَالَ ثمَّ نقُول لمن ناظرني من بَاقِيَة الْمُسلمين إِن كتابكُمْ يَقُول إِن مُوسَى سمع الله وَكَلمه تكليما فَكيف كَانَ ذَلِك وَأَنْتُم قد أعجزتم جَمِيع الحاسات من إِدْرَاكه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لِأَنَّهُ لَا مفطور وَلَا مشبه بِشَيْء مِمَّا يتَصَوَّر فِي الأوهام فَإِن قُلْتُمْ إِنَّه كَلمه بِذَاتِهِ فقد أوجبتم لَهُ جارحة النُّطْق ووقعتم فِيمَا أنكرتموه من الْجِسْم وَإِن قُلْتُمْ إِن الله خلق لَهُ كلَاما فقد أثبتم كلَاما مخلوقا قَائِما بخلقه جوهرا فِي نَفسه إِذْ لم يكن عرضا فِي الله قَالَ لمُوسَى {أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدني} وأثبتم أَن الْكَلَام وَاسِطَة بَين الله وَبَين مُوسَى وَأَن مُوسَى أقرّ بالربوبية لقَوْله {رب أَرِنِي أنظر إِلَيْك} وَقَول الصدى الَّذِي هُوَ الْمُتَكَلّم لَهُ {لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدني} فَإِن قلت أَن الصدى لم يقل لَهُ أَنا الله وَلكنه فِي مسامع مُوسَى أَنا الله قلت لَك أَن الصدى هُوَ الْعَامِل فِي مسامع مُوسَى وَهُوَ المحرك لَهُ وَعَلِيهِ رد وإياه أجَاب وَالدَّلِيل على أَنه كَانَ فِي غَفلَة فَمَا كَانَ يُرِيد الله من إرْسَاله إِلَى فِرْعَوْن حَتَّى خلق لَهُ نَارا أبصرهَا فَنزع إِلَيْهَا فَلَمَّا أَتَاهَا أحجب الله لَهُ فِيهَا صدى قَالَ لَهُ {أَنا الله} و {لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدني} إِلَّا أَن تَقولُوا إِن مُوسَى قد كَانَ يعرف مَا كَانَ يُرِيد الله من إرْسَاله إِلَى فِرْعَوْن دون النَّار وَالْكَلَام فَيكون خبر النَّار وَالْكَلَام لَا معنى لَهما وخبرهما لم يفد شَيْئا

الجواب عنه

وَهَذَا من القَوْل تشنيع الْكَذِب وَإِذا لم يكن بُد من أَن مُوسَى لم يدْرك الْمُرْسل لَهُ إِلَّا بِوَاسِطَة اتَّحد لَهُ يُسمى بإسمه فالواسط هُوَ الْعَامِل فِي مُوسَى وَعنهُ تحمل الرسَالَة حَتَّى يَأْتِي فِرْعَوْن بِمصْر وَيَقُول إِن الله ترَاءى لي بطور سيناء وبعثني إِلَيْك لترسل معي بني إِسْرَائِيل وَلَا تُعَذبهُمْ مجددا الْموضع الَّذِي أقبل مِنْهُ من عندالله وَكَانَ الله بِمصْر وَفِي كل مَكَان وَلَا كَانَ يعجز مُوسَى عَن معرفَة الْأَمر والنهى إِلَّا بِكَلَام مَحْدُود من جسم مفطور خلق الله لَهُ نَارا أبصرهَا فَنزع إِلَيْهَا ثمَّ أحجب فِيهَا صدى سَمعه مِنْهَا قَامَ عِنْده مقَام خَالق فَسَماهُ إِلَهًا الْجَواب عَنهُ أما قَوْلك ثمَّ نقُول لمن ناظرني من بَاقِيَة الْمُسلمين فلتعلم يَا هَذَا أَنَّك غَلطت فِي نَفسك وغفلت عَن حَسبك حَيْثُ ظَنَنْت أَنَّك مِمَّن يستحسن مناظرته أحد من الْمُسلمين للَّذي أمروا بِهِ من الْأَعْرَاض عَن الْجَاهِلين وَكَيف وَأَنت لَا يمكنك النُّطْق بِكَلَام فصيح وَلَا تقدر على نظر صَحِيح وأنى لَك بمناظرتهم وَلم تسلك شَيْئا من طريقتهم وَكَيف يمكنك النّظر مَعَهم وَأَنت لم تعرف طَرِيقه وَلَا التزمت شُرُوطه فوحق دين الْإِسْلَام الَّذِي هُوَ دين إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام لقد وددت أَن تكون من عقلاء الْأَنَام لتعرف قدر مَا يلقى من الأسئلة عَلَيْك وَمَا يكْتب بِهِ من الحكم إِلَيْك فَلَعَلَّ مُقَلِّب الْقُلُوب يستنقذك من عبَادَة إِلَه مصلوب ويبدلك بهَا إخلاص الْعِبَادَة لعلام الغيوب وَلَوْلَا رَجَاء ذَلِك لما كَانَ يَنْبَغِي لي أَن أعْطى الْحِكْمَة غير أَهلهَا كَمَا لَا يَنْبَغِي أَن أسمعها من هُوَ من أَهلهَا وَأما قَوْلك إِن كتابكُمْ يَقُول إِن مُوسَى سمع الله وَكَلمه تكليما فَكيف يسوغ لَك أَن تجنح بِمَا أَنْت مُنكر لأصله وَلَا تعترف بِأَنَّهُ كَلَام الله وَأَنت مُنكر لتصديق من جَاءَ بِهِ فَلَا يحل لَك أَن تحتج لنَفسك وَلَا لغيرك بِمَا تعتقد أَنه كذب وَأما نَحن فيمكننا أَن نحتج عَلَيْكُم وعَلى الْيَهُود بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيل لأَنا نعتقد أَن الله تَعَالَى أنزل التَّوْرَاة على مُوسَى وَالْإِنْجِيل على عِيسَى وهما هدى قبل أَن يغيرا ويبدلا وينسخا بِغَيْرِهِمَا

وَأما الْيَوْم بعد أَن ثَبت عندنَا مَا ذكرته فَلَا نحتج بِشَيْء مِنْهُمَا على جِهَة انتزاع الْأَحْكَام فَإِن الله تَعَالَى قد أخرجنَا بِالنورِ من الظلام وهدانا لما اختلفتم فِيهِ من الْحق بنبينا مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام وسنبين إِن شَاءَ الله مَا يدل على صدقه من المعجزات وواضح الدلالات ثمَّ نقُول إِن الله تَعَالَى كلم مُوسَى بِكَلَامِهِ الَّذِي هُوَ صفته وسَمعه مُوسَى بالإدراك الَّذِي خلقه الله لَهُ وقولك كَيفَ ظلم وحيف إِذْ سؤالك بكيف فِي هَذَا الْمحل دَلِيل على أَنَّك جَاهِل بمطلبها فَيَنْبَغِي لَك أَن تعلم أَن صِيغ المطالب كَثِيرَة وَهِي مَعَ كثرتها لَا يتَوَجَّه شَيْء مِنْهَا على الله تَعَالَى وعَلى صِفَاته وَذَلِكَ أَن من صِيغ المطالب مَا وَأي وَلم وَكَيف وَمَتى وَأَيْنَ وَغَيرهمَا مِمَّا فِي مَعْنَاهَا وَلَا يتَوَجَّه على الله تَعَالَى بِشَيْء مِنْهَا لِاسْتِحَالَة مَعَانِيهَا على الله تَعَالَى فَلَا تسْأَل عَنهُ ب مَا وَلَا ب أَي إِذْ لَا جنس لَهُ وَلَا فصل وَلَا ب لم إِذْ لاعلة لَهُ وَلَا أصل وَلَا ب مَتى إِذْ هُوَ مُقَدّر الزَّمَان وَلَا ب أَيْن إِذْ هُوَ خَالق الْمَكَان وَلَا ب هَل إِذْ لانشك فِي وجوده وَهُوَ خالقنا وَلَا ب كَيفَ إِذْ لايناسب جوده وَلَا صِفَاته شَيْئا من أحوالنا وأوصافنا وجوده إثْبَاته وإثباته ذَاته وَعلمه كل شَيْء صنعه وَلَا عِلّة لصنعه لَا يتَوَجَّه لمخلوق عَلَيْهِ حق وَلَا يعجزه خلق {لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} ثمَّ نقُول وَمِمَّا يبين لَك أَنه يَصح السُّؤَال بكيف هُنَا لِأَن المطب بكيف إِنَّمَا هُوَ سُؤال عَن حَال مَوْجُود يُنَاسب حَال السَّائِل بكيف فَإِذا قلت كَيفَ زيد إِنَّمَا مَعْنَاهُ على أَي حَال هُوَ من الْأَحْوَال الَّتِي تناسب أحوالنا فِي حَال صِحَة 2 أَو فِي حَال مرض أَو فِي حَال علم أَو فِي حَال جهل إِلَى غير ذَلِك من أَحْوَاله الْمُنَاسبَة لأحوالنا فَإِذا قلت كَيفَ سمع مُوسَى كَلَام الله فكأنك قلت على أَي حَالَة سمع مُوسَى كَلَام الله من الْأَحْوَال الَّتِي نَكُون نَحن عَلَيْهَا حِين يسمع بَعْضنَا من بعض وَنحن والعقلاء الَّذِي يعْرفُونَ مَا يجب لله

وَمَا يجوز وَمَا يَسْتَحِيل فِي حَقه يعلمُونَ بالبراهين القاطعة أَنه يَسْتَحِيل أَن يسمع مُوسَى كَلَام الله على شَيْء من الْأَحْوَال الَّتِي يسمع عَلَيْهَا بَعْضنَا من بعض على مَا نبينه إِن شَاءَ الله فعلى هَذَا إِذا سَأَلنَا سَائل كَمَا سَأَلت أَنْت قُلْنَا لَهُ السُّؤَال عَن الله تَعَالَى وَصِفَاته ب كَيفَ ظلم وحيف فَإِن الظُّلم وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه وَقد سَأَلت ب كَيفَ فِي مَوضِع لَا مدْخل لَهَا فِيهِ فتأدب مَعَ الله قبل حُلُول عِقَاب الله فَإِن من لم يسْتَعْمل مَعَ الله الْأَدَب فقد اسْتحق التَّعَب وَحرم الرتب وَمن لم يستنكر هَذَا الْكَلَام لحق بالبهائم والهوام فَإِنَّهُ لَو سَأَلَك عنين لم يذقْ قطّ لَذَّة الْجِمَاع وَقَالَ لَك كَيفَ أدْركْت أَنْت لَذَّة الْجِمَاع لَكَانَ الْجَواب يصعب عَلَيْك وَلم يمكنك تفهيمه إِذْ لم يذقْ لَذَّة الْجِمَاع وَكَذَلِكَ كل من لم يسمع كَلَام الله كَمَا سَمعه مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَهُوَ كالعنين بِالْإِضَافَة إِلَى إِدْرَاك الْكَلَام الْقَدِيم إِذْ لم يسمعهُ وَلَا اتّصف بالإدراك الَّذِي اتّصف بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وكما لَا يُقَال كَيفَ يسمع الله كَلَام الْخلق كَذَلِك لَا يُقَال كَيفَ يسمع كَلَامه أحد من الْخلق وكما لَا يُقَال كَيفَ يرى الله الْخلق كَذَلِك لايقال كَيفَ يرَاهُ الْخلق فَإِن الْكَيْفِيَّة محَال على الله تَعَالَى وعَلى صِفَاته من جَمِيع الْوُجُوه وَلَوْلَا خوف الْإِكْثَار وَأَنا وَضعنَا هَذَا الْكتاب على الإختصار لملأت صدرك من عَظمَة الله تَعَالَى إِن كنت عَاقِلا حَتَّى يتَبَيَّن لكم أَنكُمْ لم تعرفوا الله حق مَعْرفَته وَلَا قدرتموه حق قدره وَأما قَوْلك فَإِن قُلْتُمْ أَنه كَلمه بِذَاتِهِ فقد أوجبتم لَهُ جارحة النُّطْق ووقعتم فِيمَا أنكرتموه من الْجِسْم فَلَا يلْزم من هَذَا كُله شَيْء وَإِنَّمَا كَانَ يلْزمنَا هَذَا لَو قُلْنَا إِن الله تَعَالَى كَلمه بِصَوْت وحرف يخرج من لَهَوَات ويقطعه لِسَان وَنحن لَا نقُول بِشَيْء من ذَلِك بل نقُول إِن الله تَعَالَى مُتَكَلم بِكَلَام هُوَ وصف قَائِم بِذَات الله لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت وَهَذَا مَعْقُول مَفْهُوم فَإنَّا نحس من أَنْفُسنَا كلَاما قَائِما بذواتنا فنتحدث بِهِ مَعَ أَنْفُسنَا لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت وَهَذَا مِمَّا يجده الْإِنْسَان من نَفسه بِالضَّرُورَةِ وَيكون الْحَرْف وَالصَّوْت دالين على ذَلِك الْمَعْنى الَّذِي فِي النَّفس وَهَذَا لاستحالته فِي كَلَام بناسبه

من بعض الْوُجُوه لله تَعَالَى لَكِن على الْقدر الَّذِي يجوز فِي حَقه تَعَالَى وَإِنَّمَا ذكرنَا لَك أَنْفُسنَا مِثَالا لذَلِك على جِهَة التأنيس كَمَا أَنا نقُول حَقِيقَة الْعلم وَاحِدَة فِي الْقَدِيم والحادث ونعنى بذلك إنكشاف الْمَعْلُوم لِأَن الْعلم الْقَدِيم يشبه الْحَادِث فَافْهَم وَهَذَا كُله يتَبَيَّن فِي مَوْضِعه وَيعرف بدليله فعلى هَذَا الأَصْل الَّذِي قَرَّرْنَاهُ نقُول الْكَلَام الَّذِي سَمعه مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ كَلَام الله الْقَدِيم الْقَائِم بِذَات الله الَّذِي لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت فَإِن قُلْتُمْ كَيفَ يسمع مَا لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت قُلْنَا الْجَواب عَنهُ قد تقدم إِذْ لَا يَصح السُّؤَال عَنهُ ب كَيفَ لِاسْتِحَالَة شَرط السُّؤَال بهَا ثمَّ نقُول سلمنَا جدلا أَنه يَصح السُّؤَال ثمَّ يكون الْجَواب عَنهُ أَن تَقول يسمع مَا لَيْسَ بِصَوْت وَلَا حرف كَمَا يعلم مَوْجُود لَيْسَ بجوهر وَلَا عرض وكما يرى الله الْخلق وَلَيْسَ بِذِي حدقة وَلَا عين وكما يسمع أَصْوَاتهم وَلَيْسَ بِذِي صماخ وَلَا أذن وكما يعلم وَلَيْسَ بِذِي قلب وَلَا دماغ وكما يرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ فِي الدَّار الْآخِرَة كَرَامَة لَهُم وَلَيْسَ بِذِي جسم وَلَا لون فَكَمَا تصح هَذِه الْأُمُور كلهَا وَإِن كَانَت مستبعدة بِالْإِضَافَة إِلَى أوهامنا فِي حق الله تَعَالَى فَكَذَلِك يَصح أَن يسمع مُوسَى مَا لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت ثمَّ نقُول للَّذي لَا تبقى مَعَه حسيكة فِي النَّفس وَلَا استبعاد فِي الْوَهم إِن الله تَعَالَى خلق لمُوسَى إدراكا لكَلَامه الْقَدِيم وصل بِهِ إِلَى تَحْصِيل مَفْهُوم كَلَام الله تَعَالَى وَمرَاده مِنْهُ فَسمى ذَلِك الْإِدْرَاك سَمَاعا وَعبر عَنهُ بسمع كَمَا أَنا نجوز أَن يكرم الله من شَاءَ من أصفياء خلقه بِأَن يطلعهم على بعض مَا فِي نفوس بعض النَّاس من غير تَعْبِير عَنهُ بِصَوْت وَلَا حرف وَذَلِكَ كَمَا فِي بعض كتبكم أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أعلم بعض الحواريين عَمَّا فِي نَفسه وَلَو عبر عَن ذَلِك بِأَن يُقَال سمع عِيسَى كَلَام ذَلِك الرجل لَكَانَ صدقا وَحقا وَهَذَا كُله جَائِز عقلا لَا اسْتِحَالَة فِيهِ فَإِن قيل كَيفَ يَنْبَغِي لَك أَن تَقول إِن الله تَعَالَى مُتَكَلم بِكَلَام لَيْسَ بِصَوْت وَلَا حرف وَقد جَاءَ فِي التَّوْرَاة أَن الله تكلم بِصَوْت

لآدَم وحواء وَذَلِكَ أَنَّهُمَا لما طفقا يلفقان ورق التِّين ليسترا بهما عورتهما فسمعا صَوت الله الرب يتمشى فِي الفردوس إِلَى أَن قَالَ فَدَعَا الرب آدم وَقَالَ أَيْن أَنْت يَا آدم وَقَالَ آدم سَمِعت صَوْتك فِي الفردوس فَرَأَيْت أَنى عَار فاستترت واستخفيت وَهَذَا يدل على أَن لله تَعَالَى صَوتا وَهُوَ خلاف مَا ذكرت فيلزمك على هَذَا تَكْذِيب التَّوْرَاة أَو تَقول بمقتضاها فترجع عَمَّا قلته آنِفا فَنَقُول مَا أمرنَا بِهِ نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام عِنْدَمَا تحدثونا بِشَيْء آمنا بِاللَّه وَكتبه وَرُسُله وَبعد ذَلِك نقُول فِي التَّوْرَاة بِمثل مَا قُلْنَاهُ فِي الْإِنْجِيل أَو قَرِيبا مِنْهُ فجدد بِهِ عهدا وَفِيه نظرا ثمَّ إِن سلمنَا صِحَّتهَا فَلَيْسَ فِي هَذَا الَّذِي ذكرته مَا يدل على أَن الله تَعَالَى مُتَكَلم بِحرف وَصَوت وَإِنَّمَا الظَّاهِر مِنْهُ أَن آدم سمع حس مَشى الله فِي الفردوس أَلا ترى قَوْله فسمعا صَوت الرب يتمشى فِي الفردوس هَذَا هُوَ الظَّاهِر من هَذَا اللَّفْظ وَأَنْتُم لَا تَقولُونَ بِهِ وَلَا نَحن وَإِن كَانَت الْيَهُود أَو أَكْثَرهَا قد قَالَت بِمُقْتَضى ظَاهره فجسمت وَأَنْتُم إِن قُلْتُمْ بِظَاهِرِهِ يلزمكم مَا لَزِمَهُم فَإِذن هَذَا اللَّفْظ مؤول عنْدكُمْ وَعِنْدنَا أعنى من المتشابهات الَّتِي يعلمهَا الراسخون فِي الْعلم فَمَا لم يستقم جعله على ظَاهره تأولتموه أَنْتُم وصرفتموه عَن ظَاهره وقلتم أَن هَذَا إِنَّمَا يُرَاد بِهِ كَلَام الله تَعَالَى الَّذِي هُوَ حرف وَصَوت عنْدكُمْ وَهُوَ فعل من أَفعَال الله تَعَالَى عنْدكُمْ وَإِلَى نَحْو من هَذَا صَار أغشتين وَإِذا تأولتم أَنْتُم هَذَا اللَّفْظ وأخرجتموه عَن ظَاهره فَنحْن نخرجهُ عَن ظَاهره بِتَأْوِيل آخر أحسن من تأويلكم لَا يلْزم عَلَيْهِ شَيْء من المحالات الَّتِي تلزمكم وسنبينها إِن شَاءَ الله وَلنَا فِي ذَلِك تَأْوِيلَانِ أَحدهمَا أَن الله تَعَالَى خلق صَوتا فِي بعض طرق الفردوس

يشبه صَوت الْمَاشِي وَهُوَ الَّذِي يُسمى بِلِسَان الْعَرَب الهمس والخشخشة فَلَمَّا سمع آدم ذَلِك الصَّوْت تنبه لمخاطبة الله تَعَالَى ولحضوره مَعَه ثمَّ أضَاف الصَّوْت إِلَى الله تَعَالَى لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تنبه آدم عِنْده لمحاضرة الله وَكَأن آدم كَانَ فِي غَفلَة لشدَّة حزنه وعظيم مَا حل بِهِ وَهَذَا كَمَا يعتري الْوَاحِد منا إِذا كَانَ ملهوفا بِأَمْر هائل فَإِنَّهُ يشْتَغل بِنَفسِهِ بل ويغفل عَن حسه ثمَّ قد يتَنَبَّه عِنْد سَماع صَوت شَيْء وحس إِنْسَان فَيرجع عِنْد ذَلِك لنَفسِهِ ويتنبه لمن مَعَه وعَلى هَذَا التَّأْوِيل يكون فِي يتمشى ضمير يعود على الصَّوْت فَكَأَنَّهُ قَالَ يتمشى الصَّوْت فِي الفردوس لَا على الله إِذْ يَسْتَحِيل على الله تَعَالَى ظَاهر المشى وَمَفْهُومه السَّابِق مِنْهُ وَهَذَا تَأْوِيل حسن سَائِغ عِنْد الْمنصف والتأويل الثَّانِي أَن الصَّوْت يُرَاد بِهِ الْكَلَام الْقَائِم بِذَاتِهِ وَإِن كَانَ لَيْسَ بِصَوْت فَيجوز أَن يُسَمِّيه صَوتا لِأَنَّهُ يُمكن أَن يدل عَلَيْهِ بالصوت كَمَا نقُول إِن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام سمع كَلَام الله الْقَائِم بِذَاتِهِ بِمَعْنى أدْركهُ وفهمه بِإِدْرَاك خص بِهِ مُوسَى ثمَّ عبر مُوسَى عَنهُ لنا بِصَوْت مقطع إِذْ لَيْسَ فِي قوتنا إِدْرَاك مَا لَيْسَ بِصَوْت وبقريب من ذَلِك نقُول نَحن فِي الْقُرْآن وَهَذَا النَّوْع من التَّأْوِيل نوع جَائِز جَار فِي الْكَلَام فَإِنَّهُ تَسْمِيَة الشَّيْء بِمَا يدل عَلَيْهِ كَمَا تَقول سَمِعت علم فلَان وَإِنَّمَا سَمِعت كَلَامه الَّذِي دلّ على علمه وَالْكَلَام لَيْسَ هُوَ الْعلم وعَلى هَذَا التَّأْوِيل يكون فِي الفردوس مُعَلّقا ب سمعا لَا ب يتمشى وَيكون معنى يتمشى يبلغ وَالْبُلُوغ عبارَة عَن الْإِدْرَاك الَّذِي بِهِ أدْرك كَلَام الله تَعَالَى يَعْنِي سَمعه وَكَذَلِكَ قَوْله سَمِعت صَوْتك فِي الفردوس أَي وَأَنا فِي الفردوس وَلَو كنت تعرف لِسَان الْقَوْم الَّذين ترجمت التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل بلغتهم لذكرت لَك من هَذَا أَمْثِلَة كَثِيرَة وَفِي الْقَلِيل المبصر غنية عَن الْكثير فَهَكَذَا يَنْبَغِي لَك وَلكُل عَاقل أَن يفهم تَأْوِيل الصَّوْت الَّذِي وَقع فِي التَّوْرَاة ولعمري لَا يبعد أَن يتَأَوَّل تأويلات أخر جاريات على السّنَن القويم والمنهج الْمُسْتَقيم وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ مقنع للعاقل فَتدبر فهمك الله مَا ذكرته وَلَا تعتقد فِي الله تَعَالَى أَنه مُتَكَلم بِصَوْت مُحدث فَإِن ذَلِك محَال

وَنحن نبين استحالته مستعينين بِاللَّه ومتوكلين عَلَيْهِ فَنَقُول من المتقرر الثَّابِت عِنْد المشرعين كلهم أَن الله تَعَالَى مُتَكَلم وَمن لم يعول فِي ذَلِك على مَا أخْبرت بِهِ الرُّسُل وَلَا وَافق على الشَّرَائِع أُقِيمَت عَلَيْهِ القواطع الَّتِي لَا يردهَا إِلَّا معاند وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكرهَا فَإِذا تقرر ذَلِك فَنَقُول إِمَّا أَن يكون متكلما بِصَوْت أَو بِغَيْر صَوت فَإِن كَانَ متكلما بِصَوْت فَذَلِك الصَّوْت إِمَّا أَن يكون قَائِما بِهِ أَو قَائِما بِغَيْرِهِ أولاقائما بِهِ وَلَا قَائِما بِغَيْرِهِ محَال أَن يكون قَائِما بِهِ فَإِن الصَّوْت لَا يكون مُفِيدا حَتَّى يتقطع بالحروف وَتلك التقطيعات لَا بُد أَن تكون حَادِثَة فَيلْزم عَلَيْهِ أَن يكون محلا للحوادث وَإِذا كَانَ محلا للحوادث لم يخل عَنْهَا وَإِذا لم يخل عَنْهَا كَانَ حَادِثا مثلهَا على مَا تحقق فِي مَوْضِعه وَذَلِكَ كُله محَال على الله تَعَالَى وَإِن قَامَ بِغَيْرِهِ فَذَلِك الْغَيْر يكون الْمُتَكَلّم بِهِ سَوَاء كَانَ ذَلِك الْمحل جمادا أَو حَيَوَانا فَإِن قُلْنَا إِنَّه يجوز قِيَامه بجسم جماد وَإِن جَازَ أَن قوم الصَّوْت بِمحل وَيكون الْبَارِي تبَارك وَتَعَالَى متكلما بِهِ جَازَ أَن تقوم صفة بِمحل وتوجب حكمهَا لمحل آخر فَيلْزم على ذَلِك أَن تقوم حَرَكَة بجسم يكون جسما آخر متحركا بهَا وَيقوم بِمحل لون وَيكون مَحل آخر متصفا بِهِ وَذَلِكَ كُله محَال بِالضَّرُورَةِ وَيلْزم عَلَيْهِ أَن يكون الْبَارِي تَعَالَى متكلما بِمَا يقوم بِنَا من كلامنا الى غير ذَلِك من المحالات وباطل أَن يُقَال لايقوم بِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ يكون قَائِما بِنَفسِهِ وَخرج عَن كَونه صفة زَائِدَة على النَّفس وَإِذا بطلت هَذِه الثَّلَاثَة الْأَقْسَام وَهُوَ مَا قدمنَا ذكره وَمن أَرَادَ مزيدا فليرحل ويرتد للحق بعد أَن يبْحَث وَيسْأل وَإِذا ثبتَتْ هَذِه الْقَاعِدَة الْوَثِيقَة الْعَظِيمَة الأنيقة الَّتِي لَا يعرف قدرهَا وَلَا عظم خطرها إِلَّا من نور الله بِنور الْيَقِين بصيرته وَأصْلح بجزيل التَّوْفِيق سَرِيرَته بَطل مَا أملتموه وَلم يلْزم شَيْء مِمَّا ألزمتموه وَلَا تمّ لكم شَيْء مِمَّا أردتموه فَإِن جملَة مَا تُرِيدُ أَن تَقوله فِي هَذَا الْفَصْل أَن الله تَعَالَى مُتَكَلم

بِصَوْت وَأَن مُوسَى سمع بذلك الصَّوْت وَهُوَ يَقُول {أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدني} وَذَلِكَ الصَّوْت غير الله وَمَعَ ذَلِك خاطبه مُوسَى بقوله {رب أَرِنِي أنظر إِلَيْك} وَقد اعْترف لَهُ مُوسَى بالربوبية فَكَذَلِك الْمَسِيح فِي قَوْله أَنا الله صَادِق إِذْ قد اتَّخذهُ وَاسِطَة بَينه وَبَين خلقه كَمَا اتخذ جسم النَّار وَالْكَلَام وَاسِطَة بَينه وَبَين مُوسَى فَيَنْبَغِي لنا أَن نعترف بربوبيته كَمَا اعْترف مُوسَى بربوبيه الصَّوْت وَهَذَا الهذيان كُله الَّذِي ذكرته وليتك مَا أنحلته الَّذِي وَالله لَا شرع يعضده وَلَا عقل يقبله ويريده مبْنى على أَن الله تَعَالَى مُتَكَلم بِصَوْت وَقد أبطلناه فَبَطل كل ذَلِك وَمَعَ ذَلِك فلنتكلم على أَجزَاء كلامك بعد أَن بَينا جملَة مقصودك ومرامك حَتَّى يتَبَيَّن أَنكُمْ لَسْتُم على شَيْء مِمَّا يَنْتَحِلهُ الْعُقَلَاء بل يتبرأ مِنْهُ الْفُضَلَاء فَنَقُول أما قَوْلك وَإِن قُلْتُمْ إِن الله خلق لَهُ كلَاما فقد أثبتم كلَاما مخلوقا قَائِما بخلقه جوهرا فِي نَفسه فَنَقُول بعد أَن أبطلنا الصَّوْت الَّذِي ترومون الْبناء عَلَيْهِ نسلمه لكم جدلا ونبين بعد ذَلِك أَنه لَا يلْزم شَيْء مِمَّا ذكرته إِذْ لَا يلْزم من تَقْدِير صَوت الله تَعَالَى عَن ذَلِك مَخْلُوق أَن يكون الصَّوْت قَائِما بِنَفسِهِ جوهرا فَإِن الصَّوْت إِنَّمَا حَقِيقَته أَنه صفة لموصوف وَعرض فِي مَحل وَالْعرض لَا يَنْقَلِب جوهرا فَإِن قلت فيلزمك أَن يكون عرضا قَالَ لَك الْمُجيب وَمَا الَّذِي يلْزم مِنْهُ إِن كَانَ عرضا فَإِن قلت يلْزم مِنْهُ أَن يكون الْعرض هُوَ الَّذِي قَالَ لمُوسَى {أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدني} وَالصَّوْت لَا يتَكَلَّم وَإِنَّمَا يتَكَلَّم بِهِ قُلْنَا لَك جوابك أَن الصَّوْت لَا يتَكَلَّم عَن نَفسه وَإِنَّمَا يتَكَلَّم بِهِ كَمَا قلت أَنْت ثمَّ يلزمك أَنْت إِن جعلته جوهرا غير الله تَعَالَى أَن يكون هُوَ الَّذِي قَالَ عَن نَفسه {أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا} وَله اعْترف مُوسَى بالربوبية لَا الله وَله سجد لَا الله وَإِذا انْتهى إِنْسَان إِلَى هَذِه المخازي فقد كفر بمُوسَى وباإله مُوسَى نَعُوذ بِاللَّه من أنظار تقود فِي الدُّنْيَا إِلَى الفضيحة والعار وَفِي الْآخِرَة إِلَى الخلود فِي عَذَاب النَّار وعَلى هَذَا الْكفْر الصَّرِيح يدل قَوْلك إِن مُوسَى أقرّ لَهَا بالربوبية تُرِيدُ للواسطة وَإِذا أقرّ لَهَا بالربوبية وَلم يعرف قطّ من مُوسَى عَلَيْهِ

السَّلَام أَنه أقرّ بالربوبية لالهين فقد اعْترف بربوبية الْوَاسِطَة وَأنكر ربوبية الله وَكَذَلِكَ يفعل الله بِكُل مُسْرِف مرتاب أعاذنا الله من الإختلال المفضى بِصَاحِبِهِ إِلَى الضلال ثمَّ هَذِه الْمخَارِق بلزم مِنْهَا قلب الْحَقَائِق فَإِن الصَّوْت لَا يقوم بِنَفسِهِ وَلَا بخلقه وَالْقَائِل بذلك يشْهد الْعُقَلَاء بحمقه فَإِن حَقِيقَته صفة لموصوف يستدعى وجودهَا محلا كَمَا سَائِر الصِّفَات إِذْ لايعقل قيام صفة بِنَفسِهَا بل بغَيْرهَا وَهَذَا ضَرُورِيّ وَأما قَوْلك فَإِن قلت إِن الصدى لم يقل لَهُ أَنا الله وَلكنه كَانَ فِي مسامع مُوسَى أَنا اللة قلت لَك ان الصدى هُوَ الْعَامِل فِي مسامع مُوسَى وَهُوَ المحرك لَهُ وَعَلِيهِ رد واياه أجَاب فيلزمك على هَذَا الِانْفِصَال أَن يكون مُوسَى رَسُول الصدى لَا رَسُول الله وَعَلِيهِ يدل كلامك وَعنهُ تحمل الرسَالَة لَا عَن الله وَإِذا كَانَ كَذَلِك فقد كذبت مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام على مَا يلزمكم حَيْثُ قَالَ لفرعون أَنا رَسُول الله فَإِن كَانَ بزعمك رَسُول الصدى فَإِذا كَانَ الصدى يَقُول أَنا الله ويعترف لَهُ مُوسَى بالربوبية وَيَأْمُر لمُوسَى بتبليغ رسَالَته فَقولُوا أَن الصدى إِلَه وأضيفوه إِلَى آلِهَتكُم الْمُتَقَدّمَة فَيكون عَددهمْ خَمْسَة وَذَلِكَ أَن الأقانيم الثَّلَاثَة عنْدكُمْ آلِهَة وَعِيسَى إِلَه رَابِع والصدى إِلَه خَامِس ومنكم طائقة تدعى أَن مَرْيَم إِلَه فَتكون الْآلهَة عِنْد هَذِه الطَّائِفَة سِتَّة وَإِذا انْتهى عقل إِنْسَان يَقُول هَذِه المخازي بِلِسَانِهِ وَلَا يشْعر بهَا سَقَطت مكالمته وَوَجَبَت مجانبته وَلَا معنى لتطويل الْكَلَام مَعَ من يرتكب ذَلِك الهذيات فقد تمّ للشَّيْطَان فيهم أمله وأنجح مَعَهم سَعْيه وَعَمله وَمَعَ هَذَا ف {إِنَّمَا يستجيب الَّذين يسمعُونَ والموتى يَبْعَثهُم الله ثمَّ إِلَيْهِ يرجعُونَ} وَيَنْبَغِي أَن يتَعَدَّى أَكثر كَلَام هَذَا السَّائِل مِمَّا هُوَ ظَاهر الْفساد ولعلنا نصل إِلَى مَا هُوَ المهم وَالْمرَاد من نقل مَذَاهِب الْمُتَقَدِّمين أعنى المطارق والقسيسين إِذْ كَلَامهم يُمكن أَن يعقل أعنى ينفهم ويتحصل وَلَا بُد مَعَ ذَلِك من نقل كَلَام هَذَا السَّائِل ليعلم النَّاظر فِيهِ أَنه لَيْسَ تَحْتَهُ طائل وَأَن الْمُتَكَلّم بِهِ لَيْسَ بعاقل

الفصل الرابع

الْفَصْل الرَّابِع تجسد الْوَاسِطَة من حِكَايَة كَلَامه قَالَ فَإِذا لم يكن بُد من الصدى فقد قَالَ أَنا الله فأسألك إِن كنت تصدق الصدى أم تكذب فَإِذا لم يكن بُد من تَصْدِيقه فِي قَول الربوبية إِذْ قَالَ {أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدني} قُلْنَا لكم وَكَذَلِكَ صدق الْمَسِيح فِي قَوْله أَنا الله وانا لنرى كَذَا صدق الحواريون وَمن اتبعهُ من غَيرهم فِي قَوْله فِي الربوبية كتصديق مُوسَى للْكَلَام وَألا يتمارى لَهُ برسالته إِلَى أهل مصر وَقد أوجبتم أَن جسم الْمَسِيح وَكَلَامه لما خطب بالربوبية مثل جسم النَّار وَالْكَلَام إِذا خَاطب مُوسَى بالربوبية فَإِن قلت إِن مُوسَى لم يعبد النَّار كَمَا تعبد النَّصَارَى الْمَسِيح قيل لَك إِن الْكَلَام قَالَ لَهُ اعبدني وَسجد لَهُ مُوسَى وَقَالَ {تبت إِلَيْك وَأَنا أول الْمُؤمنِينَ} فَإِن قَالَ الْمُسلم عِنْد الإضطرار إِن النَّار والصدى وَاسِطَة وَلكنهَا خلاف الْمَسِيح وَكَلَامه لِأَن النَّار لَيْسَ من طبعها الْكَلَام وَأما الْمَسِيح فَإِنَّهُ كَانَ إنْسَانا مَعْرُوفا بالْكلَام فَلَا آيَة فِيهِ قُلْنَا لَك إِذْ قد أوجبتم أَن الخليقة لَا تدْرك الْخَالِق إِلَّا بجسم مَخْلُوق تتخذه وتجعله وَاسِطَة بَينه وَبَين من خَاطب من الْأَنْبِيَاء وَيصير الْوَاسِطَة لَهُم إِلَهًا فقد جامعتموه على الْإِقْرَار بِوَاسِطَة مَخْلُوق بالربوبية للمسيح ووقعتم فِيمَا أنكرتم وَلَيْسَ ينفعكم ملجؤكم إِلَى القَوْل بِأَن النَّار والمسيح لَيْسَ آيَة وَإِنَّمَا أوجبتم علينا الشّرك فِي قَوْلنَا بِوَاسِطَة فَإِذن الْعقل وَالْحق لَا يعيب الواسط فكلا الواسطين بَين الله والخلق

وَإِذا ذهبتم إِلَى أَن النَّار صَادِقَة لَا يتخوف عَلَيْهَا الْكَذِب وَأَن الْمَسِيح يتخوف عَلَيْهِ الْكَذِب فَإِن مُوسَى قد أوجز فِي النَّار وَالْكَلَام وَإِنَّمَا قطع الشَّك بِالْيَقِينِ بِآيَة الْعَصَا وَالْيَد الَّذِي أدخلها فِي جيبه وَكَذَلِكَ قطع الْمُؤْمِنُونَ بربوبية الْمَسِيح شكهم بِإِقْرَار الْمَوْتَى عِنْد إحيائه لَهُم بربوبيته وَإِن ذهبتم إِلَى أَن خلق النَّار فِي ذَاتهَا أشرف فَإِن كل مَخْلُوق فِي الدُّنْيَا هُوَ مَنَافِع لولد آدم مسخرة لَهُم وَكفى بقولكم فِي قرآنكم إِن الله أَمر الْمَلَائِكَة بِالسُّجُود لآدَم وَأَن ابليس مسخوط عَلَيْهِ فِي الْأَبَد لابائه السُّجُود لَهُ وَقَوله {أَنا خير مِنْهُ خلقتني من نَار وخلقته من طين} فَإِن قُلْتُمْ كَذبْتُمْ على الْمَسِيح لِأَنَّهُ لم يدع مِمَّا قُلْتُمْ شَيْئا قُلْنَا إِنَّمَا أنكرتم علينا القَوْل بِمَا وجدنَا فِي كتَابنَا نَحن لَا نستدل بِمثل هَذَا فِي الْأَبَد فاضررناكم من كتابكُمْ إِلَى القَوْل بِمثلِهِ فَلَمَّا أَبينَا قُلْتُمْ كَذبْتُمْ على الْمَسِيح فَلم تكذبونا وَكِتَابنَا على القَوْل بِمثل قَوْلكُم فِي وَاسِطَة مُوسَى وعبادته لَهَا وَأَنْتُم لما أوجبتم أَن الْأمة تحاسب بعملها يَوْم الْقِيَامَة أَن محاسبها يخاطبها يَوْم الْقِيَامَة ويكافئها بأعمالها ثمَّ يَقُول قرآنكم {وَجَاء رَبك وَالْملك صفا صفا} فَمَا تنكرون أَن يكون الْمَسِيح الَّذِي كَانَ وَاسِطَة للوعظ أَن يكون هَذَا الْمقبل مَعَ الْمَلَائِكَة كَمَا قدمه فِي الْإِنْجِيل حَيْثُ قَالَ يقْعد ابْن الْإِنْسَان يَعْنِي الْحجاب الْمُتَّخذ من نسل آدم فِي مجْلِس عَظمته وَتقدم جَمِيع الْأُمَم بَين يَدَيْهِ ويميزهم كَمَا يُمَيّز الرَّاعِي الْغنم من الْمعز فَيحمل الْمُؤمنِينَ عَن يَمِينه والمجرمين عَن شِمَاله ثمَّ يعاتبهم ويأمن كل طَائِفَة بِمثل مَا قدمُوا فِي دنياهم وَإِذا أوجبتم أَن الله لَا مفطور وَلَا مدرك بحاسة فقد وَجب أَن المحاسب المسموع مدرك بالحواس مَعَ إقراركم أَن ربكُم قَالَ ترَوْنَ

الجواب عما ذكره

ربكُم وَلَا تضَامون فِي رُؤْيَة الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر أَو لم تنكرون أَن يكون الْمَسِيح الَّذِي كَانَ واسطا للوعظ أَن يكون هُوَ الْمقبل مَعَ الْمَلَائِكَة كَمَا قَالَ عَنهُ قرآنكم {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة وَقضي الْأَمر وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور} الْجَواب عَمَّا ذكره اعْلَم يَا هَذَا الْمُتَكَلف فِي بغيته المتعسف فِي تَأْوِيل دينه أَنَّك قلت فِي هَذَا الْفَصْل من الْبَاطِل وَالْكفْر مَالا حجَّة لَهُ وَلَا أصل خَالَفت فِيهِ دين النَّصَارَى الْمُتَقَدِّمين وَلم تعرج على مَذَاهِب القسيسين بل رغبت عَن مِلَّة أئمتك لل مطارين فَوَجَبَ على أهل ملتك أَن يعدوك فِي الخارجين وَمن الْجُهَّال المبتدعين وَذَلِكَ أَنَّك زعمت أَن الَّذِي قَالَ لمُوسَى {أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدني} إِنَّمَا كَانَ الصدى وَلم يكن الله تَعَالَى وَزَعَمت أَن مُوسَى اعْترف للصدى بالربوبية وَأَنه هُوَ الَّذِي كلم مُوسَى وإياه حَارب وَعنهُ تحمل الرسَالَة حَتَّى اتى فِرْعَوْن وَأَن ذَلِك الصدى قَامَ عِنْد مُوسَى مقَام خالقه فَسَماهُ إِلَهًا وَزَعَمت أَن مُوسَى سجد لذَلِك الصدى وَأَنه هُوَ الذى سَأَلَ مُوسَى رُؤْيَته وَلذَلِك زعمت أَن مُوسَى قَالَ للصدى تبت إِلَيْك وَأَنا أول للْمُؤْمِنين فَإِذا كَانَ للصدى فَلَا حَاجَة لمُوسَى وَلَا لأحد إِلَى الله تَعَالَى فَإِنَّهُ لم يقل لَا إِلَه إِلَّا أَنا وَإِنَّمَا قَالَهَا الصدى والصدى صَادِق بزعمك فقد بطلت إلهية الله تَعَالَى وَثبتت الهية الصدى وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَلم لَا تَعْبدُونَ هَذَا الصدى الَّذِي عَبده مُوسَى وَسجد لَهُ وَتَابَ لَهُ بعد أَن اعْترف بربوبيته وَمَا بَال حبقوق النَّبِي لم يعبد هَذَا الصدى كَمَا عَبده مُوسَى وَلم يذكرهُ وَلم يعْتَرف بربوبيته وَكَذَلِكَ مَا بَال حزقيال لم يعبد هَذَا الصدى كَمَا عَبده مُوسَى وَلم يذكرهُ وَلم يعْتَرف بربوبيته وَكَذَلِكَ أشعياء وَيحيى وَعِيسَى وَغَيرهم من الْأَنْبِيَاء والحواريون مَا بالهم لم يعبدوا مَا عبد مُوسَى وَسجد لَهُ واعترف بربوبيته وَأَنه لَا رب سواهُ فَهَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاء والأولياء أما أَن يَكُونُوا علمُوا أَنه إِلَه إِلَّا الصدى كَمَا قَالَ الصدى بزعمك أَو جهلوا ذَلِك فَإِن كَانُوا

علمُوا فلأي شَيْء لم يعترفوا بذلك وسكتوا عَنهُ إِذْ لم يَصح قطّ عَن وَاحِد مِنْهُم أَنه قَالَ لَا إِلَه لكم إِلَّا الصدى فليزمكم أَن يكون سكوتهم عَن ذَلِك أما عَن جحد أَو تلبيس فَإِن كَانُوا علمُوا الْحق فجحدوه فَذَلِك كفر مِنْهُم وهم صلى الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ مبرأون عَن ذَلِك منزهون وَلَو كَانَ ذَلِك لاستحال أَن يظْهر عَلَيْهِم من الْآيَات شَيْء مِمَّا ظهر وَإِن كَانَ سكوتهم عَن تلبيس فَإِن جَازَ عَلَيْهِم التلبيس فِي مثل هَذَا جَازَ عَلَيْهِم التلبيس فِي كل مَا أخبروا بِهِ من الشَّرَائِع إِذْ كل الشَّرَائِع وَالْأَحْكَام تحتقره بِالْإِضَافَة إِلَى معرفَة الربوبية وَإِن كَانُوا جهلوا ذَلِك فَكيف علمت أَنْت يَا أَحمَق مَا جَهله الْأَنْبِيَاء والأولياء فَإِن كَانُوا تكلمُوا بذلك وَقَالُوا بِهِ فَفِي أَي سفر من أسفار التَّوْرَاة هُوَ أَن مُوسَى أخبر أَن الله لَا إِلَه لَهُ وَلَا لكم إِلَّا الصدى وَأَن الصدى أرْسلهُ إِلَى فِرْعَوْن وَأَنه إِلَه فَإِن كَانَ مَا تدعيه حَقًا فَائت بِالتَّوْرَاةِ فاتلها إِن كنت من الصَّادِقين وَفِي أَي كتاب من كتب الْأَنْبِيَاء جَاءَ مثل ذَلِك أَفِي كتاب حبقوق أَو فِي كتاب حزقيال أَو فِي كتاب أشعياء أَو فِي كتاب دانيال أَو فِي إنجيل لوقا أَو فِي إنجيل متاؤوش أَو فِي إنجيل ماركش أَو فِي إنجيل يوحنا أَو فِي مصحف الإعلان أَو فِي أَي كتاب من رسائل الحواريين وجد مثل ذَلِك هَل وَقع شَيْء مِنْهُ هُنَالك وَهَذِه الْكتب الَّتِي ترجعون إِلَيْهَا وتعولون عَلَيْهَا إِذا لم يُوجد فِيهَا شَيْء مِمَّا ذكرت علم من حالك أَنَّك على الله وَرُسُله كذبت وافتريت {وَيَوْم الْقِيَامَة ترى الَّذين كذبُوا على الله وُجُوههم مسودة أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للمتكبرين} بل قد تواردت الرُّسُل على الْأَخْبَار بالقواطع الَّتِي لَا تجْهَل بِأَن الله إِلَه وَاحِد وَأَنه لَيْسَ لَهُ فِي ألوهيته شَبيه وَلَا مضاد وَإِذا تبين بِهَذَا أَنَّك كفرت وَأَن الله رَبك سببت وعَلى رسله كذبت وَأَنَّك من جَمِيع الْملَل خرجت تعين على الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَن يشتوروا فِي أَمرك ويأتمروا فِي حرقك أَو نحرك {ولعذاب الْآخِرَة أشق وَمَا لَهُم من الله من واق}

ثمَّ نقُول هَذَا الصدى الَّذِي وصفت وَهُوَ إِلَه عنْدك كَمَا زعمت أهوَ الله تَعَالَى رب الْعَالمين وخالق السَّمَوَات وَالْأَرضين أم إِلَه غَيره فَإِن كَانَ هُوَ الله تَعَالَى فَلم سميته الصدى وَلم جعلته واسطا بَين نَفسه وَبَين خلقه وَهل هَذَا إِلَّا محَال فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر فِي الْعقل وَاسِط لَا بَين إثنين وَيكون الواسط ثَالِثا ثمَّ يلزمك على هَذَا أَن تجْعَل ذَات الْبَارِي الرب تَعَالَى صَوتا حَادِثا فَإِن ذَلِك الصدى عنْدكُمْ حَادث وَهَذَا كُله محَال بضرورة الْعقل وَإِن قلت أَنه غَيره فَيلْزم أَن يكون ذَلِك الصدى هُوَ الْمُتَكَلّم عَن نَفسه والمخبر بحقيقته فَإِذا سَمعه مُوسَى يَقُول أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا فَأَما أَن يخبر عَن نَفسه أَو عَن رب الْعَالمين فَإِن أخبر عَن نَفسه فَهُوَ كَاذِب فَإِن الرب تَعَالَى يكون إِلَهًا آخر وَإِن أخبر عَن الرب فلأي شَيْء قلت أَنه إِلَه وَأَن مُوسَى اعْترف لَهُ بالربوبية وَسجد لَهُ بل الْإِلَه الْحق رب الْعَالمين والصدى لَيْسَ بإله وَلَا رب فقولك اعْترف مُوسَى بربوبيته وَعَبده بَاطِل بِالضَّرُورَةِ ثمَّ نقُول هَب أَن ذَلِك الصدى هُوَ الْمُتَكَلّم عَن الله وَأَنه إِلَه فَهَل يقدر الله تَعَالَى على ان يتَكَلَّم ويخبر عَن إِرَادَته بِغَيْر ذَلِك الصدى فَإِن قُلْتُمْ لَا فَذَلِك تعجيز لله تَعَالَى وَهُوَ الْقَادِر على كل شَيْء وَيلْزم عَلَيْهِ أَيْضا أَن يكون مُحْتَاجا لذَلِك الصدى وكل من كَانَ مُحْتَاجا فَهُوَ نَاقص معيب وَلَيْسَ بغنى وَالله تَعَالَى هُوَ الْغنى عَن كل الموجودات وَلَيْسَ لشَيْء من الموجودات عَنهُ غنى وَإِن كَانَ قَادِرًا على أَن يسمع كَلَامه بِغَيْر وَاسِطَة فَلَعَلَّ مُوسَى سَمعه بِغَيْر وَاسِطَة وَإِذا جَازَ أَن تسْقط الْوَاسِطَة أنهدم كل مَا رمت بناءه على أَنا قد كُنَّا هدمناه أَولا فِي أوحى لَحْظَة بأيسر نفخة وَإِنَّمَا أردنَا أَن نبين لَك وَلكُل من وقف على كلامك بعض مَا يلزمك وَأَنت لم تشعر بِشَيْء من ذَلِك وَلَوْلَا خشيَة التَّطْوِيل لأوردت عَلَيْك من النقوض واللوازم مَا يتعجب مِنْهُ كل حبر نبيل ثمَّ نقُول هَب أَنا نسلم جدلا أَن الله تَعَالَى تكلم مَعَ مُوسَى بِوَاسِطَة الصدى فَلم قلت أَن عِيسَى مثل الصدى أعنى أَنه وَاسِطَة كَمَا أَن ذَلِك الصدى وَاسِطَة وَمَا الَّذِي دلك على ذَلِك ولأي شَيْء سويت بَينهمَا وَالْفرق بَينهمَا ظَاهر وَذَلِكَ أَن الصدى الَّذِي زعمت أَن مُوسَى سَمعه إِنَّمَا سَمعه مُوسَى بعد أَن احتجت لَهُ بالنَّار كَمَا زعمت وَالنَّار جماد

وَإِذا قَامَ بالجماد صَوت يفهم مِنْهُ أَنا لله لَا إِلَه إِلَّا أَنا فَيمكن أَن يعقل هُنَا غالط مثلك أَن الْمُتَكَلّم بذلك الصَّوْت أما غير الجماد لِاسْتِحَالَة الإلهية عَن الجماد وَأما حَيَوَان مُمكن أَن يتَوَهَّم فِيهِ أَنه إِلَه كَمَا توهمتم أَنْتُم فِي ذَلِك وَلَا يَصح ذَلِك فِي الله لِأَنَّهُ إِذا قَالَ لَا إِلَه إِلَّا أَنا فَعَن نَفسه يخبر وَإِلَيْهِ يرجع حكم خَبره بِخِلَاف الجماد فَكيف قست أحد الواسطين على الآخر وَلَيْسَ فِي مَعْنَاهُ وَلَو أردنَا تَطْوِيل الْكَلَام لذكرنا فروقا أخر تمنع مقايسة النَّار بالبشر وَأما قَوْلك إِن عِيسَى عَليّ السَّلَام قَالَ أَنا الله وَأَن الحواريين صدقوه فِي ذَلِك فكذب صراح وافك بواح فَإِنَّهُ لم يرووا عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك أَقْوَال بِوَجْه صَحِيح وَلَا بِنَصّ صَرِيح بل الَّذِي صَحَّ مِنْهُ وَنقل بالتواتر عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول اعبدوا الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وأناجيلكم تشهد بذلك عَلَيْكُم ثمَّ نقُول لَو ثَبت أَن عِيسَى قَالَ ذَلِك اللَّفْظ بِعَيْنِه فَمن الْمُمكن سوغ حمله على محمل قويم فِي الْعُقُول غير مُخَالف للمنقول وَهُوَ أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ محبا لله تَعَالَى مشتهرا فِي محبته وَمن عَادَة المشغوف بِشَيْء المشتهر بِهِ أَن يستحضر ذَلِك الشَّيْء المشتهر فِيهِ فِي قلب ويجعله نصب عَيْنَيْهِ حَتَّى لَا يُلَاحظ شَيْئا سواهُ بل رُبمَا ينتهى ذَلِك بِهِ إِلَى أَن يذهل عَن نَفسه ويغيب عَن حسه فَفِي مثل تِلْكَ الْحَالة يظنّ المشتهر أَن الشَّيْء الَّذِي شغف بِهِ هُوَ هُوَ حَتَّى يَقُول ... أَنا من أَهْوى وَمن أَهْوى أَنا ... وَكَذَلِكَ قَالَ الآخر ... فَكل شَيْء رَآهُ ظَنّه قدحا وكل شخص رَآهُ ظَنّه الساقي ... وَكَذَلِكَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لما انْكَشَفَ لَهُ من سُلْطَان الْحَقِيقَة أَمر مَا غَابَ عَن نَفسه وفنى عَن حسه لما شَاهد من جمال الربوبية والحضرة الإلهية فذهل عَن كل مَا سوى الله فَقَالَ أَنا الله وَهَذِه أُمُور عَجِيبَة وأذواق غَرِيبَة لَا يُدْرِكهَا إِلَّا من اخْتَارَهُ الله من خلقه واصطفاه بِحَضْرَتِهِ ف لَيْسَ بعشك فادرج

وَأما قَوْلك لنا قد أوجبتم أَن الخليقة لَا تدْرك الْخَالِق إِلَّا بجسم مَخْلُوق تتخذه وتجعله وَاسِطَة بَينه وَبَين من خَاطب من الْأَنْبِيَاء فَقَوْل بَاطِل علينا فَاسد لدينا فَأَنا قد أحلنا تِلْكَ الْوَاسِطَة فِيمَا تقدم بِوُجُوه مُتعَدِّدَة وَقد حكمنَا بتكفير من أثبت واسطا على نَحْو مَا زعمت وَلَا أعلم أَن أحدا من الْمُسلمين قَالَ شَيْئا من ذَلِك بل وَلَا من أهل الْملَل غَيْرك ثمَّ نقُول هَذَا الواسط الَّذِي زعمت لَا يَخْلُو أَن يدْرك الله تَعَالَى أعنى يعرفهُ وَيسمع كَلَامه أَو لَا يدْرك فَإِن قُلْتُمْ لَا يدْرك فقد شهدتم على أَنفسكُم أَن الواسط لَيْسَ بِاللَّه اذ الاله لَا بُد أَن يكون دراكا ويلزمكم على ذَلِك أَن يكون عِيسَى لَا يعرف الله تَعَالَى وَلَا يسمع كَلَامه وَهُوَ محَال وَإِن قُلْتُمْ أَنه يدْرك الله تَعَالَى فَهَل يُدْرِكهُ بِوَاسِطَة أَو بِغَيْر وَاسِطَة فَإِن أدْركهُ بِوَاسِطَة أُخْرَى فَالْكَلَام فِي تِلْكَ الْوَاسِطَة كَالْكَلَامِ فِي الأولى وَيلْزم التسلسل وَإِن أدْركهُ بِغَيْر وَاسِطَة فَيجوز لنا نَحن أَن ندركه بِغَيْر وَاسِطَة وَفِي هَذَا إبِْطَال مَا ذكرت من إِثْبَات الْوَاسِطَة الَّذِي ذكرت أَن الْمُسلم قد اضْطر إِلَيْهِ وَأما قَوْلك إِنَّمَا أوجبتم علينا الشّرك فِي قَوْلنَا بِوَاسِطَة فَإِذن الْحق وَالْعقل لَا يعيب الواسط فلنعلم أَنا لم نوجب عَلَيْك الشّرك من حَيْثُ الواسط فَقَط بل من حَيْثُ أثبت واسطا إلهيا وَذَلِكَ أَنَّك زعمت أَن الصدى قَالَ لمُوسَى مخبرا عَن نَفسه أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدني واعترف لَهُ مُوسَى بالربوبية وَتحمل عَنهُ الرسَالَة وَعَبده وسجده لَهُ فَهَذَا إِثْبَات إِلَه غير الله وَكَذَلِكَ قُلْتُمْ فِي الْمَسِيح أَنه قَالَ أَنا الله واعترف الحواريون لَهُ بالربوبية فهذان الهان ثمَّ إِن الأقانيم ثَلَاثَة آلِهَة فَصَارَت آلِهَتكُم خَمْسَة فيا لَيْت شعري هَذِه الْآلهَة الْخَمْسَة هَل اشْتَركُوا فِي إِيجَاد الموجودات واختراع الكائنات أَو انْفَرد بهَا أحدهم فَإِن كَانَ قد انْفَرد بهَا أحدهم فَهُوَ الْإِلَه الْحق الْوَاحِد الْفَرد وَإِن كَانُوا قد اشْتَركُوا وتعاونوا على خلق الْمَخْلُوقَات فَلَا معنى للشرك إِلَّا هَذَا وَيلْزم على تَقْدِير إجتماعهم وتوافقهم على الْخلق أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُم مُضْطَرّا إِلَى مساعدة الآخر وكل مُضْطَر نَاقص والناقص لَيْسَ بااله وَإِن قَدرنَا اخْتلَافهمْ فِي الْخلق بِحَيْثُ يُرِيد أحدهم أَن يخلق وَيُرِيد الآخر أَن لَا يخلق فَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى أَن لَا يخلق أحدهم

شَيْئا فَلَا يُوجد الْخلق وَقد وجد الْخلق فَدلَّ ذَلِك على أَن الْإِلَه وَاحِد لَا شريك لَهُ وَلَا إِلَه غَيره ثمَّ نقُول عباد الْأَصْنَام والأوثان أشبه حَالا مِنْكُم لأَنهم فِي عباداتهم إِنَّمَا كَانُوا يعْبدُونَ أصنامهم ليقربوهم إِلَى الله زلفى وَأَنْتُم إِنَّمَا تَعْبدُونَ هَذِه الآلهه لِأَنَّهَا أَرْبَاب من دون الله متقربون مِنْهَا وَهَذِه جهالات بَيِّنَة وضلالات ظَاهِرَة عميت عَنْهَا بصائركم فأفطرت عَلَيْهَا قُلُوبكُمْ وأعجب من ذَلِك لكه قَوْلك الْعقل وَالْحق لَا يعيب الواسط أما من قَالَ هَذَا فقد خرج عَن غريزة الْعقل وَتارَة وَقع فِي مفازة الْجَهْل فَإِن الْعقل الصَّرِيح يشْهد بضرورته بِإِبْطَال الْوَاسِطَة وَأما الْحق فَهَذِهِ كتب الْأَنْبِيَاء بَين أَيْدِينَا وَأَيْدِيكُمْ فَفِي أَي كتاب مِنْهَا أَن الْآلهَة خَمْسَة أَنَّهَا تدل كلهَا على أَن الْإِلَه وَاحِد وَلَا ولد لَهُ وَلَا وَالِد {وَمَا يَنْبَغِي للرحمن أَن يتَّخذ ولدا إِن كل من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض إِلَّا آتِي الرَّحْمَن عبدا} وستقدم فتعلم وَأَنت قد اضْطَرَبَتْ فِي هَذَا الْفَصْل وَلم يثبت لَك فِيهِ فرع وَلَا أصل وَالْكثير مَعَ من لَا يعقل عمل من لَا يحصل وَأما قَوْلك وَأَنْتُم لما أوجبتم أَن الْأمة تحاسب بعملها يَوْم الْقِيَامَة أَن محاسبها يخاطبها يَوْم الْقِيَامَة ويكافئها بأعمالها فقد كَانَ يَنْبَغِي لَك أَلا تحتج بِشَيْء لم يثبت عنْدك أَصله وَلَا تصدق بنقله ثمَّ لَا حجَّة لَك فِي شَيْء مِمَّا ذكرته وَذَلِكَ أَن محاسبة الله تَعَالَى للعباد فِي الدَّار الْآخِرَة مِمَّا يجب الْإِيمَان بهَا وَمِمَّا قد تواردت عَلَيْهِ الشَّرَائِع أما بالتصريح وَإِمَّا بالإيماءات والتلويح وَذَلِكَ يكون ولابد وَلأَجل مجازاة الْعباد بأعمالهم فِي الدَّار الْآخِرَة خلق الله الْخلق وَبسط الرزق وَأرْسل الرُّسُل وَأنزل الْكتب {أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا وأنكم إِلَيْنَا لَا ترجعون} ومحاسبة الله لِلْخلقِ تكون على وُجُوه جَائِزَة فِي الْعقل وَإِرَادَة فِي النَّقْل لَا تحْتَاج إِلَى شَيْء مِمَّا تخيلته مِنْهَا أَن العَبْد يُوقف فِي مَوضِع الْفَصْل وَالْقَضَاء فَيعْطى كتابا أحصيت فِيهِ أَعماله وَيُقَال لَهُ {اقْرَأ كتابك كفى بِنَفْسِك الْيَوْم عَلَيْك حسيبا}

فَإِذا وقف عَلَيْهَا علم أَن الْمَكْتُوب فِيهَا هُوَ أَعماله فَإِن كَانَ سعيدا قَالَ {هاؤم اقرؤوا كِتَابيه إِنِّي ظَنَنْت أَنِّي ملاق حسابيه فَهُوَ فِي عيشة راضية فِي جنَّة عالية قطوفها دانية} فَعِنْدَ ذَلِك يُقَال لَهُم {كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أسلفتم فِي الْأَيَّام الخالية} وَإِن كَانَ شقيا فَيَقُول {يَا لَيْتَني لم أوت كِتَابيه وَلم أدر مَا حسابيه يَا ليتها كَانَت القاضية مَا أغْنى عني ماليه هلك عني سلطانيه} عِنْد ذَلِك يُقَال للْمَلَائكَة {خذوه فغلوه ثمَّ الْجَحِيم صلوه ثمَّ فِي سلسلة ذرعها سَبْعُونَ ذِرَاعا فاسلكوه} فَهَذَا وَجه من وُجُوه المحاسبة لَا تحْتَاج مَعَه إِلَى إِثْبَات وَاسِط وَيُمكن أَن يكون هُنَالك وُجُوه مُمكنَة فِي المحاسبة لَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكرهَا وَلَا أَنْت أهل لفهمها لَا تحْتَاج فِي شَيْء مِنْهَا إِلَى مَا رمت من الْوَاسِطَة فَكَأَنِّي وَالله بك إِن مت على مَا أَنْت عَلَيْهِ يُؤْخَذ بناصيتك وقدمك وتحيط بك مَلَائِكَة رَبك {مَلَائِكَة غِلَاظ شَدَّاد لَا يعصون الله مَا أَمرهم ويفعلون مَا يؤمرون} فتنادى فَتَقول يَا عِيسَى يَا سَيِّدي يَا إلهى يَا ولد الله فَيَقُول لَك كذبت مَا اتخذ الله من صَاحِبَة وَلَا ولد وَلست باإله وَلم أقل لَك كَذَلِك وَلَا أبلغتك ذَلِك وَإِنَّمَا بلغتك أَن لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَحده لَا شريك لَهُ فَكيف ترى خجلتك بَين يَدَيْهِ وحيرتك إِذا طلبت فِي نَفسك جَوَابا ترده عَلَيْهِ فَذَلِك الْمقَام لَا ينفعك فِيهِ ملك مقرب وَلَا نبى مُرْسل إِلَّا مَا قدمت يداك من حسن إِيمَان وَصَالح عمل وسعادة قَضَت لَك بهَا سَابِقَة الْأَزَل فَإِن الْمَلَائِكَة والنبيين لَا يشفعون إِلَّا لمن ارتضى رب الْعَالمين فَالله الله انْظُر فِي خلاص نَفسك لتجتني ثمار غرسك وَأما قَوْلك يَقُول قرآنكم {وَجَاء رَبك وَالْملك صفا صفا}

فلست لَهَا فَمَا شَأْنك وَإِيَّاهَا أَنْت لَا تعرف لِسَان من خُوطِبَ بهَا وَلَا تعرف مضمونها فَكيف يمكنك الإستدلال بهَا والتطواف حولهَا وَأَنت عرى عَن الشَّرْط الَّذِي بِهِ يعرف مَعْنَاهَا وَيفهم فحواها وَلَيْسَ مفهومها عِنْد من خُوطِبَ بهَا من الْعَرَب الفصحاء البلغاء على شَيْء مِمَّا ذكرت وَلَا يقرب مِمَّا توهمت بل مَعْنَاهَا عِنْدهم لَا تخَالفه الْعُقُول وَلَا يخرج عَن أسلوب لِسَان الْعَرَب الْمَنْقُول وَإِنَّمَا أكره أَن أشافهك بِهِ لِأَنَّك فَاقِد شَرطه فَإِن كنت مِمَّن ينور الله بصيرته وَيحسن سَرِيرَته شرعت فِي أَن تتعلم وَيجب علينا أَن نفهمك حَتَّى إِن شَاءَ الله تفهم وَأما قَوْلك فِي الْإِنْجِيل يقْعد ابْن الْإِنْسَان فِي مجْلِس عَظمته وَتقدم جَمِيع الْأُمَم بَين يَدَيْهِ ويميزهم كَمَا يُمَيّز الرَّاعِي الْغنم فَنَقُول آمنا بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَمَعَ ذَلِك فنعلم على الْقطع والثباب أَن كل أمة تدعى يَوْم الْقِيَامَة بإمامها وتنادي بمعبودها وأنبيائها فَيتبع كل من كَانَ يعبد الشَّمْس الشَّمْس وَيتبع كل من كَانَ يعبد الطواغيت الطواغيت وَإِذا كَانَ ذَلِك فَلَا بُد لعيسى أَن يجمع لَهُ كلا من لزمَه اتِّبَاع شَرعه فَحِينَئِذٍ يميزهم كَمَا يُمَيّز الرَّاعِي الْغنم فَمن آمن بِهِ وانتبه على النَّحْو الَّذِي رسم لَهُ فَهُوَ من الفائزين وَمن اعْتقد فِيهِ أَنه إِلَه أَو ابْن إِلَه فَالنَّار مَأْوَاه بعد أَن يتبرأ عِيسَى من دَعْوَاهُ وَأما قَوْلك وَإِذا أوجبتم أَن الله لَا مفطور وَلَا مدرك بحاسة فقد وَجب أَن المحاسب المسموع مدرك بالحواس فَهَذَا لَا يلْزم مِنْهُ شَيْء مِمَّا ذكرت فَأَنا إِذا قُلْنَا أَن الله تَعَالَى لَيْسَ مدْركا بالحواس فَإِنَّمَا نُرِيد بِهِ أَن الله لَيْسَ مدْركا بالحواس كَمَا تدْرك الْأَجْسَام والألوان فَيكون محاطا بِهِ فَيكون ذَا حُدُود وأقطار وَذَلِكَ محَال وَإِذا قُلْنَا إِن الله تَعَالَى يرى فِي الدَّار الْآخِرَة إِنَّمَا نُرِيد بِهِ أَن الله تَعَالَى يخلق لنا إدراكا آخر لَا تناسب حَاله حَالَة إِدْرَاك الْأَجْسَام وَلَا الألوان فَإِن الإدراكات مُخْتَلفَة باخْتلَاف متعلقاتها وَذَلِكَ إِدْرَاك خَاص لَهُ حكم نَفسه لم يذقْ مِنْهُ ذوقا فِي هَذِه الدَّار فَإِنَّهُ إِنَّمَا يكرم الله بِهِ أولياءه وأصفياءه يَوْم الْقِيَامَة

وَإِذا أنعم الله تَعَالَى على وليه بذلك الْإِدْرَاك الْمعبر عَنهُ بِالرُّؤْيَةِ خلق لَهُ من اللَّذَّة مَالا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر فَإِن أنْكرت أَن يرى مَا لَيْسَ بجسم وَلَا لون فلتنكر أَن يعلم مَوْجُودا لَيْسَ بجسم وَلَا عرض وَإِن زعمت أَن الرُّؤْيَة غير جَائِزَة عقلا فقد جهلت مُوسَى حَيْثُ سَأَلَ الله مَا يَسْتَحِيل عَلَيْهِ فَكيف جهل مُوسَى من وصف الله مَا علمه جَاهِل مثلك وَأما استشهادك بِحَدِيث نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام على رُؤْيَة ذِي الْجلَال وَالْإِكْرَام فَأَنت مَمْنُوع مِنْهُ لاعراضك عَنهُ وَهُوَ من عمدنا على إِثْبَات رُؤْيَة الله تَعَالَى فِي الدَّار الْآخِرَة لكوننا عَالمين بِحقِّهِ وَدَلِيل صدقه ثمَّ إِنَّك نقلت ذَلِك الحَدِيث فأجحفت وبالمعنى أخللت وَإِنَّمَا صَوَابه إِنَّكُم ترَوْنَ ربكُم وَلَا تضاهون فِي رُؤْيَته إِلَّا كَمَا تضاهون فِي رُؤِيَ الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر وَهَذَا لَا حجَّة لَك فِيهِ فَأَنا نقُول إِن الله تَعَالَى هُوَ المرئى لَا غَيره بالأبصار فِي الدَّار الْآخِرَة على مَا تقدم وَأَنْتُم تَقولُونَ إِن المرئى الْوَاسِطَة وَهَذَا الحَدِيث يعرف مَعَانِيه أَهله وهم الَّذين يصدقون برسالة من هُوَ قَوْله فَلَا تطمع فِي مَعْرفَته فَإنَّك لست أَهلا لداريته وَأما قَوْلك لم تنكرون أَن يكون الْمَسِيح الَّذِي كَانَ واسطا للوعظ أَن يكون هُوَ الْمقبل مَعَ الْمَلَائِكَة كَمَا قَالَ عَنهُ قرآنكم {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة} فَكيف لَا ننكر ذَلِك وَلم يدل على وُقُوعه دَلِيل عقل وَلَا صَحِيح نقل وَلَيْسَ معنى الْإِتْيَان فِي هَذِه الْآيَة إِلَّا كالمجيء فِي الْآيَة الْمُتَقَدّمَة وَكِلَاهُمَا لَيْسَ المُرَاد بِهِ الْمَجِيء الَّذِي هُوَ نقل الْأَقْدَام بل الْمَجِيء والإتيان لَهما معَان أخر يعرفهَا الْعَرَب الْمُؤْمِنُونَ وَهَذِه الْآيَة فِيهَا مَحْذُوف تفسره آيَة أُخْرَى تَقْدِيره هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم أَمر الله كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَة أُخْرَى {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن تأتيهم الْمَلَائِكَة أَو يَأْتِي أَمر رَبك} فقد ذكر فِي هَذِه الْآيَة مَا حذف هُنَالك وَهَذَا على الْمَعْرُوف فِي لِسَان الْعَرَب من حذف الْمُضَاف

وَإِقَامَة الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه وَكَذَلِكَ الْكَلَام على الْآيَة الأولى وَهَذَا لَا خَفَاء بِهِ عِنْد الْبَصِير بِلِسَان الْعَرَب فَإِنَّهَا تسْتَعْمل الْحَذف والإضمار وَالْمجَاز والإختصار ثمَّ مَالك ولكتابنا ولأي شَيْء تنشد ضالتنا دعها مَعهَا حذاؤها وسقاؤها ترد المَاء وتأكل الشّجر حَتَّى يلقاها رَبهَا ... ألق السِّلَاح فلست من أكفائنا واقعد مَكَانك بالحضيض الْأَسْفَل ... ثمَّ نقُول من عَجِيب أَمر هَذَا السَّائِل أَنه لَا يصلح أَن ينْسب لمقلد وَلَا ناقل وَذَلِكَ أَن هَذَا الْمَذْهَب الَّذِي أبداه من اتِّخَاذ الله وَاسِطَة صَوت الصدى إِنَّمَا حمله عَلَيْهِ تَقْلِيده لكتاب أغشتين وَذَلِكَ أَنه أَشَارَ فِي مصحف الْعَالم الْكَائِن إِلَى نَحْو مِمَّا ذكره هَذَا السَّائِل وَلَعَلَّه وقف عَلَيْهِ وَلم يفهمهُ صَحِيحا وَلَا أوردهُ فصيحا بل زَاد عَلَيْهِ كلَاما فَاحِشا قبيحا وَأَنا إِن شَاءَ الله تَعَالَى أذكر كَلَام أغشتين فِي الْفَصْل الَّذِي بعد هَذَا وَأبين فِيهِ أَنه لَيْسَ كَمَا فهمه هَذَا السَّائِل ثمَّ أعطف على أغشتين بتبيين فَسَاد مذْهبه وأوضح أَنه غير مُصِيب فِي مطلبه وأحقق فِيهِ أَن أغشتين مُخَالف لغيره من القسيسين

الفصل الخامس

الْفَصْل الْخَامِس فِي حِكَايَة كَلَام الْمُتَقَدِّمين لتعلم أَيهَا النَّاظر فِي هَذَا الْبَاب أَن النَّصَارَى قد كثر اخْتلَافهمْ وَعظم خبطهم وإرتباكهم فَلَا هم يستقرون فِيهِ على قدم وَلَا يَمْشُونَ مِنْهُ على طَرِيق أُمَم فقليل مِنْهُم من نفى الإتحاد والحلول وَلم يقل بِشَيْء من ذَلِك وهم طَائِفَة مُتَقَدّمَة يعْرفُونَ ب الأرؤسية وَلَا يكَاد مَذْهَبهم يُخَالف مَذْهَب الْمُسلمين إِلَّا فِي إنكارهم نبوة نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجمهورهم على القَوْل بِهِ وإثباته ثمَّ المثبتون لَهُ مِنْهُم من قَالَ لَا يُقَال فِيهِ ب كَيفَ وَلَا يسْأَل عَنهُ بِحرف وَمِنْهُم من شرع فِي بَيَان كيفيته وَتَفْسِير ماهيته فَصَارَت اليعقوبية والنسطورية إِلَى أَن الْكَلِمَة خالطت جَسَد الْمَسِيح ومازجته كَمَا يمازج الْخمر اللَّبن والى نَحْو هَذَا ذهب الرّوم وزادو عَلَيْهِم فَقَالُوا اخْتلطت الْكَلِمَة بالمسيح فصارا شَيْئا وَاحِدًا وَلَقَد حكى من كَلَام اليعقوبية مَا يدل على توقحهم وجرأتهم على الله تَعَالَى وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا إِن الله نزل فَدخل فِي بطن مَرْيَم فَاتخذ من لَحمهَا جسدا فَصَارَ الله مَعَ الْجَسَد نفسا وَاحِدًا وَرُبمَا أطلق بَعضهم القَوْل بِأَن الله اتخذ ذَلِك اللَّحْم وَالدَّم فزاده فِي نَفسه فَصَارَ ذَلِك اللَّحْم الله وَصَارَ مُعظم اليعاقبة إِلَى أَن الْكَلِمَة انقلبت لَحْمًا ودما وَأما النسطورية فَقَالُوا لَيست تِلْكَ النَّفس هِيَ الله وَإِنَّمَا هِيَ بعضه وَهَذَا هُوَ الْبُهْتَان الَّذِي يعلم بُطْلَانه بِالضَّرُورَةِ كل إِنْسَان وَصَارَت طَائِفَة من النَّصَارَى إِلَى أَن الْكَلِمَة حلت جَسَد الْمَسِيح كَمَا يحل الْعرض مَحَله وَصَارَ أخلاط من النَّصَارَى إِلَى أَن المُرَاد

الجواب عن كلامهم

بالإتحاد ظُهُور اللاهوت على الناسوت وَرُبمَا عبروا لَهُ عَن ذَلِك بالفيض ثمَّ اخْتلفُوا فِي تَمْثِيل ذَلِك على ثَلَاثَة أوجه فَمنهمْ من قَالَ مِثَاله مَا ينطبع فِي الْأَجْسَام الصقلية من الْأَشْيَاء الَّتِي تقَابلهَا وَمِنْهُم من قَالَ مِثَاله الطابع المنقوش إِذا اتَّصل بشمع وَمَا يضاهيه فَيظْهر نقش الطابع عَلَيْهِ وَإِن لم يحله شَيْء من الطابع وَمِنْهُم من قَالَ معنى ظُهُور اللاهوت على الْمَسِيح كمعنى اسْتِوَاء الْإِلَه على الْعَرْش عِنْد الإسلاميين مَعَ مصيرهم إِلَى اسْتِحَالَة المماسة وَرُبمَا يعبرون عَن الإتحاد بالتدرع كَأَنَّهُمْ أخذُوا ذَلِك من لفظ الدرْع يشيرون إِلَى أَنا اللاهوت اتخذ ناسوت الْمَسِيح درعا هَذِه مَذَاهِب المشتهرين من طوائفهم وَأما اخْتِلَاف آحادهم فمما لَا يكَاد يَنْضَبِط وَلَا يرتبط وَمن أَرَادَ الْوُقُوف على شَيْء من ذَلِك فليطالع كتاب الْمسَائِل لَهُم فَفِيهِ يرى تحيرهم وخبطهم ونفرد بعد هَذَا إِن شَاءَ الله بَابا نذْكر فِيهِ كَلَام أغشتين فَإِن مذْهبه فِي الإتحاد مُخَالف لمَذْهَب من تقدم ذكره من الْفرق والقسيسين الْجَواب عَن كَلَامهم أما من حكى عَنهُ نفى الإتحاد فقد قَالَ بِالْحَقِّ وأتى بالمراد وَأما من أثْبته وَقَالَ إِن الإتحاد لَا يسْأَل عَنهُ وَلَا يكيف فَنَقُول معنى الإتحاد لَا يَخْلُو أَن تعرفه أَو لَا تعرفه فَإِن لم يعرفهُ فقد اعْترف بجهله وناقض مُتَقَدم قَوْله فَإِنَّهُ اعْترف بالإتحاد وَادّعى ثُبُوته للمسيح وَحده ثمَّ لما طُولِبَ بتثبيته قَالَ لَا أعرفهُ وَهَذَا تنَاقض وَقَول بَاطِل وَأما من قَالَ أعرفهُ إِلَّا أنني يقصر عَن إِدْرَاك حَقِيقَته عقلى وَلَا أقدر على الْعبارَة عَنهُ وَهَذَا كَمَا قُلْتُمْ أَنْتُم فِي جوابكم عَن كَيْفيَّة سَماع مُوسَى كَلَام الله تَعَالَى حَيْثُ قُلْتُمْ أَنه لَا يسْأَل عَنهُ بكيف فَإِنَّهُ ظلم وحيف فَنَقُول أما قَوْلك أعرفهُ إِلَّا أَنه يقصر عقلى

ف هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين

عَن إِدْرَاك حَقِيقَته فمتناقض أَيْضا لِأَن كل مَعْرُوف لَا بُد أَن يرتسم فِي الْعقل وَيحصل فِيهِ على الْوَجْه الَّذِي يكون مَعْرُوفا مِنْهُ فَأَما على الْجُمْلَة وَأما على التَّفْصِيل وَمَا لم يرتسم فِي الْعقل لَا جملَة وَلَا تَفْصِيلًا فَلَيْسَ بِمَعْلُوم وَأَنت إِذا ادعيت أَنَّك عَالم بالإتحاد فَلَا بُد أَن تكون عَالما بِهِ أما على الْجُمْلَة أَو على التَّفْصِيل وكيفما كَانَ فَلَا بُد لَك من أَن تعبر عَن معلومك على أَي وَجه كَانَ وَإِلَّا فَأَنت جَاهِل بالإتحاد وَمن جَهله كَافِر عنْدكُمْ وَأما تشبيهك هَذَا بكيفية سَماع مُوسَى فَلَيْسَ بِصَحِيح لأَنا مهما قيل لنا كَيفَ سمع مُوسَى كَلَام الله فَإِنَّمَا نسْأَل عَن أَمر لم نعلمهُ علم ذوق وَعَن تَفْصِيل مَا لم نعلمهُ تَفْصِيلًا بل علمناه على الْجُمْلَة وَلذَلِك أجبنا بقولنَا إِن الله تَعَالَى خلق لَهُ إدراكا سمع بِهِ كَلَام الله تَعَالَى الَّذِي هُوَ وَصفه الَّذِي لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت ففهمنا الْإِدْرَاك على الْجُمْلَة وَلم نفهمه على التَّفْصِيل وَأَنت لم تعرف الإتحاد جملَة وَلَا تَفْصِيلًا بل جهلت وادعيت أَنَّك علمت ف {هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} وَأما من قَالَ إِن الْكَلِمَة خالطت جسم الْمَسِيح ومازجته ممازجة الْخمر اللَّبن فَكَلَام فَاسد قَائِله لِلْعَقْلِ فَاقِد وَذَلِكَ أَن الْمَفْهُوم من المخالطة والممازجة لَا يتَصَوَّر إِلَّا فِي الْجَوَاهِر المتحدات وَذَلِكَ ان المخالطة إِنَّمَا يعبر بهَا عَن تجاور الْجَوَاهِر وإجتماعها بِحَيْثُ يكون كل وَاحِد من الْجَوَاهِر المتمازجة يحفظ حيزه ويشغله وَيمْنَع مِنْهُ غَيره وَلذَلِك إِذا أفرغت إِنَاء مَاء على إِنَاء لبن مثلا وتمازجا كثر اللَّبن وَصَارَ لَا يَسعهُ بعد الممازجة مَا كَانَ وَالْعلم لَيْسَ بجوهر فاستحال عَلَيْهِ الإختلاط والإمتزاج بِالضَّرُورَةِ فَإِن أَرَادوا بالإمتزاج والإختلاط أمرا آخر فَلَا بُد من بَيَانه وإفادة تصَوره وَلَا يتَكَلَّم على الشَّيْء ردا وقبولا إِلَّا بعد كَونه معقولا وَلَو سلمنَا الممازجة جدلا للَزِمَ عَلَيْهَا أَنْوَاع من المحالات مِنْهَا قيام الصّفة بِنَفسِهَا وانتقالها وَبَقَاء جَوْهَر الله تَعَالَى عريا عَنْهَا على قَوْلهم والعرى عَن الْعلم جَاهِل وَالْجهل على الله محَال وَيلْزم على

ذَلِك أَن لَا يكون الْعلم أزليا بل حَادِثا مخلوقا وَأَن حَاله تَغَيَّرت وَبعد أَن لم يكن مختلطا ممتزجا مختلطا وَهَذَانِ أَمْرَانِ حادثان وَلَا يَخْلُو عَن أَحدهَا وَمَا لَا يَخْلُو عَن الْحَوَادِث حَادث على مَا يعرف فِي مَوْضِعه وَهَذِه أُمُور بَاطِلَة فالمفضى إِلَيْهَا بَاطِل وَهُوَ الإختلاط وَأما من قَالَ بالحلول فَلَيْسَ لَهُ محصول وَلَا مَعْقُول لِأَن حَقِيقَة الْحُلُول إِنَّمَا هِيَ أَن يحصل جسم أَو متحيز فِي شَيْء أَو على شَيْء فيسمى الْحَاصِل حَالا والمحصول فِيهِ يُسمى محلا وَتسَمى النِّسْبَة بَينهمَا حلولا وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه النَّحْوِيّ مصدرا هَذَا هُوَ الْمَفْهُوم من حَقِيقَة الْحُلُول وَقد يتوسع فِيهِ فَيُقَال حل العرضفي فِي مَحَله وَمَعْنَاهُ صَار الْمحل متصفا بِهِ وَصَارَ الْعرض قَائِما بِهِ وموجودا فِيهِ فَإِن أردتم حَقِيقَة الْحُلُول كَانَ محالا فَإِن الْعلم لَيْسَ بجسم وَلَا جَوْهَر على مامر وَإِن أردتم الثَّانِي فَهُوَ محَال أَيْضا لِأَنَّهُ يلْزم عَلَيْهِ مُفَارقَة الْعلم الْجَوْهَر وبقاؤه جَاهِلا وَيقوم عرض وَاحِد بمحلين فِي زمَان وَاحِد وَيلْزم عَلَيْهِ إنتقال الصّفة من مَحل إِلَى مَحل وحدوثها إِلَى أَنْوَاع من المحالات لَا يبوء بهَا عَاقل ومنتحلها أَحمَق جَاهِل وَقد صَرَّحُوا بِأَنَّهُم أَرَادوا بالحلول حُلُول الْجَوْهَر فِي الْعرض وَقد صرحنا نَحن بِمَا يلْزمهُم من المحالات على ذَلِك وبيناه والحمدلله ثمَّ نقُول لَهُم بعد ذَلِك فِي قَوْلهم بالإختلاط وبأنهما صَارا شَيْئا وَاحِدًا لَا خلو أَن حِين اختلطا أما أَن يبْقى الْعلم مَوْجُودا بِحَالهِ والجوهر مَوْجُودا بِحَالهِ أم يَنْعَدِم أَحدهمَا أَو ينعدما مَعًا محَال أَن يبقيا موجودين بحاليهما مَعَ فرض الإختلاط وكونهما شَيْئا وَاحِدًا فَإِن الْوَاحِد لَا يعود إثنين إِلَّا بِإِضَافَة غَيره إِلَيْهِ وَإِذا أضيف غَيره إِلَيْهِ ارْتَفَعت الْوحدَة بِالضَّرُورَةِ على مَا تقدم فِي التَّثْلِيث وَكَذَلِكَ الإثنان لَا يعودان وَاحِدًا إِلَّا إِذا انْعَدم أَحدهمَا فترتفع

الأنثينية بِالضَّرُورَةِ ومحال أَن ينعدما فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى عدم الْقَدِيم وَإِلَى عدم مَا هُوَ مَوْجُود فِي حَالَة وجوده فَلم يبْق إِلَّا أَن يَنْعَدِم أَحدهمَا دون الآخر وَذَلِكَ محَال فَإِن الْمَوْجُود لَا يخالط الْمَعْدُوم وَلَا يمازجه بل يبْقى الْوَاحِد وَاحِدًا وَإِذا بطلت هَذِه الْأَقْسَام المنحصرة بَطل الإمتزاج والإختلاط ومصير الْإِثْنَيْنِ وَاحِدًا على مَا قَالُوهُ وَأما من قَالَ إِن الْكَلِمَة انقلبت لَحْمًا ودما فَلَقَد ارْتكب حَمَاقَة وَالْتزم عمى يلْزمه عَلَيْهِ جَوَاز عكس مذْهبه وَهُوَ أَن يَنْقَلِب اللَّحْم وَالدَّم علما وَالْقَدِيم حَادِثا والحادث قَدِيما إِلَى غير ذَلِك من المحالات الَّتِي لَا تصدر عَن من شدّ أطرافا من المعقولات وَلَوْلَا الْحمق والتقليدات لما وجد مثل هَذِه الفواقح فِي كَلَام أحد من الْمَخْلُوقَات وَأما من قَالَ إِن الإتحاد هُوَ ظُهُور وفيض وَمثله بانطباع الصُّور فِي الْمرْآة فَهَذَا الْمِثَال إِنَّمَا كَانَ يَصح لَو كَانَ الْعلم صُورَة محسوسة بالبصر وَيكون جَسَد الْمَسِيح صقيلا تنطبع فِيهِ صُورَة المقابلات وكل ذَلِك مَعْدُوم فِي مَسْأَلَتنَا بِالضَّرُورَةِ فتخيله فَاسد وباطل بِالضَّرُورَةِ فَكَمَا لَا تتمثل ذَات الْحَيَاة والإدراكات فِي الْمرْآة كَذَلِك لَا تتمثل الْكَلِمَة فِي جَسَد الْمَسِيح ثمَّ إِن جَازَ انطباع علم الله فِي جَسَد البشري فلينطبع فِي كل مَا يُشبههُ فِي الجسدية وَسَيَأْتِي لهَذَا مزِيد بَيَان وَفِيمَا تقدم مَا يبين فَسَاده وإستحالته وَأما التَّمْثِيل بنقش الْخَاتم يعود منحفرا فِي الشمع والمنحفر فِي الْخَاتم يعود ناتئا فِي الشمع فَذَلِك لَا يتَصَوَّر إِلَّا فِي الْأَجْسَام وَإِن جَازَ فِي غير الْأَجْسَام فَيلْزم أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا أعنى اللاهوت والناسوت يُؤثر فِي الآخر وَيحل فِيهِ فَيكون الناسوت حل فِي اللاهوت وَذَلِكَ محَال عِنْد كل فريق وَالْأَمر الثَّانِي أَن النقش فِي الْخَاتم يوضع مقلوب الْكَلِمَات ثمَّ تنطبع مُسْتَقِيمَة فِي الشمع وَلَو وضعت فِي الْخَاتم مُسْتَقِيمَة لانطبعت فِي الشمع منعكسة فَيلْزم على مساق هَذَا الْمِثَال أَن تنطبع الْكَلِمَة فِي الناسوت أما الإستقامه

أَو بِالْعَكْسِ فَإِن انطبعت فِيهِ بالإستقامة فأقنوم الْكَلِمَة فِي الْجَوْهَر بالإنعكاس وَإِن انطبعت فِيهِ بالإنعكاس فَلم تبْق الْكَلِمَة فِي الناسوت على حَقِيقَتهَا فِي اللاهوت بل هِيَ منعكسة فَلَا تبقى حَقِيقَة الْعلم على مَا كَانَت بل هِيَ لَيْسَ بِعلم وَهَذَا كُله مِمَّا يلْزم على آرائهم الْفَاسِدَة وتحكماتهم الْبَارِدَة وَأما من لبس مِنْهُم بِأَن مثل قَوْلهم فِي الإتحاد بقولنَا فِي إستوائه تَعَالَى على الْعَرْش فَذَلِك مِمَّا لَا يُقَال عَلَيْهِ عندنَا اتِّحَاد وَلَا حُلُول وَلَا فيض وَلَا انطباع لأَنا نُرِيد بقولنَا هُوَ على الْعَرْش مستو واستوى على الْعَرْش أَن الْعَرْش تَحت قَبضته ومسخر بقدرته والإستواء عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ بِمَعْنى الإستيلاء على مَا يعرفهُ الْعَرَب من كَلَامهَا فَإِنَّهَا تَقول ... قد اسْتَوَى بشر على الْعرَاق بِغَيْر سيف وَدم مهراق ... فَإِن أَرَادوا هَذَا الْمَعْنى فَهُوَ حق وصحيح لكنه لَا يَصح فِي حق عِيسَى وَحده فَإِن الله تَعَالَى مستول على عِيسَى وعَلى غَيره وَأما من أطلق مِنْهُم لفظ النُّزُوع فيستحيل على الْحَقِيقَة والتوسع وَذَلِكَ أَن هَذَا اللَّفْظ يشْعر بِأَن اللاهوت اتخذ الناسوت درعا أَو كالدرع وَهَذَا كُله مُسْتَحِيل على الْإِلَه تبَارك وَتَعَالَى وعَلى علمه وكل مَا تقدم من المحالات على هَذَا الْمَذْهَب يلْزم وعَلى الْجُمْلَة فَهَؤُلَاءِ الْقَوْم أغبياء جاهلون وَعَن التَّوْفِيق معزولون فهم عَن المعقولات معرضون وَبهَا مستهزءون لَا يستحيون من خالقهم وَلَا يتأدبون مَعَ مالكهم ورازقهم فسبحان الله عَمَّا يَقُول الجاهلون وَتَعَالَى عَمَّا ينْسبهُ إِلَيْهِ المبطلون بل هُوَ الله الْوَاحِد الْأَحَد الْفَرد الصَّمد الَّذِي {لم يلد وَلم يُولد وَلم يكن لَهُ كفوا أحد} وَلَوْلَا ضَرُورَة الْحَال ورجاء قمع أهل الضلال لما استجزت حِكَايَة مثل هَذَا الْمقَال وَأَنا أسْتَغْفر الله ذَا العظمة الْجلَال إِنَّه ذُو الْعَفو والأفضال

وَلَا بُد مَعَ مَا تقدم أَن نطالبهم أَجْمَعِينَ بِصِحَّة الدَّلِيل الَّذِي جعلهم على ذَلِك القَوْل الغث الهجين حَتَّى نتبين تحكماتهم وَتظهر لكل أحد ترهاتهم فَأَقُول لجميعهم مَا الَّذِي حملكم على القَوْل بالإتحاد والتورط فِي الضلال والإلحاد فلتعلم أَنهم قد اخْتلفت مسالكهم فِي ذَلِك فَمنهمْ من قَالَ إِنَّمَا قُلْنَا بذلك تقليدا للإنجيل وحذرا من الْمُخَالفَة والتبديل كَمَا قَالَ هَذَا السَّائِل وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّمَا قُلْنَا بالإتحاد لِأَن عِيسَى ظَهرت عَلَيْهِ أَفعَال لَا تنبغي إِلَّا لإله من إحْيَاء الْمَوْتَى وإبراء الأكمه والأبرص وَخلق الطير من الطين وَهَذِه أَفعَال لَا يقدر عَلَيْهَا إِلَّا إِلَه وَهُوَ قد قدر عَلَيْهَا فَهُوَ إِذن إِلَه وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّمَا صرنا إِلَى ذَلِك لكَون عِيسَى لم يخلق من المَاء الدافق الْكَائِن عَن أبوة وَلَا خرج عَن شَهْوَة آدمية بل خلق الله ناسوته من غير أَب ليَكُون واسطا بَينه وَبَين خلقه وليتخذه لكلمته وَرُبمَا قَالَ بَعضهم ألستم تقرأون فِي كتابكُمْ {إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروح مِنْهُ} وَهَذَا عين مَا أنكرتم علينا من الإتحاد فَإِن عِيسَى رَسُول الله وكلمته فناسوته رَسُول الله ولاهوته كلمة الله على مَا أخبر بِهِ كتابكُمْ فَنَقُول لمن قَالَ بذلك تقليدا للإنجيل جوابك قد تبين فِيمَا تقدم إِذْ قد تقدم أَن فهم الإتحاد مِنْهُ بالمسيح بَاطِل وَأَن الصائر إِلَى الإتحاد بعد الْوُقُوف على مَا تقدم معاند جَاهِل وَأما من اسْتدلَّ مِنْهُم على ذَلِك بِمَا ظهر على يَدي الْمَسِيح من خوارق الْعَادَات فَنَقُول لَهُ لأي شَيْء قلت أَنَّهَا تدل على ألوهيته وَلم تقل إِنَّهَا تدل على مَا كَانَ يسْتَدلّ هُوَ بهَا من رسَالَته فَقَالَ رب أعلم أَنَّك تعطينى كل شَيْء وَلَكِن أَقُول من أجل الْجَمَاعَة الواقفة ليؤمنوا بِهِ وليصدقوا أَنَّك أرسلتني فَهُوَ قد اسْتدلَّ بإحياء الْمَوْتَى

منها

على رسَالَته وَأَنْتُم تستدلون بذلك على ألوهيته فَيلْزم من هَذَا الإستدلال الْعُدُول عَن شرع عِيسَى الْمَنْقُول ومصادمة الْعُقُول ثمَّ نقُول لَهُم كَيفَ يَنْبَغِي لكم أَن تَقولُوا هَذِه الْأَفْعَال العجيبة تدل على أَنه لاهوت وَأَنْتُم تعزون فِي كتبكم أَن عِيسَى كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يفعل شَيْئا مِمَّا ذكر تضرع إِلَى الله وَرغب إِلَيْهِ بخضوع وتذلل حَتَّى يقْضى الله حَاجته وَهَذَا مَوْجُود فِي كتبكم كثيرا فِيهَا وَكفى دَلِيلا على نفي مَا تنسبونه إِلَيْهِ قَوْله حِين صلبه بزعمكم إلهي إلهي لم أسلمتني وَقَوله قبل ذَلِك يَا أبتاه إِن كَانَت هَذِه الكأس لَا تقدر تجاوزني حَتَّى أشربها فلتكن إرادتك وَهَذَا كُله فِي سُجُوده وَفِي هَذَا الموطن قَالَ يَا أبتاه إِن كَانَ مُمكنا فلتذهب عني هَذِه الكأس وَفِي إنجيل ماركوش أَنه قَالَ فِي هَذَا الْمقَام سيلقى ابْن الْإِنْسَان مَا كتب لَهُ ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك يَا أبتاه إِنَّك قَادر على جَمِيع الْأَشْيَاء فرج عني هَذِه الكأس فَهَذَا كُله يدل دلَالَة لَا شكّ فِيهَا أَنه كَانَ يفعل مَا يفعل بِإِذن الله إِذا أَرَادَهُ وأقدره عَلَيْهِ وَأَنه إِنَّمَا كَانَ يتَّفق لَهُ ذَلِك بعد أَن يتَضَرَّع ويرغب لله تَعَالَى وَرُبمَا كَانَ يسْأَل أمورا لَا يُعْطِيهَا الله لَهُ لما سبق فِي علم الله أَنَّهَا لَا تكون مِنْهَا مَا تقدم حَيْثُ سَأَلَ الله أَن يدْفع عَنهُ أَمر الصلب وَالْقَتْل فَلم يجب لذَلِك على زعمكم وَمِنْهَا أَن الْيَهُود كَانَت تطالبه بِمثل بعض

معجزات مُوسَى بن عمرَان فَلَا يُجِيبهُمْ بِشَيْء وَسَيَأْتِي لهَذَا مزِيد وَدَلِيل ذَلِك من الْإِنْجِيل أَن عِيسَى قَالَ للْيَهُود لست أفعل من ذاتي شَيْئا لكنني أحكم بِمَا أسمع لِأَنِّي لست أنفذ إرادتي بل إِرَادَة الله الَّذِي بَعَثَنِي إِلَى مَا فِي كتبكم من هَذَا الَّذِي قد عميتم عَنهُ وَلم تسمعوا حرفا مِنْهُ فَتَارَة ينبهكم على وَجه الإستدلال وَأُخْرَى يُصَرح بالمقال وَتارَة يسْأَل فَيعْطى وَيُجَاب وَأُخْرَى يسْأَل فَلَا يرد عَلَيْهِ جَوَاب وحينما يتبرأ من مَشِيئَته ويعترف بزلته وعبوديته ثمَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْم مَعَ ذَلِك يَقُولُونَ هُوَ إلهنا ومحيينا وخالقنا فَهَؤُلَاءِ يكونُونَ بكم كالأنعام وصم كالأصنام {فَمَا لهَؤُلَاء الْقَوْم لَا يكادون يفقهُونَ حَدِيثا} ثمَّ نقُول إِن كَانَ إحْيَاء الْأَمْوَات يدل على الألوهية فلأي شَيْء لَا تَقولُونَ إِن الياس وَالْيَسع كَانَا إِلَهَيْنِ وَأَنه حل بناسوتهما اللاهوت وشأنهما فِي إحْيَاء الْمَوْتَى لَا يقدر أحد على دَفعه وَلَا يخفى وَلم لَا تعتقدون ألوهية النَّبِي حزقيال إِذْ فر قومه وهم أُلُوف حذر الوباء فأماتهم الله ثمَّ جَاءَهُم نَبِيّهم فَقَالَ لَهُم لتحيوا بِإِذن الله فَحَيوا وَرَجَعُوا إِلَى قَومهمْ سحنة الْمَوْت على وُجُوههم حَتَّى مَاتُوا بآجالهم وَهَذَا مَعْرُوف عِنْدهم وَلَا مدفع فِيهِ وَإِن أنكرتم وجود شَيْء من ذَلِك نزلنَا مَعكُمْ إِلَى مَا فِي الْكتب الْقَدِيمَة من قصَص الْأَنْبِيَاء وكتبهم وَهَذَا لَازم لهَؤُلَاء الْقَوْم لَا يَنْفَكّ عَنهُ وَاحِد مِنْهُم أبدا

ثمَّ من عَجِيب أَمر هَؤُلَاءِ الْقَوْم أَنهم يَزْعمُونَ أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أيد نَفرا من الحواريين بإحياء الْمَوْتَى وجعلهم رسلًا إِلَى الْأَجْنَاس فأحيوا الْمَوْتَى بزعمهم فَمَا الَّذِي أوجب أَن يكون الْمَسِيح فِي حَال ألوهيته قد أيد بذلك بشرا وَجعله رَسُولا إِلَى الْأَجْنَاس كَمَا زَعَمُوا وَمَا الَّذِي منع أَن يكون الله عز وَجل يُؤَيّد بذلك بشرا ويجعله رَسُولا إِلَى النَّاس فَإِن كَانَ الْمَسِيح من أجل أَنه أَحْيَا مَيتا هُوَ الله فَكل من أَحْيَا مَيتا من الحواريين وَغَيرهم هُوَ الله ثمَّ كل خارق للْعَادَة يجعلونه دَلِيلا على ألوهيته فَإِنَّهُم يعارضون بِمثل ذَلِك فِي حق غَيره من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِ السَّلَام ويدعى ألوهيته فَلَا يَجدونَ فصلا بَينهم وَبَين من يعارضهم وَأما من اسْتدلَّ على ذَلِك بِأَنَّهُ خلق من غير أَب فَيلْزمهُ أَن يعْتَرف لآدَم بألوهية فَإِنَّهُ لم يخلق من نُطْفَة أَب بل إِنَّمَا خلق من تربة أَرض ثمَّ نفخ فِيهِ من روحه كَمَا فعل بِعِيسَى خلقه من نفخة الْملك فعلقت بلحمة مَرْيَم فَنَشَأَ مِنْهَا وفيهَا فتربه بِمَنْزِلَة لَحْمه ونفخه بِمَثَابَة نفخه وَهَذَا مَالا مخلص مِنْهُ وَلَا خُرُوج عَنهُ ثمَّ أكْرمه الله تَعَالَى بأنواع من الكرامات لم يكرم بهَا غَيره مِنْهَا أَنه أَسجد لَهُ مَلَائكَته وأعلمه بِمَا لم يعلمهُمْ حَتَّى جعله رَسُولا إِلَيْهِم وَكفى بِهَذَا شرفا إِلَى مَا هُنَالك من خَصَائِصه وَمن فضائله بل لَو أمكن لأحد أَن يَقُول إِن بشرا يتَصَوَّر أَن يكون إِلَهًا لكَونه من غير أَب لَكَانَ آدم أولى بذلك من حَيْثُ أَنه لم تشْتَمل عَلَيْهِ أوضار الرَّحِم فقد شَارك الْمَسِيح فِي كَونه من غير أَب وَزَاد عَلَيْهِ أَنه من غير أم لم يتكون فِي ظلمَة الرَّحِم وَلم يتلطخ بِدَم الطمث وَلَا خرج

من مجْرى الْبَوْل هَذَا مَعَ الإعتراف بِأَن ذَلِك كَذَلِك وَلم يخْتَلف فِي ذَلِك أحد أعنى فِي أَن آدم مكون مَخْلُوق من غير أبوين وَقد خالفتكم الْيَهُود لعنهم الله فِي كَون الهكم الْمَسِيح من غير أَب وأطلقت القَوْل على مَرْيَم البتول المبرأة عِنْد الله مِمَّا قَالُوا بِمَا قد علمْتُم فلعنهم الله وَغَضب عَلَيْهِم فَلَقَد كذبُوا وَإِنَّمَا أسمعتكم هَذَا لِتَعْلَمُوا أَنا نَعْرِف مَا قَالَت الْيَهُود لعنهم الله فِي عِيسَى وَأمه عَلَيْهِمَا السَّلَام وَأَنا ننزههما عَمَّا قَالَ فيهمَا المبغضون لَهما والمحبون القالون فيهمَا فَمَا أجمل بكم لَو شَاءَ الله توفيقكم أَن لَو قُلْتُمْ فيهمَا الْحق الَّذِي يَنْبَغِي لَهما أَن الله جعل عِيسَى وَأمه آيَة للنَّاس هُوَ عبدا ورسولا وَأمه صديقَة مباركة ثمَّ نقُول للمستدل بِمَا تقدم يلزمك على استدلالك أَن تكون حَوَّاء أم الْبشر إِلَهًا فَإِنَّهَا لم تخلق من أبوين وَلَا من نُطْفَة وَإِنَّمَا خلقهَا الله من ضلع من أضلاع آدم لم تتكون فِي ظلمات الرَّحِم وَلَا نشأت بَين الأقذار والأوضار وخلقها من ضلع آدم كخلقه من تُرَاب وَلَا فرق و {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} وَأما استدلالهم بِمَا فِي كتَابنَا من قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروح مِنْهُ} فَلَا حجَّة لَهُم فِي ذَلِك لوجوه أَحدهَا أَنهم لَا يصدقون بكتابنا فَلَا يستدلون بِهِ على شَيْء وَالثَّانِي أَنهم إِن استدلوا على غرضهم بِشَطْر هَذِه الْآيَة فَإِن صدرها يرد عَلَيْهِم استدلالهم وَكَذَلِكَ الْآيَات الَّتِي بعْدهَا قَالَ الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْعَزِيز الَّذِي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد} مُخَاطبا لَهُم وردا عَلَيْهِ {أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ وَلَا تَقولُوا على الله إِلَّا الْحق إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروح مِنْهُ فآمنوا بِاللَّه وَرُسُله وَلَا تَقولُوا ثَلَاثَة انْتَهوا خيرا لكم إِنَّمَا الله إِلَه وَاحِد سُبْحَانَهُ أَن يكون لَهُ ولد لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكفى بِاللَّه وَكيلا لن يستنكف الْمَسِيح أَن يكون عبدا لله وَلَا الْمَلَائِكَة المقربون وَمن يستنكف عَن عِبَادَته ويستكبر فسيحشرهم إِلَيْهِ جَمِيعًا فَأَما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فيوفيهم أُجُورهم ويزيدهم من فَضله وَأما الَّذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذَابا أَلِيمًا وَلَا يَجدونَ لَهُم من دون الله وليا وَلَا نَصِيرًا}

ونور بعد ذلك إلزامات لهم

وَنور بعد ذَلِك إلزامات لَهُم إِلْزَام لَهُم نقُول لَهُم حِين صَار أقنوم الْعلم لعيسى كَيْفَمَا صَار هَل بقى الرب تَعَالَى كَمَا كَانَ قبل ذَلِك أَو اخْتلفت حَاله فَإِن كَانَ كَمَا كَانَ قبل فَلم يصر لعيسى مِنْهُ شَيْء وَأَيْضًا فَلَو صَار إِلَيْهِ بعض أقانيمه لبقى نَاقص الأقانيم وَتبطل ألوهيته فَإِن حَقِيقَته عِنْدهم وَاحِد ثَلَاثَة أقانيم وَأما إِن اخْتلفت حَاله فَيلْزم عَلَيْهِ أَن يصير من الْعلم إِلَى الْجَهْل وَمن الْقدَم للحدوث وَهَذَا كُله على الله تَعَالَى محَال ومرتكبه فِي بحبوبة الضلال إِلْزَام آخر نقُول لَهُم حِين صَار أقنوم الْعلم لعيسى فَهَل بقى الْبَارِي تَعَالَى عَالما بذلك الأقنوم أم بِغَيْرِهِ أَو غير عَالم بَاطِل أَن يُقَال غير عَالم لِاسْتِحَالَة الْجَهْل عَلَيْهِ وباطل أَن يُقَال بقى عَالما بذلك الأقنوم إِذْ لَو كَانَ ذَلِك للَزِمَ مِنْهُ أَلا يصير إِلَى عِيسَى وَيلْزم مِنْهُ أَيْضا أَن يكون علم وَاحِد يقوم بمحلين وَلَو صَحَّ ذَلِك يَصح أَن يكون الْوَاحِد منا مَوْصُوفا بِنصْف علم وَذَلِكَ محَال فَإِن الْعلم الْوَاحِد لَا يَتَبَعَّض وَلَا يَنْقَسِم إِذْ الْعلم للْوَاحِد إِنَّمَا يعقل فِي مَحل وَاحِد بِمَعْلُوم وَاحِد فِي زمَان وَاحِد فِيمَا يقبل الزَّمَان والتعدد وباطل أَيْضا أَن يُقَال أَنه يكون عَالما بِعلم آخر فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى حُدُوث الأقانيم بل إِلَى حُدُوثه وَذَلِكَ كُله محَال إِلْزَام آخر يظْهر تناقضهم وَذَلِكَ أَنه قد تقدم من مَذْهَبهم أَنهم قَالُوا فِي الأقانيم أَنَّهَا غير متباينة وَلَا مفترقة ثمَّ أَنهم قد قَالُوا هُنَا

ثم نقول تحقيقا لالزام الجميع

إِن أقنوم الإبن اتَّحد بناسوت الْمَسِيح دون أقنوم الآب وروح الْقُدس فمفهوم هَذَا أَن الإبن اتَّحد بناسوته وبقى جَوْهَر الآب وروح الْقُدس لم يتحدا بِهِ وَهَذَا تَصْرِيح بالمباينة والمفارقة فَإِن بعض هَذِه الثَّلَاثَة وَجب لَهُ أَمر دون صَاحِبيهِ فَلَو لم يباينهما وَلم يكن غَيرهمَا لما وَجب لَهُ من الحكم مَا لم يجب لَهما وَلَا تنَاقض فَظهر من هَذَا تناقضهم وَقد كُنَّا أظهرنَا إضطرابهم فِي هَذَا فِي بَاب الأقانيم ثمَّ نقُول تَحْقِيقا لالزام الْجَمِيع هَذِه الأقانيم إِمَّا أَن تكون مباينة للجوهر مُفَارقَة أَو لَا تكون كَذَلِك فَإِن كَانَت مباينة لزم أَن تكون زَائِدَة عَلَيْهِ وَإِن كَانَت زَائِدَة عَلَيْهِ لزم أَن يكون الْإِلَه متركبا من أُمُور كَمَا مر وَقد أَبَيْتُم ذَلِك وَهُوَ محَال ويلزمكم أَيْضا إخْرَاجهَا عَن كَونهَا أقانيم ويلزمكم رفع التَّوْحِيد إِلَى محالات كَثِيرَة عنْدكُمْ وَإِن كَانَت غير مباينة لم يَصح إتحاد بَعْضهَا دون بعض بل لَو اتَّحد بَعْضهَا لاتحد جَمِيعهَا فَيلْزم على هَذَا اتِّحَاد الْعلم وَالْقُدْرَة والإرادة والوجود وَهَذَا بَين لَا خَفَاء بِهِ إِلْزَام آخر وَطَلَبه نقُول لَهُم لأي شَيْء قُلْتُمْ أَن الَّذِي اتَّحد بناسوت الْمَسِيح إِنَّمَا هُوَ الإبن فَقَط ولأي شَيْء لم تَقولُوا أَنه اتَّحد بِهِ الآب وروح الْقُدس وَلَو قُلْتُمْ ذَلِك لَكَانَ أجْرى على مَا أصلتم من أَن الأقانيم لَا متباينة وَلَا مفترقة فَإِن قَالُوا إِنَّمَا قُلْنَا بإتحاد الإبن لِأَن عِيسَى إِنَّمَا أرْسلهُ الله ليعلم النَّاس شريعتهم ويخبرهم بالمغيبات عَنْهُم ويعظهم وَذَلِكَ كُله إِنَّمَا يَصح بِالْعلمِ فَنَقُول لَهُم هَذَا الَّذِي ذكرْتُمْ مُسلم لكم جدلا لَكِن لم قُلْتُمْ أَنه إِنَّمَا اتَّخذهُ الله لهَذَا فَقَط وَإِنَّمَا هُوَ اتَّخذهُ لهَذَا ولأمور أخر مِنْهَا ليعبده وَمِنْهَا ليبرئ مرضى كَانُوا قد أعيوا الْأَطِبَّاء وَأَرَادَ الله تَعَالَى شفاءهم على يَدَيْهِ وَمِنْهَا أَنه أَرَادَ إحْيَاء موتى على يَدَيْهِ فَتحصل من هَذَا أَمْرَانِ أَحدهمَا أَن هَذِه معجزات تدل على صدقه وَالثَّانِي أَن من أَبرَأَهُ أَفَاق من مَرضه وجذامه وجنونه

إلزام آخر

وبرصه فَانْتَفع بذلك وَكَذَلِكَ يحصل للْمَيت الَّذِي حيى وزائدا على ذَلِك أَن الْمَيِّت آمن بِهِ فَأدْخلهُ الله الْجنَّة بإيمانه بِرَسُولِهِ وَهَذِه الْأُمُور كلهَا لَا لَا يُمكن إِنْكَار أَن يكون كل وَاحِد مِنْهَا مَقْصُودا لله تَعَالَى واذا أمكن أَن يكون كل وَاحِد من هَذِه الْأُمُور مَقْصُودا فَلم اقتصرتم على مَقْصُود وَاحِد من هَذِه الْأُمُور مَقْصُودا فَلم اقتصرتم على مَقْصُود وَاحِد مَعَ إِمْكَان هَذِه الْمَقَاصِد وَإِذا تقرر ذَلِك حصل مِنْهُ أَن الله تَعَالَى اتَّخذهُ لما لَا يَصح إِلَّا بِالْعلمِ وَالْقُدْرَة والإرادة والحياة فَقولُوا إِن هَذِه الأقانيم اتّحدت بِهِ وَهَذَا لَازم لَا محيص عَنهُ وَلَا جَوَاب عَلَيْهِ ثمَّ يلْزم على هَذَا أَن يكون كل نبى أرْسلهُ الله تَعَالَى يتحد بِهِ الْعلم فَإِن هَذَا الَّذِي استدللتم بِهِ فِي حق عِيسَى مَوْجُود فِي حق غَيره من الرُّسُل إِذْ كل وَاحِد مِنْهُم إِنَّمَا أرسل مُعَرفا بشرع الله ومبلغا رِسَالَة الله ومخبرا بوعد الله ووعيده فَيلْزم على هَذَا أَن يتحد الْعلم بِكُل رَسُول إِلْزَام آخر قد تقرر أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يحيى الْمَوْتَى وَيُبرئ الأكمه والأبرص ويخلق من الطين كَهَيئَةِ الطير فينفخ فِيهِ فَيكون طائرا فَإِذا قُلْنَا هَذَا فَأَما أَن يكون عِيسَى هُوَ الَّذِي يفعل ذَلِك أَو غَيره فَإِن كَانَ غَيره فَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا الله تَعَالَى وَغَايَة عِيسَى أَن يكون عبدا يرغب لله تَعَالَى فِي قَضَاء حَاجته ثمَّ إِن الله تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء عِنْد تحديه بِالنُّبُوَّةِ تَصْدِيقًا لَهُ فِي دَعْوَاهُ وَعِيسَى ينظر إِلَى ذَلِك ويتعجب عِنْد ذَلِك من فعل الله ولطيف صنعه وَهَكَذَا كَانَ حَال مُوسَى عِنْدَمَا أيده الله بالعصا فَقل لَهُ ألقها {فألقاها فَإِذا هِيَ حَيَّة تسْعَى} فَلَمَّا رَآهَا على حَال لم يعرفهُ مِنْهَا هاله ذَلِك وَولى مُدبرا خَائفًا وَذَلِكَ لما شَاهد من قدرَة الله تَعَالَى فَلَمَّا فرغ قَالَ الله تَعَالَى لَهُ {خُذْهَا وَلَا تخف سنعيدها سيرتها الأولى} وَإِذا قُلْنَا إِن عِيسَى هُوَ الَّذِي يفعل ذَلِك فَأَما أَن يَفْعَله بقدرة وَعلم وَإِرَادَة أَو لَا يحْتَاج إِلَى شَيْء من ذَلِك بَاطِل أَن يُقَال أَنه لَا يحْتَاج إِلَى شَيْء من ذَلِك لِأَن الْفِعْل الإختياري لَا بُد لَهُ من هَذِه الْأُمُور بِالضَّرُورَةِ على مَا يعرف فِي مَوْضِعه فَلم يبْق إِلَّا أَن يفعل ذَلِك بقدرة وَعلم وَإِرَادَة وَهَذِه الصِّفَات هِيَ شُرُوط الْفِعْل وَلَا بُد

إلزام آخر

وَأَن تكون منسوبة لَهُ وَيكون هُوَ مَوْصُوفا بهَا أَو لَا تكون منسوبة إِلَيْهِ وَلَا يكون هُوَ مَوْصُوفا بهَا فَإِن لم يكن هُوَ مَوْصُوفا بهَا وَلَا تنْسب إِلَيْهِ فَلَا ينْسب الْفِعْل إِلَيْهِ وَقد نسبتم الْفِعْل إِلَيْهِ فَدلَّ ذَلِك على أَنه مَوْصُوف بهَا وتنسب إِلَيْهِ كلهَا وَإِذا ثَبت ذَلِك فَلَيْسَ من يسلب عَنهُ الْقُدْرَة والإرادة وَيَقُول هما صفتان لله تَعَالَى وليستا بصفتين لعيسى فتبرؤوا حَالا مِمَّن يسلب عَنهُ الْعلم وَيَقُول هُوَ علم الله تَعَالَى وَلَيْسَ علم عِيسَى مَعَ أَنه صفة عِيسَى فَيلْزم عَن هَذَا الْبَحْث أَن هَذَا الْفِعْل الْمَنْسُوب إِلَى عِيسَى مَوْجُود عَن علم وقدرة وَإِرَادَة وَأَن هَذِه الثَّلَاثَة إِنَّمَا تنْسب لوَاحِد فإمَّا لله وَإِمَّا لعيسى وَلَا يجوز عقلا أَن ننسب بَعْضهَا لله وَبَعضهَا لعيسى فَإِن هَذِه الثَّلَاثَة مَشْرُوط بَعْضهَا بِبَعْض فالمحل أَو الْجَوْهَر الَّذِي يجب لأحد هَذِه يجب للْبَاقِي وَهَذَا مَالا خَفَاء بِهِ عِنْد الْعَاقِل الْمُوفق إِلْزَام آخر قد تقرر عِنْد هَؤُلَاءِ الْقَوْم أَن علم الله اتَّحد بِعِيسَى وَلَا خلاف بَين جمهورهم فِي هَذَا الْمَعْنى وَإِن اخْتلفت عباراتهم عَنهُ فعيسى عَالم وَالله تَعَالَى عَالم بِعلم وَاحِد فقد اتَّحد أقنوم الْعلم وتعدد الْمحل فَإِذا ثَبت ذَلِك لزم عَلَيْهِ أَن يكون عِيسَى عَالما بِكُل مَعْلُومَات الله تَعَالَى وَيكون الله تَعَالَى عَالما بِكُل مَعْلُومَات عِيسَى فَإِنَّهُمَا عالمان بِعلم وَاحِد فَإِذا علم الله أَنه هُوَ نَفسه خَالق الْمَخْلُوقَات يَنْبَغِي لعيسى أَن يعلم أَنه هُوَ نَفسه خَالق الْمَخْلُوقَات كَذَلِك لِأَن علمهما وَاحِد وَكَذَلِكَ إِذا علم الله أَنه هُوَ نَفسه قَدِيما بَاقِيا مَوْصُوفا بِصِفَات الْكَمَال يَنْبَغِي لعيسى أَن يعلم أَنه هُوَ نَفسه كَذَلِك وَإِذا علم عِيسَى نَفسه متغوطا بائلا ومصفوعا ومتوجا بالشوك ومصلوبا فِي حشبة ومسمرة يَدَاهُ وَرجلَاهُ فِيهَا فَيَنْبَغِي لله تَعَالَى أَن يعلم نَفسه كَذَلِك تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَهَذَا كُله لَازم على هَذَا الْمَذْهَب السخيف الْفَاسِد الضَّعِيف إِلْزَام آخر اتّفق النَّصَارَى الْقَائِلُونَ بالإتحاد على أَن عِيسَى لَا هوت وناسوت فبمَا هُوَ لاهوت يحيى الْمَوْتَى وَيُبرئ المرضى وَغير ذَلِك وَبِمَا هُوَ ناسوت يجوع يعطش ويبول ويتغوط ويفرح ويألم ويحزن ويلتذ ثمَّ يعْبدُونَ ناسوته ويجعلونه إِلَهًا فهم بَين أَمريْن إِمَّا أَن يَقُولُوا إِن جسده المتغوط البائل إِلَه أَو هُوَ شطر إِلَه فَإِن قَالُوا إِن جسده إِلَه فَكفى شناعة وهجانة إِلَه بائل متغوط

إلزام آخر

مصلوب وَإِن قَالُوا إِنَّه إِلَه بِمَا حل فِيهِ من الْإِلَه فَكَانَ يَنْبَغِي لَهُم أَن يَقُولُوا إِنَّه نصف إِلَه وَلَا يعْبدُونَ جِسْمه وَلَا يَسْجُدُونَ لجسده وَإِذا قَالُوا إلهنا الْمَسِيح قَالُوا مَكَان يَا إلهنا يَا نصف إلهنا أَو يَا ثلث إلهنا فَإِنَّهُ اتَّحد بِهِ أحد الأقانيم الثَّلَاثَة وَالْوَاحد من الثَّلَاثَة ثلث وَهَذَا كُله جهالات وتواقحات مِنْهُم إِلْزَام آخر وَذَلِكَ أَنهم اتَّفقُوا على أَن الْمَسِيح صلب وَقتل بالنخز وَرفع فَوق خَشَبَة بعد أَن أهين وصفع وَوضع على رَأسه الشوك وسمرت يَدَاهُ وَرجلَاهُ فِي الْخَشَبَة وَقد جَاءَ كل هَذَا فِي أَنَاجِيلهمْ كَمَا زَعَمُوا فَنَقُول لَهُم ألوقت الَّذِي أهين وصفع وَرفع على الْخَشَبَة وسمرت يَدَاهُ ونخز هَل كَانَ متحدا بِهِ اللاهوت أَو زَالَ عَنهُ فَإِن كَانَ متحدا بِهِ اللاهوت فِي تِلْكَ المواطن فَلَقَد أدْرك لَا هوته من المذلة والإهانة والنخز وَالْمَوْت مَا أدْرك ناسوته لَا سِيمَا وَقد ألتزمتم فِيمَا تقدم أَن أقنوم الْعلم حَيّ فيلزمكم على هَذَا أَن تعبدوا إِلَهًا ذليلا مهانا ينخز وَيَمُوت وَكفى بِهَذَا خزيا وفضيحة وَإِن قُلْتُمْ إِنَّه فَارقه فَإِذا جَازَ أَن يُفَارِقهُ فِي موطن جَازَ أَن يُفَارِقهُ فِي كل موطن وَهَذَا مِمَّا يأبونه وَيلْزم عَلَيْهِ إِن فَارقه أَن يكون جَاهِلا وَألا يكون إِلَهًا فتعبدون مَا لَيْسَ با لَهُ وَقد خرجنَا مَعَ هَؤُلَاءِ الْجُهَّال بخالقهم الْمُسْتَهْزِئِينَ بأديانهم إِلَى حد الْإِكْثَار وفارقنا شَرط الإختصار وَقد أطنبنا فِي هَذَا الْفَصْل وَإِن كَانَ لَا متمسك لصَاحبه وَلَا أصل لكَوْنهم متفقين عَلَيْهِ ومحتجين بِهِ ومتحومين نَحوه وَلَا يظنّ الظَّان أَن هَذَا الْمَذْهَب الَّذِي ارْتَكَبهُ هَؤُلَاءِ الْقَوْم فِي الأقانيم والإتحاد مُحْتَاج فِي إِبْطَاله إِلَى نظر وإجتهاد بل الْعُقُول بأوائلها تشهد بفساده كَمَا أَن الْحس يدْرك بَيَاض الْجِسْم من سوَاده وَهَؤُلَاء معاندون وللضروريات جاحدون وَمن كَانَ حَاله كَذَلِك إِنَّمَا يتَكَلَّم مَعَه بِضَرْب الْأَمْثِلَة بأبين المدارك وتعديل الإلزامات وتكثير المسالك ليتبين الإفحام ويلقى يَد الإستسلام وَقد قدمنَا الْعذر عَن ذَلِك كُله فِي أول الْكتاب وَإِلَى الله أَرغب فِي الْهِدَايَة للصَّوَاب وَحسن المنقلب إِلَيْهِ والمآب

الفصل السادس

الْفَصْل السَّادِس فِي حِكَايَة مَذْهَب أعشتين إِذْ هُوَ زعيم القسيسين نذْكر إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي هَذَا الْفَصْل كَلَام هَذَا الْمَذْكُور الْوَاقِع لَهُ فِي مصحف الْعَالم الْكَائِن ونحكي أَلْفَاظه من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان إِلَّا أَنِّي اختصر من كَلَامه مَالا تَدْعُو ضَرُورَة سِيَاق الْكَلَام إِلَيْهِ من غير إخلال بِلَفْظِهِ وَلَا تَقْصِير فِي مَعْنَاهُ وَرُبمَا قدمت وأخرت وَإِنَّمَا خصصته بالْكلَام مَعَه فِي فصل مُفْرد لغرضين أَحدهمَا أَن هَذَا السَّائِل على مذْهبه عول وإياه قلد وَمن كِتَابه نقل إِلَّا أَنه مَعَ ذَلِك أخل بِمَفْهُوم كَلَامه وَخَالفهُ فِي سِيَاقه ونظامه فَرُبمَا ترك مذْهبه بِسوء نظره وَهُوَ يظنّ أَنه يمشي على أَثَره وسيتبين ذَلِك وَالثَّانِي أَن النَّصَارَى معولون على مَعْرفَته ومقلدون لَهُ فِي قومته وقعدته على أَنه أعرف بمسالك النّظر وأجرأهم على مناهج العبر لَكِن نَعُوذ بِاللَّه من عين عوراء وفطنة بتراء قَالَ أغشتين قد أَجمعت الْملَّة على أَن الله تَعَالَى قد كلم مُوسَى تكليما وَاجْتمعت على أَن مُوسَى سمع صَوتا يَقُول لَهُ أَنا رَبك فأخبرونا أتؤمنون بِأَن الصَّوْت الَّذِي سَمعه مُوسَى هُوَ ذَات الرب وَأَن الرب فِي ذَاته مسموع أم تَقولُونَ إِن الرب أسمع مُوسَى صَوتا على مَا يَشَاء من رفع وخفض وغلظة ورقة وَأَنه ابْتَدَأَ الصَّوْت مَتى شَاءَ وقطعه مَتى شَاءَ وأنهى إِلَى مُوسَى من إِرَادَته مَا شَاءَ فَإِن قَالُوا إِن الصَّوْت نَفسه هُوَ الرب وَأَن الرب مدرك بِالسَّمْعِ فقد خَرجُوا عَن مَذْهَبهم فِي نفى التَّشْبِيه وَإِن قَالُوا إِن الصَّوْت من فعل الله وَأَن الله خلق الصَّوْت على مَا وَافقه وَأظْهر فِيهِ من إِرَادَته مَا شَاءَ وَأَن الصَّوْت قد كَانَ لَهُ مُبْتَدأ ومنتهى وَأَن الله الْخَالِق لَهُ لَا مُبْتَدأ لَهُ وَلَا مُنْتَهى قيل لَهُم فقد ثَبت أَن الصَّوْت الَّذِي سَمعه كَانَ مخلوقا فَكيف جَازَ لمُوسَى أَن يَقُول سَمِعت الله فَإِن قَالُوا مقَام الصَّوْت من الله مقَام صَوت الْإِنْسَان من الْإِنْسَان وَأَنا نسْمع صَوت إِنْسَان فَنَقُول

سمعنَا فلَانا وَكَذَلِكَ وَجب على مُوسَى لما سمع صَوت الله أَن يَقُول سَمِعت الله قيل لَهُم فقد أقررتم أَن الصَّوْت من فعل الله كَمَا أَن صَوت الْإِنْسَان من فعل الْإِنْسَان ولستم تقدرون أَن تَقولُوا إِذا سَمِعْتُمْ صَوت رجل سمعنَا صَوت المريد كَذَلِك الصَّوْت الَّذِي ابتدأه وخاطب بِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَقولُونَ سمعنَا صَوت فلَان وَسَمعنَا فلَانا إِذْ سَمِعْتُمْ صَوته وَكَذَلِكَ من سمع صَوت الله وَجب أَن يَقُول سمعنَا الله لإن الله خلق الصَّوْت وَجعله حِجَابا لإرادته الَّتِي أظهرها فِيهِ فقد ثَبت أَن النَّاس لَا يسمعُونَ الرب إِلَّا بِصَوْت مَخْلُوق على مَا يُشبههُ تعارفهم يكون حِجَابا فِيمَا بَينه وَبينهمْ وَالْوَاجِب عَلَيْهِم أَن يخاطبوا الصَّوْت باسم الَّذِي الصَّوْت لَهُ كَمَا أَن الصَّوْت إِنَّمَا خاطبهم عَن الله وَمثل ذَلِك يلْزمهُم فِي كل مَا يشبه التَّحْدِيد مِمَّا وَقع فِي كتب الْملَل الثَّلَاثَة من التَّشْبِيه بالعالم وَوصف نَفسه بِالْعينِ وَالْوَجْه والفم وَلَا يُمكن جَحده فقد رضى أَن ينْسب إِلَى نَفسه مثل كَلَامهم وَأَن يخاطبهم فِي مثل لغتهم فقد ثَبت أَنه أَتَّخِذ التَّشْبِيه حِجَابا بَينه وَبَين خلقه ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك كلَاما مَعْنَاهُ كَمَا جَازَ أَن يتَّخذ صَوتا ويجعله حِجَابا لإرادته حَتَّى أظهرها فِيهِ كَذَلِك يجوز أَن يكون قَادِرًا على إتخاذ أَي صُورَة شَاءَ وَأَن يظْهر لِعِبَادِهِ فِي أَي حلية وافقته وَتلك الصُّورَة ملك لَهُ يبدلها كَيفَ شَاءَ لأَنا إِن قُلْنَا أَنه لَا يقدر أَن يسمع عباده صَوتا وَلَا أَن يظْهر لَهُم بِصُورَة فقد أزلنا عَنهُ الْقُدْرَة على كل شَيْء ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك فَعلمنَا أَن الْحجاب مَخْلُوق وَعلمنَا أَن الله خَالق كل شَيْء وَوَجَب علينا إنزاله من الْإِكْرَام بِحَيْثُ أنزلهُ الله المحتجب بِهِ لِأَنَّهُ مَتى لم ننزل كل شَيْء على مَا أنزلهُ عَلَيْهِ فقد عصينا لأَنا لَا نجد بدا من أَن نكرم الْمَلَائِكَة مَالا نكرم الشَّيَاطِين ونكرم الصَّالِحين مَالا نكرم الْفجار وَهَكَذَا فَلَا بُد أَن يكون شَيْء أعز من شَيْء وَشَيْء أقرب إِلَى الله من شَيْء حَتَّى يكَاد شَيْء فِي الْعِزّ أَن يتَّصل بخالقه وَيكون أعز الْأَشْيَاء ويكاد شَيْء أَيْضا أَن يكون فِي الهوان بِحَيْثُ لَا يكون شَيْء تَحْتَهُ

وَالْوَاجِب على الْعَارِف بِاللَّه أَن ينزل كل شَيْء بِحَيْثُ أنزلهُ الله ويسميه بِمَا سَمَّاهُ الله فَإِن أقرّ بِأَن الله خَاطب بِصَوْت مسموع أَو ظهر فِي صُورَة مرئية فقد أقرّ بِأَن الله خص ذَلِك الصَّوْت وَتلك الصُّورَة بِمَا لم يخص بِهِ شَيْئا من الْمَخْلُوقَات وَأَن الْوَاجِب على من سمع ذَلِك الصَّوْت أَن يَقُول سَمِعت صَوت الله وَمن رأى تِلْكَ الصُّورَة يَقُول رَأَيْت صُورَة الله وَلِهَذَا وَجب على مُوسَى إِذْ سمع صَوت الْقَائِل أَنا رَبك أَن يجاوبه بإسم الرب وَيَقُول بِأَنَّهُ ربه وَوَجَب على آدم إِذْ قَالَ يَا آدم أَن يستجيب فَيَقُول هنأأنذا يَا رب وَكَذَلِكَ فِي مخاطبته لجَمِيع الْأَنْبِيَاء لِأَن الصَّوْت لم يقل أَنا صَوت الله وَأَنا أخاطب عَن الله وَإِنَّمَا الله خَاطب بِهِ فَقَالَ أَنا الله فَالْوَاجِب أَن نخاطب بِمثل مَا خَاطب بِهِ وَمثل ذَلِك يجب فِي الصُّورَة وَمن ظهر لَهُ الله فِي صورته كَمَا ظهر لأشعياء ولدانيال فقد وَجب عَلَيْهِ أَن يسْجد للصورة وَأَن يخاطبها باسم الله لِأَن علمه بِأَن الله خص تِلْكَ الصُّورَة بالإتخاذ لَهَا والإحتجاب بهَا ضام لَهُ إِلَى عِبَادَته فِيهَا لِأَنَّهُ قد رضى أَن يرى فِيهَا ويعبد بهَا وَقد علمنَا أَن الله خَالق الصَّوْت الَّذِي أسمعهُ لمُوسَى كَمَا علمنَا أَن الله خلق جَمِيع الْأَصْوَات وَلَكِن وَجب علينا الْإِقْرَار لذَلِك الصَّوْت بالربوبية مَا لم يجب لغيره لعلمنا أَن الله ولى المخاطبة بذلك وَكَذَلِكَ يجب فِي الصُّورَة أَن يَخُصهَا من الْإِكْرَام بِمَا خصها الله بِهِ وَمن قَالَ لَا يجب أَن يُخَاطب الصُّورَة باسم الله وَلَا أَن يُجَاوب الصَّوْت بإسم الله فقد قَالَ إِنَّه لَا يجوز أَن يتَّخذ الله صُورَة وَلَا أَن يسمع صَوتا وَإِذا وَجب إكرام الْحجاب بإكرام المحتجب بِهِ لم يبْق علينا من الْكَلَام شَيْء إِلَّا فِي الْحجاب الَّذِي اتَّخذهُ منا وَهُوَ الْمَسِيح والإستشهاد بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيل فِي أمره إِلَّا أَنا نقدم القَوْل فِي ذَلِك بِالْقِيَاسِ لِئَلَّا نستشهد بِالْكتاب إِلَّا فِيمَا كَانَ دَاخِلا تَحت الْإِمْكَان ثمَّ قَالَ هَذَا وَإِن لم يُوجِبهُ الْقيَاس إِيجَاب الإضطرار فَإِنَّهُ يجوزه تَجْوِيز الْإِمْكَان لِأَن الْقيَاس الَّذِي فضل بِهِ الْإِنْسَان على جَمِيع خلقه وخاطبهم بِمثل لغتهم وتشبه بهم فِي مخاطبتهم وَخلق كل

شَيْء لَهُم وَمن أَجلهم وَأوجب لَهُم الْبَقَاء مَعَه فِي رضوانه وَألا يكون دونهم أبدا وَأَنه ظهر لَهُم بحجاب مَخْلُوق فتشبه لَهُم بنعت محدد فَغير مُمْتَنع فِيهِ وَلَا بعيد أَن يكون حجابه فِيمَا بَينه وبلغهم مِنْهُ وَمِمَّا يشبههم ونزوله إِلَى مخاطبتهم فِي مثل لغتهم وَهُوَ نُزُوله إِلَى الظُّهُور لَهُم فِي مثل صورتهم لِأَن اتِّخَاذ الصُّورَة مثل اتِّخَاذ الصَّوْت ثمَّ قَالَ شواهده الْوَاضِحَة كَثِيرَة من ذَلِك قَول أرمياء النَّبِي حَيْثُ يَقُول مناجيا الله يَا رَجَاء إِسْرَائِيل يَا مخلصه من الْغم لم سَتَكُون فِي الْمُسْتَقْبل كالغريب فِي الأَرْض أَو كالمسافر يعدل إِلَى الْمبيت لم سَتَكُون فِي الْمُسْتَقْبل كَرجل صَالح لَا يقوى أَن يخلص وَقَول أشعياء النَّبِي حَيْثُ يَقُول إِن الْعَذْرَاء ستحمل وتلد ولدا ويدعى وَلَدهَا عجيبا مُدبرا إِلَهًا قَوِيا والدا مقبل الدَّهْر الْعَالم يكثر ملكه وَلَا يكون لسلطانه إنقطاعا وَلَا آخر وَقَوله أَيْضا من ذَا يقبل خبرنَا أَمن ذَا ظهر لَهُ ذِرَاع الرب ثمَّ وصف أَنه ظهر ضَعِيفا محتقرا وَأَنه هدى بِنَفسِهِ إِلَى الْقَتْل طَوْعًا وَوصف خبر الْمَسِيح ظَاهرا كَمَا كَانَ وَقَول يعقول لِبَنِيهِ حَيْثُ يَقُول لَا ينقضى

الْملك من سبط يهوذا وَلَا يزَال مِنْهُم أَمِير حَتَّى يَأْتِي الَّذِي هُوَ مُرْسل وَهُوَ يكون رَجَاء الْأَجْنَاس وتترجم كَذَلِك بإختصار لَا يَنْقَطِع الْملك مِنْهُم حَتَّى يَأْتِي الْمَسِيح هَذَا ملخص كَلَامه وزبدته فِي عدَّة أَبْوَاب من كِتَابه الْمُتَقَدّم الذّكر من غير أَن أخرج عَن لَفظه إِلَّا ألفاظا يسيرَة يتَّصل بهَا الْكَلَام وَلَا تغير الْمَعْنى وَهَا نَحن بعون الله نجاوبه مُجَاوزَة على طَرِيق الْبَحْث والمناظرة وَأما قَوْله اجْتمعت الثَّلَاث ملل على أَن مُوسَى سمع صَوتا يَقُول أَنا رَبك فَهَذَا قَول كذب يُنبئ عَن غَفلَة أَو جهل وَذَلِكَ أَن الَّذِي اتّفقت الْملَل عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ أَن الله كلم مُوسَى وَأَن الله تَعَالَى مُتَكَلم وَأما أَنه مُتَكَلم بِصَوْت أَو سمع مُوسَى صَوتا من الله فَهَذَا شَيْء اخْتلفت فِيهِ الْملَل وتباينت فِيهِ النَّحْل وَأكْثر أهل الْملَّة الحنيفية يَأْبَى ذَلِك ويخطئ من صَار إِلَى ذَلِك أعنى من صَار إِلَى أَن يكون الْبَارِي تَعَالَى متكلما بِصَوْت وَأَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لم يكلمهُ الله بِصَوْت وَإِنَّمَا

كَلمه بِكَلَامِهِ الَّذِي هُوَ وَصفه الَّذِي لَيْسَ بِصَوْت وَلَا حرف على مَا تقرر بَيَانه فِيمَا تقدم فَهَذَا الرجل الحاكي هَذَا القَوْل إِمَّا أَن يكون علم اخْتِلَاف الْملَل فِيمَا ذكر فِيهِ إجماعها أَو لم يعلم فَإِن كَانَ علم فقد كذب وَإِذا عرف من أحد من النَّاس الْكَذِب فَيَنْبَغِي أَلا يلْتَفت إِلَيْهِ وَلَا يعول عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي لكم أَلا تعولُوا على شَيْء من نَقله لامكان أَن يكون كذب فِيهِ كَمَا كذب فِي هَذَا وَإِن كَانَ ذَلِك القَوْل مِنْهُ عَن جهل فَهَذَا كثير فِي حَقه من جِهَتَيْنِ أَحدهمَا أَنه أقدم على الْإِخْبَار عَمَّا لم يتَحَقَّق من غير بَصِيرَة وَلَيْسَ هَذَا فعل الْعلمَاء وَلَا الأكياس من الْفُضَلَاء وَكفى بِالْمَرْءِ كذبا وإثما أَن يحدث بِمَا لم يعلم صِحَّته والجهة الثَّانِيَة أَنه جهل أمرا مَعْلُوما على الْقطع صَار إِلَيْهِ وَعمل على مُقْتَضَاهُ أُمَم لَا يُحصونَ كَثْرَة مُنْذُ مضى السنين وَلَا محمل بِمن تعاطى نصْرَة الْمذَاهب وَالْكَلَام مَعَ أَرْبَابهَا أَن يجهل مثل هَذَا وَإِذا جهل هَذَا فَهُوَ بِمَا هُوَ أخْفى من هَذَا أَجْهَل فَهُوَ بَين أَمريْن إِمَّا أَن يكذب مُتَعَمدا فَلَا يثقون بقوله أَو يجهل أمرا جليا يدْرك بِأَدْنَى بحث وأيسر أَمر فَلَا يَنْبَغِي لكم أَن تقلدوه فِي عمله وَنَظره وَإِنَّمَا ذكرت هَذَا لِتَعْلَمُوا أَن عُمْدَة النَّصَارَى على هَذَا الرجل فِي مذاهبهم بقوله يحكون وَبِه يحتجون وَله يقلدون وَعَلِيهِ يعولون فَهُوَ وهم كَرجل أعمى ادّعى أَنه بَصِير فاستقاده عمى فقادهم فَسقط فِي حُفْرَة فسقطوا لسقوطه وَأَشد عذَابا يَوْم الْقِيَامَة رجل قتل نَبيا أَو قَتله نَبِي وامام ضَلَالَة وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِك لِأَن عَلَيْهِ وزرها ووزر من عمل بهَا فطوبى لمن مَاتَ وَمَاتَتْ مَعَه ذنُوبه وَأما قَوْله فَإِن قَالُوا إِن الصَّوْت نَفسه هُوَ الرب وَأَن الرب مدرك بِالسَّمْعِ فقد خَرجُوا عَن مَذْهَبهم فِي نفى التَّشْبِيه فَهَذَا نَص من كَلَام هَذَا الرجل أَن الصدى لَيْسَ بالرب وَقد قَالَ السَّائِل الَّذِي جاوبناه قبل هَذَا أَنه أقرّ لَهُ بالربوبية وَظَاهر قَوْله مُنَاقض لقَوْل إِمَامه ثمَّ نقُول لَهما قد أتفقتما على أَن

الصَّوْت مَخْلُوق وَأَن الله تَعَالَى لَيْسَ بمخلوق فَهَذَا الصَّوْت الْمَخْلُوق إِمَّا أَن يكون رَبًّا غير الله أَو لَيْسَ رب فَإِن كَانَ رَبًّا غير الله فيلزمكم أَن تَعْبُدُوهُ بِعبَادة خَاصَّة غير عبَادَة الله بل هُوَ أولى بِالْعبَادَة من ناسوت الْمَسِيح إِذْ يتغوط ويبول ويصلب على قَوْلكُم إِلَى غير ذَلِك مِمَّا عددناه وَذَلِكَ أَن الصَّوْت لَا يَلِيق بِهِ شَيْء من ذَلِك وَذَلِكَ كُله جهل وَقد ألزمناهم على ذَلِك مناقضات لَا محيص عَنْهَا فِيمَا تقدم وَإِن كَانَ هَذَا الصدى لَيْسَ بِرَبّ فيلزمكم على قَوْلكُم أَن يكون مُوسَى خَاطب بالربوبية من لَيْسَ بِرَبّ وَذَلِكَ لَا يَلِيق بِهِ وَهَذَا على قَوْله أَن الْمُخَاطب هُوَ الصدى لَازم ضَرُورَة ثمَّ مَا أعجب أَمر هَؤُلَاءِ الْقَوْم ينفون تَشْبِيه الله تَعَالَى بخلقه ويجعلون نَفسه قَاعِدَة يرجعُونَ إِلَيْهَا بزعمهم ثمَّ يلتزمون من التَّشْبِيه فِي حق الله تَعَالَى مَا لم يقل بِهِ من المشبهة أحد وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا إِن الله تَعَالَى مُتَكَلم بِصَوْت هُوَ من قبيل أصواتنا وَهُوَ مَخْلُوق مقطع بالحروف وَهُوَ مَعَ ذَلِك مُخَاطب بالبربوية وَهَذَا هُوَ التَّشْبِيه الَّذِي فروا مِنْهُ وَزِيَادَة عَلَيْهِ وَلَقَد أوغل فِي التَّشْبِيه كَبِيرهمْ أغشتين وَإِن كَانَ عَن أصل التَّشْبِيه من المعرضين وَذَلِكَ أَنه جوز عقله بِزَعْمِهِ أَن يتَّخذ الْبَارِي صُورَة يجهلها وَيظْهر فِيهَا وَيسْجد لَهَا وَمن رأى تِلْكَ الصُّورَة وَيَقُول رَأَيْت صُورَة الله فَإِنَّهُ قد رأى الله وَلَا تَشْبِيه أعظم مِنْهَا بل المشبهة أحسن حَالا مِنْهُ وَذَلِكَ أَنهم أعنى المشبهة بنوا أَمرهم على ظواهر الشَّرَائِع فأثبتوا مَا أَثْبَتَت الشَّرَائِع وَمَا قَالَت الْأَنْبِيَاء وَمَا جَاءَ فِي كتب الله مُصدقين لَهَا غير منحرفين عَن ظواهرها ثمَّ عزلوا عُقُولهمْ فَلم ينْظرُوا بهَا فبقوا على جمود التَّقْلِيد وثبتوا على صميم الإعتقاد والتوحيد وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّهُم يعظمون الله وَيَقُولُونَ بِأَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَمِمَّا صرح فِيهِ بإلتزام التَّشْبِيه قَوْله صَوت الله من فعل الله كَمَا أَن صَوت الْإِنْسَان من فعل الْإِنْسَان وَلَا معنى للتشبيه الَّذِي نفى إِلَّا هَذَا فَهَذَا تنَاقض ظَاهر فَإِنَّهُ تَارَة نفى التَّشْبِيه وَتارَة أثْبته ثمَّ قَوْله يُصَرح بِأَن حَقِيقَة الْمُتَكَلّم من فعل الْكَلَام وَهُوَ خطأ بل حَقِيقَة الْمُتَكَلّم من قَامَ بِهِ الْكَلَام وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن حَقِيقَة الْمُتَكَلّم تفهم بكمالها مَعَ فرض الْغَفْلَة والذهول عَن كَونه فَاعِلا للْكَلَام وَلَو كَانَت حَقِيقَة الْمُتَكَلّم من فعل الْكَلَام لما فهمت حَقِيقَة الْمُتَكَلّم حَتَّى يفهم كَونه

فَاعِلا للْكَلَام على مَا يعرف فِي مَوْضِعه وَلَو كَانَت حَقِيقَة الْمُتَكَلّم من فعل الْكَلَام لَكَانَ الْبَارِي تَعَالَى متكلما بالْكلَام الَّذِي يقوم بِنَا فَإِنَّهُ فَاعل كلامنا وخالقه على مَا يعرف فِي مَوْضِعه وَذَلِكَ محَال ولتعلم أَيهَا النَّاظر فِي هَذَا الْكتاب أَن كل مَا ذكره هَذَا القس فِي هَذَا الْفَصْل إِنَّمَا هُوَ مبْنى على أَنه تَعَالَى مُتَكَلم بِحرف وَصَوت وَقد أبطلنا ذَلِك فِيمَا تقدم حَيْثُ قُلْنَا كَلَام الْبَارِي تبَارك وَتَعَالَى لَيْسَ بِصَوْت وَلَا حرف وَإِنَّمَا هُوَ وصف لَهُ قَائِم بِهِ لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت كَمَا نبهنا عَلَيْهِ وَإِذا بِكُل ذَلِك بَطل كل مَا انتحله فِي هَذَا الْفَصْل من الهذيان وَإِنَّمَا كلامنا مَعَه بعد ذَلِك على طَريقَة المناظرة الْجَارِيَة بَيْننَا وَذَلِكَ أَن أَرْبَاب النّظر رُبمَا يسلمُونَ مَا هُوَ مَعْلُوم الْفساد ليتبين تنَاقض الْخصم وتحكمه للعباد وَكَذَلِكَ نَفْعل نَحن بِهَذَا الرجل بحول الله فَنَقُول لَهُ لأي شَيْء قلت أَن الله اتخذ الصَّوْت حِجَابا لإِظْهَار أَرَادَتْهُ ولبست بِلَفْظ الْحجاب وَلَو قلت إِن الله جعل الصَّوْت دَلِيلا على مَا أَرَادَ لارتفع التلبيس ولزال الْإِبْهَام الَّذِي أوهمت فَإنَّك أوهمت بِلَفْظ الْحجاب أَن الْإِرَادَة احْتَجَبت بِهِ واتحدت مَعَه حَتَّى ظَهرت بواسطته فجعجعت أَنْت بِلَفْظ الْحجاب والظهور وأوهمت وَأَنت مَا حصلت على فَائِدَة وَلَا وجدت وَمِمَّا يتَبَيَّن أَن هَذَا الَّذِي ذكره إِنَّمَا هُوَ جعجعة لفظية لَيْسَ وَرَاءَهَا معنى أَنا نبطل لفظ الْحجاب بِالدَّلِيلِ وَلَا نبقى مِمَّا توهمه شَيْء فإننا يمكننا أَن نقُول إِن الصَّوْت الَّذِي خلقه الله تَعَالَى وَجعله دَلِيلا على إِرَادَته على قَوْله إِنَّمَا هُوَ بِمَثَابَة أَن لَو خلق خُطُوطًا فِي حجر يسْتَدلّ بهَا الْمُسْتَدلّ على إِرَادَته إِذا قَرَأَهَا فَلَا يتَمَكَّن لعاقل أَن يَقُول إِن الْإِرَادَة انحجبت بخطوط ذَلِك الْحجر وَلَا اتّحدت بِهِ فَإِن الْإِرَادَة لَا تقوم بجماد وَهَذَا بَين بِنَفسِهِ وَكَذَلِكَ لَو كتبنَا لفظ النَّار فِي ورقة لما تخيل عَاقل بل غافل أَن ذَات النَّار حلت فِي الورقة إِذْ لَو حلت النَّار فِي الورقة لاحترقت وَكَذَلِكَ

الصَّوْت المقطع حروفا إِنَّمَا هُوَ دَلِيل على مَا فِي النَّفس من غير أَن يحل مَا فِي النَّفس وَلَا أَن يتحد بِهِ وَإِذا فهم هَذَا ارْتَفع كل مَا توهمه هَذَا المخدوع بِالضَّرُورَةِ ثمَّ نقُول لَهُ نسلم جدلا مَا ذكرته من لفظ الْحجاب والظهور لَكِن لم قلت أَنه إِذا صَحَّ أَن تظهر إِرَادَته بحجاب الصَّوْت جَازَ أَن تظهر ذَاته بحجاب الصُّورَة وَمَا الدَّلِيل على ذَلِك وَأي جَامع بَينهمَا فَإِن قَالَ الدَّلِيل على ذَلِك أَن الله تَعَالَى قَادر على ذَلِك كَمَا هُوَ قَادر على حجاب صَوته فَإِنَّهُ إِن لم يكن قَادِرًا على إِظْهَار ذَاته بِصُورَة فَيكون عَاجِزا وَالْعجز عَلَيْهِ محَال فَهَذَا هُوَ الدَّلِيل وَأما الْجَامِع فَإِن الصَّوْت مظهر للإرادة وَالصُّورَة مظهرة للذات فَيُقَال لَهُ أما إستدلالك بِأَن الله قَادر على كل شَيْء فإستدلال فَاسد فَإِن الْأَشْيَاء الَّتِي يقدر الْبَارِي تَعَالَى عَلَيْهَا إِنَّمَا هِيَ الممكنات لَا المستحيلات وَهَذَا الَّذِي ذكرت من ظُهُور الله فِي صُورَة مُسْتَحِيل لَا يكون بِهِ مَقْدُورًا فَإِن المستحيل لَا يُوصف الْبَارِي تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَلَا بِالْعَجزِ عَنهُ لإستحالة شَرط تعلق الْقُدْرَة وَهَذَا إِنَّمَا يعرفهُ من يعرف حَقِيقَة حَقِيقَة الْوَاجِب والممكن والمستحيل ثمَّ أَنا نقلب عَلَيْهِم دليلهم ونقول هَل يقدر الله تَعَالَى أَن يظْهر نَفسه من غير صُورَة أم لَا فَإِن قَالُوا يقدر قُلْنَا لَهُم لَا يحْتَاج إِلَى الصُّورَة الَّتِي فرضتم وَإِن قَالُوا لَا يقدر قُلْنَا لَهُم فَيلْزمهُ الْعَجز وَبِالَّذِي ينفصلون عَن هَذَا بِهِ بِعَيْنِه ننفصل نَحن عَمَّا ألزمونا وَقد بَينا فِيمَا تقدم أَن إتخاذ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صُورَة ليظْهر فِيهَا مُسْتَحِيل حَيْثُ أبطلنا الْحُلُول والإتحاد وَمَا فِي مَعْنَاهُ ونزيد الْآن هُنَا نكته وَهِي أَنا نقُول هَذِه الصُّورَة الَّتِي يظْهر فِيهَا لابد أَن تكون متحيزة محدودة وَالظَّاهِر فِيهَا إِمَّا أَن يكون دَاخِلا فِيهَا أَو خَارِجا مِنْهَا أَولا خَارِجا وَلَا دَاخِلا فَإِن كَانَ دَاخِلا فِيهَا كَانَ محدودا محاطا بِهِ وَهَذَا هُوَ التَّشْبِيه

نكتة أخرى

فَإِنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَن يكون جسما وَهُوَ بَاطِل على الله تَعَالَى ومحال وَإِن كَانَ خَارِجا عَنْهَا لزم تحديده أَيْضا لِأَنَّهُ لَا يكون خَارج لَا مَحْدُود متحيز فَيلْزم أَن يكون بِجِهَة من الصُّورَة وَإِذا كَانَ بِجِهَة كَانَ جسما وَهَذَا تَشْبِيه وَأَيْضًا فَإِذا كَانَ بِجِهَة من الصُّورَة الَّتِي ظهر فِيهَا كَانَ مفارقا لَهَا وَإِذا كَانَ مفارقا لَهَا لم يظْهر فِيهَا وَإِن ظهر فَإِنَّمَا يظْهر بِنَفسِهِ لَا بالصورة وَإِذا كَانَ لَا دَاخِلا فِيهَا وَلَا خَارِجا عَنْهَا اسْتَحَالَ عَلَيْهِ أَن يظْهر بهَا أَو فِيهَا لِأَن مَا لَيْسَ بمتحيز وَلَا دَاخل وَلَا خَارج لَا يظْهر فِي جسم متحيز لِأَنَّهُ من حَيْثُ كَانَ لَيْسَ بداخل فِيهَا فقد فَارقهَا وَإِذا فَارقهَا لم يكن فِيهَا وَإِذا لم يكن فِيهَا لم يظْهر فِيهَا وَلَو جَازَ أَن يظْهر فِي كل مَا لَيْسَ بداخل فِيهِ وَلَا خَارج عَنهُ لجَاز أَن يظْهر فِي كل مَوْجُود وَإِذا جَازَ ذَلِك فَلَعَلَّهُ قد اتخذ الْأَنْبِيَاء كلهم حِجَابا يظْهر فيهم وَهَذَا مِمَّا يأبونه وَهُوَ محَال عِنْدهم وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى عِنْدهم لَا يرى بإنفراد من غير صُورَة وَلَا يظْهر دونهَا فَكَذَلِك يلْزمهُم أَن يبْقى على حَاله لَا يظْهر وَإِذا وجد صُورَة إِذْ لَيْسَ بداخل فِيهَا وَلَا خَارج عَنْهَا فَإِن الصُّورَة لَا تكسبه أمرا أوجب لَهُ ظهورا إِلَّا لم يكن لَهُ وَهَذَا بَين الإستحالة إِذْ يلْزم على ذَلِك تغيره عِنْد الْعَاقِل الْمنصف نُكْتَة أُخْرَى وَهِي أَنا نقُول هَل يجوز أَن يرى الْبَارِي تَعَالَى وَيظْهر من غير صُورَة أم لَا يجوز فَإِن جَازَ ذَلِك فَلم حتمتم اتِّخَاذ الصُّورَة عَلَيْهِ وقلتم أَنه لَا يظْهر وَلَا يرى إِلَّا بِصُورَة وَإِن قُلْتُمْ لَا يرى وَلَا يظْهر إِلَّا بإتخاذ صُورَة فَإِذا وَقع بصر النَّاظر فَأَما أَن يَقع على تِلْكَ الصُّورَة أَو على الله وَعَلَيْهِمَا فَإِن قُلْتُمْ وقعل الْبَصَر على الصُّورَة لَا عَلَيْهِ فالمرئى إِذن هِيَ الصُّورَة المخلوقة لَا الْخَالِق وَإِن وَقع الْبَصَر على الْخَالِق وَحده لَا على الصُّورَة فَهُوَ المرئى وَلَا ترى الصُّورَة فَإِن الصُّورَة لَيست هِيَ الْخَالِق تَعَالَى والرائي لم ير إِلَّا الصَّوْت فَإِذن لم ير الْخَالِق وَإِن وَقع الْبَصَر عَلَيْهِمَا لزم عَلَيْهِ أَن يرى الرَّائِي شَيْئَيْنِ الْخَالِق وَالصُّورَة

وَهُوَ إِنَّمَا رأى شَيْئا وَاحِدًا بِالضَّرُورَةِ وَهُوَ الصُّورَة لقَوْل من يَقُول إِنَّه ظهر بالصورة وَأَيْضًا فَلَو وَقع بصر من رأى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام على ناسوته ولاهوته لما احتاجوا أَن يستدلوا على ألوهيته بإحياء الْمَوْتَى وَغير ذَلِك وَلما كَانَ يحْتَاج هُوَ أَن يدل على لاهوت نَفسه بِشَيْء من المعجزات وخوارق الْعَادَات إِذا كَانَ يدْرك مِنْهُ بالحس والعيان ذَلِك والمعلوم بالعيان لَا يطْلب تَحْصِيل علمه بِالدَّلِيلِ والبرهان فَحصل من هَذَا أَن الصُّورَة الْمقدرَة لَا يظْهر فِيهَا الْبَارِي تَعَالَى وَإِن ظَهرت هِيَ فَإِن الرائى إِنَّمَا يَرَاهَا وَحدهَا وَهِي الظَّاهِرَة لَهُ وَأما الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهُوَ بعد إِيجَاد هَذِه الصُّورَة على مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل إيجادها لم تتبدل حَاله أعنى أَنه إِن كَانَ قبل إيجاده هَذِه الصُّورَة قَابلا لِأَن يظْهر فَهُوَ بعْدهَا قَابل لِأَن يظْهر وَإِن كَانَ مُمْتَنعا عَلَيْهِ أَن يظْهر قبلهَا امْتنع عَلَيْهِ ذَلِك بعْدهَا لِاسْتِحَالَة التَّغَيُّر عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَو تغير لَكَانَ مُحدثا وَأما مَا ادَّعَاهُ من الْجَامِع فَلَا نسلم أَن الصَّوْت مظهر للإرادة إِلَّا بِمَعْنى أَنه يدل عَلَيْهَا لَا بِمَعْنى الإحتجاب والظهور كَمَا زعم وَإِذا لم نسلم هَذَا فِي الصَّوْت فَلَا يَصح لَهُ قِيَاس الصُّورَة على الصَّوْت وَلَو سلمنَا قِيَاس الصُّورَة على الصَّوْت من حَيْثُ الْجَامِع فَبِأَي دَلِيل يحمل أَحدهمَا على الآخر فَإِن وجود الْجَامِع لَا يدل على أَن حكم أَحدهمَا حكم الآخر إِذْ لَا يبعد فِي المتماثلات فِي بعض الصِّفَات اختلافها فِي بعض الْأَحْكَام على مَا يعرفهُ أَهله وَلَو سلمنَا وجود دَلِيل الْإِلْحَاق لَكَانَ قِيَاس جُزْء على جُزْء وَذَلِكَ غير مَقْبُول فِي العقليات على مَا يعرف فِي مَوْضِعه وعَلى مايقال مَعَ أَهله فَظهر من كَلَام هَذَا الرجل عِنْد الْعُقَلَاء أَنه غير متمسك بِدَلِيل عَقْلِي وسنبين أَنه لم يسْتَدلّ على صِحَة مذْهبه بِدَلِيل نقلى فَإِذا بَطل لَهُ الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول ثَبت أَنه بالتحكم والهوى يَقُول وَذَلِكَ دأب كل غبي جهول وَأما قَوْله فَالْوَاجِب عَلَيْهِم أَن يخاطبوا الصَّوْت بإسم الَّذِي الصَّوْت لَهُ وَكَذَلِكَ الصُّورَة يجب أَن تخاطب بإسم الَّذِي هِيَ لَهُ

فَنَقُول لَهُ قَوْلك وَاجِب عَلَيْهِم هَذَا الْوُجُوب الَّذِي ادعيته أهوَ عَقْلِي أَو شَرْعِي فَإِن قَالَ هُوَ عَقْلِي وشرعي فَلَا بُد من إِقَامَة الدَّلِيل على ذَلِك فَإِن قَالَ الدَّلِيل على ذَلِك النَّقْل وَالْعقل أما النَّقْل فَهُوَ أَن الْعَاقِل إِذا أقرّ بِأَن الله خَاطب مُوسَى بِصَوْت مسموع أَو ظهر فِي صُورَة مرئية فقد أقرّ بِأَن الله خص ذَلِك الصَّوْت وَتلك الصُّورَة بِمَا لم يخص بِهِ شَيْئا من الْمَخْلُوقَات إِذْ تجلى هُوَ فِيهَا وَإِذا ثَبت ذَلِك فالعقل يشْهد بِأَن ذَلِك الصَّوْت وَتلك الصُّورَة شرِيف وَالصَّوْت لابد أَن يعْتَرف لشرفه وَينزل مَنْزِلَته وَلَا أشرف من الله تَعَالَى وَمَا ظهر فِيهِ الله تَعَالَى فَيَنْبَغِي أَن يعظم بأقصى رتب التَّعْظِيم ويعبد بِأَجل الْعِبَادَات فَخرج من هَذَا أَنه يجب عقلا أَن تعظم الصُّورَة لتعظيم الْحَال فِيهَا فتخاطب بإسم الرب ويعترف لَهَا بالربوبية والألوهية وَأما الشَّرْع فَالَّذِي دلّ عَلَيْهِ الْعقل جَاءَت بِهِ الشَّرَائِع أَلا ترى أَن مُوسَى خَاطب الصَّوْت بإسم الربوبية وَكَذَلِكَ من رأى الصُّورَة إِنَّمَا يرى صُورَة الله وَالله تَعَالَى مُعظم بِالشَّرْعِ وَالْعقل فَتلك الصُّورَة يَنْبَغِي أَن تكون معظمة بِالشَّرْعِ وَالْعقل أَلا ترى أَن الشَّرَائِع قد أمرتنا بتعظيم الْمَلَائِكَة وإهانة الشَّيَاطِين وَلَيْسَ يخفى أَن الْعَرْش أعظم من السَّمَاء وَأَن الْمشرق أعظم من الْمغرب وَأَن الصَّالِحين أعظم من الطالحين وَهَذَا كُله يشْهد لَهُ الْعقل وَالنَّقْل كَمَا سبق هَذَا إنهاء تَقْرِير حجَّته وإليها أَشَارَ فِي كَلَامه وَلَا مزِيد فِي التَّقْرِير عَلَيْهَا فَنَقُول قَوْلك الْعقل دلّ عَلَيْهِ بَاطِل فَإِن الْعقل لَا يدل على الْتِزَام الْعِبَادَات فَإِن معنى الْعِبَادَات الَّتِي تفعل بِحكم اللُّزُوم إِنَّهَا تفعل وَإِلَّا فيعاقب الله التارك وَذَلِكَ لَا يتَوَصَّل الْعقل إِلَيْهِ إِذْ الْعِبَادَات لَا تتَعَيَّن عِنْده إِلَّا بِتَعْيِين معِين الَّذِي هُوَ الشَّارِع الَّذِي ينص على مَا يرضيه من الْعِبَادَات وعَلى مَا لَا يرضيه وَأما الْعقل فَلَا يسْتَقلّ بِشَيْء من ذَلِك فَلَعَلَّ الْعِبَادَة الَّتِي يعينها الْعقل ويلتزمها لَعَلَّ الله تَعَالَى لَا يرضى بهَا إِذْ يفعل الله مَا يُرِيد وَلَعَلَّ مَا يَظُنّهُ الْعقل عبَادَة هُوَ مَعْصِيّة فَإِن هَذَا الله تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء فَكَمَا يَجْعَل من شَاءَ نَبيا ووليا

يَجْعَل من يَشَاء فَاسِقًا وخبيثا ويمد بِأَسْبَاب ذَلِك وَلَا حجر عَلَيْهِ فِي ذَلِك وَلَا حكم كَذَلِك يَجْعَل مَا يَشَاء من الْأَعْمَال طَاعَة وَمَا يَشَاء مَعْصِيّة وَإِن لم تقل بذلك لزمك أَن تجْعَل الله تَعَالَى مَحْكُومًا عَلَيْهِ مَغْلُوبًا وَذَلِكَ كُله على الله تَعَالَى محَال وَأما مَا ادعيت من النَّقْل من الْأَنْبِيَاء فَذَلِك شَيْء لَا يَصح عَنْهُم أَنهم عظموا الصَّوْت وَالصُّورَة بِمَا عظموا بِهِ الله حَتَّى عبدوهما كَمَا تَزْعُمُونَ أَنْتُم وقولكم إِن مُوسَى خَاطب الصَّوْت بالربوبية زعم وقاح وافك صراح وَإِنَّمَا الْمُخَاطب بالربوبية الْمُتَكَلّم بالصوت بزعمكم الَّذِي قَالَ عَن نَفسه بالصوت أَنا الله وَالَّذِي يعقله الْعُقَلَاء الَّذين لَا يَلْعَبُونَ بأديانهم وَلَا يجترؤون على رَبهم والههم إِن الصَّوْت مَوْجُود يتَكَلَّم بِهِ وَلَا يتَكَلَّم هُوَ عَن نَفسه فَإِذا سمع الْعَاقِل قَائِلا قَالَ بِصَوْت مقطع مشيت إِلَى بَيت الْمُقَدّس فرأيته مثلا لَا يشك عَاقل فِي أَن الْمخبر عَن نَفسه إِنَّمَا هُوَ الَّذِي قَامَ بِهِ الصَّوْت لَا الصَّوْت فَإِنَّهُ لَو كَانَ الصَّوْت هُوَ الَّذِي أخبر بذلك عَن نَفسه لما صدق عَلَيْهِ ذَلِك وَلما صَحَّ مِنْهُ الْخَبَر لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ المشى وَلَا الرُّؤْيَة وَكَذَلِكَ لَو قَالَ إِنْسَان مخبرا عَن نَفسه بقوله أكلت الْخبز وَهَذَا بَين بِالضَّرُورَةِ وَإِذا تقرر هَذَا فالصوت الَّذِي سلمناه جدلا الَّذِي تكلم الله بِهِ على زعمهم لم يقل من نَفسه شَيْئا مِمَّا ذَكرُوهُ إِنَّمَا الله هُوَ الَّذِي قَالَه مخبرا عَن نَفسه وَأما مَا قَالَه مُوسَى فَإِنَّمَا قَالَه لله تَعَالَى فَلهُ اعْترف بالربوبية وَإِلَيْهِ تَابَ وَله سجد وإياه عبد لَا للصوت وَهَذَا مَعْلُوم على الْقطع والضرورة والمخالف فِي ذَلِك جَاهِل متسامح أَو معاند متواقح وَقد كَانَ تقدم من قَول السَّائِل الغبي الْجَاهِل أَن مُوسَى أعترف للصدى بالربوبية وَأَنه الَّذِي قَالَ عَن نَفسه أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدني وَأَنه هُوَ الَّذِي سجد لَهُ مُوسَى وَعَن ذَلِك الصدى تحمل مُوسَى الرسَالَة وَأَنه هُوَ الَّذِي كلم مُوسَى وإياه جاوب وَأَنه قَامَ عِنْد مُوسَى مقَام خَالق فَسَماهُ إِلَهًا وَرُبمَا يظنّ ذَلِك الْجَاهِل أَن هَذَا

الَّذِي قَالَه أغشتين هُوَ الَّذِي قَالَه هُوَ وهيهات أَن بَينهمَا مَا بَين الثرى والثريا وَغَايَة كَلَام أغشتين وَإِن كَانَ فِيهِ من المخطئين أَن يَقُول قد علمنَا أَن الله تَعَالَى خلق الصَّوْت الَّذِي أسمعهُ لمُوسَى كَمَا علمنَا أَن الله خلق جَمِيع الْأَصْوَات وَلَكِن وَجب علينا الْإِقْرَار لذَلِك الصَّوْت بالربوبية مالم يجب لغيره لعلمنا أَن الله تَعَالَى ولى المخاطبة بِهِ هَذَا نَص مَا فِي كِتَابه على هَذَا الْمَعْنى وَلَا يفهم مِنْهُ شَيْء مِمَّا انتحله ذَلِك السَّائِل وَقد وكلت النَّاظر الْعَاقِل الْمنصف للوقوف على كَلَامهمَا وتفهم معانيهما فَإِنِّي قد نصصت على كَلَامهمَا فِي هَذَا الْكتاب وحكيته كي يَزُول الإرتياب وَيعلم النَّاظر الْمنصف أَن السَّائِل لَيْسَ على شَيْء من الصَّوَاب وَإِنَّمَا نبهت هَذَا التَّنْبِيه حذرا من المغالطة والتمويه فَإِنِّي أَخَاف إِن وبخ أحد أقسة النَّصَارَى هَذَا السَّائِل على هَذَا الْمَذْهَب الَّذِي اخترعه والمحال الَّذِي ابتدعه أَن يحْتَج لنَفسِهِ بِأَن ينْسبهُ إِلَى أغشتين وَيكون فِي نسبته من الْكَاذِبين فَمن أَرَادَ الْإِنْصَاف فليطرح عَن نَفسه التعصب والإعتساف وَيقف على كَلَامهمَا متدبرا وَفِيه متفكرا وَلَقَد كنت أَتَمَنَّى أَن يكون أُولَئِكَ الأقسة بَين يَدي حَتَّى يسمعوا مني وينظروا إِلَى فَلَيْسَ كل مَا فِي النَّفس تبرزه الْمُكَاتبَة ثمَّ لَيْسَ الْخَبَر كالمشافهة وَأما قَوْله وَإِذا وَجب إكرام الْحجاب بإكرام المحتجب بِهِ لم يبْق علينا من الْكَلَام شَيْء إِلَّا فِي الْحجاب الَّذِي اتَّخذهُ منا وَهُوَ الْمَسِيح فَنَقُول الْمَفْهُوم من لفظ الْحجاب إِنَّمَا هُوَ السَّاتِر للشَّيْء الْمَانِع لَهُ فَإنَّك تَقول احتجب عني فلَان إِذا استتر عَنْك وَامْتنع من لقائك وَالْخُرُوج إِلَيْك وَلَا يَصح هُنَا على مَفْهُوم كَلَام هَذَا الرجل أَن يكون الْحجاب هُوَ السَّاتِر بل هُوَ الكاشف الْمظهر على قَوْله وَذَلِكَ أَن إِرَادَة الله وذاته قبل إتخاذ الصَّوْت وَالصُّورَة لم يكن شَيْء مِنْهُمَا ظَاهرا فَلَمَّا اتخذهما ظَهرت إِرَادَته وذاته هَذَا مَفْهُوم مساق كَلَامه فتدبره

كمل الباب الثاني وبكماله كمل الجزء الأول الحمدلله حق حمده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم يتلوه الثاني

وَهَذَا يدلك على قلَّة التَّحْصِيل وَقصد التَّخْلِيط والتجهيل وَإِذا كَانَ النَّاظر من قلَّة التحفظ بِحَيْثُ يعبر عَن الْمظهر بالساتر فَعلمه جهل وَنَظره قَاصِر وَأما قَوْله فِي الشواهد على إتخاذ الله الْمَسِيح حِجَابا فتهويل لَيْسَ وَرَاءه تَحْصِيل وَذَلِكَ انه قَالَ إِن لم يُوجِبهُ الْقيَاس إِيجَاب أضطرارا فَإِنَّهُ يجوزه تَجْوِيز الْإِمْكَان ثمَّ إِنَّه تكلم بِأَكْثَرَ وَذكر الْقيَاس الْفَاسِد الَّذِي بِهِ كفر ثمَّ رَجَعَ حَاصِل كَلَامه إِلَى أَن قَالَ لِأَن إتخاذ الصُّورَة مثل إتخاذ الصَّوْت وَهَذَا كُله قد بَينا فَسَاده فِيمَا تقدم وَأما مَا ذكره من شَوَاهِد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام على مَا إدعاه من الهذيان والهذر والبهتان على المتعالي عَن النُّقْصَان فَلَيْسَ لَهُ فِي شَيْء من ذَلِك شَاهد وحاشا أَنْبيَاء الله وَكتبه من مذْهبه الْفَاسِد وَغَايَة تِلْكَ الشواهد أَن تدل على رِسَالَة عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَلَيْسَت دلالتها قَاطِعَة على ذَلِك فتدبرها بفهمك وخذها بِقِيَاس عقلك وَسَيَأْتِي ذكر ذَلِك وأشباهه فِي بَاب النبوات بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقد أَتَيْنَا على مَا أردنَا ذكره فِي هَذَا الْبَاب وَالْحَمْد لله على أَنا أَغْفَلنَا كثيرا من أَلْفَاظ أغشتين يُمكن الْبَحْث فِيهَا تركناها لِئَلَّا يطول الْكتاب وَيخرج عَن الضَّبْط هَذَا الْبَاب على أَن هَذَا من كَلَامه هُوَ اللب واللباب هَذَا مَعَ أَن الأمل إِن وَافق الْقدر أَن أرد على القس أغشتين كَلَامه وأبطل من ذَلِك الْكتاب قَصده ومرامه وحسبنا الله وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه كمل الْبَاب الثَّانِي وبكماله كمل الْجُزْء الأول الحمدلله حق حَمده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسلم يتلوه الثَّانِي

الإعلام

الْإِعْلَام بِمَا فِي دين النَّصَارَى من الْفساد والأوهام وَإِظْهَار محَاسِن دين الْإِسْلَام وَإِثْبَات نبوة نَبينَا مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام تأليف الإِمَام الْقُرْطُبِيّ تَقْدِيم وَتَحْقِيق وَتَعْلِيق الدكتور أَحْمد حجازي السقا الْجُزْء الثَّانِي

في النبوات وذكر كلامهم

الْبَاب الثَّالِث فِي النبوات وَذكر كَلَامهم هَذَا الْبَاب يَنْقَسِم قسمَيْنِ أَحدهمَا نحكى فِيهِ كَلَام السَّائِل وَنَذْكُر الْجَواب عَلَيْهِ وَالثَّانِي نتكلم فِيهِ على النبوات وعَلى إِثْبَات نبوة نَبينَا مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام

القسم الأول

الْقسم الأول الْفَصْل الأول احتجاج أَصْحَاب الْملَل فِي حِكَايَة كَلَامه قَالَ إبتداء احتجاج الثَّلَاث ملل بعون الله أعلم أَن أهل الْملَل أَجْمَعِينَ متكافئون فِي إدعاء الْإِيمَان حاكمون على كل قوم لأَنْفُسِهِمْ بِالْإِيمَان ولغيرهم بالْكفْر قد غلبت عَلَيْهِم فِي ذَلِك الغواية وتأديب الصِّبَا وَوَصِيَّة الْآبَاء والأجداد حَتَّى صَار ذَلِك طبعا فيهم لَازِما لَهُم فكلهم قد سهل عَلَيْهِم انتقاص غَيرهم وطاب عِنْدهم دينهم بالتهنية فِي دنياهم عَن معاد آخرتهم وصاروا فِي تَدْبِير دنياهم ومعايشهم على خلاف ذَلِك لِأَنَّك تَجِد أهل كل مِلَّة يَزْعمُونَ أَن غَيرهم من الْملَل ألحف على كل طلب مَعَايشهمْ وألطف فِي إستجلاب أَرْزَاقهم وأحسب أَن الْعلَّة فِي ذَلِك رغبتهم فِي التكاثر من الدُّنْيَا وَهِي الَّتِي تدخلهم إِلَى التحاسد والمعايرة فيعجز كل قوم أنفسهم فِي طلب معاشهم وَأَن الْآخِرَة عِنْدهم مُهْملَة لبعدها عَن حواسهم فَلذَلِك يزْعم أهل كُله مِلَّة أَنهم أَحَق خيرا من غَيرهم فَلذَلِك قل تناصفهم فِيهَا وَإِن طَال عصرهم لِأَن كل قوم قد قلدوا سلفهم وطاب عِنْدهم خبرهم فِي مدح دينهم وذم غَيرهم فأسقط الرجل مِنْهُم كل حاسة وأمات خواطره وأذهب فهمه بِقطع كشفه عَن مصَالح مَا يستقبله من خَبره وإستعماله إِيَّاه بِمَا هُوَ مُدبر عَنهُ من دُنْيَاهُ ولتجدن الرجل من كل مِلَّة يروم شِرَاء خرقَة يرقع بهَا ثَوْبه أَو شركَة لنعله فتراه يستجير ويستشير خوف السقطة والغلط ثمَّ إِذا صَار إِلَى كشف دينه ومعاده أكتفى فِيهِ بتقليد سلفه ثمَّ لَا يبالى بِدَلِيل من خَالف مِلَّته وينتقص كل خَارج عَن دينه

فَكل يقتحم المناظرة وَإِن لم يحسنها ويراها فَرِيضَة وَهُوَ لَا يفهمها وَلم يتَّخذ شَيْئا من الْعُلُوم والصناعات إِلَّا الفضول معترف فِيهَا للفضائل لَا الْجِدَال والمناظرة وَأَن الْجَمِيع يدعونَ أمرا لَا يقدرُونَ على التناصف فِيهِ لبعد غَايَته وَهُوَ أَنهم ليختلفون فِي معرفَة الْبَارِي تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يدركونه بالحواس فيختلفون فِي مَعْرفَته وَإِنَّمَا يتعارف النَّاس فِيمَا يدركونه بالحواس ويتصورونه فِي الأوهام فينقمع الْعقل السَّلِيم فِي إِجَابَة الْحق إِذا أدْركهُ وانكشف لَهُ فَلذَلِك يُجَادِل كل قوم عَن دينهم ويفضلون أنفسهم على غَيرهم ويدلك على ذَلِك أَنَّك تَجِد الصقلبي العَبْد الحبشي يَقع مرقوقا بيد رجل من أحد الثَّلَاث ملل فَيردهُ إِلَى مِلَّته ويورد عَلَيْهِ أَخْبَار سلفه فيتقبله مِنْهُ كتقبل الْأَطْفَال الْمُعَذَّبين فِيهِ وعلته فِي ذَلِك أَنه يجد صَدره خَالِيا من الْأَخْبَار الْمُدَوَّنَة فِي الْكتب فَيتَعَلَّق بِمَا أورد عَلَيْهِ من أَخْبَار من علمه ويتمكن ذَلِك فِي صَدره حَتَّى يصير وَاحِدًا من أهل الْملَّة فِي إدعاء الْفضل لَهَا وإنتقاص أهل غَيرهَا والطعن عَلَيْهِم وَلَو أَن مجوسيا دخل بلدنا طارئا أَو تَاجِرًا فكبرت عَلَيْهِ مجوسيته ووحش لوحدته على الْبَقَاء عَلَيْهَا عَازِمًا على رفضها ثمَّ طلب الْخُرُوج إِلَى أفضل الثَّلَاث الْملَل الْمفْسدَة عَلَيْهِ مجوسيته لتحير وعمى أَيَّة أفضل فَيخرج إِلَيْهَا لِأَنَّهُ يجد كل قوم يدعونَ لأَنْفُسِهِمْ الْإِيمَان ولغيرهم الْكفْر ثمَّ تجدهم متكافئين فِي إدعاء الْآيَات لِأَن أهل كل دين يزعموه أَن بَيِّنَة دينهم على آيَات قَامَت وبراهين ظَهرت وَمَا تَجِد عِنْد أحدهم آيَة من تِلْكَ الْآيَات الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا أضطرت عقل المجوسى إِلَى الدُّخُول فِي أديانهم وَلَكِن الَّذِي كَانَ يضمه إِلَيْهِ حسن نظره أَن يتَوَقَّف حَتَّى يسمع حجتهم وَيسْتَعْمل عقله فِي دَعوَاهُم ليفهم مَا احتجاجهم من نبذ الْحق فَكَانَ يجد فِي دَعوَاهُم أَن النَّصْرَانِي وَالْمُسلم مقران لِلْيَهُودِيِّ بِأَن دينه أول وأنبياؤه حق ثمَّ يَقُول النَّصْرَانِي إِن كتابي جَاءَ من بعد فنسخ طَاعَة دين الْيَهُودِيّ ثمَّ يَقُول الْمُسلم وَكَذَلِكَ جَاءَ كتابي بعد فنسخ طَاعَة دين النَّصْرَانِي كَمَا نسخ الْيَهُودِيّ فَإِذا كاشف الْمَجُوسِيّ الْيَهُودِيّ عَمَّا إدعياه أنكرهما وَقَالَ لم يَأْتِ بعد كتابي

الجواب عن كلامه يا هذا أسهبت وأطنبت وبحبة خردل ما أتيت كثر كلامك فكثر غلطك وقلت فائدته فظهر قصورك وسقطك ومن كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه كانت النار أولى به أعميت لجهلك بلحنه ولم تتفطن لتثبيجه ولحنه فلقد استسمنت ذا ورم ونفخت في غير ضرم

من الله كتاب ثمَّ إِذا سَأَلَ النَّصْرَانِي عَمَّا إدعاه الْمُسلم أنكر أَيْضا وَقَالَ لم يَأْتِ بعد كتابي من الله كتاب فَوَجَبَ على النَّصْرَانِي أَن يأتى بِالْبَيِّنَةِ على الْيَهُودِيّ من الْكتب الَّتِي أقرّ لَهُ بهَا فَإِن لم يكن فِيهَا مسيحا منتظرا فَلَا حجَّة لَهُ عَلَيْهِ وَلَا مُعَلّق لَهُ إِلَيْهِ وَإِن كَانَ فِيهَا مسيحا منتظرا يُرْجَى صَلَاح الْحَال من سَببه ووافقت علاماته عَلَامَات الَّذِي قد جَاءَ وَظهر فَإِذا كَانَ فقد اخْتَار النَّصْرَانِي الرسَالَة الأولى وَالثَّانيَِة لنَفسِهِ وَخرج الْيَهُودِيّ عَن رضَا المعبود بجحده الرسَالَة الثَّانِيَة وَدفعه بسنته فِيمَا أعقب بِهِ فِي عباده من الرسَالَة الثَّانِيَة ثمَّ يحمل الْمُسلم الْبَيِّنَة على النَّصْرَانِي من الْكتب الَّتِي أقرّ لَهُ بهَا وجامعه عَلَيْهَا فَإِن لم يكن فِيهَا مُحَمَّد منتظرا فَلَا حجَّة لَهُ عَلَيْهِ وَلَا مطْعن لَهُ إِلَيْهِ وَإِن كَانَ فِيهَا مُحَمَّد منتظرا ثمَّ وَافَقت علاماته عَلَامَات الْكتب فقد أصَاب الْمُسلم وَلزِمَ النَّصْرَانِي الْخُرُوج عَن رضَا معبوده الْجَواب عَن كَلَامه يَا هَذَا أسهبت وأطنبت وبحبة خَرْدَل مَا أتيت كثر كلامك فَكثر غلطك وَقلت فَائِدَته فَظهر قصورك وسقطك وَمن كثر كَلَامه كثر سقطه وَمن كثر سقطه كَانَت النَّار أولى بِهِ أعميت لجهلك بلحنه وَلم تتفطن لتثبيجه ولحنه فَلَقَد استسمنت ذَا ورم ونفخت فِي غير ضرم فَأول خطابك قَوْلك فِي ترجمتك هَذَا الْفَصْل احتجاج الثَّلَاث ملل ثمَّ ضمنته ذكر مِلَّة الْمَجُوس فَكَانَ يَنْبَغِي لَك أَن تَقول احتجاج الْأَرْبَع ملل فَإِن الْمَجُوس أمة تدعى أَنَّهَا أرسل إِلَيْهَا رَسُول وَأنزل عَلَيْهِ كتاب ثمَّ إِن مَذْهَبهم فِي التَّثْنِيَة وَإِن كَانَ بَاطِلا فَهُوَ أقل شناعة وَأبْعد عَن جحد الضَّرُورَة وَأدْخل فِي مَسْلَك النّظر وَإِن كَانَ فَاسِدا من مذهبكم فَإِنَّهُم يَقُولُونَ إِن الموجودات خير وَشر وَلَا بُد لكل وَاحِد من موجد فموجد الْخَيْر خير وَالْخَيْر لَا يفعل الشَّرّ لِئَلَّا يكون شريرا وموجد الشَّرّ شرير لَا يفعل الْخَيْر إِذْ لَو فعل الْخَيْر لما فعل الشَّرّ قَالُوا فَلَا بُد من إِلَهَيْنِ إثنين يفعل أَحدهمَا الشَّرّ وَالْآخر الْخَيْر وَهَذَا كَلَام يشبه النّظر الْعقلِيّ وَبعد بحث شَدِيد يتَبَيَّن فَسَاده فَلهم شُبْهَة فِي التَّمَسُّك بمذهبهم وَلَو أورد الْمَجُوسِيّ شبهته عَلَيْكُم

لصعب عَلَيْكُم ابطالها لكَونه يلزمكم من مذهبكم إلتزامات لَا تنفصلون عَنْهَا وَأَنا الْآن أذكر طرفا من ذَلِك حَتَّى يتَبَيَّن عجزكم وجهلكم هُنَالك أما مذهبكم فِي الأقانيم فَغير مَقْبُول وَلَا مَعْقُول كَمَا تقدم وَكفى بِهِ فَسَادًا قَوْلكُم آلِهَة ثَلَاثَة إِلَه وَاحِد وَكَذَلِكَ مذهبكم فِي الإتحاد والحلول على مَا مر وَمن الْعجب أَنكُمْ تعتقدون مَذْهَب الْمَجُوس وَلَا تشعرون فَإِنَّكُم تنسبون الشرور والإضلال الى غير الله تَعَالَى وتعيبون علينا إِذا نَحن فوضنا كل الْأُمُور إِلَى الله تَعَالَى وَقُلْنَا كل مَوْجُود فِي الْعَالم فَإِنَّمَا هُوَ مَوْجُود إِيجَاد موجد وَاحِد وَهُوَ اللة تَعَالَى وَهَذَا وَالله هُوَ التَّوْحِيد الْحق الَّذِي ارْتَضَاهُ الله لخلقه وكلف بِهِ أنبياءه وَرُسُله وَأنزل بِهِ كتبه فعين مذهبكم فِي هَذِه المسئلة هُوَ مَذْهَب الْمَجُوس فَإِنَّكُم تنسبون الشرور كلهَا إِلَى الشَّيْطَان وَهُوَ عَدو الله وَهُوَ لَا يصدر عَنهُ إِلَّا الشَّرّ وَلَيْسَ الشَّرّ من إِيجَاد الرَّحْمَن عنْدكُمْ فَإِنَّهُ مَا يُوجد إِلَّا الْخَيْر فعلى مذهبكم هُنَاكَ خالقان أَحدهمَا خَالق الْخَيْر وَهُوَ الله وَالْآخر خَالق الشَّرّ وَهُوَ الشَّيْطَان وَهَذَا عين الْمَجُوسِيَّة فصرحوا بهَا وَلَا تنكروها وَأَجْمعُوا بَينهَا وَبَين النَّصْرَانِيَّة وتقلدو وتقلدوها ثمَّ زعمت على مُقْتَضى ترجمتك أَنَّك تذكر حجاج الْملَل الثَّلَاث وَلم تف بِشَيْء من ذَلِك وَلَا ذكرت فِي كلامك هَذَا حجَّة للْمُسلمين عَلَيْكُم وَلَا للْيَهُود بل ذكرت حجَّة النَّصَارَى الداحضة وَسكت عَن حجَّة خصومهم الْمُسلمين الظَّاهِرَة وَهَذَا أثر التَّقْلِيد والجمود عَلَيْهِ حملك على الْإِعْرَاض عَن حجَّة خصمك لَعَلَّك لَا تسمع مَا يُؤَدِّي إِلَى تبكيتك ولطمك وَلَقَد كَانَ يَنْبَغِي لَك لَو كنت من النظار والعارفين بأديانهم أَن تذكر حجج خصومك أحسن فتبحث عَنْهَا وَاحِدَة بعد وَاحِدَة حَتَّى يتَبَيَّن لَك فِيهَا الصَّحِيح من الْفَاسِد وَلَكِن مَعَ هَذَا نقبل عذرك ونعلم جهلك فَإنَّك وَاحِد من عوام المسيحيين الَّذين تشبهوا بالقسيسين وَفِي مثلك ينشد ... فسد الزَّمَان فَسدتْ غير مسود من الشَّقَاء تفردى بالسؤدد ... وَلَكِن لَا عَلَيْك فَإِنَّمَا هُوَ جنا يَديك فَأنى لأرجو أَن يقف على هَذَا

الْكتاب جمَاعَة المطارين ويعلموا بِمَا فِيهِ أَنَّك مُخَالف لمذاهبهم أَجْمَعِينَ فيخرجوك من بَين القسيسين ويلحقوك بالرياسين ثمَّ قلت اعْلَم أَن أهل الْملَل أَجْمَعِينَ متكافئون فِي إدعاء الْإِيمَان حاكمون على كل قوم لأَنْفُسِهِمْ بِالْإِيمَان ولغيرهم بالْكفْر فَنَقُول أما التكافؤ فِي الدَّعْوَى فَنعم لَكِن الْفَصْل يَقع بَينهمَا من جِهَة الْبَينَات ووقوف الْعُقَلَاء على حِكَايَة الْمذَاهب والديانات فَإِن من الْأَدْيَان مَا يدْرك فَسَاده بِغَيْر نظر وَلَا برهَان بل بالفطرة الَّتِي خص الله بهَا الْإِنْسَان وَكَذَلِكَ دين النَّصَارَى الضلال الحيارى وَلَقَد حكى أَن بعض حكماء الْهِنْد وَكَانَ من الْمُلُوك الَّذين يحكمون بالسياسية الدِّينِيَّة الَّذين لم يتقلدوا إتباع مِلَّة دينية ذكرت لَهُ الْملَل الثَّلَاث فَقَالَ أما النَّصَارَى وَإِن كَانَ مناصبوهم من أهل الْملَل يجاهدونهم بِحكم شَرْعِي فقد أدَّت آراؤهم إِلَى أَن لَا نرى بِحكم عقولنا لَهُم عقولا فاستثنى هَؤُلَاءِ الْقَوْم يُرِيد النَّصَارَى من جَمِيع العوالم فَإِنَّهُم قصدُوا مضادة الْعقل وناصبوه الْعَدَاوَة وتحلوا ببث الإستحالات مَعَ أَنهم حادوا عَن المسلك الَّذِي انتهجه غَيرهم من أهل الشَّرَائِع وَقد كَانَ لَهُم فِيهِ كِفَايَة وَلَكنهُمْ شذوا عَن جَمِيع مناهج الْعَالم الشَّرْعِيَّة الصَّالِحَة والعقلية الْوَاضِحَة واعتقدوا كل شَيْء مُسْتَحِيل مُمكنا فَلم يعزب عَنْهُم شَيْء وبنوا من ذَلِك شرعا لَا يُؤَدِّي الْبَتَّةَ إِلَى صَلَاح نوع من أَنْوَاع الْعَالم إِلَّا أَنه يصير الْعَاقِل إِذا تشرع بِهِ أخرق والمرشد سَفِيها والمحسن مسيئا لِأَن من كَانَ فِي أصل عقيدته الَّتِي جر نشوؤه عَلَيْهَا الْإِسَاءَة إِلَى الْخَالِق والنيل مِنْهُ بوصفه بِغَيْر صِفَاته الْحسنى فاخلق بِهِ أَن يقْصد الْإِسَاءَة إِلَى مَخْلُوق وَلذَلِك مَا بلغنَا عَنْهُم مِمَّا فِي خلقهمْ من الْجَهْل وَضعف الْعقل والطمع وَالْبخل ومهانة النَّفس وخساسة الهمة والغدر وَقلة الْحيَاء إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم فَلَو لم تجب مجاهدة هَؤُلَاءِ الْقَوْم إِلَّا لعُمُوم أضرارهم الَّتِي لَا تحصى وجوهها لكفى وكما يجب قتل الْحَيَوَان المؤذي بطبعه فَكيف وَقد ثمَّ من الموجبات مَا تقدم فَهَذَا مَا بدا لهَذَا الْحَكِيم فِي أول نظرة من مذهبكم على أول وهلة وَلَيْسَ بمخاصمكم وَلَا مناوئكم وَلَا بمتهم بإتباع الْهوى فِيكُم لَكِن قد تبين الصُّبْح لذِي عينين بِحَيْثُ لَا يشك فِيهِ أحد من النقلين وسترى ذَلِك وَاضحا إِن كنت ذَا بصر وبصيرة إِن شَاءَ الله تَعَالَى

ثمَّ قلت قد غلبت عَلَيْهِم فِي ذَلِك الغواية وتأديب الصِّبَا وَوَصِيَّة الْآبَاء والأجداد حَتَّى صَار ذَلِك طبعا فيهم هَذَا الَّذِي ذكرته لعمري حكم الرعاع الغبر والغثاء الغثر وَأما من أمده الله بِنور توفيقه وَبَين لَهُ سَوَاء طَرِيقه فقد تبين لَهُ الرشد من الغي وَالْمَيِّت من الْحَيّ فقد أَخْطَأت فِي إطلاقك هَذَا الحكم على جَمِيع الْملَل وَلم تشعر بِمَا لزمك من الْفساد والزلل كلا بل الَّذِي ذكرته وصف أهل ملتك وحيلة عصبتك إِذْ هم أهل تَقْلِيد ونظرهم غير سديد ثمَّ قلت فكلهم قد سهل عَلَيْهِم انتقاص غَيرهم وطاب عِنْدهم دينهم بالتهنية فِي دنياهم عَن معاد آخرتهم وَعدلت فِي هَذَا الحكم عَن الْعدْل فحاق عَلَيْك اللوم والعذل بل فِي الْملَل من لَا ينتقص أحدا إِلَّا إِذا ذمه الشَّرْع وَإِذا رأى ذُو فَضِيلَة محقا أحبه وشكره بالطبع والطوع وَذُو الْفَضِيلَة يهجر فِي طلب الْحق جَمِيع لذاته ويزهد فِي جَمِيع متملكاته يَبْغِي بذلك رضَا سَيّده ومرضاته يضْرب فِي طلب الْحق الأَرْض ضربا فيقطعها شرقا ويقطعها غربا ... يَوْمًا يمَان إِذا لاقيت ذَا يمن وَإِن لقِيت معدا مَا فعدنان ... يُفَارق الْأَهْل والوطن ويلازم الْفقر والعطن فَإِذا ظفر بالبغية ليا وفطن أما الدُّنْيَا فَلَا يلْتَفت إِلَيْهَا وَأما الْآخِرَة فَهُوَ مقبل بكليته عَلَيْهَا فَهُوَ فِي كل حَال ينشد وأحواله تشهد ... وأبغضت فِيك النّخل وَالنَّخْل يَانِع ... وأعجبني من حبك السدر والضال وأهوى لجوان السماوة والغضا ... وَلَو أَن صنفيه وشَاة وعذال ... فَأَنت لم تحكم بِالسَّوِيَّةِ وَلَا عدلت فِي الْقَضِيَّة حَيْثُ حكمت بإعراض كل الْعُقَلَاء عَن الْأَدْيَان وبالتكاثر من الدُّنْيَا على كل الْبَريَّة كلا لَو كَانَ ذَلِك لما بقى منا أحد إِلَّا هَالك فراجع نَفسك عَن هَذَا الْإِطْلَاق وَتب للْوَاحِد الخلاق واحكم على أهل ملتك بِتِلْكَ الْخِصَال والأخلاق فَإِن رب الْعَالمين يبْقى علينا ببركة الْفُضَلَاء وَالصَّالِحِينَ ثمَّ قلت وأحسب أَن الْعلَّة فِي ذَلِك رغبتهم فِي التكاثر من الدُّنْيَا

وَهِي الَّتِي تدخلهم إِلَى التحاسد والمعايرة فيعجز كل قوم أنفسهم فِي طلب معاشهم وَأَن الأخرة عِنْدهم مُهْملَة يَا هَذَا لقد كثر غلطك حَتَّى يعجز النَّاظر فِيهِ عَن إحصائه وَعظم سقطك حَتَّى لَا أقدر على اسْتِقْصَائِهِ ... تَفَرَّقت الظباء على خرَاش ... فَمَا يدْرِي خرَاش مَا يصيد ... فَتَارَة يتثبج عَلَيْك الْكَلَام وَأُخْرَى تبدل الْمَدْح بالملام فَرُبمَا تُرِيدُ أَن تمدح فتذم وتظن أَنَّك تحل ربطا وَأَنت تزم وَأَنت فِي هَذَا الْكَلَام قد لحنت فِيهِ فِي عدَّة مَوَاضِع وَأَرَدْت أَن تَقول شَيْئا فعبرت عَنهُ بِعِبَارَة يفهم مِنْهَا بِحكم وَضعهَا خلاف مَا أردْت أَن تَقول وَذَلِكَ يبن عِنْد من تَأمله من أهل الْعُقُول وَبِالْجُمْلَةِ فَأَنت فِي هَذَا الْفَصْل أردْت أَن تنفصح وتغرب فَإِذا بك تبهم وَلَا تعرب على أَن كلامك فِي هَذَا الْفَصْل قَلِيل الجدوى واهي الأَصْل فَيَنْبَغِي أَن تتعدى أَكثر كلامك وتنزه عقولا عَن الْأَخْذ فِي كثير من هذيانك فَإِن الْأَخْذ فِي الخرافات والإشتغال بالترهات مخل بالعقول والمروآت ثمَّ قلت بعد ذكر كَلَام حاكيت بِهِ فعل السفلة الطغام الْمَعْدُودين فِي رعاع الأعوام لِأَن كل قوم قلدوا سلفهم وطاب عِنْدهم خبرهم فِي مدح دينهم وذم غَيرهم يَا هَذَا جهلت كل الْأَنَام إِذْ زعمت أَن التَّقْلِيد دأب كل الأقوام وَلَو أنصفت فِي الْقَضِيَّة وَعدلت بِالسَّوِيَّةِ لَقلت أَن النَّاس قِسْمَانِ قسم إِيمَانهم برهاني وَقسم اعْتِقَادهم تقليدي هَكَذَا ظهر من أَمر أهل الْأَدْيَان وَأما من لم يتدين بدين فَيَنْبَغِي أَلا يعد فِي الْمُوَحِّدين وَبعد هَذَا يَنْبَغِي أَن تعلم أَن أُمُور الإعتقاد وَالْإِيمَان لم يقنع فِيهَا قطّ أحد من الْفُضَلَاء بالتقيلد من غير برهَان وَلأَجل هَذَا حرم الله علينا الركون إِلَى التَّقْلِيد وذم من عول فِي إعتقاده على إتباع الْآبَاء والجدود فَقَالَ تَعَالَى حِكَايَة عَن الْمُقَلّد وذاما لَهُ وموبخا لَهُ على جَهله {بل قَالُوا إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مهتدون وَكَذَلِكَ مَا أرسلنَا من قبلك فِي قَرْيَة من نَذِير إِلَّا قَالَ مترفوها إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مقتدون قَالَ أولو جِئتُكُمْ بأهدى مِمَّا وجدْتُم عَلَيْهِ آبَاءَكُم قَالُوا إِنَّا بِمَا أرسلتم بِهِ كافرون}

فَهَذَا ذمّ من الله للتقليد وَأَهله وَقد أَمر بِالنّظرِ الصَّحِيح وحض على فعله فَقَالَ تَعَالَى {قل انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا تغني الْآيَات وَالنّذر عَن قوم لَا يُؤمنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {فَلْينْظر الْإِنْسَان مِم خلق} وَقَالَ تَعَالَى {أَو لم يتفكروا فِي أنفسهم مَا خلق الله السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} وَقَالَ تَعَالَى {أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فَتكون لَهُم قُلُوب يعْقلُونَ بهَا أَو آذان يسمعُونَ بهَا فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور} وَمثل هَذَا كثير وَكفى شرفا بِهَذَا الدّين ودليلا على صِحَّته عِنْد الْعُقَلَاء العاقلين أَنه حرم التَّقْلِيد الَّذِي يجر إِلَى الإلباس والتجهيل والتفنيد واستنهض الْعُقُول للنَّظَر وأوضح لَهَا مسالك العبر وَأوجب عَلَيْهَا النّظر الصَّحِيح المفضى إِلَى الْعلم وَمن لم يفعل ذَلِك من الْعُقَلَاء فقد تعرض للعقاب وألزم ذَلِك كُله ليتبين عَن بَصِيرَة الرشد من الغي وَيعلم من هُوَ على الْحق مِمَّن تحكم فِي دينه بظلمات التَّقْلِيد والرأي وَبعد هَذَا فإنى لَا أَشك فِي أَنَّك لَا تعرف حَقِيقَة التَّقْلِيد وَلَا أقسامه وَلَا أَحْكَامه وَلَا فِي أَي مَحل يجوز وَلَا فِي أَي مَحل يحرم وَلَا من الَّذِي يُقَلّد وَلَا من الْمُقَلّد فَإِن ادعيت أَنَّك تعرف شَيْئا مِمَّا هُنَالك فَعجل بِالْجَوَابِ على ذَلِك ثمَّ قلت بعد ترديد وَتَطْوِيل من غير إِفَادَة علم وَلَا شِفَاء غليل فَكل يقتحم المناظرة وَإِن لم يحسنها ويراها فَرِيضَة عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يفهمها وَلم يتَّخذ شَيْئا من الْعُلُوم والصناعات إِلَّا الفضول اعْلَم يَا هَذَا أَن الله تَعَالَى أنطقك بشرح حالك فَإنَّك عبرت عَن سوء مناظرتك وَنظرت بركيك مقالك فجهلت حَتَّى توهمت أَنَّك من أهل النّظر وأوهمت عِنْد الرعاع أَنَّك من أهل المناظرة وَالْفطر كلا فَلَقَد ارتقيت مرتقا صعبا وسلكت مسلكا وعرا وادعيت دَعْوَى

عريضة لتخدع بهَا قلبا ضَعِيفا ونفسا مَرِيضَة وَلَا بُد من سؤالك حَتَّى يتَبَيَّن حَقك من محالك فَأَقُول لَك مَا حد النّظر وَحَقِيقَته وَمَا أُصُوله وَكم أقسامه وَمَا أَحْكَامه وَمَا حَقِيقَة المناظرة وَمَا شُرُوطهَا وَكم هِيَ وَمَا الشَّيْء الَّذِي يطْلب بالمناظرة وَمَا حَقِيقَة الدَّلِيل وَكم أقسامه وَكم شُرُوطه وَمَا وَجه الدَّلِيل وَمَا الْمَدْلُول وَكم أقسامه فَإِن كنت تدعى المناظرة فأجبنا عَن هَذِه الأسئلة محاورة ثمَّ قلت وَإِن الْجَمِيع يدعونَ أمرا لَا يقدرُونَ على التناصف فِيهِ لبعد غَايَته لتعلم يَا هَذَا أَن حكمك على الْجَمِيع بِأَنَّهُم لَا يقدرُونَ على التناصف حكم خطأ فَإِن الْعَاقِل المشتغل بِمَا يعنيه إِنَّمَا يطْلب الْحق ليصل إِلَيْهِ وَيعرف الْبَاطِل ليتجنبه وَمن كَانَت هَذِه حَاله أنصف وتناصف وَإِنَّمَا يمْتَنع التناصف على من غلب عَلَيْهِ التَّقْلِيد وجمد على مَا وَرثهُ من الْآبَاء والجدود وَهُوَ يصمم على أَنه على الْحق فيمنعه ذَلِك التصميم عَن الْبَحْث وَالنَّظَر ثمَّ إِن تنبه لنَوْع نظر كَانَ كَمَا قَالَ ... إِن الغصون إِذا قومتها اعتدلت وَلنْ تلين إِذا قومتها الْخشب ... فَهَذَا الَّذِي يتَعَذَّر عَلَيْهِ التناصف وتبعد عَلَيْهِ الْغَايَة الْمَطْلُوبَة وَمَا من نور الله قلبه وأجزل من المعقولات حَظه فالتناصف مرغوبه إِذْ الْحق مَطْلُوبه وَفِي مثل هَذَا ينشد ... بعيد على الكسلان أَو ذِي ملالة ... وَأما على المشتاق فَهُوَ قريب ... فَإِن قلت مَا ذكرته أَنْت قَلِيل وَمَا ذكرته أَنا كثير قلت لَك ... وَمَا ضرنا أَنا قَلِيل وجارنا عَزِيز ... وحار الْأَكْثَرين ذليل تعيرنا أَنا قَلِيل عديدنا ... فَقلت لَهَا إِن الْكِرَام قَلِيل ... ثمَّ إِن وجد فِي جَمِيع الْخلق وَاحِد بِهَذِهِ الصّفة فقولك فَاسد فَإنَّك حكمت على الْجَمِيع بِحكم قَبِيح شنيع وأطلقت القَوْل وَلم تخف فِيهِ الزلل وَلَا الْعَوْل

ثمَّ قلت ليختلفون فِي معرفَة الْبَارِي تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يدركونه بالحواس وَإِنَّمَا يتعارف النَّاس فِيمَا يدركونه بالحواس إعلم أَن هَذَا الَّذِي ذكرت لَا يَصح أَن يُقَال على كل الْعُقَلَاء وَإِنَّمَا يَصح ذَلِك على الجهلة الأغبياء بل نقُول أَن الأغبياء أهل الجهالات يَخْتَلِفُونَ فِي الضروريات وَقد بَينا عَلَيْكُم مَوَاضِع كَثِيرَة من إعتقادكم خالفتم فِيهَا الضروريات وناكرتم المعقولات وَأما أهل الْعُقُول السليمة وَالْفطر المستقيمة فَلم يخْتَلف مِنْهُم إثنان فِي معرفَة وجود الله تَعَالَى وَإِنَّمَا تخالفوا فِي أَي وجود وجوده وَهَذَا يعرف فِي مَوْضِعه فلست من أَهله وَأما تمثيلك بِالْعَبدِ الحبشي فتمثيل لَيْسَ وَرَاءه تَحْصِيل وَذَلِكَ أَن العَبْد الحبشي إِذا كَانَ عَاقِلا سليم الْفطْرَة إِذا سمع كلَاما لَا يقبله عقله يردهُ وَأما إِذا كَانَ نَاقص الْفطْرَة مختل الْعقل فَيقبل كل محَال وَلَا يثبت على حَال ثمَّ قلت وَلَو أَن مجوسيا دخل بلدنا فكبرت عَلَيْهِ مجوسيته ثمَّ طلب الْخُرُوج إِلَى أفضل الثَّلَاث الْملَل أَنْت توهم بِهَذَا القَوْل الْبَرَاءَة عَن الْمَجُوسِيَّة وَالدُّعَاء إِلَى الْملَّة النَّصْرَانِيَّة عساك يظنّ بك أَنَّك تفحم الْخُصُوم أَو أَنَّك حصلت من دينك على أَمر مَعْلُوم كلا بل لَو ناظرك مجوسى لأفحمك وَلَو وزن دينه بِدينِك فِي معيار الْعقل لرجحك وَقد تبين ذَلِك فِيمَا تقدم ثمَّ قلت فَكَانَ يجد الْمَجُوسِيّ فِي دَعوَاهُم أَن النَّصْرَانِي وَالْمُسلم مقران لِلْيَهُودِيِّ بِأَن دينه أول وأنبياؤه حق ثمَّ يَقُول النَّصْرَانِي إِن كتابي جَاءَ من بعد فنسخ طَاعَة دين الْيَهُودِيّ ثمَّ يَقُول الْمُسلم وَكَذَلِكَ جَاءَ كتابي فنسخ طَاعَة دين النَّصْرَانِي يَا هَذَا البليد أَخْطَأت على الْمُسلم حَيْثُ ظَنَنْت أَن الْمُسلم يسلم لِلْيَهُودِيِّ دينه الَّذِي بِيَدِهِ الْآن ويعترف بِأَنَّهُ أول وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك بل الَّذِي يَقُول بِهِ الْمُسلم إِن الدّين الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ حق وَأَنه الأول بِالزَّمَانِ بِالْإِضَافَة إِلَيْنَا وإليكم وَأما الْيَهُود الْيَوْم فليسوا على دين عندنَا وعندكم

فعندنا من جِهَتَيْنِ وعندكم من جِهَة وَاحِدَة إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ عندنَا أَنهم كفرُوا بِمُحَمد نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد كَانَ الله تَعَالَى أَخذ عَلَيْهِم الْعَهْد بِالْإِيمَان بِهِ وبلغهم ذَلِك على لِسَان مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَغَيره من أَنْبِيَائهمْ عَلَيْهِم السَّلَام على مَا ننقله إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ نقُول فِي الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّهُم كفرُوا بِهِ بعد أَن أنكروه وَهَذِه هِيَ الْجِهَة الْأُخْرَى فهاتان جهتان وَأَنْتُم إِنَّمَا تكفرونهم من جِهَة وَاحِدَة وَهِي كفرهم بالمسيح فقد اتفقنا نَحن وَإِيَّاكُم على أَن الْيَهُود فِي هَذَا الْوَقْت لَيْسُوا على دين وَلَيْسوا بمنتسبين إِلَى شَيْء من دين مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَكيف جازفت فِي لفظك وَقلت على الْمُسلمين وَالنَّصَارَى مَا لَا يرضون بِهِ وَلَا يعولون عَلَيْهِ وَهل إطلاقك هَذَا إِلَّا نتيجة جهلك وَمِمَّا يدل على نقص عقلك ثمَّ إِنَّك إدعيت أَن النَّصَارَى يَقُولُونَ إِن كِتَابهمْ نسخ شرع الْيَهُود وَكَيف يَصح لَك يَا جَاهِل بِدِينِهِ أَن تَقول هَذَا وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَقُول فِي الْإِنْجِيل الَّذِي بِأَيْدِيكُمْ لم آتٍ لأنقض شَرِيعَة من قبلي إِنَّمَا جِئْت لأتممها فَأَما أَنْت هُوَ الْكَاذِب أَو كتابك هُوَ المحرف الْبَاطِل وسنبين إِن شَاءَ الله تَعَالَى مَا أحدث فِي الْإِنْجِيل والتوراة من المناقضة والتحريف مَا يدل على أَنَّهَا لَيست هِيَ الَّتِي أنزل الله وَمن عَجِيب أَمرك وأدل دَلِيل على جهلك أَنَّك تَدعِي أَن كتابك نسخ شرع الْيَهُود وَأَنت بجهلك ترجع إِلَيْهِ فِي أحكامك وَهل هَذَا إِلَّا تنَاقض ظَاهر وَجَهل فَاحش ثمَّ قلت فَإِذا كاشف الْمَجُوسِيّ الْيَهُودِيّ عَمَّا أدعياه أنكرهما وَقَالَ لم بأت بعد كتابي من الله كتاب يَا هَذَا لقد قولت الْيَهُود مَا لَا يُمكنهُم قَوْله وَلَا يسعهم جَهله فَإِن الْيَهُود يعترفون بِأَنَّهُ قد كَانَ بعد مُوسَى أَنْبيَاء كَثِيرُونَ جَاءُوا بصحف وقرأوا على النَّاس كتبا كَثِيرَة هِيَ بَين أَيْديهم وَأَيْدِيكُمْ الْيَوْم تقرأونها وتحكمون بهَا وَهَا أَنْت قد استدللت بِكَثِير مِنْهَا فِي كتابك هَذَا على إِثْبَات بنوة الْمَسِيح فَتلك الْكتب الَّتِي نقلت مِنْهَا إِمَّا أَن تكون من الله أَو لَا تكون فَإِن كَانَت

من الله فقد أفحمت نَفسك وأكذبتها وَصَارَ كلامك ينْقض أَوله آخِره مَعَ أَن الْيَهُود توافقك على أَن تِلْكَ الْكتب والصحف من الله وعَلى أَلْسِنَة رسل الله على هَذَا جمهورهم وَأَكْثَرهم وَإِن كَانَت تِلْكَ الْكتب لَيست من الله وَلَا يساعدونك عَلَيْهَا فَكيف يسوغ لَك الإحتجاج عَلَيْهِم بِشَيْء لَيْسَ من كَلَام الله وَلَا يسلمونه فَلَقَد مكنت من نَفسك يَا هَذَا الْيَهُود وَالْمُسْلِمين وصاروا على كَذبك وخطئك من الشَّاهِدين فمثلك مثل الباحث بظلفه على حتفه والجادع مارن أَنفه بكفه فَلَقَد لحقت {بالأخسرين أعمالا الَّذين ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا} وَبعد هَذَا فلتعلم أَن الَّذِي تنكره الْيَهُود لعنهم الله من الْكتب المنسوبة إِلَى الله تَعَالَى كتابك وَكِتَابنَا لَا غير وسنقيم وَاضح الْأَدِلَّة إِن شَاءَ الله على من خَالَفنَا ثمَّ قلت ثمَّ يحمل الْمُسلم الْبَيِّنَة على النَّصْرَانِي من الْكتب الَّتِي أقرّ لَهُ بهَا وجامعه عَلَيْهَا فَإِن لم يكن فِيهَا مُحَمَّد منتظرا فَلَا حجَّة لَهُ عَلَيْهِ وَلَا مطْعن لَهُ إِلَيْهِ وَإِن كَانَ فِيهَا مُحَمَّد منتظرا ثمَّ وَافَقت علاماته عَلَامَات الْكتب فقد أصَاب الْمُسلم وَلزِمَ النَّصْرَانِي الْخُرُوج عَن رضَا معبوده ظَاهر كلامك أَنَّك أنصفت وَأَنت فِي إعتقادك عَلَيْهِ مَا عولت وَلَقَد أعلم أَنَّك إِذا أتيت ذَلِك عَلَيْك من كتب عدلت وغدرت شنشنة أعرفهَا من أخزم وَإِذا كَانَ الْغدر فِي النُّفُوس الخبيثة طباعا فالثقة بِكُل أحد عجز وَمَا هِيَ أول بركتكم وَأَنا أسأَل الله الْعَظِيم رب الْعَرْش الْكَرِيم بأسمائه الْحسنى وَصِفَاته العلى وبحق آدم ومُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِم وَمِمَّنْ بَينهم من النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ وبالملائكة المقربين وَأهل طَاعَته أَجْمَعِينَ أَن يلعن من لَا يرجع إِلَى الْحق إِذا تبين لَهُ وَأَن يعجل عَلَيْهِ بنقمته فِي الدُّنْيَا تكون عَلامَة على غضب الله عَلَيْهِ وعَلى عَذَابه فِي

الْآخِرَة الْعَذَاب الدَّائِم نسْأَل الله الْعَظِيم أَن يفعل ذَلِك بعزته وَكَرمه آمين آمين وَالصَّلَاة على خيرته من خلقه ثمَّ يَنْبَغِي لَك أَن تعلم أَن نبوة نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم تثبت لنا بطرِيق وَاحِدَة بل بطرق كَثِيرَة فَلَو فَرضنَا أَن الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم لم يبشروا بِهِ لكَانَتْ نبوته ثَابِتَة ببراهين قَاطِعَة كَثِيرَة بهَا عرف نبوته الْعُقَلَاء الَّذين لم يقرأوا قطّ كتابا وَلَا انتسبوا إِلَى شَرِيعَة وسنوضح هَذِه الطّرق إِن شَاءَ الله تَعَالَى ونبينها على مَا لَا يبْقى مَعَه ريب لعاقل بحول الله وقوته

الفصل الثاني

الْفَصْل الثَّانِي الْمَسِيح المنتظر فِي حِكَايَة كَلَامه أَيْضا قَالَ وَمن بَيِّنَة النَّصْرَانِي على الْيَهُودِيّ أَن فِي الْكتب الَّتِي أقرّ لَهُ بهَا وجامعه عَلَيْهَا مسيح منتظر لَا يقدرُونَ على جَحده لِأَن إنتظاره مَعْرُوف فيهم وَظَاهر عَلَيْهِم وَدلّ على زمَان مَجِيئه أَنهم منتظرون لَهُ مُنْذُ سبيت الْيَهُود وبددت إِلَى الْيَوْم فَإذْ قد لزم الْيَهُود بإنتظاره من وَقت تفريقهم فِي الدُّنْيَا فقد وَجب لِلنَّصَارَى أَن يَقُولُوا أَنه قد جَاءَ وَالدَّلِيل على أَنه هُوَ أَن الْيَهُود اخْتلفت من سَببه فَصَارَت فرْقَتَيْن على الْكفْر وَالْإِيمَان بِهِ فالفرقة الْكَافِرَة هم الْيَهُود والفرقة المؤمنة هم النَّصَارَى فآمنت طَائِفَة وكفرت طَائِفَة والكتب أجمع مَعَ كَلَامهم يحتجون بهَا بَعضهم على بعض يَجْتَمعُونَ على ألفاظها وقراءاتها ويختلفون فِي تَأْوِيلهَا كفعلهم إِلَى هَذِه الْمدَّة وَالَّذِي يسْتَدلّ بِهِ للفرقتين على كفر أَحدهمَا أَن نَنْظُر فِي الْكتب ونستدل بهَا على حَالَة بني إسرائل مُنْذُ كَانَت على الْإِيمَان وَالْكفْر فَإِنَّهُم إِن كَانُوا على الْكفْر فَإِنَّهُ يلْزمهُم الذلة إِذْ الذلة والأسرة والفرقة عَلامَة الْكَافرين وموجود فِي الْكتب أَن الله لم يوعد بالثواب فِي الْآخِرَة لبني إسرائل على الطَّاعَة وَالْإِيمَان وَإِنَّمَا وعدهم فِي الدُّنْيَا فَوَعَدَهُمْ عِنْد الطَّاعَة وَالْإِيمَان بِالْملكِ وَالنعْمَة والنقمة من عدوهم والتثمير لزرعهم وفواكههم وأوعدهم عِنْد الْكفْر والعصيان بالتغلب عَلَيْهِم وَالْملك والقهرة لَهُم من عدوهم فَلم يزَالُوا مؤيدين عِنْد الطَّاعَة وَالْإِيمَان ومستعبدين عِنْد الْكفْر والعصيان

فافهم الجواب عنه

فَافْهَم الْجَواب عَنهُ أعلم يَا هَذَا أَنه لَوْلَا أننا نَخَاف أَن نساعد الْيَهُود على كفرهم وَأَن يحملهم ذَلِك على دوَام الْإِصْرَار وَزِيَادَة العناد لنبهناهم على مَوَاضِع فِي هَذِه الْأَدِلَّة الَّتِي ذكرت يفْسد عَلَيْك لأجل ذَلِك أَكْثَرهَا وَيبْطل عَلَيْكُم الإحتجاج بهَا وَلَو فعلنَا ذَلِك لما كَانَ مِمَّا يقْدَح فِي صِحَة نبوة الْمَسِيح فَإِنَّهَا تثبت بطرق أخر وَإِنَّمَا يكون ذَلِك دَلِيلا على أَنَّك لَا تحسن الإستدلال وَلَا تعرف طرق المناظرة والجدال وَلَكِن حاشى لله أَن أعين الْيَهُود أولى اللَّعْنَة والعداوة والبغضاء والأحنة على من الْتزم شرعة الْمَسِيح وَركب مِنْهَا الْمنْهَج الصَّحِيح وَكَيف أفعل ذَلِك وَقد أخبرنَا الله على لِسَان نبيه وَرَسُوله بِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُم عالمون بِاللَّه ومصدقون بِمَا جَاءَهُم على لِسَان مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ تَعَالَى {لتجدن أَشد النَّاس عَدَاوَة للَّذين آمنُوا الْيَهُود وَالَّذين أشركوا ولتجدن أقربهم مَوَدَّة للَّذين آمنُوا الَّذين قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِك بِأَن مِنْهُم قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذا سمعُوا مَا أنزل إِلَى الرَّسُول ترى أَعينهم تفيض من الدمع مِمَّا عرفُوا من الْحق يَقُولُونَ رَبنَا آمنا فاكتبنا مَعَ الشَّاهِدين وَمَا لنا لَا نؤمن بِاللَّه وَمَا جَاءَنَا من الْحق ونطمع أَن يدخلنا رَبنَا مَعَ الْقَوْم الصَّالِحين} فَهَؤُلَاءِ الَّذين عرفُوا شرعة الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام وَعَلمُوا مَا عهد إِلَيْهِ من نعت مُحَمَّد خير الْأَنَام فبادروا لتصديقه وَلم يُمكنهُم الْعُدُول عَن طَرِيقه وَلَوْلَا حُرْمَة هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاء الَّذين كَانُوا مِنْكُم لما بقى ستر الله عَلَيْكُم لَكِن كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يؤخرهم ليَوْم تشخص فِيهِ الْأَبْصَار مهطعين مقنعي رؤوسهم لَا يرْتَد إِلَيْهِم طرفهم وأفئدتهم هَوَاء} وَمَعَ هَذَا فَلَا نخلي هَذَا الْبَاب من التَّنْبِيه على نكت تدل على سوء اسْتِدْلَال هَذَا السَّائِل خَاصَّة بعون الله قلت يَا هَذَا وَالدَّلِيل على أَنه هُوَ أَن الْيَهُود اخْتلفت من سَببه فَصَارَت فرْقَتَيْن على الْكفْر وَالْإِيمَان بِهِ فالفرقة الْكَافِرَة هم الْيَهُود والفرقة المؤمنة هم النَّصَارَى فآمنت طَائِفَة وكفرت طَائِفَة

هَذَا دَلِيل لَيْسَ لَهُ للدلالة على مَجِيء الْمَسِيح من سَبِيل بل هُوَ عين الْمَذْهَب الَّذِي تَدعُونَهُ وَيبقى عَلَيْك الإستدلال عَلَيْهِ وَإِن جَازَ أَن يكون مثل هَذَا دَلِيلا صَحِيحا على مَجِيئه جَازَ أَن يكن نقيضه دَلِيلا على إنتفاء مَجِيئه وَلَا فرق بَين مَا قلت وَبَين مَا يَقُوله الْيَهُودِيّ إِذْ كل وَاحِد مِنْكُم تكلم بِدَعْوَى وَلم يثبتها وَلَا بُد لَك من إِقَامَة دَلِيل فاذكره فَإِن كلامك الأول لَيْسَ بِدَلِيل فَإِن أخذت تستدل بِدَلِيل آخر خلاف مَا ذكرت فقد اعْترفت بِأَن كلامك الأول لَيْسَ بِدَلِيل وانقطعت وَإِن رجعت تستدل بذلك تبين جهلك هُنَالك فَأنْظر مَا أحسن هَذَا الدَّلِيل فلعمري مَا للمستدل بِهِ من النّظر الْعقلِيّ كثير وَلَا قَلِيل ثمَّ قلت والكتب أجمع مَعَ كَلَامهم يحتجون بهَا بَعضهم على بعض يَجْتَمعُونَ على ألفاظها وقراءاتها ويختلفون فِي تَأْوِيلهَا كفعلهم إِلَى هَذَا الْمدَّة تناقضت يَا مخدوع وَلم تشعر وظننت أَنَّك تنتصر فَإِذا بك تستأسر افصحت هُنَا بأنكم يحْتَج بَعْضكُم على بعض ويتضمن ذَلِك أَنكُمْ تحتجون بِالتَّوْرَاةِ عَلَيْهِم وَكَيف يَصح لَك هَذَا مَعَ أَنَّك قد ادعيت أَنَّهَا مَنْسُوخَة بِكِتَابِكُمْ فَإِن قلت إِن هَذَا عَلَيْهِم فِي معرض الْإِلْزَام قيل لَك فَلَا تَأْخُذ من التَّوْرَاة شَيْئا من الْأَحْكَام وَلَا تحكم مِنْهَا على شَيْء بحلال وَلَا حرَام ثمَّ إِن كلامك هَذَا يفهم مِنْهُ أَنهم يحتجون عَلَيْكُم بكتبهم على أَن الْمَسِيح لم يَجِيء وَإِذا اتّفق أَن يحتجوا عَلَيْكُم بِمثل هَذَا من كتبكم فقد أفحموكم هَذَا كُله على ظَاهر كلامك وَلم ترو هَذَا الْمَعْنى وَإِنَّمَا أردْت أَن تَقول إِن الْجَمِيع قد اتَّفقُوا على أَلْفَاظ الْكتب وإختلفوا فِي تَأْوِيلهَا وَلم تساعدك الْعبارَة وَهَذَا أَكثر كلامك تُرِيدُ أَن تَقول شَيْئا ثمَّ تعبر عَنهُ بِعِبَارَة تدل على خلاف مَا أردْت وَسبب ذَلِك أَنَّك أدخلت نَفسك فِي شَيْء لم تعرفه وتعاطيت مَا لم تُحسنهُ فَكنت بِمَثَابَة من أَدخل نَفسه فِي شفط ثمَّ جَاءَ آخر فَشد عَلَيْهِ وربط

ثمَّ قلت وَالَّذِي يسْتَدلّ بِهِ للفرقتين على كفر أَحدهمَا أَن نَنْظُر فِي الْكتب إِلَى أَن قلت إِذْ الذلة والأسرة والفرقة عَلامَة الْكَافرين وهذاالإطلاق لَو علمت مَا يلزمك عَلَيْهِ لاستغفرت إلهك مِنْهُ لكنك جهلت فأطلقت وَحَيْثُ وَجب أَن تمسك أرْسلت وَذَلِكَ أَنه إِن صَحَّ مَا ذكرت فَلَا ذلة وَلَا أسرة وَلَا تَفْرِقَة أبلغ من ذلة من يصفع فِي قَفاهُ وَيجْعَل على رَأسه شوك وَفِي يَده قَصَبَة ويساق للْقَتْل وعَلى عُنُقه خَشَبَة ويصلب وتسمر يَدَاهُ وَرجلَاهُ وينخز وَهُوَ يطْلب مَاء فيرفع إِلَيْهِ إِنَاء خل وَهَذَا كُله بزعمكم وَلَا رُتْبَة فِي المذلة أبلغ من هَذِه فعلى قَوْلك وَسِيَاق دليلك يلزمك تَكْفِير المصلوب وَيحصل لِلْيَهُودِيِّ مِنْكُم الْغَرَض الْمَطْلُوب فَإِن كنت عَاقِلا فثقل كلامك وَلَا يكن عارا عَلَيْك لسَانك وَقد نَصَحْتُك يَا فشكل وَمَا أَظُنك تقبل وَإِنَّمَا أردْت أَن تَقول فَلم تطاوعك الْعبارَة يَا جهول الدَّلِيل على مَجِيء الْمَسِيح المنتظر أَنه قد ثَبت فِي كتب الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أَن الله قَالَ للْيَهُود لَا يزَال ملككم قَائِما وخيركم دَائِما مَا دمتم مُؤمنين حَتَّى تكفرُوا فَإِذا كَفرْتُمْ أزلت ملككم وأبدلتكم مِنْهُ ذلا وصغارا وغضبا ونقمة وَعند ذَلِك أرسل إِلَيْكُم الْمَسِيح وَلَا يشك أحد فِي زَوَال ملك الْيَهُود وإنقطاعه وَفِي نزُول الذلة والمسكنة عَلَيْهِم فَلَا يشك فِي كفرهم وَلَا يشك فِي مَجِيء الْمَسِيح وَأَنَّهُمْ كفرُوا بِهِ وَلَو هَكَذَا قلت لما لزمك شَيْء مِمَّا ألزمت وَهَذَا الدَّلِيل الَّذِي استدللت بِهِ على الْيَهُود إِذا سيق على الطَّرِيقَة الَّتِي ذَكرنَاهَا وَصَحَّ نَقله عَن الْأَنْبِيَاء بطرِيق الْقطع هُوَ حجَّة على الْيَهُود لَا مخرج لَهُم مِنْهَا وَلَا محيص عَنْهَا على أَنه بقى فِيهِ مَوَاضِع للبحث إِذا انفصلت تمّ الدَّلِيل ووضح السَّبِيل

الفصل الثالث

الْفَصْل الثَّالِث الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم من حِكَايَة كَلَامه أَيْضا قَالَ وَأَنا أثبت لَك أَن الْمَسِيح قد جَاءَ من كَلَام الْأَنْبِيَاء قَالَ النَّبِي هوشع بن بئيرى عَلَيْهِ السَّلَام هَكَذَا بِكَلَام عبراني كي يَا مِيم ربيم يَا شابوا بِأَنا إسرائل أَن ملخ وَإِن صَار تَفْسِيره إِن أَيَّامًا كَثِيرَة يقيموا بنى إِسْرَائِيل دون ملك وَدون مقدم فَإِذا سُئِلَ الْيَهُودِيّ الجاحد إِن كَانَ لَهُم ملك أَو مقدم فَلَا يكون جَوَابه إِلَّا أَن يَقُول لَيْسَ عندنَا ملك وَلَا مقدم فَيُقَال لَهُم إِذْ لَيْسَ عنْدكُمْ ملك وَلَا مقدم فاسمع مَا قَالَ يَعْقُوب الَّذِي كَانَ لَهُ اثنى عشر ولدا الَّذِي مِنْهُم يُوسُف الصّديق رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ إِلَى يَوْم الدّين قَالَ الْفَاضِل يَعْقُوب بِكَلَام عبراني لَو يَا صور شابات مى يهودا ومحو كيك مُبين رعلاف عَاد كى يَا بوشيلو ولوا اقاهث عميم وَهَذَا تَفْسِيره لَا ينْتَقض الْملك من يهودا وراسم من بَين رجلَيْهِ حَتَّى يأتى الْمَسِيح وَله تطوع الْأُمَم فَيُقَال لَهُم إِذْ لَيْسَ لكم ملك وَلَا مقدم فقد جَاءَ الْمَسِيح كَقَوْل يَعْقُوب النَّبِي إِذْ لَيْسَ لَهُم ملك وَقَالَ أرمياء النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِي الطَّائِفَة الْكَافِرَة بِهِ بِكَلَام عبراني هَكَذَا أم يَا عَمُود موشا وشموال لقاناى أَن نقسى الها عَم

هَذَا شلاح معال فاناى وَيَا ساوها ياكى يمروا أناه نَاسا وامرتا لاهيم هِيَ لما باث لما باث امى تشانى أمى لَا راعاب لَا راعاب وخلاقى جاماتي بام اسْمَع كَلَام الله على لِسَان أرمياء النَّبِي تَفْسِيره إِن وقف إِلَى مُوسَى وشموال لَا نرضى عَن هَذِه الْأمة أرميهم من قدامى يخرجُوا فَإِن قَالُوا أَيْن يخرجُوا فتقل لَهُم من الْمَوْت إِلَى الْمَوْت وَمن الْغنى إِلَى الْغنى وَمن الْجُوع إِلَى الْجُوع ويكمل غَضَبي فيهم فيهم فِي غضب الله بكفرهم بالمسيح الَّذِي قد جَاءَ ثمَّ قَالَ الله تَعَالَى على لِسَان يَعْقُوب النَّبِي الْفَاضِل بِلِسَان سرياني هَكَذَا أَلا يَا عَصا عاث غلطان مد أفاث يهودا وصفوا متانا بانوهي عاض على مَا عاث ذَا ياتا ماشيحا داث لاه ملخوثا ولاه اشتماعون عَاما مايا وَهَذَا تَفْسِيره كَمَا قَالَه الله على لِسَان نبيه يَعْقُوب لَا ينْتَقض قضيب الْملك من يهودا وراسم من أبنائه حَتَّى أَن يَأْتِي مَا شيحا الَّذِي هُوَ الْمَسِيح الَّذِي لَهُ الْملك وَله تطوع الْأُمَم وَقَالَ الله تَعَالَى على لِسَان أرمياء النَّبِي فِي إنقطاع ملكهم بِكَلَام عبراني هَكَذَا فأضاع أدوناى ياحور أُفٍّ كل مَكَان إِن إِسْرَائِيل وَهَذَا تَفْسِيره قطع الله بِشدَّة غَضَبه جَمِيع دولة إِسْرَائِيل فَافْهَم فقد جَاءَ الْمَسِيح وَانْقطع ملكهم وَقد قَالَ الله على لِسَان أرمياء النَّبِي فِي إِثْبَات شَرِيعَة الْمَسِيح وإيمان الحواريين قَائِلا بِلِسَان عبراني هُنَا يَا مِيم بايم نوم يهوه واخارتى ات بت إِسْرَائِيل وايت بت يهودا بريت حارشاه لَو اخبريت اشير بريت ات ابو ثام بِيَوْم هُوَ تزيكى بيرم لَهو عاييم مى ارس

مصريم امير همه هفرو ات بريت وانبى بعلتى بِمَ نَام يهوه تَفْسِيره يَقُول الله وَأثبت لبيت إِسْرَائِيل ويهودا عهدا جَدِيدا لَيْسَ كالعهد الَّذِي قلت لِآبَائِهِمْ فِي الْيَوْم الَّذِي أخرجتهم من أَرض مصر من بَيت الْعُبُودِيَّة فَبين الله بِهَذَا الْكَلَام إِيمَان الحواريين وَالتَّابِعِينَ لَهُم كَمَا قَالَ الله فِي مَوضِع آخر على لِسَان أرمياء النَّبِي بِلِسَان عبراني عَن إِيمَان الحواريين قَالَ شوبوا بانيم شوبابيم نوم ادوناى كى انوخى با علتى باخيم وَإِلَّا كحتى اتخيم أحاد معير وشنايم مشتبان وهاباتى أتخيم سيون تَفْسِيره إرجعوا يَا أَوْلَاد اللجاجة فَإِنِّي سدت عَلَيْكُم وآخذكم وَاحِدًا من مَدِينَة واثنين من عشيرة وأدخلكم إِلَى صهيون وَكَذَلِكَ آخذ الحواريين وَاحِدًا من مَدِينَة وإثنان من عشيرة ثمَّ قَالَ لضيق الْآيَة وناتى لَا خيم روعيم كلبى تَفْسِيره ونعطيكم رُعَاة كقلبي ثمَّ قَالَ وأراع أتخيم رعاه واهسكال تَفْسِيره ويرعوكم بالمعرفة والفهم وَكَذَلِكَ جعل من الحواريين أَئِمَّة ورعاة يعلمُوا النَّاس الْمعرفَة والفهم ثمَّ قَالَ لضيق الْآيَة فِي أَلا يعْمل بالعهد الْبَالِي واها ياكى تربوا افريتم بأريش بالبوميم هاهما نوم ادوناى لَو يمروا غر دارون بريث ادوناى وَلَو يَا عالا على لاب ولديز كَا وابوا ولوا

يفقوا ذَوا وَلَو ياعا ساعود تَفْسِيره وَيكون إِذا كثرتم وتنمو فِي الأَرْض فِي تِلْكَ الْأَيَّام يَقُول الله لَا تَقولُوا أبدا بتابوت عهد الله وَلَا يصعد على قلب وَلَا يذكر بِهِ وَلَا يَعْتَقِدهُ وَلَا يعْمل بِهِ أبدا فَاعْلَم أَنه أَمن الحواريين وَالتَّابِعِينَ لَهُم من الْأُمَم ثمَّ قَالَ سُلَيْمَان الْفَاضِل لم أتعلم علما وَعرفت معرفَة المقدسين فأفهم أَيهَا الْإِنْسَان مَا هِيَ معرفَة المقدسين الَّذِي لَا يُمكن لأحد أَن يكون مقدسا إِلَّا أَن عرفهَا وآمن بهَا وَفِي حَقِيقَة الْإِيمَان قَالَ من صعد إِلَى السَّمَاء وَهَبَطَ من قبض الْأَرْوَاح فِي كفيه من جمع المَاء فِي ثوب ثمَّ قَالَ بِكَلَام عبراني مى هاكيم كل افس أريس ماشموا وماشم بنوا فأفهم فسره وَكن عَاقِلا مُدبرا ترشد قَالَ سُلَيْمَان مى هاكيم كل افس أريس ماشموا وَمَا شم بنوا تَفْسِيره من أَقَامَ جَمِيع أقطار الأَرْض مَا إسمه وإسم إبنه ثمَّ قَالَ لضيق الْآيَة بالعبراني كل أمراث ألواه صروفا ماغين هُوَ لات سيم بو تَفْسِيره جَمِيع كَلَام الله ترس مُنِير هُوَ لجَمِيع الواثقين بِهِ فأفهم ثمَّ قَالَ الله على لِسَان أرمياء النَّبِي بِكَلَام عبراني هُنَا ياميم بايم نوم أدوناى واكراتى ات بت إِسْرَائِيل وات بت يهودا بريت هارشاه زيرع آدام وزيرع مهيما تَفْسِيره هَذَا يَوْم يأتى

الجواب عما ذكر

يَقُول الله ونزرع فِي بَيت إِسْرَائِيل وَبَيت يهوذا نسل آدمى ونسل بهيمي فَكَانَ النَّسْل الْآدَمِيّ الحواريون الْمُؤْمِنُونَ بالمسيح عِنْد إقباله وَالتَّابِعِينَ لَهُم وَكَانَ النَّسْل البهيمي الْيَهُود الجاحدين للمسيح وَكَذَلِكَ الْحوَاري يوحنا الَّذِي اسْمه جوانش قَالَ من لم يُؤمن وَلم يتمادى فِي تَعْلِيم الْمَسِيح فَلَا إِلَه لَهُ فأفهم ترشد اعْلَم أَنِّي كتبت لَك بالعبراني والسرياني من شَهَادَات الْأَنْبِيَاء عَن الله من الْكتب الَّتِي بِأَيْدِيهِم وَأَن الْيَهُود لَا يقدرُونَ على إِنْكَار حرف مِنْهَا إِذا احْتج مَعَهم بهَا بالعبراني والسرياني كَمَا نطقت بِهِ الْأَنْبِيَاء رَضِي الله عَنْهُم فِي إِثْبَات إقبال الْمَسِيح وإيمان الحواريين وَالتَّابِعِينَ لَهُم وَفِي إطراح الْيَهُود الملاعين الجاحدين للمسيح سيدنَا فأفهم الْجَواب عَمَّا ذكر يَا هَذَا المخدوع ظَنَنْت السراب مَاء وَالْأَرْض سَمَاء فاستسمنت ذَا ورم ونفخت فِي غير ضرم اعْلَم يَا هَذَا أَنه لَا يقبل مِنْك فِي هَذَا الْمقَام الإستدلال بالظنون والأوهام إِذْ الْمَطْلُوب فِيهِ تَحْصِيل الْعلم الْقطعِي وَالْيَقِين البرهاني فَلَا يحصل لَك شَيْء من ذَلِك حَتَّى تعلم صِحَة مَا استدللت بِهِ هُنَالك وَلَا تعلم صِحَة شَيْء مِمَّا ادعيته دَلِيلا قَاطعا مُفِيدا للْعلم إِلَّا بعد معرفتك أَن هَذِه الْكتب الَّتِي استدللت بهَا أَهِي من عِنْد الله وَأَنَّهَا بلغتك عَن الله على أَلْسِنَة الصَّادِقين وَلَا يتَوَصَّل إِلَى معرفَة شَيْء من ذَلِك إِلَّا بعد معرفتك بالنبوات وحقيقتها وَدَلَائِل صِحَّتهَا الْعَقْلِيَّة وَلَا تتوصل إِلَى ذَلِك حَتَّى تعلم حُدُوث الْعَالم وَأَنه مَوْجُود بعد عدم وَتعلم أَن لَهُ مُحدثا وَأَن محدثه مَوْجُود حَيّ عَالم قَادر مُرِيد مَوْصُوف بِصِفَات الْكَمَال حَتَّى يَصح مِنْهُ إرْسَال الرُّسُل وتأييدهم بالأدلة وكل ذَلِك إِنَّمَا يعرف بأدلة قَطْعِيَّة وَلَا يَصح أَن تعرف بأدلة سمعية

فَإِن السّمع لَا يثبت إِلَّا بعد ثُبُوت هَذِه الْأُصُول فَإِذا وصلت إِلَى هَذَا الْمحل وسلمت من التعثر بأذيان الزلل ... وَكم دونهَا من مهمه ومفازة ... وَكم أَرض جَدب دونهَا ولصوص ... فَحِينَئِذٍ بجب عَلَيْك أَن تنظر فِيمَا ألْقى الصادقون إِلَيْك فَإِن كنت مِمَّن تسمع مِنْهُم كَلَامهم وتشافه بِنَفْسِك خطابهم فقد سَقَطت عَنْك معرفَة طرق النَّقْل وشروط التَّحَمُّل وَالْحمل ولزمتك معرفَة اللُّغَة الَّتِي يتَكَلَّم بهَا الصادقون فتعرف مقاطع الْكَلِمَات وَكَيْفِيَّة النُّطْق من إختلاف بِسُكُون أَو حركات وتعرف فرق مَا بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وَالنَّص وَالظَّاهِر والمجمل والمؤول وَالْعَام وَالْخَاص وَالْمُطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ إِلَى أُمُور كَثِيرَة تعرف فِي علم الْأُصُول وَإِن كنت مِمَّن لم يسمع من الصَّادِقين فَلَا بُد لَك من أَن تنظر فِي الَّذِي بلغك ذَلِك الدَّلِيل على يَدَيْهِ إِن كَانَ يجوز عَادَة عَلَيْهِ الْغَلَط والسهو أَو لَا فَإِن كَانَ مِمَّن يجوز عَلَيْهِ الْغَلَط والسهو عَادَة فَلَا يلْتَفت إِلَى خَبره فِي هَذَا الْمقَام وَهَذَا النَّوْع هُوَ الَّذِي يُسمى عندنَا أَخْبَار الْآحَاد وَلها مَحل تقبل فِيهِ بعد مُرَاعَاة شُرُوط وَيعرف كل ذَلِك فِي مَوْضِعه وَأما مثل هَذَا الَّذِي تصديت لَهُ فَلَا يتَوَصَّل إِلَيْهِ بِهَذَا الطّرق فَإِن الْمَطْلُوب هُنَا حُصُول الْعلم وَلَا يحصل الْعلم بقول من يتجوز الْخَطَأ والسهو عَلَيْهِ فِي خَبره وَإِن كَانَ مِمَّا لَا يجوز عَلَيْهِ شَيْء مِمَّا ذَكرْنَاهُ عَادَة فَهُوَ الَّذِي يحصل الْعلم بقوله وَهُوَ الْعدَد الْكثير الَّذين تحيل الْعَادة عَلَيْهِم الْكَذِب وَهَذَا الْخَبَر هُوَ الَّذِي يُسمى الْمُتَوَاتر والتواتر لَهُ شُرُوط وَأَحْكَام تعرف فِي مَوْضِعه فَإِذا تقررت هَذِه الْمُقدمَة فَأَنا أَسأَلك سُؤال منصف لَا مُصَنف وَأقسم عَلَيْك بِدينِك قسم متلطف لَا متعجرف هَل توفرت لديك هَذِه الشُّرُوط أم هَل أَكْثَرهَا عنْدك مطرح مسقوط فَإِن أنصفت وإعترفت علمت أَنَّك على الْعلم بهَا مَا حصلت فَيَنْبَغِي لَك أَن تطلب حُصُول الْعلم من بَابه وَأَن تجتهد فِي تَحْصِيل أَسبَابه وَإِن إدعيت علم ذَلِك علم أَنَّك مغالط معاند جَائِر عَن الْحق وحائد وَكفى بكلامك فِي كتابك هَذَا على كَذبك شَاهد ثمَّ على قرب تفتضح إِذا خرست عَن جَوَاب مَا عَنهُ سُئِلت تعجل بِالْجَوَابِ وَلَا تتأن فِي الْكتاب وَإِن أَبيت إِلَّا تماديا فِي غيك وإستمرار على جهلك وبغيك

أريناك إختلال هَذِه الشُّرُوط عنْدكُمْ عيَانًا وأقمنا على فَسَاد كتبك حجَّة وبرهانا وَذَلِكَ أَنا نقُول إِن من أعظم كتبكم الَّتِي ترجعون إِلَيْهَا وتعولون فِي أحكامكم عَلَيْهَا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَكفى بهما شرفا وشهرة أَنَّهُمَا عنْدكُمْ كَلَام الْملك الْجَلِيل وَأَنْتُم تدعون أَنكُمْ تناقلتموهما جيلا بعد جيل وَأَنا أبين إِن شَاءَ الله أَن نقلهما إِنَّمَا كَانَ بطرِيق الْآحَاد وَأَن الْغَلَط والسهو يجوز على ناقليهما وسآتي مِنْهُمَا بِبُطْلَان المُرَاد أذكر إِن شَاءَ الله بعض مَا وَقع فيهمَا من التَّنَاقُض والتحريف وَالْقلب والتصحيف وأنبه على قَبِيح مَا تنسبونه فيهمَا إِلَى الله من القَوْل السفساف السخيف وَمَا تنتقصون بِهِ الْأَنْبِيَاء أولى الْفضل والتشريف بحول الله تَعَالَى وَحسن عونه وأبدأ بِالتَّوْرَاةِ لكَونهَا مُقَدّمَة فِي الرُّتْبَة وَالزَّمَان ومعترفا بهَا عِنْد أولى الْأَدْيَان وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَان

فصل

فصل فِي بَيَان بعض مَا طَرَأَ فِي التَّوْرَاة من الْخلَل وَأَنَّهَا لم تنقل نقلا متواترا فتسلم لأَجله من الْخَطَأ والزلل فَأول دَلِيل أَنَّهَا لم تتْرك على مَا كَانَت فِي الألواح الَّتِي كتبهَا الله تَعَالَى لمُوسَى وَلَا على مَا انتسخها لَهُم مُوسَى بل زيد فِيهَا وَلَا بُد مَا لَيْسَ مِنْهَا وَلَا كَانَ فِي الألواح الَّتِي كتبهَا الله لمُوسَى وَيدل على ذَلِك أَن فِي آخر السّفر الْخَامِس أَن مُوسَى توفى فِي أَرض موآب بِإِزَاءِ بَيت فغور وَلم يعرف إِنْسَان مَوضِع قَبره إِلَى الْيَوْم وَكَانَ قد أَتَى على مُوسَى إِذْ توفى مائَة وَعِشْرُونَ سنة وَلم يضعف بَصَره وَلم يتشيخ وَجهه وَبكى بَنو إِسْرَائِيل على مُوسَى ثَلَاثُونَ يَوْمًا فِي عريب موآب فَلَمَّا تمت أَيَّام حزنهمْ على مُوسَى امْتَلَأَ يشوع بن نون من روح الْحِكْمَة لِأَن مُوسَى كَانَ وضع يَده على رَأسه فِي حَيَاته وَكَانَ بَنو إِسْرَائِيل يطيعونه ويعملون كَمَا أَمر الرب مُوسَى وَلَا يشك الْوَاقِف على هَذَا التَّارِيخ وَهَذِه الْوَفَاة أَنَّهَا لَيست مِمَّا أنزل الله على مُوسَى وَلَا مِمَّا كتبهَا مُوسَى عَن نَفسه وَإِنَّمَا هِيَ من إِثْبَات من أَرَادَ أَن يثبتها بعد وَفَاة مُوسَى بِزَمَان ويدلك على ذَلِك قَوْله وَلم يعرف إِنْسَان مَوضِع قَبره إِلَى الْيَوْم يُرِيد بِهِ الْيَوْم الَّذِي كتب فِيهِ هَذَا وَهَذَا بَين عِنْد الْمنصف وَمَعَ بَيَانه فَلَيْسَ أحد من الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِيمَا أعلم يَقُول إِن التَّوْرَاة زيد فِيهَا شَيْء بعد مُوسَى وَلَا يفرق بَين هَذَا الْكَلَام وَغَيره بل هِيَ كلهَا عِنْدهم كَلَام الله وَهَذَا جهل عَظِيم وخطب جسيم فهم بَين أَمريْن إِمَّا أَن يَقُولُوا ان هَذَا الْكَلَام هُوَ مِمَّا كتبه الله لمُوسَى وَأخْبر بِهِ مُوسَى أَو يَقُولُوا إِنَّه لَيْسَ مِمَّا أخبر الله بِهِ مُوسَى وَلم يخبر بِهِ مُوسَى فَإِن قَالُوا الأول كذبه مساق الْكَلَام فَإِن الْمَفْهُوم مِنْهُ على الْقطع أَنه كتب بعد وَفَاة مُوسَى بِزَمَان وَإِن قَالُوا بالْقَوْل الآخر قيل لَهُم فلأي شَيْء خلطتم

كَلَام الله بِكَلَام غَيره وأجريتموها فِي نسق وَاحِد وزدتم على كَلَام الله وَلم تشعروا بذلك بل نسبتم كل ذَلِك إِلَى أَن الله أنزلهُ وَإِذا جَازَ زِيَادَة مثل هَذَا وَلم يتحرز مِنْهُ جَازَ أَن يكون كل حِكَايَة فِيهَا لَا يَصح نسبتها إِلَى الله زَائِدَة وَلَا سِيمَا الحكايات الرَّكِيكَة الَّتِي تحكى فِيهَا عَن الْأَنْبِيَاء الَّتِي لَا يَلِيق ذكرهَا بسفلة النَّاس وغالب الظَّن وَلَا يعلم الْغَيْب إِلَى الله تَعَالَى أَن السّفر الأول الَّذِي هُوَ سفر البدء والأنساب مِمَّا زيد على كَلَام الله تَعَالَى وَلم يشعروا بِزِيَادَتِهِ وَمِمَّا يدل أَيْضا على هَذَا الْمَعْنى أَن كثيرا مِمَّا يَجِيء فِيهَا وكلم الرب مُوسَى وَقَالَ لَهُ اقبض حِسَاب بني جرشون وكلم الرب مُوسَى وَقَالَ لَهُ كلم بني إِسْرَائِيل وَمثل هَذَا كثير وَهَذَا يدلك أَنه لَيْسَ مِمَّا قَالَه الرب جلّ ذكره لمُوسَى وَلَا مِمَّا قَالَه مُوسَى لَهُم أَعنِي لفظ وكلم الرب مُوسَى وَقَالَ لَهُ وَمَا أشبهه من لفظ الحكايه عَنهُ وانما هُوَ شَيْء حكى عَنهُ بعد انقراضه وأضيف الى كَلَام الله ثمَّ لَا يعْرفُونَ من الحاكي وَإِذا جَازَ مثل هَذَا وَلَا يَشْعُرُونَ بِهِ جَازَ أَن يكون أَكْثَرهَا مغيرا ومبدلا وَلَيْسَ من كَلَام الله وَلَا من كَلَام مُوسَى وَلَا يَشْعُرُونَ بِهِ وَمن وقف عَلَيْهَا متتبعا لهَذَا الْمَعْنى قطع بِأَنَّهَا زيد فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا وَعند إنكشاف الْغُبَار تتبين أَفرس تَحْتك أم حمَار مَاء وَلَا كصدى ومرعى وَلَا كالسعدان وَلَقَد حفظ الله الْقُرْآن الْعَظِيم فَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} وَلذَلِك كره عُلَمَاؤُنَا رَضِي الله عَنْهُم كتب التفاسير وَأَسْمَاء السُّور فِي الْمُصحف وَإِن كَانَت بِخَط آخر ولون آخر وَقد اتَّفقُوا فِيمَا أَحسب على أَنه لَا يجوز كتب فواتح السُّور يعْنى أسماءها بِخَط الْمُصحف وبلون مداه لِئَلَّا يخْتَلط بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فالحمدلله الَّذِي هدَانَا لهَذَا الدّين القويم والمنهج الْمُسْتَقيم

وَأما بَيَان أَنَّهَا لَيست متواترة فَهُوَ أَن الْيَهُود على بكرَة أَبِيهِم يعْرفُونَ وَلَا يُنكرُونَ أَن التَّوْرَاة إِنَّمَا كَانَت طور مُدَّة ملك بني إِسْرَائِيل عِنْد الكوهان الْأَكْبَر الهاروني وَحده وَعنهُ تلقيت وَلَا يُنكر ذَلِك مِنْهُم وَلَا مِنْكُم إِلَّا مجاهر بِالْبَاطِلِ وَكَذَلِكَ مَا يحْكى من قتل بخت نصر جَمِيع بني إِسْرَائِيل وإحراقه كتب التَّوْرَاة حَيْثُ وجدت وَإِتْلَاف مَا كَانَ بِأَيْدِيهِم حَتَّى لم يتْرك مِنْهُم إِلَّا عددا يَسِيرا لَا يحصل بخبرهم الْعلم وَكَانَ قد أجلاهم إِلَى بابل وَهدم الْبَيْت أَو لَعَلَّه كَانَ الْبَاقِي مِنْهُم عددا كثيرا إِلَّا أَنهم لم يَكُونُوا كلهم يحفظونها بل كَانُوا عددا يَسِيرا لَا يحصل الْعلم بقَوْلهمْ وَكَانَ هَذَا كُله قبل الْمَسِيح بِخمْس مائَة سنة تَقْرِيبًا وَكَذَلِكَ وَاقعَة طيطش بن شبشان الَّتِي كَانَت بعد الْمَسِيح إِلَى أَرْبَعِينَ سنة إِذْ فرقوا التَّفْرِقَة الَّتِي هِيَ الْيَوْم عَلَيْهَا وَهَذَا أَيْضا من الْمَعْرُوف عِنْد الْجَمِيع بِحَيْثُ لَا يُنكره إِلَّا مكابر مجاهر وَهَذِه الْأُمُور كلهَا مِمَّا تقدح فِي النَّقْل الَّذِي يَدعُونَهُ متواترا ثمَّ نقُول هَذِه الْأُمُور الْمَذْكُورَة إِن وافقوا على وُقُوعهَا فقد اعْتَرَفُوا بِعَدَمِ التَّوَاتُر فَإِن من شَرط خبر التَّوَاتُر أَن يَنْقُلهُ الْعدَد الْكثير الَّذِي تحيل الْعَادة عَلَيْهِم التواطؤ على الْكَذِب والغلط عَن عدد مثله هَكَذَا وَلَا يَنْقَطِع فَإِن رَجَعَ الْخَبَر إِلَى عدد لَا تحيل الْعَادة عَلَيْهِم الْكَذِب لم يحصل بذلك الْخَبَر الْعلم إِذْ لَا يكون متواترا وَإِن لم يوافقوا على وُقُوع هَذِه الوقائع هَكَذَا لم يقدروا على جحد أَصْلهَا وَإِذا اعْتَرَفُوا بأصلها لم يقدروا أَن ينكروا إِمْكَان وُقُوع مَا يعترفون بِأَصْلِهِ وتجويز وُقُوع ذَلِك كتحقيق وُقُوع ذَلِك فِي عدم حُصُول الْعلم بالْخبر الَّذِي يدعونَ أَنه متواتر وَأما بَيَان التحريف فِيهَا فَهُوَ أَن الْيَهُود تعترف بِأَن السّبْعين كوهانا اجْتَمعُوا على تَبْدِيل ثَلَاثَة عشر حرفا من التَّوْرَاة وَذَلِكَ قبل الْمَسِيح فِي زمَان القياصرة وَمن إجترأ على تَبْدِيل حرف من كتاب

الله وتحريفه فَلَا يوثق بِالَّذِي فِي يَده مِمَّا يدعى أَنه كتاب الله لعدم الثِّقَة بِهِ ولقلة مبالاته بِالدّينِ وَأَيْضًا فَلَعَلَّهُ قد حرفه كُله أَو أَكْثَره وَكَذَلِكَ يقرونَ وَلَا يُنكرُونَ أَن طَائِفَة مِنْهُم يُقَال لَهُم السامرية حرفوا التَّوْرَاة تحريفا بَينا كثيرا والسامرية يدعونَ عَلَيْهِم مثل ذَلِك التحريف وَكَذَلِكَ النَّصَارَى أَيْضا يَدْعُو على الْيَهُود أَنهم حرفوا فِي التَّوْرَاة التَّارِيخ ويزعمون أَنهم نَقَصُوا من تَارِيخ آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألف سنة وَنَحْو الْمِائَتَيْنِ وَهَذِه إحتمالات توجب على الْعَاقِل التَّوَقُّف فَلَا يَدعِي حُصُول الْعلم بِنَقْل التَّوْرَاة مَعَ انقداح هَذِه الممكنات إِلَّا مجاهر متعسف فَإِن قيل كَيفَ يَصح أَن يُقَال هَذَا وَقد كَانَ الْأَنْبِيَاء بعد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يحكمون بِالتَّوْرَاةِ ويرجعون إِلَيْهَا وَاحِدًا بعد وَاحِد إِلَى زمن يحيى وَعِيسَى ثمَّ بعد ذَلِك تناقلها النَّصَارَى كَمَا تناقلها الْيَهُود خلفا عَن سلف إِلَى الْيَوْم وَإِن جَازَ تطرق التحريف إِلَى مَا هَذَا سَبيله فَيلْزم عَلَيْهِ أَن يحكم الْأَنْبِيَاء بِالْبَاطِلِ وَيلْزم عَلَيْهِ أَيْضا أَن يقرُّوا على الْبَاطِل غَيرهم وَهَذَا كُله بَاطِل على الْأَنْبِيَاء وَيلْزم عَلَيْهِ أَيْضا أَن لَا يحصل الْعلم بِخَبَر متواتر وَلَا يوثق بِكِتَاب يدعى أَنه جَاءَ عَن نَبِي فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِنَّا لم نعين لوُقُوع التحريف فِيهَا زَمَانا وَلَا عينا من حرف مِنْهَا شَيْئا وَلَا من ألحق بهَا شَيْئا فَيحْتَمل أَن يَقع التحريف فِيهَا قبلهم أَو بعدهمْ وَإِنَّمَا أبدينا تِلْكَ الإحتمالات ليعلم أَن الَّذِي فِي نفوسكم من الثِّقَة بهَا إِنَّمَا هُوَ إعتقاد جزم وَلَيْسَ بِعلم وَمِمَّا يدل على قبُول تِلْكَ الإحتمالات وَأَنَّهَا قادحة فِي دَعْوَى الْعلم

بسلامتها أَنَّهَا لم تقر على مَا تلقيت من مُوسَى بل زيد فِيهَا مالم يتلق عَن مُوسَى مثل الَّذِي حكيناه من ذكر وَفَاته وحزن بني إِسْرَائِيل وحكاية قَول كلم الله مُوسَى وَهَذَا يعلم مِنْهُ على الْقطع أَن الله لم يقلهُ لمُوسَى وَلَا مُوسَى قَالَه عَن نَفسه يعلم ذَلِك من وقف عَلَيْهِ وتتبعه بضرورة مساق الْكَلَام وَلَا بُد فَالَّذِي زَاد ذَلِك لَعَلَّه الَّذِي وَقع الْخلَل من جِهَته وَأما مَا ذكرْتُمْ من حكم الْأَنْبِيَاء بهَا فَلَيْسَ فِيهِ حجَّة لِإِمْكَان أَن تنازعوا فِي قَوْلكُم كَانُوا يحكمون بهَا بل لَعَلَّهُم كَانُوا يحكمون بِمَا كَانَ الله يعلمهُمْ بِمَا يُوَافق شَرِيعَة مُوسَى وَلَا يُخَالِفهَا وَلَو سلمنَا أَنهم كَانُوا يحكمون بهَا فَنَقُول كل شَيْء حكم بِهِ الْأَنْبِيَاء من التَّوْرَاة فَلَيْسَ بمحرف وَأما مَا لم يحكموا بِهِ مِنْهَا فَلَعَلَّهُ الَّذِي حرف مثل الْأَخْبَار الَّتِي حكيناها ونحكيها إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَإِن قيل فَيلْزم مِنْهُ أَن يقر الْأَنْبِيَاء على الْخَطَأ ويتحدثوا بِالْكَذِبِ فَإِنَّهُم كَانُوا يتحدثون بهَا قُلْنَا لَيْسَ بكاذب من حكى شَيْئا يعْتَقد صِحَّته لَا يتَعَلَّق بِهِ حكم الله تَعَالَى وَإِن كَانَ ذَلِك الْخَبَر فِي نَفسه مُخَالفا لما فِي الْوُجُود فَإِنَّهُ إِنَّمَا يحْكى عَن إعتقاده وَهُوَ حق وَإِنَّمَا الْكَاذِب الَّذِي يخبر عَن الشَّيْء بِخِلَاف مَا هُوَ عَلَيْهِ من الْعلم بذلك وَهُوَ حد الْكَذِب عندنَا وَحَقِيقَته وَهَذَا إِنَّمَا يجوز فِي حِكَايَة الْأَخْبَار الَّتِي لَا يتَعَلَّق بهَا حكم وَأما مَا تعلق بِهِ حكم مِنْهَا فَلَا يجوز ذَلِك إِذْ الْأَنْبِيَاء معصومون فِيمَا يبلغونه من الْأَحْكَام عَن الله تَعَالَى وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا حذرا من أَن ننسب إِلَى الله تَعَالَى مَا لَا يَلِيق بجلاله أَن ينزله فِي كِتَابه وَلَا أَن يُنَاجِي بِهِ صفوة أحبابه من الْفَوَاحِش والفجور الَّتِي حكوها فِي التَّوْرَاة وَادعوا أَنه فِيهَا مسطور مَعَ أَنه لَيْسَ فِي ذكرهَا فَائِدَة بل هِيَ بِكُل ضَلَالَة عَائِدَة وَكَذَلِكَ تنزه مُوسَى والأنبياء بعده صلوَات الله عَلَيْهِم عَن ذَلِك الْكَلَام الغث الركيك الَّذِي لَو حكى مثله عَن بعض السفلة لأنف مِنْهُ واستحى مِنْهُ وَلما كَانَ يَنْبَغِي لعاقل أَن يلْتَفت ويصغى إِلَيْهِ ولكان يجب عَلَيْهِ أَن يعرض عَنهُ وينكره إِذا سَمعه هَذَا إِذا كَانَ محكيا عَن

السفلة فَكيف إِذا حَكَاهُ الله عَن نَفسه أَو عَن خيرته من خلقه الَّذين برأهم الله عَن الْكَبَائِر والنقائص الَّتِي تنَاقض نبوتهم فهم أكْرم الْخلق عَلَيْهِ وأحظاهم لَدَيْهِ وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى حرم الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن والغيبة والبهتان والإحن ثمَّ يتعامل بهَا مَعَ أكْرم الْخلق عَلَيْهِ فِي نُفُوسهم وذراريهم وبناتهم وينسبها إِلَيْهِم ويشيعها أَبَد الآبدين عَلَيْهِم هَذَا مِمَّا لَا يَلِيق بِجلَال الله تَعَالَى وَالْقَائِل بِوُقُوع هَذَا مستهزئ مفتر على الله وسننقل عَن بعض مَا حكوا فِي التَّوْرَاة من هَذِه القبائح إِثْر هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ نقُول لَو سلمنَا أَنَّهَا لم تحرف فِي زمَان الْأَنْبِيَاء لأمكن أَن نقُول فَلَعَلَّهُ حرف بعدهمْ وَذَلِكَ بعد وقْعَة طيطش حَيْثُ أفناهم وَالَّذين تنصرُوا مِنْهُم عدد يسير لَا تقوم الْحجَّة بقَوْلهمْ وَإِن قُلْنَا إِنَّهُم كَانُوا عددا كثيرا فَلم يكن كل وَاحِد مِنْهُم مِمَّن يحفظها وَلَا يضبطها ثمَّ نقُول لِلنَّصَارَى إِن أنكرتم أَن يكون شَيْء من التَّوْرَاة حرف فلأي شَيْء تَقولُونَ إِن الْيَهُود حرفوا فِي التَّوْرَاة فِي نسب آدم ونقصوا مِنْهُ وَإِذا جَازَ ذَلِك فِي نسب آدم جَازَ فِي غَيره وَهَذَا بَين وَأما قَوْلهم يلْزم أَن لَا نقبل خبر متواتر وَلَا يوثق بِكِتَاب نَبِي فَلَا يلْزم شَيْء من ذَلِك فَإِن الْخَبَر إِذا تطرقت إِلَيْهِ أَمْثَال تِلْكَ الإحتمالات فَلَا يوثق بنقله وَلَا يعول عَلَيْهِ لَا مَكَان تِلْكَ الْآفَات أَو لَعَلَّ أشرافكم تتخلب نَحْو كتَابنَا فَيَقُولُونَ فكتابكم لَا يلْتَفت إِلَيْهِ وَلَا يعول عَلَيْهِ فَنَقُول هَيْهَات إِنَّمَا قُلْنَا كل كتاب تطرق إِلَيْهِ شَيْء من تِلْكَ الإحتمالات وَكِتَابنَا منزه عَن أَمْثَال تِلْكَ الْآفَات فَإِن الله تَعَالَى تولى حفظه وأجزل من كل صِيَانة حَظه فصانه بنظمه الَّذِي لَا يقدر الْجِنّ وَالْإِنْس على آيَة مِنْهُ فَلَا يخْتَلط بِهِ كَلَام مُتَكَلم وَلَا يقبل وهم متوهم إِذْ لَيْسَ من جنس كَلَام الْبشر وَهُوَ مَعْدُود الْآي والسور ثمَّ صانه بِأَن يسره للْحِفْظ والإستظهار فيستوى فِي نَقله

الْكِبَار وَالصغَار لَا يخْتَص بحفظه أحد وَالْوَالِد إِذْ نقص مِنْهُ حرفا وَاحِدًا أَو غير حَرَكَة مِنْهُ رده وَأَصْلَحهَا عَلَيْهِ الْوَلَد وَمَعَ هَذَا فحروفه وكلماته وآياته وسوره فِي الدَّوَاوِين معددة وأشكال كتبه حُرُوفه فِيهَا مُقَيّدَة وَمَعَ هَذَا فَنقل الْأُمَم الَّتِي لَا تحصى عَن الامم الَّتِي لَا تحصى حَتَّى يصل ذَلِك إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُصْطَفى مَعَ قرب الْعَهْد والتشمير فِي صيانته وَالْجد وإستعمال القانون النَّحْوِيّ وتثقيف اللِّسَان الْعَرَبِيّ فيهمَا كمل الله لَهُ الصون وَحصل لَهُ بهما على فهمه أكبر العون فَللَّه الْحَمد على مَا أولى وَالشُّكْر لَهُ على نعمه الَّتِي لَا تحصى فَأَيْنَ اللُّؤْلُؤ من الخزف والياقوت من الصدف وَبعد هَذَا فَالْآن حَان أَن نذْكر بعض مَا وَقع فِي التَّوْرَاة مِمَّا تطرق إِلَيْهَا التهم وَمن ذَلِك مَا ذَكرُوهُ فِيهَا فِي الْمُصحف الأول مِنْهَا وَرَأى الله أَن قد كثر فَسَاد الْآدَمِيّين فِي الأَرْض فندم على خلقهمْ وَقَالَ سأذهب الْآدَمِيّ الَّذِي خلقت على الأَرْض والخشاش وطيور السَّمَاء لِأَنِّي نادم على خلقتها جدا وَهَذَا فِي حق الله تَعَالَى محَال إِذْ النَّدَم إِنَّمَا يلْحق من لَا يعلم مصير المندوم عَلَيْهِ ومآله وإعتقاد هَذَا فِي حق الله كفر إِذْ يُنبئ عَن أَن الله تَعَالَى جَاهِل وَأَنه متغير تَعَالَى عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَلَفظ النَّدَم هُنَا نَص لَا يقبل التَّأْوِيل فَهُوَ كذب وباطل قطعا وَمن ذَلِك مَا ظهر فِي الْوُجُود خِلَافه وَذَلِكَ أَنهم حكوا فِيهَا أَن بني إِسْرَائِيل يسكنون تِلْكَ الأَرْض إِلَى الإنقراض ثمَّ لم يَلْبَثُوا أَن رأيناهم أخرجُوا مِنْهَا رَأْي الْعين فقد ظهر أَن ذَلِك بَاطِل وَكذب وَمن ذَلِك أَيْضا أَنه حكى فِيهَا أَن الله تَعَالَى كالإنسان شخص

ذُو جوارح وَهَذَا على الله بِالضَّرُورَةِ محَال وَلَا للتأويل فِي هَذَا اللَّفْظ مجَال ثمَّ أَنى هَذَا من قَوْله {لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} وَمن ذَلِك أَيْضا أَن الله تَعَالَى حِين أَمر بني إِسْرَائِيل إِلَى التَّوَجُّه إِلَى الشَّام وعدهم أَن يتَوَجَّه مَعَهم وَأمره أَن يعملوا قبَّة على صفة كَذَا ينزل فِيهَا فِي سيره مَعَهم ثمَّ إِن مُوسَى قَالَ لَهُ يارب إِن هَذِه الْأمة القاسية رقابها لَا تمْضِي إِلَيْك إِلَى الشَّام حَتَّى تمْضِي مَعهَا كَمَا وعدتها فَقَالَ الله نعم اعْمَلُوا لي الْقبَّة فَعلم مُوسَى الْقبَّة وسماها قبَّة الْعَهْد وَنزل الله من عَرْشه وَسَار مَعَهم فِي دَاخل الْقبَّة ينزل بنزولهم ويرحل برحيلهم هَذَا نَص التَّوْرَاة وَمِمَّا يذكرُونَهُ من بَقِيَّة هَذَا وَلَيْسَ فِي التَّوْرَاة أَنهم حِين جمعُوا المَال لعمل هَذِه الْقبَّة أجروا الإتفاق على يَد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَلَمَّا كمل عَملهَا ادعوا عَلَيْهِ أَنه قد نقصهم من المَال ألف رَطْل وَسبع مائَة رَطْل وَخَمْسَة وَسَبْعُونَ رطلا وَقَالُوا لمُوسَى تهكما بِهِ أَيْن نقص هَذَا المَال وَإِنَّمَا جرى الإتفاق على يَديك فَسَمِعُوا صَوتا من السَّمَاء يَقُول لَهُم إِن هَذَا الْعدَد دخل فِي رُؤُوس الأعمدة وَفِي التغشية فَحِينَئِذٍ كفوا عَنهُ فَهَؤُلَاءِ لم يعرفوا الله حق مَعْرفَته وَلَا قدروه حق قدره {فويل لَهُم مِمَّا كتبت أَيْديهم وويل لَهُم مِمَّا يَكْسِبُونَ} وَمن ذَلِك أَيْضا أَنهم ذكرُوا فِيهَا أَن الله قَالَ لَهُم أَن يضْربُوا الْقرن فِي عَسْكَرهمْ قَلِيلا قَلِيلا حَتَّى يلْقوا عدوهم فَحِينَئِذٍ يضربونه بأشد مَا يقدرُونَ عَلَيْهِ ليسمعهم الله فيؤيدهم على عدوهم فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يسمع إِلَّا الْأَصْوَات الْعَالِيَة فَأَيْنَ هَذَا من وصف الله تَعَالَى نَفسه فِي كِتَابه على لِسَان نبيه وَرَسُوله حَيْثُ قَالَ {وَإِن تجْهر بالْقَوْل فَإِنَّهُ يعلم السِّرّ وأخفى الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى}

وفيهَا من هَذَا النَّوْع كثير لَو ذهبت أنقله لطال الْكتاب ولخرجنا من مَقْصُود الْبَاب وَيَنْبَغِي أَن نذْكر الْآن مَا جَاءَ فِيهَا مِمَّا ينزه عَنهُ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام من ذَلِك مَا حكوا فِي السّفر الأول عَن لوط أَنه طلع من صاغار فسكن الْجَبَل هُوَ وابنتاه مَعَه فَجَلَسَ فِي مغار هُوَ وإبنتاه فَقَالَت الْكُبْرَى للصغرى قد شاخ أَبونَا وَلَيْسَ على الأَرْض رجل يدْخل علينا نسقى أَبَانَا الْخمر ونضطجع مَعَه فِي مضطجعه فَفَعَلْنَا وحملتا مِنْهُ بولدين موآب وعمون هَذَا لوط من رسل الله الأكرمين أوقعه الله فِي فَاحِشَة كَمَا يُوقع الأرذلين ثمَّ خلد ذكرهَا فِي الآخرين وَهل هَذَا إِلَّا عين الإهانة وَأي نِسْبَة بَين هَذَا وَبَين النُّبُوَّة والكرامة وَكَذَلِكَ أَيْضا حكوا فِيهَا أَن اسحق لما شاخ وعمى بَصَره دَعَا بعيسو إبنه الْأَكْبَر ليبارك عَلَيْهِ وليدعوا لَهُ بِالنُّبُوَّةِ فتحيل يَعْقُوب عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ إِسْحَق أَبوهُ من أَنْت فَقَالَ لَهُ بكرك عيسو فَقَالَ لَهُ إدن مني حَتَّى أجسك فَدَنَا مِنْهُ وَقد كَانَ وضع على رَأسه شعرًا بمكيدة أمه فَقَالَ لَهُ الصَّوْت صَوت يَعْقُوب وَلَكِن الْيَدَيْنِ يدا عيسو فَبَارك عَلَيْهِ ودعا لَهُ بِالنُّبُوَّةِ وبشره بهَا وَهُوَ على غلط فِيهِ ثمَّ بعد ذَلِك جَاءَ عيسو وَقَالَ لَهُ باركني أَيْضا يَا أبي فَقَالَ لَهُ دخل أَخُوك بمكر فَقبل بركاتك فَقَالَ عيسو بعد بكاء وحزن أما تركت من البركات شَيْئا أبركة وَاحِدَة لَك يَا أبتي فَمَا أعظم هَذِه الْآيَة الَّتِي تشبه حَدِيث خرافة وَمن ذَلِك مَا ذَكرُوهُ فِيهَا أَيْضا أَن يَعْقُوب بَيْنَمَا هُوَ يصلح خيمته

ويبسطها مَشى إبنه رأوبين وَهُوَ أكبر أَوْلَاده فضاجع سَرِيَّة أَبِيه بلهة وَلما علم بذلك يَعْقُوب قَالَ لإبنه رأوبين فضل الْعِزّ فائرا كَالْمَاءِ فَلذَلِك لم أفضلك بِالسَّهْمِ الزَّائِد حَيْثُ أمتهنت فِرَاشِي وَتَفْسِير هَذَا أَن سنة الْمِيرَاث كَانَت عِنْدهم أَن يَرث الْوَلَد الْأَكْبَر سَهْمَيْنِ وَسَائِر الْوَلَد سَهْما وَاحِدًا فعاتب يَعْقُوب إبنه رأوبين على فعله بسريته بِأَن لم يفضله بِالْمِيرَاثِ على أَنه كَانَ أكبر وَلَده وَفِي بعض التراجم أَن يَعْقُوب قَالَ يَا رأوبين أَنْت بكري وقوتي وَرَأس حراتي وعوني طائقة الحمولة وطائقة الْعِزّ والمنعة عديت مثل المَاء فَلَا تمكث إِذْ صعدت إِلَى مُضْطَجع أَبِيك حَقًا لقد نجست مضطجعي وتناولته وَمن ذَلِك مَا ذَكرُوهُ فِيهَا أَيْضا أَن يهوذا بن يَعْقُوب زنى بكنته ثامار إمرأة ولديه وَلَقَد كَانَا هلكا عَنْهَا وَاحِدًا بعد وَاحِد فَردهَا يهوذا إِلَى بَيت أَبِيهَا ووعدها بتزويج وَلَده الثَّالِث الْمُسَمّى بشيلا إِذا كبر ثمَّ أَنَّهَا قعدت ليهوذا فِي طَرِيق غمنه وتسترت جهدها فظنها بغيا فَعدل إِلَيْهَا ودعاها إِلَى نَفسه فَسَأَلته أجرا فوعدها بجدى من غنمه فطلبت مِنْهُ رهنا فَأَعْطَاهَا خَاتمه ومنديله وَعَصَاهُ وواقعها بزعمهم فَحملت مِنْهُ ثمَّ إِن يهوذا أرسل بالجدي ليطلب رَهنه فَلم تُوجد الْمَرْأَة فجَاء بِنَفسِهِ إِلَى أهل الْقرْيَة وَقَالَ لَهُم أَيْن قحباكم المتبلطة على الطَّرِيق فَقَالُوا مَا كَانَ منا على الطَّرِيق قحبا ثمَّ قيل لَهُ بعد حِين إِن كنتك ثامار حُبْلَى فَقَالَ تحرق بالنَّار فأخرجت لتحرق بالنَّار فَقَالَت إِنَّمَا أَنا حَامِل مِنْهُ وَهَذِه رَهنه بيَدي حِين زنى بِي ليفكها بجدي من غنمه فَعرف ذَلِك يهوذا وَقَالَ هِيَ أصدق مني وَفِي بَقِيَّة هَذَا الْخَبَر خرافة وَذَلِكَ أَن ثامار لما جاءها الْمَخَاض كَانَ فِي بَطنهَا توأمان فتناولت الْقَابِلَة خيط عهن فربطته على يَده وَقَالَت هَذَا يخرج بديا فَلَمَّا مد يَده خرج أَخُوهُ فَقَالَ لقد انحزمت فِيك ثلمة عَظِيمَة

وَحكى فِيهَا أَيْضا أَن دينة بنت يَعْقُوب خرجت لبَعض شَأْنهَا فَنظر إِلَيْهَا شخيم بن حمورا الزناتي فعشقها واحتملها فواقعها وافتضها ثمَّ أَن شخيم قَالَ لِأَبِيهِ حمورا اخْطُبْ لي هَذِه الْجَارِيَة لتَكون لي إمرأة فَبلغ ذَلِك يَعْقُوب وَأَنَّهُمْ قد نجسوا دينة إبنته فَصمت يَعْقُوب وأطرق حَتَّى أَتَاهُ بنوه فَلَمَّا بَلغهُمْ ذَلِك اغتموا وساءهم ذَلِك وَاشْتَدَّ عَلَيْهِم ذَلِك جدا لأَنهم ارتكبوا النَّجَاسَة فِي إِسْرَائِيل ثمَّ إِن بني يَعْقُوب عاقدوا شخيم وحمور أَبَاهُ وَقَومه أَنهم إِذا اختتنوا أنكحوه أختهم دينة فَإِنَّهُم قَالُوا لشخيم لَا نقدر أَن نزوج أُخْتنَا من رجل لَهُ غرلة وَلَكِن إِذا اختتنتم زوجناكم أُخْتنَا وبناتنا ونتزوج بناتكم فَفعل الْقَوْم ذَلِك فَلَمَّا اشتدت بهم أوجاعهم تنَاول شَمْعُون ولاوى كل وَاحِد مِنْهُمَا حَرْبَة ودخلا على الْقرْيَة بَغْتَة فقتلا كل ذكر فِيهَا وَمثل هَذَا كثير مِمَّا يخرج استقصاؤه إِلَى التَّطْوِيل وَكَذَلِكَ حكوا فِيهَا أَيْضا من وَعِيد الله لبني إِسْرَائِيل بالفاحشة والقبيح مَالا يقبله ذُو عقل صَحِيح مثل مَا حكوا أَن مُوسَى قَالَ لبني إِسْرَائِيل فِي الْوَصِيَّة الَّتِي وصاهم بهَا حَيْثُ قَالَ لَهُم إِن كفرت بِرَبِّك وحدت عَن سَبيله وعبدت الْآلهَة الْأَجْنَبِيَّة يَضْرِبك الرب بقرحة مصر وبالبواسير والجرب والحكة حَتَّى لَا تَسْتَطِيع الشِّفَاء تخْطب إمرأة وَرجل آخر يضطجع مَعهَا وَهَذَا الْكَلَام تضمن أَن الله تَعَالَى توعد بني إِسْرَائِيل من عبد غير الله مِنْهُم بِثَلَاثَة أَنْوَاع من الْفَوَاحِش لَا يَنْبَغِي لذوى المروءات أَن يتلفظوا بهَا وَلَو أسقطوا مروءتهم فتلفظوا بهَا لما كَانَ يَنْبَغِي لَهُم أَن يتوعدوا بهَا وَلَا أَن ينفذوا ذَلِك الْوَعيد لفحشه ثمَّ إِنَّهُم يلْزمهُم على هَذَا أحد ثَلَاث أُمُور أَحدهَا أَن يكون هَذَا الْكَلَام بَاطِلا أَو كذبا على الله تَعَالَى عَن ذَلِك أَو يكون بني إِسْرَائِيل كل من أشرك مِنْهُم

وَعبد غير الله أَن يبتلى بِهَذِهِ الأدواء الثَّلَاثَة وَأَن يَكُونُوا بني زنى وَلَا يقدرُونَ على أَن ينكروا أَنهم قد أشركوا بِاللَّه وَأَنَّهُمْ عبدُوا الْأَوْثَان بعد مُوسَى فَيلْزم من ذَلِك إِن لم يكن ذَلِك الْكَلَام محرفا أَن يَكُونُوا كلهم بني زنى وقرحانين وموصوفين بالفاحشة الْكُبْرَى وحكوا فِي سفر صموئيل الثَّانِي أَن دَاوُود عَلَيْهِ السَّلَام اطلع من قصره فَرَأى إمرأة من نسَاء الْمُؤمنِينَ تَغْتَسِل فِي دارها فعشقها وَبعث فِيهَا فحبسها أَيَّامًا حَتَّى حبلت تَعَالَى الله أَن يجرى ذَلِك على رسله ثمَّ ردهَا وَكَانَ زَوجهَا يُسمى أوريا غَائِبا فِي الْعَسْكَر وَلما علمت الْمَرْأَة بِالْحملِ أرْسلت بِهِ إِلَى دَاوُود فَبعث دَاوُود إِلَى يوآب بن صوريا قائده على الْعَسْكَر يَأْمُرهُ أَن يبْعَث إِلَيْهِ بأوريا زوج الْمَرْأَة فجَاء فَصنعَ لَهُ طَعَاما وخمرا حَتَّى سكر وَأمره بالإنصراف إِلَى أَهله ليوقعها فينسب الْحمل إِلَيْهِ ففهم الْأَمر أوريا وتخابث فَلم يمش إِلَى أَهله وَقَالَ حاشى لله أَن يكون الْملك هُنَا دون أَهله وأمشى أَنا إِلَى أَهلِي فَلَمَّا يئس دَاوُود مِنْهُ رده إِلَى الْعَسْكَر وَكتب إِلَى الْقَائِد أَن يصدر بِهِ فِي الْقِتَال مستقتلا لَهُ فقفل أوريا وَقتل مَعَه من الْمُؤمنِينَ سَبْعَة آلَاف وفزع الْقَائِد من دَاوُود لقتل الْعدَد الْعَظِيم من الْمُؤمنِينَ وَقَالَ للرسول إِذا أَنْت أخْبرت الْملك دَاوُود بقتل النَّاس ورأيته قد غضب قل لَهُ سَرِيعا إِن أوريا قتل فيهم فَفعل الرَّسُول وَسكن دَاوُود من بعد الْغَضَب وسر بِمَوْت أوريا وهانت عَلَيْهِ من أجل مَوته دِمَاء الْمُؤمنِينَ فأعتبر هَذِه الْفَوَاحِش الْمُنكرَة وَهَذِه الصِّفَات المذمومة المستقذرة هَل تلِيق بِأولى الديانَات فَكيف بمعدن النبوات وَهل يحمد ذكرهَا عِنْد ذَوي المروءات فَكيف عِنْد الْحَيّ الْكَرِيم إِلَه الْمَخْلُوقَات تَبًّا لَهُم ولمصدقهم وخسرا براحنة وجذعا وعقرا فوَاللَّه لقد افتروا على رسل الله وكذبوا على كتب الله {افتراء على الله قد ضلوا وَمَا كَانُوا مهتدين}

وَكَتَبُوا فِي هَذَا الْمُصحف أَن أمنون بن دَاوُود عشق أُخْته تامار بنت دَاوُود وتمارض فعاده أَبوهُ فتمنى عَلَيْهِ طَعَاما تطعمه تامار أُخْته فَبعث بهَا دَاوُود إِلَيْهِ فَلَمَّا قربت إِلَيْهِ الطَّعَام وضع يَده فِيهَا وافتضها فَخرجت باكية فلقيها أَخُوهَا الآخر سقيقها أبشالوم فَأَخْبَرته فهون عَلَيْهَا ثمَّ بعد أَيَّام وثب على أمنون فَقتله من أجل ذَلِك وَكَتَبُوا فِي هَذَا الْمُصحف أَن أبشالوم بن دَاوُود نَافق على أَبِيه وَأخرجه عَن قصره وَدخل على نِسَائِهِ فوطئهن كُلهنَّ على أعين بني إِسْرَائِيل استبلاغا فِي الإنتقام من أَبِيه وَمن أفضح مَا كتبُوا فِي هَذَا الْمُصحف عَن سُلَيْمَان بن دَاوُود أَنه ختم عمره بِعبَادة الْأَصْنَام وَالسحر وسيبت نساؤه دينه كذبُوا {قَاتلهم الله أَنى يؤفكون} إِذْ بالأباطل وَالْفَوَاحِش يتقولون ويتخرصون فَلَقَد صدق الله الْعَظِيم وَرَسُوله الْكَرِيم حَيْثُ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي مُحكم كِتَابه الْحَكِيم {وَاتبعُوا مَا تتلوا الشَّيَاطِين على ملك سُلَيْمَان وَمَا كفر سُلَيْمَان وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا} فَغَضب الله عَلَيْهِم وعَلى من يُصدقهُمْ إِلَى يَوْم الدّين ولعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ فَهَذِهِ الحكايات الوخيمة والأقوال غير المستقيمة تَضَمَّنت الْأَخْبَار عَن لوط بِأَنَّهُ زنى بإبنتيه وأنهما حملتا مِنْهُ من الزِّنَى وَأَن نبوة يَعْقُوب إِنَّمَا حصلت لَهُ بِأَن خدع إِسْحَق ومكر بِهِ وَإِنَّمَا كَانَت لعيسو وَأَن دَاوُود زنى بإمرأة مُؤمنَة زَوْجَة مُؤمن وَأَن دَاوُود تحيل على زَوجهَا حَتَّى قتل وَقتل لقَتله جمَاعَة من الْمُؤمنِينَ فسر بذلك وَأَن رأوبين زنى بسرية أَبِيه يَعْقُوب وَكَذَلِكَ يهوذا زمى بكنته ثامار وَولدت لَهُ من الزِّنَى توأمين وَأَن إبنة يَعْقُوب زنى بهَا شخيم بن حمورا وَأَن

أَوْلَاد يَعْقُوب بعد أَن أمنوه وعقدوا مَعَه غدروا بِهِ وقتلوه وأباه وَأهل الْقرْيَة وَأَن أمنون بن دَاوُود زنى بأخته تامار بنت دَاوُود وَأَن أخاها أبشالوم قَتله غيلَة وغدرا وَأَن أبشالوم زنى بنساء دَاوُود أَبِيه وَأَن سُلَيْمَان ارْتَدَّ عَن نبوته وَعبد الْأَصْنَام فَإِن ثَبت هَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ فِي كتبهمْ تَعَالَى الله والأنبياء عَن قَوْلهم فَهَذَا الشّعب الَّذِي ذَكرُوهُ فِيهِ هَذِه الْفَوَاحِش لَيْسَ هُوَ شعب النَّبِي إِسْحَق بل هُوَ شعب غدر ونفاق وزنى وَكفر وَكَيف يَصح أَن تكون هَذِه الْأَفْعَال القبيحة أَفعَال أهل نبوة صَحِيحَة بل كل ذَلِك نَاقض للنبوات لَا سِيمَا مَعَ دُعَاء إِبْرَاهِيم وَإِسْحَق لذريتهما بِالْبرِّ والبركات فَإِن كَانَ هَذَا شعبهما الَّذِي دعوا لَهُ بِالْبرِّ وَالْبركَة فدعاؤهما غير مسموع وقولهما مَرْدُود مَدْفُوع ثمَّ هَذِه الحكايات الوخيمة الْفَاحِشَة غير المستقيمة فِي التَّوْرَاة لَهَا أُمُور أخر تعارضها بل وأدلة الْعقل تناقضها من ذَلِك مَا حكى فِيهَا من مدح لوط على لِسَان إِبْرَاهِيم وشهادته لَهُ بِالْبرِّ وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى لما أعلم إِبْرَاهِيم بِأَنَّهُ يُرِيد أَن يهْلك سدوم وعمورا وهما مسكن قوم لوط قَالَ يَا رب أتهلك الْأَبْرَار مَعَ الْفجار يعْنى بالأبرار لوطا وبنتيه فسماهم أبرارا وَشهد لَهُ بذلك بَين يَدي الله تَعَالَى وَكَيف يَصح أَن يكون ابنتا لوط من الْأَبْرَار ويوقعان أَنفسهمَا فِي أَن يزنى بهَا أَبوهُمَا نَبِي الله ثمَّ لم يعصمه الله تَعَالَى من مثل هَذِه الرذيلة ثمَّ إِن الله شهد عَنهُ هَذِه الفضيحة الَّتِي يتحدث بهَا على مد الدَّهْر مَعَ أَنه لم يسمع قطّ من المتشرعين من أجَاز نِكَاح الْبَنَات وَهل هَذَا من ناقله وناسبه إِلَى الله إِلَّا جرْأَة وتواقح على الله وَكَذَلِكَ مَا كتبوه فِيهَا من الحكايات الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي ذُرِّيَّة إِسْحَق يُعَارضهُ مَا حكوا فِيهَا عَن الله أَنه قَالَ لإِبْرَاهِيم فِي غير مَوضِع مَا مِنْهَا لأباركك بركَة تَامَّة ولأكثر نسلك ويتبارك بنسلك جَمِيع الشعوب لِأَنَّك أطعتني

وَكَذَلِكَ قَالَ الله لاسحق بعد موت إِبْرَاهِيم أَنا مَعَك أكون وأباركك لِأَنِّي أُعْطِيك ونسلك جَمِيع هَذِه المتملكات ويتبارك بنسلك جَمِيع الشعوب وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَق ليعقوب حَيْثُ مكر بِهِ يَعْقُوب بزعمهم قَاتلهم الله قَالَ بِهِ يؤتيك الله من ظلّ السَّمَاء وخصب الأَرْض تعبدك الْأُمَم وتسجد لَك الشعوب كن رَئِيسا لاخوتك تسْجد لَك بَنو أمك مباركوك مباركوك وَلَا عنوك ملعونون تَأمل بعقلك هَذِه المخازي الْبَادِيَة وَمَا نسبوا فِي كتبهمْ إِلَى أكْرم الْخلق من المناكر الفاشية فَإِذا أَنْت أمعنت النّظر وأشتدت مِنْك العبر علمت أَن هَذِه الحكايات بواطل وَأَن مُلْحَقهَا فِي التَّوْرَاة وناسبها إِلَى الله متزندق جَاهِل وَإِنَّمَا ألحقها عَدو للأديان أَرَادَ أَن يَقُول فِي صفوة الله الْبُهْتَان فَحصل لَهُ مُرَاده حَيْثُ أفسد على المتشرعين الْإِيمَان ثمَّ نقُول لِلنَّصَارَى بعد ذَلِك الْعجب مِنْكُم وَمن جهلكم حَيْثُ صَدقْتُمْ بِوُقُوع هَذِه الْفَوَاحِش من الْأَنْبِيَاء واعترفتم مَعَ ذَلِك بنبوتهم ثمَّ لم تجوزوا على الحواريين وُقُوع الْغَلَط مِنْهُم فِيمَا حكوا لكم إِن صحت الحكايات عَنْهُم من إتحاد الْعلم باللحمة فَإِن الْعقل يدل بضرورته على أَن ظَاهر ذَلِك فَاسد محَال فَهَلا عَلَيْكُم تأولتم ذَلِك أَو قُلْتُمْ أَنه يجوز عَلَيْهِم الْغَلَط وَلَا يدل ذَلِك على نقضهم كَمَا قُلْتُمْ فِي الْأَنْبِيَاء الَّذين حكيت عَنْهُم تِلْكَ الْفَوَاحِش وَلَو فَعلْتُمْ ذَلِك لَكَانَ الأولى عِنْد الْعُقَلَاء

فصل في بيان أن الإنجيل ليس بمتواتر وبيان بعض ما وقع فيه من الخلل

فصل فِي بَيَان أَن الْإِنْجِيل لَيْسَ بمتواتر وَبَيَان بعض مَا وَقع فِيهِ من الْخلَل فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِن هَذَا الْكتاب الَّذِي بيد النَّصَارَى الْيَوْم الَّذِي يسمونه بالإنجيل لَيْسَ هُوَ الْإِنْجِيل الَّذِي قَالَ الله فِيهِ على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَأنزل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل من قبل هدى للنَّاس} وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا فِي الْإِنْجِيل دون التَّوْرَاة لِأَن التَّوْرَاة قد ثَبت عندنَا وَعِنْدهم أَن الله تَعَالَى كتبهَا فِي الألواح لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وتدعى الْيَهُود أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام نسخ لَهُم التَّوْرَاة من تِلْكَ الألواح فَحصل من هَذَا أَن التوارة بلغت بجملتها عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ أَنه حدث فِيهَا من التَّغْيِير بعده مَا قدمنَا ذكره وَأما هَذَا الْكتاب الَّذِي يدعى النَّصَارَى أَنه الْإِنْجِيل فقد توَافق هَؤُلَاءِ النَّصَارَى على أَنه إِنَّمَا تلقى عَن إثنين من الحواريين وهما متاؤوش ويوحنا وَعَن اثْنَيْنِ من تلاميذ الحواريين وهما ماركش ولوقا وَأَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لم يشافههم بِكِتَاب مَكْتُوب عَن الله كَمَا فعل مُوسَى وَلَكِن لما رفع الله عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَيْهِ تفرق الحواريون فِي الْبِلَاد والأقاليم كَمَا أَمرهم عِيسَى فَكَانَ مِنْهُم من كتب بعض سيرة عِيسَى وَبَعض معجزاته وَبَعض أَحْوَاله حسب مَا تذكر وَمَا يسر الله عَلَيْهِ فِيهِ فَرُبمَا توارد الْأَرْبَعَة على شَيْء وَاحِد فَحَدثُوا بِهِ وَرُبمَا انْفَرد بَعضهم بِزِيَادَة معنى وَكَذَلِكَ كثيرا مَا يُوجد بَينهم من اخْتِلَاف مساق وتناقض بَين قَوْلَيْنِ وَزِيَادَة ونقصان وسترى بعض ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى فعلى هَذَا لايسمى الْإِنْجِيل كتاب الله الْمنزل حَقِيقَة فَإِن حَقِيقَة الْكتاب الْمنزل بِحكم الْعرف إِنَّمَا هُوَ عبارَة عَن جملَة من كَلَام الله المبلغة على لِسَان رَسُول من رسله يحكيها ذَلِك الرَّسُول عَن الله تَعَالَى

وَلَيْسَ شَيْء من هَذَا مَوْجُودا فِي الْإِنْجِيل فِي فَإِن سَمَّاهُ مسم كتابا منزلا وَلم يرد هَذَا الْمَعْنى فَلَا بُد من أَن نَسْأَلهُ عَن الْمَعْنى الَّذِي يُريدهُ بذلك الْإِطْلَاق فَلَا شكّ أَنه يَقُول إِنَّمَا سميته كتابا منزلا لِأَن عِيسَى جَاءَ من عِنْد الله وبلغنا شرع الله وَفِي ذَلِك الْكتاب وصف سيرته وحكايات وأخبار عَن الله فَكيف لَا يُقَال عَلَيْهِ هُوَ كتاب الله ومنزل من الله فَنَقُول لَهُ نُسَمِّيه هَذَا كتاب الله بالمجاز أَو بِالْحَقِيقَةِ فَإِن قَالَ بِالْحَقِيقَةِ فَكَلَامه بَاطِل فَإِن حَقِيقَة كتاب الله الْمنزل هُوَ مَا قدمْنَاهُ وَإِن قَالَ بالمجاز قنعنا بِهَذَا ثمَّ ألزمناه عَلَيْهِ أَن يكون كل كتاب يحْكى عَن نَبِي من أَنْبيَاء الله فَإِن أَلفه أَي مؤلف كَانَ كتاب الله وَلَا فرق وَإِذا انتهينا إِلَى هَذَا فقد حصل غرضنا وَهُوَ أَن هَذَا الْإِنْجِيل الَّذِي بِأَيْدِيهِم لَيْسَ منزلا وَلَا يُقَال عَلَيْهِ كتاب الله الْمنزل كَمَا يُقَال على التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن وَذَلِكَ مَا كُنَّا نبغي فقد حصل من هَذَا الْكَلَام أَنه لَيْسَ منزلا من الله حَقِيقَة وَأَن نَقله لَيْسَ متواترا فَإِنَّهُ رَاجع إِلَى الْأَرْبَعَة الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ وَالْعَادَة تجوز عَلَيْهِم الْغَلَط والسهو وَالْكذب فَإِن قَالُوا هم معصومون فِيمَا نقلوه عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام قُلْنَا مَا دَلِيل عصمتهم فَإِن قَالُوا دَلِيل عصمتهم أَنهم كَانُوا أَنْبيَاء وَدَلِيل نبوتهم مَا ظهر على أَيْديهم من خوارق الْعَادَات وَشَهَادَة عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَهُم حَيْثُ قَالَ لَهُم كل مَا سألتموه إِذا حسن إيمَانكُمْ ستجابون وَقَالَ لَهُم ستوقفون على الْمُلُوك ويسألونكم فَلَا تَفَكَّرُوا فِيمَا تَقولُونَ فَإِنَّكُم ستهدون ذَلِك الْوَقْت لما تقولونه ولستم تنطقون أَنْتُم لَكِن روح الْقُدس ينْطق على أَلْسِنَتكُم وَقد جَاءَ عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه دَعَا الإثني عشر حواريا وَأَعْطَاهُمْ من الْقُدْرَة وَالسُّلْطَان مَا يَتَّقُونَ بِهِ جَمِيع الْجِنّ ويبرءون بِهِ الأسقام وَكَذَلِكَ قَالَ لبطرس مَا عقدته أَنْت فِي الأَرْض فمعقود فِي السَّمَاء وَمَا حللته فِي الأَرْض

فمحلول فِي السَّمَاء وَأما خوارق الْعَادَات فقد كَانُوا يحيون الْمَوْتَى ويبرءون المرضى كَمَا كَانَ يَفْعَله عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَذَلِكَ مَعْرُوف من حَالهم قُلْنَا مَا ذكرتموه عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام من الشَّهَادَة فَلَا يَصح لكم الإستدلال بِشَيْء مِمَّا ذكرتموه لوجوه أَحدهَا أَنكُمْ أسندتم ذَلِك إِلَى الْإِنْجِيل واستدللتم على صدقهم بِمَا جَاءَ عَنْهُم فِيهِ وَمَا جَاءَ عَنْهُم فِيهِ لَا يثبت حَتَّى تثبت عصمتهم فَلَا يثبت بِمَا ذكرتموه لَا الْإِنْجِيل وَلَا عصمتهم الْوَجْه الثَّانِي أَنا لَو سلمنَا ذَلِك لكم لما كَانَ فِيمَا ذكرتموه حجَّة لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْء مِنْهَا ينص على أَنهم معصومون فِيمَا أخبروا بِهِ على الْإِطْلَاق وَغَايَة مَا ذكرتموه أَن يدل على أَنهم يعانون ويؤيدون مِمَّا يبلغون عَن عِيسَى فِي بعض الْأَوْقَات أَو فِي بعض الْأَخْبَار وَالْأَحْوَال وَالْوَجْه الثَّالِث أَن مَا ذَكرُوهُ معَارض بِمَا نقلوه أَيْضا وَذَلِكَ أَنهم نقلوا فِي الْإِنْجِيل أَنه قَالَ للحواريين يَا نسل التشكيك وَالْكفْر إِلَى مَتى أكون مَعكُمْ وَإِلَى مَتى أحتملكم وَأما مَا قَالَ لبطرس فَهُوَ أَيْضا معَارض بِمَا حكيتم عَنهُ أَنه قَالَ لَهُ تَأَخّر يَا شَيْطَان فَإنَّك جَاهِل بمرضات الله وَأما مَا ادعوهُ من معجزاتهم فَلم ينْقل مِنْهَا شَيْء على التَّوَاتُر وَإِنَّمَا هِيَ أَخْبَار آحَاد غير صَحِيحَة وَلَو سلمنَا أَنَّهَا صحت لما دلّت على صدقهم فِي كل الْأَحْوَال وعَلى أَنهم أَنْبيَاء فَإِن الْقَوْم لم يدعوا النُّبُوَّة لأَنْفُسِهِمْ وَإِنَّمَا ادعوا التَّبْلِيغ عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَظهر من هَذَا الْبَحْث أَن الْإِنْجِيل الْمُدعى لم ينْقل تواترا وَلم يقم دَلِيل على عصمَة ناقليه فَإِذن يجوز الْغَلَط والسهو على ناقليه فَلَا يحصل الْعلم بِشَيْء مِنْهُ بل وَلَا غَلَبَة الظَّن فَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ وَلَا يعول فِي الإحتجاج عَلَيْهِم

وَهَذَا كَاف فِي رده وَبَيَان قبُول تحريفه وَعدم الثِّقَة بمضمنه وَلَكنَّا مَعَ ذَلِك نعمد مِنْهُ إِلَى مَوَاضِع يتَبَيَّن فِيهَا تهافت نقلته وَوُقُوع الْغَلَط فِي نَقله بحول الله تَعَالَى فَأول ذَلِك أَنهم ذكرُوا فِي أول ورقة من إنجيل يوحنا حَيْثُ ذكر الْمَسِيح فَقَالَ ولد الْمَسِيح الَّذِي هُوَ بادئ الْأَشْيَاء وعلتها الأولى عِلّة جَمِيع الْأَشْيَاء وكل زمَان وَرَأس كل نظام وأولية جَمِيع الْمَرَاتِب ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك فِي معرض مدحه المكلوم فِي لَحْمه الْمُعَلق فِي الْخَشَبَة كَيفَ يجترئ عَاقل أَن يتحدث بِمثل هَذَا الْعَار أَو كَيفَ تصح نِسْبَة هَذَا التَّنَاقُض الْبَين إِلَى أحد من الأخيار وَذكروا فِيهِ أَيْضا أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ أَنا الْبَاب فَمن دخل عَليّ يسلم ويجد مرعى أيدا ثمَّ عرض بِمن قبله من الْأَنْبِيَاء فجعلهم لصوصا وسراقا فَقَالَ آمين آمين أَقُول لكم إِنِّي بَاب الضَّأْن والقادمون عَلَيْكُم كَانُوا لصوصا وسراقا وَلَا يقبل اللص إِلَّا ليَسْرِق شَيْئا وَيقتل وَأَنا قدمت لتحيوا وتزدادوا خيرا وَفِي الْإِنْجِيل أَيْضا أَنه قَالَ إِن كنت أشهد لنَفْسي فشهادتي غير مَقْبُولَة وَلَكِن غَيْرِي يشْهد ثمَّ فِي مَوضِع آخر من الْإِنْجِيل أَنه قَالَ إِن كنت أشهد لنَفْسي فشهادتي حق لِأَنِّي أعلم من حَيْثُ جِئْت وَإِلَى أَيْن أذهب فَكيف تكون شَهَادَته حَقًا وباطلا ومقبولة وَغير مَقْبُولَة وَكَيف يجمع بَين هذَيْن فِي كتاب ينْسب إِلَى الله وَفِي الْإِنْجِيل ايضا أَنه حِين استشعر بوثوب يهوذا عَلَيْهِ قَالَ قد جزعت نَفسِي الْآن فَمَاذَا أَقُول يَا أبتاه فسلمني فِي هَذَا الْوَقْت وَأَنه حِين رفع فِي الْخَشَبَة صَاح صياحا عَظِيما وَقَالَ

آلى آلى لم عد بتاى وترجمته إلهي إلهي لم أسلمتني ثمَّ فِي أول ورقة مِنْهُ إِنَّمَا أسلم نَفسه لتظهر قدرته بسلطانه على الْمَوْت وظفرته على جَمِيع الآلام والمهن الَّتِي تستقبحها أَوْهَام الْآدَمِيّين فَكيف يَصِيح ويجزع مِمَّا تظهر بِهِ قدرته وقهرته وَهل سمع قطّ أسخف من هَذَا القَوْل أَو أظهر تناقضا مِنْهُ ثمَّ فِي مَوضِع آخر مِنْهُ أَنه قَالَ قبل ذَلِك من أحب أَن يقفوا أثري فليذهب نَفسه فحرض على إِتْلَاف النُّفُوس فَكيف يجزع مِمَّا يحرض عَلَيْهِ قبل أم كَيفَ يكون إِلَهًا أم كَيفَ يكون ابْن الله ثمَّ يَدعُوهُ أَن يخلصه فِي ذَلِك الْوَقْت فَلم يستجب لَهُ وَمن أظهر دَلِيل على وُقُوع الْغَلَط فِيهِ أَن فِي إنجيل متاؤوش الْحوَاري حِين ذكر نسب عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ نزل خطيب مَرْيَم أَبَا لعيسى فَقَالَ ابْن يُوسُف بن يَعْقُوب بن مثان بن أليعازر بن أليود ابْن أخيم وعد إِلَى إِبْرَاهِيم الْخَلِيل تِسْعَة وَثَلَاثِينَ أَبَا ثمَّ فِي إنجيل لوقا يَقُول يُوسُف بن هالى بن متثات بن لاوى بن ملكي بن ينا وعد إِلَى إِبْرَاهِيم نيفا وَخمسين أَبَا فياليت شعرى كَيفَ يجوز مثل هَذَا على الله أَو كَيفَ ينْقل هَذَا فِي كتاب مَعْلُوم عَن الله وَقد أَرَادَ بعض أساقفتهم أَن يرقع هَذَا الْخرق المتسع بِأَن قَالَ أحد النسبين طبيعي نسب التوليد وَالْآخر نسب شَرْعِي نسب الْوَلَاء وَالْكَفَالَة والتناقض بَاقٍ عَلَيْهِ بعد اختراع هَذَا الهذيان

ثمَّ انْظُر هَذِه الشناعة الَّتِي ارتكبوها حَيْثُ نسبوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى رجل زَعَمُوا أَنه خطب أمه مَرْيَم وَأي نِسْبَة تثبت بَينهمَا بِأَن أَرَادَ أَن يتَزَوَّج إِنْسَان أمه ثمَّ إِنَّهُم يبلغون نسب يُوسُف إِلَى آدم ثمَّ يَقُولُونَ إِلَى الله فَهَلا عَلَيْهِم يستغنون عَن ذكر نسب من لَا ينتسب فِي عِيسَى وَيَقُولُونَ فِي عِيسَى مَا يَقُولُونَ آدم لَوْلَا الْجَهْل والتحكم وَفِي الانجيل عَنهُ أَنه كَانَ يَوْمًا قد نَهَاهُم عَن التِّجَارَة فِي بَيت الْمُقَدّس وَأَن الْيَهُود قَالَت لَهُ حِينَئِذٍ أَي عَلامَة تظهر لنا قَالَ تهدمون هَذَا الْبَيْت وأبنيه لكم فِي ثَلَاثَة أَيَّام فَقَالَت الْيَهُود بَيت بنى فِي سِتَّة وَأَرْبَعين سنة تبنيه أَنْت فِي ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ فِي مَوضِع آخر مِنْهُ أَنه لما ظَفرت بِهِ الْيَهُود بظنكم وَحمل إِلَى بلاط قَيْصر واستوعيت عَلَيْهِ بَيِّنَة أَن شَاهِدي زور جَاءَا إِلَيْهِ وَقَالا سمعنَا هَذَا يَقُول أَنا قَادر على بُنيان الْبَيْت فِي ثَلَاثَة وَهَذِه شَهَادَة مُوَافقَة لما قَالَ عِيسَى للْيَهُود فَهَذَا الشَّاهِد قَالَ عَلَيْهِ الْحق لما يَقْتَضِيهِ كَلَامه وَمن شهد بِمَا سمع كَيفَ يُقَال عَلَيْهِ شَاهد الزُّور أَو كَيفَ يُسَمِّيه الله شَاهد زور وَمن أعجب الْأَشْيَاء أَن الْيَهُود لَا تعرف شَيْئا من هَذَا وَلَا سَمِعت أَن أسلافها جرى بَينهم وَبَين عِيسَى هَذَا الْمجْلس وَلَا سوى ذَلِك مِمَّا تصفون من خرافات كتبكم وَفِي الْإِنْجِيل أَيْضا للوقا أَن عِيسَى قَالَ لِرجلَيْنِ من تلاميذه اذْهَبَا إِلَى الْحصن الَّذِي يقابلكما فَإِذا دخلتماه فستجدان فلوا مربوطا لم يركبه أحد فحلاه واقبلا بِهِ إِلَى وَفِي الْإِنْجِيل لمتاؤوش يصف هَذَا الْخَبَر بِعَيْنِه وَيذكر أَنَّهَا كَانَت حمارة فحسبك بِهَذَا خللا وتناقضا

وَفِي الْإِنْجِيل أَيْضا للوقا يخبر عَن الْمَرْأَة الَّتِي صبَّتْ الطّيب على رجْلي الْمَسِيح وشق ذَلِك على التلاميذ وَقَالُوا لَهَا هلا تَصَدَّقت بِهِ وَفِي الْإِنْجِيل لمتاؤوش أَنَّهَا إِنَّمَا صبَّتْ الطّيب على رَأس الْمَسِيح فَمَا أبعد الْيَقِين عَن خبر فِيهِ مثل هَذَا الإختلاف الْمُبين وَفِي الْإِنْجِيل أَيْضا أَن أم ابْني زبدى جَاءَت إِلَى عِيسَى وَمَعَهَا إبناها فَقَالَ مَا تريدين فَقَالَ أُرِيد أَن تجْلِس ولداي أَحدهمَا عَن يَمِينك وَالْآخر عَن شمالك إِذا جَلَست فِي ملكك فَقَالَ تجهلين السُّؤَال أيصبران على الكأس الَّتِي أشْرب بهَا فَقَالَا نصبر فَقَالَ ستشربان بكأسي وَلَيْسَ إِلَى تجليسكما عَن يَمِيني وَلَا عَن شمَالي إِلَّا لمن وهب ذَلِك فقد أخبر هُنَا أَنه لَا يقدر على تجليسهما عَن يَمِينه وَلَا عَن شِمَاله وَفِي أول ورقة مِنْهُ أَنه بادئ الْأَشْيَاء وعلتها وَعلة كل زمَان فَكيف يَصح أَن يكون بادئ الْأَشْيَاء كلهَا وعلتها وَلَا يقدر أَن يجلسهما عَن يَمِينه وَلَا عَن يسَاره ثمَّ يتبرأ عَن ذَلِك بقوله إِلَّا لمن وهب ذَلِك لي وَلَا مزِيد فِي التَّنَاقُض الْفساد على هَذَا وَفِي الْإِنْجِيل أَيْضا أَنه قَالَ لَا تحسبوا أَنِّي قدمت لأصلح بَين أهل الأَرْض لم آتٍ لصلاحهم لَكِن لألقى الْمُحَاربَة بَينهم إِنَّمَا قدمت لأفرق بَين الْمَرْء وإبنه وَالْمَرْأَة وإبنتها حَتَّى يصيروا أَعدَاء الْمَرْء أهل بَيته وَفِيه أَيْضا عَنهُ إِنَّمَا قدمت لتحيوا وتزدادوا خيرا وَأصْلح بَين النَّاس وَأَنه قَالَ من لطم خدك الْيُمْنَى فانصب الْيُسْرَى وَلَا مزِيد فِي التَّنَاقُض وَالْفساد على هَذَا

وَفِي الْإِنْجِيل أَيْضا أَنه قَالَ لم آتٍ لأنقض شَرِيعَة من قبلي إِنَّمَا جِئْت لأتمم وكلاما من مَعْنَاهُ ثمَّ فِيهِ بعد أحرف قَليلَة كَلَام آخر ينْقض فِيهِ شَرِيعَة من قبله وَذَلِكَ أَنه قَالَ إِنَّمَا علمْتُم أَنه قيل للقدماء لَا تقتلُوا وَمن قتل فقد اسْتوْجبَ النفى من الْجَمَاعَة ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك أما علمْتُم أَنه قيل للقدماء من فَارق إمرأته فليكتب لَهَا كتاب طَلَاق وَأَنا أَقُول لكم من فَارق إمرأته مِنْكُم فقد جعل لَهَا سَبِيلا إِلَى الزِّنَى وَمن زوج مُطلقَة فَهُوَ فَاسق ثمَّ قَالَ أما بَلغَكُمْ أَنه قيل للقدماء الْعين بِالْعينِ وَالسّن بِالسِّنِّ وَأَنا أَقُول لكم لَا تكافئوا أحدا بسيئة وَلَكِن من لطم خدك الْيُمْنَى فانصب لَهُ الْيُسْرَى وَمن أَرَادَ مغالبتك وإنتزاعك قَمِيصك فزده أَيْضا رداءك كَيفَ يَصح أَن يَقُول لم آتٍ لأنقض شَرِيعَة من قبلي ثمَّ ينقضها حكما حكما ثمَّ قَوْله جِئْت متمما لَا يَصح أَيْضا فَإِن شَرِيعَة مُوسَى كَانَت تَامَّة كَامِلَة والتام لَا يتمم والكامل لَا يكمل فَهَذَا تنَاقض وَفَسَاد وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام منزه مبرأ عَن كل تنَاقض وَفَسَاد وَلَيْسَ هَذَا وَلَا شَيْء مِنْهُ من قبله بل هُوَ منزه عَن ذَلِك كُله وَفِي الْإِنْجِيل أَيْضا لمتاؤوش أَن الْمَسِيح قَالَ لبطرس طُوبَى لَك يَا شَمْعُون بن الْحَمَامَة وَأَنا أَقُول أَنَّك الْحجر وعَلى هَذَا الْحجر أبتنى بَيْتِي فَكل مَا حللته على الأَرْض يكون محلولا فِي السَّمَاء وَمَا عقدته على الأَرْض يكون معقودا فِي السَّمَاء ثمَّ بعد أحرف يسيرَة قَالَ بِعَيْنِه اذْهَبْ يَا شَيْطَان وَلَا تعَارض فَإنَّك جَاهِل بكوني فَكيف يكون شَيْطَان جَاهِل يطيعه صَاحب السَّمَاء وَهَذَا غَايَة التَّنَاقُض وَفِي الْإِنْجِيل أَيْضا لمتاؤوش أَن عِيسَى قَالَ لم تَلد النِّسَاء

مثل يحيى ثمَّ فِي إنجيل يوحنا أَن يحيى بعثت إِلَيْهِ الْيَهُود من يكْشف لَهُم أمره فَسَأَلُوهُ من هُوَ أهوَ الْمَسِيح قَالَ لَا قَالُوا أتراك الياس قَالَ لَا قَالُوا أَنْت نَبِي قَالَ لَا قَالُوا أخبرنَا من أَنْت قَالَ أَنا صَوت مُنَاد فِي المفاز فنفى عَن نَفسه كَونه نَبيا وَلَا يجوز لنَبِيّ أَن يُنكر نبوته فَإِنَّهُ يكون كَاذِبًا وَالنَّبِيّ الصَّادِق لَا يكذب فيلزمهم أحد أَمريْن إِمَّا أَن يكون يحيى لَيْسَ بِنَبِي وَهُوَ بَاطِل أَو يكن إنجيلهم محرفا وَهُوَ حق وَلَو تتبع مَا فِيهِ من هَذَا الْقَبِيل لاحتاج ذَلِك إِلَى التكثير والتطويل وبموضع وَاحِد من هَذِه الْمَوَاضِع يحصل أَن كِتَابهمْ قَابل للتحريف والتغيير فَكيف بالتزيد والتكثير فقد حصل من هَذَا الْبَحْث الصَّحِيح أَن التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل لَا تحصل الثِّقَة بهما فَلَا يَصح الإستدلال بهما لِكَوْنِهِمَا غير متواترين وقابلين للتغيير وَقد دللنا على بعض مَا وَقع فيهمَا من ذَلِك وَإِذا جَازَ مثل ذَلِك فِي هذَيْن الْكِتَابَيْنِ مَعَ كَونهمَا أشهر مَا عِنْدهم وَأعظم عمدهم ومستند ديانتهم فَمَا ظَنك بِغَيْر ذَيْنك من سَائِر كتبهمْ الَّتِي يستدلون بهَا مِمَّا لَيْسَ مَشْهُورا مثلهمَا وَلَا مَنْسُوبا إِلَى الله نسبتهما

فعلى هَذَا هما أولى بِعَدَمِ التَّوَاتُر وبقبول التحريف فيهمَا فَإِذا ادعوا تَوَاتر شَيْء من ذَلِك فَلْينْظر هَل كملت فِيهِ شُرُوط التَّوَاتُر أم لَا فَإِن كملت قبلنَا وآمنا وَإِن لم تكمل توقفنا وطالبناهم بِالطَّرِيقِ الْموصل إِلَى الْعلم فَإِذا ثبتَتْ هَذِه الْمُقدمَة قُلْنَا بعْدهَا للمستدل على إِثْبَات نبوة عِيسَى بالأدلة الْمُتَقَدّمَة لَا تظن أننا نرد نبوة عِيسَى أَو أَنا نشك فِيهَا حاشى لله بل نَحن أَحَق وَأولى بِعِيسَى ابْن مَرْيَم مِنْكُم فَإِنَّكُم قُلْتُمْ فِيهِ مَا لَا يَنْبَغِي لَهُ ونسبتموه إِلَى مَا يتبرأ هُوَ مِنْهُ بل أَنْتُم لعمرى وَالله أبعد مِنْهُ وَأبْغض إِلَيْهِ مِمَّن أنكر نبوته وَكفر بِهِ فَإِن من أنكر نبوته وَكفر بِهِ لم يُشْرك بِاللَّه كَمَا فَعلْتُمْ أَنْتُم حَيْثُ جعلتموه إِلَهًا آخر وَلم يعرض بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام للموقف المخجل الَّذِي يسْأَله الله فِيهِ عَن غلوكم فِيهِ وعبادتكم لَهُ حَيْثُ يَقُول الله لَهُ {يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم أَأَنْت قلت للنَّاس اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله} فَيَقُول خجلا فَزعًا متبرأ من قَبِيح مَا نسبتموه إِلَيْهِ {سُبْحَانَكَ مَا يكون لي أَن أَقُول مَا لَيْسَ لي بِحَق إِن كنت قلته فقد عَلمته} وَأما نَحن فَإِنَّمَا نقُول فِيهِ مَا قَالَه الله على لِسَان رَسُوله الْمُصْطَفى {مَا الْمَسِيح ابْن مَرْيَم إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل وَأمه صديقَة كَانَا يأكلان الطَّعَام} وَمَا قَالَه الله أَيْضا فِيهِ على لِسَان أشعياء حَيْثُ بشر بِهِ وَأخْبر بقدومه هَذَا غلامي الْمُصْطَفى وحبيبي الَّذِي ارتضت بِهِ نَفسِي وَمَا قَالَه هُوَ عَن نَفسه حِين تكلم فِي مهده {قَالَ إِنِّي عبد الله آتَانِي الْكتاب وَجَعَلَنِي نَبيا} فَنحْن نعرفه حق مَعْرفَته ونؤمن بنبوته وشريعته ونحيل عَلَيْهِ الإلهية إِذْ لَيست من صفته {مَا كَانَ لبشر أَن يؤتيه الله الْكتاب وَالْحكم والنبوة ثمَّ يَقُول للنَّاس كونُوا عبادا لي من دون الله وَلَكِن كونُوا ربانيين بِمَا كُنْتُم تعلمُونَ الْكتاب وَبِمَا كُنْتُم}

ثمَّ إِنَّا نَعْرِف مَا ذَكرْنَاهُ من وَصفه بأدلة كَثِيرَة قَاطِعَة وبراهين صَادِقَة تخضع لَهَا رِقَاب الجاحدين وتستضئ بنورها بصائر المبصرين وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَمَا استدللت بِهِ أَنْت على نبوة عِيسَى من كَلَام النَّبِيين إِن صَحَّ فَهُوَ زِيَادَة فِي أَنْوَاع الْأَدِلَّة لَا فِي نفس الْيَقِين فَلذَلِك لَا نباحثك فِيهَا وَلَا نبالي بك أتجهلها أم تدريها على أَنا لَو ناقشناك فِي تِلْكَ الْأَدِلَّة لأظهرنا لَك فِيهَا الْفساد وَالْعلَّة وَلَكِن مَا لَا يُخَالف غرضنا لَا يَقْتَضِيهِ فِيمَا بالنا نطول أنفاسنا فِيهِ

الفصل السابع

الْفَصْل السَّابِع هَاجر أم إِسْمَاعِيل الذَّبِيح من حِكَايَة كَلَامه أَيْضا قَالَ وَأَنت أَنَّهَا الْإِنْسَان تَجدوا فِي كتابكُمْ فِي آل عمرَان {وَأنزل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل من قبل هدى للنَّاس} فَأَنت مقرّ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيل فاثبتوا دينكُمْ من التَّوْرَاة كَمَا أثبتنا نَحن ديننَا من كتب الْأَنْبِيَاء وَاعْلَم أَنه لَا نقبل لكم من كتبكم شَيْئا فَإِن قلت من كتابك شَيْئا قلت لَك كَمَا قَالَ رَسُولك الْبَيِّنَة لمن ادّعى وَالْيَمِين على من أنكر فَوَجَبَ عَلَيْك أَن تثبت دينك من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل الَّتِي أَنْت مقرّ بهم وَأَنت مدعى أَن كتابكُمْ من الله فاثبتوه من التَّوْرَاة بالعبراني وَمن الْإِنْجِيل بالعجمي كَمَا أَنْتُم مقرون وقولكم {وَمَا مُحَمَّد إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل} فَإِنِّي أطلبك من الْكتب الَّتِي جَاءَت بِهِ الرُّسُل كَمَا قُلْتُمْ فَائت بِمَا ادعيت وَإِلَّا يَمِيني لِأَنِّي أنكر لَك وَلَا نقبل لَك من النبوات وَالرِّوَايَات المرويات عَن مُسلم فِي كِتَابه الَّذِي قَالَ حَدثنَا سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن قَتَادَة عَن عَائِشَة قَالَت جَاءَت امْرَأَة رِفَاعَة إِلَى الرَّسُول فَقَالَت لَهُ كنت لِرفَاعَة فطلقني فَتزوّجت عبد الرحمن بن الزبير فَتَبَسَّمَ الرَّسُول ضَاحِكا وَقَالَ أَتُرِيدِينَ أَن تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَة لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَته وَيَذُوق عبد الرحمن بن الزبير عُسَيْلَتك وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَن عَائِشَة قَالَت طلق رجل إمرأة ثَلَاثَة فَتَزَوجهَا رجل ثمَّ طَلقهَا قبل أَن يدْخل بهَا وَأَرَادَ زَوجهَا الأول أَن يَتَزَوَّجهَا فَسئلَ الرَّسُول عَن ذَلِك قَالَ لَا حَتَّى يَذُوق الآخر من عسيلتها مَا ذاق الأول

فَافْهَم فَمثل هَذِه النبوات لَا نقبلها مِنْكُم لِأَن الْمَسِيح يَقُول لَا يَنْبَغِي لرجل طَلَاق زَوجته إِلَّا أَن تزنى وَإِن زنت فَلَا يحل لَهُ مراجعتها وَمن طلق إمرأته فقد جعل لَهَا سَبِيلا إِلَى الزِّنَى أعنى من طَلقهَا دون سَبَب وَمن زوج مُطلقَة فَهُوَ فَاسق بهَا وَأَنْتُم تَقولُوا لَا يحل لزَوجهَا مراجعتها إِلَّا أَن تزنى بدل أَن تنهو عَن الزِّنَى تأمروا بالزنى وَهُوَ عنْدكُمْ فَرِيضَة التياس وَأَنا أُرِيد قطع ذَنْب التيس وَأَن نجعله فِي ذقنه ليلوح لسته لمعرة صَرْصَر الشمَال وحمارة قيظ هجير الْجنُوب وَهَذَا جَوَاب كلامك إنتصافا مِنْك كَمَا يَقُول قرآنك وَمن انتصف من بعد ظلمه فَلَا جنَاح عَلَيْهِ فأفهم ثمَّ قلت فِي شعرك أَرَادَ النَّصَارَى ينْصرُونَ محالهم فانصر أَنْت محالك لِأَنَّك قلت بالسفه والطعن فِي ديننَا وَقلت الْكَذِب على مسيحنا كَيفَ قلت مَا لم تعلم وَكَيف تجرأت أَن تَتَكَلَّم وَاعْلَم أَنَّك إِن أرْسلت بعد هَذَا بالشتم فَإِنِّي أبْعث إِلَى كل بلد كتابا بِنَصّ شريعتكم وَبِكُل مَا نَعْرِف فِيهَا من الْأَقَاوِيل الَّتِي لاتقدرون على إنكارها فَافْهَم لِأَنَّك قلت فِي الْمَسِيح غث وأوطار وَأَنَّك سبيت الْحَاكِم عَلَيْك وعَلى جَمِيع الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة لَكِن سَوف تَلقاهُ حَاكما لَيْسَ يطْلب عَلَيْك بَيِّنَة فَإِن أرْسلت بعد هَذَا بالشتم فَإِنِّي أعرفك بشجرتك مَا هِيَ حَتَّى تعلم من أَنْت وَأعلم أَنِّي لم أُرِيد فِي الأول شتم أحد لَكِن لما بعث إِلَى أول كتاب بالسفه والسب رددت لَهُ الْجَواب بِأُمِّهِ هَاجر وَلم نقل فِيهَا عشر مَا قَالَ الله فِيهَا فِي التَّوْرَاة وَعَن إبنها فاسمع قَول الله عَنْهَا وَعَن ابْنهَا

الجواب عما ذكر

رَأَتْ سارة ابْن هَاجر المصرية الَّذِي ولدت لإِبْرَاهِيم وَهُوَ يلْعَب فَقَالَت لإِبْرَاهِيم ارمي هَذِه الْأمة وَابْنهَا إِذْ لَيْسَ يَرث هَذِه الْأمة وَابْنهَا مَعَ ابْني إِسْحَق فصعب على إِبْرَاهِيم مَا قَالَت لَهُ عَن ابْنه فَقَالَ الله لإِبْرَاهِيم لَا يصعب عَلَيْك بِكَلَام سارة عَن الصَّبِي وَعَن أمتك وَجَمِيع مَا تَقول لَك سارة اسْمَع من قَوْلهَا فَقَالَ إِبْرَاهِيم هَذَا كَلَام الله إِلَى قَائِلا لَا يرثك هَذَا إِن الَّذِي يخرج من صلبك هُوَ يرثك ثمَّ قَالَ الله لإِبْرَاهِيم باسحق يتسمى نسلك فَافْهَم ترشد وَاعْلَم كَيفَ قطع الله ورث إِسْمَاعِيل وَأمه فِي قَوْله لَا يرثك هَذَا ثمَّ قَالَ عَن إِسْحَق الَّذِي يخرج من صلبك وَكَيف قَالَ الله لإِبْرَاهِيم باسحق يتسمى نسلك وَلم يقل بِإِسْمَاعِيل يتسمى نسلك فَأخذ إِبْرَاهِيم خبْزًا وجرة مَاء وَجعل على أكتاف الْأمة وَجعل إِسْمَاعِيل على عُنُقهَا بِاللَّيْلِ وأخرجها بِوَلَدِهَا عَن الْعمرَان فتناسلت مِنْهُ الْأمة الَّذِي قَالَ فِيهَا قرآنكم {أَشد كفرا ونفاقا} فَافْهَم وَالسَّلَام على من اتبع الْهدى وآمن بشريعة الْمَسِيح حَقِيقَة الْإِيمَان وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته كمل كَلَامه الْجَواب عَمَّا ذكر اعْلَم يَا هَذَا المخدوع المصروف عَن المعارف الْمَمْنُوع الشَّاهِد عَلَيْهِ جَهله بِأَنَّهُ لَيْسَ بتابع وَلَا متبوع أَنا نؤمن بِاللَّه وَكتبه وَلَا نفرق بَين أحد من رسله فنؤمن بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيل اللَّذين أنزلهما على رسوليه الْملك الْجَلِيل وَلَكِن قبل أَن يعتريهما التَّغْيِير والتبديل وَقد نبهنا على أَن الْكتاب الَّذِي بِأَيْدِيكُمْ الْمُسَمّى بالإنجيل عنْدكُمْ لَا يُقَال عَلَيْهِ منزل بِالْحَقِيقَةِ كَمَا تقدم من تِلْكَ الطَّرِيقَة ثمَّ إِنَّا نسلم جدلا صِحَة مَا تَدعُونَهُ من تِلْكَ النُّبُوَّة ونبين صِحَة نبوة نَبينَا مِنْهَا عَن كثب

فَأَما قَوْلك وَاعْلَم أَنا لَا نقبل من كتبكم شَيْئا فَلَيْسَ ذَلِك بِأول عنادكم فكم لكم مِنْهَا وَكم شنشنة أعرفهَا فِي أخزم لكنكم لَسْتُم عِنْد الْعُقَلَاء أَهلا لقبُول حق وَلَا لرد بَاطِل فَلَيْسَ ردكم بِأولى من قبولكم وَهَكَذَا فعل الرعاع الغثر الغثاء الغبر يقبلُونَ بِغَيْر دَلِيل ويردون بِغَيْر حجَّة وَلَا سَبِيل وَإِلَّا فَمَا الدَّلِيل الَّذِي أوجب عنْدكُمْ إِلَّا تقبلُوا نبوة نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ وضوح معجزاته وعدالة بيناته على مَا نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَظهر من هَذَا أَن ردكم لديننا لَيْسَ بِدَلِيل وَإِنَّمَا هُوَ لأجل إتباع قَول كل جهول دخيل يحكم على عقله هَوَاهُ ويطيح مَعَه حَيْثُمَا رَمَاه وَلأَجل ذَلِك صَار دينكُمْ ضحكة الْعُقَلَاء مُشْتَمِلًا على كل مقَالَة شنعاء وَمن كَانَ هَذَا مَنْهَج سَبيله فَرده لغير معنى بِمَثَابَة قبُوله وَلَقَد كَانَ يَنْبَغِي لَك لَو كنت على سنَن النظار أهل الْبَحْث عَن الْحق والإعتبار أَن تحكى ديننَا وتستدل بزعمك على فَسَاده كَمَا قد فعلنَا نَحن بدينكم إِذْ بَينا تناقضه وَعدم سداده على أَنه قد تبين الصُّبْح لذِي عينين ووضحت الشَّمْس لسليم الحاستين ... مَا ضرّ شمس الضُّحَى فِي الجو مشرقة ... أَلا يرى ضوءها من لَيْسَ ذَا بصر ... ثمَّ قلت متواقحا فِي قَوْلك مستهزئا برَسُول رَبك فَإِن قلت من كتابك شَيْئا قلت لَك كَمَا قَالَ رَسُولك الْبَيِّنَة على من ادّعى وَالْيَمِين على من أنكر أما قَوْلك رَسُولك فَنعم هُوَ رَسُول إِلَيْنَا وَإِلَيْك فَآمَنا وكفرت وصدقنا وكذبت {وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا أَي مُنْقَلب يَنْقَلِبُون} فَنحْن نقُول رَضِينَا بِاللَّه رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُول الله رَسُولا وَبِالْإِسْلَامِ دينا وَأما أَنْت فَإِن مت مصرا على تكذيبك فليدخلنك الله النَّار وليدخلنك فِي دَار الْبَوَار فَلَا تنْتَفع بشفاعة ملك مقرب وَلَا بِنَبِي مُخْتَار وَأما طَلَبك الْبَيِّنَة على صدقه فكفاك شَهَادَة

الْأَنْبِيَاء العارفين بِحقِّهِ الْمخبر عَنهُ بِلُزُوم تَصْدِيقه وَصدقه وسنبين ذَلِك بأبلغ بَيَان وأوضحه بأوضح برهَان وعَلى سَبِيل الإستعجال يَكْفِيك بَيِّنَة عدله مَا وَقع فِي صحف النَّبِي دانيال حَيْثُ وصف الْكَذَّابين وَقَالَ لَا تمتد دعوتهم وَلَا يتم قُرْبَانهمْ وَأقسم الرب بساعده أَن لَا يظْهر الْبَاطِل وَلَا تقوم لمدع كَاذِب دَعْوَة أَكثر من ثَلَاثِينَ سنة وَهَذَا دين مُحَمَّد رَسُولنَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِم مُنْذُ سِتّمائَة سنة ونيف فَكيف ترى هَذِه الْبَيِّنَة المصححة أمعدلة عنْدك أم مجرحة وَكَذَلِكَ فِي صحف النَّبِي حبقوق وَهُوَ الشَّاهِد الْمُعظم الموثوق قَالَ جَاءَ الله من التَّيَمُّن وتقدس من جبال فاران وامتلأت الأَرْض من تحميد أَحْمد وتقديسه وَملك الأَرْض بهيبته وَقَالَ أَيْضا تضئ لَهُ الأَرْض وستنزع فِي قسيك إغراقا وترتوي السِّهَام بِأَمْرك يَا مُحَمَّد فَهَذَا النَّبِي الصَّادِق الْمُصدق قد أفْصح بنعته وَصرح بإسم بَلَده وَشهد بصدقه وَمن كَانَ الْأَنْبِيَاء شُهُوده فقد اسْتحق مكذبه عَذَاب النَّار وخلوده فلعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ على من تبين لَهُ الْحق ثمَّ صَار عَنهُ من المعرضين وسنعقد فِي النبوات فصلا مُفردا ونأتي فِيهِ بالعجائب حَتَّى يتَبَيَّن فِيهِ تواقح كل طَاعن عائب وَأما قَوْلك وَأَنت تدعى أَن كتابكُمْ من الله فَإِن كنت تنكر ذَلِك فَادع عصابتك البلغاء من نَصَارَى نَجْرَان الْمُتَكَلِّمين بلغَة الْقُرْآن ليعارض بِسُورَة من مثله فَإِن فعلوا ذَلِك دحضت حجَّته وَانْقطع عَظِيم قَوْله لكِنهمْ لما سمعُوا مِنْهُ الْقُرْآن تحققوا على الْقطع أَنه لَيْسَ يقدر عَلَيْهِ أحد من الْإِنْس والجان وَعَلمُوا أَنه كَلَام الْملك الديَّان فآمنوا وَصَدقُوا لما عرفُوا وحققوا فحصلوا على فضل الملتين وآتاهم الله أجرهم مرَّتَيْنِ

وَأما قَوْلك فأثبتوه من التَّوْرَاة بالعبراني وَمن الْإِنْجِيل بالعجمي فلتعلم أَنا لَوْلَا كره منا أَن نتكلم برضانة الْعَجم لَكَانَ ذَلِك علينا أيسر شَيْء يلْتَزم وَلَكنَّا إِن شَاءَ الله تَعَالَى نذْكر كَلَام الْأَنْبِيَاء من كتبكم كَمَا قد ترجمها المترجمون من أهل ملتكم مثل يرونم وَحَفْص ابْن الْبر وَغَيرهمَا من المترجمين الَّذين تثقون بقَوْلهمْ وتعولون على نقلهم وَلست أفعل مثل مَا أَنْت فعلت وَلَا أصنع شَيْئا مِمَّا صنعت حَيْثُ نقلت كَلَام الْأَنْبِيَاء بالعبراني والعجمي ثمَّ إِنَّك شرعت فِي تَرْجَمته وَفِي تَفْسِيره من غير أَن تنْسب التَّفْسِير إِلَى أحد المترجمين الْعَالمين بالمعاني وباللغات ومواقع الْأَلْفَاظ وَأما أَنْت فلست بموثوق بنقلك وَلَا مُصدق فِي قَوْلك لجهلك بِالشُّرُوطِ الَّتِي يحْتَاج إِلَيْهَا المترجمون وَإِذا ادعيت أَنَّك لست جَاهِلا فَمَا حد التَّرْجَمَة وحقيقتها وَمَا شُرُوطهَا وَكم أقسامها وَمَا الْمحل الَّذِي تجوز فِيهِ من الَّذِي لَا تجوز وَبِهَذَا السُّؤَال يظْهر جهلك وتبلدك وحصرك وتوددك ثمَّ قلت فَائت بِمَا ادعيت وَإِلَّا يَمِيني لِأَنِّي أنكر هَا أَنا قد أَقمت الْبَينَات الْعُدُول الَّذين لَيْسَ لقَائِل فِي عدالتهم مَا يَقُول وَلَقَد أعلم مَعَ ذَلِك أَنَّك تبادر بِالْيَمِينِ وتباهت الْمُسلمين إِذْ قد تقولت بِالْكَذِبِ والزور على رب الْعَالمين ثمَّ ذكرت على جِهَة الإستهزاء والتنقيص والإزدراء والتخريص حَدِيث إمرأة رِفَاعَة لتقبح بذلك ديننَا وتنسب إِلَيْهِ شناعة وَأَنت مَعَ ذَلِك لم تعرف مَعْنَاهُ وَلَا فهمت فحواه ثمَّ قلت بعد أَن أخللت بمساقه وَلم تقمه على سَاقه فَمثل هَذِه النبوات لَا نقبلها مِنْكُم لِأَن الْمَسِيح يَقُول لَا يَنْبَغِي لرجل طَلَاق زَوجته إِلَّا أَن تزنى فلتعلم أَن هَذَا كَلَام جَاهِل بِأَحْكَام الْأَنْبِيَاء ظان أَن أَحْكَام الشَّرْع صِفَات لأعيان الْأَشْيَاء ثمَّ تستمد من إِنْكَار النَّاسِخ والمنسوخ وَكَلَام كل جَاهِل مَرْدُود مفسوخ فَنَقُول لهَذَا الْمُنكر الْجَاهِل الَّذِي لَيْسَ بمتشرع وَلَا عَاقل مَنعك طَلَاق الرجل زَوجته ورده إِيَّاهَا بعد طَلاقهَا لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون منعا من جِهَة الْعقل أَو من جِهَة الشَّرْع فَإِذا ادعيت أَنه من جِهَة الْعقل كَانَت دعواك بَاطِلَة بِالضَّرُورَةِ فَإِن صور هَذِه الْمسَائِل ووجودها مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ فَإِذا بَطل أَن يكون إمتناعها من جِهَة الْعقل فَيجوز أَن تُوجد وَإِذا جَازَ أَن تُوجد فَكيف يَنْبَغِي لمن ينتسب إِلَى الْعقل أَن يُنكر

نبوة من قَامَت الْأَدِلَّة القاطعة على صدقه من حَيْثُ أَنه حكم بِشَيْء يَصح فِي الْعقل أَن يُوجد ثمَّ من الْعجب العجاب الَّذِي يستعظمه أولو الْأَلْبَاب أَنكُمْ إلتزمتم فِي شرعكم بِمَا يشْهد الْعقل الأول بفساده مثل قَوْلكُم فِي الأقانيم أَنَّهَا آلِهَة ثَلَاثَة إِلَه وَاحِد وقلتم فِي الإتحاد والحلول مَا يعلم فَسَاده بضرورة الْعُقُول ثمَّ لم ينفركم ذَلِك عَن إتباع شرعكم بل يَقُول من يُمَيّز إستحالة ذَلِك القَوْل مِنْكُم هَذَا مِمَّا لَيْسَ يدْرك بالعقول بل يتبع فِيهِ الْكتاب الْمَنْقُول ثمَّ بعد إلتزام هَذِه المحالات والمدافعة عَنْهَا بالترهات والخرافات تنكرون علينا فعل شَيْء تجوزه الْعُقُول وَلم تصر إِلَيْهِ إِلَّا بعد ثُبُوت الشَّرْع الْمَنْقُول الَّذِي دلّ على صِحَّته الْبُرْهَان الْمَعْقُول فَأنْتم من الْجَهْل والزلل كَمَا جرى من كَلَام النُّبُوَّة مجْرى الْمثل يبصر أحدكُم القذاة فِي عين أَخِيه وَلَا يبصر الْجذع فِي عينه وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك كُله للمعنى الَّذِي نبه الشَّاعِر عَلَيْهِ هُنَالك ... عُيُون الرِّضَا عَن كل عيب كليلة ... وَلَكِن عين السخط تبدي المساويا ... فَلَو وفقتم لطريق الْإِنْصَاف لتركتم طَرِيق التعصب والإعتساف وَلَو كُنْتُم تطلبون الْحق بدليله لَأَوْشَكَ أَن يرشدكم إِلَى سَبيله وَلَكِن من حرم التَّوْفِيق استدبر الطَّرِيق وَنكل عَن التَّحْقِيق وَإِن ادعيت أَن ذَلِك مَمْنُوع من جِهَة الشَّرْع فَنَقُول لَك إِمَّا أَن يكون مَمْنُوعًا من جِهَة الشَّرَائِع كلهَا أَو من بَعْضهَا فَإِن قلت إِنَّه مَمْنُوع من جِهَة الشَّرَائِع كلهَا كَانَ ذَلِك بَاطِلا إِذْ الشَّرَائِع فِي ذَلِك مُخْتَلفَة فَإِن الْمَعْلُوم من شرع التَّوْرَاة فِي ذَلِك خلاف شرعكم وَكفى دَلِيلا على أَن التَّوْرَاة تخالفكم فِي ذَلِك أَو الْكَلَام الَّذِي حكيته عَن الْمَسِيح أَنه قَالَ أما علمْتُم أَنه قيل للقدماء من طلق إمرأته فليكتب لَهَا كتاب طَلَاق وَأَن أَقُول من طلق إمرأته فقد جعل لَهَا سَبِيلا إِلَى الزِّنَى فَهَذَا تَصْرِيح بَين مَا أنكرته علينا وتنقصت بِهِ شرعنا وكما جَازَ أَن يُخَالف عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام بعض أَحْكَام التَّوْرَاة وَلَا يدل ذَلِك على كذبه وَلَا على فَسَاد شَرعه كَذَلِك يجوز أَن يُخَالف شرعنا

شرع عِيسَى ومُوسَى فِي بعض الْأَحْكَام وَلَا يدل ذَلِك على فَسَاده إِذْ كل وَاحِد مِنْهُم إِنَّمَا يبلغ حكم الله ولس مخترعا حكما من قبله ثمَّ قد تخْتَلف الْأَحْكَام والأوضاع بِحَسب مَا يُريدهُ الله تَعَالَى وبحسب مَا يُعلمهُ من إختلاف الْأَحْوَال 2 والمصالح وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَن الله تَعَالَى لاحجر عَلَيْهِ فِي أَفعاله وَلَا راد لشَيْء من أَحْكَامه فَيحل لِعِبَادِهِ مَا شَاءَ وَيحرم عَلَيْهِم ماشاء {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون} وَهَذَا بَين بِنَفسِهِ لَا يجهله إِلَّا من كَانَ عديم حسه ثمَّ قلت وَأَنْتُم تَقولُونَ لَا يحل لزَوجهَا مراجعتها إِلَّا أَن تزنى بدل أَن تنهوا عَن الزِّنَى تأمروا بِالزِّنَا اسْكُتْ فض الله فَاك فَمَا أكذبك وَمَا أجفاك تتقول علينا بِمَا لَا نقُول وتتصرف فِي شرائع الْأَنْبِيَاء تصرف متواقح جهول كَمَا فعل أشياعكم من قبل اسْمَع يَا لكع على أَنَّك لَا تحسن أَن تسمع اعْلَم أَن هَذَا الَّذِي ظننته بجهلك زنا لَيْسَ بزنا لِأَن الزِّنَا حَقِيقَته إيلاج فرج فِي فرج محرم شرعا مشتهى طبعا وَهَذِه الْحَقِيقَة مَعْدُومَة فِي الَّذِي توهمت أَنه زنا فَإِن قلت إِن كَانَت هَذِه الْحَقِيقَة مَعْدُومَة عنْدكُمْ فَلَيْسَتْ مَعْدُومَة عندنَا فَإِن هَذَا الْإِيلَاج محرم عندنَا فَهُوَ زنا قُلْنَا لَك إِن كَانَ قد ثَبت تَحْرِيم ذَلِك عنْدكُمْ فقد ثَبت تَحْلِيله عندنَا فَإِن الله تَعَالَى يحل لعبيده مَا يَشَاء وَيحرم عَلَيْهِم مَا يَشَاء وَهَذَا كَمَا أحل الله لمُوسَى من الطَّلَاق مَا حرمه على عِيسَى ثمَّ كَيفَ يُمكن لعاقل أَن يُنكر مثل ذَلِك وَقد ثَبت أَنه أحلّت فِي بعض الشَّرَائِع فروج وَحرمت فِي شرع آخر فقد ثَبت أَن الْبَطن الأول من أَوْلَاد آدم أحلّت لَهُم نِكَاح الْأَخَوَات ثمَّ حرمت على من بعدهمْ من الشَّرَائِع وَقد جَاءَ فِي التَّوْرَاة أَن يَعْقُوب نكح أُخْتَيْنِ راحيل وليئة وَجمع بَينهمَا وحرمهما على غَيره وَالْجمع بَينهمَا فِي

النِّكَاح محرم عنْدكُمْ وَقد فعل الله ذَلِك فِي أَحْكَام أخر على مَا يعرف من أَحْوَال الشَّرَائِع وإختلافها فِي بعض الْأَحْكَام وَإِنَّمَا يتَحَقَّق هَذَا الْمَعْنى على الْيَقِين من يعلم أَن حَقِيقَة الحكم الشَّرْعِيّ هِيَ خطاب الشَّرْع الْمُتَعَلّق بِأَفْعَال الْمُكَلّفين على جِهَة الإقتضاء أَو التَّخْيِير فعلى هَذَا لَا معنى للْحكم إِلَّا قَول الشَّارِع افعلوا أَو لَا تَفعلُوا أَو إِن شِئْتُم فافعلوا وَإِن شِئْتُم فاتركوا على مَا يعرف فِي مَوْضِعه ثمَّ هَذَا الَّذِي عبته علينا أَيهَا الجهول لَهُ معنى صَحِيح فِي الْعُقُول جَار على منهاج الْمصَالح الْمَعْقُول وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى إِنَّمَا شرع الطَّلَاق ليتخلص الرجل من نكد الْمَرْأَة وأسوها رفقا بِنَا وَرَحْمَة مِنْهُ علينا فقد تكون غلا قملا تضر بِالرجلِ ضَرَرا حقبا لَا يُمكن أَن يطلع عَلَيْهِ أحد فَلَا تجبر على إِزَالَته لكَونه لَا يتَحَقَّق من جِهَتهَا فَجعل للرحل أَنه مَتى شَاءَ أَن يتَخَلَّص مِنْهَا وَمن ضررها فعل وَأَيْضًا فلكون النِّسَاء فِي الْغَالِب ناقصات عقل فَلَو علمت أَن الرجل لم يَجْعَل لَهُ سَبِيل إِلَى مفارقتها لما كَانَت تحترمه وبادرت إِلَى ضَرَره فَأَرَادَ الشَّارِع أَن يَجْعَل للرجل سَببا يحترم لأَجله وَهُوَ الطَّلَاق فَإِن الْمَرْأَة إِذا علمت أَنَّهَا إِن بالغت فِي ضَرَر زَوجهَا طَلقهَا امْتنعت من ضَرَره فِي الْأَكْثَر فَإِن عورضنا وَقيل لنا فَيلْزم على ذَلِك أَن تطلق الْمَرْأَة نَفسهَا مَتى شَاءَت فَإِن الرجل قد يضر بهَا ضَرَرا لَا يطلع عَلَيْهِ أحد فَإِن راعيتم وجود الضَّرَر وتوقعه فِي حق الزَّوْج فَلم لم تراعوه فِي حق الزَّوْجَة كَذَلِك فَنَقُول إِنَّمَا لم نراعه فِي حق الْمَرْأَة لأَنا لَو جعلنَا للْمَرْأَة أَن تطلق نَفسهَا مَتى شَاءَت لما اسْتَقَرَّتْ إمرأة عِنْد زَوجهَا فِي غَالب الْأَمر لِأَنَّهُنَّ ناقصات عقل فَلَا يُؤمن عَلَيْهِنَّ غَلَبَة شهواتهن على عقولهن وَإِن فتح هَذَا الْبَاب طَرَأَ مِنْهُ من الضَّرَر مَا لَا ينسد وَلَا يتدارك فسد هَذَا الْبَاب فِي حق النِّسَاء لهَذِهِ الْحِكْمَة وَفتح فِي حق الرِّجَال ليزول عَن أَعْنَاقهم غل الضَّرَر والنقمة وَالله أعلم

وَأما مَا عابه أَيْضا من أَن الْمُطلقَة ثَلَاثًا لَا تحل إِلَّا بعد زوج فَذَلِك أَيْضا لَهُ معنى مَعْقُول مُنَاسِب وَذَلِكَ أَن الطَّلَاق وَإِن كَانَ الله قد أَبَاحَهُ لنا فَهُوَ من قبيل الْمَكْرُوه من غير سَبَب من حَيْثُ التقاطع والتدابر المنهى عَنْهُمَا وَلأَجل هَذَا قَالَ نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام أبْغض الْحَلَال إِلَى الله الطَّلَاق فَأطلق عَلَيْهِ لفظ البغض مشعرا بِالْكَرَاهَةِ وَأطلق لفظ الْحَلَال مشعرا بِجَوَازِهِ فَحصل لنا من مَفْهُومه أَنه يجوز على كَرَاهَة فَإِذا تقرر أَنه مَكْرُوه من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ فَيَنْبَغِي أَلا يفعل ثمَّ إِن فعل وَلَا بُد مِنْهُ فَلَا يكثر مِنْهُ ثمَّ إِن كثر مِنْهُ فَلَا يُزَاد على الْمَرَّتَيْنِ فَإِن تعداهما عُوقِبَ بِأَنَّهُ لَا تحل لَهُ إِلَّا بعد زوج فَكَانَت الْحِكْمَة فِي ذَلِك أَن الزَّوْج إِذا علم أَنه إِذا أَكثر من هَذَا الْمَكْرُوه الَّذِي هُوَ الطَّلَاق عُوقِبَ بتفويت زَوجته عَلَيْهِ وتملكها غَيره امْتنع من تَكْثِير الْمَكْرُوه الَّذِي هُوَ الطَّلَاق ثمَّ لَا يظنّ الْجَاهِل بِنَا أننا نجبر الزَّوْج الثَّانِي على طَلاقهَا حَتَّى يرجع إِلَيْهَا الأول حاشى لله وَإِنَّمَا الزَّوْج الثَّانِي يملك مِنْهَا مَا يملكهُ الأول فَإِن شَاءَ طَلقهَا وَإِن شَاءَ أمْسكهَا ثمَّ إِن طَلقهَا اعْتدت مِنْهُ وَجَاز للْأولِ أَن يَتَزَوَّجهَا تزويجا مستأنفا إِن شَاءَ وَلَا يجوز عندنَا أَن يَتَزَوَّجهَا الثَّانِي ليحللها للزَّوْج الأول فَإِن فعل كَانَ نِكَاحه فَاسِدا وَهُوَ الَّذِي نُسَمِّيه الْمُحَلّل وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعن الله الْمُحَلّل والمحلل لَهُ فَإِن سَمَّاهُ مسم تَيْسًا فعلى جِهَة الذَّم لفعله فَإِذا تقرر هَذَا الْمَعْنى الَّذِي لَا يمنعهُ الْعقل وَلَا تنافيه مَكَارِم الْأَخْلَاق بل هُوَ على منهاجها وعَلى سنتها فَكيف يَنْبَغِي لعاقل منصف غير متواقح وَلَا متعسف أَن يتقول علينا أَنا نقُول لَا يحل لزَوجهَا مراجعتها إِلَّا أَن تزنى وَلَو كنت يَا هَذَا من أهل الْعقل الَّذين تبرأوا عَن السَّفه وَالْجهل لما كنت تشبه نِكَاحا على وفْق شَرِيعَة صَحِيحَة بِحَسب دلَالَة أدلتها القاطعة مَعَ أَن هَذَا النِّكَاح وَقع بولى وَمهر وشهود وإعلان بِنِكَاح الزِّنَا الَّذِي لَيْسَ فِيهِ ولى وَلَا مهر وَلَا شُهُود وَلَا إعلان وَإِنَّمَا يَقع الزِّنَا مُخَالفا للشرائع عريا عَن الشُّهُود وَالْوَلِيّ مَسْتُورا فَهَذَا تَشْبِيه يدل على عناد وتمويه

ثمَّ قلت بدل أَن تنهوا عَن الزِّنَا تأمروا بِهِ وَهُوَ عنْدكُمْ فَرِيضَة التياس هَذَا التشنيع بَاطِل وَقَول غبي جَاهِل وتهويل لَيْسَ وَرَاءه حَاصِل وَقَول الزُّور والأباطل قصد بِهِ قَائِله استزلال الْعَوام وليكره لَهُم دين الْإِسْلَام {يُرِيدُونَ ليطفئوا نور الله بأفواههم وَالله متم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ} وَلَقَد صدق الله عَبده وأنجز وعده {وَمن أوفى بعهده من الله} اعْلَم يَا هَذَا المفترى الْكذَّاب والمشنع المرتاب أَن الْعُقَلَاء لَا يرضون بِمَا فعلت وَلَا يأْتونَ بِمثل مَا بِهِ أتيت وَذَلِكَ أَنَّك جهلت شرعنا وكذبت عَلَيْهِ وعميت عَلَيْك مقاصده فنسبت الزُّور وَالْفُحْش إِلَيْهِ وَإِنَّمَا كَانَ يَنْبَغِي لَك لَو كنت على سنَن الْعُقَلَاء أهل السياسة الْفُضَلَاء أَن تبحث عَن أَدِلَّة صِحَة هَذِه الشَّرِيعَة وَعَن صدق الَّذِي جَاءَ بِهِ فَإِن كَانَت أدلتها صَحِيحَة وَجب عَلَيْك أَن تقبلهَا جملَة وَلَا ترد مِنْهَا شَيْء وَتَكون وَاحِدًا مِمَّن إلتزمها وَإِن لم تظهر لَك صِحَة أدلتها فناظر أَهلهَا فِي تِلْكَ الْأَدِلَّة وَلَا تتعداها إِلَى غَيرهَا وباحثهم فِيهَا مشافهة فَإِن الْمخبر لَيْسَ كالمعاين فَلَو لم يقدروا على أَن يحتجدوا لدينهم وَلَا أَن يقيموا دَلِيلا على صِحَة شرعهم وَجب عَلَيْك رد تِلْكَ الشَّرِيعَة من أَولهَا وَهَذَا دأب الموفقين لَا الْكَذَّابين المشنعين ثمَّ قلت وَأَنا أُرِيد قطع ذَنْب التيس وَأَن نجعله فِي ذقنه ليلوح استه لمعرة صَرْصَر الشمَال وحمارة قيظ هجير الْجنُوب يَا هَذَا التيس وَأي ذَنْب سَاتِر للتيس أتظن أَنَّك تتفصح وتستعير وَأَنت لَا فِي العير وَلَا فِي النفير وَكَيف تظن السَّلامَة من الْحمق والبؤس بِمن يجهل كَيْفيَّة أَذْنَاب التيوس أم كَيفَ يُبَالِي بتفصحه وجعاجعه وَهل هُوَ فِي ذَلِك إِلَّا بِمَنْزِلَة من جهل عدد أَصَابِعه وَلَوْلَا أَن شرعنا منع من السباب وَلَا يَلِيق ذَلِك بِأولى المروءات والآداب لأقذعتك سبا ولأوجعتك عتبا وَمَعَ هَذَا ... نجا بك لومك منجى الذُّبَاب حمته مقاديره أَن ينالا ...

. لَا أسبنكم فلستم بسبي ... إِن سبي من الرِّجَال الْكَرِيم ... ثمَّ قلت وَهَذَا جَوَاب كلامك إنتصافا مِنْك كَمَا يَقُول قرآنك وَمن أنتصف من بعد ظلمه فَلَا جنَاح عَلَيْهِ يَا هَذَا شَأْنك يحار فِيهِ النحرير وجهلك يتعجب مِنْك الصَّغِير وَالْكَبِير كَيفَ لَا وكلامك هَذَا يشْهد عَلَيْك بجهلك بإنجيلك وبمخالفتك حكمه وَشرع رَسُولك كَيفَ يحل لَك فِي شرعك أَن تنتصف مِمَّن ظلمك وتشتم من شتمك وإنجيلك يَقُول لَك لَا تكافئوا أحدا بسيئة وَلكم من لطم خدك الْيُمْنَى فانصب لَهُ الْيُسْرَى وَمن أَرَادَ مغالبتك وإنتزاعك قَمِيصك فزده أَيْضا رداءك فَهَذَا إنجيلك يشْهد عَلَيْك بأنك لست على شَرعه بل رددت حكمه وعملت على رفضه وَإِذا كَانَ شَأْنك هَذَا مَعَ كتابك فَكيف يرتجي فلاحك من لَيْسَ من أحبابك ثمَّ الْعجب العجاب تركت كتابك وَالْعَمَل بِهِ ثمَّ أخذت تعْمل بِكِتَاب لَا تصدق بِأَصْلِهِ فَهَذَا يعلم من حالك أَنَّك لست تُرِيدُ أَن تتبع الْحق وَلَا أَن تبحث عَنهُ وَلَكِنَّك اتبعت هَوَاك فأضلك وأطعت الشَّيْطَان فأزلك ثمَّ من أدل دَلِيل على جهلك ومغالطتك أَنَّك أوهمت أَنَّك تعرف الْقُرْآن وَأَنَّك تحتج علينا بِهِ ثمَّ ذكرت مَا لَيْسَ بقرآن حَيْثُ قلت وَمن انتصف من بعد ظلمه فَلَا جنَاح عَلَيْهِ وَهَذَا لَيْسَ بقرآن وَإِن كَانَ يشْهد بِمَعْنَاهُ الْقُرْآن وَلَيْسَ الْقُرْآن عندنَا بِمُجَرَّد مَعْنَاهُ فَقَط بل بِلَفْظِهِ الْمَخْصُوص وَمَعْنَاهُ وأسلوبه الَّذِي أعجز الْأَوَّلين والآخرين فعلى هَذَا الْمَعْنى أَن تترجم بِلِسَان آخر أَو عبر عَن مَعْنَاهُ بِغَيْر لَفظه وأسلوبه خرج عَن كَونه قُرْآنًا فأفهم وَمَا أَدْرَاك تحسن ثمَّ قلت فانصر أَنْت محالك لِأَنَّك قلت بالسفه والطعن فِي ديننَا وَقلت الْكَذِب على مسيحنا أنظر هَذَا الْكَلَام الفصيح الْجَهَالَة على قَائِله تلوح فَلَقَد عدم هَذَا الْكَلَام الإنتظام والإرتباط فَوَجَبَ لَهُ لأجل ذَلِك الإلغاء والإسقاط

وَأما مَا ذكرت من تسفيه دينك والطعن عَلَيْهِ فَذَلِك وَاجِب على الْعُقَلَاء إِذْ قد تبين بِدَلِيل الْعقل الَّذِي لَا يشك فِيهِ أَنكُمْ قد تمذهبتم بكك مقَالَة شنعاء وَقد بَينا ذَلِك فِيمَا تقدم ثمَّ إِن الطعْن على دينكُمْ لَيْسَ طَعنا على دين الْمَسِيح فَإِنَّكُم لم تتدينوا بِدِينِهِ وَلَا عَرَفْتُمْ حَقِيقَة يقينه بل تخرصتم عَلَيْهِ بالأباطيل وقبلتم عَلَيْهِ قَول كل متواقح جَاهِل فَمَا لكم وللإنتساب للمسيح وَهُوَ مبرأ عَن كل قَبِيح بل هُوَ ساخط عَلَيْكُم وبراء إِلَى الله مِنْكُم وَقد بَينا ذَلِك فِيمَا تقدم وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى بمزيد يبطل قَوْلكُم فِيهِ ويهدم وَأما مَا نسبت إِلَيْنَا من الْكَذِب على الْمَسِيح والسب لَهُ فَذَلِك وَالله شَيْء لَا نفعله وَلَا يرضى بذلك متدين وَلَا عَاقل وَكَيف يجوز هَذَا علينا وَنحن نكفر من سبه أَو سبّ أمه عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهَذَا عندنَا أصل من أصُول عقائدنا وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى أَخذ علينا من الْمِيثَاق أَن نؤمن بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاء وَالرسل وَلَا نفرق بَين أحد مِنْهُم وَهُوَ عندنَا من أكْرم الرُّسُل فَكيف نسبه أَو نكذب عَلَيْهِ وَفِي فعل ذَلِك خُرُوج عَن دين الْإِسْلَام وَتمسك بِفعل الْجُهَّال الطغام بل أَنْتُم الَّذين كَذبْتُمْ عَلَيْهِ ونسبتم مَا تحيله الْعُقُول إِلَيْهِ وَهُوَ يتبرأ من ذَلِك ويتنصل مِمَّا أفتريتم عَلَيْهِ هُنَالك ثمَّ أضفتم مَعَ ذَلِك من الْعَيْب والتنقيص على الله تَعَالَى مَا يعلم على الضَّرُورَة وَالْقطع أَنه محَال فَنحْن وَإِيَّاك على الْمثل السائر رمتني بدائها وإنسلت ثمَّ قلت وَاعْلَم أَنَّك إِن أرْسلت بعد هَذَا بالشتم فَإِنِّي أبْعث إِلَى كل بلد كتابا بِنَصّ شريعتكم وَبِكُل مَا نَعْرِف من الْأَقَاوِيل الَّتِي لَا تقدرون على إنكارها لَوْلَا أَن السب منهى عَنهُ على الْإِطْلَاق وَلَيْسَ من مَكَارِم الْأَخْلَاق لأكثرت من سبك ولأوغلت فِي لومك وعتبك وَلَو كَانَ ذَلِك لما كذبت وَلَا افتريت وَإِنَّمَا كنت أفعل ذَلِك لأظهر بذلك بَاطِل تمويهك ومغالطة تهويلك وَمن أَيْن لَك أَن تعرف ديننَا وَأي طَرِيق يوصلك إِلَيْهِ وَبِأَيِّ لِسَان تتمكن مِنْهُ وَبِأَيِّ فهم تتوصل إِلَى مَعْنَاهُ هَا أَنْت لَا تعرف دينك الَّذِي نشأت عَلَيْهِ فَكيف بك أَن تعرف مَا لم تفهم مِنْهُ حرفا وَلَا سمعته على وَجهه اللَّهُمَّ إِلَّا أَن تقولت

بِمَا لَيْسَ لَك بِهِ علم كَمَا قد فعلت فِي فَرِيضَة التياس فَلَا يعْدم أَحمَق مخرق مَا يَقُول وَأما إِن ذكر شريعتنا من يعرفهَا فالعقول السليمة تقبلهَا بِنَفس مَا تسمعها لشدَّة ارتباطها وَحسن نظامها وَلَيْسَت كشريعة من يعْتَقد إِلَهًا آخر مَعَ الله ويعتقد فِي الله مَا يَسْتَحِيل عَلَيْهِ وينسب إِلَى الْأَنْبِيَاء مَا يتبرأون مِنْهُ ويحكمون بأهواء جهالهم فِي دين الله وسنعقد أثر هَذَا إِن شَاءَ الله بَابا نبين فِيهِ جملا من أحكامهم وفيهَا يتَبَيَّن أَنكُمْ لَا تستندون فِيهَا إِلَى مُسْتَند وأنكم اخترعتم فِيهَا من الجهالات مالم يقل بِهِ أحد ثمَّ قلت لِأَنَّك قلت فِي الْمَسِيح غث وأوطار وَأَنَّك سبيت الْحَاكِم عَلَيْك وعَلى جَمِيع الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة لَكِن سَوف تَلقاهُ حَاكما لَيْسَ يطْلب عَلَيْك بَيِّنَة ... وَكم من عائب قولا صَحِيحا وآفته من الْفَهم السقيم ... لتعلم يَا هَذَا أَنى وقفت على الْكتاب الَّذِي جاوبك بعض أَصْحَابنَا وتأملت هَذَا الْموضع الَّذِي لم تفهمه فَعلمت أَن الْخَطَأ من قبل فهمك لَا من قبل الْكَاتِب وَذَلِكَ أَن لفظ مَا كتب بِهِ إِلَيْك فِي هَذَا الْموضع شجرتنا نبوية فروعها قرشية ثَمَرَتهَا هاشمية شجرتك غثاء وأوضار {اجتثت من فَوق الأَرْض مَا لَهَا من قَرَار} هَذَا نَصه وَكَانَ يَنْبَغِي لَك أَن تفهمه لَو كنت منصفا فَإِن هَذَا الْكَلَام إِنَّمَا جرى مجْرى الْمثل وَإِنَّمَا أَرَادَ بشجرتنا نبوية أَن أصل إعتقادنا أَن مُحَمَّدًا نَبِي وَرَسُول لَيْسَ باله واعتقادكم أَنْتُم أَن عِيسَى اله وَلَيْسَ بِنَبِي وَهَذَا قَول بَاطِل وإعتقاد فَاسد وَلذَلِك عبر عَن أصل هَذَا الإعتقاد بِالشَّجَرَةِ ثمَّ قَالَ إِنَّهَا غثاء وأوضار فالمسبوب المذموم إِنَّمَا هُوَ إعتقادكم فِي عِيسَى لَا عِيسَى حاشى وكلا فَهَكَذَا يَنْبَغِي أَن تفهم الْكَلَام وَلَا تبادر لأجل الْجَهْل بالملام فالملوم على كل حَال هُوَ الْجَاهِل الَّذِي لَيْسَ يفهم وَلَا عَاقل وَحين وقفت على

وأما قولك

كلامك هَذَا هَمَمْت أَن لَا أكاتبك لكونك قَلِيل الْإِنْصَاف كثير الْجَهْل والإنحراف وَلَقَد أعرف أَنَّك إِذا وقفت على كتابي هَذَا لَا تفهمه وَمَعَ ذَلِك فتبادر إِلَى رده مُكَابَرَة ومجاهرة وتتناوله بِالرَّدِّ والقبيح وَبِكُل قَول لَيْسَ بِصَحِيح وَقد حكمت بيني الْعُقَلَاء المتدينين الْفُضَلَاء الَّذين يعترفون بِالْحَقِّ حَيْثُ كَانَ وَلَا يعرجون فِي قبُوله على إِنْسَان وَأما قَوْلك الْحَاكِم عَلَيْك وعَلى جَمِيع الْأُمَم فَقَوْل لَيْسَ بِصَحِيح وَلَا أُمَم وَإِنَّمَا الْحَاكِم على كل الْأُمَم وكل الْمَخْلُوقَات الَّذِي أوجدها بعد أَن لم تكن ثمَّ يعدمها كَأَن لم تكن ثمَّ يُعِيدهَا كَأَنَّهَا مَا بَرحت {قل فَمن يملك من الله شَيْئا إِن أَرَادَ أَن يهْلك الْمَسِيح ابْن مَرْيَم وَأمه وَمن فِي الأَرْض جَمِيعًا وَللَّه ملك السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا} الْآيَة وَأما قَوْلك ستلقاه حَاكما لَيْسَ يطْلب عَلَيْك بَيِّنَة فقد نسبتموه إِلَى الْجور فَإِنَّهُ إِذا لم تقم بَيِّنَة على الْمَحْكُوم عَلَيْهِ عندنَا وعندكم وَنفذ الْحَاكِم الحكم نسب إِلَى الْجور فَإِذا قَامَت الْبَيِّنَة زَالَ عَنهُ توهم الْجور وَظهر معيار الْعدْل وَعند سَماع هَذَا يتَحَقَّق معنى الْمثل الْمَعْرُوف عَدو عَاقل خير من صديق جَاهِل فَإِن الْعَدو الْعَاقِل يذعه عَنْك عقله وَالصديق الْجَاهِل يُرِيد نفعك فيضرك وَأَنت بجهلك أردْت أَن تعظم الْمَسِيح فنقصته وَأَن تمدحه فذممته فعل السَّفِيه الأحمق الْجَاهِل وَأَنا أَقُول ستلقونه بَين يَدي الله تَعَالَى فَإِن اعترفتم بقولكم فِيهِ جوزيتم على ذَلِك بجزاء سَتَرَوْنَهُ عيَانًا وَإِن أنكرتم قَوْلكُم فِيهِ يَقُول الله لجوارحكم أنطقي فَتشهد عَلَيْكُم بأقوالكم وأفعالكم فَهَكَذَا يظْهر الْعدْل وَيعلم كل مُكَلّف أَنه محاسب بِمَا عمل من خير أَو شَرّ ومجزى عَلَيْهِ وَمِمَّا يدل على أَن الله تَعَالَى إِنَّمَا يَأْخُذ بِالْبَيِّنَاتِ يَوْم الْقِيَامَة أَنه قد ثَبت على لِسَان من دلّت المعجزة على صدقه أَن الله وكل بِنَا

كراما كاتبين يَكْتُبُونَ مَا نَفْعل فهم الشُّهُود الْعُدُول الَّذِي لَيْسَ لطاعن عَلَيْهِم مَا يَقُول وستقدم فتعلم ثمَّ الْعجب من جرأتك أَنَّك سببت خَلِيل رَبك حَيْثُ قلت رشح الْجلد المدبوغ فِي قصرية هَاجر هَذَا لإِبْرَاهِيم ذمّ صَرِيح صدر من جَاهِل وقبيح هُنَا يرد عَلَيْك قَوْلك كَيفَ قلت مَا لَا تعلم وَكَيف تجرمت فِي خَلِيل الرَّحْمَن أَن تَتَكَلَّم وستلقاه يناضل عَنهُ الله ثمَّ من رَكِيك الإستعارة أَن الَّذِي ذممت بِهِ إِسْمَاعِيل يلْزم مِنْهُ ذمّ إِسْحَق وَالَّذِي ذممت بِهِ هَاجر يلْزم مِنْهُ ذمّ سارة فَإِن الْجلد الَّذِي رشح فِي قصرية هَاجر هُوَ الَّذِي رشح فِي قصرية سارة وأصل النُّطْفَة الَّتِي كَانَ مِنْهَا إِسْمَاعِيل هُوَ بِعَيْنِه الَّذِي كَانَت مِنْهُ نُطْفَة إِسْحَق وَهَذَا كُله ذمّ لإِبْرَاهِيم وَلعن فقد حاق بك وبمن قَالَ بِقَوْلِك لعنة الله الَّتِي قَالَ فِيهَا لإِبْرَاهِيم فِي التَّوْرَاة وألعن لاعنيك ثمَّ أعجب من ذَلِك كُله اعتذارك عَن قَبِيح مَا أتيت حَيْثُ قلت لما بعث إِلَى أَولا كتاب بالسفه والسب رددت لَهُ الْجَواب بِأُمِّهِ هَاجر فكأنك قلت لما سببتني أَنْت أسب أَنا هَاجر الَّتِي إِذا سبت تعدى سبها إِلَى سَيِّدهَا إِبْرَاهِيم ثمَّ إِنَّك صرحت بسب إِبْرَاهِيم فلزمك على ذَلِك سبّ إِسْحَق وَأمه سارة فَأَنت فِي هَذِه الفعلة بِمَنْزِلَة من سبه رجل فِي وَجهه فَأخذ المسبوب ينكل الساب بِأَن يسب أَبَا نَفسه أعنى نفس المسبوب وَهَذَا مَا لَا يرضى بِهِ عَاقل وَلَا متدين جَاهِل ثمَّ قلت بعد ذَلِك عهدا لغدرك الْقَبِيح مَا قلت هُنَالك وَلم تقل فِيهَا عشر مَا قَالَ الله فِي التَّوْرَاة وَعَن إبنها وَهَذَا القَوْل مِنْك يُوهم أَن الله تَعَالَى ذمها وإبنها فِي التَّوْرَاة وَهَذَا على الله وعَلى كِتَابه كذب صراح وَكفر براح ثمَّ ذكرت بعض قصه هَاجر مَعَ إِبْرَاهِيم وَلم تسقها بكمالها لِئَلَّا تفتضح وَتظهر كَذبك وخزيك

وَهَا أَنا أذكر قصَّة هَاجر مَعَ سارة كَمَا حَكَاهَا كتاب التَّوْرَاة حَتَّى يتَبَيَّن للْوَاقِف على هَذَا الْكتاب أَن الله تَعَالَى أثنى على هَاجر وإبنها ومدحها وَمَا ذمها بل أخبر بنبوتها أَو صديقتها ونبوة إبنها إِسْمَاعِيل بحول الله قَالَ التَّوْرَاة إِن سارة إمرأة إِبْرَاهِيم لم تكن تَلد لَهُ وَكَانَت لَهُ أمة مصرية يُقَال إسمها هَاجر فَقَالَت سارة لإِبْرَاهِيم إِن الرب قد حرمني الْوَلَد فَادْخُلْ على أمتِي وإبن بهَا لعلى أرزق بِولد مِنْهَا فَسمع إِبْرَاهِيم قَول سارة وأطاعها فَانْطَلَقت سارة امْرَأَة إِبْرَاهِيم بهاجر أمتها المصرية وَذَلِكَ بَعْدَمَا سكن إِبْرَاهِيم أَرض كنعان عشر سِنِين فأدخلتها على إِبْرَاهِيم زَوجهَا فَدخل إِبْرَاهِيم على هَاجر فحبلت فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهَا قد حبلت استسفهت وزرت بسيدها وهانت فِي عينهَا فَقَالَت سارة يَا إِبْرَاهِيم أَنْت صَاحب ظلامتي أَنا وضعت أمتِي فِي حضنك فَلَمَّا حملت هنت عَلَيْهَا يحكم الرب بيني وَبَيْنك فَقَالَ إِبْرَاهِيم لسارة إمرأته هَذِه أمتك فِي يَديك فاصنعي فِيهَا مَا أَحْبَبْت وَحسن فِي عَيْنَيْك وسرك ووافقك فأهانتها سارة سيدتها فهربت مِنْهَا فلقيها ملاك الرب على عين مَاء فِي الْبَريَّة فِي طَرِيق جرار فَقَالَ لَهَا يَا هَاجر أمة سارة من أَيْن لَك أَقبلت وَأَيْنَ تريدين فَقَالَت أَنا هاربة من سارة سيدتي فَقَالَ لَهَا ملاك الرب انطلقي إِلَى سيدتك وتعبدي لَهَا ثمَّ قَالَ لَهَا ملاك الرب عَن قَول الرب أَنا مكثر زرعك ومنميه حَتَّى لَا يحصوا من كثرتهم ثمَّ قَالَ لَك الرب إِنَّك حُبْلَى وستلدين إبنا وتدعين إسمه إِسْمَاعِيل لِأَن الرب قد عرف ذلتك وخضوعك وَيكون إبنك هَذَا وحشيا من النَّاس يَده على كل وَيَد كل بِهِ وسيحل على جَمِيع حُدُود إخْوَته فدعَتْ إسم الرب الَّذِي كلمها فَقَالَت أَنْت الله ذُو الْوَحْي والرؤيا هَذَا ذكر الله لهاجر وإبنها فِي السّفر الأول فِي التَّوْرَاة فِي الإصحاح السَّادِس عشر مِنْهَا وَذكرهَا أَيْضا فِي الإصحاح الْحَادِي وَالْعِشْرين

وَقَالَت التَّوْرَاة أَبْصرت سارة ابْن هَاجر المصرية الْمَوْلُود لإِبْرَاهِيم يستهزئ فَقَالَت لإِبْرَاهِيم أخرج هَذِه الْأمة وإبنها لِأَن هَذَا ابْن الْأمة لَا يَرث مَعَ ابْني إِسْحَق فشق هَذَا الْأَمر على إِبْرَاهِيم لمَكَان ابْنه فَقَالَ الله لإِبْرَاهِيم لَا تشقن لحَال الصَّبِي وَأمتك أطع سارة فِي جَمِيع مَا تَقول لَك لِأَن نسلك إِنَّمَا يذكر بإسحق وَابْن الْأمة أجعله أَبَا لشعب كثير لِأَنَّهُ ذريتك فغدا إِبْرَاهِيم باكرا فَأخذ خبْزًا وإداوة فَأَعْطَاهَا هَاجر وَحملهَا الصَّبِي وَالطَّعَام وأرسلها فأنطلقت وتاهت فِي بَريَّة بير شبع ونفد المَاء من الأداوة فَأَلْقَت الصَّبِي تَحت شَجَرَة من شجر الشيح وَانْطَلَقت فَجَلَست قبالته تَبَاعَدت عَنهُ كرمية سهم لِأَنَّهَا قَالَت لَا أعاين موت الصَّبِي فَجَلَست إزاه وَرفعت صَوتهَا وبكت فَسمع الرب صَوت الصَّبِي فَدَعَا ملاك الرب من السَّمَاء هَاجر وَقَالَ لَهَا مَالك يَا هَاجر لَا تخافي لِأَن الرب قد سمع صَوت الصَّبِي حَيْثُ هُوَ قومِي فاحملي الصَّبِي وشدي بِهِ يَديك لِأَنِّي أجعله رَئِيسا لشعب عَظِيم فَأجلى الله عَن بصرها فرأت بير مَاء فَانْطَلَقت فملأت الْإِدَاوَة وأسقت الْغُلَام فَكَانَ الله مَعَ الْغُلَام فشب الْغُلَام وَسكن بَريَّة فاران فَأخْبرنَا يَا أَيهَا الْكَاذِب على كتاب الله المفترى على رسل الله من أَيْن استجزت سبّ الْأَنْبِيَاء وَالْكذب على الله ذِي الآلاء افي إنجيلك قرأته أم عَن الحواريين بلغته حاشا وكلا بل بتواقحك اختلقته ثمَّ من أعظم مباهتتك وأفحش جرأتك ومغالطتك أَنَّك أوهمت بِقَوْلِك وَلم تقل فِيهَا تعنى فِي هَاجر عشر مَا قَالَ الله فِيهَا فِي التَّوْرَاة وَفِي إبنها تشعر بِأَن الله ذمها وإبنها فِي التَّوْرَاة فِي عدَّة مَوَاضِع وَهَذِه التَّوْرَاة قد تلوتها عَلَيْك وأنهيتها إِلَيْك فَإِذا بِالتَّوْرَاةِ تخبر بِأَن هَاجر نبية أَو صديقَة مباركة أوحى الله إِلَيْهَا وكلمها وبشرها بنبوة وَلَدهَا إِسْمَاعِيل بل قد مدح الله إِسْمَاعِيل وَأخْبر عَنهُ بِمَا لم يخبر بِهِ عَن إِسْحَق حَيْثُ قَالَ فِيهِ يَده على كل وَيَد كل بِهِ وسيحل على جَمِيع حُدُود إخْوَته

وَهَذَا الْكَلَام يبشر بل يفصح ويخبر بنبوة نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن إِسْمَاعِيل لم يقل الله تَعَالَى فِيهِ يَده على كل يَد وَيَد كل بِهِ وسيحل على جَمِيع حُدُود إخْوَته إِلَّا لأجل حفيده مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن الله تَعَالَى قد بَعثه بدعوة جَمِيع الْخلق إِلَى الله بني إِسْرَائِيل وَمن دونهم وَمن فَوْقهم فَكل من بلغته دَعوته وَجب عَلَيْهِ الدُّخُول فِي دينه ثمَّ إِن الله تَعَالَى قد أظهره على الدّين كُله وَلَو كره الْكَافِرُونَ وَهَذَا كُله وَفَاء بوعد الله تَعَالَى لنَبيه إِبْرَاهِيم حَيْثُ قَالَ فِي التَّوْرَاة وَقد استجبت لَك فِي إِسْمَاعِيل وباركته وكثرته وأنميته جدا جدا يُولد لَهُ إثني عشر عَظِيما وأجعله رَئِيسا عَظِيما بشعب عَظِيم فَانْظُر أَيهَا الْعَاقِل كَيفَ قَالَ الله فِي إِسْمَاعِيل يَده على كل وَيَد كل بِهِ وسيحل على جَمِيع حُدُود إخْوَته وَلم يقل مثل هَذَا فِي إِسْحَق وَإِنَّمَا قَالَ فِيهِ يكون رَئِيسا على شعوب كَثِيرَة وملوك الشعوب من نَسْله وَبَين الْكَلَامَيْنِ فرق ظَاهر عِنْد الْعَاقِل الْفَهم الْمنصف وَكَذَلِكَ قَالَ فِي إِسْمَاعِيل باركته وكثرته وأنميته جدا جدا وَلم يقل مثل هَذَا القَوْل فِي إِسْحَق وَإِن كَانَ قد قَالَ فِيهِ أباركه وَأثبت عهدي لَهُ وَهَذَا الَّذِي وعد الله بِهِ إِسْحَق وعد بِهِ إِسْمَاعِيل وَزَاد زِيَادَة عَظِيمَة يعرفهَا من مساق كَلَام التَّوْرَاة من كَانَ عَارِفًا بمجاري كَلَام الله تَعَالَى فِيهَا وَكَانَ مَعَ ذَلِك عَاقِلا منصفا وسننبه على سر تَحت قَوْله جدا جدا فِي الْقسم الثَّانِي من هَذَا الْبَاب فَأَما هَاجر فقد جَاءَ فِي التَّوْرَاة ة فِي حَقّهَا مَا لم يجِئ فِي حق سارة وَذَلِكَ أَن ملاك الرب كلمها عَن الله وأبلغها أمره مرَّتَيْنِ أَو أَكثر فَإِذن هِيَ نبية أَو صديقَة وَفِي أَي مَوضِع من التَّوْرَاة جَاءَ أَن سارة نبية وَأَن اله أرسل إِلَيْهَا ملكا ليبلغها أمره وَنَهْيه كَمَا فعل بهاجر وَلَا شكّ أَن من آتَاهُ الله النُّبُوَّة هُوَ أفضل مِمَّن لم يؤته إِيَّاهَا وَلَا يظنّ الْجَاهِل أَن هَذَا الْكَلَام غض من منصب سارة رَضِي الله عَنْهَا بل هِيَ صديقَة مباركة وكل لَهُ مقَام مَعْلُوم وَالْحق أَحَق أَن يتبع

وأما قولك

ثمَّ الَّذِي يفضى مِنْهُ الْعجب أَنكُمْ تعتقدون النُّبُوَّة لِمَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام وَلَيْسَ لنبوتها فِي التَّوْرَاة وَلَا فِي الْإِنْجِيل ذكر يدل على نبوتها وَلَا فِي كتب الْأَنْبِيَاء الْمُتَقَدِّمين على زمَان الْمَسِيح ثمَّ تنكرون نبوة هَاجر وتذمونها مَعَ أَنه قد جَاءَت نبوتها ومدحها فِي التَّوْرَاة صَرِيحًا وَهَذَا كُله مِمَّا يدل على جهلكم وَقلة توفيقكم وأنكم تتحكمون فِي الشَّرَائِع الآلهيه بأوهامكم وَأما قَوْلك وَاعْلَم كَيفَ قطع الله ورث إِسْمَاعِيل وَأمه فِي قَوْله لَا يرثك هَذَا اسْكُتْ يَا جهول فلست تعرف مَا تَقول فَمَا كَانَ أجمل بك أَن لَو سترت عارك وَلم تبد عوارك كَيفَ تتحكم بِمَا لَا تعرف وَلَا تفهم هَا أَنْت قد حرفت لفظ التَّوْرَاة وغيرته وَلَيْسَ كَمَا ذكرته كذبتك من أم الْحُوَيْرِث قبلهَا وَإِنَّمَا لفظ التَّوْرَاة أَن سارة قَالَت لإِبْرَاهِيم أخرج هَذِه الْأمة وإبنها لِأَن هَذَا ابْن الْأمة لَا يَرث مَعَ إبني إِسْحَق فشق هَذَا الْأَمر على إِبْرَاهِيم لمَكَان إبنه فَأَيْنَ هَذَا من النَّص الَّذِي ذكرت فَيظْهر لي أَنَّك لَهُ اختلقت وَهَذَا الَّذِي ذكره الله فِي التَّوْرَاة بزعمكم إِنَّمَا هُوَ حِكَايَة عَن قَول سارة وَلَيْسَ حِكَايَة عَن الله وَلَو سلمنَا أَنه حِكَايَة عَن الله لما كَانَ فِيهِ دَلِيل على مَا زعمت وَهُوَ أَن الله تَعَالَى لم يَجْعَل النُّبُوَّة فِي نسل إِسْمَاعِيل وَأَن الله قطعهَا عَنهُ بل مَفْهُومه وَظَاهره أَن الَّذِي مَنعه الله لإسماعيل إِنَّمَا هُوَ مِيرَاث فِي إِبْرَاهِيم وَهُوَ حَظه فِي مَاله وَأَعْطَاهُ إِسْحَق وَهَذَا السِّرّ نجيب يعز من يتَنَبَّه لأمثاله وَلَو كنت لَهُ محلا وَأهلا لذكرناه لَك فلسنا مِمَّن يعلق الدّرّ فِي أَعْنَاق الْخَنَازِير وَكَذَلِكَ فِي كَون إِسْمَاعِيل مخلوقا من نُطْفَة إِبْرَاهِيم فِي رحم هَاجر مَعَ كَونهَا أمة وَقد كَانَ الله تَعَالَى قَادِرًا على أَن يخلقه فِي رحم حرَّة وَكَذَلِكَ لأي معنى أخرجت هَاجر على تِلْكَ الْحَال حَتَّى اسْتَقَرَّتْ هَاجر مَعَ إِسْمَاعِيل بِمَكَّة وَهَذِه كلهَا أسرار مَعْلُومَة عِنْد من نور الله بصيرته وَحسن سَرِيرَته وَأصْلح عقيدته وَنِيَّته فَإِن كنت تُرِيدُ

وأما قولك

أَن تظفر بأمثال هَذِه الْأَسْرَار فَعجل إِلَى الله الْفِرَار وَلَا تلهينك الدعة والقرار وَإِلَّا فَأَنت أَسْوَأ حَالا من الثور وَالْحمار وَمَعَ ذَلِك فأجل الله آتٍ وكل مَا هُوَ آتٍ قريب {وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا أَي مُنْقَلب يَنْقَلِبُون} وَأما قَوْلك حاكيا عَن الله أَنه قَالَ لإِبْرَاهِيم بإسحق يتسمى نسلك وَلم يقل بِإِسْمَاعِيل يتسمى فَلم يقل فِي التَّوْرَاة يتسمى وَإِنَّمَا قَالَ يذكر ثمَّ قطعت الْكَلَام عَنَّا وَسكت عَمَّا بعده وَلَو ذكرته لتبين أَنَّك مُبْطل فِي كلامك وَذَلِكَ أَنه ذكر بعد هَذَا الْكَلَام وإبن الْأمة فَإِنِّي أجعله أَبَا لشعب كثير لِأَنَّهُ ذريتك وَقد تقدم مَا قَالَ الله فِيهِ وَأَنه مفضل على إِسْحَق وَإِن كَانَت أمه أمة وَإِنَّمَا قَالَ الله لإِبْرَاهِيم لِأَن نسلك إِنَّا يذكر بإسحق بِقرب زمَان الْأَنْبِيَاء المنتسبين إِلَيْهِ ولكثرة عَددهمْ وَالله أعلم ثمَّ لَو سلمنَا أَنه جَاءَ فِي التَّوْرَاة يتسمى كَمَا ذكرت لَكَانَ معنى ذَلِك أَن الله يُسمى ذُرِّيَّة إِسْحَق بإسم إبنه يَعْقُوب الَّذِي سَمَّاهُ الله إِسْرَائِيل ثمَّ غلب عرف الإستعمال على ذُرِّيَّة إِسْحَق فَقيل عَلَيْهِم بَنو إِسْرَائِيل وَغَايَة مَا فِي هَذَا إِعْلَام الله تَعَالَى بِأَنَّهُم يسمون بإسمه أَو بإسم وَلَده وَهَذَا أَمر قريب وخطب يسير وَإِنَّمَا كَانَ يكون لَك فِي هَذَا متمسك لغرضك الْفَاسِد لَو قَالَ النُّبُوَّة فِي ولد إِسْحَق وَلَيْسَت فِي ولد إِسْمَاعِيل وَلم يقل هَكَذَا وَإِنَّمَا قَالَ مَا قد أسمعتك وَالَّذِي بِهِ أَخْبَرتك ... لقد أسمعت لَو ناديت حَيا ... وَلَكِن لَا حَيَاة لمن تنادي ... وَأما قَوْلك فتنسلت مِنْهُ الْأمة الَّذِي قَالَ فِيهَا قرآنكم {أَشد كفرا ونفاقا} ياهذا قد أغيبت فِي جهلك وسخفت فِي قَوْلك حَيْثُ تركت مَا قالته التَّوْرَاة فِي نَسْله وعظيم حرمته وَطوله وَذكرت مَا يدل على

وأما قولك

جهلك وَكَثْرَة تواقحك وَقلة فضلك ولأي شَيْء لم تذكر فِي نَسْله مَا قَالَ الله فِيهِ فِي كتاب التَّوْرَاة حَيْثُ قَالَ فِيهِ وَفِي نَسْله باركته وكثرته وأنميته جدا جدا يُولد لَهُ إثنى عشرَة عَظِيما وأجعله رَئِيسا عَظِيما لشعب عَظِيم فَأَنت يَا جَاهِل قد صغرت مَا عظم الله وذممت مَا مدح الله فحاق عَلَيْك لذَلِك غضب الله فبادر لانقاذ نَفسك قبل حُلُول رمسك وندمك على مَا فرط لَك فِي أمسك فها أَنا قد نَصَحْتُك ورسولنا يَقُول لَك قد أبلغتك ثمَّ الَّذِي قَالَ فيهم قرآننا {الْأَعْرَاب أَشد كفرا ونفاقا} إِنَّمَا أَرَادَ بهم قوما مُعينين وَطَائِفَة مخصوصين من أَعْرَاب الْبَادِيَة أهل جفَاء وغلظة ردوا الْحق بعد ظُهُوره وعاندوه حِين وضوحه كَمَا فعل أشياعكم من قبل ثمَّ لَا تظن أَن قَول الله تَعَالَى {الْأَعْرَاب أَشد كفرا ونفاقا} أَنه اراد مِنْكُم لأنكم أَشد النَّاس كفرا وَأعظم الْعُقَلَاء عنادا وَقد بَينا ذَلِك فِيمَا تقدم وَإِنَّمَا أَرَادَ الله لهَذَا الْمَعْنى وَهُوَ أعلم أَن أَعْرَاب الْبَادِيَة أَشد كفرا مِمَّن كفر من عرب الْحَاضِرَة فَلَا تدخلون أَنْتُم مَعَهم تَحت أفعل إِلَّا كَمَا يُقَال الْعَسَل أحلى من الْخلّ ثمَّ إِن جَازَ ذمّ شعب أَو قَبيلَة لِأَن بَعضهم كفر أَو فسق فأشد النَّاس كفرا ونفاقا بَنو إِسْرَائِيل لكَوْنهم عبدُوا الْعجل والأصنام على مَا هُوَ الْمَعْرُوف من أَحْوَالهم فالكافرون من أجدادكم على الْحَقِيقَة أَشد الْكَافرين كفرا وأسوأهم طَريقَة وَأما قَوْلك وَالسَّلَام على من اتبع الْهدى وآمن بشريعة الْمَسِيح حَقِيقَة الْإِيمَان نَحن والحمدلله أهل الْهِدَايَة وَالْهدى الْمُؤمنِينَ بشريعة الْمَسِيح الْمُصْطَفى الْمُحَقِّقُونَ أَنكُمْ لَسْتُم على شَيْء مِنْهَا بل على الضَّلَالَة والردى وَقد بَينا ذَلِك فِيمَا تقدم بالبراهين القاطعة وَبعد هَذَا نعقبها بالدلالات الصادعة بحول الله وقوته وَقد نجز مَا أردنَا تتبعه على هَذَا السَّائِل الْجَاهِل بِدِينِهِ الغافل وَلَو ذكرنَا كل مَا فِيهِ من الْفساد لخرج الْكَلَام عَن الضَّبْط وَبعد الْفَرَاغ مِنْهُ نتكلم على مَا وعدنا بِهِ من الْكَلَام فِي النبوات وَنَذْكُر مَا فِيهَا من المباحثات بعون الله وتوفيقه

القسم الثاني

الْقسم الثَّانِي فِي النبوات وَإِثْبَات نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُقدمَة الأولى غَرَض هَذِه الْمُقدمَة أَن نبين فِيهَا معنى النُّبُوَّة والرسالة والمعجزة وشروطها وَوجه دلالتها فَنَقُول لفظ النُّبُوَّة والرسالة والمعجزة وشروطها وَوجه دلالتها فَنَقُول لفظ النَّبِي والنبوة وَمَا تصرف مِنْهُ رَاجع إِلَى النبأ وَهُوَ الْخَبَر تَقول نبأت وأنبأت بِمَعْنى أخْبرت وخبرت وَهَذَا مَعَ لفظ نبئ بَين وَكَذَلِكَ هُوَ مَعَ تسهيله على أصح الْأَقْوَال فَإِنَّهُ قد يكون أصل شَيْء من الْأَلْفَاظ الْهَمْز ثمَّ يُخَفف الإسم مِنْهُ كَمَا قَالُوا خابية وَهُوَ من خبأت هَذَا أصح مَا قيل فِي اشتقاق هَذَا اللَّفْظ فَإِذا تقرر هَذَا فنبئ على أصل الْوَضع وَزنه فعيل وفعيل يَأْتِي فِي الْكَلَام بمعنيين أَحدهمَا فعيل بِمَعْنى فَاعل كَمَا قيل رَحِيم بِمَعْنى رَاحِم وَسميع بِمَعْنى سامع وَالثَّانِي فعيل بِمَعْنى مفعول كَمَا قيل رجيم بِمَعْنى مرجوم وخصيب بِمَعْنى مخصوب فعلى هَذَا يَصح فِي نَبِي أَن يكون بِمَعْنى مخبر وَبِمَعْنى مخبر فعلى أصل الإشتقاق وَوضع الْعَرَب كل من أخبر بِشَيْء أَو أخبر بِشَيْء فَهُوَ نَبِي وعَلى الْمُتَعَارف بَين المتشرعين إِنَّمَا يطلقون إسم النَّبِي على من كَانَ مخبرا عَن الله فَأَما أَن يكلمهُ الله مشافهة وَإِمَّا بِوَاسِطَة ملاك وَهَذَا هُوَ عرف المتشرعين فِي النُّبُوَّة وَإِلَى هَذَا يرجع مَعْنَاهَا فالنبئ عِنْد عقلاء أهل الشَّرَائِع إِنَّمَا هُوَ حَيَوَان نَاطِق مائت كَامِل فِي نَوعه مخبر عَن الله تَعَالَى بِحكم أَو مشافهة إِمَّا بِوَاسِطَة ملك أَو مَا تنزل مَنْزِلَته

فقولنا حَيَوَان نَاطِق أردنَا بِهِ أَن إنْسَانا بَاقٍ على أصل إنسانيته لَا يمتاز عَن غَيره من نوع الْإِنْسَان بِوَصْف حَقِيقِيّ وَإِن إمتاز بأوصاف عرضية عَن غَيره كالعلوم الْخَاصَّة بهم وصفات الْكَمَال الَّتِي خصهم الله بهَا فَذَلِك لَا يُخرجهُ عَن كَونه إنْسَانا وَلأَجل هَذَا الْمَعْنى كَانَت الرُّسُل تَقول لقومها {إِن نَحن إِلَّا بشر مثلكُمْ وَلَكِن الله يمن على من يَشَاء من عباده} وَكَذَلِكَ قَالَ الصَّادِق المصدوق {إِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ يُوحى إِلَيّ} فَجعل الْفَصْل بَينه وَبَين نَوعه مَا خص بِهِ من الْوَحْي وَقَوْلنَا مائت تَنْبِيه على مآله لِئَلَّا يغلوا فِي بَعضهم جاهلون كَمَا فعلت النَّصَارَى فينسبونهم إِلَى مَا لَا يَلِيق بِمن يَمُوت وَقَوْلنَا كَامِل أعنى بذلك أَن الْأَنْبِيَاء مجبولون على أتم صِفَات نوع الْإِنْسَان وَذَلِكَ مَعْلُوم من أوصافهم وَإِن كَانُوا متفاوتين فِي ذَلِك وَقَوْلنَا مخبر عَن الله هَذَا الْقَيْد هُوَ خاصته الَّتِي تفصله عَن غَيره من نَوعه فَإِن لم يكن كَذَلِك لم يقل عَلَيْهِ أَنه نَبِي وَقَوْلنَا إِمَّا مشافهة وَإِمَّا بِوَاسِطَة ملاك بحرز مِمَّن يبلغهُ خير الله تَعَالَى على أَلْسِنَة رسله فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَبِي وَلَا يُقَال عَلَيْهِ بِحكم الْعرف إِنَّه نَبِي وَلَو جَازَ ذَلِك لجَاز أَن يُقَال نَبِي على كل متشرع سمع من رَسُوله خَبرا عَن الله وَهَذَا لم يقلهُ أحد وَقَوْلنَا أَو مَا تنزل مَنْزِلَته نُرِيد بِهِ أَن الْأَنْبِيَاء قد يتلقون الْوَحْي على وُجُوه مِنْهَا أَن يكلمهُ الله مشافهة وَمِنْهَا أَن يُرْسل إِلَيْهِ ملكا يُخبرهُ عَن الله وَمِنْهَا أَنه يلقى إِلَيْهِ الْوَحْي فِي النّوم وَمِنْهَا أَن الله تَعَالَى يقذف فِي روعه ويلهمه إلهاما حَتَّى لَا يشك أَن الْأَمر كَذَلِك وَيقطع بِهِ فَإِذا تقرر أَن حَقِيقَة النُّبُوَّة مَا ذَكرْنَاهُ وَأَن فَضله الْخَاص بِهِ هُوَ مَا تحصل لَهُ من الْأَخْبَار عَن الله فَذَلِك الْخَبَر أَن أَمر النَّبِي بتبليغه لغيره فَذَلِك النَّبِي هُوَ الَّذِي يُقَال عَلَيْهِ رَسُول والرسالة هُوَ الْكَلَام الْمبلغ عَن الله فلأجل هَذَا يَصح أَن يُقَال كل رَسُول نَبِي وَلَيْسَ كل نَبِي رَسُولا

فأما المعجزة

إِذْ الرسَالَة نبوة وَزِيَادَة وَهَذَا بَين بِنَفسِهِ فَإِذا تقرر ذكل فَهَذَا الْبُشْرَى الَّذِي يدعى أَن الله أرْسلهُ إِلَيْنَا لَا بُد أَن يكون صَادِقا وَذَلِكَ لَا نعرفه بِغَيْر دَلِيل فَلَا بُد من دَلِيل وَالدَّلِيل المتحدى بِهِ هُوَ المعجزات وَلَا بُد من النّظر فِي حَقِيقَتهَا وَفِي شُرُوطهَا وَفِي وَجه دلالتها فَأَما المعجزة فَلفظ مَأْخُوذ من الإعجاز وَذَلِكَ أَنَّك تَقول عجز فلَان عَن كَذَا عَجزا إِذا لم يقدر عَلَيْهِ وَلم يقم بِهِ وأعجزته إعجازا إِذا جعلته يعجز وَتقول أعجزني الشَّيْء إِذا فاتك وَلم تقدر عَلَيْهِ وَكلهَا رَاجِعَة إِلَى أَن الْعَاجِز عَن الشَّيْء هُوَ الَّذِي لَا يتَمَكَّن من الشَّيْء وَلَا يقدر عَلَيْهِ ثمَّ فِي تَسْمِيَة هَذِه الْأَدِلَّة الَّتِي تدل على صدق الْأَنْبِيَاء معجزات تجوز وَذَلِكَ أَن المعجز على التَّحْقِيق إِنَّمَا هُوَ خَالق الْعَجز وَهَذِه الْأَسْبَاب الَّتِي يَقع الْعَجز عِنْدهَا تسمى معْجزَة بالتوسع وَذَلِكَ من تسمة الشَّيْء باسم غَيره إِذا جاوزه أَو كَانَ مِنْهُ بِسَبَب هَذَا شرح لفظ المعجزة فَأَما حَقِيقَتهَا فَهُوَ أَمر خارق للْعَادَة مقرون بالتحدي مَعَ عدم الْمُعَارضَة إِنَّمَا قُلْنَا أَمر وَلم نقل فعل ليشتمل بذلك على الْفِعْل الخارق للْعَادَة وَالْمَنْع من الْفِعْل الْمُعْتَاد فَلَو قَالَ نَبِي آيتي أَنه لَا يقدر أحد أَن يتَكَلَّم الْيَوْم فَكَانَ ذَلِك لَكَانَ ذَلِك دَلِيلا على صدقه وَيكون ذَلِك معْجزَة لَهُ مَعَ أَنه لَيْسَ إتيانا بِفعل عرفي وَإِنَّمَا هُوَ منع من فعل مُعْتَاد وَإِنَّمَا قُلْنَا مقرون بالتحدي لِئَلَّا يتَّخذ الْكَاذِب معْجزَة من تقدمه حجَّة لنَفسِهِ ولتتميز عَن الْكَرَامَة وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَإِنَّمَا قُلْنَا مَعَ عدم الْمُعَارضَة لتتميز عَن السحر والشعبذة وَإِذا حققت النّظر فِيمَا ذَكرْنَاهُ فِي حد المعجزة علمت شُرُوطهَا لَكِن يَنْبَغِي لَك أَن تعرف أَن المعجزة لَا تكون دَلِيلا إِلَّا فِي حق من علم وجود الْبَارِي تَعَالَى وَأَنه قَادر عَالم مُرِيد مَوْصُوف بِصِفَات الْكَمَال حَتَّى يَتَأَتَّى مِنْهُ الْإِرْسَال والتصديق والتكليف وَإِذا لم يعرف النَّاظر

وأما وجه دلالتها

هَذِه الْأُمُور بأدلة عقليه لم يعرف المعجزة وَلم يفده الْعلم بالتصديق للنَّبِي وَأما وَجه دلالتها فَهُوَ أَن الْمشَاهد للمعجزة المتحدي بهَا إِذا علمهَا وَعلم شُرُوطهَا علم على الضَّرُورَة أَن الله تَعَالَى قصد بذلك المعجز تَصْدِيق الْمُدَّعِي ويتبين هَذَا بمثال وَذَلِكَ أَنه لَو فَرضنَا ملكا عَظِيما اجْتمع لَهُ أهل مَمْلَكَته فِي مَجْلِسه وَأهل المملكة مصغون لما يَأْمُرهُم بِهِ ذَلِك الْملك فَقَامَ رجل من بَين يَدَيْهِ وَقَالَ إِنِّي رَسُول هَذَا الْملك إِلَيْكُم وَقد أَمرنِي أَن أبلغكم أمره وَنَهْيه وَأَنا صَادِق فِي قولي هَذَا ثمَّ يَقُول يَا أَيهَا الْملك إِن كنت صَادِقا فِيمَا أقوله عَنْك فَخَالف عادتك وقم عَن سريرك قيَاما تخَالف بِهِ الْمُعْتَاد من فعلك فَإِذا فعل الْملك ذَلِك عِنْد تحدي الْمُدعى فَإِن أهل الْمجْلس يضطرون إِلَى الْعلم بِأَن الْملك قصد ذَلِك الْفِعْل تَصْدِيقه وَلَا يعتريهم فِي ذَلِك ريب وَلَا توقف فتنزلت إِذن تِلْكَ الْأَفْعَال بِتِلْكَ الشُّرُوط منزلَة قَوْله صدقت أَنا أرسلتك وَهَذَا بَين بِنَفسِهِ عِنْد كل موفق منصف مَعْلُوم على الْقطع فَإِذا تقرر ذَلِك فمهما ادّعى شخص الرسَالَة وَاسْتدلَّ عَلَيْهَا بِمثل مَا ذَكرْنَاهُ كَانَ محقا فِي دَعْوَاهُ صَادِقا فِي قَوْله لَا يجوز لعاقل أَن يتَخَلَّف عَن مُتَابَعَته سَوَاء ادّعى عُمُوم رسَالَته أَو خصوصها ورسولنا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد ادّعى عُمُوم رسَالَته وَاسْتدلَّ على صدقه بالمعجزات على الشُّرُوط الَّتِي ذَكرنَاهَا فَهُوَ صَادِق وَلَا يجوز لعاقل بلغه أمره أَن يتَخَلَّف عَن مُتَابَعَته وتصديقه وَسَنذكر إِن شَاءَ الله بعض مَا أمكن ذكره من معجزاته فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أيد بمعجزات كَثِيرَة حَتَّى إِذا جمعت وتتبعت علم مِنْهَا أَن الله تَعَالَى قد جمع لَهُ أَكثر معجزات الْأَنْبِيَاء قبله وَخَصه بمعجزات لم يُشَارِكهُ فِيهَا غَيره مِنْهُم وستقف إِن شَاءَ الله على أَكثر ذَلِك فَهَذِهِ الْمُقدمَة الأولى

المقدمة الثانية

الْمُقدمَة الثَّانِيَة وَأما الْمُقدمَة الثَّانِيَة فالغرض مِنْهَا أَن تتبين فِيهَا أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام ظَهرت المعجزات على يَدَيْهِ وتحدى بهَا الْخلق ليؤمنوا أَنه رَسُول الله لَا ليؤمنوا بِأَنَّهُ إِلَه وَأَن النَّصَارَى غير عَالمين بمعجزات عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ لم تتوافر عِنْدهم فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِن النَّصَارَى غايتهم أَن يسندوا معجزات عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لما فِي أَيْديهم من الْإِنْجِيل وَهُوَ لم يتواتر نَقله وَلَا أَمن التحريف والغلط فِيهِ على مَا تقرر قبل وَإِذا كَانَ هَذَا فَكل مَا فِي أَيْديهم من الْأَخْبَار عَنهُ فِي الْإِنْجِيل لَا تفِيد الْعلم الْقطعِي وَغَايَة ذَلِك أَن تفِيد غَلَبَة ظن وَالظَّن فِي الإعتقاد بِمَنْزِلَة الشَّك بل هُوَ شكّ فَإِذن هم من معجزات عِيسَى فِي شكّ وهم لَا يَشْعُرُونَ بذلك الْإِفْك وَمِمَّا يدل على أَنهم من كِتَابهمْ وشرعهم على غير علم مَا استفاض فِي كتب التواريخ عندنَا وَعِنْدهم وَذَلِكَ أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لما بَعثه الله تَعَالَى دَعَا بني إِسْرَائِيل للْإيمَان فَأَجَابَهُ من شَاءَ الله مِنْهُم فَلَمَّا رَفعه الله تَعَالَى استحلى النَّاس كَلَامه بعد ذَلِك حَتَّى بلغ عدد بني إِسْرَائِيل سبع مائَة رجل فَكَانُوا يجاهدون فِي بني إِسْرَائِيل وَيدعونَ الى الايمان فَقَامَ بولش الْيَهُودِيّ وَكَانَ هُوَ الْملك فِي بنى اسرائيل فحشد عَلَيْهِم الأجناد وَخرج عَلَيْهِ وَقَاتلهمْ فَهَزَمَهُمْ وأخرجهم من بِلَاد الشَّام حَتَّى انْتهى فَلهم إِلَى الدروب فأعجزوه فَقَالَ بولش الْملك لجنوده إِن كَلَام هَؤُلَاءِ لمستحلى وَقد قدمُوا على عَدوكُمْ وسيرجعونهم فِي ملتهم فيكثرون علينا فيخروجون إِلَيْنَا ويخرجوننا من بِلَاد الشَّام وَلَكِنِّي أرى لكم رَأيا قَالُوا وَمَا هُوَ قَالَ تعاهدوني على كل شَيْء كَانَ خيرا أَو شرا فَفَعَلُوا فَترك ملكه ثمَّ لبس لباسهم وَخرج إِلَيْهِم ليضلهم حَتَّى

انْتهى إِلَى عَسْكَرهمْ فَأَخَذُوهُ وَقَالُوا الحمدلله الَّذِي أخزاك أمكن مِنْك فَقَالَ لَهُم أَجمعُوا رؤوسكم فَإِنَّهُ لم يبلغ مني حمقي أَن آتيكم وَإِلَّا وَمَعِي برهَان فأبلغوه رؤوسهم فَقَالُوا مَالك فَقَالَ إِنِّي لَقِيَنِي الْمَسِيح منصرفي عَنْكُم فَأخذ سمعى وبصري وعقلي فَلم أسمع وَلم أبْصر وَلم أَعقل ثمَّ كشف عني فَأعْطيت الله عهدا أَن أَدخل فِي أَمركُم فَأتيت لأقيم فِيكُم وَأعْلمكُمْ التورا وأحكامها فصدقوه فَأَمرهمْ أَن يبنوا لَهُ بَيْتا ويفرشوه رَمَادا ليعبد الله فِيهِ بِزَعْمِهِ وَيُعلمهُم التَّوْرَاة فَفَعَلُوا وعلمهم مَا شَاءَ الله ثمَّ أغلق الْبَاب دونه فأطافوا بِهِ وَقَالُوا نخشى أَن يكون رأى شَيْئا يكرههُ ثمَّ فَتحه بعد يَوْم فَقَالُوا أَرَأَيْت شَيْئا تكرههُ قَالَ لَا وَلَكِنِّي رَأَيْت رَأيا وأعرضه عَلَيْكُم فَإِن كَانَ صَوَابا فَخُذُوهُ وَإِن كَانَ خطأ فردوني عَنهُ قَالُوا هَات قَالَ هَل رَأَيْتُمْ سارحة تسرح إِلَّا من عِنْد رَبهَا وَتخرج إِلَّا من حَيْثُ تُؤمر بِهِ قَالُوا لَا قَالَ فَإِنِّي رَأَيْت الصُّبْح وَاللَّيْل وَالشَّمْس وَالْقَمَر والبروج إِنَّمَا تَجِيء من هَا هُنَا وَمَا أوجب ذَلِك إِلَّا وَهُوَ أَحَق الْوُجُوه أَن يصل إِلَيْهِ قَالُوا صدقت فردهم عَن قبلتهم ثمَّ أغلق الْبَاب بعد ذَلِك بيومين ففزعوا أشر من الأول وأطافوا بِهِ ففتحه فَقَالُوا أرايت شَيْئا تكرههُ قَالَ لَا وَلَكِنِّي رَأَيْت رَأيا قَالُوا هَات قَالَ ألستم تَزْعُمُونَ أَن الرجل إِذا أهْدى إِلَى الرجل الْهَدِيَّة وأكرمه بالكرامة فَردهَا شقّ ذَلِك عَلَيْهِ وَأَن الله تَعَالَى سخر لكم مَا فِي الأَرْض وَجعل مَا فِي السَّمَاء لكم كَرَامَة فَالله أَحَق أَن لَا ترد عَلَيْهِ كرامته فَمَا بَال بعض الْأَشْيَاء حَلَال وَبَعضهَا حرَام مَا بَين البقة إِلَى الْفِيل حَلَال قَالُوا صدقت ثمَّ أغلق بعد ذَلِك ثَلَاثًا ففزعوا أمثل من الثَّانِيَة فَلَمَّا فتح لَهُم قَالَ لَهُم إِنِّي رَأَيْت رَأيا قَالُوا هَات قَالَ لنخرج كل من فِي الْبَيْت إِلَّا يَعْقُوب ونسطور وملكون وَالْمُؤمن فَفَعَلُوا فَقَالَ هَل علمْتُم أحدا من الْإِنْس خلق من الطين خلقا فَجعله فَصَارَ نفسا قَالُوا لَا قَالَ فَهَل علمْتُم أَن أحدا من الْإِنْس

أَبْرَأ الأكمه والأبرص وَأَحْيَا الْمَوْتَى قَالُوا لَا قَالَ هَل علمْتُم أَن أحدا من الْإِنْس يُنبئ النَّاس بِمَا يَأْكُلُون وَمَا يدخرون فِي بُيُوتهم قَالُوا لَا قَالَ فَإِنِّي أزعم أَن الله تَعَالَى تجلى لنا ثمَّ احتجب فَقَالَ بَعضهم صدقت وَقَالَ بَعضهم لَا وَلكنه ثَلَاثَة وَالِد وَولد وروح الْقُدس وَقَالَ بَعضهم الله وَولده وَقَالَ بَعضهم هُوَ الله تجسم لنا فافترقوا على أَربع فرق فَأَما يَعْقُوب فَأخذ بقول بولش إِن الله هُوَ الْمَسِيح وَأَنه كَانَ ثمَّ تجسم وَبِه أخذت شيعته وهم اليعقوبية وَأما نسطور فَقَالَ الْمَسِيح ابْن الله على جِهَة الرحمه وَبِه أخذت شيعته وهم النسطورية إِلَّا أَن شيعته لم تعتقد أَنه سمى إبنا على جِهَة الرَّحْمَة بل على مَا تقدم وَأما ملكون فَقَالَ إِن الله ثَلَاثَة وَبِه أخذت شيعته وهم الملكية الَّذين قَالُوا إِن الله ثَلَاثَة أقانيم فَقَامَ الْمُؤمن وَقَالَ لَهُم عَلَيْكُم لعنة الله وَالله مَا حاول هَذَا إِلَّا إفسادكم وَنحن أَصْحَاب الْمَسِيح قبله وَقد رَأينَا عِيسَى وَسَمعنَا مِنْهُ ونقلنا عَنهُ وَالله مَا حاول هَذَا إِلَّا ضلالتكم وفسادكم فَقَالَ بولش للَّذين اتَّبعُوهُ قومُوا بِنَا نُقَاتِل هَذَا الْمُؤمن ونقتله هُوَ وَأَصْحَابه وَإِلَّا أفسد عَلَيْكُم دينكُمْ فَخرج الْمُؤمن إِلَى قومه وَقَالَ أَلَيْسَ تعلمُونَ أَن الْمَسِيح عبد الله وَرَسُوله وَكَذَا قَالَ لكم قَالُوا بلَى قَالَ فَإِن هَذَا الملعون قد أضلّ هَؤُلَاءِ الْقَوْم فَرَكبُوا فِي أَثَرهم فقاتلوهم فَهزمَ الْمُؤمن وَأَصْحَابه وَكَانَ أقلهم تبعا فَخرج مَعَ قومه إِلَى الشَّام فأسرتهم الْيَهُود فَأَخْبرُوهُمْ الْخَبَر وَقَالُوا إِنَّمَا

خرجنَا إِلَيْكُم لنأمن فِي بِلَادكُمْ ومالنا فِي الدُّنْيَا من حَاجَة إِنَّمَا نلزم الكهوف والصوامع ونسيح فِي الأَرْض فَخلوا عَنْهُم ثمَّ إِن قوما من أُولَئِكَ الَّذين كفرُوا فعلوا مثل مَا فعل قوم الْمُؤمن اتَّخذُوا الصوامع وساحوا وأظهروا الْبِدْعَة فَهُوَ قَول الله عز وَجل {ورهبانية ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِم إِلَّا ابْتِغَاء رضوَان الله فَمَا رعوها حق رعايتها} يَعْنِي التَّوْحِيد اخْتلفُوا فِيهِ إِلَّا فرقة الْمُؤمن وَفِيهِمْ نزلت {فأيدنا الَّذين آمنُوا على عدوهم فَأَصْبحُوا ظَاهِرين} بالجهة وَظُهُور مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ هرب الْمُؤمنِينَ مِنْهُم إِلَى جَزِيرَة الْعَرَب فَأدْرك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُم ثَلَاثُونَ رَاهِبًا فآمنوا بِهِ وَصَدقُوهُ وتوفاهم الله على الْإِسْلَام كَانَ هَذَا وَالله أعلم بعد الْمَسِيح بِأَرْبَعِينَ سنة أَو نَحْوهَا ثمَّ لم يزل أَمر الْمُؤمن وَأَصْحَابه خفِيا وَغَيرهم من الْفرق مُخْتَلفُونَ ويتهارجون وَلم يسْتَقرّ لَهُم قدم إِلَى مُدَّة قسطنطين قَيْصر الْملك ابْن هيلانة وَذَلِكَ بعد رفع الْمَسِيح بمائتين وَثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ سنة وَذَلِكَ انه كثر عدوه وَكَاد ملكه يذهب بإختلاف رعاياه عَلَيْهِ وضعفهم وكسلهم عَن نصرته فرام حملهمْ على شَرِيعَة ينظم بهَا سلكهم ويؤلف بهَا متفرقهم فَاسْتَشَارَ من لَدَيْهِ من أهل النّظر فَوَقع اختيارهم على أَن يتعبد الْقَوْم بِطَلَب دم ليَكُون ذَلِك أقوى لارتباطهم مَعَه وأوكد لجدهم فِي نَصره فوجدوا الْيَهُود يَزْعمُونَ أَن فِي بعض تواريخهم خَبرا عَن رجل مِنْهُم هم أَن ينْسَخ حكم التَّوْرَاة وينفرد بالتأويل فِيهَا فعمدوا إِلَيْهِ وَهُوَ فِي نفر مِمَّن اتبعهُ وظفروا بِوَاحِد

مِنْهُم وَشهد لديهم رجل وَاحِد أَنه ذَلِك الْمَطْلُوب فصلبوه وَمَا عِنْدهم تَحْقِيق لكَونه ذَلِك الْمَطْلُوب بِعَيْنِه إِلَّا فقدهم إِيَّاه من حِينَئِذٍ فَعِنْدَ ذَلِك عمد قسطنطين إِلَى من ينْسب إِلَى دين الْمَسِيح فَوَجَدَهُمْ قد اخْتلفت آراؤهم ومزجت أديانهم فاستخرج مَا بقى من رسم الشَّرِيعَة المنسوبة للمسيح وَجمع عَلَيْهَا وزراءه فَأثْبت مَا شَاءَ مِنْهَا وتحكم فِيهَا بإختياره حسب مَا رَآهُ مُوَافقا لَهُ بالصلوبية لتعبد قومه بِطَلَب دم وَالْقَوْل بترك الْخِتَان لِأَنَّهُ شَأْن قومه ثمَّ أكد ذَلِك وشده بمنامة إختلقها وَادّعى أَنه أوحى إِلَيْهِ فِيهَا وَذَلِكَ أول شَيْء أظهره من هَذَا الْأَمر فَجمع أنصاره ورعاياه من الرّوم وَذَلِكَ على رَأس سبع سِنِين من مُدَّة ملكه وَقَالَ لَهُم إِنَّه كَانَ يرى فِي مَنَامه آتِيَا أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ بِهَذَا الرَّسْم تغلب وَعرض عَلَيْهِ هَيْئَة الصَّلِيب فأعظمت ذَلِك الْعَامَّة وإنفعلت لما سَمِعت مِنْهُ ثمَّ بعث إِلَى إمرأة فِي ذَلِك الزَّمَان يُقَال لَهَا الأنه كاهنة وَكَانَت ذَات جأش وَقُوَّة فَشَهِدت لَهُ أَنَّهَا رَأَتْ مثل مَا رأى فقوى تَصْدِيق الْعَامَّة لذَلِك وَفِي هَذَا كُله لَا يعلمُونَ لذَلِك الرَّسْم تَأْوِيلا وَلَا كَانَ قسطنطين كشف لَهُم شَيْئا من أمره فَخرج بهم إِلَى عدوه وَوعظ قومه وهول عَلَيْهِم أَمر الرَّسْم فَحصل لَهُ كل مَا أَرَادَهُ من جد الْقَوْم وإجتهادهم مَعَه فَلَمَّا عَادوا إِلَى أوطانهم بعد الظفر بعدوهم سَأَلُوهُ عَن تَأْوِيل ذَلِك الرَّسْم وألحوا عَلَيْهِ فِيهِ فَقَالَ لَهُم قد أوحى إِلَى فِي نومي أَنه كَأَن الله تبَارك وَتَعَالَى هَبَط من السَّمَاء إِلَى الأَرْض فصلبته الْيَهُود فهالهم ذَلِك كثيرا مَعَ مَا حصل عِنْدهم من تَصْدِيقه وَعظم عَلَيْهِم الْخطب فِيهِ فإنقادوا إِلَى قسطنطين إنقيادا حسنا وَصَحَّ لَهُ مِنْهُم مَا أَرَادَهُ وَشرع لَهُم هَذِه الشَّرَائِع الَّتِي بِأَيْدِيهِم الْيَوْم أَو أَكْثَرهَا

وَقد ظهر لجَماعَة من أهل الْعلم بأحوال الْأُمَم وبنوازل الْأَزْمَان أَن هَذَا الشَّخْص الَّذِي تعظمه النَّصَارَى وتصفه بالإلهية لم يكن لَهُ وجود فِي الْعَالم وَلَكِن قسطنطين إبتدع ذَلِك كُله وَاتفقَ مَعَ نفر من الْيَهُود من أَحْبَارهم على أَن يبْذل لَهُم من مَتَاع الدُّنْيَا مَا شَاءُوا وَيشْهدُونَ لَهُ عِنْد قومه بِأَن ذَلِك الشَّخْص كَانَ عِنْد الْيَهُود فصلبته فَفَعَلُوا وَكَتَبُوا من أخباره شَيْئا فتلقت ذَلِك النَّصَارَى وقبلوه ودانوا بِهِ وَلَعَلَّه أَكثر الْإِنْجِيل الَّذِي بِأَيْدِيهِم الْيَوْم ولتعلم أَن هَذِه الْأَخْبَار الَّتِي ذَكرنَاهَا لَا يُمكنهُم إِنْكَار جُمْلَتهَا وَإِن أَنْكَرُوا بعض تفاصيلها لكَون هَذِه الْقَصَص مَعْرُوفَة على الْجُمْلَة عِنْدهم فَإِنَّهُم لَا يقدرُونَ على جحد محاربة بولش الْيَهُودِيّ وإجلاؤهم من الشَّام وَدخُول بولش فِي دينهم وَكَذَلِكَ ملك قسطنطين مِمَّا لَا يُنكرُونَ أشهاره لكتبهم ثمَّ لَو قَدرنَا أَن هَذِه الوقائع لم تعلم صِحَّتهَا وَلَا كذبهَا فشرعهم قَابل لأمثالها فَإِن مُعظم معتمدهم فِي أُمُور دياناتهم إِنَّمَا هُوَ الْإِنْجِيل وَنَقله غير متواتر لَا سِيمَا والأحداث عِنْدهم فِي أَكثر الأحيان بمنامات يدعونها يجعلونها أصولا يعولون عَلَيْهَا وبمحافل يَجْتَمعُونَ فِيهَا فيتحكمون بآرائهم

من ذلك

وَلَا يستندون لشَيْء من كتبهمْ وَلَا لشَيْء من كَلَام أَنْبِيَائهمْ وَإِن شِئْت أَن ترى هَذَا عيَانًا فَانْظُر كتب إجتماعاتهم ومحافلهم فَإِنَّهُم ينحشدون لمواضع مَخْصُوصَة فِي أحيان مَخْصُوصَة ويخترعون فِيهَا أحكاما وأمورا لَا مُسْتَند لَهُم وَلَا أصل إِلَّا بِالتَّحْرِيمِ على المآكل والتحكم فِي الْعَامَّة بفارغ الْأَقَاوِيل وسنبين ذَلِك إِذا ذكرنَا جملا من أحكامهم وَإِذا كَانَ هَذَا مبْنى شريعتهم فَكيف يوثق بِشَيْء من ترهاتهم فَإِذا تقرر ذَلِك فلتعلم أَن أتخاذهم الْمَسِيح إِلَهًا إِنَّمَا سَببه مَا سبق ذكره وَلَا يقدرُونَ على أَن ينسبوا شَيْئا من ذَلِك إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام بل قد نقلوا عَنهُ فِي إنجيلهم مَا يدل دلَالَة قَاطِعَة من حَيْثُ اللَّفْظ على أَنه إِنَّمَا ادّعى النُّبُوَّة وَعَلَيْهَا اسْتدلَّ بمعجزاته وَفِي دَعْوَاهُ النُّبُوَّة كَذبته الْيَهُود وَنحن الْآن نسرد بعض مَا وَقع فِي إنجيلهم من دَعْوَاهُ الرسَالَة بحول الله سُبْحَانَهُ من ذَلِك مَا جَاءَ فِي الْإِنْجِيل عَنهُ أَنه قَالَ حِين خرج من السامرية وَلحق بجلجال أَنه لم يكرم أحدا من الْأَنْبِيَاء فِي وَطنه وَفِي إنجيل لوقا أَنه لم يقبل أحد من الْأَنْبِيَاء فِي وَطنه فَكيف تقبلونني وَهَذَا نَص لَا يقبل التَّأْوِيل فِي أَنه إِنَّمَا ادّعى النُّبُوَّة الْمَعْلُومَة وَفِي إنجيل ماركش أَن رجلا أقبل إِلَى الْمَسِيح وَقَالَ لَهُ أَيهَا الْمعلم الصَّالح أَي خير أعمل لأنال الْحَيَاة الدائمة فَقَالَ لَهُ الْمَسِيح لم قلت لي صَالحا إِنَّمَا الصَّالح الله وَحده وَقد عرفت الشُّرُوط وَذَلِكَ أَلا تسرق وَلَا تزنى وَلَا تشهد بالزور وَلَا تخون وَأكْرم أَبَاك وأمك

وَفِي إنجيل يوحنا أَن الْيَهُود لما أَرَادَت الْقَبْض عَلَيْهِ وَعلم بذلك رفع بَصَره إِلَى السَّمَاء وَقَالَ قد دنا الْوَقْت يَا إلهي فشرفني لديك وإجعل لي سَبِيلا إِلَى أَن أملك كل من ملكتني الْحَيَاة الْبَاقِيَة وَإِنَّمَا الْحَيَاة الْبَاقِيَة أَن يُؤمنُوا بك إِلَهًا وَاحِدًا وبالمسيح الَّذِي بعثت فقد عظمتك على أهل الأَرْض واحتملت مَا أَمرتنِي بِهِ فشرفني لديك وَفِي إنجيل مَتى أَنه قَالَ لتلاميذه لَا تنسبوا أَبَاكُم على الأَرْض فَإِن أَبَاكُم الَّذِي فِي السَّمَاء وَحده وَلَا تدعوا معلمين فَإِن معلمكم الْمَسِيح وَحده فَقَوله لَا تنسبوا أَبَاكُم على الأَرْض أَي لَا تَقولُوا أَنه على الأَرْض وَلكنه فِي السَّمَاء ثمَّ أنزل نَفسه حَيْثُ أنزلهُ الله تَعَالَى فَقَالَ وَلَا تدعوا معلمين فَإِن معلمكم الْمَسِيح وَحده فها هُوَ قد سمى نَفسه معلما فِي الأَرْض وَشهد أَن الههم فِي السَّمَاء وَاحِد ونهاهم أَن ينسبوه لإلهية وَفِي إنجيل لوقا أَنه حِين أَحْيَا الْمَيِّت بِبَاب مَدِينَة نايين حِين أشْفق لأمه لشدَّة حزنها عَلَيْهِ قَالُوا إِن هَذَا النَّبِي لعَظيم وَإِن الله قد تفقد أمته وَلم يَقُولُوا إِن هَذَا إِلَه عَظِيم وَفِي إنجيل يوحنا أَن عِيسَى قَالَ للْيَهُود لست أقدر أَن أفعل من ذاتي شَيْئا لكني أحكم بِمَا أسمع لِأَنِّي لست أنفذ إرادتي بل إِرَادَة الَّذِي بَعَثَنِي وَفِي إنجيله أَيْضا أَنه أعلن صَوته فِي الْبَيْت وَقَالَ للْيَهُود قد عرفتموني موضعي فَلم آتٍ من ذاتي وَلَكِن بَعَثَنِي الْحق وَأَنْتُم تجهلونه فَإِن قلت إِنِّي أجهله كنت كَاذِبًا مثلكُمْ وَأَنا أعلم أَنِّي مِنْهُ وَهُوَ بَعَثَنِي

فَانْظُر كَيفَ أخبر عَن نَفسه أَنه مَعْلُوم عِنْد الْيَهُود وَأخْبر عَن الله أَن الْيَهُود لَا تعرفه وَقَالَ إِنَّه لم يَأْتِ من ذَاته وَلَكِن الله بَعثه وَهَكَذَا كَانَت دَعْوَة من قبله من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وحاشاهم أَن ينتسبوا إِلَى مَا ينْفَرد بِهِ ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام وَفِي الْإِنْجِيل أَيْضا أَنه قَالَ للْيَهُود بعد خطاب طَوِيل مَذْكُور فِي الْإِنْجِيل حِين قَالُوا لَهُ إِنَّمَا أَبونَا إِبْرَاهِيم فَقَالَ إِن كُنْتُم بني إِبْرَاهِيم فاقفوا أَثَره وَلَا تريدوا قَتْلِي على أَنِّي رجل أدّيت إِلَيْكُم الْحق الَّذِي سَمعه من الله غير أَنكُمْ تقفون أثر آبائكم قَالُوا لسنا أَوْلَاد زنا إِنَّمَا نَحن أَبنَاء الله فَقَالَ لَو كَانَ الله أَبَاكُم لحفظتموني لِأَنِّي رَسُول مِنْهُ خرجت مُقبلا وَلم أقبل من ذاتي وَهُوَ بَعَثَنِي لكنكم لَا تقبلون وصيتي وتعجزون عَن سَماع كَلَامي إِنَّمَا أَنْتُم أَبنَاء الشَّيْطَان وتريدون إتْمَام شهواته إِلَى كَلَام كثير وَفِيه أَيْضا أَنه كَانَ يمشي يَوْمًا فأحاطت بِهِ الْيَهُود وَقَالُوا إِلَى مَتى تخفى أَمرك إِن كنت الْمَسِيح المنتظر فأعلمنا بذلك وَلم تقل لَهُ إِن كنت إِلَهًا لِأَنَّهُ لم تعلم من دَعْوَاهُ ذَلِك وَلَا إختلاف عِنْد الْيَهُود أَن الَّذِي ينتظرونه إِنَّمَا هُوَ إِنْسَان نَبِي لَيْسَ بِإِنْسَان إِلَه كَمَا تَزْعُمُونَ وَفِي الْإِنْجِيل أَيْضا عَنهُ أَن الْيَهُود أَرَادوا الْقَبْض عَلَيْهِ فبعثوا لذَلِك الأعوان وَأَن رجعُوا إِلَى قوادهم فَقَالُوا لَهُم لم لم تأخذوه قَالُوا مَا سمعنَا آدَمِيًّا أنصف مِنْهُ فَقَالَت الْيَهُود وَأَنْتُم أَيْضا مخدوعون أَتَرَوْنَ أَنه آمن بِهِ أحد من القواد أَو من رُؤَسَاء أهل الْكتاب إِنَّمَا آمن بِهِ من الْجَمَاعَة من يجهل الْكتاب فَقَالَ لَهُم نيقوديموس أَتَرَوْنَ أَن كتابكُمْ يحكم على أحد قبل أَن يسمع مِنْهُ فقالو لَهُ اكشف الْكتب ترى أَنه لَا يَجِيء نَبِي من جلجال

فَمَا قَالَت الْيَهُود ذَلِك إِلَّا وَقد أنزل لَهُم نَفسه منزلَة نَبِي فَقَط وَلَو علمت من دَعْوَاهُ الإلهية لقاتلته يَوْمئِذٍ وَمثل هَذَا كثير فِي إنجيلهم لَو ذهبت أذكرهُ لطال أمره وَقد تقدم من كَلَام أشعياء أَن الله تَعَالَى قَالَ فِي الْمَسِيح هَذَا غلامي الْمُصْطَفى وحبيبي الَّذِي ارتضت بِهِ نَفسِي وَمن كَلَام عاموس النَّبِي أَن الله قَالَ على لِسَانه ثَلَاثَة ذنُوب أقيل لبني إِسْرَائِيل وَالرَّابِعَة لَا أقيلها بيعهم الرجل الصَّالح وَلم يقل بيعهم إيَّايَ وَلَا قَالَ بيعهم إِلَهًا مُتَسَاوِيا معي فَهَذَا الْمَبِيع لَا يَخْلُو أما أَن يكون هُوَ الْمَسِيح كَمَا تَزْعُمُونَ فَقولُوا فِيهِ كَمَا قَالَ الله أَنه رجل صَالح وَلَا تَقولُوا إِنَّه إِلَه معبود وَأما أَن يكون الْمَبِيع غَيره فَهُوَ الَّذِي شبه للْيَهُود فابتاعوه وصلبوه ويلزمكم إِنْكَار صلوبية الْمَسِيح وَهُوَ كفر عنْدكُمْ وَقد كررنا هَذَا الْمَعْنى فِي هَذَا الْكتاب مرَارًا لكَون النَّصَارَى على إختلاف فرقهم يَعْتَقِدُونَ لَهُ الإلهية على إختلاف فِي كَيْفيَّة ذَلِك كَمَا تقدم وَحَتَّى لقد ذهبت طَائِفَة مِنْهُم إِلَى مقَالَة لم يسمع قطّ فِي أكناف الْعَالم وأطرافه من اجترأ على التفوه بهَا وَنحن نَسْتَغْفِر الله قبل حكايتها ونتبرأ إِلَى الله من مذاهبهم الْفَاسِدَة وَمن الْقَائِل بهَا وَذَلِكَ أَنى وقفت على رِسَالَة بعض الأقسة كَانَ بطليطلة نسبه من القوط قَالَ فِيهَا هَبَط الله بِذَاتِهِ من السَّمَاء والتحم بِبَطن مَرْيَم ثمَّ قَالَ وَهُوَ الْإِلَه التَّام وَالْإِنْسَان التَّام وَمن تَمام رَحمته على النَّاس أَنه رضى بهرق دَمه عَلَيْهِم فِي خَشَبَة الصَّلِيب فمكن الْيَهُود أعداءه من نَفسه ليتم سخطه عَلَيْهِم فَأَخَذُوهُ وصلبوه وغار دَمه فِي إصبعه لِأَنَّهُ لَو وَقع مِنْهُ شَيْء فِي الأَرْض ليبست إِلَّا شي وَقع فِيهَا فيبست فِي مَوْضِعه النوار

لِأَنَّهُ لم يُمكن فِي الْحِكْمَة الأزلة أَن ينْتَقم الله من عَبده العَاصِي آدم الَّذِي ظلمه واستهان بِقَدرِهِ فَلم يرد الله الإنتقام مِنْهُ لإعتلاء منزلَة السَّيِّد وَسُقُوط منزلَة العَبْد أَرَادَ أَن ينتصف من الْإِنْسَان الَّذِي هُوَ إِلَه مثله فانتصف من خَطِيئَة آدم بصلب عِيسَى الْمَسِيح الَّذِي هُوَ إِلَه مسَاوٍ مَعَه فَانْظُرْهُ تواقح هَذَا الْقَائِل وإستخفافه بِحَق الله تَعَالَى وجهله وتناقضه وحمقه فوَاللَّه لَو حكى مثل هَذَا القَوْل السخيف عَن مَجْنُون أَو موسوس لما كَانَ يعْذر بقوله ولبودر بضربه وَقَتله حَتَّى لَا يجترئ على مثله وَنحن نربأ بِأَكْثَرَ المجانين والموسوسين أَن يتقولوا بِهَذَا الْمَذْهَب الغث الهجين أَو ينتحلوا ركاكة هَذَا الدّين السقيم إِلَّا أَن يكون مُسْتَغْرقا فِي الوسوسة وَالْجُنُون فالحمق أَنْوَاع وَالْجُنُون فنون وَعند الْوُقُوف على هَذَا الْمذَاهب القبيحة والأوهام يتَبَيَّن فضل دين الْإِسْلَام ويتحقق معنى قَول النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِذا أَرَادَ الله إِنْفَاذ قَضَائِهِ وَقدره سلب ذَوي الْعُقُول عُقُولهمْ حَتَّى ينفذهُ فيهم وَفِي مثل هَذَا الضَّرْب الْمثل إِذا جَاءَ الْبَين صم الْأذن وعمى الْعين والحمدلله الَّذِي أعاذنا من هَذِه الرذائل وتفضل علينا بدين الحنيفية الَّذِي خص بِكُل الْفَضَائِل الَّتِي يقبلهَا بفطرته الأولى كل عَاقل ويستحسنها كل ذكي فَاضل فقد تحصل من هَاتين المقدمتين معنى النُّبُوَّة وَبَيَان شُرُوطهَا وَأَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام نَبِي وَرَسُول إِذْ قد كملت فِيهِ شُرُوط الرسَالَة وَأَنه لَيْسَ باله وَأَن النَّصَارَى لَيْسُوا عَالمين بِشَيْء من أَحْوَال الْمَسِيح وَلَا من معجزاته على الْيَقِين وَالتَّفْصِيل وغايتهم أَن يعلمُوا أمورا جملية لكثر ة تكْرَار هَذَا الْمَعْنى عَلَيْهِم ثمَّ تِلْكَ الْأَخْبَار الَّتِي يتحدثون بهَا عَن الْمَسِيح وتتكرر عَلَيْهِم لَو كلفوا أَن يسندوا شَيْئا مِنْهَا لغير الْإِنْجِيل كَمَا ينْقل متواترا لما اسْتَطَاعُوا شَيْئا من ذَلِك وَلَا وجدوا إِلَيْهِ سَبِيلا وَمِمَّا يُؤَيّد هَذَا الْمَعْنى ويوضحه أَن الْيَهُود كَانُوا رهطه وكفلته

وَعِنْدهم نَشأ وهم يخالفونكم فِي كثير مِمَّا تنسبون إِلَيْهِ وَلَا يوافقونكم على نقلهَا وَمن ذَلِك أَن الْيَهُود تزْعم أَنهم حِين أَخَذُوهُ حبسوه فِي السجْن أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَقَالُوا مَا كَانَ يَنْبَغِي لنا أَن نحبسه أَكثر من ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا أَنه كَانَ يعضده أحد قواد الرّوم لِأَنَّهُ كَانَ يداخله بصناعة الطِّبّ وَفِي إنجيلكم أَنه أَخذ صبح يَوْم الْجُمُعَة وصلب فِي السَّاعَة التَّاسِعَة من الْيَوْم بِعَيْنِه وَكَذَلِكَ تزْعم الْيَهُود كلهم أَنه لم يظْهر لَهُ معْجزَة وَلَا بَدَت لَهُم مِنْهُ آيَة غير أَنه طَار يَوْمًا وَقد هما بِأَخْذِهِ فطار على أَثَره أحد مِنْهُم فعلاه فِي طيرانه وتوله فَسقط إِلَى الأَرْض بزعمهم ومواضع كَثِيرَة من إنجيلكم تدل على مَا قالته الْيَهُود من أَنه لم يَأْتِ بِآيَة فَمن ذَلِك أَن الْيَهُود قَالَت لَهُ مَا آيتك الَّتِي ترينا ونؤمن بك وَأَنت تعلم أَن آبَاءَنَا قد أكلُوا الْمَنّ والسلوى فِي المفاز فَقَالَ إِن كَانَ أطْعمكُم مُوسَى خبْزًا بالمفاز فَأَنا أطْعمكُم خبْزًا سماويا يُرِيد نعيم الْآخِرَة فَلَو عرفت الْيَهُود لَهُ معْجزَة لما قَالَت ذَلِك ثمَّ لم يجبهم على قَوْلهم بمعجزة وَلَا آيَة وَفِي إنجيلكم أَن الْيَهُود جَاءُوا يسألونه آيَة فقذفهم وَقَالَ إِن الْقَبِيلَة الْفَاجِرَة الخبيثة تطلب آيَة وَلَا تُعْطى ذَلِك وَفِيه أَيْضا أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ وَهُوَ على الْخَشَبَة بظنكم إِن كنت الْمَسِيح فَأنْزل نَفسك نؤمن بك يطْلبُونَ مِنْهُ بذلك آيَة فَلم يفعل

وَمثل هَذَا كثير فِيهِ ثمَّ إِن الْيَهُود عِنْدهم من الإختلاف فِي أمره مَا يدل على عدم يقينهم بِشَيْء من أخباره فَمنهمْ من يَقُول إِنَّه كَانَ رجلا مِنْهُم يعْرفُونَ أَبَاهُ وَأمه وينسبونه لزانية وحاشى لله كذبُوا ويسمون أَبَاهُ للزنية البندير الرُّومِي وَأمه مرم الماشطة كذبُوا لعنهم الله ويزعمون أَن زَوجهَا يُوسُف لما رأى البندير عَنْهَا على فراشها وتشعر بذلك فهجرها وَأنكر إبنها وَمِنْهُم من يَقُول أَنه لم يتَوَلَّد من غير أَب وينكره وَيَقُول إِنَّمَا أَبوهُ يُوسُف بن يهوذا الَّذِي كَانَ زوجا لِمَرْيَم ثمَّ إِن الْيَهُود لعنهم الله أطبقت على إِطْلَاق الذَّم عَلَيْهِ ثمَّ اخْتلفُوا فِي سبه فَمنهمْ من قَالَ مَا تقدم وَمِنْهُم من ذكر سبا آخر وَهُوَ أَنهم زَعَمُوا أَنه كَانَ يَوْمًا مَعَ معلمه يهوشوع بن برخيا وَسَائِر التلاميذ فِي سفر فنزلوا موضعا وَجَاءَت إمرأة من أَهله وَجعلت تبالغ فِي كرامتهم فَقَالَ يهوشوع مَا أحسن هَذِه الْمَرْأَة يُرِيد فعلهَا فَقَالَ عِيسَى بزعمهم لعنهم الله لَوْلَا عمش فِي عينيها فصاح يهوشوع وَقَالَ لَهُ مَا ممزار تَرْجَمته يَا زنيم أتزنى بِالنّظرِ وَغَضب عَلَيْهِ عضبا شَدِيدا وَعَاد إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَحرم باسمه ولعنه فِي أَربع مائَة قرن قَالُوا فَحِينَئِذٍ لحق بزعمهم بِبَعْض قواد الرّوم وداخله بصناعة الطِّبّ فقوى لذَلِك بزعمهم على الْيَهُود وهم يَوْمئِذٍ فِي ذمَّة قَيْصر تباريوش وَجعل يُخَالف حكم التَّوْرَاة ويستدرك عَلَيْهَا ويعرض عَن بَعْضهَا إِلَى أَن كَانَ من أمره مَا كَانَ وَمِنْهُم من يَقُول إِن ذَلِك إِنَّمَا أطلق عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمًا يلاعب الصّبيان فِي صغره بالكرة فَوَقَعت لَهُ بَين جمَاعَة من مَشَايِخ الْيَهُود فضعف الصّبيان عَن استخراجها من بَينهم حَيَاء من المشائخ فقوى عِيسَى وتخطى رقابهم وَأَخذهَا فَقَالُوا لَهُ مَا نظنك إِلَّا زنيما فأمضيت عَلَيْهِ هَذِه الشتيمة وَكَذَلِكَ يخْتَلف فِي صَنْعَة أَبِيه الَّذِي تَقولُونَ أَنْتُم فِيهِ خطيب

أمه فَمنهمْ من يَقُول يُوسُف النجار وَبَعْضهمْ يَقُول إِنَّمَا هُوَ الْحداد وَكَذَلِكَ تختلفون أَنْتُم فِي إسم أَبِيه فبعضكم يَقُول يُوسُف بن يَعْقُوب وبعضكم يَقُول يُوسُف بن هالى وَكَذَلِكَ اختلفتم أَنْتُم فِي آبَائِهِ وَفِي عدده فمنكم من يقلل ومنكم من يكثر على مَا تقدم فَهَذَا الإختلاف الْكثير والإضطراب الْبَين الشهير يدل على أَنكُمْ وَالْيَهُود فِي شكّ مِنْهُ وَأَنه لم يثبت عنْدكُمْ خبر متواتر عَنهُ وَإِنَّمَا هِيَ ظنون كَاذِبَة وأوهام راتبة وسنبين مدَاخِل الشَّك والأوهام عَلَيْهِم فِي قَوْلهم بصلوبيته ونبين أَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي قَوْلهم بصلبه كاذبون وَأَنَّهُمْ {فِي ريبهم يَتَرَدَّدُونَ} فلولا أَن من الله علينا بفضله علينا وَعَلَيْكُم معاشر النَّصَارَى بِأَن بعث إِلَى الْجَمِيع سيد الْمُرْسلين لبقى الْجَمِيع من أَمر عِيسَى حيارى فنزه الله الْمَسِيح وَأمه على لِسَان نبيه مِمَّا قالته الْيَهُود فيهمَا من الْأَقْوَال الوخيمة ونسبوه لَهَا من الهجاء والشتيمة وكما شهد بِبَرَاءَة الْمَسِيح وَأمه مِمَّا نسبته الْيَهُود إِلَيْهِمَا كَذَلِك شهد ببراءتهما مِمَّا نسبتموهما أَنْتُم إِلَيْهِ وتقولتموه عَلَيْهِمَا وَذَلِكَ أَن مِنْكُم طَائِفَة يَقُولُونَ إِن مَرْيَم إِلَه وَقد أطبقتم على أَن الْمَسِيح إِلَه وإبن الْإِلَه وَنَبِينَا عَلَيْهِ السَّلَام يَقُول مخبرا عَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {مَا الْمَسِيح ابْن مَرْيَم إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل وَأمه صديقَة} فَإِذا سمع الْقَائِل قَوْله فيهمَا علم بعقله أَن ذَلِك القَوْل هُوَ الْحق وَإِن كَانَ مِمَّن طالع الزبُور علم أَن دُعَاء دَاوُود مستجاب ومقاله صدق وَذَلِكَ أَن فِي الزبُور أَن الله تَعَالَى قَالَ لداوود سيولد لَك ولد أدعى لَهُ أَبَا ويدعى لي إبنا فَقَالَ

اللَّهُمَّ ابْعَثْ جَاعل السّنة كي يعلم النَّاس أَنه بشر فَاعْتبر قَول دَاوُود حِين أفزعه ذَلِك وراعه كَيفَ دَعَا إِلَى الله أَن يبْعَث جَاعل السّنة الَّذِي يعلم النَّاس أَن ذَلِك الْوَلَد الْمَدْعُو إِنَّمَا هُوَ بشر وَكَذَلِكَ قَالَ الْمَسِيح على مَا حَكَاهُ إنجيلكم اللَّهُمَّ ابْعَثْ البارقليط ليعلم النَّاس أَن ابْن الْإِنْسَان بشر والبارقليط بالرومية هُوَ مُحَمَّد بِالْعَرَبِيَّةِ فَلَمَّا ضللتم وتفوهتم بذلك وراغمتم أَدِلَّة الْعُقُول وَكَلَام الْأَنْبِيَاء الْمَنْقُول بعث الله جَاعل السّنة وَكَاشف الْغُمَّة مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأعْلم النَّاس أَنه بشر لَيْسَ بإلاه وَلَا ابْن إِلَه فَقَالَ مبلغا عَن الله {وَقَالَت النَّصَارَى الْمَسِيح ابْن الله ذَلِك قَوْلهم بأفواههم يضاهئون قَول الَّذين كفرُوا من قبل قَاتلهم الله أَنى يؤفكون اتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله والمسيح ابْن مَرْيَم وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَه إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يشركُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا يَنْبَغِي للرحمن أَن يتَّخذ ولدا إِن كل من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض إِلَّا آتِي الرَّحْمَن عبدا} وَنَذْكُر الْآن هُنَا خبر النَّجَاشِيّ ليَكُون منبهة للعاقل ومردعة للجاهل وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى لما بعث مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتبعهُ جمَاعَة مِمَّن نور الله قلبه وَشرح لِلْإِسْلَامِ صَدره وَذَلِكَ فِي أول الْأَمر فآمنوا بِهِ والتزموا شَرعه وَأَحْكَامه فَكَانَ كفار قُرَيْش والمخالفون لَهُم فِي أديانهم يؤذونهم ويعذبونهم يرومون بذلك ردهم عَن دينهم كَمَا قد فعل بأتباع الْأَنْبِيَاء قبلهم فَلَمَّا أَشْتَدّ عَلَيْهِم الْأَمر شكوا ذَلِك لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَمرهمْ أَن يهاجروا إِلَى أَرض الْحَبَشَة وَوَعدهمْ بِأَن يَجْعَل الله من أَمرهم فرجا وَأخْبرهمْ أَن بهَا ملكا عَظِيما لَا يظلم عِنْده أحد فَفَعَلُوا فقدموا على النَّجَاشِيّ وإسمه أَصْحَمَة وَكَانَ على صميم دين النَّصْرَانِيَّة

فَلَمَّا قدمُوا عَلَيْهِ اسْتَقر بهم الْمنزل ووجدوه خير منزل فأقاموا هُنَالك دينهم واغتبط النَّجَاشِيّ بصحبتهم وهم بجواره فَلَمَّا رأى كفار قُرَيْش أَن قد وجدوا بِأَرْض النَّجَاشِيّ أمنا ودعة وجهوا إثنين مِنْهُم وأصحبوهما هَدَايَا جليلة إِلَى النَّجَاشِيّ وأقسته وطلبوا مِنْهُ وَمن أساقفته أَن يسلمهم لَهما فَلَمَّا قدما أَرض النَّجَاشِيّ دفعا لأقسته هداياهم وطلبا مِنْهُم أَن يعينوهما على ردهم مَعَهُمَا وإسلامهم لقومهما ثمَّ دفعا للنجاشي هديته وَقَالا لَهُ أَيهَا الْملك قد ضوا إِلَى بلدك منا غلْمَان سُفَهَاء فارقوا دين قَومهمْ وَلم يدخلُوا فِي دينك وَجَاءُوا بدين ابتدعوه لانعرفه نَحن وَلَا أَنْت وَقد بعث 4 نَا إِلَيْك فيهم أَشْرَاف قَومهمْ من آبَائِهِم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إِلَيْهِم فهم أعل بهم عينا وَأعلم بِمَا عابوا عَلَيْهِم فأسلمهم إِلَيْهِم فَغَضب النَّجَاشِيّ ثمَّ قَالَ لَا وَالله لَا أسلمهم إِلَيْهِمَا أبدا وَلَا يكَاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي لَا أسلمهم حَتَّى أدعوهم فأسألهم عَمَّا يَقُول هَذَانِ فِي أَمرهم ثمَّ أرسل إِلَى أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجَاءُوا وَقد دَعَا النَّجَاشِيّ أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله فَقَالَ لَهُم مَا هَذَا الدّين الَّذِي فارقتم بِهِ قومكم وَلم تدْخلُوا فِي ديني وَلَا دين أحد من هَذِه الْملَل كَافَّة فَكَلمهُ جَعْفَر بن أبي طَالب فَقَالَ أَيهَا الْملك كُنَّا قوما أهل جَاهِلِيَّة نعْبد الْأَصْنَام وَنَأْكُل الْميتَة ونأتي الْفَوَاحِش ونقطع الْأَرْحَام ونسيء الْجوَار وَيَأْكُل الْقوي الضَّعِيف فَكُنَّا على هَذَا حَتَّى بعث الله إِلَيْنَا رَسُولا نعرفه ونعرف نسبه وأمانته وَصدقه وعفافه فَدَعَانَا إِلَى الله لنوحده ونعبده ونخلع مَا كُنَّا نعْبد نَحن وآباؤنا من الْحِجَارَة والأوثان وأمرنا بِصدق الحَدِيث وَأَدَاء الْأَمَانَة وصلَة الرَّحِم وَحسن الْجوَار والكف عَن الْمَحَارِم والدماء ونهانا عَن الْفَوَاحِش وَأكل مَال الْيَتِيم وَقذف الْمُحْصنَات

وأمرنا أَن نعْبد الله وَلَا نشْرك بِهِ شَيْئا وأمرنا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَالصِّيَام وَعدد عَلَيْهِ أُمُور الْإِسْلَام فَصَدَّقْنَاهُ وآمنا بِهِ وإتبعناه على مَا جَاءَ بِهِ عَن الله فَعدى علينا قَومنَا وعذبونا وفتنونا عَن ديننَا ليردونا إِلَى عبَادَة الْأَوْثَان وَأَن نستحل مَا كُنَّا نستحل من الْخَبَائِث فَلَمَّا قهرونا وظلمونا خرجنَا إِلَى بلادك وإخترناك على من سواك ورغبنا فِي جوارك ورجونا أَلا نظلم عنْدك فَقَالَ النَّجَاشِيّ هَل مَعَك مِمَّا جَاءَ بِهِ عَن الله من شَيْء فَقَالَ لَهُ جَعْفَر نعم فَقَالَ اقرأه فَقَرَأَ عَلَيْهِ جَعْفَر صَدرا من {كهيعص} فَبكى وَالله النَّجَاشِيّ حَتَّى أخضل لحيته وبكت أساقفته حَتَّى أخضوا لحاهم حِين سمعُوا مَا تَلا عَلَيْهِم ثمَّ قَالَ النَّجَاشِيّ إِن هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى ليخرج من مشكاة وَاحِدَة انْطَلقَا فَلَا وَالله لَا أسلمهم إلَيْكُمَا وَلَا أكاد فَلَمَّا خرجا من عِنْده وَقد يئسا من مرادهما قَالَ أَحدهمَا وَهُوَ عَمْرو بن الْعَاصِ لَآتِيَنه عَنْهُم غَدا بِمَا يُهْلِكهُمْ لأَجله ثمَّ غَدا عَلَيْهِ من الْغَد فَقَالَ أَيهَا الْملك إِنَّهُم يَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْن مَرْيَم قولا عَظِيما فَأرْسل إِلَيْهِم ليسألهم قَالُوا وَلم ينزل بِنَا مثلهَا فَاجْتمع الْقَوْم ثمَّ قَالَ بَعضهم لبَعض مَاذَا تَقولُونَ فِي عِيسَى إِذا سألكم قَالُوا نقُول وَالله مَا قَالَ الله وَمَا جَاءَ بِهِ نَبينَا كَائِنا فِي ذَلِك مَا كَانَ فَلَمَّا دخلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُم مَا تَقولُونَ فِي عِيسَى ابْن مَرْيَم فَقَالَ لَهُ جَعْفَر بن أبي طَالب نقُول فِيهِ الَّذِي جَاءَنَا بِهِ نَبينَا هُوَ عبد الله وَرَسُوله وروحه وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم الْعَذْرَاء البتول قَالَ فَضرب النَّجَاشِيّ بِيَدِهِ إِلَى الأَرْض فَأخذ مِنْهَا عودا ثمَّ ثمَّ مَا عدا عِيسَى ابْن مَرْيَم مَا قلت هَذَا الْعود فتناخرت بطارقته حوله حِين قَالَ مَا قَالَ فَقَالَ وَإِن نخرتم وَالله اذْهَبُوا فَأنْتم شيوم ترجتمه آمنون

فَهَذَا قَول أهل الْعلم من قبلكُمْ العارفين بشريعتكم وَمَا عدا ذَلِك فشجرته عثاء وأوضار {اجتثت من فَوق الأَرْض مَا لَهَا من قَرَار} وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَول هِرقل اثر هَذَا الْبَاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى كمل الْجُزْء الثَّانِي والحمدلله وَحده انْتهى الْجُزْء الثَّانِي من كتاب الْإِعْلَام بِمَا فِي دين النَّصَارَى من الْفساد والأوهام وَإِظْهَار محَاسِن دين الْإِسْلَام وَإِثْبَات نبوة نَبينَا مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام ويليله الْجُزْء الثَّالِث بِإِذن الله وأوله أَنْوَاع الْقسم الثَّانِي فِي إِثْبَات نبوة نَبينَا مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام

الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام

الْإِعْلَام بِمَا فِي دين النَّصَارَى من الْفساد والأوهام وَإِظْهَار محَاسِن دين الْإِسْلَام وَإِثْبَات نبوة نَبينَا مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام تأليف الإِمَام الْقُرْطُبِيّ تَقْدِيم وَتَحْقِيق وَتَعْلِيق الدكتور أَحْمد حجازي السقا الْجُزْء الثَّالِث

أنواع القسم الثاني

أَنْوَاع الْقسم الثَّانِي فِي إِثْبَات نبوة نَبينَا مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام نقُول إِن مُحَمَّد بن عبد الله الْعَرَبِيّ الْقرشِي الْهَاشِمِي الْإِسْمَاعِيلِيّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَادِق فِي كل مَا أخبر بِهِ عَن الله تَعَالَى وَلَا يجوز عَلَيْهِ شَيْء من الْكَذِب ونستدل على ذَلِك بأدلة صادعة وبراهين قَاطِعَة أُصُولهَا أَرْبَعَة الأول أَنْوَاع أَخْبَار الْأَنْبِيَاء قبله ووصفهم لَهُ فِي كتبهمْ الثَّانِي النّظر فِي قوانين أَحْوَاله الثَّالِث الْكتاب الْعَزِيز الرَّابِع مَا ظهر على يَدَيْهِ من خوارق الْعَادَات فَهَذِهِ أَرْبَعَة أَنْوَاع

النوع الأول

النَّوْع الأول من الْأَدِلَّة على نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِخْبَار الْأَنْبِيَاء بِهِ قبله وَإِنَّمَا قدمنَا هَذَا النَّوْع وَإِن كَانَ غَيره أولى بالتقديم لكَون الْأَنْبِيَاء الخبيرين بعلاماته متقدمين عَلَيْهِ فِي الزَّمَان وَلكَون هَذِه البشائر كَانَت مَعْرُوفَة قبل مَجِيئه وَلكَون السَّائِل الَّذِي كتبنَا هَذَا الْكتاب جَوَابه لم يطْلب منا بجهله إِلَّا الإستدلال بِمَا جَاءَ فِي كتب الْأَنْبِيَاء وليكون هَذَا الْبَاب مؤنسا لَهُ وباعثا على النّظر فِيمَا بعده ولتعلم أَن الإستدلال بِهَذَا النَّوْع لَا ينْتَفع بِهِ إِلَّا من صدق بِتِلْكَ الْكتب وتواترت عِنْده وَمن خلى عَن شَيْء من ذَلِك لَا ينْتَفع بِشَيْء مِنْهَا وَلَا يسْتَدلّ بهَا عَلَيْهِ وَأما مَا بعد هَذَا النَّوْع فيستدل بِهِ على كل من أنكر نبوته من سَائِر الْفرق فَأَما هَذَا النَّوْع فَإِنَّمَا هُوَ حجَّة على الْيَهُود وَالنَّصَارَى لإدعائهم أَن تِلْكَ الْكتب تَوَاتَرَتْ عِنْدهم وَهَذَا النَّوْع عندنَا على التَّحْقِيق إِنَّمَا هُوَ دَاخل فِي بَاب الإلزامات لَهُم ليظْهر عنادهم وإفحامهم ثمَّ لتعلم أَنا إِنَّمَا نذْكر أَخْبَار الْأَنْبِيَاء المبشرة بنبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كتبهمْ الَّتِي بِأَيْدِيهِم وعَلى مَا ترجمها مترجموهم من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان فَمن ذَلِك مَا جَاءَ فِي التَّوْرَاة أَن الله قَالَ لمُوسَى بن عمرَان إِنِّي أقيم لبني إِسْرَائِيل من إِخْوَتهم نَبِي مثلك أجعَل كَلَامي على فِيهِ فَمن عَصَاهُ انتقمت مِنْهُ فَإِن قلت إِن ذَلِك إِنَّمَا هُوَ يشوع بن نون قُلْنَا لَا

ومن ذلك

فقد قَالَ فِي آخر التَّوْرَاة لَا يخلف من بني إِسْرَائِيل نَبِي مثل مُوسَى فَلَا محَالة أَن ذَلِك الَّذِي بشرت بِهِ التَّوْرَاة لَا يكون من بني إِسْرَائِيل لَكِن من إخْوَة بني إِسْرَائِيل فلننظر من هم إخْوَة بني إِسْرَائِيل فَلَا محَالة أَنهم الْعَرَب أَو الرّوم فَأَما الرّوم فَلم يكن مِنْهُم نَبِي سوى أَيُّوب وَكَانَ قبل مُوسَى بِزَمَان فَلَا يجوز أَن يكون هُوَ الَّذِي بشرت بِهِ التَّوْرَاة فَلم يبْق إِلَّا الْعَرَب فَهُوَ إِذن مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام وَقد قَالَ فِي التَّوْرَاة حِين ذكر إِسْمَاعِيل جد الْعَرَب أَنه يضع فسطاطه فِي وسط بِلَاد إخْوَته فكنى عَن بني إِسْرَائِيل بإخوة إِسْمَاعِيل كَمَا كنى عَن الْعَرَب بإخوة بني إِسْرَائِيل فِي قَوْله إِنِّي أقيم لبني إِسْرَائِيل من إِخْوَتهم نَبِي مثلك وَيدل على ذَلِك أَيْضا قَوْله أجعَل كَلَامي على فِيهِ فَإِن هَذَا تَصْرِيح بِالْقُرْآنِ إِذْ هُوَ كَلَام الله الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتلقيناه من فلق فِيهِ وَيدل أَيْضا على ذَلِك قَوْله من عَصَاهُ انتقمت مِنْهُ إِذْ قد فعل الله ذَلِك بصناديد قُرَيْش وَعُظَمَاء مُلُوك الرّوم وَغَيرهم فهم بَين أَسِير وقتيل ومعطى الْجِزْيَة على وَجه الصغار والذلة {ولعذاب الْآخِرَة أشق} وَمن ذَلِك مَا جَاءَ فِيهَا أَنه قَالَ وَهَذِه هِيَ الْبركَة الَّتِي بَارك بهَا مُوسَى رجل الله بني إِسْرَائِيل قبل مَوته فَقَالَ جَاءَ الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جَبَّار فاران وَمَعَهُ جمَاعَة من الصَّالِحين

ومن ذلك

فمجيئه من جبل سيناء أَن الله أنزل فِيهِ التَّوْرَاة وكلم عَلَيْهِ مُوسَى وإشراقه من جبل ساعير أَن دين الْمَسِيح إِنَّمَا أشرق من جبال ساعير وَهِي جبال الرّوم من أدوم وإستعلانه من جبال فاران أَن الله تَعَالَى بعث مِنْهَا مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأوحى إِلَيْهِ فِيهَا وَلَا اخْتِلَاف أَن فاران مَكَّة وَقد قَالَ فِي التَّوْرَاة إِن الله أسكن هَاجر وإبنها إِسْمَاعِيل فاران وَفِي بعض التراجم أقبل السَّيِّد من سيناء وَمن شعير ترَاءى لنا وَأَقْبل من جبال فاران وَمَعَهُ آلَاف من الصَّالِحين وَمَعَهُ كتاب نَارِي وَهُوَ ختم الْأَجْنَاس وَجَمِيع الصَّالِحين فِي قَبضته وَمن تدانى من قَدَمَيْهِ يصب من علمه ففكر على إنصاف وَتثبت من الجائي الْمقبل من جبال فاران مَعَ الآلاف من الصَّالِحين وَمن جَاءَ بِالْكتاب الَّذِي مَا مِنْهُ سُورَة لَا وفيهَا الْوَعيد على الْمُخَالف بالنَّار وعذابها وأنكالها وأغلالها وَمن ذَلِك مَا جَاءَ فِيهَا أَيْضا أَن الله قَالَ لإِبْرَاهِيم قد استجبتك فِي إِسْمَاعِيل وباركته وكثرته وأنميته جدا جدا يُولد لَهُ اثْنَا عشر عَظِيما وأجعله لشعب عَظِيم وَلَا يشك فِي أَن الشّعب الْعَظِيم هُوَ مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام وَأمته إِذْ لم يكن فِي ولد إِسْمَاعِيل أعظم مِنْهُم وَقد تفطن بعض النبهاء مِمَّن نَشأ على لِسَان الْيَهُود وَقَرَأَ بعض كتبهمْ فَقَالَ فِي التَّوْرَاة موضعان يخرج مِنْهُمَا إسم مُحَمَّد بِالْعدَدِ على مَا تستعمله الْيَهُود فِيمَا بَينهم ثمَّ ذكر مَا قَدمته من قَول الله لإِبْرَاهِيم قد استجبتك فِي إِسْمَاعِيل

وفي التوراة

فَأَما قَوْله جدا جدا فَهُوَ بِتِلْكَ اللُّغَة بمأد ماد وَعدد هَذِه الْحُرُوف إثنان وَتسْعُونَ وَذَلِكَ أَن الْبَاء عِنْدهم إثنان وَالْمِيم أَرْبَعُونَ وَالْألف وَاحِد وَالدَّال أَرْبَعَة وَالْمِيم الثَّانِيَة أَرْبَعُونَ وَالْألف وَاحِد وَالدَّال أَرْبَعُونَ وَكَذَلِكَ الْمِيم من مُحَمَّد أَرْبَعُونَ والحاء ثَمَانِيَة وَالْمِيم أَرْبَعُونَ وَالدَّال أَرْبَعَة وَأما قَوْله لشعب عَظِيم فَهُوَ بِتِلْكَ اللُّغَة لغَوِيّ غدول فَاللَّام عِنْدهم ثَلَاثُونَ والغين ثَلَاثَة وَهِي عِنْدهم مقَام الْجِيم إِذْ لَيْسَ فِي لغتهم جِيم وَلَا ضاد وَالْوَاو سِتَّة وَالْيَاء عشرَة والغين أَيْضا ثَلَاثَة وَالدَّال أَرْبَعَة وَالْوَاو سِتَّة وَاللَّام ثَلَاثُونَ فمجموع هَذِه أَيْضا إثنان وَتسْعُونَ وَهَذَا من رَشِيق الْفَهم وملح الْبَحْث وغرائب الْعلم وَفِي التَّوْرَاة ايضا أَن ملاك الرب قَالَ لهاجر ستلدين إبنا وتدعين إسمه إِسْمَاعِيل يَده على كل وَيَد كل بِهِ وسيحل على جَمِيع حُدُود إخْوَته وَلَا محَالة أَن إِسْمَاعِيل وَولده لم تكن أَيْديهم إِلَّا تَحت يَد إِسْحَق لِأَن النُّبُوَّة وَالْملك إِنَّمَا كَانَا فِي ولد إِسْحَق فَلَمَّا بعث الله تَعَالَى مُحَمَّدًا جعل يَد بني إِسْمَاعِيل فَوق أَيدي الْجَمِيع ورد النُّبُوَّة وَالْملك فيهم وأنماهم وعظمهم وَبَارك عَلَيْهِم جدا جدا وَمن ذَلِك مَا جَاءَ فِي الزبُور الَّذِي بِأَيْدِيكُمْ أَنه قَالَ سبحوا الرب تسبيحا حَدِيثا سبحوا الَّذِي هيكله الصالحون ليفرح إِسْرَائِيل بخالقه وَبَنُو صهيون من أجل أَن الله اصْطفى لَهُم أمة وَأَعْطَاهُمْ النَّصْر وسدد الصَّالِحين مِنْهُم بالكرامة يسبحون الله على مضاجعهم ويكبرونه بِأَصْوَات مُرْتَفعَة بِأَيْدِيهِم سيوف ذَوَات شفرتين لينتقم الله بهم من الْأُمَم الَّذين لَا يعبدونه يوثقون مُلُوكهمْ بالقيود وأشرافهم بالأغلال

أخبرونا

أخبرونا يَا هَؤُلَاءِ الجاحدون للحق المعرضون عَن أَخْبَار الصدْق من هَذِه الْأمة الَّتِي سيوفها سيوف ذَوَات شفرتين ينْتَقم الله بهم من الْأُمَم الَّذين لَا يعبدونه وَمن الْمَبْعُوث بِالسَّيْفِ من الْأَنْبِيَاء وَمن الَّذين يكبرُونَ الله بِأَصْوَات مُرْتَفعَة فِي الْأَذَان هَذِه أَوْصَاف مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأوصاف أمته بِلَا ريب وَلَا رجم غيب وَفِي الزبُور أَيْضا ذكر صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ وَيجوز من الْبَحْر إِلَى الْبَحْر وَمن مُنْقَطع الْأَنْهَار إِلَى مُنْقَطع الْأَنْهَار وَأَنه يخر أهل الجزائر بَين يَدَيْهِ على ركبهمْ ويلحس أعداؤه بِالتُّرَابِ وتأتيه مُلُوك بالقرابين وتسجد لَهُ وَتَدين لَهُ الْأُمَم بِالطَّاعَةِ والإنقياد لِأَنَّهُ يخلص المضطهد البائس من الْأَقْوَى مِنْهُ وينقذ الضَّعِيف الَّذِي لَا نَاصِر لَهُ ويرأف بالضعفاء وَالْمَسَاكِين وَأَنه يعْطى من ذهب بِلَاد سبأ وَيُصلي عَلَيْهِ فِي كل وَقت ويدوم أمره إِلَى آخر الدَّهْر تَأمل أَوْصَاف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهِيَ على مَا ذكر مَا غادر مِنْهَا وَاحِدًا وَلم تَجْتَمِع هَذِه الصِّفَات والعلامات لأحد قبله على مَا هُوَ مَعْرُوف من أَحْوَال الْأَنْبِيَاء الْمُتَقَدِّمين عِنْد الْعلمَاء المنصفين غير الْجَاهِلين المتعصبين وَفِي الزبُور أَيْضا أَن الله تَعَالَى أظهر من صهيون أكليلا مَحْمُودًا فالأكليل ضرب مثل لرياسته ومحمود هُوَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد بلغ دينه صهيون غَيره وَفِيه أَيْضا تقلد أَيهَا الْجَبَّار سَيْفك فَإِن ناموسك وشريعتك مقرونة بيمينك وسهامك مسنونة والأمم يخرون تَحْتك تَأمل من الْجَبَّار الْآتِي بشرائع يظهرها بِالسَّيْفِ والسهام فَإنَّك إِذا تَأَمَّلت ذَلِك لم تَجِد على هَذِه الصِّفَات أحدا من عهد دَاوُود إِلَّا

وقد تقدم قول داوود

النَّبِي مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَهُوَ المبشر بِهِ لَا محَالة وَقد تقدم قَول دَاوُود اللَّهُمَّ ابْعَثْ جَاعل السّنة كي يعلم النَّاس أَنه بشر فَلْينْظر هُنَالك فَإِنَّهُ نَص على نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ جَاعل السّنة وَهُوَ أخبر بِأَن الْمَسِيح بشر وَلَيْسَ باله وَفِي الزبُور تَرْجَمَة وهب بن مُنَبّه يَقُول الله تَعَالَى لداوود عَلَيْهِ السَّلَام فِي المزمور الْخَامِس إسمع مَا أَقُول وَمر سُلَيْمَان فليقله للنَّاس من بعْدك إِن الأَرْض لي أورثها مُحَمَّدًا وَأمته فهم خلافكم لم تكن صلَاتهم بالطنابير وَلَا قدسوني بالأوتار وَهَذَا تَصْرِيح بإسمه وتأييد شَرِيعَته وبصفات أمته وزبور وهب بن مُنَبّه هَذَا الَّذِي نقلت مِنْهُ أصح مَا يُوجد من كتاب الزبُور فَإِنَّهُ أوثق وَأعلم من كل تَرْجَمَة فِي سالف الدهور وَلَكِن النَّصَارَى مَعَ ذَلِك يكذبُون إِذْ هم جاهلون ومعاندون وَمن ذَلِك ماجاء فِي الْإِنْجِيل الَّذِي بِأَيْدِيكُمْ أَن الْمَسِيح قَالَ إِن كُنْتُم تحبونني فاحفظوا وصاياي وسأرغب إِلَى الآب فِي أَن يبْعَث إِلَيْكُم البرقليط ليَكُون مَعكُمْ إِلَى الْأَبَد روح الْحق الَّذِي لَا تقبله الدُّنْيَا لِأَنَّهَا لَا ترَاهُ وَلَا تعرفه وَأَنْتُم تعرفونه لِأَنَّهُ نازك عَلَيْك وعندكم لابث وَلست أدعكم أيتاما وَفِيه أَيْضا عَن يوحنا أَن الْمَسِيح قَالَ سينفعكم ذهابي لِأَنِّي إِن لم أذهب لم يأتكم البرقليط وَإِن ذهبت سأبعثه إِلَيْكُم وَإِذا قدم سيعرف الدُّنْيَا بالمأثم وَالْعدْل وَالْحكم فَأَما المأثم فتركهم الْإِيمَان بِي وَأما الْعدْل فذهابي إِلَى الآب وَلَا تروني بعْدهَا وَأما الَّذِي يحكم بِي فِيهَا فَإِنَّهُ يحكم على صَاحب الدُّنْيَا ويقهر

وفيه أيضا

وَقد بقيت لي أَشْيَاء كَثِيرَة أعلمكُم بهَا إِلَّا أَنكُمْ لَا تحملونها الْآن فَإِذا قدم الرّوح الصَّادِق فَهُوَ يعرفكم بِالصَّوَابِ وَلَيْسَ يعلمكم من ذَاته إِلَّا بِمَا يسمع وسيعلمكم بِمَا يكون وسيعظمني لِأَنَّهُ يُصِيب مني ويعلمكم وَفِيه أَيْضا أَن الْمَسِيح قَالَ للحواريين الَّذِي يبغضني يبغض أبي فَلَو لم أطلع عِنْدهم من الْعَجَائِب مَا لم يطلع غَيْرِي لم يكن قبلهم ذَنْب وَلَكنهُمْ الْآن قد عابوا وكرهوني ليتم مَا كتب فِي كتبهمْ حَيْثُ قَالَ أَنهم كرهوني بِلَا ذَنْب فَإِذا أقبل البرقليط الَّذِي أبْعث إِلَيْكُم من عِنْد الآب الرّوح الصَّادِق المنبثق من الآب هُوَ يُؤَدِّي الشَّهَادَة عني وَأَنْتُم تستشهدون لأنكم كُنْتُم معي من أول الْأَمر وَإِنَّمَا أَقُول لكم هَذَا لِئَلَّا يواقعكم التشكيك فالبرقليط بالرومية المنحمنا بالسُّرْيَانيَّة وَهُوَ مُحَمَّد بِالْعَرَبِيَّةِ فَتَأمل هَذِه البشائر الَّتِي لَا ينكرها إِلَّا معاند مجاهر فقد أخبر بِهِ الْمَسِيح بِالْعينِ والإسم وَالْأَفْعَال {فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال} وَفِيه أَيْضا أَنه قَالَ للْيَهُود وتقولون لَو كُنَّا فِي أَيَّام آبَائِنَا لم نساعدهم على قتل الْأَنْبِيَاء فَأتمُّوا كيل آبائكم يَا ثعابين بني الأفاعي كَيفَ لكم والنجاة من عَذَاب النَّار وسأبعث إِلَيْكُم أَنْبيَاء وعلماء وستقتلون مِنْهُم وتصلبون وتجلدونهم فِي جماعتكم وتطلبونهم من مَدِينَة إِلَى أُخْرَى لتتكامل عَلَيْكُم دِمَاء الْمُؤمنِينَ المهراقة على الأَرْض من دم هابيل الصَّالح إِلَى دم زَكَرِيَّا بن برخيا الَّذِي قَتَلْتُمُوهُ بَين المذبح والهيكل آمين آمين أَقُول أَنه سَيَأْتِي جَمِيع مَا وصفت على هَذِه الْأمة يرشالم يرشالم الَّتِي تقتل الْأَنْبِيَاء وَترْجم من بعث إِلَيْهَا قد أردْت أَن أجمع بنيك جمع الدَّجَاجَة فراريجها تَحت جناحيها وكرهت أَنْت ذَلِك

وفيه أيضا

سأقفر عَلَيْكُم بَيتكُمْ وَأَنا أَقُول لكم لَا تروني الْآن حَتَّى يَأْتِي من تَقولُونَ لَهُ مبارك الْآتِي على اسْم الله تَأمل بشارته بِالنَّبِيِّ مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام وتوعده لَهُم بالإنتقام مِنْهُم على يَدَيْهِ فَإِذا تَأَمَّلت هَذَا على جِهَة الْإِنْصَاف لَاحَ الْحق لَك وَإِلَّا فَمن {كَانَ فِي هَذِه أعمى فَهُوَ فِي الْآخِرَة أعمى وأضل سَبِيلا} وَقَوله سأبعث فِي الْمَوْضِعَيْنِ تَحْرِيف بِدَلِيل قَوْله فِيمَا تقدم سأرغب إِلَى الآب فِي أَن يبْعَث إِلَيْكُم البرقليط فقد صرح هُنَا بِأَن الْبَاعِث لَهُ هُوَ الله لَا هُوَ وَهُوَ الْحق إِذْ قد تبين أَن الْمَسِيح لَا يفعل شَيْئا من ذَاته وَإِنَّمَا يفعل مَا يُريدهُ الله تَعَالَى وَقد تقدم قَوْله لست أنفذ إرادتي وَإِنَّمَا أنفذ إِرَادَة الرب وَفِيه أَيْضا أَن الْمَسِيح قَالَ إِن التَّوْرَاة وَكتب الْأَنْبِيَاء يَتْلُو بَعْضهَا بَعْضًا بِالنُّبُوَّةِ وَالْوَحي حَتَّى جَاءَ يحيى وَأما الْآن فَإِن شِئْتُم فاقبلوا فَإِن أيل مزمع أَن يَأْتِي فَمن كَانَت لَهُ أذنان سامعتان فليسمع أيل هُوَ الله تَعَالَى ومجيئه هُوَ مجئ رَسُوله بكتابه وَأمره كَمَا قَالَ فِي التَّوْرَاة جَاءَ الله من سيناء وَمَا أشبه ذَلِك فَإِن قلت قَوْله فَإِن أيل مزمع أَن يَأْتِي وَقَوله حَتَّى يَأْتِي

فالجواب

من تَقولُونَ لَهُ مبارك الْآتِي إِنَّمَا أَرَادَ من كَانَ بعده من الْأَنْبِيَاء مثل بارنابا وشمعون وليوقيوش ومناين هَؤُلَاءِ أَنْبيَاء أنطاكية وَمن بَيت الْمُقَدّس أعفانوس وَمن فلسطين جرجيس فَالْجَوَاب أَنه لَا يَصح لكم أَن تعترفوا بنبوة وَاحِد من هَؤُلَاءِ بل يَنْبَغِي لكم أَن تكفرُوا بهم لأنكم ترَوْنَ أَنه لَا نَبِي بعد الْمَسِيح وتسندون ذَلِك إِلَى كتبكم فَأَما أَن تكذبوا بقولكم لَا نَبِي بعد الْمَسِيح أَو تنكروا نبوة من ذكرْتُمْ ثمَّ لَو سلمنَا أَنهم أَنْبيَاء فليسوا المرادين بِمَا ذكر لأَنهم لم يَأْتُوا بكتب من الله وَلَا بأوامر أخر وغايتهم أَن يحكموا بكتب الْأَنْبِيَاء قبلهم وإتيان الله فِيمَا ذكر إِنَّمَا هُوَ عبارَة عَن إتْيَان نَبِي من أنبيائه بِكَلَامِهِ وَكتابه كَمَا قَالَ جَاءَ الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران وَهَذَا وَاضح للمنصف وَقد زعم بعض المعاندين الْجَاهِلين من ينتمي إِلَى دينكُمْ أَن المبشر بِهِ فِي ذَيْنك الْمَوْضِعَيْنِ إِنَّمَا المُرَاد بِهِ رُجُوع بعض مَا مضى من الرُّسُل وعودهم إِلَى الأَرْض وَإِلَى النَّاس وَهَذَا قَول بَاطِل صدر عَن معاند جَاهِل إِذْ لم يثبت شَيْء من ذَلِك على لِسَان نَبِي فَاضل إِلَّا مَا صَحَّ على لِسَان نَبينَا من رُجُوع عِيسَى ابْن مَرْيَم صلوَات الله

وفي الإنجيل أيضا

عَلَيْهِم وَسَلَامه إِذْ أخرج الدَّجَّال وَقَتله لَهُ وَفِي إنجيلكم إِشَارَة إِلَى هَذَا وَهَذَا عندنَا مبْنى على أَن الله تَعَالَى رفع الْمَسِيح إِلَيْهِ وَلم يقتل وَلَا مَاتَ {بل رَفعه الله إِلَيْهِ} على مَا يَأْتِي عِنْد ذكر الصلوبية وَإِنَّمَا يَمُوت إِذا قتل الدَّجَّال عِنْد بَاب لد وَبعد أَن يهْلك الله يَأْجُوج وَمَأْجُوج على يَدَيْهِ وَفِي الْإِنْجِيل أَيْضا أَنه ضرب مثلا للدنيا فَقَالَ مثل الدُّنْيَا كَمثل رجل اغترس كرما وسبخ حوله وَجعل فِيهِ معصرة وشيد فِيهِ قصرا ووكل بِهِ أعوانا وتغرب عَنهُ فَلَمَّا دنا أَوَان قطافه بعث عبيده إِلَى أعوانه بالموكلين بِالْكَرمِ فَضرب الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام مثلا للأنبياء ثمَّ لنَفسِهِ ثمَّ قَالَ سيزاح عَنْكُم ملك الله وتعطاه الْأمة المطيعة فَتَأَمّله ثمَّ ذكر فِي الْمثل صَخْرَة وَقَالَ من سقط على هَذِه الصَّخْرَة سينكسر وَمن سَقَطت عَلَيْهِ يتهشم يُرِيد بذلك مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ناوأه وحاربه أظهره الله عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ قد أزاح الله ملككم وأزاله عَنْكُم وَأَعْطَاهُ أمة مُحَمَّد حَيْثُ افتتحوا عَلَيْكُم بِلَاد الشَّام وبلاد الغرب وردوكم فِي أَكثر الأَرْض أهل ذلة وصغار وَأخذُوا مِنْكُم الْجِزْيَة بعد الْقَتْل الذريع والإسترقاق الشَّديد بعد أَن كَانَ ملككم راسخا وجبله شامخا فَهد الله بِنَبِيِّهِ قَوَاعِده ولينفذ بِهِ الله مواعده وَأعظم شَاهد على أَن الله أزاح ملككم عَنْكُم كَمَا قَالَ الْمَسِيح إِن الله تَعَالَى أَعْطَانَا بَيت الْمُقَدّس وأظهرنا عَلَيْهِ وَإِن كرهتم وَالْحج إِلَيْهِ عنْدكُمْ من أعظم شرائعكم وَشَرَائِع الْيَهُود ثمَّ الْوَاحِد مِنْكُم لَا يصل إِلَيْهِ حَتَّى يلْحقهُ من الذلة وَالصغَار مَا لَا يخفى عَلَيْكُم {وَالله متم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ}

وفي صحف أشعياء النبي

وَفِي صحف أشعياء النَّبِي الَّذِي بِأَيْدِيكُمْ قَالَ ستمتلئ الْبَادِيَة والقصور الَّتِي سكنها قيدار يسبحون وَمن رُؤُوس الْجبَال ينادون هم الَّذين يجْعَلُونَ لله الْكَرَامَة ويبثون تسبيحه فِي الْبر وَالْبَحْر وَفِي صحف حزقيال النَّبِي عَن الله يَقُول إِنِّي مؤيد قيدار بِالْمَلَائِكَةِ وقيدار ولد إِسْمَاعِيل بِلَا شكّ فَانْظُر أَي بادية هَذِه الْبَادِيَة الَّتِي انْتَقَلت من قُصُور إِلَى قيدار وَالَّذين ينادون بِالْأَذَانِ والتلبية من رُؤُوس الْجبَال ويجعلون لله الْكَرَامَة بِالصَّلَاةِ وَالْحج وَالصَّوْم وَالزَّكَاة وَغير ذَلِك وَقد ثَبت أَن الْمَلَائِكَة قَاتَلت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَوَاطِن على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقَالَ أشعياء عَن الله عَبدِي الَّذِي سرت بِهِ نَفسِي أنزل عَلَيْهِ وحيي فَيظْهر فِي الْأُمَم عدلي يُوصي الْأُمَم بالوصايا لَا يضْحك وَلَا يسمع صَوته فِي الْأَسْوَاق يفتح الْعُيُون العور وَيسمع الآذان الصم وَيحيى الْقُلُوب الغلف وَمَا أعْطِيه لَا أعْطِيه غَيره أَحْمد يحمد الله حمدا كثيرا يَأْتِي من أقْصَى الأَرْض تفرح الْبَريَّة وسكانها يهللون الله على كل شرف ويكبرونه على كل رابية لَا يضعف وَلَا يغلب وَلَا يمِيل إِلَى الْهوى وَلَا يسمع فِي الْأَسْوَاق صَوته وَلَا يذل الصَّالِحين الَّذين هم كالعصفة الضعيفة بل يقوى الصديقين وَهُوَ ركن للمتواضعين وَهُوَ نور الله الَّذِي لَا يُطْفِئ وَلَا يُخَاصم حَتَّى تثبت فِي الأَرْض حجتي وَيَنْقَطِع الْعذر بِهِ وَإِلَى توراته ينقاد الْحق فَاعْتبر هَذَا التَّصْرِيح باسم مُحَمَّد وَصِفَاته وَإِن هَذِه العلامات الْمَذْكُورَات على لِسَان هَذَا النَّبِي لَا يَصح بِحَال أَن تُوجد لغيره وَلم يكن إِلَّا لَهُ فَإِن قلت هُوَ الْمَسِيح قيل لَك تفهم لفظ الْكَلَام ومساقه وَحِينَئِذٍ تحكم بِأَنَّهُ مُحَمَّد قطعا وَذَلِكَ أَنه قَالَ فِيهِ يوصى الْأُمَم

وفي صحف حبقوق النبي التي بأيديكم

وَهَذَا التَّصْرِيح ببعثه للنَّاس كَافَّة وَعِيسَى إِنَّمَا بعث للأجناس من بني إِسْرَائِيل خَاصَّة بِدَلِيل قَوْله فِي الْإِنْجِيل إِنِّي لم أبْعث إِلَى الْأَجْنَاس وَإِنَّمَا بعثت إِلَى الْغنم الرابضة من نسل إِسْرَائِيل وَكَذَلِكَ قَالَ للحواريين لَا تسلكوا فِي سَبِيل الْأَجْنَاس وَلَكِن اختصروا بِالضَّرُورَةِ إِلَى الْغنم الرابضة من بني إِسْرَائِيل ثمَّ قَالَ أَحْمد يحمد الله وَهَذَا تَصْرِيح بإسمه فَإِن أَسْمَائِهِ كَثِيرَة مِنْهَا مُحَمَّد وَأحمد ثمَّ قَالَ يثللون الله على كل شرف ويكبرونه على كل رابية وَهَذَا إِخْبَار بآذانهم وتلبيتهم وَلَيْسَ هَذَا لأحد غَيره ثمَّ قَالَ لَا يضعف وَلَا يغلب وَأَنْتُم تَزْعُمُونَ أَن الْمَسِيح غلب على نَفسه وَحمل على خَشَبَة وسمرت يَدَاهُ فِيهَا وَقتل عَلَيْهَا بعد صفع وإهانة عَظِيمَة وَلَا دَرَجَة فِي الْغَلَبَة والضعف والذلة تزيد على هَذَا وَأما نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد فتح الله عَلَيْهِ فتحا مُبينًا وَنَصره نصرا وأظهره على كل عَدو معاند حَتَّى أَعلَى الله دينه وَأفْشى توحيده وَعَصَمَهُ من كل الشرور ووقاه كل مخوف وكل مَحْذُور وَمن أدل مَا فِي كَلَامه أَن نَبينَا مُحَمَّد هُوَ المُرَاد والمبشر بِهِ قَوْله لَا يُخَاصم حَتَّى تثبت فِي الأَرْض حجتي فَإِن هَذَا تَصْرِيح بِالْقُرْآنِ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِذْ قد عجز عَن الْإِتْيَان بِمثلِهِ أَو بِسُورَة مثله جَمِيع الْبشر وَإِن كَانَ فيهم اللد الفصحاء وَالْمهرَة الْحُكَمَاء فثبتت فِي الأَرْض حجَّة الله وَعلم أَنه من عِنْد الله وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا الْمَعْنى إِن شَاءَ الله عز وَجل وَفِي صحف حبقوق النَّبِي الَّتِي بِأَيْدِيكُمْ قَالَ جَاءَ الله من التَّيَمُّن والقدوس من جبل فاران وامتلأت الأَرْض من تحميد أَحْمد وتقديسه وملأ الأَرْض بهيبته وَقَالَ أَيْضا تضئ لنوره الأَرْض وستنزع فِي قسيك إغراقا وترتوي السِّهَام بِأَمْرك يَا مُحَمَّد إرتواء

وفي صحف أشعياء النبي قال

فيا معشر الْعُقَلَاء انْظُرُوا عناد هَؤُلَاءِ الجاحدين وإنكار هَؤُلَاءِ المباهتي وتواقح هَؤُلَاءِ الْجَاهِلين كَيفَ خالفوا هَذِه النُّصُوص القاطعة والبشارات الصادعة محكمين فِي ذَلِك أهوائهم وهم {يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم} وَفِي صحف أشعياء النَّبِي قَالَ قيل لي قُم نَاظرا فَانْظُر فَمَا ترى تخبر بِهِ قلت أرى راكبين مُقْبِلين أَحدهمَا على حمَار وَالْآخر على جمل يَقُول أَحدهمَا لصَاحبه سَقَطت بابل وأصنامها النخرة فَصَاحب الْجمل هُوَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصَاحب الْحمار بإتفاق منا ومنكم هُوَ الْمَسِيح وَلَيْسَ مُحَمَّد بركوب الْجمل أشهر من عِيسَى بركوب الْحمار وَإِنَّمَا سَقَطت عبَادَة الْأَصْنَام بِبَابِل من دون الله وهدت أوثانها بِالنَّبِيِّ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمته لَا بِعِيسَى وَلَا بِغَيْرِهِ فَمَا زَالَت مُلُوك بابل يعْبدُونَ الْأَوْثَان من كَون إِبْرَاهِيم إِلَى زمَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمته وَفِي صحفه أَيْضا لتفرح أَرض الْبَادِيَة العطشى ولتبتهج البراري والفلوات لِأَنَّهَا ستعطى بِأَحْمَد محَاسِن لبنان كَمثل حسن الدساكير والرياض هَذَا ينص على اسْمه وَوَصفه وبلده بِحَيْثُ لَا يُنكره إِلَّا وقاح مجاهر بِالْبَاطِلِ الصراح وَفِي صحف أشعياء النَّبِي أَتَت أَيَّام الإفتقاد أَتَت أَيَّام

وفي الصحف المنسوبة للإثنى عشر نبيا

الْكَمَال ثمَّ قَالَ لِتَعْلَمُوا يَا بني إِسْرَائِيل الْجَاهِلين أَن الَّذِي تسمونه ضَالًّا هُوَ صَاحب النُّبُوَّة تفترون ذَلِك على كَثْرَة ذنوبكم وَعظم فجوركم وَفِي الصُّحُف المنسوبة للإثنى عشر نَبيا أَن الله سيتجلى من الْقبْلَة وَتظهر كلمة الْقُدس من جبال فاران ظهورا أبديا ويحمد الله على ذَلِك فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَكلمَة أَحْمد تملأ الأَرْض وَفِي صحف حزقيال النَّبِي الَّتِي بِأَيْدِيكُمْ يَقُول عَن الله بعد مَا ذكر معاصي بني إِسْرَائِيل وشبههم بكرمة غذاها وَقَالَ لم تلبث تِلْكَ الكرمة أَن قلعت بالسخطة وَرمى بهَا على الأَرْض وأحرقت السمائم حرهَا فَعِنْدَ ذَلِك غرس غرس فِي البدو وَفِي الأَرْض الْمُهْملَة العطشى وَخرجت من أَغْصَانهَا الفاضلة نَار أكلت تِلْكَ حَتَّى لم يُوجد فِيهَا عصن قوي وَلَا قضيب اعْتبر أَيهَا الْعَاقِل هَذَا الْمثل على جِهَة الْإِنْصَاف يجانبك الْخَطَأ والزلل فَإِن الكرمة مثل لدين الْمَسِيح ورسالته وَذَلِكَ أَن مقَامه كَانَ فِي قومه زَمَانا يَسِيرا وَرَفعه الله عَن أَتبَاع يسيرين أحد عشر على مَا زَعَمُوا ثمَّ أتباعهم على شرعهم الْمُسْتَقيم يَسِيرُونَ ثمَّ بعد ذَلِك بِنَحْوِ الْأَرْبَعين سنة إعتراهم التبديل الْكثير والتغيير الْعَظِيم حَتَّى أحرقت ديار الْكفْر تِلْكَ الكرمة فَلَمَّا لم يبْق مِنْهُم إِلَّا بقايا قَلِيل عَددهمْ وخفى موضعهم بعث الله نبيه فِي أَرض البدو الَّتِي هِيَ أَرض إِسْمَاعِيل ومنشأه وَوَصفه لَهَا بالعطشى تَصْرِيح بوصفها فَإِنَّهُ صحراء وَكَونهَا مُهْملَة إِنَّمَا هُوَ من النُّبُوَّة فَإِنَّهُ لم يكن بهَا نَبِي من عهد إِسْمَاعِيل إِلَى عهد مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ أَنه شبه مَا نصر بِهِ النَّبِي عَلَيْهِ وَالسَّلَام من الْحَرْب والرعب بالنَّار الَّتِي تَأتي على كل شَيْء فَكَذَلِك دين نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أظهره الله بِالْحجَّةِ وَالسيف على الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ

وقال دانيال النبي

وَقد قدمت أَن فِي صحف دانيال النَّبِي وَقد نعت الْكَذَّابين وَقَالَ لَا تمتد دعوتهم وَلَا يتم قُرْبَانهمْ وَأقسم الرب بساعده أَلا يظْهر الْبَاطِل وَلَا يقوم لمدع كَاذِب دَعْوَة أَكثر من ثَلَاثِينَ سنة وَهَذَا دين الْإِسْلَام الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام لَهُ سِتّ مائَة سنة ونيف من الأعوام وَهُوَ بَاقٍ إِلَى آخر الْأَيَّام والحمدلله على مَا أولى من الْفضل والأنعام وَقَالَ دانيال النَّبِي وَقد سَأَلَهُ الْملك نبوخذناصر عَن رُؤْيا رَآهَا وَطلب أَن يخبر بهَا ثمَّ بتفسيرها فَقَالَ أَيهَا الْملك رَأَيْت صنما بارع الْجمال أَعْلَاهُ من ذهب ووسطه من فضَّة وأسفله من نُحَاس وساقاه من حَدِيد وَرجلَاهُ من فخار فَبَيْنَمَا أَنْت تنظر إِلَيْهِ وَقد أعْجبك إِذْ دقه الله بِحجر من السَّمَاء فَضرب رَأس الصَّنَم فطحنه حَتَّى اخْتَلَط ذهبه وفضته ونحاسه وحديده وفخاره ثمَّ إِن الْحجر رَبًّا وَعظم حَتَّى مَلأ الأَرْض كلهَا قَالَ لَهُ نبوخذناصر صدقت فَأَخْبرنِي بتأويلها قَالَ دانيال أما الصَّنَم فأمم مُخْتَلفَة فِي أول الزَّمَان وَفِي وَسطه وَفِي آخِره فالرأس من الذَّهَب أَنْت وَالْفِضَّة إبنك من بعْدك والنحاس الرّوم وَالْحَدِيد الْفرس والفخار أمتان ضعيفتان تملكهما إمرأتان بِالْيمن وَالشَّام وَالْحجر هُوَ دين نَبِي وَملك أبدي فِي آخر الزَّمَان يغلب الْأُمَم كلهَا ثمَّ يعظم حَتَّى يمْلَأ الأَرْض كلهَا كَمَا ملأها ذَلِك الْحجر قلت وَلَا يَصح لَك يَا أَيهَا المخدوع أَن تَدعِي أَنه الْمَسِيح فَإِنَّهُ لم يغلب الْأُمَم كلهَا بل غلب بزعمكم فَإِنَّهُ استضعف فأهين وصلب وَلم يبْعَث إِلَى الْأُمَم كلهَا عَامَّة بل إِلَى قوم بأعيانهم خَاصَّة وَإِنَّا مُحَمَّد الَّذِي غلب كل الْأُمَم الْعَرَب مِنْهَا والعجم على اخْتِلَاف أصنافها وشتى ضروبها وأوصافها فَجعل الْكل جِنْسا وَاحِدًا

وألزمهم دينا وَاحِدًا وصيرهم أمة وَاحِدَة وجعلهم على اخْتِلَاف لغاتهم يَتَكَلَّمُونَ بلغَة وَاحِدَة أعنى إِذا قرأوا الْقُرْآن إِذْ لَا يُمكن أَن ينْتَقل عَن لِسَان الْعَرَب إِلَى لِسَان غَيرهم فَإِن ترْجم بِلِسَان آخر فَلَيْسَ ذَلِك هُوَ الْقُرْآن وَإِنَّمَا هُوَ تَفْسِير الْقُرْآن يَا أَيهَا الْجَاهِل الناكث عَن الْحق الْعَادِل قد كنت ذكرت فِي كلامك أَن الْمُسلم إِن أَقَامَ شَاهدا من كتب الْأَنْبِيَاء أَن فِيهَا مُحَمَّدًا منتظرا فدينه حق وَدين النَّصَارَى بَاطِل وَقد أَقَمْنَا والحمدلله الشواهد من كتب الْأَنْبِيَاء الْأَوَائِل على الَّذِي طلبت على نَحْو مَا رسمت بل هَذِه الشواهد فِي دلالتها على نبوة مُحَمَّد أوضح وأقص مِمَّا استدللت أَنْت بهَا على نبوة الْمَسِيح وَقد وكلت الْعَاقِل الْمنصف للنَّظَر فِي أَي الدلالات أبين وأوضح أدلاتنا أم دلالتكم وَعند الْوُصُول إِلَى هَذَا الْقدر وَالْوُقُوف على تِلْكَ الشواهد الغر تتبين أَن دين النَّصَارَى وَالْيَهُود بَاطِل وَأَنَّهُمْ إِمَّا معاندو وَإِمَّا جَاهِل وَلَقَد جَاءَ فِي كتاب أشعياء النَّبِي من نعوته وأوصافه وَذكر مَكَّة بَلَده وَحج النَّاس إِلَيْهَا مَا لَا يبْقى مَعَه ريب وَلَا أشكال فَمن ذَلِك قَالَ حاكيا عَن الله تَعَالَى سأبعث قوما فَيَأْتُونَ من الْمشرق أَفْوَاجًا كالصعيد كَثْرَة وَمثل الطيان الَّذِي يدوس برجليه وَمن ذَلِك أَنه قَالَ أَبْشِرِي واهتزي يَا أيتها العاقر الَّتِي لم تَلد وانطقي بالتسبيح وافرحي أَن لم تحبلي فَإِن أهلك سيكونون أَكثر من أَهلِي هَذِه من الله مُخَاطبَة لمَكَّة على مَا يَقْتَضِيهِ مساق كَلَامه ثمَّ شبهها بالعاقر من النِّسَاء الَّتِي لم تَلد من حَيْثُ أَن مَكَّة لم يبْعَث مِنْهَا نَبِي من بعد إِسْمَاعِيل إِلَّا مُحَمَّدًا صلى الله عيله وَسلم وَلَا يجوز أَن

وفي نفس النص

يكون العاقر بَيت الْمُقَدّس لِأَنَّهَا كَانَت مقرّ الْأَنْبِيَاء وَقَوله فَإِن أهلك سيكونون أَكثر من أَهلِي يَعْنِي بأَهْله بَيت الْمُقَدّس وَفِي نفس النَّص أَنه قَالَ حاكيا عَن الله قد أَقْسَمت بنفسي كقسمي أَيَّام الطوفان أَن أغرق الأَرْض بالطوفان كَذَلِك أَقْسَمت أَلا أَسخط عَلَيْك وَلَا أرفضك فَإِن الْجبَال تَزُول والقلاع تنحط ورحمتي عَلَيْك لَا تَزُول ثمَّ قَالَ فِي النَّص نَفسه يَا مسكينة يَا مضطهدة هَا أنذا بَان بالجص حجارتك ومزينك بالجواهر ومكلل بِاللُّؤْلُؤِ سقفك وبالزبرجد أبوابك وتبعدين من الظُّلم فَلَا تخافي وَمن الضعْف فَلَا تضعفي وكل سلَاح يعمله صانع لَا يعْمل فِيك وكل لِسَان ذلق يقوم مَعَك بِالْخُصُومَةِ تفلجين ويسميك الله إسما جَدِيدا وَكَذَلِكَ كَانَ إسمها الْكَعْبَة فسماها الله الْمَسْجِد الْحَرَام وَكَذَلِكَ قَوْله بِالْخُصُومَةِ تفلجين إِنَّمَا هُوَ إِشَارَة إِلَى كتاب الله الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّد رَسُول الله الَّذِي أفحم كل خصم وأسكت وَفِي صحف أشعياء أَيْضا فقومي واشرفي فَإِنَّهُ قد ورى زندك ووقار الله عَلَيْك انظري بنيك حولك فَإِنَّهُم مجتمعون يَأْتِيك بنوك وبناتك على الْأَيْدِي فَحِينَئِذٍ تنظرين وتزهرين ويخفق قَلْبك ويتسع وكل غنم قيدار تَجْتَمِع إِلَيْك وسادت نبايوت يخدمونك وتفتح أبوابك اللَّيْل وَالنَّهَار فَلَا تغلق ويتخذونك قبْلَة وتدعين بعد ذَلِك مَدِينَة الرب فهاهو عَلَيْهِ السَّلَام قد وصف مَكَّة بأوصافها الَّتِي لَا تصح أَن تُوجد فِي غَيرهَا وَمن أبين ذَلِك وأدله قَوْله وكل غنم قيدار تَجْتَمِع إِلَيْك وسادات بنايوت يخدمونك وقيدار ونبايوت ولدا إِسْمَاعِيل وأغنامهم هِيَ الَّتِي تساق إِلَى مَكَّة هَديا وهم أهل مَكَّة وخدام الْبَيْت وَلَيْسَ بعد هَذَا بَيَان وَكَذَلِكَ قَوْله ويتخذونك قبْلَة وَهَذَا بِشَارَة بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَإِنَّهَا لم تتَّخذ قبْلَة إِلَّا على عَهده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

وقول أشعياء

وَقَول أشعياء هَذَا فِي بعض التراجم هَكَذَا ارفعي إِلَى مَا حولك بَصرك فستبتهجين وتفرحين من أجل أَنه تميل إِلَيْك ثروة الْبَحْر وَيَأْتِي إِلَيْك غنى الْأُمَم حَتَّى تعمرك قطار الْإِبِل المؤبلة تضيق أَرْضك عَن القطارات الَّتِي تجمع إِلَيْك وتساق إِلَيْك كباش مَدين ويسير إِلَيْك أهل سبأ وتسير إِلَيْك أَعْلَام قيدار ويخدمك رجال نبايوت فَاعْتبر هَذِه الْأَوْصَاف الْبَيِّنَة والأعلام الْمُتَّصِلَة الظَّاهِرَة الَّتِي لَا تُوجد فِي بلد إِلَّا فِي مَكَّة وَلَا يَصح شَيْء مِنْهَا أَن يُوجد فِي بَيت الْمُقَدّس وَلَا فِي غَيرهَا وَقَالَ أَيْضا عَن الله أعْطى الْبَادِيَة كرامات لبنان وبهاء جبل الكرمل فالبادية مَكَّة ولبنان الشَّام وَبَيت الْمُقَدّس وَقَالَ على أثر ذَلِك وتشق فِي الْبَادِيَة مياه وسواق فِي أَرض الفلاة وَتَكون الفيافي والأماكن العطاش ينابيع وَتصير هُنَاكَ محجة وَطَرِيق الْحرم لَا تمر بِهِ أنجاس الْأُمَم وَالْجَاهِل لَا يضل هُنَاكَ وَلَا يكون بِهِ سِبَاع وَلَا أَسد وَيكون هُنَاكَ ممر المخلصين وَقَالَ أشعياء أَيْضا عَن الله هَا أنذا مؤسس بصهيون وَهُوَ بَيت الله حجرا مقره فِي زَاوِيَة مَكَّة فَمن كَانَ مُؤمنا فَلَا يتعجل وَهَذَا أَخْبَار مِنْهُ عَن الْحجر الْمُقَدّس الْأسود الَّذِي فِي الرُّكْن الْيَمَانِيّ وَهُوَ الْحجر الَّذِي أنزلهُ الله من الْجنَّة وَكَانَ أَبيض فاسود لأجل خَطَايَا بني آدم وصهيون الْجَبَل بلسانهم فَهَذِهِ دَلَائِل وَاضِحَة وشواهد راجحة لَا يعدل عَنْهَا إِلَّا من حرم التَّوْفِيق فاستدبر الطَّرِيق وَلَا يتدبرها ويتفهم مَعَانِيهَا إِلَّا من رافقه التَّوْفِيق وساعده الْفَهم وَالتَّحْقِيق فَهَذَا مَا رَأينَا أَن نثبته هُنَا من شَوَاهِد نبوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْكتب الْمُتَقَدّمَة وفيهَا من الشواهد مَا هُوَ أَكثر من هَذَا وَمن وقف بفهم على مَا فِي تِلْكَ الْكتب قضى من عناد الْمُخَالفين الْعجب

النوع الثاني

النَّوْع الثَّانِي الإستدلال على نبوته بقرائن أَحْوَاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأول ذَلِك مَا ظهر على أَبِيه عبد الله بن عبد الْمطلب وَذَلِكَ أَنه لما أَرَادَ الله خلقه وَقرب وقته وحان خُرُوج نطفته من صلب أَبِيه حمل بَين عَيْني أَبِيه نور فَكَانَ يرَاهُ الرَّائِي كغرة الْفرس وَقد ثَبت فِي كتب نبوته على أَلْسِنَة النقلَة الثِّقَات الْعُدُول الْأَثْبَات الَّذين يدينون بِتَحْرِيم الْكَذِب ويعتقدون وجوب الصدْق وَلَا تأخذهم فِي الله لومة لائم أَن عبد الله بن عبد المطلب وَالِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت لَهُ امْرَأَتَانِ احداهما آمِنَة أم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَامْرَأَة أُخْرَى فَحمل يَوْمًا فِي طين لبِنَاء بَيته فتعلقت بِهِ آثَار من الطين فَمر بِتِلْكَ الْمَرْأَة فَدَعَاهَا لنَفسِهِ فَأَبت لما كَانَ عَلَيْهِ من الطين فَخرج من عِنْدهَا فاغتسل وَغسل مَا بِهِ من أثر الطين فدعته تِلْكَ الْمَرْأَة إِلَى نَفسهَا فَأبى عَلَيْهَا ثمَّ خرج عَامِدًا إِلَى آمِنَة فَدخل عَلَيْهَا فأصابها فَحملت بِمُحَمد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ مر بامرأته تِلْكَ فَقَالَ لَهَا هَل لَك قَالَت لَا إِنَّك مَرَرْت بِي وَبَين عَيْنَيْك غرَّة مثل غرَّة الْفرس فدعوتك رَجَاء أَن يكون لي فأبيت وَدخلت على آمِنَة فَذَهَبت بهَا ثمَّ لما حملت بِهِ آمِنَة أمه أتيت فَقيل لَهَا إِنَّك قد حملت بِسَيِّد هَذِه الْأمة فَإِذا وَقع على الأَرْض فَقولِي أُعِيذهُ بِالْوَاحِدِ من شَرّ كل حَاسِد ثمَّ سميه مُحَمَّدًا وَرَأَتْ حِين حملت بِهِ أَنه خرج مِنْهَا نور رَأَتْ بِهِ قُصُور بصرى من أَرض الشَّام وَلَقَد قَالَت أم عُثْمَان الثقفية حضرت ولادَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَأَيْت الْبَيْت حِين وضع قد امْتَلَأَ نورا وَرَأَيْت

النُّجُوم تَدْنُو حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهَا ستقع على وَولد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مختونا وَكَانَت أمه تحدث أَنَّهَا لم تَجِد حِين حملت بِهِ مَا تَجِد الْحَوَامِل من ثقل وألم وَلَا غير ذَلِك وَلما وَضعته أمه وَقع على الأَرْض مَقْبُوضَة أَصَابِع يَدَيْهِ مُشِيرا بالسبابة كالمسبح بهَا وَذكر ابْن دُرَيْد أَنه أَلْقَت عَلَيْهِ جَفْنَة لِئَلَّا يرَاهُ أحد قبل جده فجَاء جده والجفنة قد انفلقت عَنهُ ثمَّ لم يلبث عبد الله بن عبد الملطلب أَبوهُ أَن توفى وَأم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَامِل بِهِ فَكَفَلَهُ جده عبد المطلب وَقيل لجده لم سميت إبنك مُحَمَّدًا وَلَيْسَ هَذَا الإسم لأحد من آبَائِك وقومك فَقَالَ إِنِّي لأرجو أَن تحمده أهل الأَرْض كلهم وَذَلِكَ أَنه كَانَ يرى فِي مَنَامه كَأَن سلسلة من فضَّة خرجت من ظَهره لَهَا طرف فِي السَّمَاء وطرف فِي الأَرْض وطرف فِي الْمشرق وطرف فِي الْمغرب ثمَّ عَادَتْ كَأَنَّهَا شَجَرَة على كل ورقة مِنْهَا نور وَإِذا أهل الْمشرق وَالْمغْرب كَأَنَّهُمْ يعتلقون بهَا فَقَصَّهَا فعبرت لَهُ بمولود يكون من صلبه يتبعهُ أهل الْمشرق وَالْمغْرب وَيَحْمَدهُ أهل السَّمَاء وَأهل الأَرْض فَلذَلِك سَمَّاهُ مُحَمَّدًا قَالَ حسان بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ وَالله إِنِّي لغلام يفعة ابْن سبع سِنِين أَو ثَمَان سِنِين أَعقل كل مَا سمعته إِذْ سَمِعت يَهُودِيّا على أَطَم يثرب يصْرخ بِأَعْلَى صَوته يَقُول يَا معشر يهود فَلَمَّا اجْتَمعُوا لَهُ قَالُوا لَهُ وَيلك مَالك قَالَ طلع اللَّيْلَة نجم أَحْمد ثمَّ التمس لَهُ المراضع فاسترضع لَهُ امراة من بني سعد بن بكر إسمها حليمة بنت أبي ذُؤَيْب قَالَت حليمة خرجت من بلدي مَعَ زَوجي وَابْن لي فِي نسْوَة من بني سعد نلتمس الرضعاء قَالَت وَفِي سنة شهباء لم تبْق لنا شَيْئا قَالَت فَخرجت على أتان لي قَمْرَاء مَعنا شَارف لنا وَالله مَا تفيض بقطرة وَمَا ننام ليلنا مَعَ صبينا من بكائه من الْجُوع وَمَا فِي ثديي مَا يُغْنِيه وَمَا فِي شارفنا مَا يغديه وَلَكنَّا نرجو الْغَيْث والفرج فَلَقَد حيست الركب حَتَّى

شقّ ذَلِك عَلَيْهِم ضعفا وعجفا حَتَّى قدمنَا مَكَّة نلتمس الرضعاء فَمَا منا امْرَأَة إِلَّا وَقد عرض عَلَيْهَا مُحَمَّد بن عبد الله فتأباه إِذا قيل لَهَا أَنه يَتِيم وَذَلِكَ أَنا كُنَّا نرجو الْمَعْرُوف من أبي الصَّبِي فَكُنَّا نقُول يَتِيم فَمَا عَسى أَن تصنع أمه وجده فَكُنَّا نكرهه لذَلِك فَمَا بقيت امْرَأَة قدمت معي إِلَى أخذت رضيعا غَيْرِي فَلَمَّا أجمعنا الإنطلاق قلت لصاحبي إِنِّي وَالله أكره أَن أرجع من بَين صواحبي وَلم آخذ رضيعا وَالله لأذهبن إِلَى ذَلِك الْيَتِيم فلأخذنه فَقَالَ افعلي عَسى الله أَن يَجْعَل فِيهِ بركَة قَالَت فَذَهَبت إِلَيْهِ فَأَخَذته وَمَا حَملَنِي على أَخذه إِلَّا أَنِّي لم أجد غَيره قَالَت فَلَمَّا أَخَذته رجعت بِهِ إِلَى رجْلي فَلَمَّا وَضعته فِي حجري أقبل على ثدياي بِمَا شَاءَ من لبن فَشرب حَتَّى روى وَشرب مَعَه أَخُوهُ حَتَّى روى ثمَّ نَامَا وَمَا كُنَّا ننام مَعَه قبل ذَلِك وَقَامَ زَوجي إِلَى شارفنا تِلْكَ فَإِذا أَنَّهَا لحافل فَحلبَ مِنْهَا ماشرب وشربت حَتَّى انتهينا ريا وشبعا فبتنا بِخَير لَيْلَة قَالَت يَقُول صَاحِبي حِين أَصْبَحْنَا تعلمي وَالله يَا حليمة لقد أخذت نسمَة مباركة قلت وَالله إِنِّي لأرجو ذَلِك قَالَت ثمَّ خرجنَا فركبت أَتَانِي وَحَمَلته عَلَيْهَا معي فوَاللَّه لَقطعت بالركب مَا يقدر على شَيْء من حمرهم حَتَّى أَن صواحبي ليقلن لي يَا إبنة أبي ذؤيت وَيحك أربعي علينا أليست هَذِه أتانك الَّتِي كنت خرجت عَلَيْهَا فَأَقُول لَهُنَّ بلَى وَالله فيقلن لي وَالله أَن لَهَا لشأنا قَالَ ثمَّ قدمنَا مَنَازلنَا من بِلَاد بني سعد وَمَا أعلم أَرضًا من أَرض الله أجدب مِنْهَا فَكَانَت غنمي تروح على حِين قدمنَا بِهِ مَعنا شباعا لَبَنًا فنحلب وَنَشْرَب وَمَا يجلب إِنْسَان قَطْرَة وَلَا يجدهَا فِي ضرع حَتَّى كَانَ الْحَاضِر من قَومنَا يَقُولُونَ لرعاتهم وَيحكم أسرحوا حَيْثُ يسرح راعي بنت أبي ذُؤَيْب فتروح أغنامهم جياعا مَا تبض بقطرة لبن وَتَروح غنمي شباعا لَبَنًا فَلم نزل نتعرف من الله الزِّيَادَة وَالْخَيْر حَتَّى مَضَت سنتاه وفصلته وَكَانَ يشب شبَابًا لَا يشبه الغلمان فَلم يبلغ سنتيه حَتَّى كَانَ غُلَاما جفرا

قَالَت فقدمنا بِهِ على أمه وَنحن أحرص شَيْء على مكثه فِينَا لما كُنَّا نرى من بركته فكلمنا أمه وَقلت لَهَا لَو تركت بني عِنْدِي حَتَّى يغلظ فَإِنِّي أخْشَى عَلَيْهِ وباء مَكَّة قَالَت فَلم نزل بهَا حَتَّى ردته لنا قَالَت فرجعنا بِهِ فوَاللَّه أَنه بعد مقدمنا بِشَهْر مَعَ أَخِيه لفى بهم لنا خلف بُيُوتنَا إِذْ أَتَانَا أَخُوهُ يشْتَد فَقَالَ لي ولأبيه ذَاك أخي الْقرشِي قد أَخذه رجلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَاب بيض فأضجعاه فشقا بَطْنه فهما يسوطانه يعْنى يخلطانه قَالَت فَخرجت أَنا وَأَبوهُ نَحوه فوجدناه قَائِما منتقحا وَجهه قَالَت فألتزمته وألتزمه أَبوهُ فَقُلْنَا لَهُ مَالك يَا بني قَالَ جَاءَنِي رجلَانِ عَلَيْهَا ثِيَاب بيض فأضجعاني وشقا بَطْني فَالْتَمَسَا شَيْئا لَا أَدْرِي مَا هُوَ قَالَت فرجعنا بِهِ إِلَى خبائنا قَالَت وَقَالَ لي أَبوهُ يَا حليمة لقد خشيت أَن يكون هَذَا الْغُلَام قد أُصِيب فألحقيه بأَهْله قبل أَن يظْهر ذَلِك بِهِ قَالَت فاحتملناه فقدمنا بِهِ على أمه فَقَالَت مَا أقدمك بِهِ يَا ظئر وَقد كنت حريصة عَلَيْهِ وعَلى مكثه عنْدك قَالَت فَقلت قد بلغ الله بِابْني وقضيت الَّذِي عَليّ وتخوفت الْأَحْدَاث عَلَيْهِ فاديته إِلَيْك كَمَا تحبين قَالَت مَا هَذَا شَأْنك فاصدقيني خبرك قَالَت فَلم تدعني حَتَّى أخْبرتهَا قَالَت أفتخوفت عَلَيْهِ الشَّيْطَان قَالَت قلت نعم قَالَت كلا وَالله مَا للشَّيْطَان عَلَيْهِ من سَبِيل وَإِن لبني لشأنا أَفلا أخْبرك خَبره قَالَت قلت بلَى قَالَت رَأَيْت حِين حملت بِهِ أَنه خرج مني نور أَضَاء لي قُصُور بصرى من أَرض الشَّام ثمَّ حملت بِهِ فوَاللَّه مَا رَأَيْت من حمل قطّ كَانَ أخف وَلَا أيسر مِنْهُ وَوَقع حِين وَلدته وَأَنه لواضع يَدَيْهِ بِالْأَرْضِ رَافع رَأسه إِلَى السَّمَاء دعيه عَنْك وانصرفي راشدة فَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أمه آمِنَة بنت وهب وجده عبد المطلب بن هَاشم فِي كلأة الله تَعَالَى وَحفظه ينبته الله نباتا حسنا لما يُرِيد بِهِ من كرامته فَلَمَّا بلغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتّ سِنِين توفيت أمه آمِنَة فَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

مَعَ جده عبد المطلب وَكَانَ يوضع لعبد الْمطلب فرَاش فِي ظلّ الْكَعْبَة فَكَانَ بنوه يَجْلِسُونَ حول فرَاشه ذَلِك حَتَّى يخرج إِلَيْهِ لَا يجلس عَلَيْهِ أحد من بنيه إجلالا لَهُ قَالَ فَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْتِي وَهُوَ غُلَام جفر حَتَّى يجلس عَلَيْهِ فَيَأْخذهُ أَعْمَامه ليؤخروه عَنهُ فَيَقُول عبد المطلب إِذا رأى ذَلِك مِنْهُم دعوا ابْني فوَاللَّه أَن لَهُ لشأنا ثمَّ يجلسه مَعَه على الْفراش وَيمْسَح ظَهره بِيَدِهِ ويسره مَا يرَاهُ يصنع فَلَمَّا بلغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانِي سِنِين هلك عبد المطلب جده فَكَانَ مَعَ عَمه أبي طَالب فَكَانَ يحنو عَلَيْهِ ويحفظه فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْده يَوْمًا إِذْ قدم مَكَّة رجل عائف من أَزْد شنُوءَة وَكَانَ ذَلِك الرجل إِذا قدم مَكَّة أَتَاهُ رجال قُرَيْش بغلمانهم ينظر إِلَيْهِم ويعتاف لَهُم ويتفرس وَكَانَ ماهرا فِي ذَلِك مَعْرُوفا بِهِ مجربا عَلَيْهِ الْإِصَابَة فِي ذَلِك فَأَتَاهُ أَبُو طَالب بِهِ وَهُوَ غُلَام قَالَ فَنظر العائف إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ شغله عَنهُ شَيْء فَلَمَّا فرغ قَالَ أَيْن الْغُلَام على بِهِ فَلَمَّا رأى أَبُو طَالب حرصه عَلَيْهِ غيبه عَنهُ فَجعل يَقُول وَيْلكُمْ ردوا على الْغُلَام الَّذِي رَأَيْت آنِفا فوَاللَّه لَيَكُونن لَهُ شَأْن ثمَّ إِن أَبَا طَالب خرج فِي ركب تَاجِرًا إِلَى الشَّام فَلَمَّا تهَيَّأ للرحيل ضبث بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرق لَهُ أَبُو طَالب وَقَالَ وَالله لأخْرجَن بِهِ معي وَلَا يفارقني وَلَا أفارقه أبدا وَكَانَ يُحِبهُ حبا شَدِيدا فَخرج بِهِ مَعَه فَلَمَّا نزل الركب بصرى من أَرض الشَّام وَبهَا رَاهِب يُقَال لَهُ بخيرا فِي صومعة لَهُ وَكَانَ إِلَيْهِ علم النَّصْرَانِيَّة وَلم ينزل فِي تِلْكَ الصومعة مُنْذُ قطّ رَاهِب يصير إِلَيْهِ علم النَّصْرَانِيَّة لأجل كتاب فِيهَا فِيمَا يَزْعمُونَ يتوارثونه كَابِرًا عَن كَابر فَلَمَّا نزلُوا ذَلِك الْعَام ببحيرا وَكَانَ كثيرا مَا يَمرونَ بِهِ قبل ذَلِك فَلَا يعرض لَهُم وَلَا يكلمهم حَتَّى كَانَ ذَلِك الْعَام فَلَمَّا نزلُوا قَرِيبا من صومعته صنع لَهُم طَعَاما كثيرا

وَذَلِكَ عَن شَيْء رَآهُ فِي صومعته وَذَلِكَ أَنه رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من صومعته وَهُوَ فِي الركب حِين أَقبلُوا وغمامة تظله من بَين الْقَوْم ثمَّ أَقبلُوا فنزلوا فِي ظلّ شَجَرَة قَرِيبا مِنْهُ فَنظر إِلَى الغمامة حِين أظلت الشَّجَرَة وتهصرت أَغْصَان الشَّجَرَة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى استظل تحتهَا فَلَمَّا رأى ذَلِك بحيرا نزل من صومعته وَقد أَمر بذلك الطَّعَام فَصنعَ ثمَّ أرسل إِلَيْهِم فَقَالَ إِنِّي قد صنعت لكم طَعَاما فَقَالَ لَهُ رجل وَالله يَا بحيرا إِن لَك الْيَوْم لشأنا فَمَا كنت تصنع هَذَا بِنَا وَقد كُنَّا نمر بك كثيرا فَمَا شَأْنك الْيَوْم فَقَالَ لَهُ بحيرا صدقت قد كَانَ مَا تَقول وَلَكِنَّكُمْ ضيف وَقد أَحْبَبْت أَن أكْرمكُم وأصنع لكم طَعَاما فتأكلون مِنْهُ كلكُمْ فَاجْتمعُوا إِلَيْهِ وتخلف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بَين الْقَوْم لحداثة سنه فِي رحال الْقَوْم تَحت الشَّجَرَة فَلَمَّا نظر بحيرا فِي الْقَوْم لم ير الصّفة الَّتِي يعرف ويجد عِنْده قَالَ يَا معشر قُرَيْش لَا يتخلفن أحد مِنْكُم عَن طَعَامي فَقَالُوا لَهُ يَا بحيرا مَا تخلف عَنْكُم أحد يَنْبَغِي لَهُ أَن يَأْتِيك إِلَّا غُلَام وَهُوَ أحدث الْقَوْم سنا فَتخلف فِي رحالهم قَالَ لَا تَفعلُوا دَعوه فليحضر هَذَا الطَّعَام مَعكُمْ فجَاء وَقد احتضنه رجل من الْقَوْم فَلَمَّا رَآهُ بحيرا جعل يلحظه لحظا شَدِيدا وَينظر إِلَى أَشْيَاء من جسده قد كَانَ يجدهَا عِنْده من صفته حَتَّى إِذا فرغ الْقَوْم من طعامهم وَتَفَرَّقُوا قَامَ إِلَيْهِ بحيرا وَقَالَ لَهُ يَا غُلَام أَسأَلك بِحَق اللات والعزى أَلا مَا أَخْبَرتنِي عَمَّا أَسأَلك عَنهُ وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ بحيرا ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ يسمع قومه يحلفُونَ بهما فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَسْأَلنِي بِاللات والعزى فوَاللَّه مَا أبغضت شَيْئا قطّ بغضهما فَقَالَ لَهُ بحيرا فبالله أَلا مَا أَخْبَرتنِي عَمَّا أَسأَلك عَنهُ قَالَ لَهُ سل عَمَّا بدا لَك فَجعل يسْأَله عَن أَشْيَاء من حَاله فِي نَومه وهيئته وأموره فَجعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُخبرهُ فيوافق ذَلِك مَا عِنْد بحيرا من صفته ثمَّ نظر إِلَى ظَهره فَرَأى خَاتم النُّبُوَّة بَين كَتفيهِ على مَوْضِعه من صفته الَّتِي عِنْده وَكَانَ مثل أثر المحجم ثمَّ أقبل على

عَمه أبي طَالب فَقَالَ مَا هَذَا الْغُلَام مِنْك قَالَ ابْني قَالَ مَا هُوَ بإبنك وَمَا يَنْبَغِي لهَذَا الْغُلَام أَن يكون أَبوهُ حَيا قَالَ فَإِنَّهُ ابْن أخي قَالَ مَا فعل أَبوهُ قَالَ مَاتَ وَأمه حُبْلَى بِهِ قَالَ صدقت فَارْجِع بِابْن أَخِيك إِلَى بَلَده وَاحْذَرْ عَلَيْهِ يهود فوَاللَّه لَئِن رَأَوْهُ وَعرفُوا مِنْهُ مَا عرفت ليبلغنه شرا فَإِنَّهُ كَائِن لِابْنِ أَخِيك هَذَا شَأْن عَظِيم فأسرع بِهِ إِلَى بِلَاده فَخرج بِهِ عَمه أَبُو طَالب سَرِيعا حَتَّى أقدمه مَكَّة حِين فرغ من تِجَارَته فزعموا فِيمَا يروي النَّاس أَن زريرا وتماما ودريسا وهم نفر من أهل الْكتاب قد كَانُوا رَأَوْا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل مَا رأى بحيرا فِي ذَلِك السّفر الَّذِي كَانَ فِيهِ مَعَ عَمه أبي طَالب فأرادوه فردهم عَنهُ بحيرا وَذكرهمْ الله وَمَا يَجدونَ فِي الْكتاب من ذكره وَصفته وَأَنَّهُمْ إِن أَجمعُوا لما أَرَادوا بِهِ لم يخلصوا إِلَيْهِ وَلم يزل بهم حَتَّى عرفُوا مَا قَالَ لَهُم وَصَدقُوهُ بِمَا قَالَ فتركون وَانْصَرفُوا فشب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالله تَعَالَى يكلؤه ويحفظه ويحوطه من أقذار الْجَاهِلِيَّة لما يُرِيد بِهِ من كرامته ورسالته حَتَّى بلغ أَن كَانَ رجلا أفضل قومه مُرُوءَة وَأَحْسَنهمْ خلقا وَأكْرمهمْ حسبا وَأَحْسَنهمْ جوارا وأعظمهم حلما وأصدقهم حَدِيثا وأعظمهم أَمَانَة وأبعدهم من الْفُحْش والأخلاق الَّتِي تدنس الرِّجَال تنزها وتكرما حَتَّى مَا اسْمه فِي قومه إِلَّا الْأمين لما جمع الله فِيهِ من الْأُمُور الصَّالِحَة فَلَمَّا بلغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خمْسا وَعشْرين سنة وَعرفت أَمَانَته وَصدق حَدِيثه وَظَهَرت بركته عرضت عَلَيْهِ خَدِيجَة بنت خويلد مَا لَا يخرج بِهِ مُسَافِرًا إِلَى الشَّام وتعطيه أفضل مَا كَانَت تُعْطِي غَيره من التُّجَّار مَعَ غُلَام لَهَا يُقَال لَهُ ميسرَة فَقبله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهَا وَخرج فِي ذَلِك المَال وَخرج مَعَه ميسرَة حَتَّى قدما الشَّام فَنزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ظلّ شَجَرَة قَرِيبا من صومعة رَاهِب من الرهبان فَاطلع الراهب

إِلَى ميسرَة وَقَالَ من هَذَا الرجل الَّذِي نزل تَحت هَذِه الشَّجَرَة قَالَ لَهُ ميسرَة هَذَا رجل من قُرَيْش من أهل الْحرم فَقَالَ لَهُ الراهب مَا نزل تَحت هَذِه الشَّجَرَة قطّ إِلَّا نَبِي ثمَّ بَاعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سلْعَته الَّتِي خرج بهَا وَاشْترى مَا أَرَادَ أَن يَشْتَرِي ثمَّ أقبل قَافِلًا إِلَى مَكَّة وَمَعَهُ ميسرَة فَكَانَ ميسرَة إِذا كَانَت الهاجرة وَاشْتَدَّ الْحر يرى ملكَيْنِ يظلانه من الشَّمْس وَهُوَ يسير على بعيره فَلَمَّا قدم مَكَّة على خَدِيجَة بمالها باعت مَا جَاءَ بِهِ بأضعف أَو قَرِيبا وحدثها ميسرَة عَن قَول الراهب وَعَن مَا كَانَ يرى من إظلال الْملكَيْنِ إِيَّاه وَكَانَت خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا امْرَأَة حازمة شريفة لَبِيبَة مَعَ مَا أَرَادَ الله بهَا من كرامتها فَلَمَّا أخْبرهَا ميسرَة بِمَا أخْبرهَا بعثت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت لَهُ يَا ابْن عَم إِنِّي قد رغبت فِيك لقرابتك ووسطك فِي قَوْمك وأمانتك وَحسن خلقك وَصدق حَدِيثك ثمَّ عرضت عَلَيْهِ نَفسهَا وَكَانَت خَدِيجَة يَوْمئِذٍ أَوسط نسَاء قُرَيْش نسبا وأعظمهن شرفا وأكثرهن مَالا كل قَومهَا كَانَ حَرِيصًا على ذَلِك مِنْهَا لَو يقدر عَلَيْهِ فَلَمَّا قَالَت ذَلِك لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر لأعمامه فَخرج مَعَه عَمه حَمْزَة بن عبد الْمطلب حَتَّى دخل على خويلد بن أَسد فَخَطَبَهَا إِلَيْهِ فَتَزَوجهَا وَقد كَانَت خَدِيجَة بنت خويلد قد ذكرت لورقة بن نَوْفَل وَكَانَ ابْن عَمها وَكَانَ نَصْرَانِيّا قد تتبع الْكتب وَعلم من علم النَّاس مَا ذكر لَهَا غلامها ميسرَة من قَول الراهب وَمَا كَانَ يرى مِنْهُ إِذْ كَانَ الْملكَانِ يظلانه فَقَالَ ورقة لَئِن كَانَ هَذَا حَقًا يَا خَدِيجَة فَإِن مُحَمَّدًا لنَبِيّ هَذِه الْأمة وَقد عرفت أَنه كَانَ لهَذِهِ الْأمة نَبِي ينْتَظر هَذَا زَمَانه أَو كَمَا قَالَ فَجعل ورقة يستبطئ الْأَمر وَيَقُول حَتَّى مَتى فَلَمَّا تقَارب زمَان مبعثه كثرت أَحَادِيث الْكُهَّان عَن نبوته وَالْأَخْبَار بذلك فبشر بِقرب ظُهُوره جمَاعَة من الْكُهَّان

ومن أوضح ذلك وأبينه

وَأما الْيَهُود فَكَانَت تكون بَينهَا وَبَين الْعَرَب شرور وحروب فَرُبمَا أَصَابَت الْعَرَب مِنْهُم فَكَانَت الْيَهُود تَقول قد قرب زمَان نَبِي سيبعث الْآن نقتلكم مَعَه قتل عَاد وارم ثمَّ لم يَلْبَثُوا حَتَّى ظهر وعرفوه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم فَلَمَّا بعث مِنْهُم من آمن بِهِ وَمِنْهُم من كفر بِهِ حسدا وعنادا كَمَا فَعلْتُمْ أَنْتُم وَلَقَد قدم الْمَدِينَة نفر من الْيَهُود يَلْتَمِسُونَ هجرته إِلَيْهَا وَكَونه فِيهَا من ذَلِك مَا يحْكى عَن ابْن الهيبان حبر من أَحْبَار يهود وَمِمَّنْ كَانَ يَنْتَهِي إِلَيْهِ علمهمْ وَكَانَ فَاضلا فِي دينه مجاب الدعْوَة مِمَّن علم ذَلِك مِنْهُ بِكَثْرَة تجربة ذَلِك فَقَالَ للْيَهُود يَوْمًا مَا تَرَوْنَهُ أخرجني من الشَّام أَرض الْخمر والخمير إِلَى أَرض الْبُؤْس والجوع قَالُوا لَهُ أَنْت أعلم قَالَ فَإِنِّي قدمت هَذِه الْبَلدة أتوكف خُرُوج نَبِي قد أظل زَمَانه وَهَذِه الْبَلدة مهاجره فَكنت أَرْجُو أَن يبْعَث فَأتبعهُ وَقد أظلكم زَمَانه فَلَا تسبقن إِلَيْهِ يَا معشر يهود فَإِنَّهُ يبْعَث بسفك الدِّمَاء وسبى الذرارى وَالنِّسَاء مِمَّن خَالفه فَلَا يمنعكم ذَلِك مِنْهُ فَلَمَّا بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحاصر بني قُرَيْظَة قَالَ نفر من الْيَهُود يَا بني قُرَيْظَة وَالله إِنَّه للنَّبِي الَّذِي كَانَ عهد إِلَيْكُم فِيهِ ابْن الهيبان قَالُوا لَيْسَ بِهِ قَالُوا بلَى وَالله إِنَّه لَهو بِصفتِهِ فنزلوا وَأَسْلمُوا وَمثل هَذَا كثير وَمن أوضح ذَلِك وأبينه قصَّة سلمَان الْفَارِسِي وَذَلِكَ أَنه كَانَ تنصر وَقَرَأَ كتبكم وَبحث عَن جمَاعَة من أهل دينكُمْ أعنى الَّذين كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بدين الْمَسِيح فَلم يزل يبْحَث عَنْهُم وَاحِدًا بعد وَاحِد ويخدمهم حَتَّى يحضرهم الْوَفَاة فَكَانَ الْوَاحِد مِنْهُم إِذا حَضرته الْوَفَاة وصاه بِأَن يلْحق بِمن هُوَ على مثل دينه وحاله ويعينه لَهُ ويدله عَلَيْهِ إِلَى أَن وصل إِلَى عمورية إِلَى أَرض الرّوم إِلَى رَاهِب نَصْرَانِيّ كَانَ هُنَالك قَالَ سلمَان فأقمت عِنْد خير رجل على هدى أَصْحَابه وَأمرهمْ يَعْنِي الدّين كَانُوا دلوا عَلَيْهِ إِلَى أَن حَضرته الْوَفَاة

فَقلت لَهُ يَا فلَان إِنِّي كنت مَعَ فلَان فأوصاني إِلَى فلَان ثمَّ أَوْصَانِي فلَان إِلَى فلَان ثمَّ أَوْصَانِي فلَان إِلَيْك فَإلَى من توصى بِي أَنْت وَبِمَ تَأْمُرنِي قَالَ أَي بني وَالله مَا أعلمهُ أصبح الْيَوْم أحد على مثل مَا كُنَّا عَلَيْهِ من النَّاس آمُرك بِهِ أَن تَأتيه وَلكنه قد أظل زمَان نَبِي وَهُوَ مَبْعُوث بدين إِبْرَاهِيم يخرج بِأَرْض الْعَرَب مهاجره إِلَى أَرض بَين حرتين بَينهمَا نخل بِهِ عَلَامَات لَا تخفى يَأْكُل الْهَدِيَّة وَلَا يَأْكُل الصَّدَقَة وَبَين كَتفيهِ خَاتم النُّبُوَّة فَإِن اسْتَطَعْت أَن تلْحق بِتِلْكَ الْبِلَاد فافعل قَالَ ثمَّ مَاتَ وغيب وَلحق سلمَان بِالْمَدِينَةِ بِالْأَرْضِ الَّتِي عينت لَهُ فَأَقَامَ هُنَالك حَتَّى قدم عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُهَاجرا فبحث عَن تِلْكَ العلامات الَّتِي رسمت لَهُ فَوَجَدَهَا كَمَا رسمت لَهُ فَآمن بِهِ وَأتبعهُ وَصدقه وَكَانَ مَعَه وعَلى دينه إِلَى أَن توفاه الله تَعَالَى رَضِي الله عَنهُ وَلَو ذهبت إِلَى استقصاء مثل هَذَا لطال الْكتاب فَلَمَّا بلغ مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعِينَ سنة بَعثه الله تَعَالَى رَحْمَة للْعَالمين وكافة للنَّاس بشيرا وَنَذِيرا فَكَانَ أول مَا ابتدئ بِهِ من الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّالِحَة فِي النّوم وَكَانَ لَا يرى رُؤْيا إِلَّا جَاءَت مثل فلق الصُّبْح ثمَّ حبب الله إِلَيْهِ الْخلْوَة فَكَانَ يَنْقَطِع إِلَى الكهوف وَالْجِبَال ويأوى إِلَيْهَا فَكَانَ يَخْلُو بِغَار حراء وَكَانَ فِي ذَلِك لَا يمر بِحجر وَلَا شَجَرَة إِلَّا قَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله فيلتفت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حوله عَن يَمِينه وشماله وَخَلفه فَلَا يرى إِلَّا الشّجر وَالْحِجَارَة تكَلمه فَمَكثَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرى وَيسمع مَا شَاءَ الله أَن يمْكث ثمَّ جَاءَ جِبْرِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا جَاءَهُ من كَرَامَة الله وَهُوَ بحراء فِي رَمَضَان وَمن ذَلِك الْوَقْت ظَهرت آيَاته وعمت

وينبغي الآن أن يعرف الجاحد والجاهل بعض ما خص به من صفات الكمال والفضائل

بركاته وتنوقلت رسَالَته ومعجزاته وَإِذ ذَاك جمع الله لَهُ كل خِصَال الْكَمَال وَخَصه بِصِفَات الشّرف والجلال فَلَقَد جمع الله لَهُ الْكَمَال الظَّاهِر وَالْبَاطِن بِمَا جعل فِيهِ من الْفَضَائِل والمحاسن وَيَنْبَغِي الْآن أَن يعرف الجاحد وَالْجَاهِل بعض مَا خص بِهِ من صِفَات الْكَمَال والفضائل اعْلَم أَن الْكَمَال البشري ضربنا ظَاهر وباطن وكل وَاحِد من هذَيْن الضربين ضَرْبَان ضرب يكون الْإِنْسَان مجبولا عَلَيْهِ وَلَا اكْتِسَاب لَهُ فِيهِ وَضرب يكون مكتسبا للْإنْسَان يحصل لَهُ بسعيه وتكسبه فقد انحصرت صِفَات الْكَمَال فِي أَرْبَعَة أَقسَام كَمَال ظَاهر ضَرُورِيّ وَكَمَال ظَاهر مكتسب وَكَمَال بَاطِن ضَرُورِيّ وَكَمَال بَاطِن مكتسب وَقد جمع الله هَذِه الْأَرْبَعَة الْأَصْنَاف للنَّبِي مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنحن نذكرها جملَة ثمَّ نشرع بعد فِي التَّفْصِيل إِن شَاءَ الله تَعَالَى اعْلَم أَنا إِنَّمَا نذْكر من صِفَات كَمَاله وجلاله الْمَشْهُور بِشَرْط الإختصار خوفًا من التَّطْوِيل والإكثار وَلَو ذَهَبْنَا إِلَى الإستقصاء لعجزنا عَن ذَلِك فَمن ذَلِك كَمَال خلقته وجمال صورته وفصاحة لِسَانه وَشرف نسبه وَعزة قومه وكرم أرضه وَقُوَّة عقله وَصِحَّة فهمه ومتين علمه وَجَمِيل صبره وعظيم حلمه وَحسن تواضعه وعدله وجزيل زهده وفضله وعميم جوده وَكَرمه ووثيق عهوده وذممه ورائق سمته وأدبه وطهارة ذَاته وَنسبه وعظيم شجاعته ونجدته وَكثير حيائه ومروءته وَجُمْلَة أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أكمل النَّاس خلالا وأفضلهم حَالا وأعلمهم بحدود الله وأخوفهم من الله فَأَما كَمَال خلقته وجمال صورته فشيء مَعْلُوم لم يذهب

قال ناعته

أحد من أعدائه إِلَى خلاف ذَلِك وَلَا اسْتَطَاعَ أَن ينْسب إِلَيْهِ نقصا وَلَا شينا فِي شَيْء من ذَلِك لقد اعْترف الْكل أَنه كَانَ أَزْهَر اللَّوْن أدعج الْعَينَيْنِ أشكل أهدب الأشفار أفلج أَزجّ أقنى مدور الْوَجْه وَاسع الجبين كث اللِّحْيَة تملأ صَدره مَوْصُول مَا بَين اللبة والسرة بِشعر وَاسع الصَّدْر عَظِيم الْمَنْكِبَيْنِ ضخم الْعِظَام والعضدين والذراعين والأسافل رحب الْكَفَّيْنِ والقدمين سَائل الْأَطْرَاف أنور المتجرد دَقِيق المسربة مَرْبُوع الْقد لَيْسَ بالطويل الْبَائِن وَلَا بالقصير المتردد وَمَعَ ذَلِك فَلم يكن يماشيه أحد ينْسب إِلَى الطول إِلَّا طاله رجل الشّعْر إِذا افتر ضَاحِكا عَن جمان افتر عَن مثل سنا الْبَرْق وَعَن مثل حب الْغَمَام إِذا تكلم رؤى كالنور يخرج من ثناياه أحسن النَّاس عنقًا لَيْسَ بمطهم وَلَا بمكلثم متماسك اللَّحْم قَالَ ناعته مَا رَأَيْت أحدا فِي حلَّة حَمْرَاء مرجلا أحسن مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَأَن الشَّمْس تجرى فِي وَجهه وَإِذا ضحك يتلألأ فِي الْجد وأجمل النَّاس من بعيد وَأَحْسَنهمْ من قريب من رَآهُ بديهة هابه وَمن خالطه معرفَة أحبه يَقُول ناعته لم أر قبله وَلَا بعده مثله طيب الرَّائِحَة وَالْعرْف وَلَقَد كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعرف برائحته وَإِن لم ير وَلَقَد كَانَ يتطيب برائحته وَيُوضَع فِي الطّيب فينم أَكثر مِنْهُ وَلَقَد كَانَ يضع يَده على رَأس الطِّفْل رَحْمَة لَهُ فَكَانَت تنم عَلَيْهِ رَائِحَة طيبَة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَقَد اشْتهر وَصَحَّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد مَوته طَال مكثه فِي الْبَيْت قبل أَن يدْفن بيومين وَلَيْلَة فِي الْمَشْهُور وَكَانَ مَوته فِي شهر أيلول وَمَعَ ذَلِك فَلم يتَغَيَّر لَهُ ريح

وأما فصاحة لسانه

وَلَا ظهر عَلَيْهِ شَيْء مِمَّا يظْهر على الْمَوْتَى حَتَّى كَانَت الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم تَقول لَهُ طبت حَيا وَمَيتًا وَلَقَد روى أَن أم سَلمَة قَالَت وضعت يَدي على صدر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ميت فمرت على جمع لَا آكل وَلَا أتوضأ إِلَّا وجدت ريح الْمسك من يَدي فَإِن قيل نسلم أَنه كَمَا وصفت لَكِن أَي فَضِيلَة لحسن الصُّورَة الظَّاهِرَة وَأي مزية لَهَا على غَيرهَا إِذْ رب قَبِيح المنظر حسن الْفِعْل والمخبر وَرب حسن الظَّاهِر والمنظر قَبِيح الْفِعْل والمخبر فَنَقُول هَذَا الَّذِي ذكرت ينْدر ويقل بل لَا يبعد أَن يَقُول قَائِل لَا يُوجد كَامِل الصُّورَة الظَّاهِرَة أَلا وَهُوَ كَامِل الصُّورَة الْبَاطِنَة إِذْ كِلَاهُمَا إِنَّمَا سَببه بِحَسب مَا أجْرى الله الْعَادة مزاج معتدل فهما ثمرتا مثمر وَاحِد وَلأَجل هَذَا وَالله أعلم لم نسْمع قطّ عَن نَبِي من أَنْبيَاء الله تَعَالَى أَن الله تَعَالَى خلقه نَاقص الْخلقَة أَو مشوهها اللَّهُمَّ أَلا قد طرأت على بَعضهم آفَات لأسباب شاءها الله تَعَالَى مثل أَيُّوب وَغَيره وَلَيْسَ الْكَلَام فِي الطَّارِئ وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي أصل الْخلقَة ثمَّ إِن الْحُكَمَاء وَالْعُلَمَاء قد استدلوا بِحسن الْخلق على حسن الْخلق حَتَّى أَن الْحُكَمَاء قَالُوا أقصدوا بحوائجكم سماح الْوُجُوه فَإِنَّهُ أنجح لَهَا أَو فَإِنَّهُ أَحْرَى أَن تقضى وَأَيْضًا فَإِن الْجمال وَالْحسن مَحْبُوب بالطبع ومرغوب فِيهِ والقبح منفور عَنهُ ومقصود الله تَعَالَى أَن يحب الْأَنْبِيَاء وَأَن لَا ينفر مِنْهُم وَالْحسن مُوجب لذَلِك وَأَيْضًا فَإِن صفة نَبينَا هَذِه هِيَ صفة جده إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ على مَا ثَبت من صفة إِبْرَاهِيم فِي كتب الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَأما فصاحة لِسَانه فَلَقَد أطل من الفصاحة على كل نِهَايَة وَبلغ من البلاغة كل غَايَة فَلَقَد أوتين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَلامَة الطَّبْع وبراعة المنزع وعذوبة اللَّفْظ وَحسن الْإِيرَاد وجزالة القَوْل وَصِحَّة الْمعَانِي مَعَ أيجاز اللَّفْظ وَقلة التَّكَلُّف أُوتى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَوَامِع الْكَلم وبدائع الحكم فَلَقَد كَانَ يُخَاطب كل حَيّ من أَحيَاء الْعَرَب بلغتهم وَلم يكن يقْتَصر على لُغَة وَاحِدَة مَعَ أَنه إِنَّمَا نَشأ على لُغَة بني سعد وقريش وَكَانَ يعرف لُغَات

وأما نسبه

غَيرهم حَتَّى كَانُوا يتعجبون مِنْهُ وَيَقُولُونَ مَا رَأينَا بِالَّذِي هُوَ أفْصح مِنْهُ وَهَذَا مَعْلُوم عِنْد الفصحاء الْعَرَب العرباء وَيقف على معرفَة ذَلِك بالذوق والمشاهدة من كَانَ عَارِفًا بِلِسَان الْعَرَب ولغتهم ووقف على شَيْء من كَلَامه مَعَهم ومجاوبتهم وَأما نسبه فمعلوم لَا يجهل ومشهود لَا يُنكر جده الْأَعْلَى إِبْرَاهِيم وَالْأَقْرَب عبد الْمطلب كَابِرًا عَن كَابر وشريفا عَن شرِيف فهم بَين أنبيائه فضلاء وَبَين شرفاء حكماء وَهَذَا كُله مُسلم لَا يمْنَع ومقبول لَا يدْفع فَهُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من خير قُرُون بني آدم قرنا فقرنا وَذَلِكَ أَن الله اصْطفى من ولد آدم إِبْرَاهِيم وَاصْطفى من ولد إِبْرَاهِيم إِسْمَاعِيل كَمَا قد شهِدت التَّوْرَاة وَغَيرهَا بذلك وَاصْطفى من ولد إِسْمَاعِيل بني كنَانَة وَاصْطفى من بني كنَانَة قُريْشًا وَاصْطفى من قُرَيْش بني هَاشم واصطفاه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بني هَاشم فَهُوَ خِيَار من خِيَار من خِيَار وَكَذَلِكَ الرُّسُل صلى الله عَلَيْهِم وَسلم تبْعَث فِي أشرف أَنْسَاب قَومهَا صلى الله عَلَيْهِم ذَلِك ليَكُون أميل لقلوب الْخلق إِلَيْهِم وَالله أعلم وَأما عزة قومه فقد كَانُوا فِي جاهليتهم لم ينلهم سباء وَلَا ظَفرت بهم أَعدَاء وَلَا دخلُوا فِي أغلب أزمانهم تَحت قهر غَيرهم بل كَانُوا قد حازوا الشّرف الباهر والمفاخر والمآثر هم أوفر النَّاس عقولا وَأَقلهمْ فضولا وأفصح النَّاس مقَالا وَأكْرمهمْ فعالا الشجعان الكرماء والحكماء الأدباء أما سفساف الْأَخْلَاق ودنيها فهم مبرأون عَنْهَا وَأما حسنها وَعَلَيْهَا فهم أحرص النَّاس عَلَيْهَا والموصوفون بهَا وَكفى دَلِيلا على ذَلِك مَا علم من حسن جوابهم وكريم عمودهم وعميم بذلهم وجودهم وكل هَذَا من أَوْصَافه مَعْرُوف وَالْغَالِب مِنْهُم بذلك مَوْصُوف وَحقّ لقائلهم أَن يَقُول ... لنا الشّرف الَّذِي يطأالثريا مَعَ الْفجْر الَّذِي بهر الْعباد ... وَأما أرضه فناهيك من أَرض أسس بقيتها إِبْرَاهِيم الْخَلِيل وَأمره بِأَن بدعو النَّاس إِلَيْهَا الْملك الْجَلِيل وَتَوَلَّى عمارتها وَالْمقَام بهَا النَّبِي إِسْمَاعِيل وتوارثها الْأَشْرَاف جيلا بعد جيل وَكفى بلدته شرفا مَا فعل الله بِملك الْحَبَشَة الَّذِي جَاءَ لهدمها فَلَمَّا قرب مِنْهَا وعزم

وأما قوة عقله وعلمه

على هدمها وَوجه فيله عَلَيْهَا أرسل الله عَلَيْهِم طيرا أشباه الخطاطيف مَعَ كل وَاحِد مِنْهَا ثَلَاثَة أَحْجَار حجر فِي منقاره وحجران فِي رجلَيْهِ فرمت الطير ذَلِك الْجَيْش بِتِلْكَ الْجِهَات فَكل من أَصَابَهُ من تِلْكَ الْحِجَارَة شَيْء هلك مَكَانَهُ وَأصَاب ملكهم مِنْهَا حجر فَهَلَك بعد أَن تناثر لَحْمه وتساقط أُنْمُلَة أُنْمُلَة فَتَفَرَّقُوا فِي كل وَجه وأهلكهم الله كل هَلَاك وبدد شملهم أَي تبديد وكل هَذَا مَعْرُوف لَا يُنكر ومشهور لَا يجهل فَهَذِهِ الأَرْض على محلهَا وجدبها وشظف عَيْش أَهلهَا خير الْبِلَاد عِنْد رَبهَا دلّ على ذَلِك كَلَام الْأَنْبِيَاء وَالرسل وَمَا جَاءَ من ذَلِك فِي مُتَقَدِّمي الْكتب وَلَا يظنّ الْجَاهِل أَن خير بِلَاد الدُّنْيَا عِنْد الله أَكْثَرهَا خصبا وَأَعْظَمهَا فَاكِهَة وَأَبا فَإِن هَذَا ظن من لَيْسَ لَهُ نطق وَلَا فهم وهمته مَا يَجْعَل فِي بَطْنه كالبهم بل خير الْبِلَاد عِنْد الله مَا كوبدت فِيهِ المشقات الَّتِي توصل إِلَى مَا عِنْد الله من الدَّرَجَات وَكَانَت مَعَ ذَلِك مِمَّا قدس وانتشرت مِنْهُ الديانَات وكل ذَلِك فِي حق أرضه مَعْلُوم من جِهَة النبوات وَسَيَأْتِي مَا ذكر الله تَعَالَى فِي مَكَّة بَلَده عَلَيْهِ السَّلَام على لِسَان أشعياء عَلَيْهِ السَّلَام وَأما قُوَّة عقله وَعلمه فَلَقَد أُوتى مِنْهُمَا مَا لم يؤته أحد وَأعْطى مِنْهَا مَا لم يُعْطه وَالِد وَلَا ولد وَكفى دَلِيلا على ذَلِك مَا ظهر عَلَيْهِ من حسن السياسة وَأَحْكَام أُمُور الرياسة وَالْأَخْذ فِي الْعُلُوم العقليات من غير اكْتِسَاب شَيْء مِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ من الْمُقدمَات حَتَّى إتخذ أَرْبَاب كل علم كَلَامه فِي ذَلِك الْعلم أصلا يرجع إِلَيْهِ ويعول فِي صناعته عَلَيْهِ فَتَارَة يكون كَلَامه فِي بعض الْعُلُوم منشئا ممهدا وَأُخْرَى متمما ومؤيدا وَإِن أردْت أَن تعلم ذَلِك علم الْيَقِين فَتَأمل تَأمل اليقظين مَا تضمنه من ذَلِك الْكتاب وَالسّنة فبهما كثرت الْخيرَات وعظمت الْمِنَّة فَإنَّك تجدها قد جمع لَهُ مِنْهُمَا عُلُوم الْأَوَّلين والآخرين على اخْتِلَاف عُلُوم الْعَالمين من الرياضيات على اخْتِلَاف أوصافها والإلهيات مَعَ تعذرها على أَكثر الأفهام واعتياصها والسياسات على تشَتت أوصافها أما الْأُمُور المصلحية الَّتِي يعبر عَنْهَا بالقوانين الشَّرْعِيَّة فَيَقْضِي الْعُقَلَاء مِنْهَا الْعجب فَإِنَّهُ أطل مِنْهَا على أَعلَى الْمَرَاتِب والرتب وَذَلِكَ

فأصول الشريعة وإن تعددت صورها فهي راجعة إلى هذه الخمسة

أَن أَعمال شَرِيعَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انقسمت إِلَى أُمُور تعبدية مثل الصَّوْم وَالصَّلَاة وَالْحج وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يدْرك مَعَانِيهَا وَحكمهَا إِلَّا من أمده الله بِتَوْفِيق خَاص فنور بالمعارف بَاطِنه وزين بِالْأَعْمَالِ ظَاهره وَإِلَى أُمُور مصلحية يدْرك مَعَانِيهَا الجفلى وَالْجُمْهُور من أهل الدّيانَة الحنيفية ثمَّ أَنه اعْتبر أصُول مصَالح الْعَالم فأوجبها وَاعْتبر أصُول مفاسد الْعَالم وحرمها وأصول الْمصَالح إِنَّمَا هِيَ خَمْسَة الْمُحَافظَة على صِيَانة الدِّمَاء فِي أهبها وَالْأَمْوَال على ملاكها والأنساب على أهليها والعقول على المتصفين بهَا والأديان الَّتِي بهَا عَيْش النُّفُوس وزكاتها فأصول الشَّرِيعَة وَإِن تعدّدت صورها فَهِيَ رَاجِعَة إِلَى هَذِه الْخَمْسَة فَأَما بمرتبة وَاحِدَة أَو بمراتب على مَا يعرف فِي مَوْضِعه وَأما الدِّمَاء فحقنها بِأَن شرع أَن من قتل يقتل وَمن جرح يجرح وَمن فَقَأَ عين إِنْسَان فقئت عينه وَهَكَذَا فَإِذا علم الْقَاتِل أَن يفعل بِهِ مثل مَا يفعل انكف عَن الْقَتْل فحصلت حَيَاة النُّفُوس وصيانة الدِّمَاء وَلأَجل ذَلِك قَالَ الله تَعَالَى {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة يَا أولي الْأَلْبَاب} ثمَّ سوى فِي الْقصاص بَين الْكَبِير وَالصَّغِير والشريف والمشروف إشعارا بِأَن مزايا الدُّنْيَا وفضائلها لَا مبالاة بهَا عِنْد الله أَن الشّرف إِنَّمَا هُوَ بِالدّينِ وَالتَّقوى وَلأَجل هَذَا قَالَ الله تَعَالَى إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام النَّاس كأسنان الْمشْط يُرِيد بذلك أَن الْأَحْكَام مُتَسَاوِيَة بَينهم وَأَنَّهُمْ فِيمَا شرع سَوَاء وَأما الْأَمْوَال فصانها على ملاكها بِأَن شرع قطع يَد السَّارِق للنصاب وَقتل الْمُحَارب وَغرم مثل الْمُتْلف أَو الْمَغْصُوب إِن كَانَ مِمَّا لَهُ مثل فاذا علم السَّارِق والمحارب أَنَّهُمَا يعاقبان بِمَا يُنَاسب جنايتهما ارتدعا وانكفا فانحفظت الْأَمْوَال

وأما العقول

وَأما الْعُقُول فَحرم اسْتِعْمَال مَا يُؤَدِّي إِلَى تلفهَا وذهابها كَالْخمرِ وَذَلِكَ أَن منَاط التَّكْلِيف الْعقل وَهُوَ الَّذِي بِهِ يعرف الله تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي يَنْتَظِم مصَالح الدُّنْيَا وَالدّين فَإِذا أذهبه الْإِنْسَان بِالْخمرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فقد تعرض لإِسْقَاط التَّكْلِيف وللكفر بِاللَّه تَعَالَى بل لكل الْمَفَاسِد وَلأَجل هَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام الْخمر جماع الْإِثْم وَأم الْخَبَائِث والكبائر وَلأَجل هَذَا قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر والأنصاب والأزلام رِجْس من عمل الشَّيْطَان فَاجْتَنبُوهُ لَعَلَّكُمْ تفلحون إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَن يُوقع بَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء فِي الْخمر وَالْميسر ويصدكم عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ} ثمَّ أكد الْكَفّ عَن الْخمر بِأَن شرع على شربه حدا هُوَ ضرب بِالسَّوْطِ ليَكُون ذَلِك أبلغ فِي الردع والزجر وَأما حفظ الْأَنْسَاب وصيانة إختلاط الْمِيَاه فِي الْأَرْحَام فشرع النِّكَاح وَحرم السفاح لينتسب كل ولد لوالده ويتميز الْوَلِيّ عَن مضادده ولينضاف كل إِلَى شيعته ويتحقق نسبته بقبيلته وَلأَجل هَذَا قَالَ الله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ من ذكر وَأُنْثَى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا} وَلم لم يكن ذَلِك لارتفع التعارف وَلم يسمع ولاتسع خرق لَا يرقع وَأما الْمُحَافظَة على الْأَدْيَان وصيانتها فَهُوَ الْمَقْصُود الْأَعْظَم والمستند الأعصم فَحرم الْكفْر والفسوق والعصيان وَأوجب الطَّاعَات وَالْإِيمَان وَأوجب قتل الْكَافِر وتوعده بِالْعَذَابِ الدَّائِم والهوان وَلَا يخفى على من مَعَه أدنى مسكة إِذا تَأمل بِأَدْنَى فكرة أَن الْإِيمَان

بِاللَّه رَأس الْمصَالح والخيرات وَالْكفْر رَأس المقابح والهلكات وَلأَجل وجوب الْإِيمَان وَتَحْرِيم الكفران أرسل الله الرُّسُل وَأنزل الْكتب وَلأَجل ذَلِك قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون مَا أُرِيد مِنْهُم من رزق وَمَا أُرِيد أَن يطْعمُون إِن الله هُوَ الرَّزَّاق ذُو الْقُوَّة المتين} فَهَذِهِ الْأُصُول الْخَمْسَة بهَا يتم نظام الْعَالم وبأضدادها يخرب الْعَالم وبنظام الْعَالم يتم نظام الْأَدْيَان وبنظام الْأَدْيَان يحصل النجَاة من عَذَاب النيرَان والفوز بنعيم الْجنان مَعَ رضى الرَّحْمَن فَهَذَا بَيَان أنموذج من أصُول السياسات الشرعيات وَأما الرياضات فيكفيك مِنْهَا مِثَال وَاحِد من الطَّيِّبَات وَذَلِكَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ الْمعدة بَيت الدَّاء وَالْحمية أصل الدَّوَاء وأصل كل دَاء الْبرد وَلَقَد سمع بعض أطباء الْهِنْد هَذَا الْكَلَام فَقَالَ لم يتْرك نَبِيكُم من الطِّبّ لأحد شَيْئا أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ وتتبع مَا اسْتُفِيدَ من جِهَته من الْعُلُوم بَحر لَا سَاحل لَهُ وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع اسْتِيفَائه ومقصود هَذَا الْكَلَام أَن النَّبِي الرفيع عِنْد الله الْعَظِيم الْقدر لَدَيْهِ كَانَ أُمِّيا مَنْسُوبا إِلَى ولادَة الْأُم وَمعنى هَذِه النِّسْبَة أَنه بقى على مَا كَانَ عَلَيْهِ أَي لم يتَعَلَّم علما من أحد وَلَا اكْتَسبهُ وَلَا خطّ كتابا بِيَمِينِهِ وَهَذَا مَعْرُوف من حَاله عِنْد الْمُوَافق والمخالف وَرُبمَا كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يحْسب شَيْئا عدده بأصابعه فَكَانَ يَقُول أَنا أمة أُميَّة لَا نكتب وَلَا نحسب الشَّهْر هَكَذَا وَهَكَذَا يُشِير بيدَيْهِ ثَلَاثًا والشهر هَكَذَا وَهَكَذَا ويخنس بِإِحْدَى أَصَابِعه يَعْنِي فِي الثَّالِثَة وَمَعَ ذَلِك فقد أُوتى جَوَامِع الْكَلم وبدائع الحكم وعلوم الْأَوَّلين فَأخْبر عَن الْقُرُون الْمَاضِيَة والأمم السالفة بأخبار هِيَ حق عِنْد أَرْبَاب الْعُلُوم وَلَا ينازعه أحد مِنْهُم فِيهَا بل إِذا سمعوها أذعنوا للتصديق بهَا وَلم يكذبوه فِي شَيْء مِنْهَا وَكَذَلِكَ أخبر عَن الْأُمَم الْآتِيَة والوقائع المنتظرة أَخْبَارًا لَا يتَوَصَّل إِلَيْهَا بإكتساب وَإِنَّمَا ذَلِك بإعلام الْعَلِيم الْوَهَّاب فَجَاءَت على نَحْو مَا أخبر وَمَا بِهِ بشر وأنذر وَسَيَأْتِي من ذَلِك مَوَاضِع يتَبَيَّن فِيهَا ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى

وأما صبره وحلمه

وَهَذَا دَلِيل من أَدِلَّة نبوته لَا يخفى على متأمل وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق بل نقُول أَنه لَيْسَ فِي الْقُوَّة البشرية والجبلة الإنسانيه الْوُصُول من الْعُلُوم والمعقولات إِلَى مثل مَا وصل هُوَ إِلَيْهِ إِذْ قد علم أمورا لَا يسْتَقلّ الْعقل بدركها وَأخْبر بهَا وَعند هَذَا يعلم أَن ذَلِك بِتَوْفِيق إلهي وَنور رباني وَلأَجل هَذَا قَالَ الله لَهُ {وعلمك مَا لم تكن تعلم وَكَانَ فضل الله عَلَيْك عَظِيما} وَأما صبره وحلمه فيكفيك من ذَلِك أَنه كسرت رباعيته يَوْم أحد وشج فِي وَجه فشق ذَلِك على أَصْحَابه فَقَالُوا لَهُ لَو دَعَوْت الله عَلَيْهِم فَقَالَ إِنِّي لم أبْعث لعانا وَإِنَّمَا بعثت رَحْمَة ثمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اهد قومِي فَإِنَّهُم لَا يعلمُونَ فَأنْظر مَا فِي هَذَا القَوْل من جماع الْفضل ودرجات الْإِحْسَان وَحسن الْخلق وكرم النَّفس وَغَايَة الصَّبْر والحلم إِذْ لم يقصر على السُّكُوت عَنْهُم حَتَّى عفى ثمَّ أشْفق عَلَيْهِم ورحمهم ودعا وشفع لَهُم ثمَّ أظهر سَبَب الشَّفَقَة وَالرَّحْمَة بقوله لقومي ثمَّ اعتذر عَنْهُم لجهلهم فَقَالَ فَإِنَّهُم لَا يعلمُونَ وَكَذَلِكَ جَاءَ أَعْرَابِي جلف جَاف وَكَانَ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم برد غليظ الْحَاشِيَة فَجَذَبَهُ الْأَعرَابِي بردائيه جبذا شَدِيدا حَتَّى أثر حَاشِيَة الْبرد فِي صفحة عُنُقه ثمَّ قَالَ يَا مُحَمَّد احملني على بعير من مَال الله الَّذِي بِيَدِك فَإنَّك لَا تحملنِي من مَالك وَلَا من مَال أَبِيك فَسكت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ المَال مَال الله وَأَنا عَبده ثمَّ قَالَ لَهُ لم فعلت بِي مَا فعلت قَالَ كَأَنَّك لَا تكافئ بِالسَّيِّئَةِ السَّيئَة فَضَحِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ أَمر أَن يحمل لَهُ على بعير شعير وعَلى آخر تمر وَكَذَلِكَ قَالَ لَهُ آخر اعْدِلْ يَا مُحَمَّد فَإِن هَذِه قسْمَة مَا أُرِيد بهَا وَجه الله فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيلك إِن لم أعدل أَنا فَمن يعدل أيأمنني الله على خزائنه وَلَا تأمنوني وَكَذَلِكَ سحره

لبيد بن الأعصم الْيَهُودِيّ فَأعلمهُ الله بسحره وَحَيْثُ هُوَ فاستخرجه الله فبرئ فَقيل لَهُ أَلا تقتله فَقَالَ أما أَنا فقد شفاني الله وأكره أَن أثير على النَّاس شرا وَكَذَلِكَ قدمت إِلَيْهِ يَهُودِيَّة ذِرَاع شَاة مَسْمُومَة فَأكل مِنْهُ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فعافاه الله فِي ذَلِك الْوَقْت من ضَرَر ذَلِك السم فَاسْتَحْضر الْمَرْأَة وَقَالَ لَهَا مَا الَّذِي حملك على ذَلِك قَالَت أردْت إِن كنت كَاذِبًا أرحت مِنْك وَإِن كنت صَادِقا لَا يَضرك فعفى عَنْهَا وَقد قَالَ بعض أَصْحَابه مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متصرا من مظْلمَة ظلمها قطّ مَا لم تكن حُرْمَة من محارم الله تَعَالَى وَمَا ضرب بِيَدِهِ شَيْئا قطّ إِلَّا أَن يُجَاهد فِي سَبِيل الله وَمَا ضرب خَادِمًا وَلَا أمْرَأَة وجئ إِلَيْهِ بِرَجُل فَقيل هَذَا أَرَادَ أَن يقتلك فَقَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لن ترع لن ترع وَلَو أردْت ذَلِك لم تسلط عَليّ وجاءه زيد بن سعية يتقاضاه دينا لَهُ عَلَيْهِ فجبذ ثَوْبه عَن مَنْكِبَيْه وَأخذ بِمَجَامِع ثِيَابه وَأَغْلظ لَهُ فانتهره عمر وشدد لَهُ فِي القَوْل وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتبسم فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنا وَهُوَ كُنَّا إِلَى غير هَذَا مِنْك أحْوج تَأْمُرنِي بِحسن الْقَضَاء وتأمره بِحسن التقاضي ثمَّ قَالَ لقد بقى من أَجله ثَلَاثَة وَأمر عمر يَقْتَضِيهِ مَا لَهُ ويزيده عشْرين صَاعا فَكَانَ سَبَب إِسْلَامه وَالْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب أَكثر من أَن يَأْتِي على حصرها هَذَا الْكتاب وعَلى الْجُمْلَة فقد تَوَاتر صبره على أَذَى قُرَيْش وسبه وإخراجه من بَلَده ونيل الْأَذَى حَتَّى بلغُوا مِنْهُ مبلغا لَا يصبر عَلَيْهِ إِلَّا من هُوَ مثله فَلَمَّا أظفره الله بهم قَالَ لَهُم مَا تَقولُونَ أَنِّي فَاعل بكم قَالُوا خيرا أَخ كريم وأبن كريم فَقَالَ أَقُول كَمَا قَالَ أخي

وأما تواضعه

يُوسُف {لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم يغْفر الله لكم وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ} أذهبوا فَأنْتم الطُّلَقَاء وَلَقَد ثَبت عَنهُ أَنه لما كذبه قومه جَاءَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام فَقَالَ إِن الله قد سمع قَول قَوْمك لَك وَمَا ردوا عَلَيْك وَقد أَمر ملك الْجبَال لتأمره بِمَا شِئْت فيهم فناداه ملك الْجبَال وَسلم عَلَيْهِ وَقَالَ مرني بِمَا شِئْت إِن شِئْت أطبق عَلَيْهِم الأخشبين فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْجُو أَن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وَحده لَا يُشْرك بِهِ شَيْئا وَلَقَد هَبَط ثَمَانُون رجلا من التَّنْعِيم صَلَاة الصُّبْح ليقتلوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخذُوا فَأعْتقهُمْ وَمثل هَذَا كثير وَعند هَذَا يتَبَيَّن أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحلم النَّاس عِنْد مقدرته وأصبرهم على مكرهته وَأَنه امتثل أَمر الله حَيْثُ قَالَ لَهُ {خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} وَحَيْثُ قَالَ لَهُ تَعَالَى {فَاعْفُ عَنْهُم وَاصْفَحْ إِن الله يحب الْمُحْسِنِينَ} وَأما تواضعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على علو منصبه ورفعة رتبته فَكَانَ أَشد النَّاس تواضعا وأبعدهم عَن كبر وحسبك أَن الله خَيره بَين أَن يكون نَبيا ملكا أَو نَبيا عبدا فَاخْتَارَ أَن يكون نَبيا عبدا فَقَالَ لَهُ إسْرَافيل عَلَيْهِ السَّلَام عِنْد ذَلِك فَإِن الله قد أَعْطَاك بِمَا تواضعت لَهُ أَنَّك سيد ولد آدم يَوْم الْقِيَامَة وَأول من تَنْشَق الأَرْض عَنهُ وَأول شَافِع وَقَالَ أَبُو أُمَامَة خرج علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متوكأ على عَصا فقمنا لَهُ فَقَالَ لَا تقوموا كَمَا تقوم الْأَعَاجِم يعظم بَعْضهَا بَعْضًا وَقَالَ إِنَّمَا أَنا عبد آكل كَمَا يَأْكُل العَبْد وأجلس كَمَا يجلس العَبْد وَكَانَ يركب الْحمار ويردف خَلفه وَيعود الْمَسَاكِين ويجالس الْفُقَرَاء ويجيب دَعْوَة العبيد وَيجْلس بَين أَصْحَابه مختلطا بهم حَيْثُ مَا انْتهى بِهِ الْمجْلس جلس

وأما عدله وصدقه صلى الله عليه وسلم وأمانته وصدق لهجته

وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا تطروني كَمَا أطرت النَّصَارَى ابْن مَرْيَم إِنَّمَا أَنا عبد فَقولُوا عبد الله وَرَسُوله وجاءته امْرَأَة فَقَالَت إِن لي إِلَيْك حَاجَة قَالَ لَهَا اجلسي يَا أم فلَان فِي أَي طرق الْمَدِينَة شِئْت أَجْلِس إِلَيْك حَتَّى أقضى حَاجَتك فَجَلَسَ إِلَيْهَا حَتَّى فرغت من حَاجَتهَا وَكَانَ يَوْم بني قُرَيْظَة على حمَار ومخطوم بِحَبل من لِيف عَلَيْهِ أكاف وَكَانَ يدعى إِلَى خبز الشّعير والإهالة السنخة فيجيب وَقد حج وَكَانَ عَلَيْهِ قطيفة مَا تَسَاوِي أَرْبَعَة دَرَاهِم هَذَا كُله وَقد أَقبلت عَلَيْهِ الدُّنْيَا بحذافيرها وَأَلْقَتْ إِلَيْهِ أفلاذ كَبِدهَا فَلم يلْتَفت إِلَيْهَا وَلَا عبأ بهَا وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيته فِي مهنة أَهله يفلى ثَوْبه ويحلب شاته ويرقع ثَوْبه ويخصف نَعله ويخدم نَفسه ويعلف نَاضِحَهُ ويقم الْبَيْت وَيعْقل الْبَعِير وَيَأْكُل مَعَ الْخَادِم ويعجن مَعهَا وَيحمل بضاعته من السُّوق وَكَانَت الْأمة من إِمَاء أهل الْمَدِينَة تَأْخُذ بِيَدِهِ فتنطلق بِهِ حَيْثُ شَاءَت من الْمَدِينَة حَتَّى يقْضى حَاجَتهَا وَدخل عَلَيْهِ رجل فأصابته من هيبته رعدة فَقَالَ لَهُ (هون عَلَيْك فَانِي لست بِملك انما أَنا ابْن امْرَأَة من قُرَيْش كَانَت تَأْكُل القديد) وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة دخلت السُّوق مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاشْترى سَرَاوِيل وَقَالَ للوازن زن وارجح وَذكر قصَّته فَقَالَ فَوَثَبَ إِلَى يَد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقبلهَا فجذب يَده وَقَالَ هَذَا تَفْعَلهُ الْأَعَاجِم بملوكها وَلست بِملك إِنَّمَا أَنا رجل مِنْكُم ثمَّ أَخذ السَّرَاوِيل فَذَهَبت لأحمله فَقَالَ صَاحب الشَّيْء أَحَق بشيئه أَن يحملهُ وَأما عدله وَصدقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأمانته وَصدق لهجته فَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آمن النَّاس وَأَعْدل النَّاس وأعف النَّاس وأصدقهم لهجة مُنْذُ كَانَ اعْترف بذلك محادوه وعداته وَكَانَ يُسمى قبل النُّبُوَّة الْأمين وَذَلِكَ لما جعل الله فِيهِ من الْأَخْلَاق الصَّالِحَة

وَمِمَّا يدل على ذَلِك أَن قُريْشًا لما بنيت الْكَعْبَة اخْتلفت فِيمَن يضع الْحجر الْأسود مَوْضِعه فحكموا بَينهم أول دَاخل عَلَيْهِم فَإِذا بِالنَّبِيِّ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَاخِلا فَقَالُوا هَذَا مُحَمَّد هَذَا الْأمين قد رَضِينَا بِهِ وَذَلِكَ قبل أَن يبْعَث وَلَقَد اجْتمع الْأَخْنَس بن شريق مَعَ أبي جهل يَوْم بدر وَكِلَاهُمَا مُخَالف وعدو لَهُ قد أجمع على قَتله وقتاله فَقَالَ الْأَخْنَس لأبي جهل يَا أَبَا الحكم لَيْسَ هُنَا غَيْرِي وَغَيْرك يسمع كلامنا فَأَخْبرنِي عَن مُحَمَّد أصادق أم كَاذِب فَقَالَ أَبُو جهل وَالله إِن مُحَمَّدًا لصَادِق وَمَا كذب مُحَمَّد قطّ وَلَقَد سَأَلَ هِرقل أَبَا سُفْيَان وَهُوَ على شركه ومخالفته فَقَالَ لَهُ هَل كُنْتُم تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قبل أَن يَقُول مَا قَالَ قَالَ لَا قَالَ هِرقل قد أعلم أَنه لم يكن يدع الْكَذِب على النَّاس ويكذب على الله وَقَالَ النَّضر بن الْحَارِث لقريش وَهُوَ عدوه ومخالفه قد كَانَ مُحَمَّد فِيكُم غُلَاما حَدثا أرضاكم فِيكُم وأصدقكم حَدِيثا وأعظمكم أَمَانَة حَتَّى إِذا رَأَيْتُمْ فِي صدغيه الشيب وَجَاءَكُم بِمَا جَاءَ بِهِ قُلْتُمْ أَنه كَذَّاب وَأَنه سَاحر لَا وَالله مَا هُوَ بساحر وَلَا بِكَذَّابٍ فَهَذَا كَانَ حَاله فاعترف أعداؤه بمناقبه وَلَا يقدرُونَ على إِنْكَار شَيْء من فضائله من أدل دَلِيل على عدله وعظيم تواضعه وفضله أَنه كَانَ قد انْتهى بِهِ الْأَمر إِلَى أَن تهابه الْمُلُوك وتفرق مِنْهُ الْجَبَابِرَة وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّهُ كَانَ يُوفي لكل ذِي حق حَقه وَيعرف لذِي الْفضل فَضله حَتَّى كَانَ يَقُول إِنِّي أُرِيد أَن ألْقى الله وَلَيْسَ لأحد مِنْكُم يطالبني بمظلمة فِي أهل وَلَا مَال وَلأَجل ذَلِك أقاد عكاشة بن مُحصن من نَفسه وَذَلِكَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضربه بقضيب فِي ظَهره غير قَاصد لضربه فَقَالَ لَهُ عكاشة إِنَّك قد أوجعتني فأقدني مَعْنَاهُ مكني مِنْك حَتَّى أضربك مِثْلَمَا ضربتني فكشف لَهُ عَن ظَهره وناوله الْقَضِيب وَقَالَ اضْرِب فأكب عكاشة على ظَهره يقبله وَقَالَ إِنَّمَا أردْت أَن يمس جلدي جِلْدك

وأما زهده

وَالْأَخْبَار فِي هَذَا أَكثر من أَن يُحِيط بهَا هَذَا الْكتاب وَأما زهده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَقَد كَانَ أزهد النَّاس وأورعهم وحسبك شَاهدا على ذَلِك مَا علم من حَاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ أَنه أعرض عَن الدُّنْيَا وزهرتها وَلم يلْتَفت إِلَى شَيْء مِنْهَا مَعَ إقبالها عَلَيْهِ وسياقتها إِلَيْهِ وَذَلِكَ أَن الدُّنْيَا سيقت إِلَيْهِ بحذافيرها وترادفت عَلَيْهِ فتوحها وَهُوَ مَعَ ذَلِك لَا يعرج عَلَيْهَا وَلَا يلْتَفت إِلَيْهَا إِلَى أَن مَاتَ وَدِرْعه مَرْهُونَة عِنْد يَهُودِيّ فِي نَفَقَة عِيَاله وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُول اللَّهُمَّ اجْعَل رزق آل مُحَمَّد قوتا وَيَقُول اللَّهُمَّ أحييني مِسْكينا وأمتني مِسْكينا وأحشرني فِي جملَة الْمَسَاكِين وَلَقَد صحت الْأَخْبَار عَنهُ أَنه مَا شبع ثَلَاثًا تباعا حَتَّى مضى لسبيله وَلَقَد روى أَنه مَا شبع من خبز الشّعير يَوْمَيْنِ متواليين وَمَا ترك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دِينَارا وَلَا درهما وَلَا شَاة وَلَا بَعِيرًا وَمَا ترك إِلَّا بغلته وسلاحه وأرضا جعلهَا صَدَقَة وَكَانَ يَقُول مَا أحب أَن لي مثل أحد ذَهَبا يمْضِي ثَالِثَة وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارا إِلَّا شَيْئا أرصده لدين وَلَقَد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرض على رَبِّي أَن يَجْعَل لي بطحاء مَكَّة ذَهَبا قلت لَا يَا رب بل أجوع يَوْمًا وَأَشْبع يَوْمًا فَإِذا جعت تضرعت إِلَيْك ودعوتك وَإِذا شبعت شكرتك وحمدتك وَلَقَد حكى عَنهُ جمَاعَة من أَصْحَابه أَنه كَانَ يبيت هُوَ وَعِيَاله اللَّيَالِي المتتابعة طاويا لَا يَجدونَ عشَاء وَقَالَ أنس خادمه مَا أكل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على خوان وَلَا فِي سكرجة وَلَا خبز لَهُ مرقق وَلَا رأى شَاة عبيطا قطّ وَدخل عَلَيْهِ عمر بن الْخطاب فَوَجَدَهُ مُضْطَجعا على رمل حَصِير قد أثر فِي جنبه قَالَ عمر فَنَظَرت فِي بَيته فَلم أر فِيهِ شَيْئا فَبَكَيْت لما رَأَيْت برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْحَاجة والفاقة فَقَالَ مَا شَأْنك يَا ابْن الْخطاب فَقلت يَا رَسُول الله ذكرت كسْرَى وَقَيْصَر وَمَا أعطاهما الله تَعَالَى فَقَالَ أَفِي شكّ أَنْت يَا ابْن الْخطاب أما ترْضى أَن تكون لَهما الدُّنْيَا وَلنَا الْآخِرَة وَقَالَت عَائِشَة لم يمتلئ جَوف نَبِي الله شبعا قطّ وَلم يبث شكوى إِلَى أحد وَكَانَت الْفَاقَة أحب إِلَيْهِ من الْغناء وَإِن كَانَ ليظل جائعا يلتوي طول ليله من الْجُوع فَلَا يمنعهُ صِيَام يَوْمه وَلَو شَاءَ سَأَلَ ربه كنوز جَمِيع الأَرْض وثمارها ورغد عيشها

وأما كثرة جوده وكرمه

وَلَقَد كنت أبْكِي لَهُ رَحْمَة مِمَّا أرى بِهِ وأمسح بيَدي على بَطْنه مِمَّا بِهِ من الْجُوع وَأَقُول نَفسِي لَك الْفِدَاء لَو تبلغت من الدُّنْيَا بِمَا قوتك فَيَقُول يَا عَائِشَة مَالِي وللدنيا إخْوَانِي من أولي الْعَزْم من الرُّسُل صَبَرُوا على مَا هُوَ أَشد من هَذَا فَمَضَوْا على حَالهم فقدموا على رَبهم فأكرمهم مآبهم وأجزل ثوابهم فأجدني أستحيي أَن ترفهت فِي معيشتي أَن يقصرني غَدا دونهم وَمَا شَيْء هُوَ أحب إِلَى من اللحوق بإخواني وأخلاني قَالَت فَمَا أَقَامَ بعد ذَلِك إِلَّا شهرا حَتَّى توفى صلوَات الله عَلَيْهِ وَلَقَد شكى إِلَيْهِ بعض أَصْحَابه الْجُوع وكشف لَهُ عَن بَطْنه عَن حجر فكشف لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بَطْنه عَن حجرين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَسْلِيمًا وَهَذَا مَعْلُوم قطعا من أَحْوَاله لَا يقدر على جَحده أحد من أعدائه وَلَا أوليائه وَأما كَثْرَة جوده وَكَرمه فشيء مَعْرُوف من شيمه فَلَقَد تَوَاتر أَنه كَانَ أكْرم النَّاس وأجودهم حَتَّى أَنه مَا سُئِلَ قطّ شَيْئا فَمَنعه إِذا كَانَ ذَلِك الشَّيْء الْمَسْئُول مِمَّا لَا يمْنَع شرعا قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَجود النَّاس بِالْخَيرِ وأجود مَا يكون فِي رَمَضَان وَكَانَ أَجود بِالْخَيرِ من الرّيح الْمُرْسلَة وَلَقَد سَأَلَهُ رجل فَأعْطَاهُ غنما بَين جبلين فَرجع ذَلِك الرجل إِلَى قومه فَقَالَ أَسْلمُوا فَإِن مُحَمَّدًا يعْطى عَطاء من لَا يخْشَى فاقة وَأعْطى أُنَاسًا كثيرين مائَة مائَة من الْإِبِل وَأعْطى صَفْوَان مائَة ثمَّ مائَة وَأعْطى الْعَبَّاس من الذَّهَب مَا لم يطق حمله وسيق لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تسعون ألفا فَوضعت على حَصِير ثمَّ قَامَ إِلَيْهَا يقسمها فَمَا رد سَائِلًا حَتَّى فرغ مِنْهُ وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يرد سَائِلًا جَاءَهُ وَرُبمَا كَانَ السَّائِل لَا يجد عِنْده شَيْئا فَيَأْخُذ لَهُ بِالدّينِ وَيُعْطِيه السَّائِل حَتَّى يَقْضِيه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَقَد جَاءَهُ رجل فَسَأَلَهُ فَقَالَ مَا عِنْدِي شَيْء وَلَكِن أبتع على بدين فَإِذا جَاءَنَا شَيْء قضيناه فَقَالَ لَهُ عمر مَا كلفك الله مَالا تقدر عَلَيْهِ فكره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

وأما وفاؤه بالعهد

مَا قَالَه عمر فَقَالَ رجل من الْأَنْصَار يَا رَسُول الله أنْفق وَلَا تخف من ذِي الْعَرْش إقلالا فَتَبَسَّمَ وَعرف بشر ذَلِك القَوْل فِي وَجهه وَقَالَ بِهَذَا أمرت وَلَقَد كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقبل الْهَدِيَّة وَإِن لم يحْتَج إِلَيْهَا ويثيب عَلَيْهَا بأضعافها روى أَن معَاذ بن عفراء أهْدى للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طبقًا فِيهِ رطب وقثاء فَأعْطَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ملْء كَفه ذَهَبا وحليا وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدّخر شَيْئا لغده لنَفسِهِ وَقد ثَبت عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول مَا يسرني أَن عِنْدِي مثل أحد ذَهَبا يمْضِي على ثَالِثَة وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارا إِلَّا شَيْئا أرصده لدين وَمَا سيق لَهُ قطّ شَيْء يقسم ذَهَبا كَانَ أَو غَيره إِلَّا أَمر بقسمه وَلم يبت عِنْده وَهَكَذَا كَانَ الْمَعْرُوف من خلقه قبل مبعثه وَكَانَ هَذَا مَعْرُوفا عِنْد قومه الَّذين نَشأ فيهم حَتَّى لقد قَالَ لَهُ ورقة بن نَوْفَل وَكَانَ امْرَءًا تنصر وَقَرَأَ الْكتب العبرانية وَكَانَ قد تفطن واستشعر بنبوته عَلَيْهِ السَّلَام لما رأى من العلامات الَّتِي علمهَا من الْكتب الْمُتَقَدّم فَقَالَ لَهُ إِنَّك لتحمل الْكل وتقري الضَّيْف وتكسب الْمَعْدُوم وَتعين على نَوَائِب الْحق وَهَذَا كُله من أخلاقه مَعْرُوف حَاصِل لَا يتمارى فِيهِ منصف عَاقل وَأما وفاؤه بالعهد فَلَا يتمارى فِيهِ إِلَّا خسيس وغد فقد كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحفظ النَّاس بِعَهْد وأوفاهم بميثاق ووعد وَأَحْسَنهمْ جوارا وأصدقهم قولا وأخبارا روى عَن عبد الله ابْن أبي الحمساء أَنه قَالَ بَايَعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِبيع قبل أَن يبْعَث وَبقيت لَهُ بَقِيَّة فوعدته أَن آتيه بهَا فِي مَكَانَهُ فنسيت ثمَّ ذكرت بعد ثَلَاث فَجئْت فَإِذا هُوَ فِي مَكَانَهُ فَقَالَ يَا فَتى لقد شققت عَليّ أَنا هَا هُنَا مُنْذُ ثَلَاث أنتظرك وَذَلِكَ لِلْمِيعَادِ الَّذِي كَانَ بَينهمَا وَكَانَ الْمَعْلُوم من سيرته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يعْقد العهود والمواثيق بَينه وَبَين عداته وَغَيرهم فيفي بهَا ويؤذنهم بإنقضائها عِنْد تَمامهَا وَلم يغدر قطّ فِي شَيْء مِنْهَا وَلَقَد كَانَ هَذَا مَعْرُوفا عِنْد أعدائه كَمَا هُوَ مَعْرُوفا عِنْد أوليائه

يا هذا تأمل بعقلك

وَلَقَد روى أَن هِرقل ملك النَّصَارَى لما سَأَلَ كفار قُرَيْش عَن صِفَات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فَهَل يغدر قَالُوا لَهُ لَا فَقَالَ لَهُم كَذَلِك الرُّسُل لَا تغدر وَكَيف يغدر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ قَالَ ينصب لكل غادر لِوَاء يَوْم الْقِيَامَة يعرف بِهِ يُقَال هَذِه غدرة فلَان وَلَقَد جَاءَهُ الْمُغيرَة بن شُعْبَة مُسلما وَجَاء مَعَه بِمَال قوم من الْجَاهِلِيَّة كَانَ قد صحبهم ثمَّ قَتلهمْ وَأخذ أَمْوَالهم فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أما الْإِسْلَام فَأقبل وَأما المَال فلست مِنْهُ فِي شَيْء وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد عرض لَهُ بعض أَصْحَابه بغدر الْمُشْركين دَعْنِي لَهُم ونستعين الله عَلَيْهِم وَفِي خبر الجلندي ملك عمان لما بلغه أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدعُوهُ إِلَى الْإِسْلَام فَقَالَ الجلندي وَالله لقد دلَّنِي على أَن هَذَا نَبِي أَنه لَا يَأْمر بِخَير إِلَّا كَانَ أول آخذ بِهِ وَلَا ينْهَى عَن شَرّ إِلَّا كَانَ أول تَارِك لَهُ وَأَنه يغلب فَلَا يبطر ويغلب فَلَا يضجر ويفي بالعهود وينجز الْمَوْعُود أشهد أَنه نَبِي يَا هَذَا تَأمل بعقلك أَيْن هَذَا مِمَّا يحْكى الْيَهُود وَالنَّصَارَى عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي كتبهمْ من أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لما أَرَادَ الْخُرُوج من مصر اسْتعَار حلى بني إِسْرَائِيل ثمَّ فر بِهِ لَيْلًا وَعند الإنتهاء إِلَى هَذَا الْمقَام يعلم الْعَاقِل مَا فِي كتب الْقَوْم من الأباطل والأوهام ومُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مبرأ عَن النقائص والآثام وَمن وفائه بالعهد وقيامه فِي حفظه بِالْحَدِّ أَنه قدم عَلَيْهِ وَفد النَّجَاشِيّ فَقَامَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخدمهم بِنَفسِهِ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه نَحن نكفيك فَقَالَ إِنَّهُم كَانُوا لِأَصْحَابِنَا مكرمين وَإِنِّي أحب أَن أكافئهم وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حسن الْعَهْد من الْإِيمَان وَحَقِيقَة الْوَفَاء بالعهد تتميم مَا ربط من العقد ومراعاة مَا تقدم من الود ومكافأة من لَهُ يَد وَقد كَانَت هَذِه الْخِصَال اجْتمعت فِيهِ لَا يُنَازع فِي ذَلِك أحد وَإِن كَانَ يناوئه وَأما حسن سمته وتؤدته وَكثير حيائه ومروءته فشيء لَا يجْحَد وَلَا يجهل وَلَا يلْحقهُ فِي شَيْء من ذَلِك أحد وَإِن بدل غَايَة جده وَلم يكسل فَهُوَ بِالْحَقِيقَةِ كَمَا قَالَ الشَّاعِر الأول

. سعى بعدهمْ قوم لكَي يدركونهم فَلم يَفْعَلُوا وَلم يليموا وَلم يألوا ... كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كثير الصمت وَالْوَقار طَوِيل الإطراق والإعتبار تكسو هَيْبَة وقاره جسائه حَتَّى إِذا جَلَسُوا بَين يَدَيْهِ كَأَن على رؤوسهم الطير إعظاما لَهُ وهيبة مِنْهُ مَجْلِسه أوفر الْمجَالِس لَا يسمع فِيهِ ضحت الْأَصْوَات وَلَا اخْتِلَاط اللُّغَات لَيْسَ فِيهِ مراء وَلَا جِدَال وَلَا للهجر وَالْفُحْش فِيهِ مجَال لَا توبن فِي مَجْلِسه الْحرم وَلَا يغض فِيهِ من الأقدار والقيم بل كَانَ مجْلِس علم وَأَصْحَابه يعظمون فِي مجلسهم مَعَه حرمات الله ويتعلمون مِنْهُ أَحْكَام الله فَتَارَة يعلمهُمْ بِأُمُور الْآخِرَة كَأَنَّهُمْ ينظرُونَ إِلَيْهَا وَأُخْرَى يعلمهُمْ أَحْكَام شَرِيعَته كي يعملوا بهَا قَالَ ابْن أبي هَالة كَانَ سُكُوته على أَربع على الحكم والحذر وَالتَّقوى والتفكر يعلم الْجَاهِل المسترشد ويدنيه ويطرد المعاند المتكبر ويقصيه يتواضع للْفُقَرَاء ويتواضع لَدَيْهِ الْأُمَرَاء كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَشد حَيَاء من الْعَذْرَاء فِي خدرها الرفيعة الشَّرِيفَة فِي قَومهَا كَانَ إِذا سمع مَا يستحيى مِنْهُ ظهر نور الخفر على وَجهه وَلذَلِك مر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على رجل وَهُوَ يعتب أَخَاهُ على الْحيَاء فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعه فَإِن الْحيَاء من الْإِيمَان وَقَالَ الْحيَاء خير كُله وَلَا يَأْتِي إِلَّا بِخَير وَقَالَ اسْتَحْيوا من الله حق الْحيَاء وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضحكه تبسما وَلم ير قطّ فِي ضحكه مقهقها وَلَا مترنما كَانَ كَلَامه فصلا يفهمهُ كل من سَمعه وَرُبمَا تكلم بِالْكَلِمَةِ ثَلَاثًا حَتَّى تفهم عَنهُ وَكَانَ يحدث حَدِيثا لَو عده الْعَاد لأحصاه وَكَانَ إِذا مر بِقوم يسلم عَلَيْهِم ثَلَاثًا وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحافظ على مروءته وعَلى إستقامة حَالَته وتحسين هَيئته يمشي هونا كَأَنَّمَا ينحط من صبب إِذا مَشى مَشى مجتمعا وَإِذا جلس جلس مُحْتَبِيًا وَقرب إِلَيْهِ طَعَام ومتكأ فَقَالَ لَا أتكئ إِنَّمَا آكل كَمَا يَأْكُل العَبْد وأجلس كَمَا يجلس العَبْد

كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحب الطّيب والرائحة الْحَسَنَة ويستعملها ويحض عَلَيْهِمَا وَيَقُول إِن الله تَعَالَى جميل يحب الْجمال وَيَأْمُر بِالسِّوَاكِ وَغسل البراجم والدواجب وإستعمال خِصَال الْفطْرَة وَيَأْخُذ بذلك وَيعْمل بِهِ وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِكَثْرَة محافظته على جلال مروءته إِذا عطس غطا وَجهه وخفض بهَا صَوته وَمَا عَسى أَن يَقُول الْقَاص فِيمَن جمعت فِيهِ كل الْفَضَائِل والمآثر بل غَايَة الفصيح الْأَثر أَن يَنْتَهِي إِلَى مَا قَالَه الشَّاعِر ... مَاذَا أَقُول وَقَوْلِي فِيك ذُو حصر وَقد كفيتني التَّفْصِيل والجملا إِن قلت مَا زلت مَرْفُوعا فَأَنت كَذَا أَو قلت زانك دى فَهُوَ قد فعلا ... وَأما شجاعته ونجدته فَكَانَ مِنْهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَكَانِ الَّذِي لَا يجهل وحظه مِنْهَا الْحَظ الأوفى الْأَفْضَل قد كَانَ مارس الضراب ووقف مَوَاقِف الصعاب لَا يُبَالِي بِكَثْرَة الْعدَد وَلم يفر قطّ أَمَام أحد وَمَا من شُجَاع إِلَّا وَقد أحصيت لَهُ فرة وَإِن كَانَ لَهُ بعْدهَا كرة إِلَّا هُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يدبر قطّ مُنْهَزِمًا وَلَا فَارق مكْرها مُلْتَزما وَكَانَ عَليّ بن أبي طَالب يَقُول كُنَّا إِذا اشْتَدَّ الْبَأْس وحميت الْحَرْب اتقينا برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا يكون أحد أقرب إِلَى الْعَدو مِنْهُ وَلَقَد رَأَيْتنَا يَوْم بدر نلوذ برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ أقربنا إِلَى الْعَدو وَلَقَد كَانَت الصَّحَابَة تَقول إِن الشجاع منا للَّذي يقوم بجانبه يسْتَتر بِهِ وَقيل ل أنس أَفَرَرْتُم يَوْم حنين عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَكِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يفر ثمَّ قَالَ رَأَيْته على بغلته الْبَيْضَاء وَأَبُو سُفْيَان آخِذا بِلِجَامِهَا وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول أَنا النَّبِي لَا كذب أَنا ابْن عبد الْمطلب قيل فَمَا رؤى يَوْمئِذٍ أحد كَانَ أجرأ مِنْهُ وَلَا أَشد وَقد روى عَنهُ أَنه نزل عَن بغلته مُتَوَجها نَحْو الْعَدو وَقَالَ الْعَبَّاس

ومما يدلك على عظيم شجاعته

ابْن عبد الْمطلب لما التقى الْمُسلمُونَ وَالْكفَّار يَوْم حنين ولى الْمُسلمُونَ مُدبرين فَطَفِقَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرْكض بغلته نَحْو الْكفَّار قَالَ الْعَبَّاس وَأَنا آخذ بِلِجَامِهَا أكفها إِرَادَة أَلا تسرع وَأَبُو سُفْيَان آخذ بركابه ثمَّ نَادَى بِالْمُسْلِمين وَذكر الحَدِيث وَقَالَ أنس كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحسن النَّاس وأجود النَّاس وَأَشْجَع النَّاس وَلَقَد فزع أهل الْمَدِينَة لَيْلَة فَانْطَلق أنَاس قبل الصَّوْت فَتَلقاهُمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَاجعا قد سبقهمْ إِلَى الصَّوْت وَقد استبرا الْخَبَر على فرس عرى لأبي طَلْحَة وَفِي عُنُقه السَّيْف وَهُوَ يَقُول لن تراعوا لن تراعوا وَإِنَّا وَجَدْنَاهُ ليجرا يعْنى الْقوس لِكَثْرَة جرية وَقَالَ ابْن حُصَيْن مَا لقى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَتِيبَة إِلَّا كَانَ أول ضَارب وَلما رَآهُ أبي بن خلف يَوْم أحد وَهُوَ يَقُول أَيْن مُحَمَّد لَا نجوت إِن نجا وَقد كَانَ قَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين افتدى يَوْم بدر عِنْدِي فرس أعلفها كل يَوْم فرقا من ذرة أَقْتلك عَلَيْهَا فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل أَنا أَقْتلك إِن شَاءَ الله فَلَمَّا رَآهُ أبي يَوْم أحد شدّ أبي فرسه على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاعترضه رجال من الْمُسلمين فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعوه خلوا طَرِيقه وَتَنَاول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحربة من الْحَارِث ابْن الصمَّة فانتفض بهَا انتفاضة فتطايرنا عَنهُ تطاير الشُّعَرَاء عَن ظهر الْبَعِير إِذا انتفض ثمَّ استقبله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ طعنه بهَا طعنة تدأدأ مِنْهَا على فرسه وَقيل بل كسر ضلعا من أضلاعه فَرجع إِلَى قُرَيْش يَقُول قتلني مُحَمَّد وهم يَقُولُونَ لَا بَأْس بك فَقَالَ لَو كَانَ مَا بِي بِجَمِيعِ النَّاس لقتلهم أَلَيْسَ قد قَالَ لي أَنا أَقْتلك إِن شَاءَ الله وَالله لَو بَصق على لَقَتَلَنِي فَمَاتَ ب سرف فِي قفولهم إِلَى مَكَّة وَمِمَّا يدلك على عَظِيم شجاعته أَنه يَوْم أحد فر عَنهُ النَّاس فَاسْتقْبل الْعَدو فِي نفر قَلِيل من أَصْحَابه فَكسر عتبَة بن أبي وَقاص رباعيته الْيُمْنَى وجرح شفته السُّفْلى وَشَجه فِي جَبهته عبد الله

وأما خوفه من الله تعالى وإجتهاده في عبادته

ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ وَضرب عَمْرو بن قمئة وجنته فَأدْخل حلقتين من حلق المغفر فِي وجنته وَهُوَ فِي ذَلِك كُله لَا يَزُول عَن مَوْضِعه وَلَا يولي ظَهره وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى أنزل الله عَلَيْهِ نَصره حِين رأى صبره وَفِي ذَلِك الْموضع وَفِي تِلْكَ الْحَال نَهَضَ نفر من أَصْحَابه لقِتَال الْعَدو فوافقوهم وقاوموهم مَعَ كَثْرَة عدوهم فانفدت مقَاتل وَاحِد مِنْهُم فَوضع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خد ذَلِك الرجل على قدمه حَتَّى مَاتَ وَهَذَا يدلك على غَايَة شجاعته وَكَثْرَة الْجلد وَقلة المبالاة بالعدو وَلَقَد كَانَت غَزْوَة أحد هَذِه الَّتِي جرى فِيهَا مَا ذكر من أول الشواهد على نبوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ أَنه لما التقى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لبَعض أَصْحَابه وَكَانُوا رُمَاة انْضَحُوا عَنَّا الْخَيل بِالنَّبلِ لَا يَأْتُونَا مَا خلفنا واثبتوا مَكَانكُمْ كَانَت لنا أَو علينا وَقد كَانَ أَمر عَلَيْهِم عبد الله بن جُبَير ثمَّ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التقى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فهزموا الْمُشْركين وولوا أدبارهم حَتَّى سقط لواءهم صَرِيعًا فَلَمَّا رأى أَصْحَاب عبد الله الْهَزِيمَة قَالُوا الْهَزِيمَة الْهَزِيمَة تَعَالَوْا بِنَا نصيب مِمَّا تصيبه النَّاس فَقَالَ لَهُم عبد الله ألم يقل لكم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَبْرَحُوا من مواضعكم فَقَالُوا لَهُ قد هزم الله الْعَدو فَلم يلتفتوا كَلَامه فزالوا عَن مواضعهم فَلَمَّا زَالُوا عَن مواضعهم عاقهم الله بِأَن رَجَعَ الْعَدو عَلَيْهِم فَقتل مِنْهُم من قتل لمخالفتم أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومحص الله فِي تِلْكَ الْغَزْوَة الْمُؤمنِينَ ومحن الْكَافرين وَالْمُنَافِقِينَ وَفِي تِلْكَ الْغَزْوَة فقئت عين قَتَادَة بن النُّعْمَان حَتَّى وَقعت على وجنته فَردهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَت أحسن عَيْنَيْهِ وَسَيَأْتِي ذكر هَذَا وماشاكله بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأما خَوفه من الله تَعَالَى وإجتهاده فِي عِبَادَته فقد بلغ من ذَلِك إِلَى حد لم يبلغهُ أحد من الخليقة وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى كلفه من وظائف الْعِبَادَات مالم يُكَلف أحدا على الْحَقِيقَة وَهُوَ مَعَ ذَلِك لَا يقصر فِي شَيْء مِنْهَا بل كَانَ يبْذل غَايَة إجتهاده ووسعه فِي أَدَائِهَا فَمن الْعِبَادَات الَّتِي كلفها الله لَهُ تحمل أعباء الْوَحْي ومشقة ثقله فَلَقَد كَانَ ينزل عَلَيْهِ

الْوَحْي فِي الْيَوْم الشَّديد الْبرد فَيفْصم عَنهُ وَإِن جَبينه ليتفصد عرقا وَلأَجل هَذَا قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّا سنلقي عَلَيْك قولا ثقيلا} وَقَالَ لَهُ {فَإِذا قرأناه فَاتبع قرآنه} وَهَذِه مشقة لَا يعرفهَا على التَّحْقِيق إِلَّا الرُّسُل وَلأَجل عظم هَذَا الْأَمر جَاءَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ يتعبد بِغَار حراء وَذَلِكَ قبل أَن يُوحى إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ اقْرَأ فَقَالَ مَا أَنا بقارئ فَأَخذه فغطه حَتَّى بلغ مِنْهُ الْجهد ثمَّ أرْسلهُ فَقَالَ اقْرَأ فَقَالَ مَا أَنا بقارئ فَفعل بِهِ مثل ذَلِك مرَّتَيْنِ فَقَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَة {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق} الْآيَات فقرأها ثمَّ رَجَعَ إِلَى خَدِيجَة يرجف فُؤَاده فَقَالَ زَمِّلُونِي فدثروه فَأنْزل الله عَلَيْهِ وَهُوَ على تِلْكَ الْحَال {يَا أَيهَا المدثر قُم فَأَنْذر وَرَبك فَكبر} الْآيَات ثمَّ بعد قبُول الْوَحْي أَمر بتبليغه وتبيينه للنَّاس وَالصَّبْر على مَا يُصِيبهُ من أَذَى قومه فَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعرض نَفسه وَدينه على قبائل الْعَرَب وعَلى وفودها إِذا قدمُوا مَكَّة لمواسم الْحَج فيعيب آلِهَتهم ويسفه أحلامهم وَيظْهر خلافهم ويوبخهم على جهالاتهم فيردون عَلَيْهِ قَوْله ويكذبونه ويسبونه ويؤذونه بأقصى ممكنهم من أَنْوَاع الْأَذَى فيصبر على ذَلِك ويحتسب مَا يلقاه على الله فلسان الْحَال ينشد والأنفاس خوفًا من التَّقْصِير فِي أَمر الله تتصعد ... لَا أُبَالِي إِذا رضيت إلهي أَي أَمر من الْأُمُور دهاني ... فَلم يزل رَاضِيا صَابِرًا على أَنْوَاع الْبلَاء حَتَّى كَانَ لِسَان حَاله يَقُول ... عذب التعذيب عِنْدِي وحلا ... فَأَقَامَ على ذَلِك بِمَكَّة ثِنْتَيْ عشرَة سنة يَدْعُو النَّاس من غير قتل

وَلَا قتال وَذَلِكَ كُله ليظْهر الْإِسْلَام وتنتشر دَعوته لِئَلَّا يكون لأحد حجَّة على الله وَرَسُوله وَبعد ذَلِك أَمر بِالْهِجْرَةِ من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة فقارق أَهله وعشيرته وحاله وَمَاله وَولده وبلده وَلم يعظم عَلَيْهِ مُفَارقَة شَيْء من ذَلِك فِي ذَات الله فَترك كل ذَلِك إِلَى الله فَوَقع أجره على الله فَلَمَّا حل بِالْمَدِينَةِ افْترض الله عَلَيْهِ الْقِتَال فقاتل فِي ذَات الله جَمِيع من كفر بِاللَّه غير مقصر فِي ذَلِك وَلَا مفرط بل جادا مُجْتَهدا حَتَّى أظهر الله دينه وَإِن رغمت أنوف الجاحدين وَفِي كل ذَلِك الزَّمَان كَانَ يقوم بوظائف الشَّرِيعَة وعباداتها عبَادَة عبَادَة فصلى حَتَّى تورمت قدماه وَانْتَفَخَتْ وَصَامَ حَتَّى كَانَ الْقَائِل يَقُول لَا يفْطر لِكَثْرَة مَا كَانَ يرى من صَوْمه ووصاله وَكَانَ يذكر الله ويعظمه ويمجده ويشكره على كل أَحْوَاله من غير تَقْصِير وَلَا فتور وَلَا تشغله عبَادَة عَن عبَادَة وَلَا عمل زمَان عَن عمل زمَان آخر كَانَ عمله دَائِما وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير الْعَمَل أَدْوَمه فَكَانَ يُرَاعِي أنفاسه مَعَ الله وَلَا يضيع شَيْئا مِمَّا كلفه خوفًا من الله فَكَانَ رُبمَا يتفكر فِي عَظِيم أَمر الله وَعزة سُلْطَانه فيستعظم مَا يعرف من هول المطلع فَكَانَ يَقُول وَالله إِنِّي لأعلمكم بِاللَّه وأشدكم لَهُ خشيَة وَكَانَ يَقُول يَا أمة مُحَمَّد وَالله لَو تعلمُونَ مَا أعلم لضحكتم قَلِيلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم إِلَى الصعدات تجأرون إِلَى الله وَمَا تلذذتم بِالنسَاء على الْفرش لَوَدِدْت أَنِّي شَجَرَة تعضد وَلذَلِك كَانَ يَقُول إِنِّي أرى مَالا ترَوْنَ وأسمع مَالا تَسْمَعُونَ أطت السَّمَاء وَحقّ لَهَا أَن تئط مَا فِيهَا مَوضِع أَربع أَصَابِع إِلَّا وَملك وَاضع جَبهته سَاجِدا لله وَهَذَا كُله يدل على كَثْرَة مَعْرفَته بِاللَّه تَعَالَى وَشدَّة خَوفه مِنْهُ ورهبته لَهُ وَكَذَلِكَ كَانَ يبكي وَيسمع لخوفه صَوت كصوت الْمرجل من الْبكاء وَكَذَلِكَ صَحَّ النَّقْل عَنهُ بِأَنَّهُ كَانَ متواصل الأحزان دَائِم الفكرة لَيست لَهُ رَاحَة وَكَانَ يَقُول يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا تُوبُوا فَإِنِّي أَتُوب إِلَى الله فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة مائَة مرّة وروى عَن عَليّ بن أبي طَالب أَنه قَالَ سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن سِتَّة فَقَالَ الْمعرفَة راس مَالِي وَالْعَمَل رَأس

ديني وَالْحب أساسي والشوق مركبي وَذكر الله مجدي والزهد حرفتي وَالْيَقِين قوتي والصدق شفيعي وَالطَّاعَة حسبي وَالصَّبْر هادي خلقي وقرة عَيْني فِي الصَّلَاة وَفِي حَدِيث آخر وَثَمَرَة فُؤَادِي فِي ذكره وغمى لأجل أمتِي وشوقي إِلَى ذِي الْجلَال وَوصف خَوفه يطول وَمَعْرِفَة ذَلِك من حَاله لَا يُنكره عليم وَلَا جهول إِذا كَانَ من أهل الْإِنْصَاف والعقول وعَلى الْجُمْلَة فمناقبه الشَّرِيفَة لَا تحصى وَمَا خص بِهِ من الْأَخْلَاق الْكَرِيمَة عديد الْحَصَى كَيفَ لَا وَقد قَالَ الله تَعَالَى لَهُ {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} وَمَا عظمه الْعَظِيم فَهُوَ عَظِيم وَكَيف لَا يكون ذَلِك وَقد بَعثه الله تَعَالَى متمما لمكارم أَخْلَاق الْأَوَّلين وَقد خصّه بِصِفَات جَمِيع النَّبِيين فَلَو جَازَ أَو تصور أَن يعبد أحد من الْبشر لكَمَال أخلاقه وكرم أَوْصَافه وَطيب أعرافه لَكَانَ هُوَ إِذْ قد أعْطى من ذَلِك مَا لم يُعْطه أحد من الْبشر وَلَا دخل لَهُم تَحت كسب وَلَا قدر

خاتمة جامعة في صفاته وشواهد صدقه وعلاماته

خَاتِمَة جَامِعَة فِي صِفَاته وشواهد صدقه وعلاماته وَذَلِكَ أَن أَبَا سُفْيَان وكفار قُرَيْش قدمُوا الشَّام تجارًا فَأرْسل إِلَيْهِم هِرقل وَكَانَ ملك النَّصَارَى وعظيمهم وَإِلَيْهِ يَنْتَهِي علمهمْ فجاءوه ودخلوا عَلَيْهِ فِي مَجْلِسه وَحَوله عُظَمَاء الرّوم فَقَالَ لِترْجُمَانِهِ قل لَهُم أَيّكُم أقرب نسبا بِهَذَا االرجل الَّذِي يزْعم أَنه نَبِي فَقَالَ أَبُو سُفْيَان أَنا أقرب نسبا مِنْهُ فَقَالَ ادنوه مني وقربوا أَصْحَابه واجعلوهم عِنْد ظَهره ثمَّ قَالَ لِترْجُمَانِهِ قل لأَصْحَابه إِنِّي سَائل هَذَا عَن هَذَا الرجل الَّذِي يزْعم أَنه نَبِي فَإِن كذب فكذبون قَالَ أَبُو سُفْيَان فوَاللَّه لَوْلَا الْحيَاء من أَن يؤثروا عني كذبا لكذبت عَلَيْهِ قَالَ أَبُو سُفْيَان فَكَانَ أول مَا سَأَلَني عَنهُ أَن قَالَ كَيفَ نسبه فِيكُم قلت هُوَ فِينَا ذُو نسب قَالَ فَهَل قَالَ هَذَا القَوْل أحد مِنْكُم قطّ قبله قلت لَا قَالَ فَهَل كَانَ فِي آبَائِهِ من ملك قلت لَا قَالَ فأشراف النَّاس اتَّبعُوهُ أم ضُعَفَاؤُهُمْ قلت بل ضُعَفَاؤُهُمْ قَالَ أيزيدون أم ينقصُونَ قلت بل يزِيدُونَ قَالَ فَهَل يرْتَد أحد سخطَة لدينِهِ بعد أَن يدْخل فِيهِ قلت لَا قَالَ فَهَل كُنْتُم تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قبل أَن يَقُول مَا قَالَ قلت لَا قَالَ فَهَل يغدر قلت لَا وَنحن فِي مُدَّة لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعل فِيهَا يَعْنِي صلحا قَالَ وَلم تمكني كلمة أَدخل فِيهَا شَيْئا غير هَذِه الْكَلِمَة قَالَ فَهَل قاتلتموه قلت نعم قَالَ فَكيف كَانَ قتالكم إِيَّاه قلت الْحَرْب بَيْننَا وَبَينه سِجَال ينَال منا وننال مِنْهُ قَالَ مَاذَا يَأْمُركُمْ قلت يَقُول اعبدوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا واتركوا مَا يَقُول آباؤكم ويأمرنا بِالصَّلَاةِ والصدق والعفاف والصلة فَقَالَ هِرقل لِترْجُمَانِهِ قل لَهُ سَأَلتك عَن نسبه فَذكرت أَنه فِيكُم ذُو نسب وَكَذَلِكَ الرُّسُل تبْعَث فِي نسب قَومهَا وَسَأَلْتُك هَل قَالَ أحد مِنْكُم هَذَا القَوْل قبله فَذكرت أَن لَا فَقلت لَو كَانَ أحد

قَالَ هَذَا القَوْل قبله لَقلت رجل يَقْتَدِي يَقُول قيل قبله وَسَأَلْتُك هَل كَانَ من آبَائِهِ من ملك فَذكرت أَن لَا فَلَو كَانَ من آبَائِهِ من ملك لَقلت رجل يطْلب ملك أَبِيه وَسَأَلْتُك هَل كُنْتُم تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قبل أَن يَقُول مَا قَالَ فَذكرت أَن لَا فقد أعرف أَنه لم يكن ليذر الْكَذِب على النَّاس ويكذب على الله وَسَأَلْتُك أَشْرَاف النَّاس اتَّبعُوهُ أم ضُعَفَاؤُهُمْ فَذكرت أَن ضُعَفَاؤُهُمْ اتَّبعُوهُ وهم أَتبَاع الرُّسُل وَسَأَلْتُك أيرتد أحد سخطَة لدينِهِ بعد أَن يدْخل فِيهِ فَذكرت لَا وَكَذَلِكَ الْإِيمَان حِين تخالط بشاشته الْقُلُوب وَسَأَلْتُك أيزيدون أم ينقصُونَ فَذكرت أَنهم يزِيدُونَ وَكَذَلِكَ أَمر الْإِيمَان حَتَّى يتم وَسَأَلْتُك هَل يغدر فَذكرت أَن لَا وَكَذَلِكَ الرُّسُل لَا تغدر وَسَأَلْتُك بِمَ يَأْمُركُمْ فَذكرت أَنه يَأْمُركُمْ أَن تعبدوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وينهاكم عَن عبَادَة الْأَوْثَان ويأمركم بِالصَّلَاةِ والصدق والعفاف فَإِن كَانَ مَا تَقول حَقًا فسيملك مَوضِع قدمي هَاتين وَقد كنت أعلم أَنه خَارج وَلم أكن أَظن أَنه مِنْكُم فَلَو أَنِّي أعلم أَنِّي أخْلص إِلَيْهِ لأحببت لقاءه وَلَو كنت عِنْده لغسلت عَن قدمه ثمَّ دَعَا بِكِتَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي كَانَ قد بعث بِهِ مَعَ دحْيَة إِلَى عَظِيم بصرى فَدفعهُ إِلَى هِرقل فقرأه فَإِذا فِيهِ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من مُحَمَّد عبد الله وَرَسُوله إِلَى هِرقل عَظِيم الرّوم سَلام على من اتبع الْهدى أما بعد فَإِنِّي أَدْعُوك بِدِعَايَةِ الْإِسْلَام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرَّتَيْنِ فَإِن توليت فَإِنَّمَا عَلَيْك إِثْم الأريسيين يَعْنِي المقتدين بِهِ و {يَا أهل الْكتاب تَعَالَوْا إِلَى كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم أَلا نعْبد إِلَّا الله وَلَا نشْرك بِهِ شَيْئا وَلَا يتَّخذ بَعْضنَا بَعْضًا أَرْبَابًا من دون الله فَإِن توَلّوا فَقولُوا اشْهَدُوا بِأَنا مُسلمُونَ}

قَالَ أَبُو سُفْيَان فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ وَفرغ من قِرَاءَة الْكتاب كثر عِنْده الصخب وَارْتَفَعت الْأَصْوَات وأخرجنا فَقلت لِأَصْحَابِي حِين أخرجنَا لقد أَمر أَمر ابْن أبي كَبْشَة إِنَّه لَيَخَافهُ ملك بني الْأَصْفَر فَمَا زلت موقنا أَنه سَيظْهر حَتَّى أَدخل الله عَليّ الْإِسْلَام وَكَانَ ابْن الناظور صَاحب إيلياء يحدث أَن هِرقل حِين قدم إيلياء أصبح يَوْمًا خَبِيث النَّفس فَقَالَ لَهُ بعض بطارقته قد استنكرنا هيئتك قَالَ ابْن الناظور وَكَانَ هِرقل حزاء ينظر فِي النُّجُوم فَقَالَ لَهُم حِين سَأَلُوهُ إِنِّي رَأَيْت اللَّيْلَة حِين نظرت فِي النُّجُوم ملك الْخِتَان قد ظهر فَمن يختتن من هَذِه الْأمة قَالُوا لَيْسَ يختتن من هَذِه الْأمة إِلَّا الْيَهُود فَلَا يهمنك شَأْنهمْ واكتب إِلَى مَدَائِن ملكك فليقتلوا من فيهم من الْيَهُود فَبينا هم على ذَلِك أَتَى هِرقل بِرَجُل أرسل بِهِ ملك غَسَّان يخبر عَن خبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا استخبره هِرقل قَالَ اذْهَبُوا فانظروا أمحتتن هُوَ أم لَا فنظروا إِلَيْهِ فحدثوه أَنه مختتن وَسَأَلَهُ عَن الْعَرَب أيختتنون فَقَالَ هم يختتنون فَقَالَ هِرقل هَذَا ملك هَذِه الْأمة قد ظهر ثمَّ كتب هِرقل إِلَى صَاحب لَهُ برومية وَكَانَ نَظِيره فِي الْعلم وَسَار هِرقل إِلَى حمص فَلم يرم حمص حَتَّى أَتَاهُ كتاب من صَاحبه يُوَافق رَأْي هِرقل على خُرُوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنه نَبِي فَأذن هِرقل عُظَمَاء الرّوم فِي دسكرة لَهُ بحمص ثمَّ أَمر بأبوابها فغلقت ثمَّ اطلع فَقَالَ يَا معشر الرّوم هَل لكم فِي الْفَلاح والرشد وَأَن يثبت ملككم فتبايعوا هَذَا النَّبِي فحاصوا حَيْصَة حمر الْوَحْش إِلَى االأبواب فوجدوها قد غلقت فَلَمَّا رأى هِرقل نفرتهم وآيس من إِيمَانهم قَالَ ردوهم على وَقَالَ إِنِّي قلت مَقَالَتي آنِفا أختبر بهَا شدتكم على دينكُمْ فقد رَأَيْت فسجدوا لَهُ وَرَضوا عَنهُ فَكَانَ هَذَا آخر شَأْن هِرقل فَتَأمل أَيهَا القس إِن كنت من أهل الْعقل والحدس كَيفَ كَانَ الْعلمَاء مِنْكُم يعرفونه بعلاماته ويستدلون على صِحَة نبوته بِحسن

أَوْصَافه وهيئاته وَهَكَذَا فعل جمَاعَة من عقلاء أهل الْكتاب وَغير وَاحِد من ذَوي الْأَلْبَاب مثل عبد الله بن سَلام والفارسي سلمَان ونصارى الْحَبَشَة وأساقفة نَجْرَان وَلَا تشك إِن كنت منصفا أَنهم كَانُوا أعلم بالكتب مِنْك وَأعرف برسل الله وعلاماتهم من عثرتك ولعلمهم بكتب الله وَمَا جَاءَ فِيهَا من عَلَامَات مُحَمَّد رَسُول لله لما جَاءَهُم مَا عرفُوا وحققوا آمنُوا وَصَدقُوا فَقَالُوا {رَبنَا آمنا بِمَا أنزلت وَاتَّبَعنَا الرَّسُول فاكتبنا مَعَ الشَّاهِدين} ولجهلهم بكتب الله وبعلامات رَسُول الله لما جَاءَكُم الْحق كَفرْتُمْ بِهِ {فلعنة الله على الْكَافرين} وَمن أعظم آيَاته وأوضح دلالاته مَا جرى لَهُ مَعَ قومه وَذَلِكَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما جاهر قومه بتبليغ مَا أمره الله من الرسَالَة وصدع بأَمْره فسفه أحلامهم وَعَابَ آلِهَتهم وَبَين ليهم فَسَاد مَا هم عَلَيْهِ شقّ ذَلِك عَلَيْهِم وَأَجْمعُوا على خِلَافه وعداوته إِلَّا من عصم الله مِنْهُم بِالْإِسْلَامِ كَانُوا إِذا ذَاك قَلِيلا مستخفين فَأَرَادَتْ قُرَيْش قتل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقتل من مَعَه والوثوب عَلَيْهِم فحدب على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمه أَبُو طَالب وَمنعه مِنْهُم لشرفه فِي قومه وعزته فَلم يقدروا أَن يصلوا إِلَيْهِ بِشَيْء مِمَّا أرادوه فَلَمَّا رَأَوْا أَنهم لَا يقدرُونَ أَن يصلوا إِلَى ضره لمنع عَمه لَهُ مِنْهُم اجْتَمعُوا وَقَالُوا لأبي طَالب إِن ابْن أَخِيك قد سبّ آلِهَتنَا وَعَابَ ديننَا وسفه أَحْلَامنَا وظل آبَاءَنَا فَأَما أَن تكفه عَنَّا وَإِمَّا أَن تخلى بَيْننَا وَبَينه فَإنَّك على مثل مَا نَحن عَلَيْهِ من خِلَافه فنكفيكه فَقَالَ لَهُم أَبُو طَالب قولا رَفِيقًا وردهم ردا جميلا ثمَّ قَالَ لَهُ يَا ابْن أخي إِن قَوْمك قد جَاءُونِي فَقَالُوا لي كَذَا وَكَذَا للَّذي قَالُوا لَهُ فابق با ابْن أخي على وعَلى نَفسك وَلَا تحملنِي من الْأَمر مَا لَا أُطِيق فَلَمَّا سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك القَوْل مِنْهُ ظن أَنه سيسلمه إِلَيْهِم وَأَنه قد ضعف عَن نصرته وَالْقِيَام مَعَه فَقَالَ لَهُ يَا عَم وَالله لَو وضعُوا الشَّمْس

فِي يَمِيني وَالْقَمَر فِي يساري على أَن أترك هَذَا الْأَمر حَتَّى يظهره الله أَو أهلك فِيهِ مَا تركته ثمَّ استعبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبكى ثمَّ قَامَ فَلَمَّا ولى ناداه أَبُو طَالب عَمه وَقَالَ لَهُ أقبل يَا ابْن أخي واذهب فَقل مَا أَحْبَبْت فوَاللَّه مَا أسلمك لشَيْء أبدا فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْش أَن أَبَا طَالب لَا يُسلمهُ عزمت على حَرْب أبي طَالب وقتاله فتهيأ أَبُو طَالب لقتالهم وَجمع قومه وعشيرته لذَلِك ثمَّ إِنَّهُم تصالحوا فِيمَا بَينهم وَأقَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على حَاله ذَلِك من عيب دينهم وتسفيه عُقُولهمْ وذم آلِهَتهم لَا يردهُ عَن ذَلِك راد وَلَا يصده عَمَّا يُريدهُ صَاد فَاجْتمع أَشْرَاف قُرَيْش يَوْمًا فَقَالُوا مَا رَأينَا مثل صَبرنَا على مَا نلقى من أَمر هَذَا الرجل أَنه قد سفه أَحْلَامنَا وَشتم آبَاءَنَا وَعَابَ ديننَا وَفرق جماعتنا وَسَب آلِهَتنَا لقد صرنا مِنْهُ على أَمر عَظِيم فَبَيْنَمَا هم يَقُولُونَ ذَلِك إِذْ طلع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأقبل يمشي حَتَّى اسْتَلم الرُّكْن ثمَّ مر بهم طَائِفًا بِالْبَيْتِ فَلَمَّا مر بهم غَمَزُوهُ بِبَعْض القَوْل فَتغير وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ لَهُم أتسمعون يَا معشر قُرَيْش أما وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لقد جِئتُكُمْ بِالذبْحِ قَالَ فَأخذت الْقَوْم كَلمته وهيبته حَتَّى مَا مِنْهُم رجل إِلَّا ناكس رَأسه كَأَن على رَأسه طائرا وَاقِفًا حَتَّى إِن أَشَّدهم عَلَيْهِ وَطْأَة ليلين لَهُ بالْقَوْل وَيَقُول لَهُ أحسن مَا يجده من الْكَلَام حَتَّى أَنه ليقول إنصرف يَا أَبَا الْقَاسِم فوَاللَّه مَا كنت جهولا فَانْصَرف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنْهُم حَتَّى إِذا كَانَ الْغَد اجْتَمعُوا فَقَالَ بَعضهم لبَعض ذكرْتُمْ مَا بلغ مِنْكُم وَمَا بَلغَكُمْ عَنهُ حَتَّى إِذا أسمعكم مَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ فَبَيْنَمَا هم فِي ذَلِك إِذْ طلع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وثبة رجل وَاحِد فأحاطوا بِهِ يَقُولُونَ أَنْت الَّذِي تعيب آلِهَتنَا وَدِيننَا فَيَقُول نعم أَنا الَّذِي أَقُول ذَلِك فَأخذُوا بمجمع رِدَائه وجبذوه جبذا شَدِيدا وَهُوَ فِي ذَلِك يَقُول لَهُم أَنا الَّذِي أعيب مَا أَنْتُم عَلَيْهِ لم يفزعه مَا رأى مِنْهُم وَلَا هاله ذَلِك بل صَبر على مَا ناله حَتَّى نَصره الله عَلَيْهِم وَأظْهر دينه على دينهم

فَتَأمل أَيهَا الْعَاقِل إِن كنت منصفا فرق مَا بَين نَبينَا مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام وَبَين مَا تحكيه النَّصَارَى عَن الْمَسِيح فِي إنجيلهم وَذَلِكَ أَنَّهَا تحكي فِيهِ أَن الْمَسِيح لما استشعر بوثوب الْيَهُود عَلَيْهِ قَالَ قد جزعت نَفسِي الْآن فَمَاذَا أَقُول يَا أبتاه فسلمني من هَذَا الْوَقْت وَأَنه حِين رفع فِي الْخَشَبَة صَاح صياحا عَظِيما وَقَالَ إِلَى إِلَى لم غريتناني وترجمته إلهي إلهي لم أسلمتني وَهَذَا غَايَة الْجزع والخور ينزه عَنهُ عِيسَى بل هُوَ من أكاذيبهم عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ ذكرت فِي إنجيلها أَن عِيسَى لما أَخَذته الْيَهُود وَحَمَلته إِلَى قَائِد القسيسين قَالَ لَهُ أستحلفك بِاللَّه الْحَيّ أَن تصدقنا إِن كنت الْمَسِيح ابْن الله فَقَالَ لَهُ الْمَسِيح أَنْت قلته وَهَذَا كَلَام يدل على أَنه كتم نَفسه وسترها ضعفا وجبنا ثمَّ إِن كفار قُرَيْش لما أكربهم أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وغاظهم شَأْنه تشاوروا فِي أمره فَقَالَ لَهُم عتبَة بن ربيعَة يَا معشر قُرَيْش أَلا أقو م لمُحَمد فأكلمه وَأعْرض عَلَيْهِ أمورا لَعَلَّه يقبل بَعْضهَا فَنُعْطِيه أَيهَا شَاءَ ويكف عَنَّا وَذَلِكَ لما لم يقدروا أَن يصلوا إِلَيْهِ بمكروه فَقَالُوا لَهُ بلَى فَقَامَ إِلَيْهِ عتبَة فَقَالَ لَهُ يَا ابْن أخي إِنَّك منا حَيْثُ قد علمت من البسطة فِي الْعَشِيرَة والمكانة فِي النّسَب وَإنَّك قد أتيت قَوْمك بِأَمْر عَظِيم فرقت بِهِ جَمَاعَتهمْ وسفهت بِهِ أحلامهم وعبت بِهِ آلِهَتهم وَدينهمْ وكفرت من مضى من آبَائِهِم فاسمع مني أعرض عَلَيْك أمورا لَعَلَّك تقبل منا بَعْضهَا فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قل أسمع فَقَالَ يَا ابْن أخي إِن كنت إِنَّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْت بِهِ من هَذَا الْأَمر مَالا جَمعنَا لَك من أَمْوَالنَا حَتَّى تكون أكثرنا مَالا وَإِن كنت تُرِيدُ شرفا سودناك علينا حَتَّى لَا نقطع أمرا دُونك وَإِن كنت تُرِيدُ ملكا ملكناك علينا وَإِن كَانَ

هَذَا الَّذِي يَأْتِيك رئيا ترَاهُ لَا تَسْتَطِيع رده عَن نَفسك طلبنا لَك الطِّبّ وبذلنا فِيهِ أَمْوَالنَا حَتَّى نبرئك مِنْهُ فَلَمَّا فرغ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقد فرغت قَالَ نعم فاسمع مني قَالَ أفعل فَقَرَأَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {حم تَنْزِيل من الرَّحْمَن الرَّحِيم كتاب فصلت آيَاته قُرْآنًا عَرَبيا لقوم يعلمُونَ بشيرا وَنَذِيرا فَأَعْرض أَكْثَرهم فهم لَا يسمعُونَ} ثمَّ مضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ السُّورَة حَتَّى إِذا بلغ السَّجْدَة فَسجدَ ثمَّ قَالَ قد سَمِعت يَا أَبَا الْوَلِيد مَا سَمِعت فَأَنت وَذَاكَ فَقَامَ عتبَة إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ بَعضهم لبَعض أَحْلف بِاللَّه لقد جَاءَكُم أَبُو الْوَلِيد بِغَيْر الْوَجْه الَّذِي ذهب بِهِ فَلَمَّا جلس اليهم قَالُوا مَا وَرَاءَك يَا أَبَا الْوَلِيد قَالَ ورائي أَنِّي سَمِعت قولا وَالله مَا سَمِعت مثله قطّ وَالله مَا هُوَ بالشعر وَلَا بالكهانة وَلَا بِالسحرِ يَا معشر قُرَيْش أَطِيعُونِي واجعلوها بِي خلوا بَين هَذَا الرجل وَبَين مَا هُوَ فِيهِ واعتزلوا فوَاللَّه لَيَكُونن لقَوْله الَّذِي سَمِعت نبأ عَظِيم فَإِن تصبه الْعَرَب فقد كفيتموه بغيركم وَإِن يظْهر على الْعَرَب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد النَّاس بِهِ قَالُوا سحرك وَالله يَا أَبَا الْوَلِيد بِلِسَانِهِ فَقَالَ هَذَا رَأْيِي فِيهِ فَاصْنَعُوا مَا بدا لكم فَانْظُر إِن كنت عَاقِلا كَيفَ بذلوا لَهُ أَمْوَالهم فَلم يلتفتها وعرضوا عَلَيْهِ ملك الدِّينَا فَلم يعرج عَلَيْهَا بل صدع بِأَمْر الله وَبلغ مَا أمره بِهِ الله وَكَذَلِكَ اجْتمع كفار قُرَيْش أَشْرَافهم وسادتهم فعرضوا عَلَيْهِ مثل الَّذِي عرض عَلَيْهِ عتبَة وَقَالُوا لَهُ مثل قَوْله فَقَالَ لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا بِي مِمَّا تَقولُونَ شَيْئا وَمَا جِئتُكُمْ أطلب أَمْوَالكُم وَلَا الشّرف فِيكُم وَلَا التَّمَلُّك عَلَيْكُم وَلَكِن الله بَعَثَنِي إِلَيْكُم رَسُولا وَأنزل على كتابا وَأَمرَنِي أَن أكون لكم بشيرا وَنَذِيرا

فبلغتكم رسالات الله وَنَصَحْت لكم فَإِن تقبلُوا مني مَا جِئتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حظكم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَإِن تردوه على أَصْبِر لأمر الله حَتَّى يحكم الله بيني وَبَيْنكُم وَالْأَخْبَار فِي هَذَا النَّوْع كَثِيرَة وَمن أوضح آيَاته وَأشهر علاماته مَا أكْرمه الله بِهِ بعد وَفَاته وَذَلِكَ أَنه قد اشْتهر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما توفاه الله تَعَالَى اخْتلف غاسلوه فِي تجريده الْقَمِيص فَلَمَّا اخْتلفُوا فِي ذَلِك ألْقى الله عَلَيْهِم النّوم حَتَّى مَا مِنْهُم رجل إِلَّا ذقنه فِي صَدره ثمَّ كَلمهمْ مُكَلم من نَاحيَة الْبَيْت لَا يَدْرُونَ من هُوَ وَلَا يرَوْنَ أحدا أَن أغسلوا النَّبِي وَعَلِيهِ ثِيَابه وَكَذَلِكَ روى أَن عليا وَالْفضل حِين انتهيا فِي الْغسْل إِلَى أَسْفَله سمعُوا مناديا يَقُول لَا تكشفوا عَورَة نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَذَلِكَ روى فِي طرق صِحَاح أَن أهل بَيته سمعُوا وَهُوَ مسجى بَينهم قَائِلا يَقُول السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته أهل الْبَيْت أَن فِي الله عوضا عَن كل تَالِف وخلفا من كل هَالك وعزاء من كل مُصِيبَة فَاصْبِرُوا واحتسبوا أَن الله مَعَ الصابرين وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل قَالَ فَكَانُوا يرَوْنَ أَنه الْخضر وَقد آن أَن نمسك الْعَنَان إِذْ قد حصل الْبَيَان على أَن قَرَائِن أَحْوَال نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعلاماته مِمَّا لَا يحصيها لِسَان وَلَا يُحِيط بإجملها إِنْسَان وَقد نجز القَوْل فِي النَّوْع الثَّانِي من أَدِلَّة نبوته والحمدلله ونشرع الْآن فِي النَّوْع الثَّالِث

النوع الثالث

النَّوْع الثَّالِث الإستدلال على نبوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْكتاب الْعَزِيز الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد وَلَقَد كَانَ يَنْبَغِي أَن نقدم الإستدلال بِهَذَا النَّوْع لكَونه أعظم المعجزات وأوضحها وأشهرها لَكِن قدمنَا النَّوْع تسكيتا لِلنَّصَارَى وَالْيَهُود وتأسيسا وَقدمنَا النَّوْع الثَّانِي بِنَاء وتأسيسا فَنَقُول أَيْضا مُحَمَّد بن عبد الله رَسُول صَادِق فِيمَا يَقُوله عَن الله وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنه قد جَاءَ بالمعجزات وكل من جَاءَ بهَا فَهُوَ صَادِق فمحمد إِذن رَسُول من الله صَادِق فَإِن قيل لم قُلْتُمْ أَنه قد جَاءَ بالمعجزات قُلْنَا قد نقل إِلَيْنَا نقلا متواترا بِحَيْثُ لَا يشك فِيهِ أَنه جَاءَ بِالْقُرْآنِ وبمعجزات كَثِيرَة فَإِذن هُوَ صَادِق ونبدأ الْآن بالْكلَام على الْقُرْآن وَبعد الْفَرَاغ مِنْهُ نشرع فِي الْكَلَام على غَيره من المعجزات إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَإِن أنكر مُنكر أَن يكون جَاءَ بِالْقُرْآنِ فقد تبين عناده وَسقط استرشاده وَيُقَال لَهُ قد حصل بذلك لَك الْأُمَم واستوى فِي ذَلِك الْعَرَب والعجم وسبيلك إِن كنت منصفا أَن تعاشر المتشرعين وتسألهم عَن أَخْبَار الماضين حَتَّى يحصل لَك الْعلم الْيَقِين وَلنْ يُنَازع فِي ذَلِك عَاقل منصف بل إِمَّا معتوه أَو متعسف فَإِن قيل سلمنَا أَنه جَاءَ بِالْقُرْآنِ قلم قُلْتُمْ أَنه معْجزَة قُلْنَا لِأَنَّهُ قد تحدى بِهِ كَافَّة الفصحاء البلغاء وَمُدَّة مقَامه بَينهم فَلم يقدروا على مُعَارضَة شَيْء مِنْهُ فَإِذن هُوَ معْجزَة بَيَان ذَلِك أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعثه الله إِلَى قوم كَانَ مُعظم علمهمْ الْكَلَام الفصيح البليغ الْمليح فَلَقَد خصوا من البلاغة وَالْحكم بِمَا

لم يخص بِهِ غَيرهم من الْأُمَم وأوتوا من دراية اللِّسَان مَا لم يؤته إِنْسَان وَمن فصل الْخطاب مَا يتعجب مِنْهُ أولُوا الْأَلْبَاب جعل الله لَهُم ذَلِك طبعا وخلقه فيهم غريزة ووضعا فَيَأْتُونَ مِنْهُ على البديهة بالعجب ويدلون بِهِ إِلَى كل سَبَب فيخطبون بدلهَا فِي المقامات وشديد الْخطب ويرتجزون بِهِ بَين الطعْن وَالضَّرْب فَرُبمَا مدحوا شَيْئا وضيعا فَرفع وَرُبمَا ذموا شريفا فَوضع فيصيرون بمدحهم النَّاقِص كَامِلا والنبيه خاملا وَذَلِكَ لفصاحتهم الرائقة وبلاغتهم الفائقة فَكَانُوا يأْتونَ من ذَلِك بِالسحرِ الْحَلَال ويوردونه أعذب من المَاء الزلَال فيخدعون بذلك الْأَلْبَاب ويذللون الصعاب ويذهبون الأحن ويهيجون الْفِتَن ويجرءون الجبان ويبسطون يَد الْجَعْد البنان فهم يعْرفُونَ أَصْنَاف الْكَلَام مَا كَانَ مِنْهُ نثرا وَمَا كَانَ ذَا نظام قد عمروا بذلك أزمانهم وَجعلُوا ذَلِك مهمتهم وشأنهم حَتَّى بلغُوا مِنْهُ أَعلَى الرتب وأطلوا مِنْهُ على كل غابة وَسَب لَا ينازعهم فِي ذَلِك مُنَازع وَلَا يدافعهم عَن ذَلِك مدافع فَبَيْنَمَا هم كَذَلِك إِذْ جَاءَهُم رَسُول كريم بقرآن حَكِيم فعرضه عَلَيْهِم وأسمعهم إِيَّاه وَاسْتدلَّ على صدقه بذلك وَقَالَ لَهُم إِن كُنْتُم فِي شكّ من صدقي فائتوا بقرآن مثله وَعند سماعهم لَهُ راعهم مَا سمعُوا وَعَلمُوا أَنهم دون معارضته قد انْقَطَعُوا فَلم يقدروا على ذَلِك ثمَّ إِنَّه طلب مِنْهُم أَن يأتو بِعشر سور مثله فعجزوا وَلم يقدروا ثمَّ طلب مِنْهُم أَن يَأْتُوا بِسُورَة مثله فَلم يستطيعوا وَعند ذَلِك أخْبرهُم وَقَالَ لَهُم {لَئِن اجْتمعت الْإِنْس وَالْجِنّ على أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن لَا يأْتونَ بِمثلِهِ وَلَو كَانَ بَعضهم لبَعض ظهيرا} يعْنى عونا فَعِنْدَ ذَلِك ظهر عجزهم وتبلدهم وَإِن كَانُوا هم اللسن الفصحاء اللد البلغاء وَعند ظُهُور عجزهم تبينت حجَّته ووضحت محجته وَهَكَذَا حَال غير وَاحِد من الرُّسُل أَلا ترى أَن الله تَعَالَى أرسل مُوسَى بن عمرَان إِلَى قوم كَانَ مُعظم علمهمْ وعملهم السحر فأيده بقلب العصى حَيَّة

والجواب من وجهين

تسْعَى فرام السَّحَرَة معارضته ومقاومته فَلم يقدروا من ذَلِك على شَيْء وَعند عجزهم تبين صدقه وَأَنه رَسُول من عِنْد الله وَكَذَلِكَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام بَعثه الله فِي زمَان كَانَ مُعظم علم أَهله الطِّبّ فأيده بإحياء الْمَوْتَى وإبراء الأكمه والأبرص وَعند عجزهم عَن الْإِتْيَان بِشَيْء من ذَلِك تبين صدقه وَأَنه رَسُول من عِنْد الله فَعلم بِهَذَا الْبُرْهَان الَّذِي يتَطَرَّق إِلَيْهِ خلل أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله {قد خلت من قبله الرُّسُل} فَإِن قيل لَا نسلم أَنه لم يُعَارض بل لَعَلَّه عورض وَلم ينْقل أَو نقل فأخفى وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنا نقُول للْيَهُود وَالنَّصَارَى هَذَا السُّؤَال يَنْقَلِب عَلَيْكُم فِي معجزات مُوسَى وَعِيسَى إِذْ يُمكن أَن يُقَال إِن ساحرا من السَّحَرَة عَارض مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَأَنه أَتَى بعصا فقلبها ثعبانا أعظم من ثعبان مُوسَى والتقم ثعبان مُوسَى وَيُمكن أَن يُقَال لِلنَّصَارَى أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام عورض فِي إحْيَاء الْمَوْتَى وإبراء الأكمه والأبرص وَلم ينْقل إِلَيْنَا أَو نقل فأخفى وَكَذَلِكَ نقُول لغير الْيَهُود وَالنَّصَارَى من الْأُمَم فِي معجزات أَنْبِيَائهمْ فبالذي ينفصلون عَن معجزات أَنْبِيَائهمْ بِهِ بِعَيْنِه ننفصل عَن معجزات نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام وَجُمْلَة مَا قيل فِي جَوَاب هَذَا لَو عورض لنقل إِذْ الْعَادَات تَقْتَضِي ذَلِك فَإِن هَذَا الْأَمر مُهِمّ عَظِيم تكْثر الْعِنَايَة بِهِ فيكثر نَقله لَا سِيمَا فِي شريعتنا فَإِنَّهُم قيل لَهُم إِذْ لم تصدقوا وَلم تعارضوا فأذنوا بِحَرب فَلَمَّا لم يُؤمنُوا وَلم يعارضوا قَاتلهم فَقَتلهُمْ وسبى ذَرَارِيهمْ وانتقم مِنْهُم غَايَة الإنتقام فَلَو قدرُوا على الْمُعَارضَة لعارضوا وَلَو عارضوا لنقل نقلا متواترا فَإِن هَذَا الْأَمر من أهم الْمُهِمَّات عِنْد الْعُقَلَاء الْوَجْه الثَّانِي من الْجَواب وَهُوَ الإنفصال الْحق وَالْكَلَام الصدْق أَن نقُول من وقف على الْقُرْآن وسَمعه وَفهم مَعَانِيه وَكَانَ عَارِفًا

فإن قيل

بأصناف كَلَامهم علم عجز الْخَلَائق عَن الْإِتْيَان بِمثلِهِ ضَرُورَة كَمَا يعلم عجز الْأَطِبَّاء عَن إحْيَاء الْمَوْتَى وإبراء الأكمه والأبرص بِنَفس الْعلم بِهَذِهِ الْأُمُور وَالْوُقُوف عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ من شَاهد قلب العصى ثعبانا مُبينًا يتلقف مَا جَاءُوا بِهِ من السحر والتخييلات حصل لَهُ الْعلم الْقطعِي بِأَن قلب العصى ثعبانا يعجز عَنهُ الْخَلَائق أَجْمَعُونَ إِذْ ذَاك خَارج عَن مقدورهم فَإِن قيل إحْيَاء الْمَوْتَى وقلب العصى وَمَا ينزل منزلتها جلي لَا يشك فِيهِ من شَاهده عَام بِالْإِضَافَة إِلَى كل الْعُقَلَاء لَا يبْقى مَعَه ريب لأَحَدهم بل يحصل لَهُم الْعلم الْقطعِي بذلك وَلَيْسَ كَذَلِك مَا ادَّعَاهُ نَبِيكُم من إعجاز الْقُرْآن إِذْ لَا يحصل الْعلم بإعجازه لكل أحد بل إِنَّمَا يحصل الْعلم بذلك عنْدكُمْ وعَلى زعمكم للفصحاء من الْعَرَب وَأما من لَيْسَ فصيحا أَو أعجميا لَا يفقه لِسَان الْعَرَب فَلَا يحصل لَهُ الْعلم بإعجازه فَإِن الأعجمي لَو كلف أَن يتَكَلَّم بِكَلِمَة وَاحِدَة من لِسَان الْعَرَب لم يقدر على ذَلِك فَعدم قدرته على ذَلِك لَا يدل على صدق المتحدى بِهِ وَكَذَلِكَ من لَيْسَ فصيحا من الْعَرَب لَو كلف أَن يَأْتِي بِكَلَام فصيح لم يقدر عَلَيْهِ فَلَا يكون ذَلِك معجزا فِي حَقه الْجَواب أَن نقُول سنبين إِن شَاءَ الله وُجُوه إعجازه وَأَنَّهَا مُتعَدِّدَة وَإِن مِنْهَا مَا يُدْرِكهُ الجفلا ويشترك فِي معرفَة إعجازه أهل الحضارة والفلا فَيكون هَذَا النَّوْع كقلب العصى وإحياء الْمَوْتَى وَلَو سلمنَا جدلا أَنه معجز من حَيْثُ بلاغته وأسلوبه الْمُخَالف لأساليب كَلَامهم فَقَط لقلنا إِن الْعلم بإعجازه وإحياء الْمَوْتَى وقلب العصى لَا يحصل لكل الْعُقَلَاء على حد سَوَاء وَلَا فِي زمَان وَاحِد بل يحصل ذَلِك لمن علم وَجه إعجاز ذَلِك الشَّيْء المعجز حِين يعرف أَنه مِمَّا لَيْسَ يدْرك بجبلة بشرية وَلَا يتَوَصَّل إِلَى ذَلِك بالإطلاع على خاصية وَقد لَا يبعد أَن تقوم شُبْهَة عِنْد جَاهِل بصناعة الطِّبّ وَالسحر تَمنعهُ من تَحْصِيل الْعلم بالإعجاز فَيَقُول لَعَلَّ مُوسَى اطلع من السحر على شَيْء لم يُعلمهُ السَّحَرَة وَلَا اطَّلَعت عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ عِيسَى لَعَلَّه وَقع على خاصية بعض الْأَحْجَار أَو بعض الموجودات فَكَانَ يفعل بهَا مَا يظْهر على يَدَيْهِ وَهَذِه الشُّبْهَة إِنَّمَا مُمكن أَن تظهر للجاهل بالطب

معارض

وَالسحر وَأما الْعَالم بالطب وبالسحر فَلَا تكون هَذِه شُبْهَة فِي حَقه لعلمه الَّذِي حصل لَهُ بالذوق والممارسه بِأَن الَّذِي جَاءَ بِهِ هَذَا مِمَّا لَيْسَ يدْرك بحيلة صناعية وَلَا بِالْوُقُوفِ على خاصية بل هُوَ صنع خَالق الْبَريَّة وَأَنه أَرَادَ بِهِ التَّصْدِيق لهَذَا الْمُدَّعِي وَالشَّهَادَة واليقينية فَحصل من هَذَا أَن الْعلم بإعجاز إحْيَاء الْمَوْتَى وقلب العصى إِنَّمَا يحصل أَولا للسحرة والأطباء وَلَا يحصل لكثير من الْجُهَّال بالطب وَالسحر الأغبياء فَكَذَلِك إعجاز الْقُرْآن وَلَا فرق حصل الْعلم بِهِ لمن يعلم لِسَان الْعَرَب بالذوق بضرورة الْفرق الَّذِي بَينه وَبَين لِسَان الْعَرَب فَعلم أَنه لَيْسَ دَاخِلا تَحت مَقْدُور الْعَرَب وَإِذا عجز عَنهُ الْعَرَب الفصحاء واللد البلغاء فغيرهم أعجز كَمَا أَنا نقُول إِذا عجز الْأَطِبَّاء عَن إحْيَاء الْمَوْتَى وإبراء الأكمه والأبرص فَغير الْأَطِبَّاء أولى وَإِذا عجز السَّحَرَة عَن قلب العصى ثعبانا فَغير السَّحَرَة أعجز وأعجز وَقَوْلهمْ إِنَّمَا يعجز عَنهُ الْعَرَب لَا الْعَجم معَارض بِأَن يُقَال لَهُم إِنَّمَا يعجز عَن إحْيَاء الْمَوْتَى الْأَطِبَّاء لَا غَيرهم وَإِنَّمَا يعجز عَن قلب العصى السَّحَرَة لَا غَيرهم فبالذي ينفصلون بِهِ ننفصل بل نزيد عَلَيْهِم فِي الإنفصال بِوُجُوه ترفع الأشكال فَإنَّا سنبدي وُجُوهًا فِي إعجاز الْقُرْآن يُدْرِكهَا كل إِنْسَان عجميا كَانَ أَو عَرَبيا مجوسيا كَانَ أَو كتابيا وسنبينها إِن شَاءَ الله أثر هَذَا فقد حصل من هَذَا الْكَلَام كُله الْعلم بِأَن مُحَمَّدًا صلى الله عيله وَسلم جَاءَ بِالْقُرْآنِ وتحدى بِهِ وَهُوَ معْجزَة وكل من جَاءَ بالمعجزة وتحدى بهَا فَهُوَ صَادِق فالنتيجة مَعْلُومَة وَهِي أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَادِق فَإِن قيل فبينوا لنا وُجُوه إعجاز الْقُرْآن وَهل هُوَ من جنس مَا يقدر عَلَيْهِ الْبشر فصرفوا عَنهُ أَو لَيْسَ من جنس مَا يقدرُونَ عَلَيْهِ فَالْجَوَاب أَن نقُول ذهب بعض عُلَمَائِنَا إِلَى أَن وَجه إعجازه إِنَّمَا هُوَ من جِهَة أَن صرفُوا عَن الْإِتْيَان بِهِ وَأَنه من جنس مَقْدُور الْبشر لَكِن لم يقدروا عَلَيْهِ وَهَذَا إِن كَانَ فَهُوَ بليغ فِي الإعجاز وَذَلِكَ أَن المعجزات ضَرْبَان ضرب خَارج عَن مَقْدُور الْبشر كإنفلاق

الْبَحْر وإنشقاق الْقَمَر ونبع المَاء من بَين الْأَصَابِع وَضرب يكون من جنس مَقْدُور الْبشر إِلَّا أَنهم يمْنَعُونَ من فعله وَلَا يقدرُونَ عَلَيْهِ فَلَو أَن نَبيا ادّعى أَنه رَسُول الله وَاسْتدلَّ على صدقه بِأَن قَالَ لِقَوْمِهِ آيتي أَلا تقدروا الْيَوْم على الْقيام فَكَانَ ذَلِك فَهَذَا دَلِيل صدقه وَهُوَ معْجزَة جلية أبلغ فِي الإعجاز من الْإِتْيَان بِمَا لَيْسَ بمقدور وَلَا يبعد أَن يكون إعجاز الْقُرْآن من هَذَا الْقَبِيل فَإِن الْبشر قد صرفُوا عَن الْإِتْيَان بِمثلِهِ بل عَن الْإِتْيَان بِآيَة طَوِيلَة من آيَاته وَمن تنَازع فِي ذَلِك فَعَلَيهِ بِأَن يأتى بقرآن مثله أَو بِسُورَة من مثله وَهَذَا من خَصَائِص نَبينَا صلى الله عيه وَسلم وَذَلِكَ أَن معجزته مَوْجُودَة بعده وحاضرة مُشَاهدَة فِي كل وَقت لم تَنْقَطِع بإنقطاع وجوده وَلَا مَاتَت بِمَوْتِهِ بل هِيَ مَوْجُودَة مستمرة إِلَى قيام السَّاعَة فَكل من أبدى نكيرا فِي نبوته أَو قدحا فِي رسَالَته قُلْنَا لَهُ إِن كنت صَادِقا فِي تكذيبك لَهُ فعارض قرآنه ومنزله فَإِن لم تفعل تبين الْعُقَلَاء مِنْهُ أَنه متواقح مُبْطل ثمَّ نقُول وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ أَكثر عُلَمَائِنَا أَن الْقُرْآن خَارج عَن مَقْدُور الْبشر وَلَيْسَ من جنس مقدورهم وَأَن الْقُرْآن وَإِن كَانَ كلَاما فَلَيْسَ بَينه وَبَين كَلَام الْعَرَب من الْمُنَاسبَة والإلتقاء إِلَّا مَا كَانَ بَين الْحَيَّة الَّتِي انقلبت عصى مُوسَى عَنْهَا وَبَين حيات السَّحَرَة الَّتِي كَانَت تخيل للنَّاظِر إِلَيْهَا أَنَّهَا حيات تسْعَى ووجوه إعجازه كَثِيرَة لَكنا نبدي مِنْهَا أَرْبَعَة ونقتصر عَلَيْهَا لبيانها وظهورها

الوجه الأول

الْوَجْه الأول فَنَقُول أَن لِسَان الْعَرَب مباين للسان غَيرهم ومتميزون عَنْهُم بِأُمُور يعلمهَا العارفون بالألسنة واللغات وَلَا يَشكونَ فِيهَا وَمن غالط فِي ذَلِك وَأنْكرهُ فَعَلَيهِ أَن يتَعَلَّم لِسَان الْعَرَب وألسنة غَيرهم حَتَّى يحصل لَهُ الْفرق بَينه وَبَينهَا ذوقا ومشاهدة ضَرُورِيَّة وَتلك الْأُمُور الَّتِي باين بهَا غَيره من الْأَلْسِنَة خفَّة اللَّفْظ على اللِّسَان وعذوبته وسهولة المخارج وَالتَّعْبِير عَن الْمَعْنى الدائر فِي الضَّمِير بأبلغ عبارَة وأوضح تَفْسِير وكما تميز لِسَان الْعَرَب عَن لِسَان غَيرهم كَذَلِك غير لِسَان الْعَرَب فَكَذَلِك تَمْيِيز لِسَان مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأساليب أخر ومناهج لم تكن الْعَرَب قبله تستعملها على نَحْو مَا استعملها هُوَ حَتَّى أَن من لم يعرف كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسَمعه وَكَانَ عَرَبيا يفرق بَينه وَبَين كَلَام غَيره من الفصحاء فَإِنَّهُ يرز على بلاغة البلغاء وينف فِي حكمته على جَمِيع الْحُكَمَاء وَكَذَلِكَ كَانَت الْعَرَب تَقول لَهُ مَا رَأينَا بِالَّذِي هُوَ أفْصح مِنْك وَهَذِه المناهج الْمَعْرُوفَة فِي كَلَامه إِنَّمَا يعرفهَا على التَّحْقِيق من بَاشر كَلَامه وتتبعه وتفهمه وَكَانَ عَارِفًا بِلِسَان الْعَرَب وكما تميز كَلَامه عَن كَلَام الْعَرَب وَزَاد عَلَيْهِم فَكَذَلِك تميز كَلَام الله عَن كَلَامه بأساليب أخر حَتَّى أَنه كَانَ إِذا تكلم بِكَلَامِهِ أدْرك الْفرق بَينه وَبَين كَلَام الله حِين يتلوه وَيتَكَلَّم بِهِ حَتَّى كَانَ الْعَاقِل الفصيح إِذا سَمعه قَالَ لَيْسَ هَذَا من كَلَام الْبشر وَلَا مِمَّا تقدرون عَلَيْهِ وَسَنذكر مَا نقل إِلَيْنَا عَن فصحائهم لما سمعُوا بِالْقُرْآنِ فَمن الْوُجُوه الَّذِي بِهِ مايز الْقُرْآن كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَلَام الْعَرَب فَصَاحَته الرائقة وبلاغته الموفقة وجزالته الفائقة حَتَّى تسمع الْكَلِمَة الْوَاحِدَة مِنْهُ تجمع مَعَاني كَثِيرَة مَعَ عذوبة إيرادها وجزالة مساقها وَصِحَّة مَعَانِيهَا مثل قَوْله {خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين}

وَلما نزلت هَذِه الْآيَة قَالَ أَبُو جهل وَكَانَ من أَشد الْأَعْدَاء على مُحَمَّد خير الْأَنْبِيَاء إِن رب مُحَمَّد لفصيح وَهَذِه الْآيَة بِمَا تَضَمَّنت من الْأَحْكَام وَتَفْسِير الْحَلَال وَالْحرَام والإعراض عَن أهل الْجَهْل والإجترام وَالْأَمر بِالْتِزَام أَخْلَاق الْكِرَام تدل دلَالَة قَاطِعَة على أَنَّهَا كَلَام الْعَزِيز العلام مَعَ مَا هِيَ عَلَيْهِ من اللَّفْظ الجزل الرصين الَّذِي يروع قُلُوب العارفين ويثلج قُلُوب القارئين والسامعين وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وإيتاء ذِي الْقُرْبَى وَينْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَالْبَغي يعظكم لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} وَلما سمع الْمُغيرَة هَذِه الْآيَة وَكَانَ من أعدائه الَّذين يُرِيدُونَ إطفاء نوره وإذهاب بهائه قَالَ وَالله إِن لَهُ لحلاوة وَإِن عَلَيْهِ لطلاوة وَإِن أَسْفَله لمغدق وَإِن أَعْلَاهُ لمثمر مُورق وَمَا يَقُول هَذَا بشر وَهَذِه الْآيَة قد تَضَمَّنت بِحكم عمومها وَصِحَّة مفهومها مَعَاني كتب الْمُتَقَدِّمين وَشَرَائِع الماضين وتذكره الْحَاضِرين وتخويف الْمُقَصِّرِينَ وترغيب الْمُجْتَهدين مَعَ مَا هِيَ عَلَيْهِ من قلَّة الْكَلِمَات وَمَعَ عذوبة المساق والجزالات وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمن يطع الله وَرَسُوله ويخش الله ويتقه فَأُولَئِك هم الفائزون} حكى أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ بَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا نَائِم فِي الْمَسْجِد إِذْ وقف على رَأسه رجل يتَشَهَّد بِشَهَادَة الْحق فاستخبره فَقَالَ إِنِّي كنت من بطارقة الرّوم وَكنت مِمَّن يحسن كَلَام الْعَرَب وَغَيرهم فَسمِعت أَسِيرًا من الْمُسلمين يقْرَأ آيَة من الْقُرْآن فتأملتها فَإِذا هِيَ قد جمع فِيهَا مَا أنزل الله على عِيسَى ابْن مَرْيَم من أَحْوَال الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ثمَّ قَرَأَ عَلَيْهِ {وَمن يطع الله وَرَسُوله ويخش الله ويتقه} الْآيَة الْمُتَقَدّمَة وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وأوحينا إِلَى أم مُوسَى أَن أرضعيه فَإِذا خفت عَلَيْهِ فألقيه فِي اليم وَلَا تخافي وَلَا تحزني إِنَّا رادوه إِلَيْك وجاعلوه من الْمُرْسلين}

حكى أَن الْأَصْمَعِي سمع جَارِيَة من الْعَرَب فتعجب من فصاحتها فَقَالَت وَهل بعد قَول الله تَعَالَى فصاحة حَيْثُ قَالَ {وأوحينا إِلَى أم مُوسَى أَن أرضعيه فَإِذا خفت عَلَيْهِ فألقيه فِي اليم وَلَا تخافي وَلَا تحزني إِنَّا رادوه إِلَيْك وجاعلوه من الْمُرْسلين} فَإِنَّهُ جمع فِي آيَة وَاحِدَة بَين أَمريْن ونهيين وخبرين وبشارتين وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمر وَأعْرض عَن الْمُشْركين} حكى أَن أَعْرَابِيًا لما سَمعهَا سجد فَقيل لَهُ لم سجدت فَقَالَ سجدت لفصاحته وَلَا يظنّ الْجَاهِل أَنا نستدل على فَصَاحَته بِكَلَام هَؤُلَاءِ الْأَعْرَاب كلا لَو كَانَ ذَلِك لكَانَتْ الْحجَّة أَضْعَف من السراب بل نعلم أَنه معجز بفصاحته علم ضَرُورَة تحصل لنا عِنْد سَمَاعه وقراءته والبلغاء إِذا وقفُوا عَلَيْهِ وسمعوه لذَلِك الْعلم مضطرون بِحَيْثُ لَا يرتابون وَلَا يَشكونَ كَيفَ والعربي الفصيح إِذا سمع قَوْله تَعَالَى {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة يَا أولي الْأَلْبَاب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} وَقَوله تَعَالَى {وَلَو ترى إِذْ فزعوا فَلَا فَوت وَأخذُوا من مَكَان قريب} وَقَوله تَعَالَى {وَلَا تستوي الْحَسَنَة وَلَا السَّيئَة ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسن فَإِذا الَّذِي بَيْنك وَبَينه عَدَاوَة كَأَنَّهُ ولي حميم} وَقَوله تَعَالَى {وَقيل يَا أَرض ابلعي ماءك وَيَا سَمَاء أقلعي وغيض المَاء وَقضي الْأَمر واستوت على الجودي وَقيل بعدا للْقَوْم الظَّالِمين} وَقَوله تَعَالَى {فكلا أَخذنَا بِذَنبِهِ فَمنهمْ من أرسلنَا عَلَيْهِ حاصبا وَمِنْهُم من أَخَذته الصَّيْحَة وَمِنْهُم من خسفنا بِهِ الأَرْض وَمِنْهُم من أغرقنا وَمَا كَانَ الله ليظلمهم وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ} وَمثل هَذَا كثير قضى من هَذِه البلاغة والجزالة ومتانة هَذِه الْمعَانِي الْعجب وَعلم أَن مثل هَذَا لَا يقدر عَلَيْهِ أحد من الْعَجم وَلَا من الْعَرَب

وَمَا عَسى أَن يُقَال فِي كَلَام ذِي الْجلَال إِذْ هُوَ أصدق الْكتب ومصدق خير الرُّسُل وَلَو كَانَت الْبحار مدادا وَجَمِيع الْجِنّ وَالْإِنْس كتابا مَا بلغُوا معشاره وَلَا قدرُوا مِقْدَاره قَالَ الله تَعَالَى الْعَظِيم فِي كِتَابه الْكَرِيم {قل لَو كَانَ الْبَحْر مدادا لكلمات رَبِّي لنفد الْبَحْر قبل أَن تنفد كَلِمَات رَبِّي وَلَو جِئْنَا بِمثلِهِ مدَدا} فَهَذَا هُوَ الْوَجْه الأول

الوجه الثاني

الْوَجْه الثَّانِي من وُجُوه إعجاز الْقُرْآن نظمه العجيب وأسلوبه الْغَرِيب الَّذِي خَالف بِهِ جَمِيع أسلوب كَلَام الْعَرَب حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْسَ بَينه وَبَينه نسب وَلَا سَبَب فَلَا هُوَ كمنظوم كَلَامهَا فَيكون شعرًا مَوْزُونا وَلَا كمنثوره فَيكون نثرا عريا عَن الفواصل محروما بل تشبه رُؤُوس آيه وفواصله قوافي النّظم وَلَا تدانيها وتخالف آيه متفرقات النثر وتناويها فَصَارَ لذَلِك أسلوبا خَارِجا عَن كَلَامهم ومنهاجا خارقا لعادة خطابهم وَذَلِكَ أَن كَلَام بلغاء الْعَرَب لَا يَخْلُو أما أَن يكون مَوْزُونا منظوما أَو غير مَوْزُون وَلَا منظوم فَالْأول هُوَ الشّعْر وَهُوَ أَصْنَاف وأنواع بِحَسب اخْتِلَاف أعاريضه وَالثَّانِي هُوَ النثر وَالْقُرْآن الْعَزِيز خَارج عَن الصِّنْفَيْنِ مفارق للنوعين فَارق الشّعْر بِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْزُونا وَزنه فتكسره لَفْظَة زَائِدَة وَلَا مرتبطا ربطه حَتَّى تفسده مُخَالفَة قافية وَاحِدَة فِي الْوُقُوف عَلَيْهِ وأوضح شَاهد وأقطع لشُبْهَة كل معاند وَهَا أَنا أتلوا عَلَيْكُم معشر النَّصَارَى بعض آيَاته ليتَحَقَّق الْمنصف صدق شهاداته وَقَالَ الله الْعَظِيم فِي مُحكم كِتَابه الْكَرِيم {وَاذْكُر فِي الْكتاب مَرْيَم إِذْ انتبذت من أَهلهَا مَكَانا شرقيا فاتخذت من دونهم حِجَابا فَأَرْسَلنَا إِلَيْهَا رُوحنَا فتمثل لَهَا بشرا سويا قَالَت إِنِّي أعوذ بالرحمن مِنْك إِن كنت تقيا قَالَ إِنَّمَا أَنا رَسُول رَبك لأهب لَك غُلَاما زكيا قَالَت أَنى يكون لي غُلَام وَلم يمسسني بشر وَلم أك بغيا قَالَ كَذَلِك قَالَ رَبك هُوَ عَليّ هَين ولنجعله آيَة للنَّاس وَرَحْمَة منا وَكَانَ أمرا مقضيا فَحَملته فانتبذت بِهِ مَكَانا قصيا فأجاءها الْمَخَاض إِلَى جذع النَّخْلَة قَالَت يَا لَيْتَني مت قبل هَذَا وَكنت نسيا منسيا فناداها من تحتهَا أَلا تحزني قد جعل رَبك تَحْتك سريا وهزي إِلَيْك بجذع النَّخْلَة تساقط عَلَيْك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فإمَّا تَرين من الْبشر أحدا فَقولِي إِنِّي نذرت للرحمن صوما فَلَنْ أكلم الْيَوْم إنسيا فَأَتَت بِهِ قَومهَا تحمله قَالُوا يَا مَرْيَم لقد جِئْت شَيْئا فريا يَا أُخْت هَارُون مَا كَانَ أَبوك امْرأ سوء وَمَا كَانَت أمك بغيا فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيفَ نُكَلِّم من كَانَ فِي المهد صَبيا قَالَ إِنِّي عبد الله آتَانِي الْكتاب وَجَعَلَنِي نَبيا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْن مَا كنت وأوصاني بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة مَا دمت حَيا وَبرا بوالدتي وَلم يَجْعَلنِي جبارا شقيا وَالسَّلَام عَليّ يَوْم ولدت وَيَوْم أَمُوت وَيَوْم أبْعث حَيا}

ثمَّ بعد ذَلِك أَخذ فِي أسلوب مُخَالف هَذَا فَقَالَ تَعَالَى {ذَلِك عِيسَى ابْن مَرْيَم قَول الْحق الَّذِي فِيهِ يمترون مَا كَانَ لله أَن يتَّخذ من ولد سُبْحَانَهُ إِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون وَإِن الله رَبِّي وربكم فاعبدوه هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم} هَكَذَا إِلَى أَن فرغ من هَذَا النمط ثمَّ شرع فِي نمط آخر على مَا يعرفهُ من وقف عَلَيْهِ وتدبره وَإِنَّمَا تلونا هَذِه الْآيَات على الْخُصُوص فِي هَذَا الْمقَام لما تضمنه من الْأَخْبَار عَن عِيسَى وَمَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام حَتَّى يعلم النَّصَارَى بطلَان مَا يقولوه عَلَيْهِمَا من الْكَذِب والأوهام فَانْظُر إِن كنت عَاقِلا منصفا كَيْفيَّة هَذَا النّظم الشريف البديع المنيف كَيفَ عَادل بَين رُؤُوس الْآي بحروف تشبه القوافي وَلَيْسَ بهَا والتزمها ثمَّ عدل عَنْهَا إِلَى غَيرهَا مَعَ أَن السُّورَة وَاحِدَة بِخِلَاف مَا يفعل الناثر فَإِنَّهُ لَا يلْتَزم قوافي وَلَا فواصل وَالْقُرْآن الْعَزِيز ذُو آيَات لَهَا فواصل ومقاطع ورؤوس تشبه القوافي فقد عرفت أَنه خَالف نظم كَلَام الْعَرَب ونثرها فَهُوَ منهاج آخر وأسلوب لم تكن الْعَرَب تعرفه وَلما سمعته الْعَرَب ووعته لم يتحدث قطّ وَاحِد مِنْهُم بِأَنَّهُ يقدر على مُعَارضَة آيَة مِنْهُ بل حارت

فِيهِ عُقُولهمْ وتدلهت دونه أحلامهم وَلذَلِك قَالَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة لملأ قُرَيْش يَا معشر قُرَيْش أَنه قد حضر موسم الْحَج وَإِن وُفُود الْعَرَب ستقدم عَلَيْكُم وَقد سمعُوا بِأَمْر صَاحبكُم وَلَا بُد أَن يسألوكم عَنهُ فَمَاذَا تَقولُونَ لَهُم فَأَجْمعُوا فِيهِ رَأيا وَاحِدًا لِئَلَّا تكذبكم الْعَرَب إِذا اختلفتم فِيهِ قَالُوا نقُول إِنَّه كَاهِن فَقَالَ لَهُم وَالله مَا هُوَ بكاهن لقد رَأينَا الْكُهَّان فَمَا هُوَ بزمزمة الكاهن وَلَا سجعه قَالُوا فَنَقُول أَنه مَجْنُون قَالَ وَالله مَا هُوَ بمجنون لقد رَأينَا الْمَجْنُون وعرفناه وَالله مَا هُوَ بخنقه وَلَا تخالجه وَلَا وسوسته قَالُوا فَنَقُول إِنَّه شَاعِر قَالَ مَا هُوَ بشاعر لقد عرفنَا الشّعْر كُله رجزه وهزجه ومقبوضه ومبسوطه فَمَا هُوَ بالشعر قَالُوا فَنَقُول إِنَّه سَاحر قَالَ مَا هُوَ بساحر لقد رَأينَا السحر وسحرهم فَمَا هُوَ بنفثه وَلَا عقده وَمَا أَنْتُم قَائِلُونَ شَيْئا من هَذَا إِلَّا كذبتكم الْعَرَب وَعرفت أَنه بَاطِل قَالُوا فَمَا تَقول أَنْت قَالَ وَالله إِن لقَوْله لحلاوة وَإِن أَصله لعذق وَإِن فَرعه لمثمر وَإِن أقرب القَوْل فِيهِ أَن تَقولُوا إِنَّه سَاحر جَاءَ بقول هُوَ سحر يفرق بِهِ بَين الْمَرْء وإبنه وَبَين الْمَرْء وأخيه يعْنى أَن هَذَا تقبله الْعَرَب فَإِنَّهَا لاتعرف السحر فعولوا على أَن يَقُولُوا إِنَّه سحر فَفَعَلُوا وَفِي الْوَلِيد أنزل الله تَعَالَى {ذَرْنِي وَمن خلقت وحيدا وَجعلت لَهُ مَالا ممدودا وبنين شُهُودًا ومهدت لَهُ تمهيدا} فَانْظُر كَيفَ عرفُوا أَنه لَيْسَ من جنس كَلَامهم وَلَا من جنس كَلَام الكهنة وَلَا السَّحَرَة وَلم يمنعهُم من الْإِيمَان بِهِ إِلَّا مَا سبق لَهُم من الشقاوة والعناد والحسد والجفوة وَكَذَلِكَ قَالَ لَهُم عتبَة بن ربيعَة لما سمع {حم تَنْزِيل من الرَّحْمَن الرَّحِيم} قَالَ وَالله مَا سَمِعت مثله قطّ وَالله مَا هُوَ بالشعر وَلَا بِالسحرِ وَلَا بالكهانة فقد تقدم بِكَمَالِهِ فَلْينْظر هُنَاكَ وَكَذَلِكَ قَالَ أنيس أَخُو أبي ذَر الْغِفَارِيّ وَكَانَ شَاعِرًا مفلقا يُنَاقض الشُّعَرَاء ويعارضهم فَلَمَّا سمع الْقُرْآن قَالَ لِأَخِيهِ أبي ذَر لقد سَمِعت قَول الكهنة فَمَا هُوَ بقَوْلهمْ وَلَقَد وَضعته على أَقراء

الشّعْر فَلم يلتئم وَمَا يلتئم على لِسَان أحد يدعى أَنه شعر وَالله أَنه لصَادِق وَأَنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَالْأَخْبَار الصِّحَاح فِي هَذَا الْمَعْنى أكثرب من أَن يُحِيط بهَا هَذَا الْكتاب فقد اتَّضَح من هَذَا الْوَجْه وَمن الَّذِي قبله أَن الْقُرْآن الْعَزِيز معجز بِمَجْمُوع فَصَاحَته ونظمه وَقد تبين أَنَّهُمَا وَجْهَان متغايران ثمَّ هَل كل وَاحِد من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ معجز بإنفراده أَو إِنَّمَا يكون معجزا بإجتماعهما هَذَا فِيهِ نظر ولعلمائنا فِيهِ قَولَانِ لَيْسَ هَذَا مَوضِع استيعابهما وَلَا حَاجَة بِنَا فِي هَذَا الْكتاب إِلَى بيانهما إِذْ قد عرف وَتحقّق أَنه بفصاحته ونظمه معجز وَمن تشكك فِي ذَلِك أَو أبدى فِيهِ أمرا بعد الْوُقُوف على الْقُرْآن فَهُوَ مُنكر لما هُوَ ضَرُورِيّ وَالَّذِي يبطل عناده وَيظْهر صميم جَهله أَن يُقَال لَهُ أئت بِسُورَة من مثله وَالله ولي التَّوْفِيق وَهُوَ بتنوير قُلُوب أوليائه حقيق

الوجه الثالث

الْوَجْه الثَّالِث من وُجُوه إعجاز الْقُرْآن مَا تضمنه من الْأَخْبَار بالمغيبات قبل أَن يُحِيط أحد من الْبشر بعلمها وبوقوع كائنات قبل وجودهَا وَذَلِكَ أَمر لَا يتَوَصَّل إِلَى الْعلم بِهِ إِلَّا من جِهَة الصَّادِقين الَّذِي يخبرون عَن الله تَعَالَى وَنحن نذْكر مِنْهَا مَوَاضِع على شَرط التَّقْرِيب والإختصار تغني عَن التَّطْوِيل والإكثار فَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام إِن شَاءَ الله آمِنين مُحَلِّقِينَ رؤوسكم وَمُقَصِّرِينَ لَا تخافون} فَهَذِهِ الْآيَة من أوضح معجزاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى وعده بِأَن يدْخلهُ الْمَسْجِد الْحَرَام هُوَ وَقَومه فِي حَالَة أَمن وَيفتح عَلَيْهِم مَكَّة على أحسن حَال فَمَا زَالُوا ينتظرون ذَلِك حى بلغ وقته وَصدق وعده فَدَخَلُوا كَمَا وعدهم وفتحوه على مَا أخْبرهُم وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {الم غلبت الرّوم فِي أدنى الأَرْض وهم من بعد غلبهم سيغلبون فِي بضع سِنِين لله الْأَمر من قبل وَمن بعد ويومئذ يفرح الْمُؤْمِنُونَ بنصر الله ينصر من يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيز الرَّحِيم وعد الله لَا يخلف الله وعده وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} وَهَذِه الْآيَة أَيْضا من أعظم معجزاته وَذَلِكَ أَن هَذِه الْآيَة لما نزلت كَانَت فَارس غالبي الرّوم وَكَانَ الْمُسلمُونَ يحبونَ ظُهُور الرّوم على فَارس لكَون الرّوم أهل كتاب وَكَانَت قُرَيْش يحبونَ ظُهُور فَارس على الرّوم لأَنهم وإياهم لَيْسُوا أهل كتاب وَلَا إِيمَان فَلَمَّا أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة خرج أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ يَصِيح فِي النَّاس وَفِي نواحي مَكَّة بِهَذِهِ الْآيَة ويقرأها على مُشْركي

قُرَيْش فَقَالَ نَاس من قُرَيْش زعم صَاحبكُم أَن الرّوم ستغلب فَارس فِي بضع سِنِين أَفلا نراهنك على ذَلِك فَقَالَ بلَى وَذَلِكَ قبل تَحْرِيم الرِّهَان فارتهن أَبُو بكر وَالْمُشْرِكُونَ وتواضعوا الرِّهَان وَقَالُوا لأبي بكر كم نجْعَل الْبضْع الْبضْع ثَلَاث سِنِين إِلَى تسع سِنِين فسم بَيْننَا وَبَيْنك وسطا ننتهي إِلَيْهِ قَالَ فسموا بَينهم سِتّ سِنِين فمضت السِّت سِنِين قبل أَن يظهروا فَأخذ الْمُشْركُونَ رهن أبي بكر فَلَمَّا دخلت السّنة السَّابِعَة ظَهرت الرّوم على فَارس فعاب الْمُسلمُونَ على أبي بكر تَسْمِيَة سِتّ سِنِين لِأَن الله تَعَالَى قَالَ {فِي بضع سِنِين} قَالَ وَأسلم عِنْد ذَلِك نَاس كثير وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليَستَخْلِفنهم فِي الأَرْض كَمَا اسْتخْلف الَّذين من قبلهم وليمكنن لَهُم دينهم الَّذِي ارتضى لَهُم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لَا يشركُونَ بِي شَيْئا} وَقد فعل الله ذَلِك بِمُحَمد وَأمته ملكهم الأَرْض واستخلفهم فِيهَا وأذل لَهُم ملوكا تَحت سيف الْقَهْر بعد أَن كَانُوا أهل عز وَكبر وأورثهم أَرضهم وديارهم وَأَمْوَالهمْ ومنحهم رقابهم {وعد الله إِن الله لَا يخلف الميعاد} وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {يُرِيدُونَ ليطفئوا نور الله بأفواههم وَالله متم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ} فَإِن قيل كَيفَ يَصح لكم قَوْله {لِيظْهرهُ على الدّين كُله} وَمَعْلُوم أَن ملك النَّصَارَى لم يَنْقَطِع فِي حَيَاته وَلَا بعد مَوته وَهَذَا ملكهم قَائِم فَلم يظْهر دينكُمْ على دينهم فَلَا معنى لقَوْله {لِيظْهرهُ على الدّين كُله}

الْجَواب أَن الله تَعَالَى بعث مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى النَّاس كَافَّة وَإِلَى جَمِيع أهل الْملَل عَامَّة نصرانيهم ويهوديهم وَغير ذَلِك فَبَلغهُمْ مَا أمره الله فَكَلَّمَهُمْ فناصبوه العداة وأبدوا لَهُ صفحة الْخلاف وهموا بِإِبْطَال دَعوته وإطفاء كَلمته وبذلوا فِي ذَلِك غَايَة جدهم واستفرغوا أقْصَى جهدهمْ فنصبوا لحربه وعزموا على قَتله ونهبه ومرسله يَقُول لَهُ {بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك وَإِن لم تفعل فَمَا بلغت رسَالَته وَالله يَعْصِمك من النَّاس} فَأول من حاربه كفار قُرَيْش فأظفره الله بهم وأظهره عَلَيْهِم ثمَّ حاربته يهود فأمكنه الله مِنْهُم وَملكه أَرضهم وديارهم فَقتل وسبأ وَأسر فعلا عَلَيْهِم وَظهر ثمَّ حاربته النَّصَارَى فغزاهم بتبوك وَدخل عَلَيْهِم بِلَادهمْ وافتتح فِي طَرِيقه حصونا لَهُم ولغيرهم وأظهره الله عَلَيْهِم وَضرب على كثير من مُلُوكهمْ الْجِزْيَة ثمَّ إِن أَصْحَابه بعده لم يزَالُوا على مثل حَاله يُقَاتلُون كل من كفر بِاللَّه وَلَا يخَافُونَ لومة لائم فِي الله فَلَقَد صيروا مُلُوك الرّوم وَغَيرهم أَذِلَّة أهل صغَار وجزية وذلة ثمَّ لم يزل دين الْإِسْلَام مَعَ مُرُور الْأَيَّام ينتشر بِكُل مَكَان وَيظْهر وَغَيره من الْأَدْيَان يقل ويصغر وحسبك شَاهدا على ذَلِك فتح هَذِه الجزيرة الأندلسية

على يَدي جمَاعَة من الْعَرَب قَلِيل عَددهمْ وعددهم كثير دينهم ومددهم على أعداد من النَّصَارَى لَا تحصى وجنود لَا تستقى وَلَكِن صدق الله عَبده وأنجز وعده وَهزمَ الْأَحْزَاب وَحده فأمكنهم الله مِنْكُم وأظهرهم عَلَيْكُم فأجدادكم عِنْدهم بَين أَسِير وقتيل وَتَحْت صغَار الْجِزْيَة ذليل وأصدق شَاهد على ظُهُور دين الْإِسْلَام على دينكُمْ وَجَمِيع الْأَدْيَان غلبتهم على بَيت حَجكُمْ وَمَوْضِع قرابينكم الْمُعظم وَالْمَسْجِد المكرم بَيت الْمُقَدّس حَيْثُ أَرَادَ الله أَن يطهره من رذائلكم وينزهه عَن جهالاتكم وخبائثكم فافتتحه الْمُسلمُونَ وَظهر دين الله على الدّين كُله وَلَو كره الْكَافِرُونَ وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {سنريهم آيَاتنَا فِي الْآفَاق وَفِي أنفسهم} وَقَوله {فِي الْآفَاق} يُرِيد بذلك فتح الْأَمْصَار وَقَوله {وَفِي أنفسهم} يَعْنِي بِهِ فتح مَكَّة وَقَوله {سنريهم} يرجع إِلَى كفار قُرَيْش وَلذَلِك قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله زوى

لي الأَرْض فَرَأَيْت مشارقها وَمَغَارِبهَا وَأَن ملك أمتِي سيبلغ مَا زوى مِنْهَا وَمعنى زوى جمع وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {سَيهْزمُ الْجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} يُرِيد بذلك وَالله أعلم جمع كفار قُرَيْش وَكَذَلِكَ فعل بهم وَذَلِكَ أَنهم خَرجُوا إِلَى حربه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غير موطن فَهَزَمَهُمْ الله وولوا الأدبار وَكَانَت عاقبتهم الخسار والبوار وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي آيَات أخر {قل للَّذين كفرُوا ستغلبون وتحشرون إِلَى جَهَنَّم وَبئسَ المهاد} وَفِي آيَة أُخْرَى {لن يضروكم إِلَّا أَذَى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يولوكم الأدبار ثمَّ لَا ينْصرُونَ} فَهَذِهِ الْآيَة اقْتَضَت بشارتين أحداهما أَنهم لن يصلوا إِلَى أَصْحَاب النَّبِي بضر أَكثر من السب وَالثَّانيَِة أَنهم يغلبُونَ وَيُوَلُّونَ الأدبار وَكَذَلِكَ كَانَ على نَحْو مَا أنزلهُ ذُو الْعِزَّة وَالسُّلْطَان والآيات فِي الْقُرْآن لهَذَا النَّوْع كَثِيرَة وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} يَعْنِي بِالذكر الْقُرْآن الْعَزِيز أخبرنَا الله تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة أَنه أنزلهُ وَأَنه تولى حفظه وَهَذَا كتاب الله مَحْفُوظ بحفظه لَا يقدر أحد على تَغْيِير كلمة وَاحِدَة من لَفظه على كَثْرَة من سعى فِي تَغْيِيره فأطفأ نوره لَا سِيمَا القرامطة فَإِنَّهُم كَانُوا قد أَجمعُوا كيدهم واستنفدوا فِي تَغْيِيره وتحريفه جهدهمْ وَلم يزل كَذَلِك دأبهم ودأب غَيرهم من أَعدَاء الدّين وعتاة الْمُلْحِدِينَ ويأبى الله إِلَّا أَن تعلى كَلمته وَتظهر شَرِيعَته وَقد قدمنَا أَسبَاب حفظ الْقُرْآن فَلَا معنى لاعادتها مَعَ الأحيان

وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {إِنَّا كَفَيْنَاك الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذين يجْعَلُونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر} وَكَانَ هَؤُلَاءِ المستهزئون نَفرا من الْكفَّار معروفون بأعيانهم وأسمائهم ينفرون النَّاس عَنهُ ويؤذونه ويهزأون بِهِ فَأنْزل الله على نبيه هَذِه الْآيَة يبشره بإهلاكهم وهم أَحيَاء فَكَانَ سَبَب أهلاكهم من أعجب آيَات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ أَنه كَانَ مِنْهُم الْأسود بن عبد المطلب رمى فِي وَجهه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِوَرَقَة خضراء فَعمى وَمِنْهُم الْأسود بن عبد يَغُوث أَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاسْتَسْقَى بَطْنه فَمَاتَ حبنا وَمِنْه الْوَلِيد بن الْمُغيرَة أَشَارَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أثر جرح كَانَ بِأَسْفَل كَعبه كَانَ أَصَابَهُ قبل ذَلِك بِسنتَيْنِ وَكَانَ قد برأَ فتجدد حَتَّى قَتله الله بِهِ وَمِنْه الْعَاصِ بن وَائِل أَشَارَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أَخْمص رجله فَخرج على حمَار لَهُ يُرِيد الطَّائِف فَرَمَاهُ حِمَاره على الأَرْض فَدخلت فِي أَخْمص رجله شَوْكَة فَقتلته وَمِنْه الْحَارِث بن الطلالة أَشَارَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى رَأسه فاستحال دَمه قَيْحا فَقتله فَانْظُر بعقلك هَذِه الْأُمُور العجيبة وَهَذِه الْأَحْوَال الغريبة الَّتِي لَا تلْحق بالأفكار ويحار فِيهَا أولى الْأَبْصَار بل تشهد عِنْدهَا الْعُقُول أَن الْمَقْصُود بهَا تَصْدِيق الرَّسُول فوَاللَّه لَو لم يكن لَهُ من المعجزات إِلَّا هَذِه الْآيَة لَكَانَ فِيهَا أعظم كِفَايَة ولحصل من تَصْدِيقه على أبعد غَايَة وَفِي كتاب الله تَعَالَى من هَذَا الْقَبِيل مَا يحْتَاج اسْتِقْصَائِهِ إِلَى تَكْثِير وَتَطْوِيل وحسبك مَا تضمنه من كشف أسرار الْمُنَافِقين وفضيحة الْيَهُود الضَّالّين فَلَقَد يقْضِي النَّاظر فِيهَا من ذَلِك الْعجب العجاب ويتحقق انه من عِنْد الله من غير شكّ وَلَا ارتياب

الوجه الرابع

الْوَجْه الرَّابِع فِي وُجُوه إعجاز الْقُرْآن مَا تضمنه من الْأَخْبَار عَن الْأُمَم السالفة والقرون السالفة والشرائع الداثرة والقصص الغابرة الَّتِي لَا يعلم مِنْهَا بَعْضهَا إِلَّا الْآحَاد من عُلَمَاء ذَلِك الشَّأْن الَّذين قد انقضبت لَهُم فِي تعلم تِلْكَ الْعُلُوم أزمان فيورده النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْقُرْآن على وَجهه وَيَأْتِي بِهِ على نَصه فيعترف الْعَالم بِصِحَّتِهِ وتصديق قصَّته مَعَ الْعلم بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم ينل ذَلِك بتعليم وَلَا اكْتسب ذَلِك بِوَاسِطَة معلم وَلَا حَكِيم بل حصل لَهُ ذَلِك بإعلام الْعَزِيز الْعَلِيم وَإِلَّا فَهُوَ أُمِّي لَا يقْرَأ وَلَا يكْتب وَلَا يتفقه وَلَا يحْسب وَمَعَ ذَلِك فقد حصلت لَهُ عُلُوم الْأَوَّلين والآخرين وَصَارَ كِتَابه وَكَلَامه منبع عُلُوم الْعَالمين فَلَقَد كَانَ أهل الْكتاب يَجْتَمعُونَ إِلَيْهِ ويلحون بالأسئلة عَلَيْهِ فَينزل عَلَيْهِ بأجوبتهم الْقُرْآن فَمَا يُنكر شَيْئا من ذَلِك مِنْهُم إِنْسَان بل يعْتَرف بذلك وَلَا يُنكر شَيْئا مِمَّا يسمع هُنَالك هَذَا مَعَ شدَّة عداوتهم لَهُ وحرصهم على تَكْذِيبه وَهُوَ مَعَ ذَلِك يحْتَج عَلَيْهِم بِمَا فِي كتبهمْ ويقرعهم بِمَا انطوت عَلَيْهِ مصاحفهم وَيبين لَهُم كثيرا مِمَّا كَانُوا يخفون من شرائع كتبهمْ ووصايا رسلهم وهم مَعَ ذَلِك يرومون تعنيته ويقصدون بأسئلتهم تبكيته مثل سُؤَالهمْ عَن الرّوح وَعَن ذِي القرنين وَعَن أَصْحَاب الْكَهْف وَعَن عِيسَى ابْن مَرْيَم وَعَن حكم الرَّجْم وَعَن مَا حرم إِسْرَائِيل على نَفسه وَعَما حرم علهيم من الْأَنْعَام وَمن طَيّبَات أحلّت لَهُم فَحرمت عَلَيْهِم ببغيهم وَغير ذَلِك من أُمُورهم الَّتِي نزل الْقُرْآن جَوَابا عَنْهَا فَلم ينكروا شَيْئا مِنْهَا حِين ذكرهَا لَهُم على وَجههَا

وَنحن نذْكر بعض ذَلِك على مَا يَقْتَضِيهِ الإقتصار ونقتصر على مَا صَحَّ من الْآثَار وتناقله الْجمع الْكثير من رُوَاة الْأَخْبَار فَمن ذَلِك مَا استفاض ذكره واشتهر نَقله أَن قُريْشًا لما أَهَمَّهُمْ شَأْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأكربهم أمره بعثوا النَّضر بن الْحَارِث وَكَانَ من شياطين قُرَيْش وَعقبَة بن أبي معيط إِلَى أَحْبَار يهود بِالْمَدِينَةِ يسألاهم عَن أمره فجاءا الْمَدِينَة من مَكَّة وقالالأحبار الْيَهُود إِنَّا جئناكم نسألكم عَن شَأْن هَذَا الرجل فَإِنَّكُم أهل الْكتاب وعندكم من الْعلم مَا لَيْسَ عندنَا ووصفا لَهُم أمره وَأخْبرهمْ بِبَعْض قَوْله فَقَالَت لَهما أَحْبَار يهود سلوه عَن ثَلَاثَة نأمركم بِهن فَإِن أخبر بِهن فَهُوَ نَبِي مُرْسل وَإِن لم يفعل فالرجل متقول فروا فِيهِ رَأْيكُمْ سلوه عَن فتية ذَهَبُوا فِي الدَّهْر الأول مَا كَانَ أَمرهم فَإِنَّهُ قد كَانَ لَهُم حَدِيث عَجِيب وَسَلُوهُ عَن رجل طواف فِي الأَرْض قد بلغ مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا وَمَا كَانَ نبؤه وَسَلُوهُ عَن الرّوح مَا هُوَ فَإِن أخْبركُم بذلك فَاتَّبعُوهُ فَإِنَّهُ نَبِي وَإِن لم يفعل فَهُوَ متقول فَأقبل النَّضر وَعقبَة حَتَّى قدما مَكَّة على قُرَيْش فأعلماهم بِمَا قَالَت لَهُم أَحْبَار يهود فَجَاءُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلُوهُ عَمَّا أخْبرت أَحْبَار يهود فَأنْزل الله تَعَالَى على نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُورَة أَصْحَاب الْكَهْف وَأخْبرهُ فِيهَا بقصتهم وَاخْتِلَاف النَّاس فِي عَددهمْ وَمُدَّة لبثهم فِي كهفهم حَتَّى أَتَى على آخر قصتهم وَأخْبرهمْ أَيْضا عَن قصَّة ذِي القرنين إِلَى آخرهَا وَعَن قصَّة الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَكَيف سَأَلَ مُوسَى السَّبِيل إِلَى لِقَائِه وَذكر فِيهَا جوابهم عَن الرّوح وَذَلِكَ كُله مَعَ اللَّفْظ الْوَجِيز الفصيح وَالْكَلَام الجزل الصَّحِيح الَّذِي لَا يمله سامع وَلَا يطْمع فِي معارضته طامع وَمن ذَلِك قصَّة أهل نَجْرَان وَكَانُوا نَصَارَى سَأَلُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَأنْزل الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن {ذَلِك نتلوه عَلَيْك من الْآيَات وَالذكر الْحَكِيم إِن مثل عِيسَى عِنْد الله كَمثل آدم خلقه من تُرَاب ثمَّ قَالَ لَهُ كن فَيكون}

وَمن ذَلِك أَن نَفرا من أَحْبَار يهود جَاءُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا يَا مُحَمَّد أخبرنَا عَن أَربع نَسْأَلك عَنْهُن فَإِن فعلت اتَّبَعْنَاك وَصَدَّقنَاك وآمنا بك فَقَالَ لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْكُم بذلك عهد الله وميثاقه لَئِن أَخْبَرتكُم لتصدقنني قَالُوا نعم قَالَ فاسألوا عَمَّا بدا لكم قَالُوا أخبرنَا كَيفَ يشبه الْوَلَد أمه وَإِنَّمَا النُّطْفَة من الرجل فَقَالَ لَهُم أنْشدكُمْ الله وبأيامه عِنْد بني إِسْرَائِيل هَل تعلمُونَ نُطْفَة الرجل بَيْضَاء غَلِيظَة ونطفة الْمَرْأَة صفراء رقيقَة فأيتهما غلبت كَانَ لَهَا الشّبَه قَالُوا اللَّهُمَّ نعم قَالُوا فَأخْبرنَا عَن نومك كَيفَ هُوَ قَالَ أنْشدكُمْ بِاللَّه وبأيامه هَل تعلمُونَ أَن نوم الَّذِي تَزْعُمُونَ أَنِّي لست بِهِ تنام عينه وَقَلبه يقظان قَالُوا اللَّهُمَّ نعم قَالَ وَكَذَلِكَ نومي تنام عَيْني وقلبي يقظان قَالُوا فَأخْبرنَا عَمَّا حرم إِسْرَائِيل على نَفسه قَالَ أنْشدكُمْ بِاللَّه وبأيامه عِنْد بني إِسْرَائِيل هَل تعلمُونَ أَنه كَانَ أحب الطَّعَام وَالشرَاب إِلَيْهِ ألبان الْإِبِل وَأَنه اشْتَكَى شكوى فعافاه الله مِنْهَا فَحرم على نَفسه أحب الطَّعَام وَالشرَاب إِلَيْهِ شكرا لله فَحرم على نَفسه لُحُوم الْإِبِل وَأَلْبَانهَا قَالُوا اللَّهُمَّ نعم قَالُوا أخبرنَا عَن الرّوح قَالَ أنْشدكُمْ بِاللَّه وبأيامه عِنْد بني إِسْرَائِيل هَل تعلمونه جِبْرِيل وَهُوَ الَّذِي يأتيني قَالُوا اللَّهُمَّ نعم وَلكنه يَا مُحَمَّد لنا عَدو هُوَ ملك إِنَّمَا يَأْتِي بالشدة وَسَفك الدِّمَاء وَلَوْلَا ذَلِك لاتبعناك فَأنْزل الله تَعَالَى على نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {قل من كَانَ عدوا لجبريل فَإِنَّهُ نزله على قَلْبك بِإِذن الله مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ وَهدى وبشرى للْمُؤْمِنين}

وَمن ذَلِك أَن يهوديين بِالْمَدِينَةِ زَنَيَا فَأمرت أَحْبَار يهود بهما فحمما فَمروا بهما على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهما مَا هَذَا أهكذا تَجِدُونَ فِي كتابكُمْ قَالُوا نعم فكذبهم وَقَالَ {فَأتوا بِالتَّوْرَاةِ فاتلوها إِن كُنْتُم صَادِقين} فَجَاءُوا بِالتَّوْرَاةِ فتلوها فَإِذا فِيهَا آيَة الرَّجْم فَوضع الَّذِي كَانَ يقْرؤهَا يَده علها وَقَرَأَ مَا بعْدهَا وَمَا قبلهَا فَقَالَ لَهُ عبد الله بن سَلام ارْفَعْ يدك فَرَفعهَا فَإِذا بِآيَة الرَّجْم فَاعْتَرفُوا بذلك فَأمر بهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرُجِمَا ثمَّ قَالَ للْيَهُود مَا حملكم على هَذَا فَقَالُوا كُنَّا إِذا زنى الشريف منا عندنَا لم نقم عَلَيْهِ الْحَد وَإِذا زنى الضَّعِيف أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَد فَعظم علينا هَذَا فَرَأَيْنَا أَن نَجْتَمِع على حد يَشْمَل الضَّعِيف والشريف فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَمد لله الَّذِي جعلني أول من أَحْيَا أَمر الله نقلته بِالْمَعْنَى فَأنْزل الله تَعَالَى {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} و {الظَّالِمُونَ} و {الْفَاسِقُونَ} الْآيَات وَفِي هَذَا الْمَعْنى وَمَا قاربه نزل قَوْله تَعَالَى {يَا أهل الْكتاب قد جَاءَكُم رَسُولنَا يبين لكم كثيرا مِمَّا كُنْتُم تخفون من الْكتاب} وَالْأَخْبَار فِي هَذَا كَثِيرَة لَيْسَ هَذَا مَوضِع استيفائها وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ كِفَايَة لمن كَانَ ذَلِك عقل ودراية وَهَذَانِ وَجْهَان لَا يتَصَوَّر أَن يُنكر عَاقل أَنَّهَا غير داخلين تَحت مَقْدُور الْبشر بل هما خارقان للْعَادَة اقترنا بتحدي مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعجز الْخَلَائق عَن معارضتهما فَهُوَ نَبِي صَادِق فِيمَا أخبر بِهِ عَن الله مُصدق من جِهَة الله وَمِمَّا أخبر بِهِ عَن الله أَن الله تَعَالَى بَعثه إِلَى النَّاس كَافَّة يهوديهم ونصرانيهم ومجوسيهم فَهُوَ رَسُول إِلَيْهِم وَإِلَى كَافَّة وَعَامة وَمن كذبه فقد اسْتحق الْعَذَاب الأبدي وَالْعِقَاب السرمدي {أَفَمَن حق عَلَيْهِ كلمة الْعَذَاب أفأنت تنقذ من فِي النَّار}

وَلَا يظنّ ظان أَن إعجاز الْقُرْآن إِنَّمَا هُوَ من هَذِه الْوُجُوه الْأَرْبَعَة فَقَط بل وُجُوه إعجازه أَكثر من أَن يحصيها عدد أَو يُحِيط بهَا أحد وَلَو شِئْنَا لذكرنا مِنْهَا وُجُوهًا كَثِيرَة لَكِن شَرط الإختصار منع من الْإِكْثَار وَمن لم يَنْفَعهُ الْكَلَام الْمُفِيد الْقَلِيل فَهُوَ معرض كسل عَن الْكثير وعَلى الْجُمْلَة فَأَنا نقُول لمن كذب مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو شكّ فِي رسَالَته مَا قَالَ الله تَعَالَى فِي كِتَابه محتجا على من أصر على تَكْذِيبه {وَإِن كُنْتُم فِي ريب مِمَّا نزلنَا على عَبدنَا فَأتوا بِسُورَة من مثله وَادعوا شهداءكم من دون الله إِن كُنْتُم صَادِقين فَإِن لم تَفعلُوا وَلنْ تَفعلُوا فَاتَّقُوا النَّار الَّتِي وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة أعدت للْكَافِرِينَ}

النوع الرابع

النَّوْع الرَّابِع فِي الإستدلال على نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بجملة من الْآيَات الخارقة للعادات نذْكر فِي هَذَا النَّوْع إِن شَاءَ الله جملَة كَثِيرَة من آيَاته الْوَاضِحَة وبراهينه المصدقة الراجحة فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِن نَبينَا مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُوتى من المعجزات وَجمع لَهُ من الْآيَات مَا لم يجمع لأحد من الْأَنْبِيَاء قبله وَلم يُعْط أحد مثله فَكَانَ لذَلِك أوضحهم دلَالَة وأعمهم رِسَالَة وَلذَلِك لم يُعْط الله نَبيا من الْأَنْبِيَاء معْجزَة إِلَّا أعْطى نَبينَا مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثلهَا أَو أوضح مِنْهَا أَو مَا يقاربها وسترى ذَلِك عيَانًا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَلَكنَّا إِن ذَهَبْنَا نذْكر مَا نقل إِلَيْنَا من آيَاته وأوضح معجزاته طَال الْكتاب وَفِي الْقَلِيل الْوَاضِح كِفَايَة لذوى الْأَلْبَاب فلنقتصر من ذَلِك على مَا تناقله عُلَمَاء الْأَمْصَار والعدول من نقلة الْأَخْبَار مِمَّا صَحَّ نَقله وأشتهر ذكره وجمله وَنحن نذْكر ذَلِك فِي فُصُول الْفَصْل الأول فِي إنشقاق الْقَمَر آيَة لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنَقُول نقل خلفنا عَن سلفنا النَّقْل الَّذِي لَا يشك فِيهِ أَن كفار قُرَيْش سَأَلُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَة وَهُوَ بمنى فَأَرَاهُم إنشقاق الْقَمَر فَصَارَ فرْقَتَيْن حَتَّى رَأَوْا حُبْلَى حراء بَينهمَا وَقَالَ ابْن مَسْعُود صَار فرْقَتَيْن فرقة فَوق الْجَبَل وَفرْقَة تَحْتَهُ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشْهَدُوا فَآمن وَصدق من أَرَادَ الله نجاته وَقَالَ كفار قُرَيْش هَذَا سحر مُسْتَمر فَقَالَ أَبُو جهل هَذَا سحر فَابْعَثُوا إِلَى أهل الْآفَاق حَتَّى نَنْظُر أرأوا ذَلِك أم لَا فَأخْبر أهل مَكَّة أَنهم رَأَوْهُ منشقا

فَأنْزل الله تَعَالَى على نبيه مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {اقْتَرَبت السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر وَإِن يرَوا آيَة يعرضُوا ويقولوا سحر مُسْتَمر وكذبوا وَاتبعُوا أهواءهم وكل أَمر مُسْتَقر} وَهَذَا الحَدِيث قد نَقله الجم الْغَفِير وَالْعدَد الْكثير مِنْهُم من الصَّحَابَة عبد الله بن مَسْعُود وَأنس وَابْن عَبَّاس وأبن عمر وَحُذَيْفَة وعَلى وَجبير بن مطعم وَغَيرهم رَضِي الله عَنْهُم وَقد نقل إِلَيْنَا فِي الْقُرْآن نقلا متواترا محصلا للْعلم يخبر عَن ذَلِك الْمَعْنى من الإنشقاق كَمَا تلوناه آنِفا فَصحت الْآيَة وَعلمت المعجزة والحمدلله فَإِن قَالَ غبي جَاهِل أَو معاند مجادل كَيفَ يَصح هَذَا وَلَو كَانَ هَذَا لم يخف على أهل الأَرْض إذه هُوَ شَيْء ظَاهر لجميعه وَلَو ظهر إِلَيْهِم انْتقل عَنْهُم ولكان مَشْهُورا مَنْقُولًا على التَّوَاتُر فَالْجَوَاب أَن نقُول هَذَا الإستبعاد الوهمي ينْدَفع بأيسر أَمر وَذَلِكَ أَن هَذِه الْآيَة كَانَت آيَة ليلية وَالنَّاس على عَادَتهم المستمرة الْغَالِب عَلَيْهِم النّوم وَمن كَانَ مِنْهُم منتبها كَانَ مِنْهُم من قد انْصَرف عَن ذَلِك بِبَعْض أشغالهم وَكَانَ مِنْهُم أَيْضا من رَآهُ على مَا حكيناه عَن أهل آفَاق مَكَّة وَأَيْضًا فَلَعَلَّهُ إِنَّمَا كَانَ ذَلِك فِي أول طُلُوع الْقَمَر وَلَا شكّ أَن النَّاس تخْتَلف رُؤْيَتهمْ للقمر وَغَيره من الْكَوَاكِب بِحَسب اخْتِلَاف ارْتِفَاع الْبِلَاد والأقاليم وإنخفاضها فَلَيْسَ كل من فِي معمور الأَرْض يرَاهُ فِي وَقت وَاحِد بل يخْتَلف ذَلِك فِي حَقهم فقد يطلع على قوم قبل أَن يطلع على آخَرين وَقد يطلع على قوم لَا يُشَاهِدهُ الْآخرُونَ وَقد يحول بَين قوم وَبَينه سَحَاب أَو جبال وَلِهَذَا تَجِد الكسوفات فِي بعض الْبِلَاد دون بعض وَيكون فِي بَعْضهَا جزئية وَفِي بَعْضهَا كُلية وَفِي بَعْضهَا لَا يعرفهَا إِلَّا المشتغلون بِعلم ذَلِك وَلَا يحس بهَا غَيرهم لَا سِيمَا وَهَذِه آيَة كَانَت بِاللَّيْلِ وَالْعَادَة من النَّاس مَا تقدم من الهدوء والسكون وإيجاق الْأَبْوَاب وَقطع التَّصَرُّف وَلَا يكَاد يعرف شَيْئا من آيَات السَّمَاء إِلَّا من رصد وأهتبل

الفصل الثاني في حبس الشمس آية له صلى الله عليه وسلم

وَكَثِيرًا مَا يحدث الثِّقَات بعجائب يشاهدونها من أنوار وشهب ونجوم طوالع عِظَام تظهر فِي أحيان من السَّمَاء وَلَا علم عِنْد أحد غَيرهم مِنْهَا وإنشقاق الْقَمَر من هَذَا الْقَبِيل إِذْ لم يكن دَائِما وَإِنَّمَا كَانَ يَسِيرا فِي زمن قريب ثمَّ لَا يبعد أَن يكون الله تَعَالَى صرف النَّاس فِي تِلْكَ السَّاعَة عَن النّظر إِلَيْهِ لتختص هَذِه الْآيَة بمشاهدة أهل مَكَّة وَمن جاورها من أهل آفاقها فَيكون صرف النَّاس عَن ذَلِك من قبيل خوارق الْعَادَات وَذَلِكَ أوضح فِي المعجزات فقد صَحَّ مَا رمناه وانفصلنا عَمَّا ألزمناه والحمدلله وَعند الْوُقُوف على هَذِه المعجزة الطاهرة وَالْآيَة الباهرة تعلم أَنَّهَا أعظم من إنشقاق الْبَحْر الَّذِي خص الله تَعَالَى بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وان كَانَ عَظِيما اذ انْشِقَاق الْبَحْر لم يكن قطعا فِي مُعظم الْبَحْر من احدى ضفتيه إِلَى الْأُخْرَى وَإِنَّمَا كَانَ قطع طَرِيق من بَحر القلزم إِلَى مفارشود وَالْقَمَر انقسم فرْقَتَيْن وَصَارَ شطرين الْفَصْل الثَّانِي فِي حبس الشَّمْس آيَة لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم روى أَئِمَّتنَا وَأهل الْعَدَالَة منا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يوحي إِلَيْهِ وَرَأسه فِي حجر على فَلم يصل الْعَصْر حَتَّى غربت الشَّمْس فَلَمَّا ارْتَفع الْوَحْي عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ يَا عَليّ أصليت الْعَصْر قَالَ لَا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّهُمَّ أَنه كَانَ فِي طَاعَتك وَطَاعَة رَسُولك فاردد قَالَ الرَّاوِي فرأيتها غربت ووقفت على الْجبَال وَالْأَرْض وَذَلِكَ بالصهباء فِي خَيْبَر ذكر هَذَا الحَدِيث الطَّحَاوِيّ من طَرِيقين قَالَ عِيَاض وَهَذَانِ الطريقان ثابتان رواتهما ثقاة حَكَاهُ الْبكْرِيّ وَمن هَذَا الْقَبِيل مَا ذكره يُونُس بن بكير فِي زِيَادَة الْمَغَازِي رِوَايَته عَن ابْن اسحق لما أسرى برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأخْبر قومه بالرفقة والعلامة الَّتِي فِي العير الَّتِي رأى فِي سراه قَالُوا لَهُ مَتى تَجِيء فَقَالَ لَهُم يَوْم الْأَرْبَعَاء فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْأَرْبَعَاء الْمَوْعُود بِهِ أشرفت قُرَيْش ينظرُونَ وَقد ولى النَّهَار وَلم

الفصل الثالث نبع الماء وتكثيره معجزة له صلى الله عليه وسلم

تَجِيء فَدَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ربه فزيد لَهُ فِي النَّهَار سَاعَة وحبست عَلَيْهِ الشَّمْس وَهَذِه الْآيَة أعظم من آيَة يشوع بن نون فَإِنَّكُم تَقولُونَ إِن يشوع استوقف الشَّمْس فوقفت وَفِي بعض كتبكم إِنَّمَا استوقف ضياها وَنَبِينَا عَلَيْهِ السَّلَام استرجعها فَرَجَعت واستزاد سَاعَة فِي النَّهَار فزيدت {ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم} فَإِن اعْترض معترض على معْجزَة نَبينَا بِشَيْء فَإِن كَانَ كتابيا عارضناه بمعجزة يشوع فبالذي ينْفَصل عَن معْجزَة يشوع بِمثلِهِ ننفصل عَمَّا اعْترض بِهِ وَإِن كَانَ طبيعيا غير متشرع انْتقل الْكَلَام مَعَه إِلَى مَوَاضِع أخر لَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكرهَا الْفَصْل الثَّالِث نبع المَاء وتكثيره معْجزَة لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا الْفَصْل نَوْعَانِ نوع نبع لَهُ المَاء من بَين أَصَابِعه وَنَوع آخر نبع لَهُ المَاء من غير أَصَابِعه فلنبدأ بِالْأولِ فَنَقُول روى الجم الْغَفِير وَالْعدَد الْكثير أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج فِي بعض أَسْفَاره وحانت صَلَاة الْعَصْر فالتمس النَّاس الْوضُوء فَلم يجدوه فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل من أحد مِنْكُم مَاء فَأتى بِمَاء فِي إِنَاء فَوضع يَده فِي ذَلِك الْإِنَاء وسمى الله قَالَت الصَّحَابَة فَرَأَيْنَا المَاء يخرج من بَين أَصَابِعه فَتَوَضَّأ النَّاس حَتَّى توضأوا كلهم قيل لأنس كم تراهم قَالَ نَحوا من سبعين وَقد اتّفق لَهُ مثل هَذَا مرّة أُخْرَى وَكَانُوا نَحوا من ثَلَاثَة مائَة وَكَذَلِكَ عَطش النَّاس يَوْم الْحُدَيْبِيَة وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين يَدَيْهِ ركوة فَتَوَضَّأ مِنْهَا وَأَقْبل النَّاس نَحوه وَقَالُوا لَيْسَ عندنَا مَاء إِلَّا مَا فِي ركوتك فَوضع النَّبِي صلى الله

عَلَيْهِ وَسلم يَده فِي الركوة فَجعل المَاء يفور من بَين أَصَابِعه كأمثال الْعُيُون وَكَانُوا خمس عشرَة مائَة قَالُوا وَلَو كُنَّا مائَة ألف لَكَفَانَا فَهَذِهِ ثَلَاثَة مَوَاطِن وَقد روى عَنهُ نَحْو هَذَا من طرق كَثِيرَة لَا يتَطَرَّق لَهَا الْكَذِب وَلم يردهَا أحد من أهل الْعقل وَالْأَدب لكَونهَا وَقعت فِي جموع كَثِيرَة وتناقلها جماعات عديدة يدينون تَحْرِيم الْكَذِب ويرونه أقبح شُبْهَة وأشنع سَبَب بل يبادرون إِلَى ذمّ الْكَاذِب وَإِظْهَار فضيحته وَلَا يقرونَ شَيْئا من الْكَذِب بِحَال عِنْد مَعْرفَته فَهَذَا هُوَ النَّوْع الأول وَأما النَّوْع الثَّانِي فَهُوَ مَا تواردت بِهِ الرِّوَايَات عَن الْأَئِمَّة الْأَثْبَات من ذَلِك مَا اتّفق لَهُ فِي غَزْوَة تَبُوك وَذَلِكَ أَنهم وردوا عينا بتبوك وَهِي تبض بِشَيْء من مَاء مثل الشرَاك فغرفوا من الْعين بِأَيْدِيهِم حَتَّى اجْتمع مِنْهُ شَيْء قَلِيل ثمَّ غسل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ وَجهه وَيَديه وَأَعَادَهُ فِيهَا فجرت بِمَاء كثير فاستقى النَّاس هَذَا حَدِيث معَاذ وَقَالَ ابْن إِسْحَاق فانخرق من المَاء مَاله حس كحس الصَّوَاعِق ثمَّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوشك يَا معَاذ إِن طَالَتْ بك حَيَاة أَن ترى مَا هَا هُنَا قد ملئ جنَانًا وَكَذَلِكَ صنع ذَلِك الْموضع جنَانًا بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا من بَاب الْأَخْبَار عَن الْغَيْب وَمن ذَلِك مَا اتّفق لَهُ بِالْحُدَيْبِية أَيْضا وَذَلِكَ أَنهم أَتَوا الْحُدَيْبِيَة وهم أَربع عشرَة مائَة وبئرها لَا تروي خمسين شَاة قَالَ الْبَراء وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع فنزحناها فَلم نَتْرُك فِيهَا شَيْئا فَقعدَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على بِئْرهَا فبصق ودعا وَأخرج سَهْما من كِنَانَته فَوَضعه فِي الْبِئْر فَجَاشَتْ الْعين بِمَاء كثير فأرووا أنفسهم وركابهم وهم ألف وَأَرْبع مائَة وَمن ذَلِك مَا روى قَتَادَة صَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن النَّاس شكوا إِلَيْهِ الْعَطش فِي بعض أَسْفَاره فَدَعَا بالمبيضأة فَجَعلهَا فِي ضبنه ثمَّ الْتَقم فمها فَالله أعلم نفث فِيهَا أم لَا فَشرب النَّاس حَتَّى رووا وملأوا كل إِنَاء مَعَهم وَكَانُوا إثنين وَسبعين رجلا

وَمن ذَلِك الحَدِيث الْمَشْهُور عَن عمرَان بن حُصَيْن وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض أَسْفَاره فَأَصَابَهُمْ عَطش شَدِيد فَوجه رجلَيْنِ من أَصْحَابه وأعلمهم أَنهم يَجدونَ امْرَأَة بمَكَان كَذَا لمَكَان معِين عنيه لَهُم مَعهَا بعير عَلَيْهِ مزادتا مَاء فوجداها بالموضع الَّذِي عين لَهُم على الصّفة الَّتِى ذكر لَهُم فجاءا بهَا الى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخذ من مَاء المزادتين وَقَالَ فِيهِ ماشاء الله أَن يَقُول ثمَّ أعَاد المَاء فِي المزادتين ثمَّ فتحهما وَأمر النَّاس فملأوا أسقيتهم حَتَّى لم يدعوا شَيْئا إِلَّا ملأوه قَالَ عمرَان ونحيل لي أَنَّهُمَا لم يزدادا إِلَّا إمتلاء ثمَّ أَمر فَجمع للْمَرْأَة من الأزواد حَتَّى مَلأ ثوبها ثمَّ قَالَ لَهَا اذهبي فانا مَا نقصناك من مائك شَيْئا وَلَكِن الله سقانا وَمن ذَلِك حَدِيث عمر فِي حيش الْعسرَة وَذكر مَا أَصَابَهُم من الْعَطش حَتَّى أَن الرجل لينحر بعيره فيعصبر فرثه فيشربه فَرغب أَبُو بكر للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الدُّعَاء فَرفع يَدَيْهِ فَلم يرجعهما حَتَّى قَالَت السَّمَاء فانسكبت فملأوا مَا مَعَهم من آنِية وَلم يُجَاوز ذَلِك الْمَطَر الْعَسْكَر وَمن ذَلِك حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب أَن أَبَا طَالب قَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ردفه بِذِي الْمجَاز عطشت وَلَيْسَ عِنْدِي مَاء فَنزل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَضرب بقدمه الأَرْض فَخرج المَاء فَقَالَ لَهُ اشرب والْحَدِيث فِي هَذَا النَّوْع كثير وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ كِفَايَة وَإِذا تَأمل الْعَاقِل الْمنصف هَذَا الْبَاب علم أَن نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُوتى مثل معْجزَة مُوسَى الَّتِي هِيَ نبع المَاء من الْحجر كَمَا ذكرنَا فِي هَذَا النَّوْع الثَّانِي وَزَاد عَلَيْهِ نبع المَاء من بَين أَصَابِعه كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي النَّوْع الأول كَانَ إنفجار المَاء من اللَّحْم أعجب من إنفجاره من الْحِجَارَة فَإِن رام الْيَهُودِيّ أَو النَّصْرَانِي تشكيكا فِي شَيْء من معجزات نَبينَا مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام أَو إلحادا أَو ادّعى أَن هَذَا من قبيل السحر عارضناه بِمثل مقَالَته فِي معْجزَة مُوسَى فبالذي ينْفَصل بِهِ بِعَيْنِه ننفصل

الفصل الرابع تكثير الطعام معجزة له صلى الله عليه وسلم

بل نقُول إِن طرق المطرق الْجَاهِل شَيْئا من هَذِه الأوهام والتهم إِلَى هَذِه المعجزات لمعجزة مُوسَى فِي إنشقاق الْحجر أقبل للتهم فِي حق الْجَاهِل على مَا رَوَت الْيَهُود وَذَلِكَ أَنهم رووا أَن الْحجر الَّذِي كَانَ تنفجر مِنْهُ الْأَنْهَار إِنَّمَا كَانَ حجرا وَاحِدًا عمله مُوسَى حَيْثُ صَار وَهَذَا مَحل تُهْمَة للجاهل وَأما الْعَالم فَلَا يُبَالِي بِهَذِهِ الأوهام وَلَا يطْرق إِلَى الْعلم التهم ومعجزات نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا كَانَ يَقُول إئتوني بِإِنَاء أَي إِنَاء وبماء أَي مَاء كَانَ كَمَا قدمنَا ولسنا ننكر إعجاز مَا أَتَى بِهِ مُوسَى بل نَحن أولى وأحق بمُوسَى مِنْكُم وَأعرف بِقَدرِهِ وبمحله عِنْد ربه وَإِنَّمَا هَذَا لَهُم على جِهَة الْإِلْزَام حَتَّى يزعنوا بِصِحَّة معجزات نَبينَا مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام الْفَصْل الرَّابِع تَكْثِير الطَّعَام معْجزَة لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذَلِك مَا تضافرت بِهِ الرِّوَايَات واشتهر عِنْد أهل الديانَات وَنَقله الْعُدُول الثِّقَات من حَدِيث أبي طَلْحَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَطَم ثَمَانِينَ أَو سبعين من أَقْرَاص شعير جَاءَ بهَا أنس تَحت ابطه وَذَلِكَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بهَا ففتت وَقَالَ فِيهَا مَا شَاءَ الله أَن يَقُول وَكَذَلِكَ أطْعم يَوْم الخَنْدَق ألف رجل من صَاع من شعير وعناق قَالَ جَابر بن عبد الله فأقسم بِاللَّه لأكلوا حَتَّى تَرَكُوهُ وانحرفوا وَإِن برمتنا لتغط كَمَا هِيَ وَإِن عجيننا ليخبز وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَصق فِي الْعَجِين والبرمة ودعا بِالْبركَةِ وَكَذَلِكَ صنع أَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلأبي بكر من الطَّعَام زهاء مَا يكفيهما فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ادْع ثَلَاثِينَ من أَشْرَاف الْأَنْصَار فَدَعَاهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ ثمَّ قَالَ ادْع سِتِّينَ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثمَّ قَالَ ادْع سبعين فَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَمَا خرج مِنْهُم أحد حَتَّى أسلم قَالَ أَبُو أَيُّوب فَأكل من طَعَامي مائَة وَثَمَانُونَ رجلا

وَكَذَلِكَ حَدِيث سَمُرَة بن جُنْدُب أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى بقصعة فِيهَا لحم فتعاقبوها من غدْوَة حَتَّى اللَّيْل يقوم قوم وَيقْعد آخَرُونَ وَمن ذَلِك حَدِيث عبد الرحمن بن أبي بكر قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثِينَ وَمِائَة وَذكر فِي الحَدِيث أَنه عجن صَاع من طَعَام وصنعت شَاة فشوى سَواد بَطنهَا قَالَ وَايْم الله مَا من الثَّلَاثِينَ وَالْمِائَة إِلَّا وَقد حز لَهُ حزة من سَواد بَطنهَا ثمَّ جعل مِنْهَا قصعتين فأكلنا أَجْمَعِينَ وَفضل فِي القصعتين وَحَمَلته على الْبَعِير وَمن ذَلِك الْخَبَر الْمَشْهُور فِي غزَاة تَبُوك وَذَلِكَ أَنهم أَصَابَتْهُم مجاعَة شَدِيدَة حَتَّى هموا بنحر حمائلهم فَجمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا بقى من أزواد الْقَوْم فَكَانَ الرجل يَجِيء بكف ذرة وبكف تمر وَبسط نطعا حَتَّى أجتمع على النطع من ذَلِك شَيْء يسير فدعى عَلَيْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْبركَةِ قَالَ خُذُوا فِي أوعيتكم فَأخذُوا حَتَّى مَا تركُوا فِي الْعَسْكَر وعَاء إِلَّا ملأوه فَقَالَ عِنْد ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله لَا يلقى الله بهما عبد غير شَاك فيهمَا فيحجب عَن الْجنَّة وَمن ذَلِك خَبره فِي تَزْوِيج زَيْنَب وَذَلِكَ أَنه أَمر خادمه أنسا أَن يَدْعُو لَهُ النَّاس فَدَعَاهُمْ فَاجْتمعُوا حَتَّى امْتَلَأَ الْبَيْت والحجرة وَقدم إِلَيْهِم تورا من حِجَارَة فِيهِ حيس أهدته لَهُ أم سليم فَقَالَ لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليتحلق عشرَة عشرَة وليأكل كل إِنْسَان مِمَّا يَلِيهِ قَالَ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثمَّ خَرجُوا وَدخلت طَائِفَة أُخْرَى حَتَّى أكلُوا كلهم وَكنت قَالَ أنس لم أدع إنْسَانا إِلَّا دَعوته قَالَ أنس ثمَّ قَالَ لي ارْفَعْ التور فَرَفَعته فَمَا أَدْرِي حِين وضعت كَانَ أَكثر أم حِين رفعت وَمثل هَذَا تَقوله فِي قدح لبن أهْدى لَهُ وَمن هسذا حَدِيث مزود أبي هُرَيْرَة وَذَلِكَ أَن النَّاس أَصَابَتْهُم مجاعَة شَدِيدَة فِي بعض أَسْفَاره فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي هُرَيْرَة هَل من شَيْء قَالَ قلت نعم شَيْء من تمر فِي المزود قَالَ فآتى بِهِ فَأدْخل يَده فَأخْرج قَبْضَة فبسطها ودعا بِالْبركَةِ

الفصل الخامس في كلام الشجر وكثير من الجمادات وشهادتها له بالنبوة

ثمَّ قَالَ ادْع عشرَة فدعوتهم فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثمَّ لم يزل كَذَلِك حَتَّى أطْعم الْجَيْش كُله وَقَالَ لي خُذ مَا جِئْت بِهِ فَأخذت فَأكلت مِنْهُ وأطعمت حَيَاته وحياة أبي بكر وَعمر إِلَى أَن قتل عُثْمَان فانتهب مني فَذهب قد قيل أَن ذَلِك التَّمْر إِنَّمَا كَانَ بضع عشرَة تَمْرَة وَالْأَخْبَار فِي هَذَا الْبَاب كَثِيرَة يطول الْكتاب بنقلها على أَنه لَا يجهل شَيْء مِنْهَا بل هِيَ عندنَا مَعْرُوفَة منقوله مَشْهُورَة مَوْصُوفَة وَهَذَا النَّوْع من المعجزات هُوَ من قبيل مَا نقلت النَّصَارَى عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْإِنْجِيل وَذَلِكَ أَنهم زَعَمُوا أَنه أطْعم من خمس خبز وحوتين خَمْسَة آلَاف رجل سوى النِّسَاء وَهَذَا أَيْضا من قبيل مَا ثَبت أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أطْعم بني إِسْرَائِيل بالمفاز الْمَنّ والسلوى فَإِن اعترضت الْيَهُود أَو النَّصَارَى على هَذَا النَّوْع من معجزات نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام عارضناهم بذلك فِي معجزات أَنْبِيَائهمْ وَبِالَّذِي ينفصلون عَن ذَلِك بِهِ بِعَيْنِه ننفصل عَن معجزات نَبينَا وَعند الْوُقُوف على هَذِه الْفُصُول تعلم أَن نَبينَا مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعطَاهُ الله عز وَجل من المعجزات مثل مَا كَانَ أعْطى الْأَنْبِيَاء قبله وزاده على ذَلِك وسنزيد هَذَا وضوحا حَتَّى يتَبَيَّن كَون المعاند الجاحد جَاهِلا وقيحا الْفَصْل الْخَامِس فِي كَلَام الشّجر وَكثير من الجمادات وشهادتها لَهُ بِالنُّبُوَّةِ وَهَذَا الْفَصْل بكثر حكاياته وتتسع رواياته لِكَثْرَة عدد ماروى فِي ذَلِك وَصِحَّة مَا اتّفق هُنَالك وَهَذَا الْفَصْل نَوْعَانِ النَّوْع الأول قد وَردت الْأَخْبَار وَنقل عَن الْأَئِمَّة الْعُدُول الأخيار أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي بعض غَزَوَاته فدنى مِنْهُ أَعْرَابِي فَقَالَ لَهُ يَا أَعْرَابِي أَيْن تُرِيدُ فَقَالَ أَهلِي فَقَالَ لَهُ هَل لَك فِي خير مِنْهُم قَالَ مَا هُوَ قَالَ تشهد أَن لَا إِلَه إِلَى الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله فَقَالَ

وَمن يشْهد لَك على صِحَة مَا تَقول قَالَ هَذِه الشَّجَرَة لشَجَرَة بشاطئ الْوَادي فادعها فَإِنَّهَا تجيبك قَالَ فدعوتها فَأَقْبَلت تخد الأَرْض حَتَّى وقفت بَين يَدَيْهِ فاستشهدها ثَلَاثًا فَشَهِدت أَنه كَمَا قَالَ ثمَّ رجعت إِلَى مَكَانهَا وَقد روى هَذَا الحَدِيث عَن بُرَيْدَة وَزَاد قَالَ فمالت الشَّجَرَة عَن يَمِينهَا وشمالها وَبَين يَديهَا وَخَلفهَا فتقطعت عروقها ثمَّ جَاءَت تجر عروقها مغبرة حَتَّى وقفت بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله فَقَالَ الْأَعرَابِي مرها فَلْتَرْجِعْ إِلَى هيئتها فَأمرهَا فَرَجَعت فدلت عروقها حَيْثُ كَانَت واستوت فَآمن الْأَعرَابِي وَقَالَ ائْذَنْ لي اسجد لَك فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام لَو أمرت أحدا أَن يسْجد لأحد لأمرت الْمَرْأَة أَن تسْجد لبعلها قَالَ فائذن لي أَن أقبل يَديك ورجليك فَأذن لَهُ وَقد روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه ظَهرت على يَدَيْهِ مثل هَذِه المعجزة مَرَّات وطرقها صِحَاح بل مِنْهَا مَا هُوَ متواتر على مَا حَكَاهُ أهل النَّقْل فقد روى أَنه طافت بِهِ شَجَرَة ثمَّ رجعت إِلَى منبتها فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا اسْتَأْذَنت أَن تسلم وَكَذَلِكَ سَأَلَ ربه أَن يَجْعَل لَهُ آيَة فَقَالَ انظلق إِلَى مَوضِع كَذَا فَإِن بِهِ شَجَرَة فَادع مِنْهَا غصنا فَإِنَّهُ يَأْتِيك فَفعل فجَاء يخط الأَرْض حَتَّى انتصب بَين يَدَيْهِ فحبسه مَا شَاءَ الله أَن يحْبسهُ ثمَّ قَالَ لَهُ ارْجع كَمَا كنت فَرجع وَكَذَلِكَ روى عَنهُ من طرق صِحَاح أَنه خرج يَوْمًا ليقضى حَاجته فَلم يجد بِمَا يسْتَتر وَإِذا بشجرتين بشاطئ الْوَادي فَانْطَلق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخذ بِغُصْن من أَغْصَانهَا وَقَالَ لَهَا انقادي على بِإِذن الله فانقادت مَعَه كالبعير الْمُذَلل ثمَّ فعل بِالْأُخْرَى مثل ذَلِك وَقَالَ التئما على فالتئما فَلَمَّا قضى حَاجته قَالَ جَابر فَالْتَفت فَإِذا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مقبل والشجرتان قد افترقتا فَقَامَتْ كل وَاحِدَة مِنْهُمَا على سَاقهَا

النوع الثاني

وَكَذَلِكَ روى أُسَامَة بن زيد مثل هَذَا فِي النخيل وَقَالَ فِيهِ قَالَ لي انْطلق إِلَى هَذِه النخلات وَقل لَهُنَّ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يأمركن أَن تأتين لحَاجَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقل للحجارة مثل ذَلِك فَقلت ذَلِك لَهُنَّ فوالذي بَعثه بِالْحَقِّ لقد رَأَيْت النخلات يتقاربن ويجتمعن وَالْحِجَارَة يتعاقدن ويتراكمن حَتَّى صرن ركاما خَلفه فَلَمَّا قضى حَاجته قَالَ لي قل لَهُنَّ يفترقن فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ لقد رَأَيْت النخلات وَالْحِجَارَة يفترقن حَتَّى عدن إِلَى مواضعهن وَقد حكى الْأَئِمَّة مِنْهُم أَبُو بكر بن فورك رَضِي الله عَنْهُم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي غَزْوَة الطَّائِف لَيْلًا وَهُوَ يسير فاخذته سنة فَاعْتَرَضتهُ سدره فانفرجت لَهُ نِصْفَيْنِ حَتَّى جَازَ بَينهمَا وَبقيت على ساقين إِلَى وقتنا هَذَا وَهِي هُنَالك مَعْرُوفَة معظمة النَّوْع الثَّانِي نقل خلفنا عَن سلفنا فاشيا مَشْهُورا بِحَيْثُ لَا يشك فِيهِ أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم كَانُوا يَأْكُلُون مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الطَّعَام وهم يسمعُونَ تسبيحه وَقَالَ أنس أَخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كفا من حَصى فسبحت فِي يَده حَتَّى سمعنَا تسبيحها ثمَّ صبهن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي يَد أبي بكر فسبحت كَذَلِك ثمَّ صبها فِي أَيْدِينَا فَلم تسبح وَرَوَاهُ أَبُو ذَر قَالَ إِنَّمَا سبحت فِي كف عُثْمَان وَقد تواردت الرِّوَايَات عَن الثِّقَات عَن عَليّ أَنه قَالَ كُنَّا بِمَكَّة مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَخرج إِلَى بعض نَوَاحِيهَا فَمَا استقبله شَجَرَة وَلَا جبل إِلَّا قَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله وَقد وَقد روى الْعَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غطاه وبنيه بملحفة ودعا لَهُم بالستر من النَّار كستره إيَّاهُم بملحفته فأمنت أُسْكُفَّة الْبَاب وحوائط الْبَيْت آمين آمين وَقد صحت الْأَخْبَار بل تَوَاتَرَتْ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما اتخذ منبره وَصعد وَترك الْجذع الَّذِي كَانَ يخْطب عَلَيْهِ حن

الفصل السادس في كلام ضروب من الحيوان وتسخيرهم آية له صلى الله عليه وسلم

الْجذع حنين الْإِبِل الفاقدة أَوْلَادهَا حَتَّى تصدع وَانْشَقَّ فجَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوضع يَده عَلَيْهِ فسكن وَفِي بعض طرقه قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن هَذَا بكاء لما فقد من الذّكر وَفِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث أَنه لم يزل يسمع لَهُ حنين فِي أَوْقَات تحزنا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد فزعت الْمِنْبَر على مَا فِي حَدِيث أبي فَأَخذه أبي عِنْده إِلَى أَن أَكلته الأَرْض وَعَاد رفاتا وَقد روى هَذَا الحَدِيث بُرَيْدَة وَزَاد فِيهِ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للجذع إِن شِئْت أردك إِلَى الْحَائِط الَّذِي كنت فِيهِ فتنبت لَك عروقك ويكمل خلقك ويجدد خوصك وثمرك وَإِن شِئْت أغرسك فِي الْجنَّة يَأْكُل مِنْك وَمن ثمرك أَوْلِيَاء الله ثمَّ أصغى لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستمع لَهُ مَا يَقُول فَقَالَ بلَى تغرسني فِي الْجنَّة فيأكل مني أَوْلِيَاء الله وأكون فِي مَكَان لَا أبلى فِيهِ يسمعهُ من يَلِيهِ فَقَالَ لَهُ قد فعلت ثمَّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اخْتَار دَار الْبَقَاء على دَار الفناء فَكَانَ الْحسن إِذا حدث بِهَذَا الحَدِيث بَكَى وَقَالَ يَا عباد الله الْخَشَبَة تحن إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شوقا إِلَيْهِ فَأنْتم أَحَق بذلك وَأَن تشتاقوا إِلَى لِقَائِه وَكَذَلِكَ تَوَاتر أَيْضا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ على جبل أحد مَعَ جمَاعَة من اصحابه فَتحَرك بهم الْجَبَل فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسكن حراء فَمَا عَلَيْك إِلَّا نَبِي أَو صديق أَو شَهِيد وَالْأَخْبَار أَيْضا فِي هَذَا النَّوْع كَثِيرَة وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ كِفَايَة بل فِيهِ الْوَاحِد من هَذِه الْأَخْبَار أبلغ غَايَة الْفَصْل السَّادِس فِي كَلَام ضروب من الْحَيَوَان وتسخيرهم آيَة لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم 2 وَهَذَا الْفَصْل أَيْضا نَوْعَانِ

النوع الأول

النَّوْع الأول من ذَلِك مَا روى واشتهر عَن عمر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي محفل من أَصْحَابه إِذْ جَاءَهُ أَعْرَابِي قد صَاد ضبا فَقَالَ مَا هَذَا فَقَالُوا لَهُ هَذَا نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ وَاللات والعزى لَا آمَنت بك حَتَّى يُؤمن بك هَذَا الضَّب وَطَرحه بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا ضَب فَأَجَابَهُ بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين يسمعهُ الْقَوْم جَمِيعًا لبيْك وَسَعْديك يَا زين من أوفى الْقِيَامَة قَالَ من تعبد قَالَ الَّذِي فِي السَّمَاء عَرْشه وَفِي الأَرْض سُلْطَانه وَفِي الْبَحْر سَبيله وَفِي الْجنَّة رَحمته وَفِي النَّار عِقَابه قَالَ فَمن أَنا قَالَ رَسُول رب الْعَالمين وَخَاتم النَّبِيين وَقد أَفْلح من صدقك وخاب من كَذبك فَأسلم الْأَعرَابِي وَمن ذَلِك الْقِصَّة الْمَشْهُورَة فِي كَلَام الذِّئْب من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ بَيْنَمَا رَاع يرْعَى غنمه عرض الذِّئْب لشاة مِنْهَا فَأَخذهَا الرَّاعِي مِنْهُ فأقعى الذِّئْب وَقَالَ لِلرَّاعِي أَلا تتقي الله حلت بيني وَبَين رِزْقِي قَالَ الرَّاعِي الْعجب من ذِئْب يتَكَلَّم بِكَلَام الْإِنْس فَقَالَ الذِّئْب أَلا أخْبرك بِأَعْجَب من ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين الحرتين يحدث النَّاس بأنباء مَا قد سبق فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُم فَحَدثهُمْ ثمَّ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صدق وَقد روى هَذَا الحَدِيث عَن غير وَاحِد من الصَّحَابَة مِنْهُم أَبُو هُرَيْرَة وَزَاد فِي هَذَا الحَدِيث فَقَالَ لَهُ الذِّئْب أَنْت أعجب وقفت على غنمك وَتركت نَبيا لم يبْعَث الله قطّ نَبيا أعظم مِنْهُ قدرا عِنْده قد فتحت لَهُ أَبْوَاب الْجنَّة وأشرف أَهلهَا على أَصْحَابه ينتظرون إقبالهم وَمَا بَيْنك وَبَينه إِلَّا هَذَا الشّعب فَتَصِير فِي جنود الله فَقَالَ الرَّاعِي لَو كَانَ لي من يرْعَى الْغنم لمشيت إِلَيْهِ فَقَالَ الذِّئْب أَنا أرعاها حَتَّى ترجع فَأسلم الرَّاعِي إِلَيْهِ غنمه وَمضى وَذكر قصَّته وإسلامه ووجوده النَّبِي يُقَاتل فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عد إِلَى غنمك تجدها بوفرها فَوَجَدَهَا كَذَلِك وَذبح للذئب مِنْهَا شَاة وَكَانَ هَذَا الرَّاعِي اسْمه أهبان بن أَوْس

النوع الثاني

وَقد ذكر مثل هَذِه الْقِصَّة عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع وَأَنَّهَا كَانَت سَبَب إِسْلَامه وَمن ذَلِك مَا يحْكى أَن أَبَا سُفْيَان بن حَرْب بَينا هُوَ فِي مَلأ من قُرَيْش بِمَكَّة إِذْ بِظَبْيٍ يطرده ذِئْب فَدخل الظبي الْحرم فَرجع الذِّئْب فعجبوا من ذَلِك فَقَالَ الذِّئْب أعجب من ذَلِك مُحَمَّد ابْن عبد الله بِالْمَدِينَةِ يدعوكم إِلَى الْجنَّة وتدعونه إِلَى النَّار فَقَالَ أَبُو سُفْيَان بن حَرْب وَاللات والعزى لَئِن ذكرْتُمْ هَذَا بِمَكَّة ليتركنها خلوفا وَمن ذَلِك مَا روى عَن أم سَلمَة كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صحراء فنادته ظَبْيَة يَا رَسُول الله قَالَ ماحاجتك قَالَت صادني هَذَا الْأَعرَابِي ولي خشفان فِي ذَلِك الْجَبَل فأطلقني حَتَّى أذهب فأرضعهما وأرجع قَالَ وتفعلين قَالَت نعم فأطلقها فَذَهَبت وَرجعت فأوثقها وَكَانَ ذَلِك الْأَعرَابِي نَائِما وَقَالَ يَا رَسُول الله أَلَك حَاجَة قَالَ تطلق هَذِه الظبية فأطلقها فَخرجت تعدو فِي الصَّحرَاء وَتقول أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنَّك رَسُول الله وَمن ذَلِك مَا روى من كَلَام الْحمار الَّذِي أَصَابَهُ بِخَيْبَر وَقَالَ اسْمِي يزِيد بن شهَاب فَسَماهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْفُور وَكَانَ يوجهه إِلَى دور أَصْحَابه فَيضْرب عَلَيْهِم الْبَاب بِرَأْسِهِ ويستدعيهم وَأَنه لما مَاتَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تردى فِي بِئْر جزعا وحزنا فَمَاتَ وَمن ذَلِك حَدِيث النَّاقة الَّتِي شهِدت بَين يَدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لصَاحِبهَا أَنه مَا سَرَقهَا وَأَنَّهَا ملكه النَّوْع الثَّانِي مَا روى عَن عَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا قَالَت كَانَ عندنَا دَاجِن فَإِذا كَانَ عندنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قر وَثَبت مَكَانَهُ فَلم يجِئ وَلم يذهب وَإِذا خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَ وَذهب

وَمن ذَلِك مَا روى جَابر بن عبد الله قَالَ جَاءَ رجل فَآمن بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ على بعض حصون خَيْبَر وَكَانَ فِي غنم يرعاها لَهُم يَعْنِي لأهل خَيْبَر فَقَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَيفَ بالغنم فَقَالَ احصب وجوهها يَعْنِي اضربها بالرمل فَإِن الله سيؤدي أمانتك ويردها إِلَى أَهلهَا فَفعل فسارت كل شَاة مِنْهَا حَتَّى أَتَت أَهلهَا وَمن ذَلِك حَدِيث أنس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل حَائِط دجل من الْأَنْصَار وَمَعَهُ أَبُو بكر وَعمر وَرجل من الْأَنْصَار وَفِي الْحَائِط غنم فسجدت لَهُ فَقَالَ أَبُو بكر نَحن أَحَق بِالسُّجُود لَك مِنْهَا وَذكر الحَدِيث وَمن حَدِيث أبي هُرَيْرَة دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَائِطا فجَاء بعير فَسجدَ بَين يَدَيْهِ وَمن حَدِيث جَابر قَالَ وَكَانَ ذَلِك الْحَائِط لَا يدْخلهُ أحد إِلَّا شدّ عَلَيْهِ ذَلِك الْجمل فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَاهُ فَوضع مشفره فِي الأَرْض وبرك بَين يَدَيْهِ فخطمه فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض شَيْء لَا يعلم أَنى رَسُول الله إِلَّا عاصى الْجِنّ وَالْإِنْس وَمن حَدِيث عبد الله بن أبي أوفى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلَ أهل ذَلِك الْجمل عَن شَأْنه فَقَالُوا لَهُ أَنهم أَرَادوا نَحره وَمن ذَلِك مَا روى ابْن وهب أَن حمام مَكَّة أظلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم فتحهَا فَدَعَا لَهَا بِالْبركَةِ وَمن حَدِيث أنس وَزيد بن أَرقم والمغيرة بن شُعْبَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْغَار أَمر الله شَجَرَة فَنَبَتَتْ تجاه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسترته وَأمر حَمَامَتَيْنِ فوقفتا فِي فَم الْغَار وَأَن العنكبوت نسجت على بَابه فَلَمَّا أَتَى الطالبون لَهُ رَأَوْا ذَلِك فَقَالُوا لَو كَانَ فِيهِ أحد لم تكن الحمامات وَلَا العنكبوت فانصرفوا وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسمع كَلَامهم وَالْأَخْبَار فِي هَذَا كَثِيرَة شهيرة وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ كِفَايَة لمن كَانَ ذَا عقل وديانة

الفصل السابع في إحياء الموتى وكلام الصبيان والمراضع وشهادتهم له بالنبوة

الْفَصْل السَّابِع فِي إحْيَاء الْمَوْتَى وَكَلَام الصّبيان والمراضع وشهادتهم لَهُ بِالنُّبُوَّةِ من ذَلِك الْخَبَر الْمَشْهُور الْمَعْلُوم الْمَذْكُور عَن غير وَاحِد من الصَّحَابَة وَالْأَئِمَّة أَن يَهُودِيَّة بِخَيْبَر أَهْدَت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَاة مشوية فسمتها فَأكل مِنْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأكل الْقَوْم مَعَه فَقَالَ ارْفَعُوا فَإِن هَذِه الشَّاة أَخْبَرتنِي أَنَّهَا مَسْمُومَة ثمَّ قَالَ لِلْيَهُودِيَّةِ مَا حملك على مَا صنعت قَالَت إِن كنت نَبيا صَادِقا لم يَضرك الَّذِي صنعت وَإِن كنت ملكا أرحت مِنْك فَقَالَ مَا كَانَ الله لِيُسَلِّطك على ذَلِك فَقَالُوا نقتلها قَالَ لَا فَلم يزل أثر تِلْكَ الْأكلَة فِي لَهَوَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى قَالَ فِي وَجَعه الَّذِي مَاتَ مِنْهُ مازالت أَكلَة خَيْبَر تعاودني فَالْآن قطعت أَبْهَري قَالَ ابْن إِسْحَق إِن كَانَ الْمُسلمُونَ لَيرَوْنَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاتَ شَهِيدا مَعَ مَا أكْرمه الله بِهِ من النُّبُوَّة وروى هَذَا الحَدِيث من طَرِيق الْبَزَّار عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَزَاد فِيهِ فَبسط رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَده وَقَالَ كلوا بِسم الله فأكلنا وَذكرنَا اسْم الله فَلم تضر أحد منا إِلَّا مَا ذكر من موت بشر بن الْبَراء وَفِي هَذَا الحَدِيث أَنْوَاع من دلالات نبوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نطق الْمَيِّت وَذَلِكَ أَن الشَّاة كَلمته بعد أَن شويت وَأَنَّهُمْ أكلُوا السم وَلم يضرهم وَفِي موت الْبَراء دَلِيل على أَن الَّذِي أكلوه سم قَاتل وَبِذَلِك اعْترفت الْيَهُودِيَّة وَقَالَت أردْت قَتلك فَأَرَادَ الله أَن يُمِيت أحدهم ليعلم أَن الَّذِي أكلوه سم وَأَن يحيى جَمِيعهم آيَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن آيَاته فِي هَذِه الْقِصَّة تَأَخّر مَوته بالسم دون عِلّة لَزِمته مِنْهُ نَحْو عشْرين سنة وَهَذِه كلهَا أُمُور خارقة للعادات فَهِيَ من أوضح الدلالات وَمن ذَلِك مَا روى عَن فَهد بن عَطِيَّة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى بصبي قد شب لم يتَكَلَّم قطّ فَقَالَ لَهُ من أَنا فَقَالَ أَنْت رَسُول الله

وَمن ذَلِك حَدِيث معيقيب قَالَ رَأَيْت من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عجبا جِيءَ بصبي يَوْم ولد فَقَالَ لَهُ من أَنا فَقَالَ أَنْت رَسُول الله فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صدقت بَارك الله فِيك ثمَّ أَن الْغُلَام لم يتَكَلَّم بعْدهَا حَتَّى شب فَكَانَ يدعى مبارك الْيَمَامَة وَكَانَت هَذِه الْقِصَّة بِمَكَّة فِي حجَّة الْوَدَاع وَمن حَدِيث الْحسن قَالَ أَتَى رجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر أَنه طرح بنية لَهُ فِي وَادي كَذَا فَانْطَلق مَعَه إِلَى ذَلِك الْوَادي وناداها بإسمها يَا فُلَانَة احيى بِإِذن الله فَخرجت وَهِي تَقول لبيْك وَسَعْديك فَقَالَ لَهَا إِن أَبَوَيْك قد أسلما فَإِن أَحْبَبْت أَن أردك عَلَيْهِمَا فَقَالَت لَا حَاجَة لي فيهمَا وجدت الله خير مِنْهُمَا وَمن ذَلِك حَدِيث أنس أَن شَابًّا من الْأَنْصَار توفى وَله أم عَجُوز قَالَ فسجيناه وعزيناه فَقَالَت مَاتَ ابْني قُلْنَا نعم قَالَت اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَنِّي هَاجَرت إِلَيْك وَإِلَى نبيك رَجَاء أَن تعينني على كل شدَّة فَلَا تحملنِي على هَذِه الْمُصِيبَة فَمَا برح أَن كشف الثَّوْب عَن وَجهه فَطَعِمَ وطعمنا وَمن حَدِيث عبد الله بن عبيد الله قَالَ كنت فِيمَن دفن ثَابت بن قيس بن شماس وَكَانَ قتل بِالْيَمَامَةِ فسمعناه حِين أدخلْنَاهُ فِي الْقَبْر يَقُول مُحَمَّد رَسُول الله أَبُو بكر الصّديق عمر الشَّهِيد عُثْمَان الْبر الرَّحِيم فَنَظَرْنَا فَإِذا هُوَ ميت وَمن حَدِيث النُّعْمَان بن بشير أَن زيد بن خَارِجَة خر مَيتا فِي زقاق من أَزِقَّة الْمَدِينَة فَرفع وسجى إِذْ سَمِعُوهُ بَين العشائين وَالنِّسَاء يصرخن حوله يَقُول أَنْصتُوا أَنْصتُوا فحسر عَن وَجهه فَقَالَ مُحَمَّد رَسُول الله النَّبِي الْأُمِّي وَخَاتم النبييين كَانَ ذَلِك فِي الْكتاب الأول ثمَّ قَالَ صدق صدق وَذكر أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان ثمَّ قَالَ السَّلَام عَلَيْك يارسول الله وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته ثمَّ عَاد مَيتا كَمَا كَانَ

الفصل الثامن في إبراء النبي صلى الله عليه وسلم المرضى وذوي العاهات

الْفَصْل الثَّامِن فِي إِبْرَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المرضى وَذَوي العاهات من ذَلِك مَا اشْتهر واستفاض من قصَّة عين قَتَادَة يَوْم أحد وَذَلِكَ أَنه أُصِيب فِي إِحْدَى عَيْنَيْهِ حَتَّى وَقعت على وجنتيه فَردهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَت أحسن عَيْنَيْهِ وَمن ذَلِك حَدِيث عُثْمَان بن حنيف أَن أعمى قَالَ يَا رَسُول الله ادْع الله أَن يكْشف لي عَن بَصرِي فَقَالَ لَهُ انْطلق فَتَوَضَّأ ثمَّ قل اللَّهُمَّ إِنِّي أَسَالَك وأتوجه إِلَيْك بنبيك مُحَمَّد نَبِي الرَّحْمَة يَا مُحَمَّد إِنِّي أتوجه بك إِلَى رَبِّي أَن يكْشف عَن بَصرِي اللَّهُمَّ شفعه فِي قَالَ فَرجع الرجل وَقد كشف الله عَن بَصَره من ذَلِك حبيب بن فديك أَن أَبَاهُ أبيضت عَيناهُ فَكَانَ لَا يبصر بهما شَيْئا فنفث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عَيْنَيْهِ فأبصر قَالَ فرأيته يدْخل الْخَيط فِي الإبرة وَهُوَ ابْن ثَمَانِينَ وروى أَن ملاعب الأسنة أَصَابَهُ استسقاء فَبعث إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخذ بِيَدِهِ حثوة من تُرَاب فتفل عَلَيْهَا ثمَّ أَعْطَاهَا رَسُوله فَأَخذهَا رَسُوله مُتَعَجِّبا يرى أَنه قد هزأ بِهِ فَأَتَاهُ بهَا وَهُوَ على شقاء فَشربهَا فشفاه الله تَعَالَى وَمن ذَلِك حَدِيث كُلْثُوم بن الْحصين وَذَلِكَ أَنه أُصِيب يَوْم أحد فِي نَحره فبصق فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فبرأ وتفل عى شجة عبد الله بن أنيس فَلم تمد وَمن ذَلِك حَدِيث عَليّ يَوْم خَيْبَر وَذَلِكَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَهُوَ على خَيْبَر لَأُعْطيَن الرَّايَة غَدا رجلا يحب الله وَرَسُوله وَيُحِبهُ الله وَرَسُوله يفتح الله على يَدَيْهِ فَبَاتَ أَصْحَابه تِلْكَ اللَّيْلَة كلهم يَرْجُو أَن يعطاها فَلَمَّا أصبح دَعَا عليا فَإِذا بِهِ رمد فتفل فِي عَيْنَيْهِ فبرئ لحينه وَفتح الله عَليّ يَدَيْهِ الْحصن وَفِي تِلْكَ الْغُزَاة نفث على ضَرْبَة بساق سَلمَة بن الْأَكْوَع فبرأت وَكَذَلِكَ فعل بساق على بن الحكم يَوْم الخَنْدَق وَكَانَت قد

انْكَسَرت فبرأ مَكَانَهُ وَلم ينزل عَن فرسه وَأصَاب عليا وجع فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّهُمَّ اشفه أَو عافه ثمَّ ضربه بِرجلِهِ فَمَا اشْتَكَى ذَلِك الوجع بعد وَقطع أَبُو جهل لَعنه الله يَوْم بدر يَد معوذ بن عفراء فجَاء يحمل يَده فبصق عَلَيْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وألصقها فلصقت وَكَذَلِكَ أُصِيب فِي ذَلِك الْيَوْم حبيب بن يسَاف فنفث عَلَيْهَا من رِيقه فصح وأتته امْرَأَة من خثعم مَعهَا صبي بِهِ بلَاء لَا يعقل وَلَا يتَكَلَّم فَأتى بِمَاء فَمَضْمض فَاه وَغسل يَدَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ أَعْطَاهَا ذَلِك المَاء وأمرها أَن تسقيه إِيَّاه فَفعلت فبرئ الْغُلَام وعقل عقلا يفضل كثير من النَّاس وَحَدِيث ابْن عَبَّاس جَاءَت امْرَأَة بِابْن لَهَا بِهِ جُنُون فَمسح صَدره فثع ثعة فَخرج من جَوْفه مثل الجرو الْأسود وبرأ وانكفأت الْقدر وَهِي تغلي على ذِرَاع مُحَمَّد بن خَاطب وَهُوَ طِفْل صَغِير فَمسح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ ودعا لَهُ وتفل فبرأ لحينه وَكَانَت فِي كف شُرَحْبِيل الجحفي سلْعَة تَمنعهُ الْقَبْض على السَّيْف وعنان الدَّابَّة فشكاها للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا زَالَ يمسحها بكفه حَتَّى رفع كَفه وَمَا لَهَا أثر وَالْأَخْبَار فِي هَذَا كَثِيرَة وَإِذا تَأَمَّلت هَذَا الْفَصْل وَالَّذِي قبله علمت أَن نَبينَا مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أُوتِيَ من المعجزات مثل مَا أُوتى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام من إحْيَاء الْمَوْتَى وإبراء الْعَمى والمجانين وَذَوي الأسقام والآفات كَمَا تحكي النَّصَارَى فِي إنجيلها وَزَاد عَلَيْهِ بِأُمُور كَمَا ذكر وَسَتَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَيلْزم النَّصَارَى إِذْ كذبُوا بنبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ مَا أَقَمْنَا عَلَيْهِ من الْآيَات وأثبتنا من وَاضح المعجزات أَن يكذبوا بنبوة عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَإِن معجزاته كمعجزاته وَإِن كذبونا فِيمَا نقلنا عارضناهم فِيمَا نقلوه وَلم يقدروا أَن يثبتوا نبوة عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام علينا وَلَا على غَيرنَا وَكَذَلِكَ يفعل الله بِكُل كَاذِب كفار

الفصل التاسع في إجابة دعائه صلى الله عليه وسلم

الْفَصْل التَّاسِع فِي إِجَابَة دُعَائِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْلَم يَا هَذَا أَنه لَو لم يثبت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْآيَات إِلَّا مَا ثَبت فِي هَذَا الْفَصْل لَكَانَ فِيهِ أعظم دَلِيل على صدق رسَالَته وَصِحَّة نبوته فَإنَّا نعلم بِمَا روى فِي هَذَا الْبَاب من الْآيَات على الْقطع والإصرار أَن دعاؤه عِنْد الله مسموع وَأَن مقَامه عِنْد الله مقَام كريم مَرْفُوع وَذَلِكَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ كلما دَعَا الله فِي شَيْء أَجَابَهُ فِيهِ وَظَهَرت بركَة دَعوته على الْمَدْعُو لَهُ وعَلى أَهله وبنيه حَتَّى كَانَ حُذَيْفَة يَقُول كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا دَعَا لأحد أَدْرَكته الدعْوَة وَولد وَلَده وَنحن نذْكر من ذَلِك طرفا على شَرط الإختصار وَمن حَدِيث أنس الصَّحِيح الْمَشْهُور قَالَ قَالَت أُمِّي يَا رَسُول الله خادمك أنس ادْع الله لَهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ أَكثر مَاله وَولده وَبَارك لَهُ فِيهِ قَالَ أنس حِين حدث بِهَذَا الحَدِيث فوَاللَّه إِن مَالِي كثير وَإِن وَلَدي وَولد وَلَدي ليتعادون على نَحْو الْمِائَة الْيَوْم وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَنهُ أَنه قَالَ وَمَا أعلم أحدا أصَاب من رخاء الْعَيْش مَا أصبت وَلَقَد دفنت بيَدي هَاتين مائَة من وَلَدي لَا أَقُول سقطا وَلَا ولد ولد وَمن دُعَائِهِ لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف بِالْبركَةِ قَالَ عبد الرحمن فَلَو رفعت حجرا لرجوت أَن أُصِيب تَحْتَهُ ذَهَبا وَفتح الله عَلَيْهِ وَمَات فحفر الذَّهَب من تركته بالفئوس حَتَّى محلت الْأَيْدِي وَأخذت كل زَوْجَة من زَوْجَاته ثَمَانُون ألفا وَكن أَرْبعا وَقيل بل صُولِحَتْ إِحْدَاهُنَّ لِأَنَّهُ طَلقهَا فِي مَرضه على نَيف وَثَمَانِينَ ألفا وَأوصى بِخَمْسِينَ ألفا وَهَذَا كُله بعد صدقاته الفاشية فِي حَيَاته وعوارفه الْعَظِيمَة أعتق يَوْمًا ثَلَاثِينَ عبدا ووردت لَهُ مرّة عير لَهُ فِيهَا سبع مائَة بعير تحمل من كل شَيْء فَتصدق بهَا وَبِمَا عَلَيْهَا وبأقتابها وأحلاسها وَمن ذَلِك دعاؤه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمعاوية بالتمكين فِي الْبِلَاد فنال الْخلَافَة

وَمن ذَلِك دعاؤه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لسعد بن أبي وَقاص بِأَن يُجيب الله دَعوته فَمَا دَعَا على أحد أَو لأحد إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ وَمن ذَلِك دعاؤه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ اللَّهُمَّ أعز الْإِسْلَام بِأحد الرجلَيْن بعمر بن الْخطاب أَو بِأبي جهل بن هِشَام فَأجَاب الله دَعوته فِي عمر بن الْخطاب وَلذَلِك قَالَ ابْن مَسْعُود مَا زلنا أعزة مُنْذُ أسلم عمر بن الْخطاب وَأصَاب النَّاس عَطش شَدِيد فِي سفر من أَسْفَاره فَدَعَا الله فَجَاءَت سَحَابَة فسقتهم حَاجتهم وَقد تقدم مثل ذَلِك وَمن ذَلِك حَدِيث الإستسقاء وَذَلِكَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَمَا هُوَ يَوْم الْجُمُعَة يخْطب إِذْ دخل عَلَيْهِ رجل فَقَالَ يَا رَسُول قد هَلَكت الْأَمْوَال وانقطعت السبل وَهَلَكت الْمَوَاشِي فَادع الله أَن يغثنا فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّهُمَّ أغثنا الله أغثنا الله أغثنا قَالَ فأنشأت سَحَابَة مثل الترس ثمَّ انتشرت قَالَ رَاوِيه فَلَا وَالله مَا رَأينَا الشَّمْس سبتا يَعْنِي جُمُعَة ثمَّ دخل أَعْرَابِي فِي الْجُمُعَة الْمُقبلَة فَقَالَ يَا رَسُول الله هَلَكت الْمَوَاشِي وانقطعت السبل فَادع الله يمْسِكهَا عَنَّا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّهُمَّ على الآكام والضراب ومنابت الشّجر قَالَ فانجابت السحابة عَن الْمَدِينَة انجياب الثَّوْب فخرجنا نمشي وَمن ذَلِك أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ للنابغة الْجَعْدِي لَا يفضض الله فَاك فَمَا سَقَطت لَهُ سنّ حَتَّى مَاتَ وَفِي رِوَايَة كَانَ أحسن النَّاس ثغرا إِذا سَقَطت لَهُ سنّ نَبتَت لَهُ أُخْرَى وعاش عشْرين وَمِائَة وَقَالَ لِابْنِ عَبَّاس اللَّهُمَّ فقهه فِي الدّين وَعلمه التَّأْوِيل فَكَانَ بَحر الْفِقْه وترجمان الْقُرْآن ودعا لعبد الله بن جَعْفَر بِالْبركَةِ فِي صَفْقَة يَمِينه فَمَا اشْترى شَيْئا إِلَّا ربح فِيهِ ودعا لِلْمِقْدَادِ بن الْأسود بِالْبركَةِ فَكَانَ عِنْده غراير من المَال ودعا لعروة بن أبي الْجَعْد فَقَالَ لقد كنت أقدم بالكياسة سوق لَهُم فَمَا أرجع حَتَّى أربح أَرْبَعِينَ ألفا

وَقَالَ البُخَارِيّ فَكَانَ لَو اشْترى التُّرَاب ربح فِيهِ وندت لَهُ نَاقَة فَدَعَا ربه أَن يردهَا عَلَيْهِ فجَاء بهَا إعصار ريح حَتَّى ردهَا عَلَيْهِ ودعا لأم أبي هُرَيْرَة فَأسْلمت ودعا لعلى أَن يكفى ألم الْحر وَالْبرد فَكَانَ يلبس فِي الشتَاء ثِيَاب الصَّيف وَفِي الصَّيف ثِيَاب الشتَاء وَلَا يُصِيبهُ حر وَلَا برد وَسَأَلَهُ الطُّفَيْل بن عَمْرو آيَة لِقَوْمِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ نور لَهُ فسطع لَهُ نور بَين عَيْنَيْهِ فَقَالَ يَا رب أَخَاف أَن يَقُولُوا إِنَّمَا مثلَة فتحول إِلَى طرف سَوْطه فَكَانَ يضئ فِي اللَّيْلَة الْمظْلمَة فَسمى ذَا النُّور ودعا على مُضر بِالْقَحْطِ فأقحطوا سبعا حَتَّى أكلُوا الْجُلُود وَالْعِظَام حَتَّى استعطفته قُرَيْش فَدَعَا لَهُم فسقوا ودعا على كسْرَى حِين مزق كِتَابه بِأَن يمزق ملكه فَلم تبْق لَهُ بَاقِيَة وَقَالَ لرجل رَآهُ يَأْكُل بِشمَالِهِ كل بيمينك فَقَالَ لَا أَسْتَطِيع فَقَالَ لَهُ لَا أستطعت فَلم يرفعها إِلَى فِيهِ بعد وَقَالَ لعتبة بن أبي لَهب اللَّهُمَّ سلط عَلَيْهِ كَلْبا من كلابك فَأَكله الْأسد وَحَدِيثه الْمَشْهُور مَعَ مَلأ قُرَيْش وَذَلِكَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَمَا هُوَ ساجد بِإِزَاءِ الْكَعْبَة إِذْ أَلْقَت قُرَيْش على ظَهره فرثا ودما وسلا جزور نحرت فَقَالَ اللَّهُمَّ عَلَيْك بهم ثمَّ سماهم وَاحِدًا وَاحِدًا فَكَانَ من سمى قتل يَوْم بدر ودعا على الحكم بن أبي العَاصِي وَكَانَ يختلج بِوَجْهِهِ ويغمز عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَلِك فَلم يزل يختلج إِلَى أَن مَاتَ ودعا على غلم بن جثامه فلفظته الأَرْض فوورى فلفظته الأَرْض ثمَّ وورى فلفظته الأَرْض مرَارًا فألقوه بَين ضدين يُرِيد جَانِبي الْوَادي وَرَضوا عَلَيْهِ بِالْحِجَارَةِ وَبَاعه رجل فرسا فجحده فَقَالَ اللَّهُمَّ إِن كَانَ كَاذِبًا

الفصل العاشر في ذكر جمل من بركاته ومعجزاته صلى الله عليه وسلم

فَلَا تبَارك لَهُ فِيهِ فَأَصْبَحت شاصية يُرِيد رَافِعَة برجلها يَقُول مَاتَت وَالْأَخْبَار فِي هَذَا الْبَاب أَكثر من أَن يحاط بهَا الْفَصْل الْعَاشِر فِي ذكر جمل من بركاته ومعجزاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن ذَلِك مَا اشْتهر وَصَحَّ أَنه وَقع فزع بِالْمَدِينَةِ فَركب فرسا لأبي طَلْحَة بطيئا فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ لأبي طَلْحَة وجدنَا فرسك بحرا يُرِيد كثير الجرى كالبحر قَالَ فَكَانَ ذَلِك الْفرس لَا يجارى ونخس جمل جَابر وَكَانَ قد أعيا فنشط حَتَّى كَانَ مَا يملك زمامه وصنع مثل ذَلِك بفرس لجميل الْأَشْجَعِيّ خفقها بمخفقة مَعَه وَترك عَلَيْهَا فَلم تملك رَأسهَا نشاطا وَبَاعَ من بَطنهَا بإثنى عشر ألفا وَكَانَت شعيرات من شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قلنسوة خَالِد بن الْوَلِيد فَلم يشْهد بهَا قتالا إِلَّا رزق النَّصْر وَكَانَت جُبَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تغسل للمرضى بعد مَوته فيستشفى بهَا وَأخذ جَهْجَاه قضيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليكسره فَأَخَذته فِي يَده أكله فقطعها وَمَات قبل الْحول وسكب من فضل وضوئِهِ فِي بِئْر قبَاء فَمَا جف مَاؤُهَا بعد وبزق فِي بِئْر كَانَت فِي دَار أنس فَلم يكن بِالْمَدِينَةِ أعذب مِنْهَا وَمر على مَاء فَسَأَلَ عَنهُ فَقيل اسْمه بيسان وماؤه ملح فَقَالَ بل هُوَ نعْمَان وماؤه طيب فطاب وأوتى بِدَلْو من مَاء زَمْزَم فمج فِيهِ فَصَارَت أطيب من الْمسك وَأعْطى الْحسن وَالْحُسَيْن لِسَانه فمصاه وَكَانَا يَبْكِيَانِ عطشا فرويا وسكتا وَكَانَت لأم مَالك عكة تهدى فِيهَا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمنا فَأمرهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تعصرها ثمَّ دَفعهَا

إِلَيْهَا فَإِذا هِيَ مَمْلُوءَة سمنا فيأتيها بنوها يسألونها الْأدم وَلَيْسَ عِنْدهم شَيْء فتعمد إِلَيْهَا فتجد فِيهَا سمنا فَكَانَت تقسم أدمها حَتَّى عصرتها وَكَانَ يتفل فِي أَفْوَاه المراضع فيجزيهم رِيقه إِلَى اللَّيْل وَمن ذَلِك بركَة يَده فِيمَا لمس أَو غرس غرس لسلمان ثَلَاثَة مائَة ودية وَكَانَ كَاتب موَالِيه على ثَلَاث مائَة نَخْلَة وعَلى أَرْبَعِينَ أُوقِيَّة فغرسها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ إِلَّا وَاحِدَة فأطعمت من عامها إِلَّا تِلْكَ الْوَاحِدَة فقلعها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وغرسها فأطعمت من عامها وَأَعْطَاهُ مثل بَيْضَة الدَّجَاجَة من ذهب بعد أَن أدارها على لِسَانه فوزن مِنْهَا أَرْبَعِينَ أُوقِيَّة لمواليه وَفِي حَدِيث حَنش بن عقيل قَالَ سقاني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شربة من سويق شرب أَولهَا وشربت آخرهَا فَمَا زلت أجد شبعها إِذا جعت وريها إِذا عطشت وبردها إِذا ظمئت وَأعْطى قَتَادَة بن النُّعْمَان وَصلى مَعَه الْعشَاء الْأَخِيرَة فِي لَيْلَة مظْلمَة مطيرة عرجونا فَقَالَ انْطلق فَإِنَّهُ سيضىء لَك من بَين يَديك عشرا وَمن خَلفك عشرا فَإِذا دخلت بَيْتك فسترى سوادا فَاضْرِبْهُ حَتَّى يخرج فَإِنَّهُ الشَّيْطَان فَانْطَلق فأضاء لَهُ العرجون حَتَّى دخل بَيته وَوجد السوَاد فَضَربهُ حَتَّى خرج وَمِنْهَا دَفعه لعكاشة جذل حطب وَقَالَ لَهُ اضْرِب بِهِ حِين انْكَسَرَ سَيْفه يَوْم بدر فَعَاد فِي يَده سَيْفا صَارِمًا طَوِيل الْقَامَة أَبيض شَدِيد الْمَتْن فقاتل بِهِ ثمَّ لم يزل عِنْده يشْهد بِهِ المواقف إِلَى أَن اسْتشْهد فِي قتال أهل الرِّدَّة وَكَانَ هَذَا السَّيْف يُسمى العون وَكَذَلِكَ دفع لعبد الله بن جحش يَوْم أحد وَقد ذهب سَيْفه عسيب نخل فَعَاد فِي يَده سَيْفا وَمن ذَلِك بركته فِي درور الشياه الحوائل اللَّبن الْكثير كقصة شَاة أم معبد وَهِي قصَّة مَشْهُورَة وَكَذَلِكَ غنم حليمة مرضعته

وَقد تقدم ذكره وَكَذَلِكَ قصَّة شَاة عبد الله بن مَسْعُود وَكَانَ لم ينز عَلَيْهَا فَحل قطّ وَكَذَلِكَ شَاة الْمِقْدَاد وَمن ذَلِك تزويده أَصْحَابه سقاء مَاء بعد أَن أوكاه ودعا فِيهِ فَلَمَّا حلاه إِذا بِهِ لبن طيب وزبده فِي فَمه وَمسح على رَأس عُمَيْر بن سعد وَبَارك فَمَاتَ وَهُوَ ابْن ثَمَانِينَ فَمَا شَاب وَقد روى مثل هَذِه الْقَصَص وَمن ذَلِك أَن عتبَة بن فرقد كَانَ يُوجد لَهُ طيب يغلب طيب نِسَائِهِ لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مسح بِيَدِهِ بَطْنه وَيَده وسلت عَن وَجهه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عايذ بن عَمْرو الدَّم يَوْم أحد فَدَعَا لَهُ فَكَانَت لَهُ غرَّة كغرة الْفرس وَمسح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على رَأس قيس بن زيد الجذامي ودعا لَهُ فَهَلَك ابْن مائَة سنة وَرَأسه أَبيض وَمَوْضِع كف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أسود فَكَانَ يدعى الْأَغَر وَمسح وَجه رجل آخر فَمَا زَالَ على وَجهه نور وَمسح وَجه قَتَادَة بن ملجان فَكَانَ لوجهه بريق حَتَّى كَانَ ينظر فِي وَجهه كَمَا ينظر فِي الْمرْآة وَوضع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَده على رَأس حَنْظَلَة بن خديم وَبَارك عَلَيْهِ فَكَانَ حَنْظَلَة يُؤْتى بِالرجلِ قد ورم وَجهه وَالشَّاة قد ورم ضرْعهَا فَيُوضَع على مَوضِع كف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيذْهب الورم ونضح فِي وَجه زَيْنَب بنت أم سَلمَة نضحة من مَاء فَمَا كَانَ يعرف فِي وَجه امْرَأَة من الْجمال مَا كَانَ بهَا وَمسح على رَأس صبي بِهِ عاهة يَعْنِي قرعا فبرأ واستوى شعره وَكَذَلِكَ مسح على غير وَاحِد من الصّبيان المرضى والمجانين فبرؤا وَلأَجل هَذَا قَالَ طَاوُوس لم يُؤْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأحد بِهِ جُنُون فصك فِي صَدره إِلَّا ذهب ذَلِك الْجُنُون وَأَتَاهُ رجل آدر فَأمره أَن ينضحها بِمَاء من عس مج فِيهِ فَفعل فبرأ وَمن ذَلِك خَبره الْمَشْهُور عَن تُرَاب يَوْم حنين وَذَلِكَ أَنه لما اشْتَدَّ الْقِتَال بَينه وَبَين الْكفَّار ذَلِك الْيَوْم أَخذ غرفَة من تُرَاب وَرمى بهَا وُجُوه الْكفَّار وَقَالَ شَاهَت الْوُجُوه فَمَا بقى مِنْهُم أحد إِلَّا أصَاب من عَيْنَيْهِ

الفصل الحادي عشر في ما أخبر به مما أطلعه الله من الغيب صلى الله عليه وسلم

من ذَلِك التُّرَاب فَهَزَمَهُمْ الله وَرَجَعُوا على أَعْقَابهم يمسحون عَن أَعينهم وَمن ذَلِك الْخَبَر الْمَشْهُور عَن أبي هُرَيْرَة أَنه كَانَ كثير النسْيَان فَأمره ببسط ثَوْبه فغرف بِيَدِهِ ثمَّ أمره بضمه فَفعل فَمَا نسى شَيْئا بعد وَالْأَخْبَار فِي هَذَا كَثِيرَة جدا تفوق الْحصْر الْفَصْل الْحَادِي عشر فِي مَا أخبر بِهِ مِمَّا أطلعه الله من الْغَيْب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا الْمَوْضُوع بَحر لَا يدْرك قَعْره وَلَا ينزف غمره وَهُوَ من جملَة آيَاته الْمَعْلُومَة على الْقطع الْوَاصِلَة إِلَيْنَا من طَرِيق التَّوَاتُر لِكَثْرَة الحكايات وإنتشار الرِّوَايَات مَعَ اتفاقها على أَنه مطلع على كثير من الْغَيْب فَهَذَا تَوَاتر معنوي يحصل بِهِ الْعلم الْقطعِي وَهَكَذَا أَكثر الْفُصُول الْمُتَقَدّمَة وَالْأَخْبَار المتلقاة عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الْمَوْضُوع قِسْمَانِ قسم وَقع وَوجد كَمَا أخبر بِهِ وَقسم آخر لم يَقع لكَونه لم يبلغ وقته وسيقع وَلَا بُد وَلذَلِك هُوَ منتظر الْوُقُوع وَنحن إِنَّمَا نذْكر فِي هَذَا الْفَصْل مَا وَقع وَوجد حسب مَا أخبر بِهِ إِذْ بِهِ تقع الْحجَّة وَعِنْده يظْهر الإعجاز من ذَلِك حَدِيث حُذَيْفَة قَالَ قَامَ فِينَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مقَاما فَمَا ترك شَيْئا فِي مقَامه ذَلِك يكون إِلَى قيام السَّاعَة إِلَّا حَدثهُ حفظه من حفظه ونسيه من نَسيَه قد علمه أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ وَأَنه ليَكُون مِنْهُ الشَّيْء فأعرفه فأذكره كَمَا يذكر الرجل وَجه الرجل إِذا غَابَ عَنهُ ثمَّ إِذا رَآهُ عرفه ثمَّ قَالَ لَا أَدْرِي أنسى أَصْحَابِي أم تناسوه وَالله مَا ترك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَائِد فتْنَة إِلَى أَن تَنْقَضِي الدُّنْيَا يبلغ من مَعَه ثَلَاث مائَة فَصَاعِدا إِلَّا وَقد سَمَّاهُ لنا بإسمه وَاسم أَبِيه وقبيلته وَقَالَ أَبُو ذَر لقد تركنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا من طَائِر يُحَرك جناحيه فِي السَّمَاء إِلَّا ذكر لنا مِنْهُ علما

وَقد خرج أهل الصَّحِيح فِي كتبهمْ واشتهر عَن الْأَئِمَّة مَا أعلم بِهِ أَصْحَابه مِمَّا وعدهم بِهِ من الظُّهُور على أعدائه وَفتح مَكَّة وَبَيت الْمُقَدّس واليمن وَالشَّام وَالْعراق وَظُهُور الْأَمْن حَتَّى تظعن الْمَرْأَة من الْحيرَة إِلَى مَكَّة لَا تخَاف إِلَّا الله وَأَن الْمَدِينَة لَا تغزى وَكَذَلِكَ أعلم بِفَتْح خَيْبَر على يَد عَليّ بن أبي طَالب فِي غَد يَوْمه وَبِمَا فتح الله على أمته من الدُّنْيَا وَيُؤْتونَ من زهرتها وقسمتهم كنوز كسْرَى وَقَيْصَر وَمَا يحدث بَينهم من الْفِتَن والإختلاف والأهواء وسلوك سَبِيل من قَتلهمْ وإفتراقهم على ثَلَاث وَسبعين فرقة النَّاجِية مِنْهَا وَاحِدَة وَأَنَّهَا سَتَكُون لَهُم أنماط وَيَغْدُو أحدهم فِي حلَّة وَيروح فِي أُخْرَى وتوضع على يَدَيْهِ صحيفَة وترفع أُخْرَى ويسترون بُيُوتهم كَمَا تستر الْكَعْبَة وَأَنَّهُمْ إِذا مَشوا المطيطا وجد مِنْهُم بَنَات فَارس وَالروم رد الله بأسهم بَينهم وسلط شرارهم على خيارهم وإخباره على قتال التّرْك والخزر وَالروم وَذَهَاب كسْرَى وَفَارِس حَتَّى لَا كسْرَى بعده وَذَهَاب قَيْصر حَتَّى لَا قَيْصر بعده وإخباره عَن الرّوم لَا تزَال ذَات أَقْرَان حَتَّى تقوم السَّاعَة وإخباره بِملك بني أُميَّة وَولَايَة مُعَاوِيَة ووصاه وإتخاذ بني أُميَّة ملك الله دولا وإخباره عَن خُرُوج ولد الْعَبَّاس بالرايات السود وملكهم أَضْعَاف مَا ملكوا وَخُرُوج الْمهْدي وإخباره بِمَا ينَال أهل بَيته من الْقَتْل والشدائد وإخباره عَن قتل عَليّ وَقَوله إِن أشقاها الَّذِي يخضب هَذِه من هَذِه يُرِيد لحيته من رَأسه وإخباره بقتل عُثْمَان وَهُوَ يقْرَأ الْمُصحف وَأَنه سيقطر دَمه على قَوْله تَعَالَى {فَسَيَكْفِيكَهُم الله وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَسى الله أَن يلبسك قَمِيصًا فَإِن أرادوك على خلعه فَلَا تخلعه يُرِيد بذلك مَا ولاه من الْخلَافَة وَمَا أَرَادوا من خلعه وَمن ذَلِك خبر حَاطِب بن أبي بلتعة وَذَلِكَ أَنه كتب كتابا لأهل مَكَّة يُخْبِرهُمْ فِيهِ بغزو رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إيَّاهُم وإخفاء ذَلِك الْكتاب وَلم يطلع عَلَيْهِ أحدا وَدفعه إِلَى إمرأة فَجَعَلته فِي عقاصها

الفصل الثاني عشر في عصمة الله له ممن أراد كيده

فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَصْحَابه انْطَلقُوا إِلَى مَوضِع كَذَا فَإِن بِهِ ظَعِينَة عِنْدهَا كتاب من حَاطِب إِلَى مُشْركي قُرَيْش فَانْطَلقُوا ففتشوا فَلم يَجدوا عِنْدهَا شَيْئا فَقَالُوا لَهَا لتخْرجن الْكتاب أَو لَنُجَرِّدَنَّكِ فَأَخْرَجته من عقاصها وإخباره لبَعض زَوْجَاته أَنَّهَا ستنبحها كلاب من الْحُوب وَأَنَّهَا تقتل حولهَا قَتْلَى كثير فَكَانَ ذَلِك كُله كَمَا ذكر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَوله لعمَّار تقتلك الفئة الباغية فَقتله أَصْحَاب مُعَاوِيَة وَقَوله يكون فِي ثَقِيف كَذَّاب ومبير فرأوهما الْحجَّاج وَالْمُخْتَار وإخباره بِأَن مُسَيْلمَة يعقره الله فَكَانَ ذَلِك وَمن ذَلِك أَن نَاقَته ضلت فَلم يدر أَيْن هِيَ فَقَالَت قُرَيْش يزْعم مُحَمَّدًا أَنه يعرف خبر السَّمَاء وَهُوَ لَا يعرف نَاقَته فَنزل الْوَحْي على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أما أَنا فَلَا أعلم إِلَّا مَا أعلمني الله بِهِ وَأَن الله قد أَخْبرنِي أَنَّهَا بِموضع كَذَا فَانْطَلقُوا فَوجدت حَيْثُ ذكر قد حبستها هُنَاكَ شَجَرَة وَقَوله لفاطمة الزهراء رَضِي الله عَنْهَا ابْنَته أَنَّك أول أهل بَيْتِي لُحُوقا بِي فَكَانَت أول من مَاتَ من أهل بَيته وَأخْبر بِأَهْل الرِّدَّة والخوارج وَعرف بعلاماتهم فَوجدَ ذَلِك كَمَا أخبر وَالْأَخْبَار فِي ذَلِك أَكثر من أَن تحصى يضْطَر الْوَاقِف عَلَيْهَا إِلَى الْعلم بنبوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفَصْل الثَّانِي عشر فِي عصمَة الله لَهُ مِمَّن أَرَادَ كَيده وَذَلِكَ من أبلغ آيَاته صحت الرِّوَايَات وَثبتت الطّرق أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يحرس مِمَّن يُرِيد ضره لِكَثْرَة أعدائه ولطلبهم غرته حَتَّى نزل {وَالله يَعْصِمك من النَّاس} فَأخْرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأسه من الْقبَّة وَقَالَ لحارسيه يَا أَيهَا النَّاس انصرفوا فقد عصمني رَبِّي فَلم يقدر أحد أَن يُصِيب مِنْهُ مقتلا مَعَ حرصهم على ذَلِك

وَمن ذَلِك مَا صَحَّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نزل منزلا فِي بعض غَزَوَاته فَقَالَ تَحت شَجَرَة فَأَتَاهُ أَعْرَابِي فاخترط سَيْفه فَقَالَ من يمنعك مني فَقَالَ الله فَرعدَت يَد الْأَعرَابِي وَسقط سَيْفه من يَده وَضرب بِرَأْسِهِ الشَّجَرَة حَتَّى سَالَ دماغه وَقد اتّفق مثل هَذِه الْقِصَّة لعذرة بن الْحَارِث فَأسلم وَرجع إِلَى قومه وَقَالَ جِئتُكُمْ من عِنْد خير النَّاس وَقد روى أَن هَذِه الْقِصَّة كَانَت يَوْم بدر وَكَذَلِكَ وَقع مثل هَذِه الْقِصَّة بِذِي أَمر لدغشور بن الْحَرْث وَكَانَ ذَا نجدة وجرأة فَأسلم فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى قومه قَالُوا أَيْن مَا كنت تَقول وَقد أمكنك فَقَالَ إِنِّي نظرت إِلَى رجل أَبيض طَوِيل دفع فِي صَدْرِي فَوَقَعت لظهري وَسقط السَّيْف من يَدي فَعرفت أَنه ملك وَفِيه أنزل الله عز وَجل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ هم قوم أَن يبسطوا إِلَيْكُم أَيْديهم فَكف أَيْديهم عَنْكُم} الْآيَة وَكَانَت امْرَأَة أبي لَهب وَهِي حمالَة الْحَطب تضع الشوك فِي طَرِيق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَأَنَّمَا يطَأ كثيبا أهيل يُرِيد سهلا وَلما أنزل الله عز وَجل فِيهَا وَفِي زَوجهَا {تبت يدا أبي لَهب وَتب} إِلَى آخر السُّورَة أَتَت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ جَالس فِي الْمَسْجِد وَمَعَهُ أَبُو بكر وَفِي يَدهَا فهر من حِجَارَة فَلَمَّا وقفت عَلَيْهِمَا لم تَرَ إِلَّا أَبَا بكر وَأخذ الله ببصرها عَن نبيه عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَت يَا أَبَا بكر أَيْن صَاحبك فقد بَلغنِي أَنه يهجوني وَالله لَو وجدته لضَرَبْت بِهَذَا الفهر فَاه وَمن ذَلِك مَا حدث بِهِ الحكم بن أبي العَاصِي قَالَ تواعدنا على أَن نقْتل مُحَمَّدًا حَتَّى جئناه فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ سمعنَا صَوتا خلفنا مَا ظننا أَنه بقى بتهامة أحدا فوقعنا مغشيا علينا حَتَّى قضى صلَاته وَرجع إِلَى أَهله ثمَّ تواعدنا لَيْلَة أُخْرَى فَجِئْنَا حَتَّى إِذا رَأَيْنَاهُ جَاءَت الصَّفَا والمروة فحالت بَيْننَا وَبَينه وَمن ذَلِك الْقِصَّة الْمَشْهُورَة الَّتِي تؤذن بالكفاية التَّامَّة وَذَلِكَ أَن قُريْشًا اجْتمعت على قَتله وبيتوا ليدخلوا عَلَيْهِ بَيته فَعلم بهم

فَقَالَ لعَلي تحول على فِرَاشِي فَفعل ثمَّ خرج عَلَيْهِم ودر التُّرَاب على رؤوسهم فَلم يروه حَتَّى دخلُوا الْبَيْت فوجدوا عليا على فرَاشه فَقَالُوا لَهُ أَيْن صَاحبك فَقَالَ لَهُم قد خرج عَلَيْكُم وَقد جعل التُّرَاب على رؤوسكم فَمد كل وَاحِد مِنْهُم يَده على رَأسه فَوجدَ التُّرَاب على رَأسه وَقد قيل أَن فِي هَذِه الْقِصَّة نزل قَوْله تَعَالَى {وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا ليثبتوك أَو يَقْتُلُوك أَو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله وَالله خير الماكرين} وَمن ذَلِك مَا اتّفق لأبي جهل وَذَلِكَ أَنه أَخذ ابل رجل من الْعَرَب وتعدى عَلَيْهِ فِيهَا فَشكى ذَلِك لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمشى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمنزل أبي جهل وَصَاح بِهِ فَخرج منتقعا لَونه فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رد على هَذَا إبِله فَقَالَ نعم ثمَّ دخل مرّة أُخْرَى خَائفًا فصاح بِهِ فَخرج فَزعًا متغيرا ذليلا فَفعل ذَلِك ثَلَاثًا ثمَّ خرج فَزعًا ممتقعا لَونه فَانْصَرف الْأَعرَابِي وألان القَوْل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَامَتْهُ قُرَيْش على ذَلِك فَقَالَ لَهُم إِنَّه عرض لي دونه فَحل من الْإِبِل مَا رَأَيْت مثل هامته وَلَا أنيابه لفحل قطّ وَأَنه هم بِي ليأكني فَبلغ ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ ذَلِك جِبْرِيل وَلَو دنا مِنْهُ لأَخذه وَكَذَلِكَ أَخذ أَبُو جهل صَخْرَة ليطرحها على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ساجد وقريش ينظرُونَ فلزقت بِيَدِهِ ويبست يَدَاهُ إِلَى عُنُقه فَرجع الْقَهْقَرِي وَرَآهُ ثمَّ سَأَلَ أَن يَدْعُو لَهُ فَفعل فَانْطَلَقت يَدَاهُ وَكَذَلِكَ تواعد مرّة أُخْرَى مَعَ قُرَيْش لَئِن رأى مُحَمَّدًا يُصَلِّي ليطأن رقبته فَلَمَّا دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّلَاة أعلموه فَأقبل نَحوه فَلَمَّا قرب مِنْهُ ولى هَارِبا ناكصا على عَقِبَيْهِ متقيا بيدَيْهِ فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ لما دَنَوْت مِنْهُ أشرفت على خَنْدَق مَمْلُوء نَارا كدت أهوي فِيهِ وأبصرت هولا عَظِيما وخفق أَجْنِحَة قد مَلَأت الأَرْض فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام تِلْكَ الْمَلَائِكَة لَو دنى لَاخْتَطَفَتْهُ عضوا عضوا فَأنْزل الله تَعَالَى على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {كلا إِن الْإِنْسَان ليطْغى أَن رَآهُ اسْتغنى} إِلَى أخر السُّورَة

وَمن ذَلِك حَدِيث شيبَة أَنه أدْرك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم حنين فَقَالَ الْيَوْم أدْرك ثَأْرِي من مُحَمَّد وَكَانَ حَمْزَة قد قتل أَبَاهُ وَعَمه فَأَتَاهُ من خَلفه قَالَ فَلَمَّا دَنَوْت مِنْهُ ارْتَفع إِلَى شواظ من نَار أسْرع من الْبَرْق فوليت هَارِبا وأحس بِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فدعاني فَوضع يَده على صَدْرِي وَهُوَ أبْغض الْخلق إِلَى فَمَا رَفعهَا أَلا وَهُوَ أحب الْخلق إِلَيّ وَمن ذَلِك حَدِيث فضَالة بن عبيد قَالَ أردْت قتل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يطوف بِالْبَيْتِ فَلَمَّا دَنَوْت مِنْهُ قَالَ أفضالة قلت نعم قَالَ مَا كنت تحدث بِهِ نَفسك قلت لَا شَيْء فَضَحِك واستغفر لي وَوضع يَده على صَدْرِي فسكن قلبِي فوَاللَّه مَا رَفعهَا حَتَّى مَا خلق الله شَيْئا أحب إِلَيّ مِنْهُ وَمن ذَلِك خبر عَامر بن الطُّفَيْل وأربد بن قيس وَذَلِكَ أَنَّهُمَا وَفْدًا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليقتلاه فَقَالَ عَامر لأربد أَنا أشغل عَنْك وَجه مُحَمَّد فَاضْرب أَنْت فَلم يفعل أَرْبَد من ذَلِك شَيْئا فَلَمَّا كَلمه عَامر فِي ذَلِك قَالَ لَهُ وَالله مَا هَمَمْت أَن أضربه إِلَّا وَجَدْتُك بيني وَبَينه أفأضربك وَمن ذَلِك الْخَبَر الْمَشْهُور خبر سراقَة وَذَلِكَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما خرج من مَكَّة مُهَاجرا للمدينة لم يعلمُوا بِخُرُوجِهِ فَبعثت قُرَيْش فِي طلبه فِي كل وَجه حَتَّى جعلت لمن يَأْتِي بِهِ جعلا مائَة نَاقَة قَالَ سراقَة فَبينا أَنا جَالس فِي نَادِي قومِي إِذْ أقبل رجل فَقَالَ وَالله لقد رَأَيْت ركبة ثَلَاثَة مروا على آنِفا إِنِّي لأراه مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه قَالَ فأومأت لَهُ يَعْنِي أَن أسكت ثمَّ قلت إِنَّهُم بَنو فلَان يَبْتَغُونَ ضَالَّة لَهُم قَالَ لَعَلَّه قلت فَمَكثت قَلِيلا ثمَّ قُمْت فَدخلت بَيْتِي ثمَّ أمرت بفرسي فقيد لي إِلَى بطن الْوَادي وَأمرت بسلاحي فَأخْرج لي من دبر حُجْرَتي وَكنت أَرْجُو أَن أرده على قُرَيْش وآخذ الْمِائَة نَاقَة قَالَ فركبت فِي أَثَره فَلَمَّا بدا لي الْقَوْم فرأيتهم عثر بِي فرسي وَذَهَبت يَدَاهُ فِي الأَرْض وَسَقَطت عَنهُ قَالَ ثمَّ انتزع يَدَيْهِ من الأَرْض وتبعهما دُخان كالإعصار قَالَ

فإن قال قائل من النصارى والمخالفين لنا

فَعرفت حِين رَأَيْت ذَلِك أَنه قد امْتنع مني وَأَنه ظَاهر قَالَ فناديت الْقَوْم أَنا سراقَة انظروني حَتَّى أكلمكم فَقَالَ لَهُ أَبُو بكر وَمَا تبتغي منا قَالَ قلت كتابا يكون آيَة بيني وَبَيْنكُم فَكتب لَهُ أَبُو بكر بِأَمْر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأمسكه عِنْده حَتَّى كَانَ يَوْم الطَّائِف وَالْأَخْبَار فِي هَذَا كَثِيرَة والحكايات صِحَاح شهيرة لَا يُمكن جَحدهَا وَلَا يُنكر حُصُول الْعلم عِنْدهَا بل كلهَا تدل على صِحَة نبوته وتصديق شَرِيعَته وَأَنه كَمَا قَالَ الله عز وَجل {وَمَا مُحَمَّد إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل} ومعجزاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر من أَن يُحِيط بهَا هَذَا الْكتاب أَو تدخل تَحت عد وحساب وَعند الْوُقُوف على مَا تضمنته الْفُصُول الْمُتَقَدّمَة والأبواب السَّابِقَة يحصل الْعلم الضَّرُورِيّ بصدقه فِي رسَالَته وبوجوب اتِّبَاع شَرِيعَته ومنكر ذَلِك معاند متواقح جَاحد {وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا أَي مُنْقَلب يَنْقَلِبُون} وَقد نجز غرضنا من هَذَا الْبَاب فَإِن قَالَ قَائِل من النَّصَارَى والمخالفين لنا مَا ذكرتموه من معجزات نَبِيكُم إِنَّمَا يثبت عنْدكُمْ من أَخْبَار الْآحَاد وَهِي وَإِن كَانَت صحاحا فَلَا يحصل بهَا الْعلم كَمَا كُنْتُم قدمتم حَيْثُ تكلمتم مَعَ النَّصَارَى حِين استدلوا على إِثْبَات نبوة مسيحهم فَإِنَّكُم قُلْتُمْ لَا نقبل فِي مثل هَذَا الْموضع خبر من تجوز الْعَادة عَلَيْهِ الْكَذِب والغلط وَإِنَّمَا نقبل فِيهَا خبر من لَا تجوز عَلَيْهِم الْعَادة الْكَذِب والغلط وَهُوَ الْخَبَر الْمُتَوَاتر ثمَّ إِنَّكُم قبلتم هُنَا أَخْبَار من تجوز الْعَادة عَلَيْهِم الْغَلَط وَالْكذب وَهِي أَخْبَار الْآحَاد فقد خالفتم مَا أصلتم وقبلتم عين مَا أنكرتم قُلْنَا فِي الْجَواب عَن ذَلِك اعْلَم أَيهَا الْمُعْتَرض أَنا لم نقبل فِي هَذَا الْبَاب أَلا الْأَخْبَار المتواترة الَّتِي يحصل الْعلم بهَا لَكِن يَنْبَغِي أَن

تعلم أَن الْمُتَوَاتر ضَرْبَان ضرب يتواتر لَفظه وَمَعْنَاهُ وَذَلِكَ مثل قَوْله تَعَالَى {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين} فَإِن هَذَا اللَّفْظ نعلم قطعا ويقينا أَن نَبينَا مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه كَمَا تلوناه من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان إِذْ قد نَقله عَنهُ الجم الْغَفِير عَن الجم الْغَفِير فَلَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ وَجه من وُجُوه الشَّك فَلَا يقدر أحد أَن يتشكك فِي لَفظه وَلَا فِي مَعْنَاهُ وَكثير من معجزات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُتَقَدّمَة الذّكر من هَذَا الْقَبِيل فَهَذَا هُوَ الضَّرْب الأول وَأما الضَّرْب الآخر وَهُوَ متواتر مَعْنَاهُ دون لَفظه فَيحصل الْعلم أَيْضا بذلك الْمَعْنى وَذَلِكَ مثل أَن تتوارد رِوَايَات كَثِيرَة من أَخْبَار الْآحَاد الصِّحَاح على معنى وَاحِد بِأَلْفَاظ مُتَغَايِرَة وحكايات مُخْتَلفَة مِثَال ذَلِك أَنا نجد من أَنْفُسنَا علما قَطْعِيا بشجاعة على بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فَإِذا نَظرنَا فِي الْخَبَر الَّذِي حصل لنا الْعلم بشجاعته لم نجده خَبرا وَاحِدًا متواترا وَإِنَّمَا وَجَدْنَاهُ جملَة أَخْبَار آحَاد تواردت على معنى وَاحِد وَهُوَ الشجَاعَة فَتسمع عَنهُ يَوْمًا أَنه فعل يَوْم خَيْبَر كَذَا وَفعل يَوْم حنين كَذَا وَيَوْم صفّين كَذَا وَيَوْم الْجمل كَذَا فَلَا تزَال أَخْبَار الْآحَاد تكْثر حَتَّى يضْطَر السَّامع إِلَى الْعلم بمخبرها وَلَا يقدر على تشكيك نَفسه فِي شَيْء مِنْهَا وَهَذَا مَسْلَك فِي تَحْصِيل الْعلم إِذا تفقده الْعَاقِل الْمنصف من نَفسه وجده مُفِيدا للْعلم ومحصلا لَهُ ضَرُورَة وَمن أنكر حُصُول الْعلم مِنْهُ كَانَ مُنْكرا لما هُوَ ضَرُورِيّ فَإِذا ثَبت هَذَا قُلْنَا بعده إِن مَا نَقَلْنَاهُ من معجزات نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام مِنْهَا مَا تَوَاتر لَفظه وَمَعْنَاهُ كإنشقاق الْقَمَر وَغَيره وَمِنْهَا مَا تَوَاتر مَعْنَاهُ وَهُوَ أَكثر مَا احتوت عَلَيْهِ الْفُصُول الْمُتَقَدّمَة وَذَلِكَ أَن كل فصل مِنْهَا اشْتَمَل على معنى وَاحِد وَكَثُرت الْأَخْبَار عَن ذَلِك الْمَعْنى حَتَّى أضطر الْوَاقِف عَلَيْهَا إِلَى الْعلم بمعناها وَذَلِكَ مثل نبع المَاء من بَين أَصَابِعه وتكثير المَاء الْقَلِيل وَالطَّعَام الْقَلِيل إِلَى غير ذَلِك من الْفُصُول فَكل فصل مِنْهَا قد تَوَاتر مَعْنَاهُ وَإِن لم تتواتر آحَاد أَلْفَاظه

الفصل الثالث عشر في ما ظهر على أصحابه والتابعين لهم من الكرامات الخارقة للعادات

ثمَّ هَذِه الْفُصُول بجملتها يحصل مِنْهَا الْعلم الْقطعِي وَالْيَقِين الضَّرُورِيّ بِأَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت الْعَادَات تنخرق على يَدَيْهِ معْجزَة لَهُ إِذْ قد تواردت جَمِيع أَخْبَار هَذِه الْفُصُول على هَذَا الْمَعْنى فَحصل من هَذَا أَنا لم نستدل على إِثْبَات نبوة نَبينَا مُحَمَّد بأخبار الْآحَاد وَإِنَّمَا استدللنا على ذَلِك بالأخبار المتواترة المحصلة للْعلم والحمدلله وَالنَّصَارَى فِيمَا أوردوا لم يستدلوا هَكَذَا وَلَا عِنْدهم علم من هَذَا وَكفى أَنهم فِي ضلالتهم يعمهون وَفِي شكهم يَتَرَدَّدُونَ عصمنا الله من الْخَطَأ والزلل فِي القَوْل وَالْعَمَل بكرمه وجوده الْفَصْل الثَّالِث عشر فِي مَا ظهر على أَصْحَابه وَالتَّابِعِينَ لَهُم من الكرامات الخارقة للعادات أعلم أَن غرضنا فِي إِثْبَات هَذَا الْفَصْل شَيْئَانِ أَحدهمَا أَن نبين أَن مَا ظهر على أَصْحَابه وعَلى أهل دينه من الكرامات هُوَ آيَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أعظم الْآيَات وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى إِذا أكْرم وَاحِدًا مِنْهُم بِأَن خرق لَهُ عَادَة فَإِن ذَلِك يدل على أَنه على الْحق وَأَن دينه حق إِذْ لَو كَانَ مُبْطلًا فِي دينه مُتبعا لمبطل فِي دَعْوَاهُ كَاذِب فِي قَوْله على الله لما أكْرمه الله وَلَا أكْرم من اتبع دينه فعلى هَذَا نقُول إِن كل كَرَامَة لولى إِنَّمَا هِيَ آيَة للنَّبِي الَّذِي يتبعهُ ذَلِك الْوَلِيّ فَهَذَا أحد الغرضين وَهُوَ أهمهما وَالْغَرَض الثَّانِي أَن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن كَانُوا قد أكْرمهم الله بكرامات خارقة للعادات فَلَا يعْتَقد فيهم أَنهم أَنْبيَاء كَمَا فعلت النَّصَارَى بالحواريين بل يعْتَقد فيهم أَنهم أَوْلِيَاء الله وَأَصْحَاب رَسُول الله تلقوا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَرعه وبلغوا عَنهُ قَوْله وَفعله فبذلوا فِي إِظْهَار دين الله أنفسهم وَأَمْوَالهمْ حَتَّى أظهر الله على كل الْأَدْيَان دينهم وَإِيمَانهمْ

من ذلك ما علمنا من أحوالهم على القطع

كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فيهم {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم تراهم ركعا سجدا يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم من أثر السُّجُود} وَنحن الْآن نذْكر بعض مَا أكْرمه الله تَعَالَى بِهِ من ذَلِك مَا علمنَا من أَحْوَالهم على الْقطع وَذَلِكَ أَنهم بعد موت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تعرضوا لقِتَال كل من خالفهم من أهل الأَرْض يهوديهم ونصرانيهم مجوسيهم ووثنيهم عربيهم وعجميهم على قلَّة عَددهمْ ونزارة عَددهمْ فقارعوا الْأَبْطَال وَسبوا الذرارى وَالْأَمْوَال وأسروا العتاة وَقتلُوا الرِّجَال وعَلى هَذَا انقرض عصرهم وَمَعَ ذَلِك فَلم يرو قطّ عَنْهُم أَنهم ولوا مُدبرين وَلَا رجعُوا منهزمين بل كَانُوا يرجعُونَ غَالِبين وبعدوهم ظافرين وَعَلَيْهِم ظَاهِرين هَذَا مَعَ كَثْرَة من كَانَ يجْتَمع عَلَيْهِم من عدوهم وَمن وقف على فتوحات الشَّام علم أَن دين الْحق هُوَ دين الْإِسْلَام فَلَقَد اجْتمع عَلَيْهِم من عدوهم بِالشَّام ثَلَاث مائَة ألف وَنَحْوهَا بل قد قَالَ الْوَاقِدِيّ ثَمَان مائَة ألف من النَّصَارَى المستعربة وَغَيرهم وهم زهاء ثَلَاثِينَ ألف خيلهم ورجلهم فقارعوهم مقارعة الْكِرَام وصبروا صَبر من صدق مَا وعده بِهِ نبيه مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فأظفرهم الله عَلَيْهِم ومنحهم رقابهم وأورثهم أَمْوَالهم وديارهم وَهَكَذَا فعل الله مَعَهم غير مَا مرّة وَلَا يشك فِي أَن هَذَا كَرَامَة من الله لَهُم وَأمر خارق للْعَادَة فِي حَقهم فَإِن الْعَادة أَن من أَكثر من مقارعة الشجعان فَلَا بُد لَهُ من أَن يصاب وَلَو فِي وَقت من الزَّمَان وَمَا اتّفق لَهُم وَإِن كَانَ كَرَامَة لَهُم فَهُوَ آيَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنه قد كَانَ بشرهم بذلك وَأخْبرهمْ بِكُل مَا طَرَأَ لَهُم هُنَالك فقد ثَبت أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ تغزو قيام من النَّاس فَيُقَال لَهُم هَل فِيكُم من رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَقُولُونَ نعم فَيفتح لَهُم ثمَّ تغزو قيام من النَّاس فَيُقَال لَهُم هَل فِيكُم من رأى من رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَقُولُونَ نعم

فَيفتح لَهُم ثمَّ تغزو قيام فَيُقَال لَهُم هَل فِيكُم من رأى من رأى من رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيُقَال نعم فَيفتح لَهُم وَهَذَا مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِخْبَار بنصر أَصْحَابه وَنصر تابعيهم وتابعي تابعيهم ثَلَاثَة قُرُون وَهَذِه الْأَعْصَار هَكَذَا انقرضت لم يزل نصر الله لَهُم وعونه مَعَهم تَصْدِيقًا لنَبيه وإكراما لأَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم وجازاهم عَنَّا بِأَفْضَل مَا جازى أحدا عَن أحد وَمن ذَلِك مَا ظهر على أحد مِنْهُم مِمَّا قدمنَا ذكره حَيْثُ ذكرنَا أَن طَائِفَة مِنْهُم أكلت السم مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يَضرهَا وَقد ذكرنَا حَدِيث الْمَرْأَة المهاجرة الَّتِي مَاتَ ابْنهَا فَقَالَت اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَنِّي هَاجَرت إِلَيْك وَإِلَى نبيك فَلَا تحملنِي هَذِه الْمُصِيبَة فحيى وَأكل مَعَهم وَكَذَلِكَ ذكرنَا مقَالَة ثَابت بن قيس بن شماس بعد مَوته وَكَلَام زيد بن خَارِجَة بعد مَوته فِيمَا تقدم فَلَا معنى لاعادته فَلْتنْظرْ فِيمَا تقدم وَمن ذَلِك خبر ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ فِي بضع أَسْفَاره فلقى جمَاعَة وقفُوا على الطَّرِيق خوفًا من السَّبع فطرد السَّبع عَن طريقهم ثمَّ قَالَ إِنَّمَا يُسَلط الله على ابْن آدم مَا يخافه وَلَو أَنه لم يخف غير الله لم يُسَلط عَلَيْهِ شَيْء وَمن ذَلِك حَدِيث الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ بَعثه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غزَاة فحال بَينهم وين الْموضع الَّذِي يريدونه قطة من الْبَحْر فَدَعَا الله بإسمه الْأَعْظَم وَمَشوا على المَاء وَمن ذَلِك أَن عباد بن بشيرأوأسد بن خضير خرجا من عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأضاء لَهما رَأس عَصا أَحدهمَا كالسراج وَقد قدمنَا مثل هَذَا وَمن ذَلِك أَن سلمَان أَو أَبَا الدَّرْدَاء كَانَت بَينهمَا قَصْعَة فسبحت حَتَّى سمعا تسبيحها وَقد تظاهرت الْأَخْبَار بِأَن جمَاعَة مِنْهُم رَأَوْا الْمَلَائِكَة وَكَانَت تسلم عَلَيْهِم مثل عمرَان بن حُصَيْن واسيد ابْن حضير وَالْأَخْبَار فِي هَذَا كَثِيرَة

وأما التابعون

وَأما التابعون فقد ظَهرت لَهُم من الكرامات والخيرات مَا لَا يُمكن اسْتِيفَاء ذكره فِي هَذَا الْكتاب فقد كَانَ كثير مِنْهُم يمشي على المَاء ويطير فِي الْهَوَاء وَينظر إِلَى الْحَصَى فَيصير جَوَاهِر وَينظر الآخر إِلَى الأَرْض بَين يَدَيْهِ فَيصير ذَهَبا وتطوى لَهُ الأَرْض وَيتَوَضَّأ فيسيل المَاء من بَين يَدَيْهِ قضبان ذهب وَيَدْعُو الله تَعَالَى فيبرئ المرضى والمجانين والزمناء إِلَى مَا لَا يُحْصى كَثْرَة وَقد دون من هَذَا كثير يقْضى مِنْهُ الْعجب فِي كتب كرامات الْأَوْلِيَاء وَلَو لم يكن من هَذَا إِلَّا قبر مَعْرُوف الْكَرْخِي الْكَائِن بِبَغْدَاد لَكَانَ فِيهِ كِفَايَة وَأعظم آيَة وَذَلِكَ أَن قَبره يستشفى بِهِ ويدعى الله عِنْده فيشفى الْمَرِيض وتقضى الْحَاجة حَتَّى أَن أهل بَغْدَاد يَقُولُونَ قبر مَعْرُوف الْكَرْخِي ترياق مجرب وَبعد هَذَا أَقُول لِلنَّصَارَى وَلَيْسَت هَذِه الْأُمُور العجيبة وَالْأَفْعَال الغريبة من قبيل الْحِيَل والنيرجات الَّتِي تعظمون بهَا أديانكم وتموهون بهَا على عوامكم وتضيفونها إِلَى هذيانكم فَلَقَد حكى لنا أَنكُمْ تمخرقون على ضعفاء الْعُقُول مِنْكُم بخرافات وترهات مثل مَا وصف عَن بعض مشاهدكم المعظمة عنْدكُمْ وَذَلِكَ أَنكُمْ تَزْعُمُونَ أَن يَد الله الْمَسِيح تظهر بهَا فِي يَوْم وَاحِد من السّنة من وَرَاء ستر وَهَذَا مَشْهُور عنْدكُمْ وَلَقَد حكى لنا من يوثق بحَديثه أَن رجلا من الْيَهُود كَانَ قد حظى عِنْد أحد رؤسائكم بالأندلس بوصلة كَانَت بَينهمَا فرام الرئيس أَن يخرج الْيَهُودِيّ عَن دينه ويدخله فِي دين النَّصْرَانِيَّة وَقَالَ لَهُ أَلا ترى هَذِه الأعجوبة ظُهُور يَد الله الْمَسِيح لنا فِي يَوْم مَعْلُوم من السّنة فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيّ يَا مولَايَ أَنا قد رضيت من هَذَا الْأَمر بشهادتك وصدقتك عَلَيْهِ فابحث عَنهُ فَإِن كَانَ مَا يزْعم هَؤُلَاءِ القسيسون حَقًا دخلت فِي دينك فخالط الرئيس الشَّك فَلَمَّا دنا ذَلِك الْيَوْم مَشى ذَلِك

الرئيس إِلَى ذَلِك المشهد وَقرب مَالا يهديه هُنَالك فبرز إِلَيْهِ الأساقفة وقربوه لتقبيل الْيَد فَلَمَّا ظهر لَهُ من وَرَاء السّتْر وضع يَده فِيهِ فصاحوا بِهِ وأغلظوا لَهُ القَوْل يَقُولُونَ لَهُ أتق الله الْآن تخسف بك الأَرْض الْآن تقع عَلَيْك السَّمَاء الْآن ترسل عَلَيْك الصَّوَاعِق فَقَالَ لَهُم دعوا عَنْكُم هَذَا كُله فَإِن هَذِه الْيَد لَا أخل يدى عَنْهَا حَتَّى أعلم حَقًا مَا تصفون عَنْهَا أم بَاطِلا فَلَمَّا رَأَوْا الْحجَّة فروا عَنهُ وَلم يبْق مَعَه إِلَّا إثنان أسرا إِلَيْهِ وَقَالا لَهُ مَا تبغى فِي ذَلِك أَصَبَوْت عَن دين آبَائِك أَتُرِيدُ أَن تحل ربطا ربط مُنْذُ ألف سنة أَو نَحْوهَا قَالَ لَا وَلَكِنِّي أحب الْوُقُوف على سر هَذِه الْيَد فَقَالَا هِيَ يَد الأسقف وَاقِف خلف هَذَا السّتْر فَقل احب أَن أرَاهُ فَقَالَا أَنْت وَذَاكَ فكشفا لَهُ عَن قس مجدود الْخَدين وَاقِف خلف هَذَا السّتْر فَلَمَّا عاينه الرئيس أرسل يَده وَخرج إِلَى عسكره فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيّ يَا مولَايَ مَا تَأْمُرنِي بِهِ أَدخل فِي دينك وَأخرج عَن ديني فَقَالَ لَهُ رَأْيك خرجت مِنْهُ أَو فَلَا خرجت وَكَذَلِكَ وصف لنا عَن صَلِيب فِي بعض مشاهدكم المعظمة عنْدكُمْ يمشي إِلَيْهِ النَّاس ليتعجبوا مِنْهُ وَهُوَ وَاقِف بَين السَّمَاء وَالْأَرْض وَإِن بعض رؤسائكم سَأَلَ عَن ذَلِك كَاتبا لَهُ يَهُودِيّا فتفطن الْيَهُودِيّ إِلَى أَن ذَلِك الصَّلِيب حَدِيد تمسكه أَحْجَار المغناطيس فبحث عَنهُ فَوجدَ كَذَلِك وَكَذَلِكَ وصف عَن الثريا الَّتِي فِي كَنِيسَة الْغُرَاب وحيلتها حِيلَة الصَّلِيب وَكَذَلِكَ كُنْتُم تذكرُونَ أَن هَذَا الْكَنِيسَة ينزل فِيهَا نور يُوقد ذبال الثريا الْمَذْكُورَة فِي ذَلِك الْيَوْم الْمَشْهُود فَذكر ذَلِك لأحد مُلُوك بني أُميَّة بالأندلس فتعجب من ذَلِك وَسَأَلَ عَن ذَلِك فَأخْبرهُ رجل من أهل إفريقية بحيلتها وَذكر أَنهم مدوا مَعَ الْحَائِط قَصَبَة حَدِيد ضيق جوفها وأبرزوا لَهَا أنبوبا كسم الْخياط مَوْضِعه مَوْزُون مَعَ طرف الثريا ثمَّ أَنهم ذَلِك الْيَوْم يرسلون نَار النفط فِي القصبة متراكما حَتَّى يخرج فِي غَايَة الْقُوَّة إِلَى ذبال الثريا الَّذِي هُوَ فِي زنة وَاحِدَة مَعَه

وَوصف ذَلِك الإفْرِيقِي مَعَ ذَلِك حيلا فاحتال ذَلِك الْأَمِير على الْكَنِيسَة فِي أحد غَزَوَاته وَقد دنا يَوْمهَا ذَلِك فدعى الإفْرِيقِي وَكَانَ مَعَه فَسَأَلَهُ كشف ذَلِك فَعمد الإفْرِيقِي فاستخرج مِنْهُ قناة من الصفر على نَحْو مَا كَانَ ذكر وَعمد إِلَى سَمَاء الثريا فاستخرج مِنْهُ حجرا من المغناطيس فَسَقَطت فَأمر الْأَمِير عِنْد ذَلِك بمعاقبة القسيس وَكَذَلِكَ كُنْتُم تَزْعُمُونَ أَن مَرْيَم نزلت من السَّمَاء على دون إِذْ فنتش المطران بِجَامِع طليطله وكست رَأسه بقجيلة وجسمه بِثِيَاب مزينة وَذَلِكَ فِي لَيْلَة النّصْف من شهر أغشت فتعظمون تِلْكَ اللَّيْلَة تَعْظِيمًا شنيعا وَذَلِكَ كُله إِنَّمَا يَصح عَلَيْكُم لجهلكم بالأمور كلهَا حَقّهَا وباطلها حَتَّى أَنكُمْ تصدقُونَ بِالْبَاطِلِ والترهات وتكذبون بِالْحَقِّ كُله وباليقينيات فردكم لغير معنى وقبولكم لغير معنى فَلذَلِك لم تعدوا من الْعُقَلَاء وَلم تضربوا بِسَهْم النبلاء وَلَقَد أورد بعض حذاقنا المجترئين على الْكَلَام على النَّصَارَى فِي كذبهمْ نزُول مَرْيَم على دون إِذْ فنش إلزامات نبهت النَّصَارَى وَلَا محيص لَهُم عَنْهَا فَقَالَ لَهُم أخبرونا عَن نزُول مَرْيَم الَّذِي تَزْعُمُونَ هَل كَانَ بِإِذن سَيِّدهَا أَو بِغَيْر إِذْنه فَإِن قُلْتُمْ كَانَ بِإِذْنِهِ فَكيف يجوز عَلَيْهِ أَن يمتهن أم وَلَده بزعمكم فِي حق عَبده وهلا كَانَ يُرْسل عبدا من عبيده ويصون أم وَلَده هَذَا يدل على عدم الْغيرَة وَلَو فعل ذَلِك الْوَاحِد منا لعرض نَفسه وَزَوجته للتهم ولتضاف إِلَيْهِ النقائص وينسب إِلَى همته الخسة وَإِن قُلْتُمْ كَانَ ذَلِك بِغَيْر إِذن مِنْهُ فَكيف يَنْبَغِي أَن تخونه مَعَ أَن الله قد اصطفاها على نسَاء الْعَالم واتخذها أم ولد بزعمكم فتنزل بِغَيْر إِذْنه إِلَى رجل من جِنْسهَا بكسوة وَثيَاب مزينة فِي كَنِيسَة خَالِيَة وَهَذَا مَحل خِيَانَة

انتهى الجزء الثالث من كتاب الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويليه الجزء الرابع بإذن الله وأوله الباب الرابع في بيان أن النصارى متحكمون في أديانهم وأنهم لا مستند لهم في

تَعَالَى الله عَمَّا يَقُولُونَ علوا كَبِيرا وسبحانه عَمَّا ينْسب إِلَيْهِ الجاهلون بكرَة وَأَصِيلا وَأَسْتَغْفِر الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم وأسأله التَّوْبَة من حِكَايَة هَذِه القبائح وَمن رِوَايَة هَذِه الفضائح فَالْحَمْد لله الَّذِي أعاذ الْإِسْلَام من هَذِه الرذائل وَخَصه بِكُل الْفَضَائِل الَّتِي يستحسنها كل عَاقل ويتدين بهَا كل فَاضل ويتميز عِنْدهَا الْحق من الْبَاطِل انْتهى الْجُزْء الثَّالِث من كتاب الْإِعْلَام بِمَا فِي دين النَّصَارَى من الْفساد والأوهام وَإِظْهَار محَاسِن دين الْإِسْلَام وَإِثْبَات نبوة نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويليه الْجُزْء الرَّابِع بِإِذن الله وأوله الْبَاب الرَّابِع فِي بَيَان أَن النَّصَارَى متحكمون فِي أديانهم وَأَنَّهُمْ لَا مُسْتَند لَهُم فِي أحكامهم إِلَّا مَحْض أغراضهم وأهوائهم

الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام

الْإِعْلَام بِمَا فِي دين النَّصَارَى من الْفساد والأوهام وَإِظْهَار محَاسِن دين الْإِسْلَام وَإِثْبَات نبوة نَبينَا مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام تأليف الإِمَام الْقُرْطُبِيّ تَقْدِيم وَتَحْقِيق وَتَعْلِيق الدكتور أَحْمد حجازي السقا الْجُزْء الرَّابِع

في بيان أن النصارى متحكمون في أديانهم

الْبَاب الرَّابِع فِي بَيَان أَن النَّصَارَى متحكمون فِي أديانهم وَأَنَّهُمْ لَا مُسْتَند لَهُم فِي أحكامهم إِلَّا مَحْض أغراضهم وأهوائهم هَذَا الْبَاب يشْتَمل على صدر وفنين الصَّدْر وَفِيه فصلان والفن الثَّانِي فِيهِ فصلان

الفصل الأول

الْفَصْل الأول لَيست النَّصَارَى على شَيْء اعْلَم أَيهَا الْعَاقِل وفقك الله أَن النَّصَارَى أَضْعَف النَّاس عقولا وَأَقلهمْ فطنة وتحصيلا فهم لذَلِك يَعْتَقِدُونَ فِي الله المحالات وَيُنْكِرُونَ الضروريات ويستندون فِي أحكامهم إِلَى الخرافات فَتَارَة يسندون قضاياهم إِلَى منامة رأوها أَو خرافة سمعوها وَمَا وعوها وَأُخْرَى تحكم فيهم متقسس جَاهِل بمحض الْجَهْل والهوى والأباطل من غير أَن يسْتَدلّ على جَوَاز شَيْء مِمَّا يُرِيد أَن يفعل من الأفاعيل لَا بتوراة وَلَا بإنجيل بل قد يعرض عَن نُصُوص الْكِتَابَيْنِ ويتأولهما تَأْوِيل منسلخ عَن الملين وَرُبمَا تنزل بهم عِظَام النَّوَازِل فيجتمعون لَهَا فِي المحافل فيتحكمون بأهوائهم وَيَقُولُونَ فِيهَا بآرائهم فيحلون مَا حرم الله ويحرمون مَا أحل الله {افتراء على الله قد ضلوا وَمَا كَانُوا مهتدين} وَنحن نبين ذَلِك ونستدل عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى على طَريقَة الْإِنْصَاف من غير اعتساف فَأَما كَونهم يَعْتَقِدُونَ فِي الله المحالات وَيُنْكِرُونَ الضروريات فقد بَيناهُ فِيمَا تقدم فَمن أَرَادَ أَن يعرف ذَلِك فليعد نظرا هُنَالك وَأما كَونهم يستندون فِي أحكامهم إِلَى الترهات والمنامات فَيدل عَلَيْهِ مَا حكيناه فِيمَا تقدم من خبر بولش فَإِنَّهُ احتال عَلَيْهِم حَتَّى صرفهم عَن دين الْمَسِيح وَقَوْلهمْ من الْمذَاهب والآراء كل قَبِيح فصرفهم عَن قبلتهم وَأحل لَهُم مَا حرم عَلَيْهِم وَفرق جَمَاعَتهمْ وشتت كلمتهم فتم لَهُ كل مكر على كل غبي غمر وَقد قدمت حَدِيثه فِي بَاب النبوات على الْوَفَاء وَكَذَلِكَ خبر قسطنطين

ابْن هيلانة فَإِنَّهُ لما رأى ملكه يخْتل ونظامه لَا يَسْتَقِيم وَلَا يتَحَصَّل بإختلاف رَعيته عَلَيْهِ وَقلة إنقيادهم إِلَيْهِ جمع وزراؤه وشاورهم فَاجْتمع رَأْيهمْ أَن يتعبد الْقَوْم بِطَلَب دم وَأَن يشرع لَهُم شَرِيعَة ينسبها للمسيح فَكتب لَهُم مَا بِأَيْدِيهِم من الْإِنْجِيل أَو أَكْثَره وتعبدهم بالصلوبية وَشرع لَهُم ترك الْخِتَان وَغير ذَلِك من الْأَحْكَام الَّتِي وافقته وَجَاءَت على اخْتِيَاره وأكد ذَلِك بمنامة رَآهَا ذكر فها أَمر الصَّلِيب فتم لَهُ مُرَاده فيهم وَخَبره مَعْرُوف عِنْدهم وَعند غَيرهم وَقد قدمت بعضه فِي بَاب النبوات أَيْضا وَأما كَونهم يحكمون بآرائهم وأهوائهم فَيدل على ذَلِك مَا أودعوه كتب محافلهم وَمَا عَلَيْهِ الْآن مُعظم عَمَلهم وَمن طالع تِلْكَ الْكتب قضى من جهلهم وجرأتهم على الله كل عجب فَإِن قَالُوا إِنَّمَا نحكم بالمصالح وَهِي عندنَا أصل رَاجِح قُلْنَا لَهُم إِن كَانَت الْمصَالح عنْدكُمْ أصلا تعولون عَلَيْهِ وتسندون أحكامكم إِلَيْهِ فَمن الَّذِي أَصْلهَا لكم فَإِن كُنْتُم أصلتموها لأنفسكم فقد تحكمتم فِي الأَصْل وَالْفرع ثمَّ يلزمكم من هَذَا القَوْل الإستغناء عَن الشَّرَائِع وَأَن مَا شرع الله من الْأَحْكَام فِي التَّوْرَاة عَبث لَا معنى لَهُ وَلَا فَائِدَة إِذا فِي النّظر فِي الْمصَالح غنى عَنْهَا وَإِن كَانَ الْأَنْبِيَاء شرعوا لكم أصل الْمصَالح فَلَا بُد من الإستدلال على ذَلِك من كَلَامهم وَإِذا لم تستدلوا على ذَلِك فدعواكم بَاطِلَة وحجتكم داحضة ثمَّ نقُول لَهُم هَب أَن الْأَنْبِيَاء شرعوا لكم أصل الْمصَالح فَهَل شرعوا الْعَمَل بالمصالح كَيفَ مَا كَانَت الْمصلحَة مُطلقًا أَو عينوا لكم نوعا من الْمصَالح فَإِن كَانُوا قد عينوا فَيَنْبَغِي لكم أَلا تتعدوا مَا عين لكم الْأَنْبِيَاء فَمَا بالكم تسترسلون استرسال من يحكم بهواه وَلَا يخَاف الله وَلَا يخشاه وَإِن كَانُوا أطْلقُوا لكم القَوْل بالمصالح وَقَالُوا لكم مهما ظَهرت لكم مصلحَة كائنة مَا كَانَت فاعملوا بمقتضاها فَكَانَ يلْزم على هَذَا اسقاط كثير من أَحْكَام التَّوْرَاة بالمصالح والرأي كَمَا فعل بولش حَيْثُ قَالَ لَهُم هَل رَأَيْتُمْ سارحة تسرح من عِنْد رَبهَا وَلَا تخرج إِلَّا من حَيْثُ تُؤمر بِهِ قَالَ فَإِنِّي رَأَيْت الصُّبْح وَاللَّيْل وَالشَّمْس وَالْقَمَر والبروج إِنَّمَا تَجِيء من هَا هُنَا يَعْنِي الشرق وَمَا أوجب ذَلِك

إِلَّا وَهُوَ أَحَق الْوُجُوه أَن يصلى إِلَيْهِ قَالُوا لَهُ صدقت فردهم عَن اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس إِلَى اسْتِقْبَال جِهَة الشرق لهَذَا الهذيان ثمَّ قَالَ لَهُم بعد زمَان رَأَيْت رَأيا فَلَو قَالُوا هَات قَالَ لَهُم ألستم تَزْعُمُونَ أَن الرجل إِذا أهْدى إِلَى الرجل هَدِيَّة وأكرمه بالكرامة فَردهَا شقّ ذَلِك عَلَيْهِ وَأَن الله سخر لكم مَا فِي الأَرْض وَجعل مَا فِي السَّمَاء لكم كَرَامَة فَالله أَحَق أَلا ترد عَلَيْهِ كرامته فَمَا بَال بعض الْأَشْيَاء حرَام وَبَعضهَا حَلَال مَا بَين البقة إِلَى الْفِيل حَلَال قَالُوا صدقت وَهَذَا مَحْض الجراءة على الله والإفتراء على شرائع الله وَلم يصر قطّ أحد من المتشرعين إِلَى مثله وَيلْزم عَلَيْهِ أَن يكون كل من أَرَادَ أَن يشرع شرعا شَرعه فَيكون الْعُقَلَاء كلهم شارعين ويستغنى عَن رسل رب الْعَالمين وَهَذَا غَايَة الْكفْر والضلال وَهُوَ لَازم على مَذْهَب أُولَئِكَ الْجُهَّال فقد ظهر من هَذَا الْفَصْل أَنهم لَا يستندون إِلَى شَيْء وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا على شَيْء {أَلا إِنَّهُم هم الْكَاذِبُونَ}

الفصل الثاني

الْفَصْل الثَّانِي خُرُوج النَّصَارَى على تعاليم التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل أُرِيد أَن أبين فِي هَذَا الْفَصْل أَنهم يخالفون كتبهمْ وَلَا يعْملُونَ بمقتضاها بل يتركون الْعَمَل بهَا ابْتِدَاء وَيَقُولُونَ تأولناها وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى حرم فِي التَّوْرَاة أكل الْميتَة وَالدَّم وَالْخِنْزِير والنطيحة والموقوذة والمنخنقة والقردة والشحوم الَّتِي لَا تختلط بِاللَّحْمِ والأرانب والأسد والدب واللب وَالْفرس والبغل وَالْحمار وكل دَابَّة لَيست مشقوقة الْحَافِر وَمن الطير الْبَازِي وَالْعِقَاب وكل طير يَبْغِي بالمخالب وَمن حَيَوَان المآكل حوت لَيْسَ لَهُ سفانق هَذَا وَجَدْنَاهُ فِي كتبهمْ الَّتِي نقلنا مِنْهَا سفانق وَهُوَ تَصْحِيف مِنْهُم وَإِنَّمَا هُوَ سفاسق وَهِي الطرائق عِنْد الْعَرَب وَمِنْه قيل سفاسق السَّيْف وَهِي طرائقه وفرنده ذكره أَبُو عبيد فِي الْغَرِيب المُصَنّف وَمنع حرث الثور مَعَ الْحمار وَحمل الْخَيل على الْحمير وَالْحمير على الْخَيل وطبخ الجدي فِي لبن أمه وَأخذ الطير فِي أعشاشها بفراخها وَأكل الجزارة المتلصقة رئتها وَأكل الْخبز المختمر فِي الفصوح وَلَا تقرب قرْبَان إِلَّا بِخبْز فطير وَمنع شحوم الْبَقر وشحم الشَّاة وَمنع قرْبَان الْحمام واليمام فَهَذِهِ الْمَذْكُورَات كلهَا مُحرمَة بنصوص التَّوْرَاة الَّتِي لَا تقبل التَّأْوِيل إِذْ قد عملت أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل على مقتضاها وَلم يُغيرُوا شَيْئا مِنْهَا وَكَذَلِكَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لم يغيرها عَن مقتضياتها وَلَا نسخهَا بل أقرها بِالْعَمَلِ وَأمر بمقتضاها

قال ذلك الجاهل بعد ذكر المحرمات

وَأَن ادعوا نسخ شَيْء مِنْهَا طالبناهم بِدَلِيل النّسخ وَلَا يَجدونَ سَبِيلا إِلَى ذَلِك وَمَعَ ذَلِك فتركوا الْعَمَل بِمَا أَمر الله بِهِ وارتكبوا مَا نهى الله عَنهُ وَلَقَد وقفت على بعض كتبهمْ فِي الْفِقْه فَذكر هَذِه الْمُحرمَات مؤلفة ثمَّ تأولها بِزَعْمِهِ وَأَنا الْآن أذكر ماذكر فِي ذَلِك الْكتاب ليقضى الْعَاقِل من تواقحهم وجهلهم الْعجب العجاب وَيعلم أَنهم مفترون ويكذبون على رب الأرباب قَالَ ذَلِك الْجَاهِل بعد ذكر الْمُحرمَات فَهَذِهِ أَمْثِلَة ضربت فِي التَّوْرَاة الَّتِي هِيَ أم الْإِنْجِيل وَأول الْكتب كلهَا ففسر الْمَسِيح سيدنَا فِي الْإِنْجِيل حَيْثُ قَالَ لم آتٍ لنقض الْكتاب بل لتمامه فتمام الْكتاب التَّأْوِيل فَأَما الْميتَة فِي التَّوْرَاة فَإِنَّمَا نعنى بذلك أَلا تميتوا الْأَحْيَاء وَلَا تغموا الْحق فِي الشَّهَادَة وَلَا تَرفعُوا الطَّعَام وتمنعوه السَّائِل والجائع فَأَما الْميتَة والمنخنقة فَمَا فِي أكلهَا غِبْطَة لذِي عقل فَمن شَاءَ أكل وَمن شَاءَ ترك وَأما الدَّم فيعنى بِهِ أَلا يقتل أحد بَرِيئًا ويهريق دَمه وعنى بالخنزير الزِّنَا وَالْكفْر بِاللَّه إِذْ الْمَعْرُوف من الْخِنْزِير الإلتطاخ فِي المطائق فنهانا عَن فعله وَأما أكله فَمَا فِيهِ مَنْفَعَة وَلَا مضرَّة فَمن شَاءَ أكله وَمن شَاءَ تَركه وعنى بالنطيحة أَلا يتناطح ملك جَبَّار وفقير مِسْكين وعنى بالموقوذة أَلا تزدري بِمن هُوَ تَحت ظلم غَيْرك وعنى بالمنخنقة أَلا تخنق أحدا إِذا كَانَ لَك قبله حق فتضايقه وعنى بالقردة أَلا تحاكى أحدا فتفعل كفعلها وعنى بالدب واللب أَلا تَأْكُل مَعَ غَيْرك بالهجم والغارة وعنى بالأرانب أَلا تَفعلُوا فعل الأرانب فتكونوا كقوم لوط فَإِن الأرانب الذُّكُور يَأْتِي بَعْضهَا بَعْضًا لِكَثْرَة شهوتها وعنى بالبازي والشدانق وَالْعِقَاب وكل طير يبغى بمخلبه أَلا يقتل أحدا وَلَا يهريق دم أحد وَلَا يغلب أحدا على مَتَاعه وَلَا تحسد جارا فتفعل كفعلها وعنى بالدابة الَّتِي لَيست مشقوقة الْحَافِر الْكَفَرَة الَّذين يعْبدُونَ الْأَوْثَان ويسبحون لَهَا أَيَّام حياتهم وَلَا يقسمون أيامهم مشاطرة

وعنى بالحوت الَّذِي لَيْسَ لَهُ سفانق الْإِنْسَان المذنب الَّذِي يَتلون فِي دينه وعبادته وعنى بحرث الثور مَعَ الْحمار الْإِنْسَان الْكَافِر وعنى بِحمْل الْخَيل على الْحمير وَالْحمير على الْخَيل أَلا يتَزَوَّج الْكَافِر مُؤمنَة وَلَا الْمُؤمن كَافِرَة وعنى بالجدي فِي لبن أمه أَلا تَأْخُذ مَال الْيَتِيم ظلما وعنى بالملتصقة الرئه الْإِنْسَان الحسود الحقود الَّذِي يوسوس الشَّرّ فِي صَدره طول حَيَاته وعنى بالخبز المختمر أَلا ينفخنا الشَّيْطَان ويهيج فِينَا الْكِبْرِيَاء وعنى بالفطير أَن تكون أَنْفُسنَا ضامرة بِلَا انتفاخ وعنى بالحمام واليمام الْمُؤمنِينَ الَّذين جعلُوا أنفسهم لله قربانا قَالَ فَهَذَا هُوَ المُرَاد بِتَحْرِيم هَذِه الْأَشْيَاء وَأما تِلْكَ الْمَذْكُورَات بِأَعْيَانِهَا فَمن شَاءَ أكلهَا وَمن شَاءَ تَركهَا هَذَا مَذْهَب النَّصَارَى أَجْمَعِينَ وَلَا يأباه أحد مِنْهُم إِلَّا الأقلين فَيَنْبَغِي لنا أَن نوبخ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلين ونعرض عَلَيْهِم من الإلزامات المفحمة مَا كَانُوا عَنهُ معرضين ونقول لَهُم مَا الَّذِي حملكم على أَن حرفتم كتاب الله وغيرتم شرع الله فأحللتم مَا حرم عَلَيْكُم من غير دَلِيل وصرتم إِلَى تَأْوِيل لم تضمكم إِلَيْهِ ضَرُورَة عقل وَلَا مُعَارضَة قَول رَسُول فيا للعجب مَا أثقب أذهانكم وَأَصَح أفهامكم إِذْ قد فهمتم من كتاب رب الْعَالمين مَا لم يفهمهُ أحد من النَّبِيين بل قد زَاد فهمكم على فهم مُوسَى بن عمرَان وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام إِذْ كَانَا قد عملا على تَحْرِيم مَا فهمتم أَنْتُم تَحْلِيله من الْأَحْكَام وعَلى ذَلِك عملت بنوا إِسْرَائِيل مُدَّة مديدة من الأعوام إِلَى زمَان بولش الْمُفْسد لدين الْمَسِيح الَّذِي جَاءَكُم بمكر خَالص وَكفر صَرِيح فتلقيتم مِنْهُ هذيانه وَلم تعرفوا شَأْنه فحرفتم كتاب الله وانحرفتم عَن الدّين القويم دين الْمَسِيح حِين حرف الدّين الَّذِي لم تروا مِنْهُ أثرا وَلَا سَمِعْتُمْ لَهُ خَبرا ثمَّ نقُول يَا معشر المحرفين لكتاب الله أخبرونا هَل كَانَ مُوسَى بن عمرَان وَعِيسَى ابْن مَرْيَم وَمن بَينهمَا من أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل علمُوا من هَذِه الْأَحْكَام مَا علمْتُم أَنْتُم أم لَا فَإِن كَانُوا قد علمُوا فَمَا بالهم

نصوا على خلاف ذَلِك وحكموا بِتَحْرِيم تِلْكَ الْأَشْيَاء فَلم يرو قطّ عَن وَاحِد مِنْهُم أَنه أكل خنزيرا وَلَا ميتَة وَلَا دَمًا وَلَا شَيْئا مِمَّا ذكر تَحْرِيمه وَأَنْتُم تَقولُونَ هَذَا وتساعدون عَلَيْهِ فَكيف يمتنعون من أكل مَا يحل لَهُم ثمَّ يصرحون بِتَحْرِيمِهِ فعلى هَذَا يلزمكم أَنهم كذبُوا على الله ولبسوا فِي أَحْكَام الله إِذا كَانُوا علمُوا تَحْلِيل تِلْكَ الْأَشْيَاء ثمَّ صَرَّحُوا بتحريمها وَالنَّهْي عَنْهَا وَإِن لم يعلمُوا شَيْئا مِمَّا علمتموه أَنْتُم فَمن أَيْن علمتموه أَنْتُم أشافهتكم بذلك الْمَلَائِكَة أم أرسل إِلَيْكُم بذلك رسل أخر أم خلق لكم بذلك علم ضَرُورِيّ وكل ذَلِك لَا تقدرون على ادعائه فَلم يبْق إِلَّا أَنكُمْ جاهلون بشرع الله محرفون كتاب الله متواقحون على الله كاذبون عَلَيْهِ ومتهاونون برسله وستقفون بَين يَدَيْهِ ويسألكم عَمَّا افتريتم عَلَيْهِ فتحيط بكم النيرَان وتجركم على وُجُوهكُم إِلَيْهَا مَلَائِكَة غِلَاظ شَدَّاد لَا يطيقهم إِنْسَان {وَيَوْم الْقِيَامَة ترى الَّذين كذبُوا على الله وُجُوههم مسودة أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للمتكبرين} فتنادون إِذْ ذَاك يَا أسقفنا بولش انظرنا فَمَا منا إِلَّا متخرق عاطش عاطش فَيُقَال لكم هُوَ فِي أَسْفَل سافلين فتصيروا إِلَيْهِ أَجْمَعِينَ فَإِذا اجْتَمَعْتُمْ مَعَه لعن بَعْضكُم بَعْضًا وَجحد بَعْضكُم بَعْضًا {ومأواكم النَّار وَمَا لكم من ناصرين} ثمَّ نقُول لَهُم إِن جَازَ أَن نتأول الفاظ الشَّارِع وكلماته من غير ضَرُورَة دَاعِيَة إِلَى ذَلِك وندفع النُّصُوص بالتحكم بطلت الْكتب كلهَا والألسنة وَلم يقدر وَاحِد أَن يفهم مِنْهَا شَيْئا إِذْ كل لفظ يتَكَلَّم بِهِ مُتَكَلم يُمكن صرفه عَن بَابه وَعَن مَوْضُوعه الْأَصْلِيّ ونصابه وَإِذا أمكن ذَلِك لم تقدروا على أَن تثبتوا نبوة عِيسَى على الْيَهُود بِمَا قدمتم فَإِن من نَص مَا عنْدكُمْ من كَلَام الْأَنْبِيَاء على نبوته قَول يَعْقُوب لَا يَنْقَطِع قضيب الْملك من نسل يهوذا حَتَّى يَأْتِي الْمَسِيح فيسوغ لِلْيَهُودِيِّ أَن يَقُول إِنَّمَا عَنى بِالْملكِ دينهم الَّذِي ورثوه عَن كِتَابهمْ وأنبيائهم وَلم يعن الْملك الَّذِي هُوَ الْإِمَارَة وَالْولَايَة وَقد

يُسمى الدّين الْملك وَقد جَاءَ فِي التَّوْرَاة حَيْثُ قَالَ الله تَعَالَى لإِبْرَاهِيم الْمُلُوك من صلبك يخرجُون وَإِنَّمَا أَرَادَ بذلك الْأَنْبِيَاء وَأهل الدّين وَلم يرد بذلك الْأُمَرَاء فَقَط وعَلى هَذَا التَّأْوِيل تحاجكم الْيَهُود وَيَقُولُونَ لكم هَذَا ديننَا بَاقٍ لم يَنْقَطِع فَإنَّا نُقِيم التَّوْرَاة وأحكامها فَلم يَأْتِ بعد الْمَسِيح وَهَذَا التَّأْوِيل فِي هَذَا الْموضع أسوغ مِمَّا تأولتم بِهِ أَنْتُم أَحْكَام التَّوْرَاة فَإِن أنكرتم هَذَا التَّأْوِيل أَنْكَرُوا تأويلكم وخطؤوكم وشهدوا عَلَيْكُم أَنكُمْ غيرتم كتاب الله وحرفتموه هَذَا مَا جنى عَلَيْكُم تأويلكم إِذْ قد شَكَكْتُمْ فِي مسيحكم فَفِي مثلكُمْ يضْرب الْمثل يداك أوكتا وفوك نفخ وَلَو شِئْنَا لأبدينا لكم من التأويلات وأريناكم من المناقضات أَكثر من هَذَا لفعلنَا وَلَكِن منعنَا من ذَلِك من ذَلِك مَا قدمنَا وَلَا يَصح أَن يَقُول قَائِل مِنْهُم إِن تَحْرِيم هَذِه الْمُحرمَات كلهَا الَّتِي تثبت فِي التَّوْرَاة نسخ بقول عِيسَى فِي الْإِنْجِيل لَيْسَ ينجس الْمَرْء مَا يدْخل فَاه وَإِنَّمَا يُنجسهُ مَا يخرج من فِيهِ لأَنا نقُول قَول عِيسَى هَذَا إِذا سلم مَفْهُومه نفى التَّنْجِيس لَا نفى التَّحْرِيم إِذْ هما حكمان متغايران مُخْتَلِفَانِ فَإِن الحكم بِتَحْرِيم هَذِه الْمَذْكُورَات إِنَّمَا يرجع إِلَى منع أكلهَا ثمَّ يجوز أَن تتَنَاوَل بِالْأَخْذِ والإعطاء وأنواع من التَّصَرُّفَات كَمَا نقُول فِي الْحمار الأهلي والبغل فَإِنَّهُ يحرم علينا أكله وَيحل لنا تصريفه فِي أَنْوَاع من الْمَنَافِع غير الْأكل وَالْحكم بالتنجيس إِنَّمَا يرجع لمنع التَّنَاوُل مُطلقًا أعنى يمْتَنع فِيهِ الْأكل وَالتَّصَرُّف هَذَا إِذا كَانَ ذَلِك النَّجس مَحْكُومًا بِنَجَاسَتِهِ مُطلقًا فَإِن حكم بِنَجَاسَتِهِ فِي حَال دون حَال كَانَ ذَلِك وَصَحَّ أَن يُقَال عَلَيْهِ أَيْضا نجس مِثَال ذَلِك أَن مُحكم الشَّرَائِع بِأَن الْعذرَة يحرم علينا أَن نصلي بهَا فَلَا يجوز أَن نصلي بهَا وَلَا نحملها فِي تِلْكَ الْحَال وَيجوز لنا أَن نتناولها ونحملها فِي غير حَال الصَّلَاة فقد بَان الْفرق مَا بَين

الحكم بالتنجيس وَالْحكم بِالتَّحْرِيمِ ثمَّ لَو سلمنَا أَنَّهُمَا اسمان للتَّحْرِيم لما كَانَ لتأويلكم السخيف معنى لطيف فلأي معنى تأولتم وقلتم مَا لَا يصلح حمل اللَّفْظ عَلَيْهِ وَلم لم تَقولُوا إِنَّه مَنْسُوخ فَهَذَا خطأ آخر وَجَهل لَا يبوء بِهِ إِلَّا من كَانَ مثلكُمْ فَإِنَّهُ جمع بَين التَّأْوِيل والنسخ وهما متناقضان فَإِن معنى التَّأْوِيل أَن اللَّفْظ المؤول مَعْمُول بِهِ على وَجه وَمعنى النّسخ أَن الْمَنْسُوخ مَرْفُوع الحكم على كل وَجه غير مَعْمُول بِهِ أصلا فقد ظهر من الْفَصْلَيْنِ السَّابِقين أَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم متحكمون بأهوائهم فِي دين الله تاركون للْعَمَل بِكِتَاب الله وَسنَن رسل الله {وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا} {فويل لَهُم مِمَّا كتبت أَيْديهم وويل لَهُم مِمَّا يَكْسِبُونَ} وَقد نجز غرضنا من الصَّدْر فلنشرع فِي الْفَنّ الأول الْمَوْعُود

الفن الأول

الْفَنّ الأول شَعَائِر الدّين النَّصْرَانِي وطقوسه غرضنا من هَذَا الْفَنّ أَن نجمع مسَائِل من قَوَاعِد أديانهم ونبين فَسَادهَا وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا على شَيْء فِيهَا بل تركُوا فِيهَا نُصُوص التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَعمِلُوا بِخِلَافِهَا من غير حجَّة وَلَا دَلِيل وَلَقَد كَانَ لنا فِيمَا قدمنَا كِفَايَة أوصلتنا من فضيحتهم وخزيهم إِلَى أقْصَى غَايَة لَكنا أردنَا أَن نبين خطأهم وضلالهم فِي أَكثر قَوَاعِد دينهم حَتَّى يَتَّضِح للنَّاظِر أَنهم فِي جَمِيع أَحْوَالهم وأعمالهم مبطلون وَأَنَّهُمْ من كل وَجه مضلون فَنَقُول اعْلَم أَنه لَو تصفح جَمِيع مَا انتحلوه من أديانهم لوجد مَبْنِيا على مَا مثل مَا تقدم من هذيانهم لَكنا نقتصر من ذَلِك على مسَائِل نباحثهم فِيهَا ونبين ضلالهم وتلاعبهم فِي دينهم فَإِذا فَرغْنَا من هَذَا الْغَرَض ذكرنَا فِي الْفَنّ الثَّانِي جملَة من أَحْكَام شريعتنا ونقتصر من ذَلِك على مَا عابوه علينا مِنْهَا وَإِنَّمَا فعلنَا ذَلِك لِأَن هَذَا السَّائِل الَّذِي حركنا إِلَى تأليف هَذَا الْكتاب هددنا بِأَن قَالَ فِي كِتَابه إِنِّي أبْعث إِلَى كل بلد كتابا بِنَصّ شريعتكم وَبِكُل مَا نَعْرِف فِيهَا من الْأَقَاوِيل الَّتِي لَا تقدرون على إنكارها فَلَو بصر الله هَذَا الْجَاهِل المغلط بعيوبه لَكَانَ سترهَا وكتمانها أعظم مَطْلُوبه لَكِن جهل فَقَالَ وَحَيْثُ وَجب أَن يسْجد بَال فَنَقُول يَا هَذَا ألنا يقعقع بالشنان آلآخذ بالحنيفية يدان كلا وَالله فَلَيْسَ مَعَ الشَّمْس سراج وَلَا شجر المرخ من الساج وَهَا نَحن نبتدئ بالمسائل تترى إِن شَاءَ الله تَعَالَى

مسألة في المعمودية

مَسْأَلَة فِي المعمودية أطبقت النَّصَارَى على اخْتِلَاف فرقهم على القَوْل بالمعمودية وصفتها عِنْدهم أَن الَّذِي يُرِيد أَن يدْخل فِي دينهم أَو التائب مِنْهُ تتقدم الأقسة مِنْهُ فيمنعونه من اللَّحْم وَالْخمر أَيَّامًا ثمَّ يعلمونه إعتقادهم وَإِيمَانهمْ فَإِذا تعلم ذَلِك اجْتمع لَهُ القسيسون فَتكلم بعقيدة إِيمَانهم أمامهم ثمَّ يغطسونه فِي مَاء يغمروه وَقد اخْتلفُوا هَل يغطسونه مرّة وَاحِدَة أَو مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا فَإِذا هُوَ خرج من ذَلِك المَاء دعى لَهُ الأسقف بِالْبركَةِ وَوضع يَده على رَأسه هَكَذَا كَانَت صفة معموديتهم قَدِيما فِي الأندلس وَأما الْيَوْم فلعلهم قد غيروا بعض أَحْكَامهَا وَرُبمَا اخْتلفُوا فِي بعض تِلْكَ الْأَحْوَال وَهِي عِنْدهم عبَادَة مُؤَكدَة وَقَاعِدَة ممهدة وَمن لم يقبلهَا عِنْدهم فَهُوَ كَافِر وَلَيْسَ لَهُ من ذنُوبه غَافِر وَقد كتب الأسقف ليون إِلَى أساقفة صقليه رِسَالَة ذكر لَهُم فِيهَا أَمر المعمودية وفضيلتها فَقَالَ المعمودية هِيَ إماتة الذُّنُوب وقتلها وَتَأْويل الغطسات الثَّلَاث مكث الْمَسِيح فِي قَبره ثَلَاث أَيَّام وَالْخُرُوج عَن المَاء هُوَ الْخُرُوج عَن الْقَبْر وَمِنْهُم من تَأَول فِي هَذِه الغطسات الثَّلَاث أَنه التَّثْلِيث الَّذِي يَعْتَقِدُونَ وَهَذَا التعميد لم يجر لَهُ فِي التَّوْرَاة ذكر وَلم يشرع الله قطّ لمُوسَى لَكِن كتب النَّصَارَى فِي الْإِنْجِيل ان يحيى عمد عِيسَى بوادي الْأُرْدُن فَخرج مِنْهُ روح الْقُدس كالحمامة على المَاء وَزَعَمت النَّصَارَى أَيْضا أَن عِيسَى قَالَ للحواريين إِذا مررتم بالأجناس فعمدوهم على اسْم الآب والإبن وَالروح الْقُدس وَزَعَمُوا أَن بيطر عمد ثَلَاثَة آلَاف رجل فِي يَوْم نيقشتان وَهَذِه الْمَسْأَلَة عِنْدهم ظَاهِرَة الْمُسْتَند قَوِيَّة الْمُعْتَمد فَإِنَّهُم قد أسندوا نقلهَا إِلَى الْأَنْبِيَاء والحواريين كَمَا تقدم وَلَكنَّا مَعَ ذَلِك

نطالبهم فِيهَا مطالبات تؤذن بِأَنَّهُم يرجعُونَ إِلَى الترهات فَنَقُول سلمنَا لكم جدلا مَا ذكرْتُمْ من إستناد المعمودية إِلَى مَا ذكرْتُمْ لَكِن لم قُلْتُمْ كَمَا فعلهَا يحيى والحواريون نفعلها نَحن وَلَعَلَّ الله تَعَالَى خص يحيى والحواريين بِعَمَل المعمودية وَلم يشرعها لغَيرهم فَإِن ادعوا أَن الله شرعها لَهُم كَمَا شرعها للحواريين طالبناهم بِالنَّصِّ من كتبهمْ الَّذِي بِهِ يجب على من دون الحواريين التعميد وَلَا يَجدونَ شَيْئا من ذَلِك أبدا ثمَّ نقُول لَعَلَّ الحواريين وَيحيى إِنَّمَا عَمدُوا النَّاس لِأَن مَاءَهُمْ كَانَ مقدسا ودعاءهم متقبلا لكَون يحيى نَبيا والحواريون كَذَلِك عنْدكُمْ وَأما أَنْتُم فلستم أَنْبيَاء وَلَيْسَ ماؤكم مقدسا فلستم مثلهم فَكَانَ يَنْبَغِي لكم أَلا تعمدوا أحدا لكنكم وضعتم لأنفسكم شرعا بالتوهم وزدتم فِيهِ أمورا بالتحكم ثمَّ نقُول سلمنَا جدلا أَن المعمودية شرع لكم فَمن أَيْن زدتم فِيهَا الْعدَد وَوضع الْيَد على الرَّأْس والنفخ فِي الْوَجْه كَمَا فعله بعض من مضى مِنْكُم وَلم تكفرون من لَا يستعملها وَلم ينزل بِشَيْء من ذَلِك سُلْطَان وَلَا حكم بذلك إنجيل وَلَا فرقان لَوْلَا مَحْض التلاعب بالأديان والتحكم فِي دين الله والخذلان ثمَّ نقُول هَذَا المَاء الَّذِي تعمدون فِيهِ أهوَ مقدس أَو غير مقدس فَإِن كَانَ مقدسا فَمن قدسه فَإِن قُلْتُمْ إِن الله قدسه فَمن أَيْن علمْتُم ذَلِك ثمَّ إِن قُلْتُمْ ذَلِك عورضتم بنقيضه وَقيل لكم بل نجسه الله وَإِن قُلْتُمْ نَحن قدسناه قُلْنَا فَمن أَنْتُم حَتَّى شَيْئا وَهل يصلح أَن يقدس من لَيْسَ بمقدس أَو يطهر من لَيْسَ بمطهر بل أَنْتُم مذنبون تتزايد ذنوبكم فِي كل وَقت وَحين قكيف تقدسون غَيْركُمْ وَأَنْتُم لَا تقدسون أَنفسكُم فليت الْعجل يهضم نَفسه فَحصل من هَذَا أَن ماءكم الَّذِي تعمدون فِيهِ غير مقدس وَلذَا كَانَ كَذَلِك فلأي شَرط تشترطون فِي المعمودية أَن تكون بِالْمَاءِ وهلا عمدتم فِي الْبَوْل فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَجَاسَة عنْدكُمْ وَلَا فرق بَينه وَبَين المَاء إِذْ كل وَاحِد مِنْهُمَا لَيْسَ بمقدس ثمَّ نقُول زعم النَّصَارَى أجمعهم وَكَتَبُوا فِي كتبهمْ أَن يحيى عمد عِيسَى الْمَسِيح بوادي الْأُرْدُن

مسألة في غفران الأساقفة والقسيسين ذنوب المذنبين وإختراعهم الكفارة للعاصين

فَنَقُول لَهُم هَل كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام قبل أَن يعمده يحيى مقدسا أم لم يكن فَإِن قُلْتُمْ أَنه كَانَ مقدسا فَلَا فَائِدَة لفعل يحيى ولأي شَيْء لم ينزل عَلَيْهِ روح الْقُدس قبل التعميد وَأَنْتُم تَقولُونَ أَنه لما عمده نزل عَلَيْهِ الرّوح الْقُدس مثل حمامة بَيْضَاء وَإِن كَانَ غير مقدس فَكيف يكون من لَيْسَ بمقدس إِلَهًا أَو ابْن إِلَه وَأَنْتُم تَزْعُمُونَ بجهلكم على اخْتِلَاف أقوالكم أَنه اتَّحد بناسوته اللاهوت وَهُوَ فِي بطن أمه وَكَيف يتحد اللاهوت بِمن لَيْسَ بمقدس وَهل هَذَا كُله مِنْكُم إِلَّا هذيان وَضرب من الخذلان تمجه الْقُلُوب والآذان مَسْأَلَة فِي غفران الأساقفة والقسيسين ذنُوب المذنبين وإختراعهم الْكَفَّارَة للعاصين أعلم أَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم وضعُوا لأَنْفُسِهِمْ قوانين توافقوا عَلَيْهَا وارتبطوا لَهَا من غير أَن يشْهد بِصِحَّة تِلْكَ القوانين شَاهد من توراة وَلَا من إنجيل فَمن خالفها عِنْدهم سموهُ خارجيا تَارَة وكافرا أُخْرَى وَالْخُرُوج عَن تِلْكَ القوانين هُوَ الذَّنب عِنْدهم ثمَّ تِلْكَ الذُّنُوب منقسمة إِلَى مَا لَا يغفرونه وَإِلَى مَا يغفرونه فَإِذا غفرو ذَنْب وَاحِد مِنْهُم أدخلوه الْكَنِيسَة وقبلوا قربانه وَإِذا لم يغفروا لَهُ أبعدوه عَن كنائسهم وطردوه وهولوا عَلَيْهِ وَلم يقبلُوا برهانه وَلَا بُد للذنب المغفور من كَفَّارَة وَتلك الْكَفَّارَة بِحَسب مَا يظْهر لأقستهم ويرونه مُوَافقا لغرضهم فَتَارَة يوجبون عَلَيْهِ خدمَة الْكَنِيسَة وَتارَة لَا يدخلهَا بل يقف عِنْدهَا متذللا وَرُبمَا يبْقى على ذَلِك أعواما عديدة وَتارَة يوجبون عَلَيْهِ مَالا إِمَّا لملكهم وَإِمَّا لَهُم ولكنائسهم وَلَا بُد من بَيَان ذَلِك بالأمثلة على مَا وجدنَا فِي كتبهمْ ولنذكر من كل مَسْأَلَة مِثَالا لِئَلَّا يطول الْكتاب وَإِنَّمَا أنقل ألفاظهم من كتبهمْ لِئَلَّا يتقول متقول علينا بِالْبَاطِلِ أَو يظنّ بِنَا الْجَهْل بمذهبهم أَو ينسبونا إِلَى الْكَذِب فِي شَيْء مِمَّا حكيناه عَنْهُم مِثَال الْقسم الأول العابثون بالصبيان العابثون بالصبيان لَا يغفرون لَهُم بِوَجْه وَلَا يعطونهم قربانا

ومثال الثاني نكاح القرابات

أبدا وَلَا عِنْد وفاتهم على هَذَا أجمع أساقفة طليطلة فِي ولَايَة ايفة الْملك وَقَالُوا دعتنا هَذِه الْفَاحِشَة المنتنة أَن يحكم بأجمعنا أَن كل من أَتَى هَذِه الْفَاحِشَة أَن يفعل بِهِ عِقَاب فَإِن كَانَ رَاكب هَذِه الْفَاحِشَة أسقفا فليعزل وَيبعد إبعادا شَدِيدا دَائِما وَإِن كَانَ من غَيرهم فلينكل بِهِ نكالا شَدِيدا وَيضْرب الْفَاعِل وَالْمَفْعُول مائَة سَوط وينفيان النفى الدَّائِم وَلَا يعطيهم أحد من الأقسة تَوْبَة وَمن أَعْطَاهَا لَهُم وَتقبل قُرْبَانهمْ عزل وَأبْعد وَلم يُعْط هُوَ أَيْضا تَوْبَة وأغرموه خَمْسَة أَرْطَال ذَهَبا للْملك هَذَا قانونهم الأول الْقَدِيم وَلَا أَدْرِي مَا أحدثوه الْآن إِذْ الْأَحْدَاث عَنْهُم فِي كل زمَان وَمِثَال الثَّانِي نِكَاح الْقرَابَات وَذَلِكَ أَن نِكَاحهنَّ حرَام بِنَصّ التَّوْرَاة زَعَمُوا فَإِن نكح رجل قريبته إِلَى سبع بطُون فَإِن أصر على ذَلِك فَلَا يغْفر لَهُ وَلَا يعْطى قربانا وَإِن مَاتَ وَإِن أقلع عَنْهَا حرم القربان خَمْسَة عشر سنة وكلفوا أعدادا من الصَّلَوَات وَمن الْعِبَادَات وَرُبمَا زادوا عَلَيْهِ خمْسا فكملوا لَهُ عشْرين سنة وَرُبمَا بلغه بَعضهم خمْسا وَعشْرين وَذَلِكَ بِحَسب سِتَّة عِنْدهم فَإِذا كَانَ بعد ذَلِك قبلوا تَوْبَته وَأَعْطوهُ القربان وَأما الْمَرْأَة فقد أَبَوا أَن يعطوها القربان إِلَّا عِنْد وفاتها وَأما الَّذِي يَأْتِي الْبَهِيمَة فَإِن كَانَ لَهُ زَوْجَة لم يُعْط القربان إِلَّا بعد ثَلَاثِينَ سنة وَإِن لم تكن لَهُ زَوْجَة فَبعد خمس وَعشْرين سنة مِثَال مَا يغرمون فِيهِ الْأَمْوَال من تزوج من غير بركَة القسيس فَإِنَّهُ يغرم للْملك مائَة دِينَار وَيضْرب الزَّوْجَانِ مائَة سَوط مائَة سَوط وَقد حكمُوا على قَاتل عَبده بحرمان القربان سنتَيْن وعَلى قَاتل الْعمد غير عبد بحرمان القربان وبخضوعه عِنْد الْكَنِيسَة إِلَى آخر وَفَاته

وأما قاتل الخطأ

وَأما قَاتل الْخَطَأ فقانونهم الأول يقْضى بِأَن يحرم القربان سبع سِنِين والقانون الثَّانِي يقْضى بِأَن يحرم خمس سِنِين وعَلى الْجُمْلَة فهذياناهم وتحكماتهم أَكثر من أَن تحصى وَمن اطلع على كتب فقههم رأى فِيهَا غرائب وعجائب ومقصودنا التَّمْثِيل وَقد حصل والحمدلله فَنَقُول من وقف على هَذِه الْمَوَاضِع وأمثالها لم يشك فِي أَن الْقَوْم يصنعون أحكاما ويخترعونها ويلتزمونها ولسنا ننكر أَن الشَّرَائِع لَو جَاءَت بِمثل هَذَا الْكَفَّارَات والتحكمات لقبلناها والتزمناها وَإِنَّمَا ننكر عَلَيْهِم أَن يجْعَلُوا أنفسهم شارعين وينزلوا أنفسهم منزلَة رب الْعَالمين فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَنْبَغِي الحكم والتحكم لَهُ إِذْ لَهُ أَن يفعل مَا يُرِيد وَيحكم مَا يَشَاء فِي العبيد وَأما الْأَنْبِيَاء فَلَا يحكمون من عِنْد أنفسهم وَإِنَّمَا يبلغون أَحْكَام الله ثمَّ أعجب من ذَلِك جرأتهم على الله واستهزاؤهم بِكِتَاب الله فَإِن هَذِه الذُّنُوب الَّتِي قدمت ذكرهَا قد شرع الله أَحْكَامهَا فِي التَّوْرَاة نصوصا وَبَين حُدُودهَا فَجعل فِي أَكثر تِلْكَ الْمَوَاضِع الْقَتْل وَلم يحكم فِيهَا بِشَيْء مِمَّا اخترعوه وَلَيْسَ فِي إنجيلهم أَيْضا من هَذِه الْأَحْكَام شَيْء وَعند هَذَا تبين أَنهم خالفوا كتب الله وَتركُوا سنة رسل الله وتحكموا فِي ذَلِك بأهوائهم وَتركُوا سنَن أَنْبِيَائهمْ فحقت عَلَيْهِم لعنة الله أَبَد الآبدين وغضبه إِلَى يَوْم الدّين فَإِن قَالُوا تِلْكَ الْأَحْكَام الَّتِي فِي التَّوْرَاة مَنْسُوخَة بكتابنا وعَلى لِسَان مسيحنا قُلْنَا لَهُم {هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} بل نقُول إِن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام جَاءَ متمما لأحكام التَّوْرَاة وَلم يَجِيء مغيرا لأحكامها وَلَا ناقضا لَهَا وَكَذَلِكَ نقلتم فِي إنجيلكم أَن عِيسَى قَالَ إِنَّمَا جِئْت متمما وَلم آتٍ لأنقض شَرِيعَة من قبلي وَهَذَا خلاف مَا تَدعُونَهُ من النّسخ بل يقتضى هَذَا بِحكم ظَاهره أَنه لَا ينْسَخ شَرِيعَة من قبله وَإِنَّمَا يوضحها وَيحيى مَا أميت مِنْهَا ثمَّ لَا يبعد أَن يكون قد نسخ بعض أَحْكَام التَّوْرَاة وَغَايَة مَا يُوجد

مطالبة وهي أنا نقول لهم

لَهُ من النّسخ قَوْله وَقيل من فَارق امْرَأَته فليكتب لَهَا كتاب طَلَاق وَأَنا أَقُول من فَارق امْرَأَته مِنْكُم فقد جعل لَهَا سَبِيلا إِلَى الزِّنَا وَمن تزوج مُطلقَة فَهُوَ فَاسق ثمَّ قَالَ بَلغَكُمْ أَنه قيل الْعين بِالْعينِ وَالسّن بِالسِّنِّ وَأَنا أَقُول لكم لَا تكافئوا أحدا بسيئة وَلَكِن من لطم خدك الْأَيْمن فأعطه الآخر وَمن أَرَادَ نزع قَمِيصك فزده ردائك فَمثل هَذَا يُمكن أَن يُقَال فِيهِ إِنَّه نسخ وَإِذا بحث عَن كتابكُمْ كَمَا يجب لم يُوجد فِيهِ نَص من هَذَا على النّسخ فَمن ادّعى مِنْكُم أَن شَيْئا مِمَّا ذكر فِي التَّوْرَاة تَحْرِيمه مَنْسُوخ فليأت بناسخ يشبه هَذَا القَوْل فَإِن لم تَأْتُوا بِشَيْء من ذَلِك دلّ على أَنكُمْ متحكمون هُنَالك مُطَالبَة وَهِي أَنا نقُول لَهُم لأي معنى حرمتم من نكح قريبته خمْسا وَعشْرين سنة من القربان وحرمتموه من نكح بَهِيمَة ثَلَاثِينَ سنة وَلَو عكستم ذَلِك كَانَ أشبه فَإِن نِكَاح الْآدَمِيَّة الْقَرِيبَة أشنع من حَيْثُ أَنَّهَا مُحرمَة من نِكَاح بَهِيمَة لَا احترام لَهَا وَكَذَلِكَ نعكس عَلَيْهِم كل مَا ذَكرُوهُ حَتَّى يتَبَيَّن فَسَاد قَوْلهم ونقول لَهُم أَيْضا لأي معنى لم تجْعَلُوا مَكَان الثَّلَاثِينَ ثَمَانِيَة وَعشْرين أَو إثنين وَثَلَاثِينَ ولأي معنى خصصتم هَذَا الْعدَد دون غَيره وَعند هَذَا يتَبَيَّن بطلَان تحكمهم وَفَسَاد رَأْيهمْ وَكَذَلِكَ نقُول لأي معنى شرعتم فِي العابث مائَة سَوط وَلم تشرعوه فِيمَن نكح قريبته مَعَ أَن التَّوْرَاة قد أمرت بقتل كل وَاحِد مِنْهُمَا فَكَانَ يَنْبَغِي أَن تسووا فِي الحكم بَينهمَا فَأَما أَن تضربوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة سَوط أَو لَا تضربوهما فَظهر من هَذَا أَنكُمْ تركْتُم حكم التَّوْرَاة ثمَّ لم تعدلوا فِيمَا تحكمتم بِهِ ثمَّ من أعظم تواقحكم أَنكُمْ سهلتم

الْفَوَاحِش على أَنفسكُم وصعبتموها على غَيْركُمْ فحكمتم على الأسقف الَّذِي يعبث بِأَن يبعد فَقَط وعَلى غَيرهم بِأَن يبعدوا وينكلوا ويجلدوا إِذا فعلوا تِلْكَ الْفَاحِشَة وَلَو عكستم ذَلِك لَكَانَ أشبه فَإِن التغليط على الأقسة مُنَاسِب لحالهم فَإِن الْمعاصِي تقبح فِي حَقهم أَكثر مِمَّا تقبح فِي حق غَيرهم فَإِن من كَلَام النُّبُوَّة أَن من أَشد النَّاس عذَابا عَالم لم يَنْفَعهُ الله بِعِلْمِهِ وَمن كَلَام الْحُكَمَاء حَسَنَات الْأَبْرَار سيئات المقربين ثمَّ هَذَا الْمَعْنى مَعْلُوم من عَادَة الْمُلُوك فَإِنَّهُم يعاقبون وزراءهم والوقافين على رؤوسهم ويؤاخذونهم على أُمُور لَا يحسن مِنْهُم أَن يؤاخذوا بهَا سائس الدَّوَابّ بل لكل مقَام مقَال وَلكُل عمل رجال وَكَيف لَا تقبح الْمعاصِي فِي حق الأقسة والأساقفة وهم قد نزلُوا أنفسهم منزلَة الْأَنْبِيَاء حَيْثُ شرعوا الشَّرَائِع وتحكموا بوضعها بل تنزلوا منزلَة الْمُكَلف الغافر الَّذِي لَهُ الْخلق وَالْأَمر فَإِنَّهُم قد قَالُوا للعوام إِن غفراننا لكم غفران الله وحرماننا لكم حرمَان الله فَإِذا أعطينا نَحن القربان فقد قبله الله وَإِذا لم نعطه لم يقبله الله وَإِذا غفرنا نَحن الذَّنب فقد غفره الله فَإِن غركم الشَّيْطَان وَقد فعل بِأَن تَقولُوا إِن لنا لأجل القسيسية منزلَة وحظوة فاتركوا الْعَمَل بشريعتكم لأجل مالكم عِنْد الله من الْفضل وَلَا تحرموا على أَنفسكُم شَيْئا من الْفَوَاحِش وَقد سمعنَا هَذَا النَّوْع عَن بعض أقسة أرغون فَعَلَيْهِم لعنة الله ولعنة اللاعنين ثمَّ نقُول لَهُم يَا معشر الأساقفة الْجَاهِلين والقسيسين المتحكمين من أَنْتُم حَتَّى تَكُونُوا شارعين أأنتم عِقَاب رب الْعَالمين أحصلتم على رِضَاهُ أَجْمَعِينَ بل يَنْبَغِي أَن تتحققوا أَنكُمْ فِي الْعَذَاب خَالدُونَ حَيْثُ كَفرْتُمْ برسالة سيد الْمُرْسلين مَعَ مَا دلّت عَلَيْهَا من الشواهد والبراهين فَلَقَد صدق الله وَهُوَ أصدق الْقَائِلين حَيْثُ قَالَ مخبرا عَن الْأَخْبَار والقسيسين {وَقَالَت الْيَهُود وَالنَّصَارَى نَحن أَبنَاء الله وأحباؤه قل فَلم يعذبكم بذنوبكم بل أَنْتُم بشر مِمَّن خلق يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء وَللَّه ملك السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا وَإِلَيْهِ الْمصير}

مسألة في الصلوبية وقولهم فيها

مَسْأَلَة فِي الصلوبية وَقَوْلهمْ فِيهَا لاخلاف عِنْد النَّصَارَى أَن إِنْكَار صلب الْمَسِيح كفر وَمن شكّ فِيهِ فَهُوَ كَافِر وَأَنا الْآن أذكر كَلَامهم فِي الصلوبية وَفِي مَعْنَاهَا عِنْدهم قَالُوا الْكَلِمَة هُوَ الله وَهُوَ مَخْلُوق من طَرِيق الْجِسْم وخالق من طَرِيق النَّفس وَهُوَ خلق جِسْمه وَهُوَ خلق أمه وَأمه كَانَت من قبله بالناسوت وَهُوَ كَانَ من قبلهَا باللاهوت وَهُوَ الْإِلَه التَّام وَهُوَ الْإِنْسَان التَّام وَمن تَمام رَحمته على النَّاس أَنه رضى بهرق دَمه عَنْهُم فِي خَشَبَة الصلب فمكن الْيَهُود أعداءه من نَفسه ليتم سخطه عَلَيْهِم فَأَخَذُوهُ وصلبوه وغار دَمه فِي إصبعه لِأَنَّهُ لَو وَقع شَيْء من دَمه على الأَرْض ليبست إِلَّا شَيْء وَقع فِيهَا فنبت فِي مَوْضِعه النوار لِأَنَّهُ لما لم يُمكن فِي الْحِكْمَة الأزلية أَن ينْتَقم الله من عَبده العَاصِي آدم الَّذِي ظلمه واستهان بِحقِّهِ فَلم يرد الله الإنتقام مِنْهُ لاعتلاء منزلَة السَّيِّد وسقوطه منزل العَبْد أَرَادَ أَن ينتصف من الْإِنْسَان الَّذِي هُوَ إِلَه مثله فانتصف من خَطِيئَة آدم بصلب عِيسَى الْمَسِيح الَّذِي هُوَ إِلَه متساو مَعَه فصلب ابْن الله الَّذِي هُوَ الله فِي السَّاعَة التَّاسِعَة من يَوْم الْجُمُعَة هَذَا نَص كَلَامهم من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان وَقَالَ بليون الجاثليق فِي رسَالَته لليون الْملك كبول أسرتنا لَا يُمكن أَن تحل إِلَّا بَان يطلع إِنْسَان من جنسنا وطبيعتنا من لَا تضبطه مَعْصِيّة الذَّنب على ضد آدم وَمن بدمه الطَّاهِر تمحو أزلات الرِّيق المهلك الَّذِي كَانَ حتمه الله وَقضى بِهِ مُنْذُ البدء فتم ذَلِك الْفِعْل عِنْد إنقضاء الزَّمَان الْمَحْدُود وَذَلِكَ ليتم الْوَعْد الْمَوْعُود مَفْهُوم هَذَا الْكَلَام أَن ذَنْب آدم كَانَ فِي رِقَاب بنيه إِلَى أَن قتل عِيسَى وانتقم مِنْهُ لأجل آدم وَحِينَئِذٍ عفى عَن آدم وبنيه ولهذه الْحِكْمَة كَانَت صلوبية الْمَسِيح عِنْدهم يَا معشر الْعُقَلَاء أنظروا بِعَين الإعتبار جهل هَؤُلَاءِ الأغمار وجرأتهم على الْعَزِيز

الْجَبَّار وَقَوْلهمْ بالشتيمة فِي الْأَنْبِيَاء الأخيار فَلَقَد ارتكبوا من المحالات وَقَالُوا من الأكاذيب والترهات مَا لم يقلهُ أحد من الْمَخْلُوقَات ثمَّ لم يكتفوا بِهَذِهِ العظائم حَتَّى أضافوا لله ولأنبيائه أعظم النقائص والشتائم فَللَّه سر فِي أبعاد بعض الْعباد {وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد} فَهَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ الله الْعَظِيم فِي كِتَابه الْكَرِيم {صم بكم عمي فهم لَا يرجعُونَ} وَاعْلَم أَنا لَو تتبعنا تنَاقض هَذَا الْكَلَام وأوردنا الإلزامات عَلَيْهِ لكتبنا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَحدهَا سفرا على أَن الْعُقَلَاء يعلمُونَ فَسَاد هَذَا الْمَذْهَب بِالضَّرُورَةِ عِنْد مُجَرّد الْوُقُوف عَلَيْهِ وَلذَلِك لم يصر إِلَى نَحْو هَذَا الْمَذْهَب السخيف وَالْقَوْل الْقَبِيح أحد من الْأُمَم لَا من الْعَرَب وَلَا من الْعَجم لَا فِي الحَدِيث وَلَا فِي الْقدَم وَإِنَّمَا صَار إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى الْجُهَّال لكَوْنهم لَيْسُوا من العقال بل حظهم من الْعقل حَظّ المجانين والأطفال فكلامهم أشبه شَيْء بِكَلَام الموسوسين والمختلطين المبرسمين وَلَقَد كَانَ يقتضى مَا يعلم من حَالهم الْكَفّ عَن مناظرتهم وجدالهم لَكِن سكُوت النبيه رُبمَا كَانَ دَاعِيَة لتطاول السَّفِيه وَقد تقدم هَذَا الإعتذار عَن هَذَا فِي أول الْكتاب وَلَكِن مَعَ هَذَا لَا بُد للمجانين من العزائم وَتَعْلِيق الْأَجْرَاس والنمائم فلنورد عَلَيْهِم من الإلزامات مَا يبطل تِلْكَ الترهات وَيبين تِلْكَ الأكذوبات فَنَقُول وَقد ذكرنَا فِيمَا تقدم أَن أَمر الصلوبية إِنَّمَا شرعها لَهُم قسطنطين بن هيلانة الْملك وَهُوَ الَّذِي سنّهَا وكتبها لَهُم فِي الْإِنْجِيل ليوغر صُدُور عامته ورعيته على الْيَهُود وَأَنه احتال عَلَيْهِم بِالرُّؤْيَةِ الَّتِي اخترعها فتم لَهُ مُرَاده مِنْهُم وَلم يكن عِنْده من أَمر عِيسَى إِلَّا خبر جملى ثمَّ اختلق لَهُم فِي شَأْنه أمورا تفصيلية هِيَ محَال فِي نَفسهَا لَكِنَّهَا مهولة على الْعَامَّة الرعاع كَقَوْلِهِم فِي الإلتحام وَفِي لاهوت الْمَسِيح

لم يتْركهُ ألم الصلب والإهانة وَإِنَّمَا أدْرك ذَلِك لحْمَته وكإطلاق لفظ الطبيعتين على لاهوته وناسوته إِلَى مَا عِنْدهم من الهذيانات الَّتِي هِيَ محَال بالضروريات وَقد قدمنَا فِي ذَلِك مَا يغنى عَن إِعَادَته وَاعْلَم أَن النَّصَارَى يدعونَ أَن الْيَهُود قتلت الْمَسِيح عِيسَى يَقِينا وَأَن الْيَهُود يدعونَ أَنهم قتلوا رجلا ادّعى نسخ التَّوْرَاة بعد أَن ادّعى النُّبُوَّة وَلم يقم عَلَيْهَا شَاهدا وَنحن ندعى أَن عِيسَى ابْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام لم يقْتله الْيَهُود وَلَا غَيرهم بل رَفعه الله إِلَيْهِ من غير قتل وَلَا موت وَنحن نبين أَن الْفَرِيقَيْنِ فِي شكّ مِنْهُ وَغير عَالمين بِشَيْء مِمَّا يَدعُونَهُ فِي صلبه فَنَقُول إِن مُسْتَند النَّصَارَى فِي قَوْلهم بالصلب إِنَّمَا هُوَ الْإِنْجِيل وَقد بَينا فِيمَا تقدم أَنه قَابل للتحريف والتبديل وَقد أرينا فِيهِ التَّنَاقُض والتحريف عيَانًا وأوضحنا على ذَلِك برهانا مَعَ مَا قدمنَا من أَن نَقله لَيْسَ نقلا متواترا يُفِيد الْعلم وَهَذَا يكفى مَعَ أَنهم لَيْسُوا عَالمين بِشَيْء مِمَّا يتضمنه وَلَو سلمنَا أَنه متواتر يحصل بنقله الْعلم لقلنا أَن الْأَخْبَار الَّتِي فِيهِ الَّتِي تَتَضَمَّن الصلب لَا تنص نصية قَاطِعَة للشَّكّ على أَن المصلوب هُوَ الْمَسِيح بِعَيْنِه بل هِيَ مُحْتَملَة لِأَن المصلوب غَيره وَلم تتفطن النَّصَارَى بغباوتهم لوجوه الإحتمال وَنحن نسرد نصوصهم فِي أَنَاجِيلهمْ ونبين ذَلِك وَوجه الإحتمالات فِيهَا إِن شَاءَ الله مستعينين بِهِ ومتوكلين عَلَيْهِ قَالَ متاؤوش فِي إنجيله وقف على الْمَسِيح يهوذا أحد الإثنى عشر وَمَعَهُ جمَاعَة برماح وَعصى وَكَانَ مَعَهم قواد القسيسين وأكابر بني إِسْرَائِيل وَكَانَ يهوذا قد قَالَ لأولئك الأعوان من قبطته من الْجَمَاعَة فَهُوَ

المُرَاد فاحبسوه وَفِي ذَلِك الْوَقْت دنا يهوذا إِلَى ياشوا وَقَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا معلم فَقَالَ لَهُ ياشوا يَا صديق لم أَقبلت هُنَا فَعِنْدَ ذَلِك تعلّقت الْجَمَاعَة بِهِ وحبسته زَاد ماركش أَنه لما قبضوا عَلَيْهِ تخلى عَنهُ التلاميذ وهربوا فَاتبعهُ شَاب عُريَانا وَهُوَ ملتف فِي رِدَائه فقبضوا عَلَيْهِ فَأسلم لَهُم الرِّدَاء وَنَجَا عُريَانا زَاد لوقا أَن بلاط لما أخبر أَنه جلجالي وَعلم أَنه من طَاعَة هيرودس بَعثه إِلَيْهِ زَاد فِي إنجيل يوحنا أَن ياشوا تقدم لجَماعَة وَقَالَ لَهُم من تُرِيدُونَ فَقَالُوا لَهُ ياشوا الناذري فَقَالَ لَهُم ياشوا أَنا هُوَ وَكَانَ يهوذا المدل عَلَيْهِ مَعَهم وَاقِفًا فَلَمَّا قَالَ لَهُم أَنا هُوَ قهقروا إِلَى خلف فتساقطوا فِي الأَرْض ثمَّ دنا مِنْهُم وَقَالَ لَهُم من تُرِيدُونَ فَقَالُوا لَهُ ياشوا الناذري فَقَالَ لَهُم من تُرِيدُونَ فَقَالُوا لَهُ ياشوا الناذري فَقَالَ لَهُم ياشوا قد قلت لكم إِنِّي أَنا هُوَ فَإِن كُنْتُم إِنَّمَا تريدونني أَنا فأطلقوا سَبِيل هَؤُلَاءِ وَذكر مَتى أَن يهوذا الدَّال عَلَيْهِ لما أبْصر مَا فعل بِهِ نَدم ورد الثَّلَاثِينَ درهما على قواد القسيسين وَقَالَ أَخْطَأت إِذْ سلمت دَمًا صَالحا فَقَالُوا لَهُ مَا علينا أَنْت ترى فَألْقى الدارهم فِي الْبَيْت وَتوجه إِلَى مَوضِع خنق فِيهِ نَفسه

منها

هَذِه نُصُوص أَنَاجِيلهمْ ومستند إعتقاداتهم لَيْسَ شَيْء مِنْهَا يدل دلَالَة قَاطِعَة على أَن المصلوب هُوَ الْمَسِيح بِعَيْنِه بل إِذا اعْتبر الْعَاقِل تِلْكَ الحكايات الْمَذْكُورَات ولفق متلفقها وحقق النّظر فِيهَا تفطن لموْضِع الأشكال وتنبه لمثار الشَّك فِيهَا والإحتمال وَنحن نبين ذَلِك بعون الله فَنَقُول مَا سودناه من أَنَاجِيلهمْ فِيهِ أحتمالات مِنْهَا أَن يهوذا كذب للْيَهُود فِي قَوْله هُوَ ذَا فَإِن الْيَهُود كَانَت لَا تعرفه وَلم تَأْخُذهُ إِلَّا بِشَهَادَتِهِ أَنه هُوَ أَلا ترى أَن يهوذا عرفهم إِيَّاه بالعلامة وَكَذَلِكَ يدل على ذَلِك سُؤَالهمْ عَنهُ وَكَذَلِكَ سُؤال بلاط عَن بَلَده حِين أخبر أَنه من جلجال يدل على أَنه كَانَ لَا يعرفهُ فَهَذَا كُله يدل على أَنهم كَانُوا لَا يعرفونه وَإِنَّمَا عولوا فِي تَعْيِينه لَهُم على يهوذا فَإِذا ثَبت ذَلِك فَيحْتَمل أَن يكون يهوذا إِنَّمَا أَشَارَ إِلَى غَيره لِأَنَّهُ كَانَ نَدم على بَيْعه كَمَا تقدم نَصه فِي كتبكم وَيدل على أَنه تَابَ من ذَلِك وَنَدم عَلَيْهِ وَحسنت تَوْبَته قَول عِيسَى لَهُ فِيمَا زعمتم حِين سلم عَلَيْهِ يَا صديق لم أَقبلت وَلَو كَانَ مصرا على الدل عَلَيْهِ وعَلى مَا كَانَ هم بِهِ لما كَانَ يحل لعيسى أَن يَقُول لَهُ يَا صديق فَإِنَّهُ كَانَ يكون كَافِرًا وَلَا يُمكن أَن يَقُول للْكَافِرِ يَا صديق فَإِنَّهُ كذب لِأَن الْكَافِر عَدو فَيلْزم هُنَا أحد ثَلَاثَة أُمُور أما أَن يكون يهوذا تَابَ فِي ذَلِك الْوَقْت وَنَدم على مَا فرط مِنْهُ فعفى عَنهُ وتوبته لَا تصح فِي تِلْكَ الْحَال أعنى حَال الدّلَالَة عَلَيْهِ إِلَّا بِأَن يعدل عَنهُ وَلَا يدل عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ فعل وَالله أعلم أَو يكون عِيسَى كَاذِبًا فِيمَا قَالَ لَهُ حَيْثُ أخبر أَنه صديق وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام منزه عَن الْكَذِب أَو يكون كتابكُمْ بَاطِلا ومحرفا فَاخْتَارُوا من هَذِه الثَّلَاث وَاحِدَة وَأي شَيْء التزمتم مِنْهَا فَهِيَ مبطلة لقولكم وفاسدة

ومنها

وَيدل على حسن تَوْبَته وصدقها أَنه رمى بِالدَّرَاهِمِ واعترف بالخطية وَقتل نَفسه وَهَذَا يدل على غَايَة الصدْق فِي النَّدَم ومقصود هَذَا الْكَلَام أَن يهوذا نَدم وَلَا بُد على مَا فرط مِنْهُ فَيحْتَمل أَن يكون دلّ على غَيره من أَصْحَابه وَأَن ذَلِك الْغَيْر رضى بِأَن يقتل مَكَان الْمَسِيح فتعرض بِنَفسِهِ للْيَهُود فَأَخَذُوهُ وَرفع عِيسَى مَكَانَهُ إِلَى السَّمَاء كَمَا رفع أَخْنُوخ النَّبِي وَهُوَ إِدْرِيس عَلَيْهِ السَّلَام وَهَذَا كَمَا تَقولُونَ أَنْتُم أَنه لما صلب وحيى اجْتمع بِأَصْحَابِهِ بجلجال ثمَّ رفع إِلَى السَّمَاء فقد توافقنا على الرّفْع وَأَنْتُم تَقولُونَ أَنه بعد الصلب والصفع والإهانة وَنحن نجله ونكرمه عَن ذَلِك ونقول أَنه رفع من غير صلب وإهانة بل صانه الله من أَن يظفر بِهِ عدوا وأكرمه حَتَّى أحله مَكَانا عليا وَلَو كُنْتُم عقلاء لجحدتم أَمر الصلوبية وَلم تعترفوا بهَا ولقبلتم قَوْلنَا فِيهَا وَلَو فَعلْتُمْ ذَلِك لَكَانَ أليق بكم وأستر لجهلكم فَإِنَّكُم تُرِيدُونَ أَن تجمعُوا بَين نقيضين حَيْثُ حكمتم عَلَيْهِ بأمرين محالين الهية وصلوبية وَمِنْهَا أَن يحْتَمل أَن يكون الْمَسِيح فِي الْجَمَاعَة الَّذين أطلق الأعوان سبيلهم وَكَانَ الْمُتَكَلّم مَعَهم غَيره مِمَّن يُرِيد أَن يَبِيع نَفسه من الله ويقى الْمَسِيح بِهِ فَقَالَ ذَلِك الْمُتَكَلّم أَنا الْمَسِيح فحبسوه وخلوا سَبِيل غَيره فانفلت الْمَسِيح فِي جُمْلَتهمْ ويقوى هَذَا الإحتمال أَن يهوذا كَانَ وَاقِفًا نَاحيَة وَلم يُنَبه عَلَيْهِ لكَونه كَانَ نَادِما لما قد تبين وَبعد ذَلِك رفع وَمِنْهَا أَن أُولَئِكَ الأعوان أخذُوا عَلَيْهِ رشوة فأطلقوه وعَلى هَذَا يدل حَدِيث رِدَاء الشَّاب حَيْثُ قَالَ ماركش إِن الشَّاب أسلم اليهم الرادء لما تقبضوا عَلَيْهِ وَإِذا جَازَ أَن يَأْخُذ يهوذا الأشكريوث وَهُوَ حواريه على قَتله ثَلَاثِينَ درهما جَازَ أَن يَأْخُذ الأعوان على إِطْلَاقه رِدَاء

ومنها

وَمِنْهَا أَنه لَا يبعد أَن يكون الله تَعَالَى رفع الْمَسِيح إِلَى السَّمَاء وصور لَهُم شَيْطَانا أَو غَيره بِصُورَة تشبه صورته فاعتقدوا أَنه هُوَ فصلبوه وَإِلَى هَذَا يشيء سُكُوته حَيْثُ سَأَلُوهُ فَسكت وَلم يجاوبهم وَفِي الْوَقْت الَّذِي تكلم لَهُم نزلت تِلْكَ الصُّورَة نَفسهَا مَنْزِلَته وَهَذَا كُله مُمكن لَا يَدْفَعهُ عقل فَإِن الله على كل شَيْء قدير وَلَا يَدْفَعهُ ايضا نقل فَإِن كل مَا نقلتموه لَيْسَ نصا قَاطعا وَلَا نقل نقلا متواترا فَحصل من هَذَا أَنكُمْ غير عَالمين بصلبه وَلَا موقنين بقتْله وَأما الْيَهُود فليسوا أَيْضا عَالمين بِشَيْء من ذَلِك إِذْ لَا يصدقون كتابكُمْ وَلَيْسَ عِنْدهم نقل متواتر بذلك على التَّفْصِيل وغايتهم أَن يعتقدوا على الْجُمْلَة أَن رجلا كَانَ فِيمَا مضى غير بعض أَحْكَام التَّوْرَاة فَشهد عَلَيْهِ بذلك فَقتل وَكِتَابكُمْ يدل على أَنهم إِنَّمَا قتلوا رجلا شهد لَهُم فِيهِ يهوذا الأشكريوث أَنه الْمَسِيح الَّذِي ادّعى أَنه ابْن الله فَحصل من هَذَا أَن الْيَهُود فِي شكّ مِنْهُ وأنكم أَنْتُم على غير علم بِهِ وَهَكَذَا قَالَ كتاب الله النَّاطِق على لِسَان رَسُوله الصَّادِق {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صلبوه وَلَكِن شبه لَهُم وَإِن الَّذين اخْتلفُوا فِيهِ لفي شكّ مِنْهُ مَا لَهُم بِهِ من علم إِلَّا اتِّبَاع الظَّن وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا بل رَفعه الله إِلَيْهِ وَكَانَ الله عَزِيزًا حكيما} وَحين بَينا أَنهم فِي شكّ من الصلوبية يَنْبَغِي أَن نتتبع بِالنَّقْضِ كَلَامهم الْمُتَقَدّم فَنَقُول أما قَوْلهم من رَحمته على النَّاس أَنه رضى بهرق دَمه عَنْهُم فِي خشيَة الصلب فتواقح لَا يفوه بِهِ من لَهُ من الْحيَاء أقل نصيب يَا عجبا كَيفَ يجترئ أَن ينْطق بِهَذِهِ القبائح عَاقل أم كَيفَ يرضى لنَفسِهِ بِمثل هَذِه المخازي فَاضل وهلا كَانَ يرحم عباده بِأَن يغْفر لأبيهم وَلَا يحْتَاج إِلَى هَذَا كُله أَو لَيْسَ كَانَ يكون غفران الذَّنب أَهْون عَلَيْهِ ابْتِدَاء وأليق بالحكمة وَالرَّحْمَة والرأفة من أَن يُعَاقب من لم يجن ثمَّ ذَلِك المعاقب الَّذِي لم يجن الذَّنب ابْنه بل وَهُوَ عنْدكُمْ

نَفسه بإعتبار مَا حل فِيهِ مِنْهُ فَلم يرض من عُقُوبَة الذَّنب الَّذِي جناه آدم حَتَّى عاقب نَفسه أَو ابْنه فَأنْتم فِي هَذَا القَوْل الوقاح والإفك الصراح بِمَنْزِلَة رجل أَخطَأ عَلَيْهِ عَبده فبقى بعد مُدَّة غاضبا عَلَيْهِ وعَلى غَيره من عبيده نَاوِيا على معاقبتهم حَتَّى ولد لنَفسِهِ ولد فَعمد إِلَيْهِ فَقتله بذنب العَبْد الَّذِي كَانَ أذْنب ثمَّ لم يقنع بذلك حَتَّى ضرب نَفسه ولامها وأهانها على مَا صنع عَبده مَعَ أَنه قد كَانَ مُتَمَكنًا من أَن يغْفر لعَبْدِهِ وَلَا يفعل هَذَا بولده وَلَا بِنَفسِهِ فَأَي تشف يحصل لَهُ مِمَّا فعل بل يحصل لَهُ كل ألم وَنقص وخلل مثل السَّفِيه الأحمق الْجَاهِل بل يزِيدهُ ذَلِك فِي كربته وَيَدْعُو إِلَى دوَام حزنه وحسرته ويلزمكم على ذَلِك أَن يكون الله تَعَالَى لم يتب على آدم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا بعد أَن صلب الْمَسِيح وَبِذَلِك تَكْذِيب كتب الْأَنْبِيَاء فَإِنَّهَا تقتضى أَن آدم بَكَى على خطيته ودعا الله تَعَالَى حَتَّى تَابَ عَلَيْهِ واجتباه ويلزمكم أَيْضا عَلَيْهِ أَن يكون نوح وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَمَا بَينهم من النَّبِيين عصاة بذنب آدم حَتَّى صلب عِيسَى وَحِينَئِذٍ غفر لَهُم وَقد صرح بعض أقستكم لَعنه الله أَن آدم وَجَمِيع وَلَده إِلَى زمَان عِيسَى كَانُوا كلهم ثاويين فِي الْجَحِيم بخطيئة أَبِيهِم حَتَّى فداهم عِيسَى بهرق دَمه فِي الْخَشَبَة فَلَمَّا صلب نزل جَهَنَّم وَأخرج مِنْهَا جَمِيعهم إِلَّا يهوذا الأشكريوث فَانْظُر هَل يستجرئ مَجْنُون موسوس على أَن يَقُول أَن نوحًا وَإِبْرَاهِيم الْخَلِيل ومُوسَى الكليم وَمن بَينهم من النَّبِيين مثل يَعْقُوب وَإِسْحَق وَغَيرهمَا من الْأَبْنَاء صلوَات الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ كلهم فِي نَار الْجَحِيم وَالْعَذَاب الْأَلِيم وَفِي السخط الْعَظِيم حَتَّى صلب الْإِلَه نَفسه وإبنه فَانْظُر هَل سبّ الْأَنْبِيَاء بأقبح من هَذِه الشتائم أَو هَل تجرأ أحد قطّ أَن يَقُول على الله وعَلى رسله مثل هَذِه العظائم فسبحان الْحَلِيم الَّذِي يمهلكم والكريم الَّذِي يرزقكم وَلَكِن إِنَّمَا يعجل من يخَاف الْفَوْت أَو يجزع من الْمَوْت {وَيَوْم الْقِيَامَة ترى الَّذين كذبُوا على الله وُجُوههم مسودة أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للمتكبرين}

ثمَّ يلزمكم عَلَيْهِ أَيْضا نِسْبَة الله إِلَى الْجور وَإِلَى أَنه يَأْخُذ بالذنب غير فَاعله ويعاقب على الزُّور غير قَائِله وَهَذَا يهون عَلَيْكُم إِذْ لَيْسَ للإله قدر عنْدكُمْ إِذْ قد صرحتم بِأَن آدم ظلمه وَأَنه لَا يُمكن أَن ينْتَقم مِمَّن ظلمه واستهان بِقَدرِهِ فياليت شعري لأي شَيْء لم يُمكنهُ أَن ينْتَقم من عَبده الْعَاجِز عَن ذَلِك أم لِأَنَّهُ لَا يقدر على عِقَاب أحد مِمَّن هُنَالك أم بحكمة أَنه يُعَاقب غير الْجَانِي أم لحكمة قتل وَلَده فِي جِنَايَة عَبده قاتلكم الله مَا أسخف عقولكم وَمَا أرك فروعكم وأصولكم ثمَّ أعجب من ذَلِك أَنهم يَقُولُونَ الْكَلِمَة هِيَ الله وَالله هُوَ الْمَسِيح ثمَّ يَقُولُونَ إِنَّه لم يُمكنهُ أَن ينْتَقم من عَبده العَاصِي الَّذِي ظلمه وَإِنَّمَا انتقم من إِلَه مثله فَانْظُر إِلَى هَذَا التَّنَاقُض الشنيع كَيفَ يعتقدونه تَارَة أَنه هُوَ فَيلْزم عَلَيْهِ أَنه هُوَ المنتقم والمنتقم مِنْهُ والمعاقب والمعاقب وَتارَة يَعْتَقِدُونَ أَن الإهانة والصلب لم يحل بلاهوته بل حل بناسوته وناسوته لَيْسَ بإله فَيلْزم على هَذَا القَوْل الآخر أَنه لم ينْتَقم من إِلَه مثله وَكَيف مَا كَانَ فالتناقض لَهُم لَازم والمحال وَهَكَذَا يفعل الله بالجهال أهل الضلال ثمَّ انْظُر سخف جرأتهم على الْكَذِب وَقَوْلهمْ بالمحال من غير سَبَب حَيْثُ قَالَ فَأَخَذُوهُ وصلبوه فغار دَمه فِي اصبعه وَهَذَا لم يرد مِنْهُ شَيْء فِي كتبهمْ بل هُوَ من كذبهمْ وإختراعهم وَلَو كَانَ هَذَا حَقًا لَكَانَ أولى بِالنَّقْلِ من نقلهم جعل الصَّلِيب على عُنُقه وَأَنه رفع إِلَيْهِ إِنَاء خل ليشربه وَكتب على خشبته بالرومية والعبرانية والعجمية هَذَا ملك الْيَهُود فَهَذَا ولابد كذب وتواقح فَإِن كابروا فِي ذَلِك على عَادَتهم قُلْنَا لَهُم فَأتوا بالإنجيل فاتلوه إِن كُنْتُم صَادِقين ثمَّ انْظُر كَيفَ تنَاقض ذَلِك الْمُتَكَلّم على الْفَوْر فِي قَوْله لِأَنَّهُ

لَو وَقع شَيْء من دَمه على الأَرْض ليبست ثمَّ إِنَّه أثر ذَلِك قَالَ أَلا شَيْء وَقع فِيهَا نبت مِنْهُ النوار فَكيف يَصح فِي عقل مَجْنُون فأحرى فِي عقل عَاقل أَن يتَكَلَّم بِمثل هَذَا الهذيان أَو يسْتَحل أَن يَتَحَرَّك لَهُ بذلك لِسَان فَإِنَّهُ كذب فَاسد متناقض فلعمري لَو أَن شَيْطَانا يتقول على ألسنتهم وَهُوَ يُرِيد الإضحاك بهم مَا بلغ مِنْهُم بِأَكْثَرَ مِمَّا بلغُوا من أنفسهم بِهَذَا القَوْل السفساف الَّذِي اتّفق الْعُقَلَاء على فَسَاده وإستحالته من غير خلاف وَلَقَد أحسن بعض عقلاء الشُّعَرَاء فِي إفحام هَؤُلَاءِ الأغبياء فَقَالَ ... عجبى للمسيح بَين النَّصَارَى ... وَإِلَى أَي وَالِد نسبوه أسلموه إِلَى الْيَهُود وَقَالُوا ... أَنهم بعد قَتله صلبوه فَإِذا كَانَ مَا تَقولُونَ حَقًا ... وصحيحا فَأَيْنَ كَانَ أَبوهُ حِين حل ابْنه رهين الأعادي ... أَترَاهُم قد رضوه أم أغضبوه فلئن كَانَ رَاضِيا بأذاهم ... فاحمدوهم لأَنهم عذبوه وَإِذا كَانَ ساخطا فاتركوه ... واعبدوهم لأَنهم غلبوه ... فقد جعلتم أَنفسكُم ضحكة الْعُقَلَاء حَيْثُ ارتكبتم كل قبيحة شنعاء وَمَا بالنا نطول الْكَلَام مَعَ من تبين عارهم ومحالهم للخاص وَالْعَام فَقدر هَؤُلَاءِ الْقَوْم عِنْد الْعُقَلَاء أَحْقَر من قلامة فِي قمامة وأخس من بقة فِي حَقه وَلَوْلَا أَن هذيانهم ومحالهم طبق الْوُجُود لما كَانَ يَنْبَغِي أَن يتَكَلَّم مَعَهم من الْعُقَلَاء مَوْجُود فَإِن الْكَلَام مَعَهم مخل بالعقول محوج لحكاية القبائح والفضول وَقد قدمت فِي صدر الْكتاب مَا يمهد الْعذر ويزيل العتاب وَأَنا اسْتغْفر الله الْعَظِيم الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم وأسأله التَّوْبَة من حِكَايَة قبائحهم وأسأله جزيل الْأجر فِي إبداء فضائحهم

مسألة في تركهم الختان

مَسْأَلَة فِي تَركهم الْخِتَان لَا خلاف بَينهم أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ مختونا وَأَن الْخِتَان من أَحْكَام التَّوْرَاة وثابت فِيهَا وَإِن أنكر ذَلِك متواقح جَاهِل ذكرنَا لَهُ نَص التَّوْرَاة قَالَ فِي التَّوْرَاة إِذْ حبلت امْرَأَة وَولدت ذكرا تكون نَجِسَة سَبْعَة أَيَّام كَمَا تكون أَيَّام حَيْضَتهَا وَفِي الْيَوْم الثَّامِن يختن الصَّبِي ونكون نَجِسَة تجْلِس مَكَانهَا ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَهَذَا نَص لَا إِشْكَال فِيهِ ثمَّ إِن النَّصَارَى بتحكمهم وإستهانتهم بالشرائع تركُوا الْعَمَل وَذَلِكَ من غير أصل يعتمدون عَلَيْهِ ولانسخ يثبت عِنْدهم لَهُ وَمن ادّعى مِنْهُم شَيْئا من ذَلِك طالبناه بِنَصّ من الْإِنْجِيل وَلَيْسَ لذَلِك من سَبِيل غير التحكم بالقال والقيل وَقد وجدت فِي كتبهمْ الْفِقْهِيَّة أَنهم قَالُوا فِي تَأْوِيل حكم الْخِتَان قولا أَتَوا فِيهِ على التَّوْرَاة بِالْبَاطِلِ والبهتان قَالُوا إِنَّمَا عَنى بالختان نقاوة الْقُلُوب وصفاء النِّيَّة وَذَهَاب الغلوفة كَالَّذي يَقُول الْكتاب عَن الْيَهُود إِن رقابهم قاسية وَقُلُوبهمْ غلف وَلذَلِك علمنَا أَن الله استقذر غلوفة الْقلب وَلَيْسَ غلوفة اللَّحْم فَمَا على الْإِنْسَان أَن يختن لَحْمه إِذْ لامنفعة لَهُ فِي ذَلِك فَمن شَاءَ اختتن وَمن شَاءَ ترك وَالْأَحْسَن أَن تتْرك الأجساد تَامَّة غير نَاقِصَة كَمَا بهَا خلقنَا الله عز وَجل هَذَا نَص كَلَامهم فِي كتبهمْ فَانْظُر أَيهَا الْعَاقِل إِن كنت منصفا مَا الَّذِي ارتكبوه من العظائم ونسبوه إِلَى الله وَرُسُله من الشائم فأولها أَنهم كذبُوا على الله حَيْثُ قَالُوا إِنَّمَا أَرَادَ الله بِهَذِهِ الحكم إِزَالَة غلوفية الْقُلُوب وَلَو كَانَ ذَلِك حَقًا لبينه مُوسَى للنَّاس وَلما جَاءَهُم بالختان وَلما فعله وَلما فعل بِيَحْيَى وَعِيسَى وَسَائِر الْأَنْبِيَاء الَّذين حكمُوا بِالتَّوْرَاةِ وَلم يزَالُوا يختتنون ويأمرون بالختان إِلَى زمَان الْمَسِيح ثمَّ إِن الْمَسِيح لم ينْه عَنهُ وَلَا أَمر بِتَرْكِهِ فَهَذَا على الله وَرُسُله كذب صراح وَقَول وقاح

وثانيها

وَثَانِيها أَنهم سفهوا أَحْكَام الله ورسل الله حَيْثُ قَالُوا لَا مَنْفَعَة فِي ذَلِك مَعَ أَن الله قد حكم بِهِ وشرعه وَبلغ ذَلِك أنبياؤه وَرُسُله وعلموه النَّاس فَكيف يجوز على الله وعَلى أنبيائه أَن يتعبدوا النَّاس بِحكم لَا فَائِدَة لَهُ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة فَهَذَا غَايَة الإفتراء على الله وعَلى رسله ثمَّ يلْزمهُم على ذَلِك أَن يَكُونُوا عابثين فِي أفعالهم وَأَن وجود الشَّرَائِع وَعدمهَا بِمَثَابَة وَاحِدَة وَكَذَلِكَ إرْسَال الرُّسُل وإنزال الْكتب وَلَا كفر أعظم من هَذَا ثمَّ إِنَّا نبدي فَوَائِد الْخِتَان حَتَّى يظْهر كذبهمْ وجهلهم وتواقحهم لكل إِنْسَان ونقول فِي الْخِتَان فَوَائِد كَثِيرَة مِنْهَا أَولا أَنَّهَا عبَادَة فِي بدن الْإِنْسَان إِذا فعلهَا أثيب وَإِن تَركهَا عُوقِبَ على القَوْل بِوُجُوبِهِ وَلَا فَائِدَة أعظم من هَذَا وَثَانِيا أَنه لَا يَتَأَتَّى مَعَ وجود الغلفة مُبَالغَة فِي النَّظَافَة وَمَعَ زَوَالهَا يَتَأَتَّى ذَلِك وثالثا أَنه ألذ فِي الْجِمَاع وأسرع لمجئ شَهْوَة الوقاع وَمَعَ وجودهَا يكون أبعد للشهوة وَقد تكون الغرلة إِذا طَالَتْ مكسلة عَن الْإِنْزَال ورابعا أَن خُرُوج المَاء الدافق من غير غلفة وإنزعاجه أَشد فَإِن الغلفة إِذا طَالَتْ رُبمَا نقصت من إنزعاجه وفترته وَإِذا كَانَ كَذَلِك وَخرج المَاء فاترا قد لَا يَقع فِي الْمحل الَّذِي ينْعَقد فِيهِ النُّطْفَة فَلَا ينْعَقد الْوَلَد وَيكون هَذَا كالعزل ومقصود الشَّرْع فِي الْغَالِب تَكْثِير النَّسْل فَهَذِهِ أَربع فَوَائِد مُحَققَة لَا يتَصَوَّر إنكارها وَقد لَا يبعد أَن يقْصد الشَّرْع جَمِيعهَا أَو بَعْضهَا فَإِذن قد تبين أَن النَّصَارَى كذبُوا على الله وجهلوا شرع الله وَثَالِثهَا أَنهم تركُوا حكم الله بالتوهم بل بالهوى والتحكم وتأولوا من غير حَاجَة للتأويل وَرفعُوا النَّص والتنزيل فهم أهل التحريف والتبديل ثمَّ الْعجب من كذبهمْ وَظُهُور تناقضهم حَيْثُ حكوا عَن عِيسَى أَنه قَالَ لم آتٍ لأنقض شَرِيعَة من قبلي وَإِنَّمَا أتيت

ورابعها

لأتممها فَإِن كَانَ هَذَا القَوْل حَقًا عِنْدهم فلأي شَيْء نقضوا شَرِيعَة من قبله حرفا حرفا وَإِن كَانَ كذبا فكفاك بذلك فَسَادًا وخلفا وَرَابِعهَا أَنهم لما نقضوا حكم الله فضلوا بحكمهم وأهوائهم على شرع رَسُول الله حَيْثُ قَالَ وَالْأَحْسَن أَن تتْرك الْأَجْسَام تَامَّة غير نَاقِصَة وَهَذِه مُبَالغَة فِي تسفيه مُوسَى والنبيين وَفِي تسفيه الْمَسِيح فَإِنَّهُم قد تركُوا الْأَحْسَن وفعلوا الأسوأ والأفسد فَاعْتبر أَحْوَالهم فَمَا أعجبها وجهالاتهم فَمَا أغربها مذمومون وهم يتوهمون أَنهم يمدحون ومخالفون ويظنون أَنهم متبعون ثمَّ مَعَ ظُهُور عَوْرَاتهمْ لكل عَاقل يتعرضون للشريعة الصَّحِيحَة بِكُل جهل وباطل ويموهون بخرافات وترهات لَا يلْتَفت إِلَيْهَا عَاقل يظنون أَن دين الْإِسْلَام كدينهم الْمُسْتَند إِلَى الترهات والأوهام الَّتِي لَا يقبلهَا سليم الْفطْرَة من الْعَوام وسنبين أصُول دين الْإِسْلَام ومستنداتهم فِي أحكامهم بحول الله فِي الْفَنّ الثَّانِي من هَذَا الْبَاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى مسأله فِي صِيَامهمْ قَالَ حَفْص بن الْبر مِنْهُم فِي بعض كتبه وَقد سَأَلَهُ سَائل عَن صِيَامهمْ فَقَالَ أول من صَامَ الْأَرْبَعين يَوْمًا مُوسَى ابْن عمرَان وَبعد ذَلِك صامها إلْيَاس النَّبِي الَّذِي رَفعه الله فِي عصر بني إِسْرَائِيل ثمَّ بعد ذَلِك صامها الْمَسِيح وَأما الْعلمَاء فأكملوا ثَلَاثَة وَأَرْبَعين يَوْمًا وَإِنَّمَا هِيَ عشر أَيَّام السّنة كَمَا قَالَ بولش الْحوَاري فِي بعض رسائله كَمَا تؤدون العشرات من أَمْوَالكُم فأدوا العشرات من أبدانكم فَهَذَا هُوَ الصّيام الْمَفْرُوض اعْلَم يَا هَذَا أَن هَذَا القس الَّذِي هُوَ حَفْص هُوَ من أكيسهم وأفصحهم على أَنه لَيْسَ فِي الْقَوْم رجل رشيد وَلَا ذُو عقل سديد وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِك لِأَنَّهُ قد ضربت عَلَيْهِ الْجِزْيَة وَلَزِمَه الصغار والذلة إِذْ كَانَ قد نَشأ فِي ذمَّة الْمُسلمين وَتعلم من علومهم مَا فاق بِهِ النَّصَارَى أَجْمَعِينَ

وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر

وَمَعَ ذَلِك فَإِذا أَخذ يتَكَلَّم فِي عُلُوم النَّصَارَى وأحكامهم تلجلج لِسَانه وَقصر بَيَانه لِأَنَّهُ ينزل على آرائهم الْفَاسِدَة وتحكماتهم الْبَارِدَة وَهل يصلح الْعَطَّار مَا أفسد الدَّهْر نبين لَك يَا هَذَا أَن كَلَامه فِي هَذَا الْفَصْل فَاسد واحتجاجه بَارِد وَذَلِكَ أَنه ادّعى أَن صَوْم الثَّلَاثَة وَالْأَرْبَعِينَ وَاجِب وَحين أَخذ يسْتَدلّ على وُجُوبهَا اسْتدلَّ على وجوب الْأَرْبَعين ثمَّ أخبر أَن علماءهم زادوا من عِنْد أنفسهم ثَلَاثَة أَيَّام فَنَقُول لَهُم وَهَذِه الثَّلَاثَة الْأَيَّام الَّتِي ادعيتم وُجُوبهَا هَل علم مُوسَى وَعِيسَى وَمن بَينهمَا من الْأَنْبِيَاء أَنَّهَا من فرض الصّيام أَو لم يعلمُوا فَإِن كَانُوا قد علمُوا فلأي معنى لم يبلغُوا وَلم يبينوا وَيلْزم مَعْصِيّة الْأَنْبِيَاء من وَجْهَيْن من حَيْثُ أَنهم لم يَصُومُوا مَا هُوَ فرض الله وَمن حَيْثُ لم يبلغُوا الشَّرْع وَذَلِكَ محَال عَلَيْهِم وَإِن كَانُوا لم يعلمُوا وجوب هَذِه الْأَيَّام الثَّلَاثَة فَمن أَيْن علم الْجُهَّال أمثالكم وُجُوبهَا وَالْأَحْكَام إِنَّمَا تستند إِلَى أَقْوَال الْأَنْبِيَاء وكتبهم فَإِن قَالُوا أوجبهَا بولش الْحوَاري قُلْنَا ذَلِك هُوَ الَّذِي أفسد عَلَيْكُم أديانكم وأعمى بصائركم وأذهانكم ذَلِك هُوَ الَّذِي غير دين الْمَسِيح الصَّحِيح الَّذِي لم تسمعوا لَهُ بِخَبَر وَلَا وقفتم مِنْهُ على أثر على مَا تقدم هُوَ الَّذِي صرفكم عَن الْقبْلَة وحلل لكم كل محرم كَانَ فِي الْملَّة وَلذَلِك كثرت أَحْكَامه عنْدكُمْ وتداولتموها بَيْنكُم ويدلك على ذَلِك أَنَّك إِذا سَمِعت لَهُ قولا فِي حكم فتكاد لَا تحده إِلَّا مغيرا للْأَحْكَام الْمُتَقَدّمَة مُخَالفا لَهَا فَتَارَة يزِيد وَأُخْرَى ينقص وَأُخْرَى يرفع يعرف هَذَا من وقف على كتبهمْ وعَلى مَا ينقلون عَنهُ ثمَّ لَو سلمنَا أَنه لم يفعل شَيْئا من ذَلِك لما كَانَ يَنْبَغِي لكم أَن تَأْخُذُوا بقوله وتتركوا فعل مُوسَى وَعِيسَى والياس وَقَوْلهمْ وَهل فعل ذَلِك إِلَّا جهل لَا يَنْبَغِي أَن يُصَار إِلَيْهِ وَلَا يلتزمه أحد حكما عَلَيْهِ فَإِن المبلغين عَن الله المبينين شرع الله إِنَّمَا هم مُوسَى وَعِيسَى وَمن تنزل مَنْزِلَتهمْ وبإتفاق مِنْكُم أَن بولش

مسألة في أعيادهم المصانة

لَيْسَ منزلا منزلَة مُوسَى وَلَا منزلَة عِيسَى وغايته إِذا سلم مِمَّا ذكر عَنهُ فِي كتب التواريخ أَن يكون حواريا لم تكْثر صحبته لعيسى بل صَحبه أَيَّامًا قَلَائِل بِدَعْوَاهُ وَلَيْسَت صحبته لَهُ كصحبة متاؤوش وَلَا يوحنا وَلَا أحد من الْأَحَد عشر حواريا ثمَّ لَو سلمنَا أَنه صُحْبَة صحبتهم فَلَعَلَّهُ ارْتَدَّ بعد رفع عِيسَى كَمَا فعله الأشكريوث بزعمكم ثمَّ لَو سلمنَا أَنه لم يرْتَد فَمن أَيْن يلْزم إتباع حكمه وَلَا سِيمَا إِذا غير الْأَحْكَام الْمُتَقَدّمَة وَحكم بِخِلَافِهَا وَلَيْسَ بِنَبِي وَلَا رَسُول فَإِن قُلْتُمْ إِنَّه نَبِي فقد قدمنَا مَا يكذب قَوْلكُم وَيرد عَلَيْكُم زعمكم فقد تبين من هَذَا أَن حَفْص بن الْبر على جلالة قدره عِنْدهم قبل مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَن يرد ورد مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَن يقبل فَإِنَّهُ رد فعل مُوسَى وَعِيسَى وإلياس وَقبل قَول عَامَّة النَّاس فَهُوَ وهم من الأخسرين أعمالا {الَّذين ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا} وَلَو تتبعنا أَحْكَام صِيَامهمْ لأظهرنا فِيهَا كثيرا من هذيانهم فلنأخذ من كل بَاب مَسْأَلَة وَاحِدَة بحول الله وَحسن عونه مَسْأَلَة فِي أعيادهم المصانة قَالَ حَفْص أما بعد فَإِن الَّذِي أردْت علمه من الأعياد السَّبْعَة الَّتِي أَمر القانون بصيانتها فَهِيَ مَعْرُوفَة فَأول يَوْم مِنْهَا إِذْ بشر جِبْرِيل الْملك مَرْيَم بإيلاد الْمَسِيح وَالْيَوْم الثَّانِي إِذْ ولد الْمَسِيح وَالثَّالِث إِذْ ختن إِلَى ثَمَانِيَة أَيَّام وَالرَّابِع إِذْ ظهر للهجين وأهدوا إِلَيْهِ ذَهَبا ولوبانا وَمَرا وَهُوَ يَوْم النَّجْم وَالْخَامِس يَوْم الفصح إِذْ قَامَ عَن الْقَبْر وَالسَّادِس إِذْ تخطفته السحابة ورقى إِلَى السَّمَاء بِمحضر الحواريين وَالسَّابِع إِذا نزل روح الْقُدس على الحواريين وَتَكَلَّمُوا بِجَمِيعِ الألسن

وَأما غَيرهَا من الْأَيَّام الَّتِي اسْتشْهد فِيهَا الشُّهَدَاء ويصونها النَّاس وَيَتَصَدَّقُونَ فِيهَا على الْمَسَاكِين والضعفاء فَوَاجِب على كل ذِي عقل أَن يصونها إِمَّا فِي مَدِينَة وَإِمَّا فِي قَرْيَة فَنَقُول لَهُ وَلَهُم هَذِه الْأَيَّام المصانة عنْدكُمْ هَل صيانتها وَاجِب عنْدكُمْ بِالشَّرْعِ أَو لَيْسَ وَاجِبا بِالشَّرْعِ فَإِن قَالُوا لَيْسَ بِوَاجِب بِالشَّرْعِ قُلْنَا لَهُم فلأي معنى تعملونها وتلتزمون صيانتها حَتَّى أَن من كَانَ فِي قَرْيَة أَو فِي موطن لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يرتحل عَنهُ حَتَّى يُتمهَا فقد التزمتم مَا لَيْسَ بِلَازِم وأوجبتم مَا لَيْسَ بِوَاجِب فَإِن قَالُوا هِيَ وَاجِبَة بِالشَّرْعِ قُلْنَا لَهُم بِأَيّ شرع وَجَبت بشرع مُوسَى أَو شرع عِيسَى فَإِن قَالُوا بشرع مُوسَى كذبُوا وَقُلْنَا لَهُم {فَأتوا بِالتَّوْرَاةِ فاتلوها إِن كُنْتُم صَادِقين} وَلَا شكّ فِي أَنهم لَا يَجدونَ شَيْئا مِنْهَا فِي التَّوْرَاة وَلَا فِي الْإِنْجِيل وغايتهم أَن يَقُولُوا مَا قَالَ عالمهم حَفْص هَذِه أَيَّام شريع لِأَنَّهَا اتّفق فِيهَا أُمُور شريفة من أَحْوَال الْمَسِيح فَنَقُول لَهُم هَب أَنه اتّفق مَا تَقولُونَ فَمن أخْبركُم من الْأَنْبِيَاء أَنه إِذا أتفق أَمر من تِلْكَ الْأُمُور فافعلوا كَذَا واصنعوا ذَلِك الْيَوْم عيدا وَفِي أَي كتاب من كتبكم وجدتموه وَلَا شكّ فِي أَنهم لَا يَجدونَ شَيْئا مِمَّا ادعوهُ فَلم يبْق لَهُم إِلَّا مَحْض التحكم ثمَّ يلْزمهُم على مساق هَذَا أَن يبحثوا عَن أَيَّام عِيسَى وَعَن عَددهَا ويتخذوا تِلْكَ الْأَيَّام أعيادا فَإِن أَيَّامه كلهَا ومحاضرة كَانَت شريفة إِذْ كَانَت أَيَّامه لَا تَخْلُو عَن كَرَامَة يُكرمهُ الله بهَا وَعَن بركَة من بركاته وَعَن معْجزَة من معجزاته فلأي معنى خصصتم تِلْكَ الْأَيَّام لَوْلَا مَحْض الْهوى والتحكم الْبَاطِل ثمَّ نقُول لَهُم هَل كَانَ عِيسَى يعلم فَضِيلَة تِلْكَ الْأَيَّام أَو لَا يعلم فَإِن كَانَ يعلمهَا فلأي معنى لم يفعل فِيهَا مَا تَفْعَلُونَ أَو لأي معنى لم يبين شَرعه فِيهَا لَو كَانَ لَهُ فِيهَا شرع وَإِن لم يعلم فضيلتها فَكيف لم يعلم هُوَ مَا علمْتُم أَنْتُم ثمَّ كَيفَ يجهل شَيْئا علمتموه أَنْتُم وَهُوَ عنْدكُمْ قد اتَّحد بِهِ علم الله فَحصل من هَذَا أَنَّهَا لَيست فاضلة وَلَا لله فِيهَا حكم إِذْ لَو كَانَت فاضلة لله فِيهَا حكم لعلمها وَلَو علمهَا لبينها فَلَمَّا

لم يعلم وَلم يبين علم أَنه لَيْسَ لله فِيهَا شَيْء مِمَّا اخترعتمون لكنكم تحكمتم بإختراع مَا جهلتم وشرعتم مَا لم يشرع لكم نَبِيكُم فَإِن قَالُوا هَذِه أَيَّام اتخذناها لفعل الْخَيْر نتصدق فِيهَا على مساكيننا ونطعم فِيهَا جياعنا وَهَذِه أَفعَال خير وبهذه جَاءَت الشَّرَائِع كلهَا قُلْنَا لَهُم لَا ننكر أَن الشَّرَائِع جَاءَت بإعانة الْمَسَاكِين لَكِن لم خصصتم لَهَا أَيَّامًا بالتحكم ثمَّ أوجبتم صِيَانة تِلْكَ الْأَيَّام أَو لأي شَيْء لم تَقولُوا أَنه يَنْبَغِي إطْعَام الْمَسَاكِين أبدا وسد خلاتهم مَتى ظَهرت وَلم تحتاجوا إِلَى وضع أَحْكَام بالتوهم وَلَو كُنْتُم موفقين لسلكتم مَسْلَك اتِّبَاع الْمَسِيح تَفْعَلُونَ مَا فعل وتتركون مَا ترك وَلَو فَعلْتُمْ ذَلِك لَكَانَ مُوَافقا لتعظيمه وَلَو فَرضنَا عَبْدَيْنِ أَمرهمَا سيدهما بالإقتداء بِهِ وبإتباع سنته فَأخذ الْوَاحِد مِنْهُمَا يقفو أثر سَيّده فِي أَفعاله فَلَا يزِيد فِيهَا وَلَا ينقص مِنْهَا بل هُوَ مواظب عَلَيْهَا غير خَارج عَنْهَا وَلَا زَائِد فِيهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِك مُعْتَقد لتعظيمه محب لَهُ وَأخذ الآخر يزِيد تَارَة فِي حكم وَينْقص تَارَة من حكم وَهُوَ مَعَ ذَلِك مُعظم لسَيِّده فَلَو فَرضنَا أَن السَّيِّد قَالَ للْأولِ مَا صنعت فِيمَا أَمرتك فَقَالَ لَهُ لم أَزْد على مَا رَأَيْتُك تفعل وَلَا نقصت لِأَنِّي خفتك وَأَيْضًا فَإِنِّي أحبك وأعظمك فأحببتك وأحببت فعلك الَّذِي رَأَيْتُك تَفْعَلهُ فَلَا شكّ أَن الْعُقَلَاء يستحسنون هَذَا الْفِعْل ويرون أَن هَذَا العَبْد فِي أَعلَى دَرَجَات الْعقل وَالطَّاعَة لسَيِّده والمحبة لَهُ والتعظيم وَإِن مثل هَذَا يَنْبَغِي للسَّيِّد أَن يعتقهُ ويثبه وَأما الثَّانِي فَإِذا قَالَ لَهُ سَيّده مَا فعلت فِيمَا أَمرتك فَيَقُول فعلت مَا رَأَيْتُك تفعل وَمَا أَمرتنِي بِهِ إِلَّا أَنِّي زِدْت أفعالا لم تَأْمُرنِي بهَا ونقصت أَيْضا فَإِنِّي تركت أفعالا رَأَيْتُك تفعلها فَيَقُول لَهُ لأي شَيْء زِدْت مَا لم آمُرك بِهِ ونقصت مِمَّا رَأَيْتنِي فعلت فَلَا يَصح لَهُ أَن يَقُول لِأَنِّي عظمتك وأحببتك فَإِن هَذَا لَا يُنَاسب تَعْظِيمه وَلَا محبته بل يُنَاسب بغضه وإهانته فَلَا شكّ أَن الْعُقَلَاء يحكمون أَن مثل هَذَا العَبْد لم يطع سَيّده فِي جَمِيع مَا أمره بِهِ وَأَنه كَاذِب فِي تَعْظِيمه ومحبته وَأَنه مستوجب لنكال سَيّده

مسألة في قربانهم

وَهَذَا الْمِثَال الْأَخير هُوَ مثالكم مَعَ الْمَسِيح فَإِنَّكُم تدعون تَعْظِيمه وتخالفونه فِي أَفعاله وتزيدون عَلَيْهِ فِي أَحْكَامه فَأنْتم مستحقون لتوبيخه وعقاب مرسله ومتجمعكم مَعَ من شرع لكم هَذِه الْأَحْكَام نَار حامية تسمى الهاوية مَسْأَلَة فِي قُرْبَانهمْ قَالَ حَفْص اعْلَم أَن الَّذِي أردْت مَعْرفَته من خبر القربان وَشَرحه أَن الْأَنْبِيَاء وَبني إِسْرَائِيل كَانُوا يقربون القربان على مَا تحكيه التَّوْرَاة العجول والجزر والخرفان فَأَما ملكي صَادِق فَإِنَّهُ أول من قرب القربان من الْخبز وَالْخمر وَكَانَ قسيس الله فِي البدء وَإِلَيْهِ أدّى إِبْرَاهِيم العشرات الْمَفْرُوضَة وَقد حكى دَاوُود النَّبِي فِي الزبُور خبر ملكي صَادِق إِذْ بشر بالمسيح سيدنَا وأنزله مَنْزِلَته وأحله مَحَله وَجعله قسا إِلَى الْأَبَد فَقَالَ الرب أقسم يَمِينا وَلَيْسَ ينْدَم أَنْت أبدا قسيس لي فِي خطة القسيسين على رُتْبَة ملكي صَادِق فَأَما الحواريون وأتباعهم فَإِنَّهُم فرضوا هَذَا القربان الَّذِي يقدسه الأساقفة والقساوس على المذبح من الْخمر وَالْخبْز على مَا تقدم من فعل ملكي صَادِق وكما قَالَ الْمَسِيح فِي الْإِنْجِيل من أكل لحمي وَشرب دمي كَانَ فِي وَكنت فِيهِ وَأما الْخبز النَّازِل من السَّمَاء فَمن أكلني يحيا بِي أنظر مَا أعجب حَال هَؤُلَاءِ فِي تَركهم شَرْعِيَّة التَّوْرَاة فِي القربان وعدولهم عَنْهَا الى مَا هُوَ ضرب من الهذيان وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى افْترض القربان فِي التَّوْرَاة بالعجول والجزر والخرفان كَمَا ذكر وعملت بذلك بَنو إِسْرَائِيل من غير تَغْيِير وَلَا تَبْدِيل إِلَى مُدَّة هَؤُلَاءِ المغيرين لأحكام التَّوْرَاة فغيروا وبدلوا وَعدلُوا إِلَى الْخبز وَالْخمر من غير أَن ينْسَخ لَهُم عِيسَى شَيْئا من ذَلِك وَلَا بدله بِغَيْرِهِ لكِنهمْ يكْرهُونَ الْعَمَل بِأَحْكَام التَّوْرَاة فيعدلون عَنْهَا إِلَى الْعَمَل بأهوائهم

أحدها

مَعَ أَنهم متعبدون بأحكامها إِذْ الْأَحْكَام فِي الْإِنْجِيل قَليلَة جدا وَلم يتْركُوا لآرائهم حَتَّى يتحكموا بأهوائهم ثمَّ إِنَّهُم يتحكمون بآرائهم فَإِن اتّفق لَهُم شَيْء يتمسكون بِهِ كَانَ ذَلِك مؤكدا لأغراضهم وَإِن لم يتَّفق لَهُم ذَلِك استغنوا عَنهُ وحكموا بأغراضهم وَيبين هَذَا أَنهم استثقلوا العجول والجزر والخرفان لارْتِفَاع أثمانها وَأَنه لَا يُوجد فِيهَا مَا يُوجد فِي الْخمر من اللَّذَّة والطرب الداعين إِلَى شربهَا وَلذَلِك عدلوا للخمر مَعَ خفَّة مؤنتها وَقلة ثمنهَا فَإِنَّهُم أَشد النَّاس بخلا فَإِن قيل لَهُم بِأَيّ شَيْء عدلتم عَن قرْبَان التَّوْرَاة قَالُوا لِأَن ملكي صَادِق أول من قرب الْخمر وَالْخبْز وَلِأَن الْمَسِيح قَالَ من أكل لحمي وَشرب دمي كَانَ فِي وَأَنا فِيهِ وَلِأَن الحواريين فرضوا هَذَا القربان هَذَا غَايَة مَا يحتجون بِهِ وَلَا بُد من تتبع ذَلِك وَبَيَان تحكمهم وباطلهم فَنَقُول أما قَوْلكُم بِفعل ملكي صَادِق فَبَاطِل من أوجه أَحدهَا أَنه لم يكن نَبيا فَإِن ادعيتم أَنه نَبِي فَلَا بُد من الدَّلِيل على ذَلِك فَعَلَيْكُم إثْبَاته وَلَو سلم ذَلِك لتبقى عَلَيْكُم أَن تثبتوا أَن شَرعه شرع لكم وَلَو سلم أَن شَرعه شرع لكم لَكَانَ يَنْبَغِي أَن تعلمُوا أَن التَّوْرَاة قد نسخت ذَلِك الشَّرْع إِذْ قد اسْتَقر أَن مُوسَى عمل بِخِلَافِهِ وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاء بعده وَلَو كَانَ ذَلِك الحكم بَاقِيا صَحِيحا لما كَانَ يَنْبَغِي لمُوسَى أَن يعدل عَنهُ وَلما جَاءَكُم بِغَيْرِهِ فترككم التَّوْرَاة الَّتِي أَنْتُم مخاطبون بأحكامها وشرعها إِلَى مالم تخاطبوا بِهِ وَلَا شرع لكم إستهانة بشرع التَّوْرَاة وأحكامها بل إستخفاف بِالَّذِي أنزلهَا وَبِالَّذِي أنزلت عَلَيْهِ فقد بَطل إستدلالكم بِفعل ملكي صَادِق من أوجه وَأما استدلالكم بقول عِيسَى فهذيان لَا يلْتَفت إِلَيْهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ من عمل بعملي أَو تعلم من علمي أحببته وأحبني وَمَا ذكره مثل محسوس قصد بِهِ التَّنْبِيه على معنى مَعْقُول وَدَلِيل ذَلِك من قَوْله قَوْله أَنا الْخبز النَّازِل من السَّمَاء انما اراد أَنه بِمَنْزِلَة الْخَبَر الَّذِي يغتذي بِهِ لِأَنَّهُ قد جَاءَ بغذاء الْأَرْوَاح

وبخبزها وَهَذَا اسْتِعَارَة حَسَنَة مستعملة وَكَثِيرًا مَا يُقَال فِي الْكَلَام الْعلم والمعاني الشَّرِيفَة خبز الْأَرْوَاح كَمَا أَن الطَّعَام الْمَعْرُوف خبز الأشباح ولكلامه عَلَيْهِ السَّلَام عَامل آخر وتأويلات جَارِيَة غير مَا ذكرْتُمْ يجوزها الْعقل وَلَا يبعدها إستعمال اللَّفْظ لَا يخرج شَيْء مِنْهَا إِلَى الهذيان الَّذِي صرتم إِلَيْهِ الَّذِي أفْضى بكم لجهلكم إِلَى ترك حكم وَترك الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ وَلَوْلَا التَّطْوِيل لذكرنا مِنْهَا وُجُوهًا وَبِهَذَا اللَّفْظ وَمَا يُشبههُ ضللتم حَيْثُ قُلْتُمْ بالإتحاد وَلم تفهموا مِنْهُ المُرَاد فكابرتم العقلو وحرفتم الْمَنْقُول وحملتم من الشناعة والقباحة مَالا يرضى بِهِ عليم وَلَا جهول وَقد ذكرنَا إبِْطَال ذَلِك فِيمَا تقدم وَأما استدلالهم بِفعل الحواريين فَذَلِك من فن الْكَذِب عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ وَلَو سلمنَا أَنه صَحِيح وَصدق لما كَانَ فِي فعلهم حجَّة بل إِن كتاب الله تَعَالَى يُخَالف فعلهم بل الْحجَّة كتاب الله وَلَا يرْتَفع شَيْء من ذَلِك إِلَّا إِذا بَين عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه مَنْسُوخ ويبلغكم ذَلِك عَنهُ بِنَصّ قَاطع على شُرُوط النّسخ على مَا هُوَ مَعْرُوف عِنْد أَهله بل قد أوردوا فِي إنجيلهم أَن عِيسَى قَالَ للمبروص الَّذِي شفَاه أمض واعرض نَفسك على القسيسين واهد قربانك الَّذِي أَمر بِهِ مُوسَى فِي عَهده وَهَذَا نَص على أَن القربان عِنْد عِيسَى إِنَّمَا هُوَ الَّذِي حكم بِهِ مُوسَى وَهُوَ العجول والجزر والخرفان لَا كَمَا شرعتم أَنْتُم من الهذيان فقد حصل من هَذَا أَنكُمْ خالفتم عِيسَى وقلتم عَلَيْهِ الْبُهْتَان وَأما استدلالهم بِفعل القسيسين فَأُولَئِك المغيرون للدّين والمحرفون لكتاب رب الْعَالمين كدينك من أم الْحُوَيْرِث قبلهَا وجارتها أم الربَاب بماسل فقد ظهر من هَذَا أَنهم تركُوا قرْبَان التَّوْرَاة لغير شَيْء وَأَنَّهُمْ على غير شَيْء فَعَلَيْهِم لعنة كل ميت وَحي

مسألة في تقديسهم دورهم وبيوتهم بالملح

مَسْأَلَة فِي تقديسهم دُورهمْ وَبُيُوتهمْ بالملح قَالَ حَفْص أما الْملح الَّذِي نقدس بِهِ الدّور والبيوت وَأَرَدْت فهم ذَلِك فَأَنا وجدنَا فِي سير إلْيَاس النَّبِي الَّذِي رَفعه الله أَن تِلْمِيذه اليسع مكث بِمَدِينَة أرِيحَا زَمَانا فَقَالَ لَهُ أَهلهَا إِن عندنَا عينا جَارِيَة تنفجر مِنْهَا مياه كَثِيرَة مرّة لَا نفع فِيهَا فَأمر أَن يُؤْتى إِلَيْهِ بِإِنَاء جَدِيد فَأدْخل فِيهِ الْملح وَقدس بِهِ مَاء الْعين فَمن هَذَا السَّبَب صرنا نقدس الدّور والبيوت بالملح الْمُقَدّس بعد مايتلو عَلَيْهِ القساوس آيَات من النُّبُوَّة فَنَقُول لَهُم يَا هَؤُلَاءِ المتلاعبون بأديانهم المستمرون على هذيانهم كَيفَ جعلتم مثل هَذَا دَلِيلا على ثُبُوت حكم عَلَيْكُم وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيل من وُجُوه كَثِيرَة لَكنا نقتصر من ذَلِك على نُكْتَة كَافِيَة وَهِي أَن اليسع لم يفعل ذَلِك على جِهَة بَيَان أَنه حكم وَإِنَّمَا فعل ذَلِك على جِهَة إِظْهَار الْكَرَامَة والمعجزة فَإِن ذَلِك المَاء عذب وطاب فظهرت كرامته ومعجزاته كَمَا ظَهرت على عِيسَى حِين مس المبروص وبرأ وَكَذَلِكَ مس الأعميين فأبصرا إِلَى غير ذَلِك وَقد حكيتم فِي بعض أناجيلكم أَن أعمى سَأَلَ من عِيسَى أَن يرد عَلَيْهِ بَصَره فَأخذ قِطْعَة من طين فَجَعلهَا فِي عينه فأبصر وَهَذَا بِمَثَابَة مَا فعل اليسع فَكَانَ يَنْبَغِي لكم أَن تقدسوا دُوركُمْ بِالتُّرَابِ والطين كَمَا فعل عِيسَى وَهُوَ أولى بكم إِذْ هُوَ مفضل عنْدكُمْ على اليسع وَغَيره بزعمكم وَمَعَ ذَلِك فتركتم الإقتداء بِهِ وأقتديتم بِمن هُوَ دونه وَذَلِكَ عكس مَا كَانَ يَنْبَغِي لكم وَهَذَا نتيجة جهلكم وَمن سوء فعلكم مَسْأَلَة فِي تصليبهم على وُجُوههم فِي صلَاتهم قَالَ حَفْص إِنَّمَا نصلب على وُجُوهنَا لأَنا وجدنَا فِي كتب عُلَمَائِنَا السالفين أَنه لما أَرَادَ ملك قسطنطينية أَن يَغْزُو بعض أعدائه ترَاءى لَهُ فِي السَّمَاء صُورَة صَلِيب من لَهب وَملك من الْمَلَائِكَة

يخاطبه وَيَقُول لَهُ إِن كنت تُرِيدُ غَلَبَة أعدائك فأجعل هَذِه الصُّورَة عَلامَة تكون قدامك فَإنَّك غَالب ظافر بهَا على جَمِيع أعدائك فَآمن وَفعل كَمَا قَالَ لَهُ الْملك وَهُوَ الَّذِي بحث وكشف عَن صَلِيب الْمَسِيح حَتَّى وجده مَدْفُونا وَعمل من المسامير الَّتِي كَانَت فِيهِ لجاما لفرسه وزين جَبينه بصليب من ذهب فَلم يزل من حِينَئِذٍ أهل مِلَّة الْمَسِيح يستعملون هَذِه الْعَلامَة لِأَنَّهَا عَلامَة السَّبق وَالظفر هَذَا الَّذِي ذكره حَفْص هُنَا يصدق مَا حكيناه عَن قسطنطين فِيمَا تقدم فَإِن كذبنَا أحد مِنْهُم فِيمَا ذَكرْنَاهُ عَنهُ فليكذب أسقفه حفصا على أَن مَا ذَكرْنَاهُ مَشْهُور عِنْد أهل التَّارِيخ الَّذين اعتنوا بِنَقْل أَخْبَار الْأَزْمَان الْمَاضِيَة والقرون السالفة وَبعد هَذَا نقُول لمن اسْتدلَّ على أَن الصَّلِيب مَشْرُوع لَهُم من أَيْن عرفت صدق قسطنطين فِيمَا حكام وَقَالَهُ وَلَعَلَّه كذب وَأَرَادَ بِهِ بذلك إصْلَاح رَعيته وحالته وإيغار صُدُور الْعَامَّة على من خَالفه وَذَلِكَ دَاخل فِي بَاب السياسات إِلَى يسلكها من لم يتَقَيَّد بالشرعيات وَكَثِيرًا مَا يُشَاهد من الْمُلُوك مثلهَا ثمَّ لَو سلمنَا أَنه صدق فِي رُؤْيَاهُ فَمن أَيْن علم أَن الَّذِي كَلمه ملك فَلَعَلَّهُ شَيْطَان قصد إضلالكم وَكَذَلِكَ كَانَ حَتَّى تعتقدوا الصلوبية الَّتِي هِيَ أعظم كل بلية ومحمل على العصبية ثمَّ لَو سلمنَا أَنه ملك فلأي معنى جعلتم ذَلِك التصليب فِي صَلَاتكُمْ وزدتم على مَا علمكُم عِيسَى وَلَقَد كَانَ يَنْبَغِي لكم أَن تَفعلُوا فِي الصَّلَاة مثل فعله وَلَا تَزِيدُوا على ذَلِك ثمَّ يلزمكم على ذَلِك أَن يُقَال لكم لَا يَخْلُو ذَلِك التصليب أَن يكون حكما من أَحْكَام الصَّلَاة أَو لَا يكون فَإِن كَانَ حكما وَلم تنقلوه عَن عِيسَى وَلَا أَنه علمه لكم فقد نسبتم عِيسَى إِلَى أَنه كتم حكم الله وَلم يبلغهُ وَهَذَا محَال على عِيسَى وعَلى كل رَسُول أرْسلهُ الله إِلَى أمة وَإِن قُلْتُمْ أَنه لَيْسَ بِحكم فَلم تَفْعَلُونَ فِي الصَّلَاة مَا لَيْسَ بِحكم شَرْعِي وَإِن قُلْتُمْ شَرعه لنا أَئِمَّتنَا وأساقفتنا قُلْنَا لكم وَمن جعل لأئمتكم أَن يتحكموا فِي شرع الله ويفتروا على الله وهم مذنبون عاصون لَا يملكُونَ لأَنْفُسِهِمْ صرا وَلَا نفعا وَلَا عَطاء وَلَا منعا

مسألة في قولهم في النعيم والعذاب الأخراوين

ثمَّ نقُول لَهُم هَذِه الصَّلَاة الَّتِي يصلب فِيهَا على الْوَجْه أفضل أم الصَّلَاة الَّتِي لَا يصلب فِيهَا فَإِن قَالُوا الصَّلَاة الَّتِي يصلب فِيهَا فيلزمكم على هَذَا أَن تكون صلَاتهم أفضل من صَلَاة الْمَسِيح وَكفى هَذَا شناعة وحماقة وَإِن كَانَت الصَّلَاة الَّتِي لَا يصلب فِيهَا هِيَ الْأَفْضَل فَيَنْبَغِي أَلا تَفعلُوا مَالا فَضِيلَة فِيهِ وَهَذَا كُله يبين أَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم لَا يعولون على الْأَنْبِيَاء فِي أحكامهم وَلَا يرجعُونَ إِلَى قوانينهم بل يعولون على أغراضهم وشهواتهم فَلَقَد تمكن الشَّيْطَان مِنْهُم فأضلهم حَتَّى استدرجهم عَن الشَّرَائِع وأزلهم فَهَذِهِ الْمسَائِل الَّتِي ذَكرنَاهَا هِيَ من مُعظم قواعدهم وأصولهم وَإِذا كَانَ عَمَلهم فِي هَذِه الْقَوَاعِد مثل مَا رَأَيْت فناهيك بفروعهم ولنقتصر على مَا ذكرنَا إِذْ فِيهِ تَنْبِيه على مَا لم نذْكر ثمَّ إِن أحوجونا إِلَى مزِيد تتبعنا كبار كتبهمْ بِأَن ننقضها حرفا حرفا ونبين فَسَادهَا لفظا لفظا بقيت علينا مَسْأَلَة وَاحِدَة وَهِي بَيَان إعتقاداتهم فِي الدَّار الْآخِرَة وعذابها وَنَعِيمهَا وَبهَا اختتام هَذَا الْفَنّ إِن شَاءَ الله تَعَالَى مَسْأَلَة فِي قَوْلهم فِي النَّعيم وَالْعَذَاب الأخراوين قَالَ صَاحب كتاب الْمسَائِل لسنا نَنْتَظِر فِي الْمُكَافَأَة الإلهية شَيْئا من الأرضيات الفانيات كَالَّذي ينتظره شيعَة ملسيان وَلَا تَزْوِيج العرائس كَالَّذي يشتهيه جرنش ومركش وَلَا مَا ينتسب إِلَى الْمَأْكُول والمشروب كَالَّذي يسوغه بابيه وَجَمَاعَة وَلَا نَنْتَظِر أَن يكون ملك الْمَسِيح فِي الأَرْض ألف سنة بعد الْقِيَامَة ليمتلك الصالحون مَعَه متنعمين كتعليم قابوش الَّذِي خيل بقيامتين الأولى للصالحين وَالثَّانيَِة للْكَافِرِينَ فَقَالَ إِن مَا بَين هَاتين القيامتين تمسك الأحباس الجاهلة بِاللَّه فِي زَوَايَا الأَرْض فِي أجسامهم ثمَّ يحملهم الشَّيْطَان بعد تملك الصَّالِحين فِي الأَرْض ألف سنة على محاربة الصَّالِحين المتملكين فيدفعهم الله عَنْهُم بأمطار النيرَان مُحَاربًا عَنْهُم فيموتون هَكَذَا

مَعَ سَائِرهمْ الَّذين مَاتُوا فِي الْكفْر ثمَّ يحيون فِي لحم غير متغير للعذابات الدائمة قد بَين هَذَا الْمُتَكَلّم الحاكي خبط النَّصَارَى وإختلاف فرقها فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بِمَا أغْنى عَن الْبَحْث عَن كثير من فرقهم على أَن فرقهم لَا تَنْحَصِر وإختلافهم لَا يَنْضَبِط فَإِن إختلافهم كإختلاف المجانين إِذا اجْتَمعُوا فَكل وَاحِد مِنْهُم يتَكَلَّم بِمَا لَا يعقل وَمَا لَا حجَّة لَهُ عَلَيْهِ وَلَا معول لَكِن مَذْهَب جماهيرهم ومعظمهم وَمن ينتسب إِلَى التدين مِنْهُم أَن الْخلق لابد أَن يجتمعوا فِي الْقِيَامَة وَأَن عِيسَى محاسبهم فينعم ويعذب لَكِن لَيْسَ عذَابا بنيران وسلاسل وأغلال وَغير ذَلِك مِمَّا نعتقده نَحن وَلَيْسَ نعيما أَيْضا بمأكول ومشروب والتذاذ بِنِكَاح وَيُشبه وَالله أعلم مَذْهَبهم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مَذْهَب الفلاسفة حَيْثُ يُنكرُونَ الْعَذَاب المحسوس وَالنَّعِيم ويصرفون ذَلِك إِلَى الإلتذاذ الروحاني لكِنهمْ لَا يصرحون بِهِ كَمَا تصرح بِهِ الفلاسفة إِذْ لَا يقدرُونَ على تَبْيِين أغراضهم لقصورهم وَنحن نتكلم هُنَا مَعَ من يُنكر ذَلِك من المتشرعين فَإِنَّهُم قد اجْتَمعُوا على إعادتنا كَمَا كُنَّا أول مرّة إِذْ قد اجْتمعت على ذَلِك الشَّرَائِع كلهَا من غير اخْتِلَاف بَينهَا فِيهِ فَنَقُول لمنكر ذَلِك لَا يَخْلُو أَن مَا تنكره أما من جِهَة الْعقل أَو من جِهَة الشَّرْع فَإِن قَالَ من جِهَة الْعقل قُلْنَا لَهُ كذبت وأخطأت فَإِن الْعقل لَا يدل على اسْتِحَالَة ذَلِك بل يدل على جَوَازه إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِك إِلَّا أَن الَّذِي خلقنَا أول مرّة ومكننا أَن نتنعم نعيما محسوسا ونتألم ألما محسوسا قَادر على أَن يعيدنا بعد أَن يفنينا كَمَا بدأنا فَإِن الْإِعَادَة إِنَّمَا هِيَ خلق ثَان وَمن قدر على الْخلق الأول قدر على الْخلق الثَّانِي وَهَذَا مَعْلُوم بِنَفسِهِ فَهُوَ إِذن فعل مُمكن فِي نَفسه لَيْسَ من قبيل الْمُمْتَنع وَالله تَعَالَى قَادر على كل مُمكن فَيجب وَصفه بِالْقُدْرَةِ على ذَلِك فَإِن قَالُوا إِن كَانَ فِي الْجنَّة أكل

وشراب وَنِكَاح ولباس فَيلْزم عَلَيْهِ أَن يكون فِي الْجنَّة غَائِط وَبَوْل وولادة وتمزيق الثِّيَاب وتخريقها وكل ذَلِك محَال أَن يكون فِي الْجنَّة قُلْنَا هَذَا جهل وَلَا يلْزم شَيْء مِمَّا ذكرْتُمْ فِيهَا بل نقُول هُنَاكَ أكل وَشرب وَلَيْسَ هُنَالك غَائِط وَلَا بَوْل وَهَذَا غير مُنكر إِذْ لَا يلْزم فِي كل طَعَام أَن يكون لَهُ فضلَة وَلَو سلمنَا أَن تكون لَهُ فضلَة لما لزم أَن يكون فضلَة مستقذرة بل قد تكون فضلات كَثِيرَة طيبا يتطيب بِهِ وَشَرَابًا يشرب مثل الْمسك فَإِنَّهُ دم حَيَوَان أَو رجيعه أَو الْعَسَل فَإِنَّهُ فضل حَيَوَان مَعْرُوف وَلَيْسَ شَيْء من ذَلِك مستقذرا بل هُوَ مستطاب مستلذ وَلَا يبعد أَن تكون فضلات الْجنَّة بل هُوَ هَكَذَا وَقد جَاءَنَا على لِسَان الصَّادِق أَن أهل الْجنَّة لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ إِنَّمَا هُوَ عرق يجرى من أَجْسَادهم مثل الْمسك وَأما الْحمل فَلَا يلْزم شَيْء مِنْهُ إِذْ قد نجد من النِّسَاء العواقر وَهن اللواتي لَا يلدن فَكَذَلِك نسَاء أهل الْجنَّة لَا يلدن وَلَا يحضن وَأما اللبَاس فَلَا يتمزق وَلَا يفنى وَفِي لِبَاس بني إِسْرَائِيل فِي المفاز دَلِيل على بطلَان مَا يخيل هَذَا السَّائِل فَالَّذِي يبْقى الثِّيَاب إِلَى مُدَّة قَادر على أَن يبقيها أَبَد الآبدين وَهَذِه أُمُور لَا ينكرها إِلَّا كل غبي جَاهِل لَيْسَ لَهُ مَعْقُول حَاصِل فَإِذا دلّ الْعقل على جَوَازه فَيَنْبَغِي أَن يسْتَدلّ على وُقُوع ذَلِك ووجوده بِكَلَام الصَّادِقين صلوَات الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ فَنَقُول لمنكر ذَلِك شرعا لَا يَصح لَك أَن تستدل على إنكارك بِشَيْء من كَلَام الْأَنْبِيَاء إِذْ لَا تَجدهُ بل سنريك نُصُوص كَلَامهم على إثْبَاته مِنْهَا أَن من الْمَعْلُوم أَن آدم عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُل فِي الْجنَّة وَيشْرب وينكح فَإِن قَالُوا الْجنَّة الَّتِي كَانَ فِيهَا آدم قبل هُبُوطه إِلَى الأَرْض إِنَّمَا كَانَت فِي الأَرْض وَهِي جنَّة عدن الَّتِي قَالَ فِيهَا فِي التَّوْرَاة وغرس الله فردوسا بعدن من قبل وَأَسْكَنَهُ آدم

وَإِنَّمَا كَانَت تِلْكَ بستانا من بساتين الدُّنْيَا قُلْنَا لَيْسَ فِي التَّوْرَاة نَص قَاطع يدل على أَن الْجنَّة الَّتِي يرجع النَّاس إِلَيْهَا يَوْم الْجَزَاء لَيست هِيَ الَّتِي أسكن الله فِيهَا آدم بل التَّوْرَاة مُحْتَملَة لذَلِك وَأما كتَابنَا فَيدل على أَنَّهَا هِيَ ثمَّ لَو سلمنَا أَنَّهَا لَيست هِيَ لحصل لنا من ذَلِك دَلِيل جَوَاز الْأكل وَالشرب وَالنِّكَاح فِي الْجنَّة فَإِنَّهُ كَمَا جَازَ أَن آدم أكل وَشرب فِيهَا كَذَلِك يجوز أَن يَأْكُل وَيشْرب وينكح فِي الْجنَّة الَّتِي يرجعُونَ إِلَيْهَا وَهَذَا بَين بِنَفسِهِ عِنْد الْمنصف وَمِنْهَا أَن فِي الْإِنْجِيل أَن الْمَسِيح قَالَ لتلاميذه لَيْلَة أكل مَعَهم الفصح وَقد سقاهم كأسا من الْخمر وَقَالَ لَهُم إِنِّي لَا أشربها مَعكُمْ أبدا حَتَّى تشربوها معي فِي الملكوت عَن يَمِين الله وَهَذَا نَص لَا يحْتَمل التَّأْوِيل إِلَّا مَعَ ضعف وَفِيه أَيْضا فِي قصَّة العازر الَّذِي كَانَ مطروحا على بَاب الْغنى وَالْكلاب تلحس جراح قروحه وَأَن ذَلِك الْغنى نظر إِلَيْهِ فِي الْجنَّة مُتكئا على حجر إِبْرَاهِيم الْخَلِيل فناداه الْغنى وَهُوَ فِي النَّار يَا أبي إِبْرَاهِيم ابْعَثْ العازر إِلَى بِشَيْء من مَاء أبل بِهِ لساني وَهَذَا نَص آخر أبين من الأول وَفِيه أَيْضا أَنه قَالَ للْيَهُود يَا ثعابين بني الأفاعي كَيفَ لكم والنجاة من عَذَاب النَّار وَفِيه أَيْضا أَن الْجَمَاعَة قَالَت للمسيح بِكفْر ناحوم مَتى جِئْت إِلَى هُنَا يَا معلم فَقَالَ لَهُم آمين آمين أَقُول لكم تطلبونني لَيْسَ لأنكم رَأَيْتُمْ عجائب بل لأنكم أكلْتُم من الْخبز فشبعتم فارغبوا فِي طَعَام لَا يفنى فِي الْجنَّة الدائمة وَفِيه أَيْضا أَنه قَالَ لتلاميذه فِي وَصِيَّة وصاهم بهَا لتطعمن ولتشربن فِي مائدتي فِي ملك الله

وَفِيه أَيْضا أَنه قَالَ للْيَهُود إِن كَانَ مُوسَى أطْعمكُم خبْزًا فِي المفاز فَأَنا أطْعمكُم خبْزًا سماويا يُرِيد الْجنَّة وَقَالَ أشعياء يَا معشر العطاش توجهوا إِلَى المَاء الْورْد وَمن لَا فضَّة لَهُ فليذهب وليأكل وَيشْرب وَيَأْخُذ من الْخبز وَاللَّبن بِغَيْر فضَّة وَلَا ثمن وَهَذَا كثير فِي كتب الْأَنْبِيَاء بِلَا شكّ وَلَا إمتراء فَإِن قَالُوا فلأي معنى لم يُصَرح مُوسَى فِي التَّوْرَاة بذلك وبأخبار الْقِيَامَة قُلْنَا الله وَرَسُوله أعلم وعَلى سَبِيل التَّنْبِيه تحْتَمل وُجُوهًا أَحدهَا لعتو بني إِسْرَائِيل وتمردهم ولكلال أفهامهم ثَانِيهَا لبعد زمَان ذَلِك ثَالِثهَا ليعجل لَهُم جَزَاء أَعْمَالهم فَإِنَّمَا كَانُوا يهددون ويخوفون بالعقوبات العاجلة ويوعدون باللذات العاجلة من الْملك وتكثير الرزق وخصب الْبِلَاد إِلَى غير ذَلِك رَابِعهَا لِأَنَّهُ قد كَانَ سبق فِي علم الله تَعَالَى أَنه يُرْسل رَسُولا فِي آخر الزَّمَان لَيْسَ بعده نَبِي وَلَا رَسُول يبين أُمُور الْآخِرَة بَيَانا شافيا وَهُوَ مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ لقرب الْقِيَامَة من زَمَانه وليحصل لنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من فَضِيلَة الْعلم والأعلام مَا لم يحصل لأحد غَيره ولتختص أمته بِعلم لَيْسَ لأحد غَيرهَا وَهَذَا الْوَجْه هُوَ أقرب الْوُجُوه وَالله أعلم وَيدل على ذَلِك قَوْله فِي التَّوْرَاة حِين بشر بنبينا عَلَيْهِ السَّلَام وَذكر كثيرا من علاماته وَمَعَهُ كتاب نَارِي وَقد تقدم ذكر ذَلِك وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَيْضا أَنَّك لَا تَجِد عِنْد أمة من الْأُمَم من أَخْبَار الْقِيَامَة أُمُور الْآخِرَة مَا عِنْدهم

فَالْحَمْد لله الَّذِي جعل لنا كل الْفَضَائِل وخصنا بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير نَبِي وفاضل فقد ظهر من هَذَا النّظر أَن مَا انتحلوه من إِنْكَار النَّعيم وَالْعَذَاب المحسوسين بَاطِل بِشَهَادَة الْعُقُول وبنصوص كَلَام الْأَنْبِيَاء الْمَنْقُول وَقد فَرغْنَا فِي الْفَنّ الأول وَالْحَمْد لله كثيرا

الفن الثاني

الْفَنّ الثَّانِي محَاسِن دين الْإِسْلَام تمهيد الْغَرَض من هَذَا الْفَنّ أَن نبين فِيهِ عقيدة الْإِسْلَام وجملا من أصُول أَحْكَامه ومواضع من فروع دينه أنكرتها النَّصَارَى عَلَيْهِ وَإِنَّمَا فعلنَا ذَلِك لغرضين أَحدهمَا أَن السَّائِل الَّذِي حركنا لهَذَا الْكتاب هددنا وَزعم أَنه أَن سبّ وَشتم كتب كتابا بِنَصّ شريعتنا وَوَجهه للبلاد حَتَّى يقف النَّاس عَلَيْهَا فَأَرَدْت أَن أتولى ذكر شريعتنا لِئَلَّا يتعاطى ذكرهَا ونقلها جهول لَا يحسن مَا ينْقل وَلَا مَا يَقُول كي يقف الْعُقَلَاء عَلَيْهَا وينظروا فِيهَا على أَن شرعنا لَيْسَ بالخفي بل قد طبق الأَرْض شرقا وغربا وقرع من الْعُقَلَاء سمعا وَقَلْبًا فَلم يسمع بِمن مجه وَطَرحه غير معاند كبثه شرعنا وفضحه فَإِنَّهُ جَار على الْمِنْهَاج الْمَعْقُول المستحسن عِنْد أَرْبَاب الْعُقُول وسأبين ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى على أَنِّي لم أتعرض لهَذِهِ السَّائِل وَلَا لأحد من ملتهم بالسب أَكثر من تَبْيِين جهلهم وركاكة هذيانهم وَقَوْلهمْ وَرُبمَا أغاظوا فِي بعض الْأَقْوَال لما ارتكبوا فِيهَا من الْقَبِيح والمحال فأطلقت عَلَيْهِم اللَّعْنَة حسب مَا تَقْتَضِيه الْبغضَاء والأحنة وتعويلا على مَا فِي التَّوْرَاة من لعنتهم وركاكة شرعتهم فَإِن فِي التَّوْرَاة مَلْعُون مَلْعُون من يعلق بالصليب يُرِيد

والغرض الثاني

بذلك من اعْتقد الصَّلِيب وإدعاه وعظمه وَهَذَا نَص بلعنتهم وَمُوجب لبغضهم وَهَذَا مَا نعلمهُ مَعَ ديننَا وواضح سبيلنا وَالْغَرَض الثَّانِي أَنه لَا يبعد أَن يقف على هَذَا الْكتاب نَصْرَانِيّ أَو يَهُودِيّ لم يسمع قطّ من ديننَا تَفْصِيلًا وَلَا تَصْرِيحًا بل إِنَّمَا سمع لَهُ سبا وتقبيحا فَأَرَدْت أَن أسرده على الْجُمْلَة ليتبين حسنه لمن كَانَ ذكي الْعقل صَحِيح الْفطْرَة فَلَعَلَّ ذَلِك يكون سَبَب هداه وجلاء عماه {وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه} وَفِي هَذَا الْفَنّ فصلان وانقسم هَذَا الْفَنّ إِلَى فصلين لِأَن شَرِيعَة الْإِسْلَام مُشْتَمِلَة على إعتقاد بالقلوب وَعمل بالجوارح فالفصلين نذْكر فِي أَحدهمَا قَوَاعِد الإعتقاد وَفِي الثَّانِي ندافع عَن الإعتقاد وَعَن التشريع فَنَقُول

الفصل الأول

الْفَصْل الأول إعتقاد الْمُسلمين أما إعتقاد الْمُسلمين فَهُوَ أَن كل مَوْجُود سوى الله تَعَالَى فَهُوَ مُحدث مَخْلُوق مخترع على معنى أَنه لم يكن مَوْجُودا ثمَّ صَار مَوْجُودا وَأَن لَهُ مُحدثا مَوْجُودا قَدِيما لَا يشبه شَيْئا من الموجودات الْحَادِثَة بل يتعالى عَن شبهها من كل وَجه فَلَيْسَ بجسم وَلَا يحل فِي الْأَجْسَام وَلَا جَوْهَر وَلَا يحل فِي الْجَوَاهِر وَلَا عرض وَلَا تحله الْأَعْرَاض وَأَنه إِلَه وَاحِد لَا شريك لَهُ فِي فعله وَلَا نَظِير لَهُ فِي ذَاته وَطوله لَا يَنْبَغِي لَهُ الصاحبة وَلَا الْوَلَد وَلم يكن لَهُ من خلقه كُفؤًا أحد وَأَنه عَالم قَادر مُرِيد حَيّ مَوْصُوف بِصِفَات الْكَمَال من السّمع وَالْبَصَر وَالْكَلَام وَغير ذَلِك مِمَّا يكون كمالا فِي حَقه وَأَنه منزه عَن صِفَات النَّقْص والقصور وَأَنه يفعل فِي ملكه مَا يُرِيد وَيحكم فِي خلقه بِمَا يَشَاء لَا يفْتَقر إِلَى شَيْء وَإِلَيْهِ يفْتَقر كل شَيْء وَبِيَدِهِ ملك كل جماد وَحي لايجب عَلَيْهِ لمخلوق حق وَتجب حُقُوقه على الْخلق لَا يتَوَجَّه عَلَيْهِ مَتى وَلَا أَيْن وَلَا لم وَلَا كَيفَ فَلَا يُقَال مَتى وجد وَلَا أَيْن وجد وَلَا كَيفَ هُوَ وَلَا لم فعل {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون} وَإِن إرْسَال الرُّسُل من أَفعاله الْجَائِزَة وَأَنه قد أرسل الرُّسُل وَأنزل الْكتب وكلف الْخلق وَشرع لَهُم شرائع على أَلْسِنَة رسله وَأَن رسله صَادِقُونَ فِي قَوْلهم ومؤيدون بالمعجزات من عِنْد رَبهم وَأَنَّهُمْ عبيد الله وَرُسُله وَأَنَّهُمْ بشر مثلنَا إِلَّا أَن الله تَعَالَى فَضلهمْ بِأَن جعلهم وَاسِطَة بَينه وَبَين خلقه وأطلعهم على مَا شَاءَ من غيبه وَأَنَّهُمْ بلغُوا عَن الله مَا أمروا بتبليغه وَأَنَّهُمْ كلهم صَادِقُونَ مصدقون لَا نفرق بَين أحد مِنْهُم وَأَن مُحَمَّدًا بن عبد الله بن عبد المطلب الْعَرَبِيّ

الْقرشِي الْهَاشِمِي رَسُول من الله إِلَى النَّاس كَافَّة بشير وَنَذِيرا وَأَن الله تَعَالَى أيده بالمعجزات على صدقه كَمَا فعل بالرسل من قبله وَأَن شَرعه وإجابته لازمان لكل من بلغته دَعوته حَيْثُ كَانَ من أقطار الأَرْض وجهاتها وعَلى أَي دين كَانَ من أديانها لَا يقبل مِمَّن كفر بِهِ يَوْم الْقِيَامَة مَا هُوَ عَلَيْهِ من دين بل يكون مخلدا فِي الْعَذَاب أَبَد الآبدين كَمَا أَن الْمُؤمن بِهِ وَبِكُل مَا جَاءَ بِهِ مخلد فِي الْجنَّة أَبَد الآبدين وَأَن شَرعه نَاسخ لكل الشَّرَائِع الْمُتَقَدّمَة على الْجُمْلَة وهادم مَا قبله من الْأَحْكَام السالفة وَأَن كل مَا جَاءَ بِهِ عَن الله حق من الْعَذَاب والحشر والنشر بعد الْمَوْت والصراط وَالْمِيزَان والحوض والمحاسبة وشفاعة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأهل الْموقف وَلأَهل الْكَبَائِر من أمته خَاصَّة وَالْجنَّة وَنَعِيمهَا وَالنَّار وعذابها وأنهما محسوسان ليسَا معنويين وَأَن خُلُود أهل الْجنَّة سرمد وَعَذَاب أهل النَّار الْكَافرين سرمد وَلَا إنقطاع لوَاحِد مِنْهُمَا إِلَى غير ذَلِك مِمَّا هُوَ مفصل فِي الشَّرِيعَة مِمَّا يعرفهُ أَهله وَلَا يسعهم جَهله وَهَذِه قَوَاعِد إعتقاد أهل الْإِسْلَام مُجَرّدَة عَن أدلتها ومقتضبة من شواهدها إِذْ مَا مِنْهَا قَاعِدَة إِلَّا ويعضدها برهَان عَقْلِي لَا يشك فِيهِ عَاقل وَدَلِيل سَمْعِي لَا يُنكره فَاضل وَمن أَرَادَ تعرف ذَلِك طلبه من موَاضعه وَأما مستندات أحكامهم فَهِيَ كتاب الله وَسنة رَسُول الله لَا يعدلُونَ لمحة عَنْهَا وَلَا يخرجُون لَحْظَة مِنْهَا إِلَّا أَن وُجُوه إستدلالاتهم لَا يُحِيط بهَا متطفل عَلَيْهَا لكثرتها ولنقاوة درجاتها فَإِن كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله لَا يسْتَدلّ بهما من لَا يعرف منظوم اللَّفْظ وَمَفْهُومه وفحواه ومعقوله وَيعرف من المنظوم النَّص وَالظَّاهِر والمؤول والمحمل والعموم وَالْخُصُوص والإستثناء وَالْمُطلق والمقيد وَيعرف من الْمَفْهُوم أَحْكَامه وأقسامه وَكَذَلِكَ من الفحوى والمعقول على مَا هُوَ مَعْرُوف فِي علم الْأُصُول الَّذِي هُوَ علم خَاص بِأمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل هُوَ من كرامات أهل الْإِسْلَام

إِذْ لَيْسَ فِي مِلَّة من الْملَل الْمُتَقَدّمَة من التَّحْقِيق مَا عِنْدهم وَلَا اجْتمع لأحد قبلهم من الْعُلُوم مثل الَّذِي اجْتمع لَهُم ذَلِك بِأَنَّهُم آخر الْأُمَم وكتابهم آخر الْكتب وأفضلها ورسولهم آخر الرُّسُل وأفضلهم ولسانهم أحكم الْأَلْسِنَة وأفصحها على مَا يعرفهُ من تصفح شريعتهم وَعرف لغتهم وَنظر إِلَيْهَا بِعَين الْإِنْصَاف وَترك طَرِيق التعصب والإعتساف فالحمدلله على مَا أولاه {وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله لقد جَاءَت رسل رَبنَا بِالْحَقِّ} وَمِمَّا يبين للعاقل حسن شَرِيعَة الْإِسْلَام وجمال طريقتها إِنَّهَا مَبْنِيَّة على مُرَاعَاة مصَالح الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وإتمام مَكَارِم الْأَخْلَاق الْحَسَنَة أما بَيَان مصَالح الْآخِرَة فَهُوَ أَن هَذَا الشَّرْع يبين وجوهها وَلم يغْفل شَيْئا مِنْهَا بل فَسرهَا وأوضحها غَايَة الوضوح لِئَلَّا يجهل شَيْء مِنْهَا فوعد بنعيمها وتوعد بعذابها بِخِلَاف الشَّرَائِع الْمُتَقَدّمَة فَإِنَّهَا إِنَّمَا كَانَت تتوعد على الْمُخَالفَة بعقاب دُنْيَوِيّ كَمَا فعل بنوا إِسْرَائِيل غير مرّة وتوعد بِثَوَاب دُنْيَوِيّ وَلم يبين لَهُم شَيْء مِمَّا بَين لنا على مَا يَقْتَضِيهِ نسق التَّوْرَاة إِذْ لَيْسَ فِيهَا ذكر جنَّة وَلَا نَار إِلَّا تَنْبِيهَات قَليلَة وَكَذَلِكَ الْإِنْجِيل لَيْسَ فِيهِ شَيْء من ذَلِك إِلَّا مَا ذَكرْنَاهُ وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّهُ تعبدنا بعبادات مَحْضَة ذَوَات فعال وأركان كَالصَّلَاةِ وَالْحج وَغير ذَلِك وكل ركن من أَرْكَانهَا فالمقصود بِهِ تَعْظِيم الله تَعَالَى وخضوع لَهُ بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِن حَتَّى تُؤدِّي كل جارحة من الْجَوَارِح حظها من تَعْظِيم الله تَعَالَى مَعَ مَا ينضاف إِلَى ذَلِك من الْمعَانِي الشَّرِيفَة والأدعية الرفيعة الفصيحة الَّتِي يعرف مَعَانِيهَا أَهلهَا حسب مَا فسروه فِي كتبهمْ وَلَيْسَ كَمَا تَقولُونَ أَنْتُم فِي صَلَاتكُمْ يَا أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاء

فَإِن ظَاهر هَذَا مستبشع فِي الْعرف محَال فِي الْعقل أما استبشاعه فِي الْعرف فَإِنَّهُ يقبح بِالْعَبدِ أَن يُخَاطب سَيّده بِلَفْظ الْأُبُوَّة هَذَا مَعَ أَن معنى الْأُبُوَّة جَائِز فِي حقوقنا فَكيف لَا يقبح إِطْلَاقه فِي حق من لَا تجوز الْأُبُوَّة فِي حَقه فإطلاق مثل هَذِه اللَّفْظ فِي حق الله تَعَالَى يَنْبَغِي أَلا يجوز وَلَا يُطلق وَأما إحالته فِي الْعقل فَإِن ظَاهر قوكم فِي السَّمَاء يفهم مِنْهُ أَن السَّمَاء مُحِيط بِهِ وَإِن جَازَ ذَلِك جَازَ أَن يكون جسما وَأَنْتُم تأبون ذَلِك وَهُوَ محَال فِي حَقه تبَارك وَتَعَالَى وَكَذَلِكَ قَوْلكُم فِي بَقِيَّة هَذَا الدُّعَاء وَعجل لنا خبزنا الدَّائِم واغفر لنا كَمَا يغْفر بَعْضنَا لبَعض فَإِنَّهُ لفظ مستثقل مستقبح وَمَعْنَاهُ مستغث مسترك وَلَوْلَا خوف التَّطْوِيل لأبدينا مَا يحْتَمل ذَلِك من قَبِيح التَّأْوِيل فَإِن قُلْتُمْ هَكَذَا علمنَا عِيسَى فِي الْإِنْجِيل فَقَالَ لنا إِذا صليتم فَقولُوا قُلْنَا لَا نسلم أَن هَذَا مِمَّا علمه عِيسَى وَلَا مِمَّا جَاءَ بِهِ بل هُوَ إختراع من لَا يحسن مَا يَقُول وَلَيْسَ لَهُ إِلَى المعارف وُصُول وَقد تقدم أَن كتابكُمْ قَابل للتحريف والتصحيف فَهَذَا الَّذِي ذكرنَا يُنَبه على الْمصَالح الأخروية وَأما الْمصَالح الدُّنْيَوِيَّة فقد بَينا أَن مَقْصُود شرعنا حفظ الْأَدْيَان والنفوس وَالْأَمْوَال والأنساب والأعراض والعقول وَلأَجل ذَلِك شرع الْقَتْل والديات والعقوبات وَحرم السّرقَة والخيانة وَجَمِيع وُجُوه أكل المَال بِالْبَاطِلِ وَحرم الزِّنَا وَفعل اللوطى وَغير ذَلِك من الْفَوَاحِش وَكَذَلِكَ حرم الْغَيْبَة والنميمة وَالْقَذْف والبهتان والزور وَجَمِيع أَصْنَاف الْكَذِب والغش وَالْخداع وَالْمَكْر إِلَى غير ذَلِك من أَنْوَاع الْمَفَاسِد وَلأَجل ذَلِك أَيْضا حرم الْخمر فَإِنَّهَا تذْهب الْعقل الَّذِي هُوَ منَاط التَّكْلِيف وَبِه يعرف الْبَارِي تبَارك وَتَعَالَى وَالسكر آفَة تناقضه وتضاده فَهَذِهِ الْأُمُور كلهَا مَحْفُوظَة بالحدود والزواجر المشاكلة للعقوبات الثَّابِتَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِمَّا بِالْكتاب وَإِمَّا بِالسنةِ وَلَيْسَ شَيْء مِنْهَا مَوْضُوعا بالتشهي والتحكم كَمَا فَعلْتُمْ أَنْتُم

وَقد بَينا ذَلِك بمستنده للشارع وَلَا نعدل عَنهُ طرفَة عين بل نقف عِنْد مَا أَمر وننتهي عَمَّا نَهَانَا وَيعرف ذَلِك على التَّفْصِيل أَهله وَمن وقف عَلَيْهِ من الْعُقَلَاء المنصفين وَأما مَكَارِم الْأَخْلَاق الَّتِي تضمنها شرعنا فَلَا تخفى على متأمل وَذَلِكَ أَن شرعنا أمرنَا بهَا ظَاهرا وَبَاطنا ونهانا عَن رذائلها وسفسافها فَمن المكارم الظَّاهِرَة النَّظَافَة وَالطَّهَارَة والتنزه عَن الأقذار والأوساخ فَمن النَّظَافَة تَطْهِير الثِّيَاب والأبدان فَإِنَّهَا يَنْبَغِي أَن تنزه عَن الأقذار مثل الْبَوْل وَالْغَائِط والمنى والمذى وَالدَّم والقيح وَمَا شاكل ذَلِك وَمن النَّظَافَة أَيْضا التَّطَيُّب وتحسين الْهَيْئَة فالطيب لَا يخفى على عَاقل اسْتِعْمَاله وَكَذَلِكَ تَحْسِين الْهَيْئَة وَمن تَحْسِين الْهَيْئَة قصّ الشَّارِب وإعفاء اللِّحْيَة فَقص الشَّارِب لتتأتى النَّظَافَة فِي الْأكل إِذْ لَا تتأتى مَعَ طوله إِذْ يدْخل الشّعْر فِي الْفَم وينغص الْأكل ويقذره هَذَا مَعَ مَا يلْحق الشَّارِب من قذارة المخاط إِذْ كَانَ الشَّارِب كَبِيرا وَمَعَ ذَلِك فَلَا يحلق عندنَا كُله ويمحق رسمه فَإِن ذَلِك مثله وتشويه وَكَذَلِكَ اللحي إِذا حلقت فَيَنْبَغِي أَن توفر توفيرا لَا يخل بمروءة الْإِنْسَان وَلَا يخرج عَن عَادَة النَّاس وَخير الْأُمُور أوساطها وَأما حلق اللِّحْيَة فتشويه ومثلة لَا يَنْبَغِي لعاقل أَن يَفْعَلهَا بِنَفسِهِ وَالْعجب من جهل النَّصَارَى بالشرائع وَبِمَا يستحسنه ذووا المروءات فَإِنَّهُم يحلقون لحاهم ويشوهون أنفسهم ويوفرون غلوفتهم الَّتِي يَنْبَغِي أَن تزَال لما فِي إِزَالَتهَا من الْفَوَائِد على مَا ذكرنَا من النَّظَافَة الْمَأْمُور بهَا تقليم الْأَظْفَار ونتف الْإِبِط وَحلق الْعَانَة وَغسل البراجم والمغابن بِالْمَاءِ وَهَذَا كُله من شرعنا مُبَالغَة فِي النَّظَافَة ومحافظة على مَكَارِم الْأَخْلَاق وعَلى عَادَة ذَوي الْعُقُول والمروءات وَأما التَّنَزُّه عَن الأقذار فَإِنَّهُ حرم علينا الْخَبَائِث من الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير والأنجاس كلهَا على مَا تَقْتَضِيه عَادَة الْعُقَلَاء والمروءات وأمرنا بِأَكْل الطَّيِّبَات وإستعمال المستحسنات ونهانا عَن السَّرف والتبذير

وَلأَجل هَذَا نَهَانَا عَن إستعمال أواني الذَّهَب وَالْفِضَّة وَعَن لِبَاس الْحَرِير للذكور وَذَلِكَ لما فِيهِ من التبذير والسرف وَأَيْضًا فَإِن فِيهِ ترفها يُنَاسب ترفه أهل الْجنَّة ويشبهه وَلَا يَنْبَغِي أَن يفعل ذَلِك وَلأَجل ذَلِك قَالَ نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام من شرب فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة لم يشرب بهَا فِي الْآخِرَة وَمن لبس الْحَرِير فِي الدُّنْيَا لم يلْبسهُ فِي الْآخِرَة وَهَذَا كُله لِأَن الدُّنْيَا دَار عمل وَالْآخِرَة دَار جَزَاء وَلأَجل ذَلِك قَالَ الْحُكَمَاء الدُّنْيَا قنطرة فاعبروها وَلَا تتعمروها فَهَذِهِ نبذة من النَّظَافَة الطاهرة وأحكامها كَثِيرَة تعرف فِي موَاضعهَا وَأما النَّظَافَة الباطنية فترجع إِلَى التخلي عَن مَذْمُوم الْأَخْلَاق والتحلي بمحامدها ومستحسنها وَهِي كَثِيرَة فلنذكر الْأَخْلَاق المذمومة الَّتِي يتنظف مِنْهَا وَبعدهَا نذْكر الْأَخْلَاق المحمودة الَّتِي يَنْبَغِي الإتصاف بهَا أما الْأَخْلَاق المذمومة فكثيرة لَكِن أمهاتها مَا نذكرهُ وَهِي الْغَضَب والحسد وَالْبخل ومهانة النَّفس ودناءتها والرعونة وَحب الجاه وَحب الدُّنْيَا الَّذِي مِنْهُ كل خَطِيئَة وَالْكبر وَالْعجب والرياء إِلَى غير ذَلِك من الْأَخْلَاق المذمومة الَّتِي من اتّصف بهَا كَانَ منجس الْبَاطِن بِمَثَابَة من كَانَ مُتَنَجّس الظَّاهِر فَعَلَيهِ تنظيفه إِلَّا أَن نظافة النَّجَاسَة الظَّاهِرَة بِالْمَاءِ ونظافة النَّجَاسَة الْبَاطِنَة بالإتصاف بالأخلاق المحمودة الَّتِي هِيَ التَّوْبَة من الْمعاصِي وَحسن الصُّحْبَة مَعَ الْخلق والنصيحة لَهُم وَالْعدْل فِي الْأُمُور كلهَا والتواضع وكرم النَّفس وبغض الدُّنْيَا والزهد فِيهَا وَالْإِخْلَاص وَالْخَوْف وَالصَّبْر وَالشُّكْر والصدق والتوكل ومحبة الله تَعَالَى ومحبة رسله إِلَى غير ذَلِك من الْأَوْصَاف المحمودة الَّتِي من اتّصف بهَا فقد تتقي من أَوْصَاف البشرية وتطهر الطَّهَارَة المعنوية

فَهَذِهِ أنموذج وقانون يعرف الْعَاقِل الْمنصف بِهِ حسن شريعتنا وجمال طريقتنا وَأَنَّهَا جَارِيَة على نهج الْعُقُول ومستحسنه عِنْد من لَهُ محصول وَمن أَرَادَ أَن يتَبَيَّن محَاسِن شريعتنا على التَّفْصِيل فَلَا يصل إِلَى ذَلِك إِلَّا ببحث كثير وَتَطْوِيل فَإِن وقف فأمعن النّظر وأستدت مِنْهُ الْكفْر قضى من عجائبها كل عجب وَعلم على الْقطع والبتات أَنَّهَا حق من الله من غير شكّ وَلَا ريب وَأَن الَّذِي جَاءَ بهَا لَا يجوز عَلَيْهِ الْغَلَط وَلَا الْكَذِب فها نَحن معشر الْمُسلمين قد أرصدنا شريعتنا للإستعراض ونادينا عَلَيْهَا فِي سوق الإعتراض لِئَلَّا يعْتَرض أحد أَو يُعَارض فيدمغه ناقد لقَوْله وحافظ وَلم نكل حكايتها إِلَى غبي غافل عَن مَقَاصِد شرعنا جَاهِل وَقد آن أَن نذْكر مَا اعْترض بِهِ النَّصَارَى على ديننَا ونتصل عَنهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَعند ذَلِك يتَبَيَّن صميم جهلهم وَسُوء صنيعهم وفعلهم

الفصل الثاني

الْفَصْل الثَّانِي دفاع عَن الْإِسْلَام أعلم أَن النَّصَارَى يعيبون دين الْإِسْلَام ويقبحونه عِنْد جهالهم وعامتهم بِأُمُور من فروع الْإِسْلَام لَا يَنْبَغِي لمنصف أَن يعيبها وَلَا يعيب شرعا هِيَ فِيهِ وَقد كُنَّا بَينا فِيمَا تقدم أَنه لَا يَنْبَغِي أَن ننبذ الشَّرَائِع أَو نجحدها بِمَا تجوزه الْعُقُول بل يتلَقَّى ذَلِك المجوز عقلا الَّذِي جَاءَت بِهِ الشَّرَائِع بِالْقبُولِ إِذا علم صدق ذَلِك الشَّرْع بل يَنْبَغِي للعاقل أَن ينظر فِي دَلِيل صدق ذَلِك الشَّرْع فَإِن وجده دَلِيلا صَحِيحا قبل مِنْهُ كل مَا يَقُول فَإِنَّهُ صَادِق والصادق لَا يَقُول مَا تكذبه الْعُقُول نعم قد يَقُول مَا يقصر الْعقل عَن إِدْرَاكه وَلَيْسَ ذَلِك طَعنا على قَول الصَّادِق وَإِنَّمَا الْعَجز فِي حق الْعقل فَلَيْسَ كل مَا تَأتي بِهِ الشَّرَائِع يعرف الْعقل جَوَازه قبل وُقُوعه بل قد يكون مِنْهُ مَا يجهله وَهَذَا بَين عِنْد الْفَهم الْمنصف وَقد كُنَّا قَررنَا ذَلِك بأبلغ من هَذَا فِيمَا تقدم فَإِذا تقرر ذَلِك قُلْنَا لِلنَّصَارَى كَانَ يجب عَلَيْكُم أَن تنظروا فِي الْأَدِلَّة الَّتِي بهَا اسْتدلَّ هَذَا النَّبِي على صدقه فَإِذا صحت لزمكم قبُول قَوْله وَإِن لم تصح لديكم رددتم كُلية شَرعه وَلَا تعترضوا بِبَعْض مَا جَاءَ بِهِ مِمَّا يجوزه الْعقل على مَا تقرر وَنحن قد أثبتنا الْأَدِلَّة القاطعة على صدقه وأنواعها فَيجب عَلَيْكُم أَن تقبلُوا شَرعه إِذْ قَالَ أَنا رَسُول الله إِلَى النَّاس كلهم وَإِلَى الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَقد ظهر صدقه فِي قَوْله وَإِن لم تَفعلُوا فقد وَجَبت عَلَيْكُم اللَّعْنَة وحاقت بكم الطامة {وَسَيعْلَمُ الْكفَّار لمن عُقبى الدَّار}

وَنحن نذْكر إِن شَاءَ الله تَعَالَى مَا اعْترضُوا بِهِ على ديننَا ونحكي اعتراضهم كَمَا ذَكرُوهُ فِي كتبهمْ ونسبوه إِلَى أساقفتهم قَالَ صَاحب كتاب الْحُرُوف بعد أَن ذكر وَصِيَّة عِيسَى الَّتِي قَالَ فِيهَا احْذَرُوا أَنْبيَاء الْكَذِب الَّذين يأتونكم بلباس الحملان يَعْنِي سمة الْأَبْرَار وزي الْعباد وَبَاطِنهمْ ذئاب خاطفة قَالَ بعد ذَلِك معرضًا بنبينا ومستنقصا لديننا وَقد رَأينَا نَفاذ قَوْله هَذَا فبمن ادّعى النُّبُوَّة فأظهر سمة الحملان ثمَّ عمل عمل الذئاب فَأمر بِخِلَاف هَذِه الْوَصَايَا من الْعَدَاوَة للنَّاس عَامَّة والتحريض على قتل من خَالفه وَالْأَمر بِالْقصاصِ والإنتقام ثمَّ أَمر بالإكثار من النِّسَاء وَرخّص فِي طلاقهن وَأحل تَزْوِيج المطلقات الفاجرات ثمَّ ردهن إِلَى الْأزْوَاج الْأَوَّلين بعد طَلَاق ثَان وَأحل ذَلِك لَهُنَّ من الرجل الثَّانِي إِلَى الأول ثمَّ مَا وصف الله بِهِ من الْجور والقساوة وَالظُّلم إِذْ زعم أَنه يهدي بَعْضًا ويضل بَعْضًا وَقَالَ القوطي الَّذِي قدمنَا ذكره لَا فَائِدَة فِي شريعتكم لأَنا نجد الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة حكمين الأول التوراوي الَّذِي هُوَ من لطمك فالطمه الآخر الإنجيلي الَّذِي هُوَ من لطم خدك الْيُمْنَى فانصب لَهُ الْيُسْرَى وَأَنت ترى فضل هَذَا على الأول ثمَّ لَا تَجِد لهذين الْحكمَيْنِ ثَالِثا إِلَّا كَانَ دَاخِلا فيهمَا هَذَا مُنْتَهى مَا يعْتَرض بِهِ من ينتمي إِلَى النّظر من أقستهم وَإِن كَانَ بَعيدا عَن التَّحْقِيق وَأما عامتهم وَمن لَا مبالاة بهم فقد تَقولُوا العظائم وجاهروا

بالتواقح والشتائم وَنحن نجيب هذَيْن الْقسمَيْنِ على مَا قَالَاه جَوَابا يرفع الإشتباه وَنَرْجُو بِهِ التَّقَرُّب من الْإِلَه فَنَقُول للْأولِ أما استدلالك على رد نبوة نَبينَا بقول عِيسَى فتجهيل للعامة وتلبيس عَلَيْهِم فَإنَّك أدخلته فِي جملَة أَنْبيَاء الْكَذِب وَقد شهد الْأَنْبِيَاء بصدقه كَمَا قدمنَا بل قد شهد كتابك بصدقه وبنبوته فَإِنَّهُ قد جَاءَ فِيهِ من قَول عِيسَى مَالا يمكنك إِنْكَاره حَيْثُ ذكر البرقليط وَأخْبر أَنه يَأْتِي وَوَصفه بِمَا يَنْبَغِي لَهُ وَقد قدمنَا ذَلِك مُسْتَوفى فَهَذَا مِنْك ياهذا جهل بكتبك وَتَكْذيب لأنبيائك ورسلك وَإِنَّمَا الَّذِي حذر مِنْهُ عِيسَى وَغَيره من الْأَنْبِيَاء إِنَّمَا هم أَنْبيَاء الْكَذِب كَمَا قَالَ وَلم تزل الْأَنْبِيَاء يحذرون من الْأَنْبِيَاء الْكَذَّابين وَلَقَد أَكثر من مثل هَذَا التحذير نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى قَالَ يكون فِي آخر الزَّمَان ثَلَاثُونَ كذبا كلهم يزْعم أَنه نَبِي وَأَنا خَاتم النَّبِيين فَلَا رَسُول بعدِي وَلَا نَبِي وَقد وجد بَعضهم وَلَا بُد من أَن يُوجد الْبَاقِي كَمَا قَالَ الصَّادِق وَأما قَوْلك أَن سمة نَبينَا سمة الحملان وَعَمله عمل الذئاب فكذب صراح وإفك وقاح وَنحن قد بَينا سمته وَعَمله ومنهاجه وَقد عرف حَاله الْقَرِيب والبعيد بل سمته سمت الْأَنْبِيَاء وَعَمله عَمَلهم وَلَا فرق بَينه وَبينهمْ إِلَّا أَنه أفضلهم وأكملهم وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن فِي صحف أشعياء أَنه قَالَ أَتَت أَيَّام الإفتقادات أَيَّام الْكَمَال ثمَّ قَالَ لِتَعْلَمُوا يَا بني إِسْرَائِيل الْجَاهِلين أَن الَّذِي تسمونه ضَالًّا هُوَ صَاحب النُّبُوَّة تفترون بذلك على كَثْرَة ذنوبكم وَعظم فجوركم وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّمَا عَنى نَبينَا وَلم يرد غَيره لِأَنَّهُ قَالَ يَا بني إِسْرَائِيل وَهَذَا خطاب لجميعهم وَلم تكذب جَمِيع بني إِسْرَائِيل بنبوة نَبِي إِلَّا نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى غير ذَلِك مِمَّا تقدم وَأما عِيسَى وَغَيره فَكَانَ مِنْهُم من آمن بِهِ وَصدقه على مَا هُوَ مَعْرُوف وَأما قَوْلك أَمر بِخِلَاف هَذِه الْوَصَايَا من العدواة للنَّاس فكذب وتشنيع لَا يرضى بِهِ سفلَة النَّاس بل قد أَمر بالألفة والإجتماع والتحاب فِي الله والمؤاخاة فِي ذَاته والتعاون على الْبر وَالتَّقوى وَنهى عَن التباغض والتدابر والتخاذل على مَا بَيناهُ من شَرعه

وكل ذَلِك من حَاله وحالهم مَعْرُوف بِحَيْثُ لَا يجهل ومشهور بِحَيْثُ لَا يُنكر نعم رَحمته للْمُؤْمِنين وغلظته على الْكَافرين وَكَذَلِكَ وَصفه الله فِي كتبه وعَلى لِسَان رسله قَالَ الله الْعَظِيم فِي مُحكم وحيه الْكَرِيم {لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم حَرِيص عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رؤوف رَحِيم} وَكَذَلِكَ كَانَت أَحْوَال أَصْحَابه قَالَ الله تَعَالَى {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم} وَلَيْسَ كَمَا تقولونه أَنْتُم عَن أَصْحَاب عِيسَى أَنه لما تقبضت الْيَهُود عَلَيْهِ فروا عَنهُ وأنكروه وحلفوا على أَنهم لم يعرفوه فأسلموه وتركوه وَقد بَينا فِيمَا تقدم مَا ذكرت الْأَنْبِيَاء من أَوْصَافه وعَلى أَنه لم يغلظ على الْكَافرين حَتَّى تمردوا على الله وكذبوا رسالات الله وَذَلِكَ أَنه أَقَامَ بَين أظهرهم عشر سِنِين أَو نيفا عَلَيْهَا يَدعُوهُم إِلَى الله على سَبِيل الْوَعْظ والإنذار والتعليم والتبليغ وَإِظْهَار الْآيَات والعجائب ملينا لَهُم القَوْل ومظهرا لَهُم الإشفاق وباذلا لَهُم النَّصِيحَة صَابِرًا بِنَفسِهِ على مَا يلقى من أذاهم وَمن سبهم وهم مَعَ ذَلِك يبالغون فِي ضَرَره بِكُل مَا يُمكن وَكلما ألح عَلَيْهِم بالإنذار زادوا فِي الْإِضْرَار حَتَّى هموا بقتْله وطرده عَن بَلَده وَأَهله وَبعد ذَلِك أمره الله بالإنتصار مِمَّن ظلمه وَإِخْرَاج من أخرجه وَلذَلِك أنزل الله تَعَالَى عَلَيْهِ {أذن للَّذين يُقَاتلُون بِأَنَّهُم ظلمُوا وَإِن الله على نَصرهم لقدير} وَأما قَوْله والتحريض على قتال من خَالفه فَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَن يعاب بِهِ دين فَإِن الْكَافِر بِالْحَقِّ لَا حُرْمَة لَهُ وجنايته أكبر من كل جِنَايَة فعقوبته يَنْبَغِي أَن تكون أكبر من كل عُقُوبَة لَا سِيمَا بعد أَن تقدم للْكَافِرِينَ بالأعذار وبولغ لَهُم فِي الْإِنْذَار وَلأَجل أَن الْكَافِر لَا حُرْمَة لَهُ عِنْد الله يُعَاقِبهُ فِي الدَّار الْآخِرَة عُقُوبَة لَا إنقطاع لَهَا بإتفاق الشَّرَائِع وَإِن جَازَ أَن يعاب شرعنا لِأَنَّهُ جَاءَ بِقِتَال الْكَافرين جَازَ أَن يعاب شرع مُوسَى فَإِنَّهُ جَاءَ بِقِتَال الجبارين على مَا لَا يخفى على

أحد من المتشرعين فقد لزم هَذَا الْمُنكر لشرعنا من حَيْثُ أَنه شرع فِيهِ الْقِتَال أَن يُنكر مَا يدين بِهِ ويعتقده من شرع مُوسَى بن عمرَان وَيَنْبَغِي لَهُ أَن يسفه فعل يشوع بن نون حَيْثُ أذاق الجبارين أَشد الْقَتْل وَأعظم الْهون ثمَّ أعجب من ذَلِك جهلهم بِمَا فِي كتبهمْ أَو مجاهرتهم بإنكارها وَذَلِكَ أَنه يَجدونَ فِي كتبهمْ أَوْصَاف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويجدون فِيهَا أَنه يبْعَث بِالْقَتْلِ وَالسيف ثمَّ يُنكرُونَ ذَلِك ويباهتون فِيهِ وَقد ذكرنَا من ذَلِك مَا فِيهِ كِفَايَة وَمن ذَلِك مَا قد جَاءَ فِي كتاب أشعياء أَنه أخبر عَن هزيمَة الْعَرَب وَقتل اشرافهم فَقَالَ لما ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يدوسون الْأُمَم كدوس البيادر وَينزل الْبلَاء بمشركي الْعَرَب وينهزمون ثمَّ قَالَ وينهزمون بَين يَدي سيوف مسلولة وقسى موتورة من شدَّة الملحمة وَكَذَلِكَ قَالَ حبقوق تضيء لنوره الأَرْض وستنزع فِي قسيك إغراقا وترتوي السِّهَام بِأَمْرك يَا مُحَمَّد إرتواء وَهَذِه نُصُوص على إسمه وَصفته كَمَا تقدم وَقد أَشَارَ إنجيلكم إِلَى هَذَا فَإِنَّكُم تَزْعُمُونَ أَن عِيسَى قَالَ لتلاميذه إِنِّي كنت أرسلتكم وَلَيْسَ مَعكُمْ مزود وَلَا خف فَهَل ضركم ذَلِك أَو نقصكم شَيْئا قَالُوا لَا قَالَ أما الْآن فَمن لم يكن لَهُ كيس فليأخذ كيسا ومزود فليشتر مزودا وَمن لم يكن لَهُ سيف فليبع من ثِيَابه وليشتر سَيْفا فَأَمرهمْ بإشتراء السيوف لِلْقِتَالِ بعد أَن كَانَ نَهَاهُم عَن الْقِتَال لعلمه أَن مُحَمَّدًا يبْعَث بعده بِالسَّيْفِ وَهَذَا كثير بِحَيْثُ لَا يحْتَمل التَّأْوِيل

وَخير من ذَلِك كُله أَنهم قد ذكرُوا فِي إنجيلهم أَن عِيسَى قَالَ لَهُم لَا تحسبوا أَنِّي قدمت لأصلح بَين أهل الأَرْض لم آتٍ لاصلاحهم لَكِن لألقى الْمُحَاربَة بَينهم إِنَّمَا قدمت لأفرق بَين الْمَرْء وإبنه وَالْمَرْأَة وإبنتها وأعداء الْمَرْء أهل بَيته وَهَذَا نَص بِأَن عِيسَى إِنَّمَا جَاءَ بالمحاربة وإلقاء الْعَدَاوَة بَين النَّاس وَهَذَا عين مَا أنكروه علينا ثمَّ قد زَاد وَأَعْلَى ذَلِك أَنهم حكوا أَنه قَالَ لم آتٍ لأصلح أهل الأَرْض لم آتٍ لإصلاحهم وَظَاهر هَذَا إِنَّمَا جَاءَ بِفساد أهل الأَرْض وَهَذَا لايصح أَن يَقُوله عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا غَيره من الْأَنْبِيَاء وَهُوَ من كذبهمْ وتحريفهم وَقد قدمنَا ذَلِك فِيمَا سبق وَمن الْعجب أَنهم يَقُولُونَ أَن مِلَّة الْمَسِيح وشريعته لم تأت بِقِتَال ويتمدحون بِأَنَّهَا لم تظهر بِقِتَال وَإِنَّمَا ظَهرت بِمَا ظهر على أَيدي الحواريين من الْعَجَائِب وهم مَعَ ذَلِك يعترفون بمحاربة قسطنطين وبمقاتلته من خَالفه وَأَنه الَّذِي تلقيت عَنهُ الشَّرِيعَة الصليبية فَإِنَّهُ أرى فِي النّوم صُورَة الصَّلِيب وَقيل لَهُ بِهَذَا تنصر فَفعله وأعتقده وَقَاتل فنصر وأعجب من ذَلِك تَلبسهمْ بِالْقِتَالِ والإكثار مِنْهُ أَبَد الدَّهْر إِلَى الْيَوْم وهم مَعَ ذَلِك يدعونَ أَن الْقِتَال غير مَشْرُوع لَهُم ويذمون الشَّرِيعَة الَّتِي جَاءَت بِهِ فهم قد ناقضت أفعالهم أَقْوَالهم وَشهِدت على كذبهمْ أَحْوَالهم ثمَّ نقُول لقسطنطين ولجماعة النَّصَارَى المقاتلين قتالكم من خالفكم لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون مَشْرُوعا لكم أَو غير مَشْرُوع لكم فَإِن كَانَ مَشْرُوعا لكم فلأي معنى تخالفونا فِي ذَلِك وتذموا شرعنا لأَجله وَإِن لم يكن مَشْرُوعا لكم فلأي معنى تركْتُم شرعكم وفعلتم خِلَافه وَكَيف حل لكم ذَلِك فَأنْتم بَين أَمريْن قبيحين عَلَيْكُم إِمَّا أَن تعترفوا بِأَن قتال الْأَعْدَاء جَائِز حسن فَلَا تَذُمُّوا شرعنا لأَجله وَإِمَّا أَن تعترفوا بِأَنَّهُ غير جَائِز وقبيح فيلزمكم التَّنَاقُض والسفه وَالْخُرُوج عَن شَرِيعَة الْمَسِيح فَأنْتم على الْمثل السائر أَعور بِأَيّ عَيْنَيْهِ شَاءَ

فَإِن قَالُوا إِنَّمَا نقتصر بِالْقِتَالِ لأنفسنا ونمتنع مِمَّن يُرِيد بِهِ ظلمنَا قُلْنَا وَمن شرع لكم أَن تنتصفوا مِمَّن ظلمكم أَو تنتصروا لأنفسكم بل قد حكيتم فِي إنجيلكم أَنه قَالَ لكم احْفَظُوا أعداءكم وأكرموا من أَسَاءَ إِلَيْكُم فَإِن لم تحفظُوا إِلَّا إخْوَانكُمْ فَمَا أجرؤكم على ذَلِك وَهَذَا نَص على أَنه يَنْبَغِي لكم أَن تستسلموا عَن قاتلكم وَلَا تنتصروا مِمَّن ظلمكم فَإِن لم تَفعلُوا ذَلِك فقد تركْتُم شرعكم واستهنتم بِسنة نَبِيكُم ثمَّ يلزمكم على ذَلِك أَن تعترفوا بِأَن شرعكم نَاقص إِذْ قد بَين لكم نَبِيكُم بعض الْمصَالح وَترك بَعْضهَا وَهُوَ الْقِتَال الَّذِي استدركتموه بنظركم من حَيْثُ كَانَ ضَرُورِيًّا ومحتاجا إِلَيْهِ وتعترفوا بِكَمَال الشَّرْع الَّذِي جَاءَ بِالْقِتَالِ الَّذِي هُوَ شرعنا وَعند هَذَا يتَبَيَّن فَسَاد قَوْلهم إِن الحكم حكمان لَا ثَالِث لَهما وَيفْسد عيبهم علينا الْقصاص وَذَلِكَ أَنهم يَزْعمُونَ أَن حكم التَّوْرَاة يقتضى الْقصاص وَحكم الْإِنْجِيل يقتضى الْعَفو ثمَّ زعم ذَلِك الْجَاهِل أَن لَا حكم ثَالِث وَلم يشر بثالث متوسط هُوَ أكملهما وأتمهما وَهُوَ الحكم الفرقاني حَيْثُ قَالَ الله الْعَظِيم {وَإِن عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمثل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهو خير للصابرين} وَقَالَ {وَلمن صَبر وَغفر إِن ذَلِك لمن عزم الْأُمُور} وَقَالَ تَعَالَى {وَلمن انتصر بعد ظلمه فَأُولَئِك مَا عَلَيْهِم من سَبِيل} ثمَّ الْعجب من هَؤُلَاءِ الْجُهَّال كَيفَ يذمون شريعتنا ويكذبونها من حَيْثُ أَنَّهَا تَضَمَّنت الْقصاص ويؤمنون بشريعة مُوسَى وَقد صرحت بِالْقصاصِ فيلزمهم على قَوْلهم أَن يكذبوا بشريعة مُوسَى ويذمونها من ذَلِك الْوَجْه ثمَّ أعجب من ذَلِك كُله مدحهم شريعتهم من حَيْثُ كَانَت مَبْنِيَّة على الْعَفو والصفح ثمَّ مَعَ ذَلِك أَبَوا أَن يجوزوا عَفْو الله تَعَالَى عَن آدم حِين أكل من الشَّجَرَة حَتَّى قَالُوا أَن جَمِيع بني آدم

كَانُوا مرتهنين بِمَعْصِيَة أَبِيهِم حَتَّى فداهم الْمَسِيح بِنَفسِهِ بل لم يتَصَوَّر عِنْدهم عَفْو الله حَتَّى انتقم من إِلَه مثله تَعَالَى الله وتقدس عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا فعلى هَذَا نقُول لَهُم لَا يَخْلُو الْعَفو من أَن يكون هُوَ الأولى مُطلقًا أَو الإنتقام هُوَ الْأَفْضَل أَو الْحَالة الثَّالِثَة فَإِن كَانَ الْعَفو هُوَ الأولى فَلم لم يعف الله تَعَالَى عَن آدم من غير أَن يُعَاقِبهُ وبنيه على مَا زعمتم وَإِن كَانَ الإنتقام هُوَ الأولى فَلم لم ينْتَقم من آدم وبنيه مُطلقًا فَلم يبْق على هَذَا إِلَّا أَن الأولى هُوَ الْحَالة الثَّالِثَة وَهُوَ الإنتقام فِي حَال من مُسْتَحقّه وَالْعَفو فِي حَال أُخْرَى عَن مُسْتَحقّ الْعقَاب تفضلا وتكرما حسب مَا يُريدهُ الْبَارِي تَعَالَى وعَلى هَذَا الْمِنْهَاج السديد وَالْأَمر الرشيد جَاءَت شريعتنا فَهِيَ كَامِلَة متممة والحمدلله ثمَّ إِذا كَانَ الْعَفو هُوَ الأولى وَالْأَفْضَل وَبِه جَاءَت شريعتكم فلأي معنى تتركون شريعتكم الأولى فقد اعترفتم بألسنتكم وتناقضتم بأفعالكم وَكم لكم مِنْهَا وَكم وَأما إعتراضه على شرعنا بتحليل نِكَاح الْكثير من النِّسَاء فَذَلِك مَالا يَنْبَغِي أَن يُنكره أحد من الْعُقَلَاء فَإِنَّهُ من مجوزات الْعُقُول وَقد ورد بذلك الشَّرْع الصَّادِق الْمَنْقُول ثمَّ قد ورد عَن جمَاعَة من الرُّسُل وَقد جَاءَت بذلك الْكتب ألم يَجِيء فِي التَّوْرَاة أَن إِبْرَاهِيم كَانَت لَهُ سارة وَهَاجَر وَكَذَلِكَ ورد فِيهَا أَن يَعْقُوب جمع بَين أُخْتَيْنِ ليئة وراحيل وَقد ثَبت أَيْضا أَن سُلَيْمَان كَانَت لَهُ مائَة إمرأة أَو تِسْعَة وَتسْعُونَ بل قد روى فِي الْإسْرَائِيلِيات أَنه كَانَ لَهُ ثَلَاث مائَة إمرأة حرَّة وَسبع مائَة سَرِيَّة فَإِن كَذبْتُمْ شرعنا لأجل أَنه اشْتَمَل على جَوَاز نِكَاح نسَاء كَثِيرَة فلتكذبوا بنبوة إبراهم وَيَعْقُوب وَسليمَان وَلَا فرق بَين نَبينَا وَبَين هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاء فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُم رَسُول الله يبلغ

حكم الله فَمَا لكم تنكرون مَا بِمثلِهِ تعترفون وتكذبون عين مَا تصدقُونَ فَلَعَلَّ الْمَعْتُوه الَّذِي لَا يعرف مابه يفوه ثمَّ لَا يُنكر عَاقل حِكْمَة الله تَعَالَى فِي شَرْعِيَّة كَثْرَة النِّسَاء إِذْ مَقْصُوده بذلك إِنَّمَا هُوَ تَكْثِير النَّسْل وَعمارَة الدُّنْيَا بِالذَّرَارِيِّ ليكْثر الصالحون لما أَرَادَ الله بهم من الْكَرَامَة وليكثر الطالحون لما أَرَادَ الله بهم من الشقاوة والتعذيب ولتنفذ على خلقه أَحْكَامه وتجري عَلَيْهِم أقداره {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون} وَأما إعتراضه بِالطَّلَاق ورد المطلقات فقد تقدم ذكره على أوضح المقالات وأشفينا فِي الْجَواب على أحسن الغايات فلينظره من أَرَادَهُ فِي بَاب النبوات وَأما إعتراضهم على إعتقادنا أَن الله يهدي من يَشَاء ويضل من يَشَاء فقد قدمنَا فِيهِ قولا كَافِيا وَلَكنَّا مَعَ ذَلِك نؤيده أيضاحا فَنَقُول قد قَامَ الدَّلِيل الْقَاطِع والبرهان الصادع على أَن الله تَعَالَى مُنْفَرد بِخلق الموجودات ومريد لكل الحادثات لَا يخرج عَن قدرته مُمكن وَلَا يشذ عَن إِرَادَته حَادث وَالْهدى والضلال من الْحَوَادِث فَإِذن هما مستندان إِلَيْهِ وموجودان بإرادته وَتَحْقِيق هَذَا الْبُرْهَان يعرف فِي مَوْضِعه ثمَّ نقُول لَا يشك عَاقل أَن الْهدى والضلال وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا أُمُور محدثة وأفعال مَوْجُودَة بعد أَن لم تكن وكل فعل مُحدث فَلَا بُد لَهُ من فَاعل مُحدث بِالضَّرُورَةِ ففاعل الْهدى والضلال وخالقهما إِمَّا أَن يكون الله سُبْحَانَهُ أَو غَيره محَال أَن يكون غير الله لِاسْتِحَالَة وجود خالقين وَيلْزم مِنْهُ إمتناع الْخلق كَمَا قدمنَا حِين ذكرنَا دلَالَة التمانع فَلم يبْق إِلَّا أَن يكون الْفَاعِل هُوَ الله تَعَالَى إِذْ لَا خَالق إِلَّا هُوَ وَلَا مبدع سواهُ ثمَّ نقُول لِلنَّصَارَى صلب الْمَسِيح وَقَتله إِمَّا أَن يكون ضلالا وَإِمَّا أَن يكون هدى ومحال أَن يكون هدى فَإِنَّكُم تكفرون من فعل ذَلِك

وتضللونهم وَلأَجل ذَلِك الْفِعْل حاق الْغَضَب وحاقت اللَّعْنَة على الْيَهُود بزعمكم فَلم يبْق إِلَّا أَن يكون ضلالا وَإِذا كَانَ كَذَلِك فقد لزمكم أَن الله فعل الضلال فَإِنَّكُم قد صرحتم بِأَن الله إِنَّمَا فعل ذَلِك لأجل خطية آدم وَلَا من أحد من وَلَده وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن ينْتَقم من إِلَه مثله فقد صرحتم ونصصتم أَن الله تَعَالَى أَرَادَ الضلال وَفعله على أقبح مَا سمع وأشنع مَا بِهِ يتحدث ثمَّ إِنَّا لَا ندير مِمَّا يكون التَّعَجُّب أَكثر إِن كَانَ من ذهَاب عقولكم أَو من جهلكم بكتبكم فَأَما نقص عقولكم فَإِنَّكُم تَقولُونَ أقوالا تتناقضون فِيهَا وَلَا تشعرون وتلتزمون ضروبا من المحالات وتنكرون أمورا جائزات كَمَا قدمنَا آنِفا وَلم نزل نبين ذَلِك من أول كلمة من هَذَا الْكتاب إِلَى آخِره وَأما جهلكم بكتبكم فقد جَاءَ فِي كتابكُمْ نصا هَذَا الْمَعْنى الَّذِي أنكرتموه علينا وَذَلِكَ أَن عِيسَى قَالَ حِين دنا أَجله يَا أبتاه إِنَّك قَادر على جَمِيع الْأَشْيَاء فزح عني هَذِه الكأس وَلَكِن لست أَسأَلك أَن تفعل مشيئتي بل مشيئتك وَهَذَا نَص على أَن الله على كل شَيْء قدير وَأَنه يفعل مَا يُرِيد وَأَنه أَرَادَ صلب الْمَسِيح بزعمكم وَكَانَ ضلالا للْيَهُود بِلَا شكّ فَمَا لكم تخبطون وَعَن كتبكم تعرضون بل أَنْتُم عَن عقولكم مصروفون وَفِي ورطة الْجَهْل مرتبكون وَفِي بحبوحة الضلال عمهون فَلَقَد صدق الَّذِي قَالَ الْيَهُود مغضوب عَلَيْهِم وَالنَّصَارَى ضلال وَالْكَلَام على الْهدى والضلال والطبع والختم يَسْتَدْعِي تَطْوِيلًا وشرحا وتفصيلا وَمن طلبه وجده إِذا ساعده التَّحْقِيق ورافقه التَّوْفِيق وَقد حصل غرضنا من مكالمة هَؤُلَاءِ وإفحامهم والحمدلله وَأما قَوْله ودعواه أَنا وَصفنَا الْبَارِي تَعَالَى بالجور والقساوة وَالظُّلم فعلى الْمثل السائر رمتني بدائها وانسلت

أما نَحن فننزه الله تَعَالَى عَن كل مَا ذكر وَلَا نقُول بقول يُؤَدِّي إِلَى ذَلِك وَكَيف يَصح فِي حَقه تَعَالَى الظُّلم والجور وَهُوَ إِنَّمَا يتَصَرَّف فِي ملكه وَملكه وخلقه وَلَا يجب عَلَيْهِ لأحد من خلقه حق بل هُوَ متفضل بِكُل مَا يفعل وَإِنَّمَا يتَصَوَّر الظُّلم والجور فِي حق من تصرف فِي ملك غَيره أَو عدل عَن فعل مَا وَجب عَلَيْهِ وَهَذَا كُله فِي حق الله تَعَالَى محَال وَإِنَّمَا يلْزم وَصفه بالظلم والجور والقساوة لمن قَالَ إِن آدم عَصَاهُ ثمَّ جعل ذَنبه على جَمِيع وَلَده ثمَّ لم يقنع بِشَيْء من دِمَائِهِمْ بل وَلَا من دِمَائِهِمْ كلهم حَتَّى انتقم من اله مثله وأجرى دَمه على خَشَبَة الصَّلِيب فَهَذَا ظلم من حَيْثُ حمل الذَّنب من لم يَفْعَله وجور من حَيْثُ قتل إِلَهًا لأجل لقْمَة من شَجَرَة أكلهَا غَيره وقساوة من حَيْثُ قتل وَلَده وحبيبه فِي عَبده العَاصِي عنْدكُمْ وَلم يعف نَعُوذ بِاللَّه من هَذِه القبائح وَمن إلتزام هَذِه الفضائح وتتبع جهالات الْجُهَّال بِحَق مَعْقُول العقال على أَن كَلَام هَؤُلَاءِ الْقَوْم لَا يسْتَحق أَن يسمع إِذْ لَيْسَ لَهُم فِي الْعُقُول مطمع ولكثرة فَسَاد كَلَامهم يحار النحرير النَّاظر فِي هذيانهم فيظل مُتَعَجِّبا وينشد متمثلا ... تَفَرَّقت الظباء على خرَاش ... فلايدري خرَاش مَا يصيد ... وَأَنا أكرر الإستغفار من حكايات كَلَامهم وأسأله النَّفْع بِإِظْهَار فَسَاد مرامهم وَمَعَ ذَلِك فقد أصبْنَا مِنْهُم غَرضا وصادفنا مِنْهُم مقتلا وَلَئِن زادوا زِدْنَا وَإِن عَادوا عدنا ... إِن عَادَتْ الْعَقْرَب عدنا لَهَا ... وَكَانَت النَّعْل لَهَا حَاضِرَة ... وَيَنْبَغِي أَن نختم الْكتاب بِدُعَاء مأثور عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَعَلَّ الْوَاقِف على كتابي هَذَا يُؤمن عِنْد خاتمته وَعَسَى الله أَن يشركنا فِي صَالح دَعوته

فَأَقُول اللَّهُمَّ اقْسمْ لنا من خشيتك مَا تحول بَيْننَا وَبَين مَعَاصِيك وَمن طَاعَتك مَا تبلغنَا بِهِ جنتك وَمن الْيَقِين مَا تهون بِهِ علينا مصائب الدُّنْيَا وَمَتعْنَا بأسماعنا وأبصارنا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا واجعله الْوَارِث منا وَاجعَل ثَأْرنَا على من ظلمنَا وَانْصُرْنَا على من عَادَانَا وَلَا تجْعَل مُصِيبَتنَا فِي ديننَا وَلَا تجْعَل الدُّنْيَا أكبر هَمنَا وَلَا مبلغ علمنَا وَلَا تسلط علينا من لَا يَرْحَمنَا آمين آمين والحمدلله رب الْعَالمين وَالصَّلَاة على مُحَمَّد سيد الْمُرْسلين وَسَلام عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم فِي الْعَالمين وعَلى صَحبه أَجْمَعِينَ وعَلى التَّابِعين لَهُم بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الدّين نجز الْكتاب الْمُبَارك بحمدالله وعونه وَحسن توفيقه على يَد العَبْد الْفَقِير إِلَى الله تَعَالَى عَليّ بن مُحَمَّد بن عانبه الفيومي نسبا وَالشَّافِعِيّ مذهبا حامدا لله ومصليا وَمُسلمًا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى جَمِيع الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ فِي سَابِع عشْرين شهر ربيع أول سنة تسع وَسبعين وثماني مائَة قَالَ فِي أصل النُّسْخَة وَكَانَ الْفَرَاغ مِنْهُ ضحوة سادس شهر شعْبَان سنة سِتّ وَعشْرين وَسبع مائَة بِدِمَشْق المحروسة والحمدلله رب الْعَالمين تمّ الْجُزْء الرَّابِع من كتاب الْإِعْلَام بِمَا فِي دين النَّصَارَى من الْفساد والأوهام وَإِظْهَار محَاسِن دين الْإِسْلَام وَإِثْبَات نبوة نَبينَا مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وبتمامه تمّ الْكتاب كُله بعون الله وَكَانَ الْفَرَاغ من تَحْقِيقه وَالتَّعْلِيق عَلَيْهِ والتقديم لَهُ فِي يَوْم السَّبَب الْعشْرين من شهر شَوَّال سنة ثَمَان وَتِسْعين وثلثمائة وَألف من الْهِجْرَة الْمُوَافق الثَّالِث وَالْعِشْرين من شهر سبتمبر سنة ألف وتسعائة وثمان وَسبعين من الميلاد فِي مَدِينَة الْقَاهِرَة

ملحق

مُلْحق فِي تقديمنا لهَذَا الْكتاب تحدثنا فِي مبحثين إثنين هما 1 الأقانيم 2 والمسيا المنتظر بِفَتْح الْمِيم وَكسر السِّين وَتَشْديد الْيَاء مَفْتُوحَة وَمَعَ كتابتهما كتبت مبحثا ثَالِثا عَن مبادئ النَّصْرَانِيَّة وَرَأَيْت أَن أَضَعهُ فِي نِهَايَة الْكتاب كملحق لِأَن فهمه يتعسر على الْقَارئ أَو السَّامع إِذا لم يقْرَأ قبله المبحثين وَكتاب الْإِعْلَام هَذَا أَو كتبا فِيهَا مَا يساعد على الْفَهم {وعَلى الله قصد السَّبِيل} د أَحْمد حجازي السقا

المبحث الثالث

المبحث الثَّالِث مبادئ النَّصْرَانِيَّة أَي سفر من أسفار الْكتب المقدسة عِنْد النَّصَارَى يُمكن أَن تظهر لنا مِنْهُ بوضوح مبادئ النَّصْرَانِيَّة لَيْسَ غير سفر أَعمال الرُّسُل الْمُسَمّى باللغة اليونانية الأبركسيس فَإِن هَذَا السّفر الْمَوْضُوع بعد الأناجيل الْأَرْبَعَة لَا يحْكى فَقَط عَن نمو الْجَمَاعَة النَّصْرَانِيَّة الأولى بل يحْكى للنَّاس جَمِيعًا كَيفَ اتّفق بطرس وبولس وَيَعْقُوب وَمن نحا نحوهم فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ على تَغْيِير دَعْوَة الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام الْأَصْلِيَّة وَقبل أَن نبين مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ نقُول أَولا لماذا أتفقوا على مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ هَل {حسدا من عِنْد أنفسهم من بعد مَا تبين لَهُم الْحق} كَمَا فِي الْقُرْآن الْكَرِيم إِنَّهُم يعلمُونَ علم الْيَقِين من أتوراة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام الْأَسْفَار الْخَمْسَة ب وَمن أسفار الْأَنْبِيَاء الَّذين ظَهَرُوا من بعد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يعلمُونَ أَن نَبيا سَيظْهر للْعَالم قَالَ عَنهُ بطرس فَإِن مُوسَى قَالَ للآباء أَن نَبيا مثلي سيقيم لكم الرب إِلَهكُم من إخوتكم لَهُ تَسْمَعُونَ فِي كل مَا يكلمكم بِهِ وَيكون أَن كل نفس لَا تسمع لذَلِك النَّبِي تباد من الشّعب وَهَذَا النَّبِي يعلمُونَ أَنه لَيْسَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّهُ من بني إِسْرَائِيل وَلَو كَانَ النَّبِي الْآتِي من بني إِسْرَائِيل لقَالَ من أَنفسكُم وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مماثلا لمُوسَى فِي 1 الحروب 2 المعجزات 3 والإنتصار على الْأَعْدَاء فَإِن الَّذِي لم يسمع لكَلَامه لم يُبْدِهِ الرب من الشّعب على يَدَيْهِ كَمَا أبادهم على يَد نَبِي الْإِسْلَام صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

وَهَذَا النَّبِي يعلمُونَ أَنه سَيكون نَاسِخا لشريعة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَإِن من أَوْصَافه لَهُ تَسْمَعُونَ فِي كل مَا يكلمكم بِهِ لقد اتَّفقُوا على إستبدال نَبِي بني نَبِي تحدثت عَنهُ نبوءات التَّوْرَاة وَهُوَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِنَبِي لم يرد لَهُ ذكر فِي أَي سفر وَهُوَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي سَبِيل ذَلِك لَا بُد من أَن يتفادوا أَمريْن إثنين لَا ثَالِث لَهما الأول النبوءات الَّتِي تحدثت عَن مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالثَّانِي الشَّرِيعَة الَّتِي سيبلغها النَّبِي المنتظر للنَّاس عَن أَمر الله عز وَجل مُنَاسبَة للزمان الَّذِي سَيظْهر فِيهِ فَمَاذَا قُولُوا لتفادي هذَيْن الْأَمريْنِ قَالُوا إِن النبوءات يجب أَن تطبق على عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالُوا نعمل شَرِيعَة جَدِيدَة فِيهَا من تعاليم مُوسَى وفيهَا من تعاليم الرومانيين وننسبها إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَكَيف ينسبونها إِلَيْهِ وَقد رفع إِلَى السَّمَاء وَهُوَ لَا يعلم عَنْهَا شَيْئا هَذَا أشكال اعْتَرَضَهُمْ وَلَكنهُمْ تفادوه أَيْضا بزعمهم أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام نزل من السَّمَاء بعد سِنِين من رَفعه إِلَيْهَا وقابل بولس وَهُوَ منطلق إِلَى مَدِينَة دمشق فِي رُؤْيا وَقَالَ لَهُ يَا بولس انْطلق بإذني وأمري بدعوتي إِلَى 1 أُمَم 2 وملوك 3 وَبني إِسْرَائِيل ونسوا أَن يبينوا مَا هِيَ الدعْوَة الجديدة الَّتِي لقنها عِيسَى لبولس مَا بينوا قطّ لِأَن الظَّاهِرَة من رسائل بولس أَنه يَدْعُو بدعوة من تِلْقَاء نَفسه ويشرع للنَّاس مَا استحسنه من تِلْقَاء نَفسه وَينْصَح تلاميذه بِمَا يصلح الْمعدة والبطن وخلاصة دَعوته فِي هَذِه الْعبارَة الدعْوَة الَّتِي دعى فِيهَا كل وَاحِد فليلبث فِيهَا أَي إِذا دَعَا الْيَهُودِيّ إِلَى النَّصْرَانِيَّة وَقبل الدعْوَة فليعمل بِحَسب شَرِيعَته الَّتِي درج عَلَيْهَا وَهِي شَرِيعَة مُوسَى وَإِذا دعى اليوناني إِلَى النَّصْرَانِيَّة وَقبل الدعْوَة فليعمل بِحَسب قوانين بِلَاده الَّتِي تحكم المواطنين وبحسب الْعَادَات والتقاليد الَّتِي درج عَلَيْهَا وَهَكَذَا يكون إسم النَّصْرَانِيَّة كمظلة على رُؤُوس الْكل وَالنَّاس أَحْرَار فِي أَعْمَالهم تَحت المظلة ثمَّ قَالَ على سَبِيل الْإِذْن أَقُول لغير المتزوجين وللأرامل انه حسن لَهُم إِذا لَبِثُوا كَمَا أَنا وَلَكِن إِن لم يضبطوا أنفسهم فليتزوجوا لِأَن التَّزَوُّج أصلح من التحرق وَأما المتزوجون فأوصيهم لَا أَنا بل الرب أَن لَا تفارق الْمَرْأَة رجلهَا وَإِن فارقته فلتلبث غير متزوجة أَو لتصالح رجلهَا

وَلَا يتْرك الرجل امْرَأَته وَأما الْبَاقُونَ فَأَقُول لَهُم أَنا لَا الرب إِن كَانَ أَخ لَهُ امْرَأَة غير مُؤمنَة وَهِي ترتضى أَن تسكن مَعَه فَلَا يَتْرُكهَا الخ كورنثوس الأولى 7 وَمن نصائحه لتيموثاوس فِي رسَالَته الأولى إِلَيْهِ لَا تكن فِي مَا بعد شراب مَاء بل اسْتعْمل خمرًا قَلِيلا من أجل معدتك وأسقامك الْكَثِيرَة وليلاحظ مَا نبديه الْآن وَهُوَ أَن دَعْوَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَصْلهَا كَانَت لبني إِسْرَائِيل ومعاصريهم من الْأُمَم فَإِن مُوسَى طلب من فِرْعَوْن الْإِيمَان بِاللَّه رب الْعَالمين وَعدم الْعُلُوّ عَلَيْهِ ومُوسَى حث بني إِسْرَائِيل بعد الْخُرُوج من مصر على فتح الْبِلَاد لنشر الْإِيمَان وَالْعَمَل بالشريعة وَبَين لَهُم أَن الْجنَّة تَحت ظلال السيوف كَمَا بَين نَبِي الْإِسْلَام وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام للأتباع الصَّادِقين فَفِي الْقُرْآن الْكَرِيم يَقُول الله عز وَجل {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله فيقتلون وَيقْتلُونَ وَعدا عَلَيْهِ حَقًا فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن} وَأَن دَعْوَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حرفها عزرا فِي مَدِينَة بابل من بعد سنة 586 ق م وَمن التحريف الَّذِي أقره فِيهَا أَن تكون دَعْوَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لبني إِسْرَائِيل من دون النَّاس وَلما ظهر عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وبخ عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل على تقصيرهم فِي دَعْوَة الْأُمَم فِي قَوْله ويل لكم أَيهَا الناموسيون لأنكم أَخَذْتُم مِفْتَاح الْمعرفَة مَا دَخَلْتُم أَنْتُم والداخلون منعتموهم ثمَّ قَالَ لتلاميذه 1 - انْطَلقُوا أَولا بِالضَّرُورَةِ إِلَى بني إِسْرَائِيل بالدعوة 2 - ثمَّ ثَانِيًا بعد أَن يعلم وَيفهم جَمِيع بني إِسْرَائِيل إنطلقوا إِلَى الْأُمَم قَالَ مَتى عَن الْأَمر الأول وَالثَّانِي هَؤُلَاءِ الإثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قَائِلا إِلَى طَرِيق أُمَم لَا تمضوا وَإِلَى مَدِينَة

للسامريين لَا تدْخلُوا بل اذْهَبُوا بالحرى إِلَى خراف بَيت إِسْرَائِيل الضَّالة وَفِيمَا أَنْتُم ذاهبون أكرزوا قائلين إِنَّه قد اقْترب ملكوت السَّمَاوَات وَقَالَ مَتى عَن الْأَمر الأول وَالثَّانِي أَن إمرأة من نسَاء الكنعانيين أهل فلسطين طلبت من الْمَسِيح أَن يشفى ابْنَتهَا من الْجُنُون فَلم يجبها بِكَلِمَة فَتقدم تلاميذه وطلبوا إِلَيْهِ قائلين اصرفها لِأَنَّهَا تصيح وَرَاءَنَا فَأجَاب وَقَالَ لم أرسل إِلَّا إِلَى خراف بَيت إِسْرَائِيل الضَّالة فَأَتَت وسجدت لَهُ أَي أَعطَتْهُ التَّحِيَّة قائلة يَا سيد أعنى فَأجَاب وَقَالَ لَيْسَ حسنا أَن يُؤْخَذ خبز الْبَنِينَ ويطرح للكلاب فَقَالَت نعم يَا سيد وَالْكلاب أَيْضا تَأْكُل من الفتات الَّذِي يسْقط من مائدة أَرْبَابهَا حِينَئِذٍ أجَاب يسوع وَقَالَ لَهَا يَا امْرَأَة عَظِيم إيمانك ليكن لَك كَمَا تريدين فشفيت ابْنَتهَا من تِلْكَ السَّاعَة بإستثناء تَشْبِيه الْأُمَم بالكلاب فِي هَذَا النَّص ومستبعد أَن يحدث هَذَا التَّشْبِيه من الْمَسِيح صَاحب الْخلق الرفيع فَإِنَّهُ نَص فِي دَعْوَة الْأُمَم بعد مَا يفهم الدعْوَة بَنو إِسْرَائِيل الَّذين يشبهون الخراف الضَّالة فِي فلاة من الأَرْض بِسَبَب إلتواء عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل فِي تعليمهم وَقَالَ مَتى عَن الْأَمر الثَّانِي إِن الْمَسِيح بَعْدَمَا رفع إِلَى السَّمَاء نزل ثَانِيَة إِلَى الأَرْض وكلمهم قَائِلا اذْهَبُوا وتلمذوا جَمِيع الْأُمَم وإنطلاق التلاميذ إِلَى الْأُمَم حسب كَلَام الْمَسِيح نَفسه على النَّحْو التَّالِي 1 - أَن تؤمن الْأُمَم بالإله الْوَاحِد المتصف بِكُل كَمَال والمنزه عَن كل نقص الَّذِي لَا يرى وَلَا يقدر أحد أَن يرَاهُ وَلَيْسَ كمثله شَيْء كَمَا نَص كتاب مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام 2 - أَن تعْمل الْأُمَم بشريعة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام 3 - أَن يعلمُوا أَن نَبيا من الْعَرَب سَيظْهر لينسخ شَرِيعَة مُوسَى هُوَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم 4 - وعَلى الْأُمَم إِذا ظهر هَذَا النَّبِي الْعَرَبِيّ أَن يتْركُوا الْعَمَل بشريعة مُوسَى وَأَن يعملوا بشريعة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

أولا النبوءات

وَلَكِن بطرس وبولس وَيَعْقُوب وأتباعهم غيروا كَلَام الْمَسِيح نَفسه وَجعلُوا النَّصْرَانِيَّة دينا عالميا لَا على كَلَام الْمَسِيح السَّابِق ذكره بل على أَن عِيسَى هُوَ كَانَ النَّبِي المنتظر وَمَا عرفُوا أَنه هُوَ إِلَّا بعد قَتله وصلبه كَمَا يَزْعمُونَ وعَلى أَن الْإِنْجِيل شَرِيعَة يجب التَّعَبُّد على أَحْكَامهَا وعَلى أَن عِيسَى خَاتم النبييين وَلَا نَبِي من بعده إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَغير خَافَ مِمَّا قدمنَا على ذِي بَصِيرَة أَنهم اتَّفقُوا لكراهيتم للْعَرَب أَبنَاء إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَن يخضعوا لأحكامهم وَأَن لَا يكون لَهُم فضل فِي دولتهم وَإِلَّا لما تفادوا مَجِيء النَّبِي الْآتِي مِنْهُم من قبل مَجِيئه وطبقوا النبواءات على وَاحِد من بني إِسْرَائِيل لقد فكر الْيَهُود فِي عالمية الدعْوَة ثَانِيًا فِي شكل النَّصْرَانِيَّة ليكسبوا أنصارا جددا يقاومون بهم الْعَرَب إِذا ظهر النَّبِي مِنْهُم وانضم حوله الأتباع من كل جنس وَلِأَنَّهُم يخزون إِذا رجعُوا إِلَى الأَصْل تظاهر مِنْهُم من تظاهر بالإخلاص للمسيح وَعمِلُوا العالمية فِي شخصه لِأَنَّهُ مِنْهُم وَأَتْبَاعه بِالضَّرُورَةِ سيكونون للْيَهُود {بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} الْمَائِدَة 51 لِأَن الأناجيل مَبْنِيَّة على كتاب التَّوْرَاة وأسفار الْأَنْبِيَاء ولنبين الْأَمريْنِ هُنَا فَنَقُول أَولا النبوءات يحْكى هَذَا السّفر أَن بطرس تلميذ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي لما نصحه بِعَدَمِ دُخُول أورشليم خوفًا عَلَيْهِ من الْيَهُود الْتفت وَقَالَ لبطرس اذْهَبْ عني يَا شَيْطَان أَنْت معثرة لي لِأَنَّك لَا تهتم بِمَا لله لَكِن بِمَا للنَّاس بطرس هَذَا هُوَ أول من خطب فِي النَّصَارَى وَكَانَ عدتهمْ يَوْمئِذٍ نَحْو مئة وَعشْرين مُبينًا أَن نبوءات التَّوْرَاة وأسفار الْأَنْبِيَاء يجب أَن تطبق على عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى لَا ينْتَظر النَّاس نَبيا من بعده سَوَاء كَانَ آيتا من الْيَهُود كَمَا يدعى الْيَهُود أَو كَانَ آتِيَا من بني إِسْمَاعِيل كَمَا يَقُول الْعَرَب وَعِيسَى ابْن مَرْيَم نَفسه وَفِي الْخطْبَة الثَّانِيَة لبطرس وَهِي فِي الإصحاح الثَّانِي من هَذَا السّفر يواجه الْيَهُود بِأَن دَاوُود عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ فِي سفر الزبُور عَن النَّبِي المنتظر إِن الله سيضع أعداءه تَحت قَدَمَيْهِ وَنحن نعلم أَن

عِيسَى لم يضع أعداءه تَحت قَدَمَيْهِ فَكيف نطبق هَذِه النُّبُوَّة عَلَيْهِ قَالَ بطرس لنقل أَن عِيسَى لم يمت لنقل أَنه وَإِن رفع مَا يزَال حَيا ولسوف يرجع ليحارب أعداءه وينتصر عَلَيْهِم ويضعهم تَحت قَدَمَيْهِ وَالدَّلِيل على أَنه حَيّ أَنه لما قتل وَوضع فِي الْقَبْر ردَّتْ إِلَيْهِ الرّوح وانتصر على الْمَوْت وَصعد إِلَى السَّمَوَات الْعلي وَمن كَانَ شَأْنه هَكَذَا فَلَا يستبعد مِنْهُ الرُّجُوع ثَانِيَة إِلَى الدُّنْيَا ليدين الْأَحْيَاء والأموات وَمَا يزَال النَّصَارَى إِلَى الْيَوْم يَعْتَقِدُونَ فِي نزُول الْمَسِيح لينتصر على أعدائه ويزعمون أَنه فِي غيبَة وَالْملك لَهُ سيرجع كَمَا كَانَ ملك دَاوُود وَسليمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام فِي الزَّمَان الْقَدِيم لقد عقد مُقَارنَة بَين دَاوُود وَعِيسَى فِي أَمريْن إثنين هما 1 الْملك 2 وَالْمَوْت فَقَالَ كَانَ دَاوُود ملكا وَمَات وَقبل مَوته تنبأ عَن عِيسَى الَّذِي سَيكون ملكا قبل مَوته أَي موت عِيسَى وَحَيْثُ أَن عِيسَى مَاتَ من قبل أَن يكون ملكا إِذن هُوَ فِي غيبَة وسيرجع حسب تنبوء دَاوُود نَفسه وَلَقَد كذب بطرس والحاكي عَن بطرس بِشَهَادَة الْمَسِيح نَفسه ذَلِك لِأَن بطرس اسْتدلَّ بقول دَاوُود عَن النَّبِي المنتظر قَالَ الرب لرَبي اجْلِسْ عَن يَمِيني حَتَّى أَضَع أعداءك موطئا لقدميك زاعما أَن دَاوُود يُشِير إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا سبق أَن بَينا قَالَ أَن الَّذِي يُشِير إِلَيْهِ دَاوُود لَيْسَ من الْيَهُود عُمُوما لِأَنَّهُ عبر عَنهُ بسيده والإبن لَا يكون سيدا لِأَبِيهِ وَفِي هَذِه الْخطْبَة جهر بطرس بِأَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام رَبًّا ومسيحا من قبل أَن يجْهر بولس وَمن كَلَام بطرس فِي هَذِه الْخطْبَة أَيهَا الرِّجَال الْأُخوة يسوغ أَن يُقَال لكم جهارا عَن رَئِيس الْآبَاء دَاوُود أَنه مَاتَ وَدفن فِي قَبره عندنَا حَتَّى هَذَا الْيَوْم فَإِذا كَانَ نَبيا وَعلم أَن الله حلف لَهُ بقسم أَنه من ثَمَرَة صلبه يُقيم الْمَسِيح حسب الْجَسَد ليجلس على كرسيه سبق فَرَأى وَتكلم عَن قِيَامَة الْمَسِيح أَنه لم تتْرك نَفسه فِي الهاوية وَلَا رأى جسده فَسَادًا فيسوع هَذَا أَقَامَهُ الله نَحن جَمِيعًا شُهُودًا لذَلِك وَإِذا ارْتَفع بِيَمِين الله وَأخذ موعد الرّوح الْقُدس من الآب سكب هَذَا الَّذِي تبصرونه وتسمعونه لِأَن دَاوُود لم يصعد إِلَى السَّمَوَات وَهُوَ نَفسه يَقُول قَالَ الرب لرَبي اجْلِسْ عَن يَمِيني حَتَّى أَضَع أعداءك موطئا لقدميك فَليعلم يَقِينا جَمِيع بَيت إِسْرَائِيل أَن الله جعل يسوع هَذَا الَّذِي صلبتموه أَنْتُم رَبًّا ومسيحا ألخ

وَفِي الْخطْبَة الثَّالِثَة لبطرس وَهِي فِي الإصحاح الثَّالِث من سفر الْأَعْمَال يطبق كَلَام مُوسَى فِي الْأَسْفَار الْخَمْسَة عَن نَبِي الْإِسْلَام صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَقُول للْيَهُود لقد قَامَ عِيسَى من الْأَمْوَات وَغَابَ عَن الدُّنْيَا وسيرجع ليملك عَلَيْكُم وعَلى الْعَالم ويؤسس مملكة لن تنقرض أبدا ولماذا لَا يرجع ومُوسَى وعد بِنَبِي على مِثَاله لَيْسَ هُوَ غير يسوع الْمَسِيح وَلَقَد كذب بطرس والحاكي عَن بطرس فَإِن مُوسَى لما وعد بِنَبِي على مِثَاله قَالَ أَيْضا لن يكون مثلي فِي بني إِسْرَائِيل فَكيف يكون المماثل لمُوسَى يسوع الْمَسِيح وَهُوَ من بني إِسْرَائِيل وَمن كَلَام بطرس فِي هَذِه الْخطْبَة والآن أَيهَا الْأُخوة أَنا أعلم أَنكُمْ بِجَهَالَة عملتم كَمَا رؤساؤكم أَيْضا وَأما الله فَمَا سبق وأنبأ بِهِ بأفواه جَمِيع أنبيائه أَن يتألم الْمَسِيح قد تممه هَكَذَا فتوبوا وَارْجِعُوا لتمحي خطاياكم لكَي تَأتي أَوْقَات الْفرج من وَجه الرب وَيُرْسل أَي الله يسوع الْمَسِيح المبشر بِهِ لكم قبل الَّذِي يَنْبَغِي أَن السَّمَاء تقبله إِلَى أزمنة رد كل شَيْء الَّتِي تكلم عَنْهَا الله بِفَم جَمِيع أنبيائه القديسين مُنْذُ الدَّهْر فَإِن مُوسَى قَالَ للآباء أَن نَبيا مثلي سيقيم لكم الرب إِلَهكُم من إخواتكم لَهُ تَسْمَعُونَ فِي كل مَا يكلمكم بِهِ وَيكون أَن كل نفس لَا تسمع لذَلِك النَّبِي تباد من الشّعب وَجَمِيع الْأَنْبِيَاء أَيْضا من صموئيل فَمَا بعده جَمِيع الَّذين تكلمُوا سبقوا وأنبأوا بِهَذِهِ الْأَيَّام أَنْتُم أَبنَاء الْأَنْبِيَاء والعهد الَّذِي عَاهَدَ بِهِ الله آبَاءَنَا قَائِلا لابراهيم وبنسلك تتبارك جَمِيع قبائل الأَرْض الخ لقد تعسف بطرس فِي تَأْوِيل النبوءات تعسفا ممقوتا خرج بِهِ عَن الْوَاقِع الْحَقِيقِيّ فَمن ذَا الَّذِي يصدق أَن عِيسَى بعد قَتله دخل النَّار ثمَّ خرج من النَّار حَيا ليجلس فِي السَّمَاء ومؤرخو الْقرن الأول للميلاد كتبُوا أَن عِيسَى لم يقتل وَلم يصلب لقد تعسف بطرس ليطبق النبوءات على عِيسَى غير مبال بالحقائق التاريخية الثَّابِتَة وَغير مبال بالأوصاف الَّتِي تدل على النَّبِي المنتظر من نَص النبوءات وَغير مبال بسياق الْعبارَات ليربط النبوءة بِمَا قبلهَا وَبِمَا بعْدهَا من التعابير وَأَيْضًا غير مبال بالمحكم والمتشابه فِي نُصُوص التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل ولكي يبرر النَّصَارَى خَطؤُهُ الْعمد وغلطه وتناقضه ادعوا أَنه كَانَ من الْعَوام الْأُمِّيين غير الدارسين وَأَنه ماقال بِمَا قَالَ إِلَّا بالهام من الرّوح الْقُدس

فَفِي سفر الْأَعْمَال فَلَمَّا رَأَوْا مجاهرة بطرس ويوحنا ووجدوا أَنَّهُمَا إنسانان عديما الْعلم وعاميان تعجبوا فعرفوهما أَنَّهُمَا كَانَا مَعَ يسوع وَفِي الْخطْبَة الرَّابِعَة لبطرس وَهِي فِي الإصحاح الرَّابِع من سفر الْأَعْمَال يعمد إِلَى تطبيق نبوءة قَالَهَا دَاوُود عَلَيْهِ السَّلَام عَن نَبِي الْإِسْلَام صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعمد إِلَى تطبيقها على عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام متجاهلا أَن عِيسَى نَفسه كَمَا روى مَتى لم يطبقها على نَفسه بل طبقها على نَبِي الْإِسْلَام صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحْكى الْكَاتِب أَن بطرس شفى رجلا أعرج وَلما استدعاه رُؤَسَاء الْيَهُود ليسألوه بأية قُوَّة وَبِأَيِّ اسْم صنعت هَذَا قَالَ لَهُم يارؤساء الشّعب وشيوخ إِسْرَائِيل إِن كُنَّا نفحص الْيَوْم عَن إِحْسَان إِلَى إِنْسَان سقيم بِمَاذَا شفى هَذَا فَلْيَكُن مَعْلُوما عِنْد جميعكم وَجَمِيع شعب إِسْرَائِيل أَنه باسم يسوع الْمَسِيح الناصري الَّذِي صلبتموه أَنْتُم الَّذِي أَقَامَهُ الله من الْأَمْوَات بِذَاكَ وقف هَذَا أمامكم صَحِيحا هَذَا هُوَ الْحجر الَّذِي احتقرتموه أَيهَا البناؤون الَّذِي صَار رَأس الزاوية الخ انْظُر لقد قَالَ لَهُم إِن عِيسَى ابْن مَرْيَم هُوَ الْحجر فَمَا قصَّة هَذَا الْحجر تبدأ قصَّته من النَّبِي دَاوُود عَلَيْهِ السَّلَام فقد نطق نبوءة عَن النَّبِي المنتظر المماثل لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي المزمور المئة وَالثَّامِن عشر بَين فِيهَا أَن النَّبِي المنتظر سيتألم من إِعْرَاض النَّاس عَن دَعوته وَلَكِن الله لن يُسلمهُ إِلَى أَيدي أعدائه ليقتلوه وَأَن هَذَا النَّبِي سيرفضه الْيَهُود لِأَنَّهُ من غير جنسهم أَنه من نسل المصرية هَاجر جَارِيَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ونسلها لَا قيمَة لَهُ فِي نظر الْيَهُود كالحجر الَّذِي يرفض البناؤون وَضعه فِي الْبناء وَأَن هَذَا النَّبِي سَيكون مُبَارَكًا من قبل الله وَمن عِبَارَات دَاوُود 1 الإحتماء بالرب خير من التَّوَكُّل على إِنْسَان الإحتماء بالرب خير من التَّوَكُّل على الرؤساء كل الْأُمَم أحاطوا بِي باسم الرب أبيدهم أحاطوا بِي واكتنفوني باسم الرب أبيدهم

أحاطوا بِي مثل النَّحْل أنطفأوا كنار الشوك بإسم الرب أبيدهم 2 - افتحوا لي أَبْوَاب الْبر أَدخل فِيهَا وَأحمد الرب هَذَا الْبَاب للرب الصديقون يدْخلُونَ فِيهِ أحمدك لِأَنَّك استجبت لي وصرت لي خلاصا الْحجر الَّذِي رفضه البناؤون قد صَار رَأس الزاوية من قبل الرب كَانَ هَذَا وَهُوَ عَجِيب فِي أعيينا 3 - مبارك الْآتِي باسم الرب وَفِي إنجيل مَتى ومرقس ولوقا نجد عِيسَى ابْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام يَقُول لعلماء بني إِسْرَائِيل أَن هَذَا النَّبِي الَّذِي يتحدث عَنهُ دَاوُود سَيَأْتِي من بعدِي وسيتسلم الْملك مِنْكُم والشريعة وَلما اغتاظوا مِنْهُ لذَلِك وَأَرَادُوا قَتله خَافُوا من ثورة الْعَامَّة عَلَيْهِم لأَنهم كَانُوا يحبونَ الْمَسِيح قَالَ الْمَسِيح إِنَّكُم يَا بني إِسْرَائِيل كعمال فِي حقل ائتمنكم صَاحبكُم عَلَيْهِ وَلما أرسل إِلَيْكُم ليحاسبكم قتلتم الْمُرْسلين وأهنتموهم وَمَا جَزَاء من يفعل ذَلِك أَلا أَن تسحب مِنْهُ الثِّقَة إِلَى غَيره ليقوم ذَلِك الْغَيْر بِالْعَمَلِ وَأَدَاء الْحق وَلما قَالَ مَا مَعْنَاهُ هَذَا قَالَ لَهُ الْعلمَاء وَقد فَهموا مغزى كَلَامه حاشا أَي لن يحصل لنا ذَلِك فَنظر إِلَيْهِم وَقَالَ إِذن مَا هُوَ هَذَا الْمَكْتُوب الْحجر الَّذِي رفضه البناؤون هُوَ قد صَار رَأس الزاوية كل من يسْقط على ذَلِك الْحجر يترضض وَمن سقط هُوَ عَلَيْهِ يسحقه فَطلب رُؤَسَاء الكهنة والكتبة أَن يلْقوا الأيادي عَلَيْهِ فِي تِلْكَ السَّاعَة وَلَكنهُمْ خَافُوا الشّعب لأَنهم عرفُوا أَنه قَالَ الْمثل عَلَيْهِم لقد أَشَارَ بالمكتوب إِلَى الزبُور المئة وَالثَّامِن عشر وطبقه حرفيا على نَبِي الْإِسْلَام صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين أَنه لن يقتل كَمَا قَالَ دَاوُود وَأَنه إِذا قصد قوما بِالْحَرْبِ أهلكهم وَإِذا هم قصدوه أهلكم كالحجر القوى من يَنْطَحُهُ لَا يُؤثر فِي الْحجر بل يُؤثر فِي نَفسه هُوَ وَإِذا وَقع الْحجر على شَيْء أثر فِيهِ أما الْحجر نَفسه فَلَا يتأثر وَلم يكن بِهَذِهِ الصّفة عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي إنجيل مَتى ولوقا ايضا نجد الْمَسِيح يَقُول سَيَأْتِي من بعدِي الَّذِي قَالَ عَنهُ دَاوُود مبارك الْآتِي بإسم الرب قَالَ الْمَسِيح لعلماء بني إِسْرَائِيل هُوَ ذَا بَيتكُمْ أَي هيكل سُلَيْمَان فِي الْقُدس يتْرك لكم خرابا وَالْحق أَقُول لكم انكم لَا ترونني حَتَّى يَأْتِي وَقت تَقولُونَ فِيهِ مبارك الْآتِي بإسم الرب

لقد تجاهل بطرس هَذَا كُله وَزعم أَن الْمَقْصُود من كَلَام دَاوُود عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام مُخَالفا بذلك كَلَام عِيسَى نَفسه وَمَا تدل عَلَيْهِ النبوءة من الْأَوْصَاف وَرجع بطرس إِلَى النَّصَارَى الَّذين كَانُوا قد بلغُوا يَوْمئِذٍ نَحْو خَمْسَة آلَاف ليتلو مَعَهم نبوءة أُخْرَى من نبوءات دَاوُود على نَبِي الْإِسْلَام صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مفسرين لَهَا تَفْسِيرا لَا تقره اللُّغَة هِيَ نبوءة ابْن الله الَّتِي هِيَ أصل أقنوم الإبن عِنْد النَّصَارَى يَقُول دَاوُود عَلَيْهِ السَّلَام فِي المزمور الثَّانِي لماذا ارتجت الْأُمَم وتفكر الشعوب فِي الْبَاطِل قَامَ مُلُوك الأَرْض وتآمر الرؤساء مَعًا على الرب ومسيحه الخ أَنه يبين فزع الْأُمَم لَا أمة وَاحِدَة سيفكرون مَعًا فِي مقاومة دَعوته وَأَن مُلُوك الأَرْض لَا ملك أَرض وَاحِدَة سيقومون متآمرين عَلَيْهِ لهلاكه وَأَنَّهُمْ بمناوأته يقاومون الله الَّذِي سيرسله وَمن أجل ذَلِك الرب يستهزئ بهم كَمَا يَقُول دَاوُود عَلَيْهِ السَّلَام هَذَا هُوَ معنى كَلَام دَاوُود بِحَسب اللُّغَة وَلَكِن كَاتب سفر الْأَعْمَال يرْوى التَّفْسِير هَكَذَا أَيهَا السَّيِّد يخاطبون الله أَنْت هُوَ الْإِلَه الصَّانِع السَّمَاء وَالْأَرْض وَالْبَحْر وكل مَا فِيهَا الْقَائِل بِفَم دَاوُود فتاك لماذا ارتجت الْأُمَم وتفكر الشعوب بِالْبَاطِلِ قَامَت مُلُوك الأَرْض وَاجْتمعَ الرؤساء مَعًا على الرب وعَلى مسيحه لِأَنَّهُ بِالْحَقِيقَةِ اجْتمع على فتاك القدوس يسوع الَّذِي مسحته هيرودس وبيلاطس البنطي مَعَ أُمَم وشعوب إِسْرَائِيل يُرِيد أَن يَقُول أَن هيرودس وبيلاطس الواليان على الْيَهُود هما مُلُوك جَمِيع الأَرْض وهما رُؤَسَاء دوَل الْعَالم فَهَل هَذَا صَحِيح وَيُرِيد أَن يَقُول أَن شعب إِسْرَائِيل كُله هُوَ أُمَم الْعَالم وشعوب الْعَالم فَهَل هَذَا صَحِيح أَن تَفْسِير اشد التواء من هَذَا التَّفْسِير وَمَعَ قَوْله هَذَا لم يسلم لَهُ انتصار النَّبِي المنتظر لِأَن نبوءة دَاوُود توضح أَنه لن يقتل بيد أعدائه وَقد صَرَّحُوا بقتل عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام الَّذين جَعَلُوهُ هدفا للنبوءات وَلَيْسَت لَهُ

وَفِي الْخطْبَة الَّتِي أَلْقَاهَا بطرس فِي مَدِينَة قيصرية أَمَام كرنيليوس وَهِي فِي الإصحاح الْعَاشِر من سفر الْأَعْمَال زعم أَن النَّبِي يحيى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يبشر بمجيء عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَلم يكن يبشر بمجيء مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يحيى عَلَيْهِ السَّلَام يَأْتِي بعدِي من هُوَ أقوى مني الَّذِي لست أَهلا ان أنحنى وَأحل سيور حذائه أَنا عمدتكم بِالْمَاءِ وَأما هُوَ فسيعمدكم بِالروحِ الْقُدس وَلم يكن عِيسَى من بعده بل كَانَ مَعَه ودعا مَعَه بِنَفس الدعْوَة الَّتِي دَعَا بهَا يوحنا المعمدان النَّبِي يحيى دعوا مَعًا بِصَوْت وَاحِد اقْترب ملكون السَّمَوَات زعم بطرس أَمَام كرنيليوس ان يسوع الْمَسِيح هُوَ الَّذِي قَالَ عَنهُ يوحنا يَأْتِي بعدِي من هُوَ أقوى مني الخ مَعَ أَن الْمَسِيح لم يكن أقوى من يوحنا كَانَا من الدعاة الْفُقَرَاء وَلم يَكُونَا من الْمُلُوك الْأَغْنِيَاء كَانَا من الْأَنْبِيَاء وَلم يَكُونَا من الْأَنْبِيَاء الْمُلُوك كداوود وَسليمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام فَفتح بطرس فَاه وَقَالَ بِالْحَقِّ أَنا أجد أَن الله لَا يقبل الْوُجُوه بل فِي كل أمة الَّذِي يتقيه ويصنع الْبر مَقْبُول عِنْده الْكَلِمَة الَّتِي أرسلها إِلَى بني إِسْرَائِيل يبشر بِالسَّلَامِ بيسوع الْمَسِيح هَذَا هُوَ رب الْكل أَنْتُم تعلمُونَ الْأَمر الَّذِي صَار فِي كل الْيَهُودِيَّة مبتدئا من الْجَلِيل بعد المعمودية الَّتِي كرز بهَا يوحنا يسوع الَّذِي من الناصرة كَيفَ مَسحه الله بِالروحِ الْقُدس والقوه الَّذِي جال يصنع خيرا ويشفى جَمِيع المتسلط عَلَيْهِم إِبْلِيس لِأَن الله كَانَ مَعَه وَنحن شُهُود بِكُل مَا فعل فِي كورة الْيَهُودِيَّة وَفِي أورشليم الَّذِي ايضا قَتَلُوهُ معلقين إِيَّاه على خَشَبَة هَذَا أَقَامَهُ الله فِي الْيَوْم الثَّالِث وَأعْطى أَن يصير ظَاهرا لَيْسَ لجَمِيع الشّعب بل لشهود سبق الله فانتخبهم لنا نَحن الَّذين أكلنَا وشربنا مَعَه بعد قِيَامَته من الْأَمْوَات وأوصانا أَن نكرز للشعب ونشهد بِأَن هَذَا هُوَ الْمعِين من الله ديانا للأحياء والأموات لَهُ يشْهد جَمِيع الْأَنْبِيَاء أَن كل من يُؤمن بِهِ ينَال بإسمه غفران الْخَطَايَا وَقد اقتفى بولس أثر بطرس فِي تطبيق النبوءات قسرا على الْمَسِيح ابْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ أَنه انْطلق إِلَى بِلَاد الْعَرَب من

دمشق ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا ثمَّ بعد ثَلَاث سِنِين صعد إِلَى أوشليم ليتعرف ببطرس وَمكث عِنْده خَمْسَة عشر يَوْمًا وَرَأى يَعْقُوب صديق بطرس وحواري الْمَسِيح وَرَأى أَيْضا يوحنا وبرنابا وَرجع ليردد نفس الأفكار الَّتِي صرح بهَا بطرس لَا يُرَدِّدهَا فِي أوشليم وَحدهَا بل فِي كل مَكَان تطؤه قدماه فَفِي مَدِينَة أنطاكية بيسيدية دخل مجمعا من مجامع الْيَهُود كَمَا فِي الإصحاح الثَّالِث عشر من سفر الْأَعْمَال وَشرح نبوءة يوحنا المعمدان كَمَا شرحها بطرس وَشرح أَيْضا نبوءة المزمور الثَّانِي كَمَا شرح بطرس قَالَ بولس أَيهَا الرِّجَال الإسرائيليون وَالَّذين يَتَّقُونَ الله اسمعوا إِلَه شعب إِسْرَائِيل هَذَا اخْتَار آبَاءَنَا وَرفع الشّعب فِي الغربة فِي أَرض مصر وبذراع مُرْتَفعَة أخرجهم مِنْهَا وَنَحْو مُدَّة أَرْبَعِينَ سنة احْتمل عوائدهم فِي الْبَريَّة ثمَّ أهلك سبع أُمَم فِي أَرض كنعان وَقسم لَهُم أَرضهم بِالْقُرْعَةِ وَبعد ذَلِك فِي نَحْو أربعمئة سنة وَخمسين سنة أعطاههم قُضَاة حَتَّى صموئيل النَّبِي وَمن ثمَّ طلبُوا ملكا فَأَعْطَاهُمْ الله شاول ابْن قيس رجلا من سبط بنيامين أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ عَزله وَأقَام لَهُم دَاوُود ملكا الَّذِي شهد لَهُ أَيْضا إِذْ قَالَ وجدت دَاوُود بن يسى رجلا حسب قلبِي الَّذِي سيصنع كل مشيئتي من نسل هَذَا حسب الْوَعْد أَقَامَ الله لإسرائيل مخلصا يسوع إِذْ سبق يوحنا فكرز قبل مَجِيئه بمعمودية التَّوْبَة لجَمِيع شعب إِسْرَائِيل وَلما صَار يوحنا يكمل سَعْيه جعل يَقُول من تظنون أَنِّي أَنا لست أَنا إِيَّاه لَكِن هُوَ ذَا يَأْتِي بعدِي الَّذِي لست مُسْتَحقّا أَن أحل حذاء قَدَمَيْهِ أَيهَا الرِّجَال الْأُخوة بني جنس إِبْرَاهِيم وَالَّذِي بَيْنكُم يَتَّقُونَ الله إِلَيْكُم أرْسلت كلمة هَذَا الْخَلَاص لِأَن الساكنين فِي أورشليم ورؤساءهم لم يعرفوا هَذَا وأقوال الْأَنْبِيَاء الَّتِي تقْرَأ كل سبت تمموها إِذْ حكمُوا عَلَيْهِ وَمَعَ أَنهم لم يَجدوا عِلّة وَاحِدَة للْمَوْت طلبُوا من بيلاطس أَن يقتل وَلما تمموا كل مَا كتب عَنهُ أنزلوه عَن الْخَشَبَة ووضعوه فِي قَبره وَلَكِن الله أَقَامَهُ من الْأَمْوَات وَظهر أَيَّامًا كَثِيرَة للَّذين صعدوا مَعَه من الْجَلِيل إِلَى أورشليم الَّذين هم شُهُوده عِنْد الشّعب

وَنحن نبشركم بالموعد الَّذِي صَار لآبائنا إِن الله قد أكمل هَذَا لنا نَحن أَوْلَادهم إِذْ أَقَامَ يسوع كَمَا هُوَ مَكْتُوب أَيْضا فِي المزمور الثَّانِي أَنْت إبني أَنا الْيَوْم وَلدتك الخ وَفِي مَدِينَة دمشق أَيْضا جهر بولس بِأَن يسوع الْمَسِيح هُوَ ابْن الله الَّذِي تنبأ عَنهُ دَاوُود عَلَيْهِ السَّلَام فِي المزمور الثَّانِي وَأَن يسوع الْمَسِيح هُوَ المسيا تَمامًا كَمَا قَالَ بطرس زعم بولس أَنه رأى الْمَسِيح فِي رُؤْيا وَأَن الْمَسِيح زَجره ووبخه على إضطهاده لأتباعه وَصرح لَهُ بِأَن ينْطَلق إِلَى الْأُمَم بالإنجيل وَأَنه كَمَا فِي الإصحاح التَّاسِع من سفر الْأَعْمَال جعل يكرز فِي المجامع بالمسيح أَن هَذَا هُوَ ابْن الله فبهت جَمِيع الَّذين كَانُوا يسمعُونَ وَقَالُوا أَلَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي أهلك فِي أورشليم الَّذين يدعونَ بهذاالإسم وَقد جَاءَ إِلَى هُنَا ليسوقهم مُوثقِينَ إِلَى رُؤَسَاء الكهنه وَأما شاول فَكَانَ يزْدَاد قُوَّة ويحير الْيَهُود الساكنين فِي دمشق محققا أَن هَذَا هُوَ الْمَسِيح كَانَ تلميذ من تلاميذ الْمَسِيح اسْمه فيلبس من الْقرْيَة الَّتِي مِنْهَا بطرس وَهِي بَيت صيدا قَالَ لصديق لَهُ وجدنَا الَّذِي كتب عَنهُ مُوسَى فِي الناموس والأنبياء يسوع ابْن يُوسُف الَّذِي من الناصرة فَرد عَلَيْهِ بقوله أَمن الناصرة يُمكن أَن يكون شَيْء صَالح ثمَّ قَالَ للمسيح يامعلم أَنْت ابْن الله أَنْت ملك إِسْرَائِيل يوحنا ففيلبس فِي محاولة جر رجل صديقه إِلَى الْإِيمَان بدعوة الْمَسِيح زعم أَن الْمَسِيح هُوَ الَّذِي تحدثت عَنهُ الْأَسْفَار الخسمة وأسفار الْأَنْبِيَاء الَّذين ظَهَرُوا من بعد مُوسَى مَعَ أَن الْأَسْفَار الْخَمْسَة وأسفار الْأَنْبِيَاء لَا تُشِير بِكَلِمَة وَاحِدَة إِلَى يسوع الْمَسِيح لِأَنَّهُ من بني إِسْرَائِيل ومستبعد من أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل نسخ شَرِيعَة مُوسَى فلماذا يُنَبه الله على مَجِيء نَبِي من بني إِسْرَائِيل إِن التَّنْبِيه لَازم على من يحِق لَهُ نسخ شَرِيعَة مُوسَى لِأَنَّهَا كَلَام الله فِي الأَصْل وَلَا يتْرك كَلَام الله الَّذِي نشأت عَلَيْهِ أجيال إِلَى من سَيَقُولُ أَن معي كَلَام الله الْمُنَاسب لزماننا هَذَا بسهولة لِأَن التَّصْرِيح بنسخ شَرِيعَة لَيْسَ بِالْأَمر الهين خَاصَّة وَأَن الشَّرِيعَة المنسوخة للْيَهُود وَأَن النَّاسِخ لَيْسَ مِنْهُم بل من جنس آخر هم الْعَرَب أَبنَاء النَّبِي إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَصديقه يُؤمن على

أساس أَن الْمَسِيح هُوَ ابْن الله الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ دَاوُود بِظهْر الْغَيْب وَبَين فِي أَوْصَافه أَنه سَيكون رَئِيسا مُطَاعًا أَي ملكا والمسيح لم يكن رَئِيسا وَلَا ملكا فقد قَالَ أعْطوا مَا لقيصر لقيصر وَمَا لله لله وَلم يَقع كَاتب الْإِنْجِيل فِي هَذَا الْخَطَأ وَحده وَإِنَّمَا وَقع فِي خطأ آخر وَهُوَ قَوْله وجدنَا الَّذِي كتب عَنهُ مُوسَى فِي الناموس والأنبياء فَإِن مُوسَى تَارِك للناموس وَلَيْسَ هُوَ بتارك لأسفار الْأَنْبِيَاء وَكَيف يتْرك كتبا نسبت لأصحابها من بعد مَوْتهمْ وأصحابها ظَهَرُوا من بعده بسنين يحْكى لوقا كَاتب سفر أَعمال الرُّسُل كَمَا يَزْعمُونَ فِي بعض الرِّوَايَات أَن فيلبس هَذَا كَانَ من أهل الخطوة كالياس النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَقد وجد وزيرا من أهل الْحَبَشَة فَدَعَاهُ إِلَى النَّصْرَانِيَّة فَقبل الدعْوَة وَلما رأى مَاء قَالَ لفيلبس مَاذَا يمْنَع أَن أعْتَمد أَي أستحم بِالْمَاءِ لأدخل فِي الدّين على طَهَارَة فَقَالَ فيلبس إِن كنت تؤمن من كل قَلْبك يجوز فَأجَاب وَقَالَ أَنا أُؤْمِن أَن يسوع الْمَسِيح هُوَ ابْن الله فعمده فيلبس لقَوْله هَذَا وعَلى ذَلِك كَانَ فيلبس شَرِيكا لبطرس وبولس فِي تطبيق نبوءة الإبن على عِيسَى الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام واشترك فِي تطبيق نبوءة المسيا على عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام مَعَهم يَهُودِيّ من يهود الْإسْكَنْدَريَّة إسمه أبلوس فقد جَاءَ عَنهُ فِي الإصحاح الثَّامِن عشر من سفر الْأَعْمَال أَنه كَانَ بإشتداد يفحم الْيَهُود جَهرا مُبينًا بالكتب أَن يسوع هُوَ الْمَسِيح أما عَن نبوءة ابْن الْإِنْسَان صَاحب ملكوت السَّمَاوَات وَيُسمى أَيْضا ملكوت الله فأشهر من طبقها على عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام رغم أَنفه استفانوس وبولس وأصل نبوءة ابْن الْإِنْسَان من التَّوْرَاة من سفر النَّبِي الْمُعظم دانيال كَانَ دانيال فِي مَدِينَة بابل فِي عهد الْملك نبوخذناصر وَرَأى الْملك هَذَا أحلاما أطارت عَنهُ النّوم وَلما طلب من الْحُكَمَاء تَعْبِير الْحلم لم يستطيعوا التَّعْبِير لِأَن الله عز وَجل مَا ألهم التَّعْبِير لغير النَّبِي دانيال الَّذِي سبح الله ومجده بقوله ليكن إسم الله

مُبَارَكًا من الْأَزَل وَإِلَى الْأَبَد لِأَن لَهُ الْحِكْمَة والجبروت وَهُوَ يُغير الْأَوْقَات والأزمنة يعْزل ملوكا وَينصب ملوكا يعْطى الْحُكَمَاء حِكْمَة وَيعلم العارفين فهما هُوَ يكْشف العمائق والأسرار يعلم مَا هُوَ فِي الظلمَة وَعِنْده يسكن النُّور وَقَالَ دانيال للْملك رَأَيْت فِي حلم تمثالا 1 رَأسه من ذهب جيد 2 صَدره وذراعاه من فضَّة 3 بَطْنه وفخذاه من نُحَاس 4 ساقاه من حَدِيد 5 قدماه بعضهما من حَدِيد وَالْبَعْض من خزف ب وَرَأَيْت حجرا هوى بِقُوَّة شَدِيدَة على التمثال فَضرب قَدَمَيْهِ فَوَقع على الأَرْض مهشما وَصَارَ الْحجر جبلا كَبِيرا بعد مَا حطم التمثال وهشمه هَذَا هُوَ الْحلم أَيهَا الْملك وَإِلَيْك تَعْبِيره 1 - رَأس التمثال مملكة بابل 2 صدر التمثال وذراعاه مملكة أُخْرَى هِيَ مملكة فَارس 3 بطن التمثال وفخذاه مملكه ثَانِيَة هِيَ مملكة اليونان 4 ساقا التمثال مملكة رَابِعَة هِيَ مملكة الرومان ومملكة الرومان تكون منقسمة على ذَاتهَا إِلَى شرقية وغربية وَفِي أَيَّام مُلُوك الرومان بعد الإنقسام يُقيم إِلَه السَّمَوَات مملكة لن تنقرض أبدا وملكها لَا يتْرك لشعب آخر وتسحق وتفنى كل هَذِه الممالك وَهِي تثبت إِلَى الْأَبَد وَهَذَا الْحلم الَّذِي رَآهُ الْملك نبوخذ نَاصِر رَآهُ أَيْضا بعد ذَلِك دانيال نَفسه بأيام لَكِن بِصُورَة غير الصُّورَة الَّتِي رَآهَا الْملك أما التَّعْبِير فَغير مُخْتَلف عَن تَعْبِير رُؤْيا الْملك رأى دانيال فِي حلم اللَّيْل أأربع ريَاح السَّمَاء هجمت على الْبَحْر الْكَبِير الْأَبْيَض الْمُتَوَسّط ب وَصعد من الْبَحْر أَرْبَعَة حيوانات عَظِيمَة 1 - أَسد 2 دب 3 نمر 4 حَيَوَان هائل وقوى وشديد جدا ثمَّ رأى عقب الْحَيَوَان الرَّابِع الهائل وَالْقَوِي والشديد جدا ابْن إِنْسَان أعطَاهُ الله عز وَجل ملكا عَظِيما قَالَ عَنهُ دانيال مَا نَصه كنت أرى فِي رؤى اللَّيْل وَإِذا مَعَ سحب السَّمَاء مثل ابْن إِنْسَان أَتَى وَجَاء إِلَى الْقَدِيم الْأَيَّام فقربوه قدامه فَأعْطى سُلْطَانا ومجدا وملكوتا لتتعبد لَهُ كل الشعوب والأمم والألسنة سُلْطَانه سُلْطَان أبدي مَا لن يَزُول وملكوته مَا لاينقرض

ثمَّ نطق دانيال بتعبير الْحلم فَقَالَ مَا نَصه هَؤُلَاءِ الْحَيَوَانَات الْعَظِيمَة الَّتِي هِيَ أَرْبَعَة هِيَ أَرْبَعَة مُلُوك يقومُونَ على الأَرْض أما قديسو العلى فَيَأْخُذُونَ المملكة ويمتلكون المملكة إِلَى الْأَبَد وَإِلَى أَبَد الآبدين هَذِه أصل نبوءة ابْن الْإِنْسَان صَاحب ملكوت السَّمَوَات وَلَقَد فسر هَذِه النبوءة الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ إِن ابْن الْإِنْسَان هُوَ نَبِي الْإِسْلَام صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن الله عز وَجل سيعطيه ملكا عَظِيما وَنسب الْملك إِلَى السَّمَوَات لِأَنَّهَا جِهَة الْعُلُوّ فِي نظر النَّاس وَأَن النَّاس سيتعبدون بِشَرِيعَتِهِ أَي يخضعون لله عز وَجل على وفْق مَا فِيهَا من بَيِّنَات لقد حكى كتاب الأناجيل وَالرِّوَايَة هُنَا لمتى مَا نَصه وَفِي تِلْكَ الْأَيَّام جَاءَ يوحنا المعمدان يكرز فِي بَريَّة الْيَهُودِيَّة قَائِلا تُوبُوا لِأَنَّهُ قد اقْترب ملكوت السَّمَوَات من ذَلِك الزَّمَان ابْتَدَأَ يسوع يكرز وَيَقُول تُوبُوا لِأَنَّهُ قد اقْترب ملكوت السَّمَوَات أَي أَن المعمدان ويسوع دعوا مَعًا بِصَوْت وَاحِد إِلَى إقتراب ملكوت السَّمَوَات الَّذِي تنبأ عَنهُ النَّبِي الْمُعظم دانيال فِي الإصحاح الثَّانِي وَالسَّابِع من سَفَره وَضرب الْمَسِيح ابْن مَرْيَم الْأَمْثَال الْكَثِيرَة لكيفية إنتشار هَذَا الملكوت وَمن أمثلته هَذَا الْمِثَال يشبه ملكوت السَّمَوَات حَبَّة خَرْدَل أَخذهَا إِنْسَان وزرعها فِي حقله وَهِي أَصْغَر جَمِيع البزور وَلَكِن مَتى نمت فَهِيَ أكبر الْبُقُول وَتصير شَجَرَة حَتَّى أَن طيور السَّمَاء تَأتي وتتآوى فِي أَغْصَانهَا أَي أَن الْمُسلمين فِي بَدْء الْإِسْلَام يكونُونَ قلَّة ثمَّ يكثرون رويدا رويدا حَتَّى يملأوا الأَرْض وَهَذَا هُوَ مثل الْمُسلمين الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن الْكَرِيم فِي سُورَة الْفَتْح يَقُول تَعَالَى {وَمثلهمْ فِي الْإِنْجِيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فَاسْتَوَى على سوقه} وَلم يرد فِي إنجيل مَتى فَقَط بل ورد فِي مرقس ولوقا أَيْضا قَالَ الْمَسِيح فِي رِوَايَة مرقس بِمَاذَا نشبه ملكوت الله أَو بِأَيّ مثل نمثله مثل حَبَّة خَرْدَل مَتى زرعت فِي الأَرْض فَهِيَ أَصْغَر جَمِيع البزور الَّتِي على الأَرْض وَلَكِن مَتى زرعت تطلع وَتصير

يوم الرب

أكبر جَمِيع الْبُقُول وتصنع أغصانا كَبِيرَة حَتَّى تَسْتَطِيع طيور السَّمَاء أَن تتآوى تَحت ظلها وَقَالَ الْمَسِيح فِي رِوَايَة لوقا مَاذَا يشبه ملكوت الله وبماذا أشبهه يشبه حَبَّة خَرْدَل أَخذهَا إِنْسَان وَأَلْقَاهَا فِي بستانه فَنمت وَصَارَت شَجَرَة كَبِيرَة وتآوت طيور السَّمَاء فِي أَغْصَانهَا هَذَا هُوَ أصل نبوءة إِبْنِ الْإِنْسَان صَاحب ملكوت السَّمَوَات وَهَذَا هُوَ تَفْسِير الْمَسِيح عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام للنبوءة فَمَا تَفْسِير النَّصَارَى لَهَا من بعد الْمَسِيح فِي الإصحاح السَّابِع من سفر الْأَعْمَال وقف استفانوس خَطِيبًا بِحَيْثُ يسمعهُ بولس وَصرح بِأَن ابْن الْإِنْسَان هُوَ يسوع الْمَسِيح وَلَيْسَ هُوَ نَبِي الْإِسْلَام صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا صرح عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي الإصحاح التَّاسِع عشر من هَذَا السّفر وَفِي مَوَاضِع كَثِيرَة يردد بولس عِبَارَات استفانوس الَّذِي لم يُشَاهد الْمَسِيح بعينى رَأسه مثل بولس قَالَ استفانوس هَا أَنا أنظر السَّمَوَات مَفْتُوحَة وَابْن الْإِنْسَان قَائِما عَن يَمِين الله لما حكى عَنهُ الْكَاتِب وَأما هُوَ فشخص إِلَى السَّمَاء وَهُوَ ممتلئ من الرّوح الْقُدس فَرَأى مجد الله ويسوع قَائِما عَن يَمِين الله وَقَالَ الْكَاتِب عَن بولس فِي مَدِينَة أفسوس ثمَّ دخل الْمجمع وَكَانَ يُجَاهر مُدَّة ثَلَاثَة أشهر محاجا ومقنعا فِي مَا يخْتَص بملكوت الله يَوْم الرب وَلما قَالَ بطرس وَتَبعهُ بولس بِأَن عِيسَى لم يمت وَأَنه رفع حَيا إِلَى السَّمَاء وَأَنه سيرجع إِلَى الدُّنْيَا ليحارب أعداءه وينتصر ويؤسس فِي الدُّنْيَا ملكا كملك دَاوُود وَسليمَان فِي الزَّمَان الْقَدِيم علم أَن الزَّمن إِذا طَال وَلم ينزل عِيسَى سيسأل النَّاس مَتى يَوْم الرب أَي مَتى الْيَوْم الَّذِي سَيظْهر فِيهِ عِيسَى ليقيم الْملك الدنيوي لأَنهم طبقوا بالزور نبوءات التَّوْرَاة عَلَيْهِ فَقَالَ فِي الإصحاح الثَّالِث من رسَالَته الثَّانِيَة سَيَأْتِي فِي آخر الْأَيَّام قوم مستهزئين سالكين بِحَسب

ثانيا تغيير التوراة

شهوات أنفسهم وقائلين أَيْن هُوَ موعد مَجِيئه لِأَنَّهُ من حِين رقد الْآبَاء كل شَيْء بَاقٍ هَكَذَا من بَدْء الخليقة ورد بقوله لَا يخف عَلَيْكُم هَذَا الشَّيْء الْوَاحِد أَيهَا الأحباء أَن يَوْمًا وَاحِدًا عِنْد الرب كألف سنة وَألف سنة كَيَوْم وَاحِد لَا يتباطأ الرب عَن وعده كَمَا يحْسب قوم التباطؤ لكنه يتأنى علينا وَالنَّصَارَى الْيَوْم طوائفهم الْعُظْمَى على أَن يَوْم الرب قريب وَلَكِن لن ينزل عِيسَى بالجسد وَالروح بل بِالروحِ دون الْجَسَد ثَانِيًا تَغْيِير التَّوْرَاة لاحظ أَولا مَا يَلِي يرْوى الْقُرْطُبِيّ الإِمَام الْفَقِيه الْمُفَسّر فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام {ولأحل لكم بعض الَّذِي حرم عَلَيْكُم} آل عمرَان 50 قَول عَن إِمَام من الإئمة هُوَ أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام مَا أحل لَهُم إِلَّا مَا حرمه عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل على النَّاس لَا مَا حرمه الله بِنَصّ فِي التَّوْرَاة وَهَذَا القَوْل مَعَ صَوَابه لم يجْزم بصوابه الْمُفَسّر ولماذا لم يكن لِأَن الْعلمَاء نظرُوا إِلَى آيَات أَرْبَعَة فِي دَعْوَة الْمَسِيح الْآيَة الأولى قَول الله عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه {مُصدقا لما بَين يَدي من التَّوْرَاة وَمُبشرا برَسُول يَأْتِي من بعدِي اسْمه أَحْمد} الصَّفّ 6 أَي أَن دَعوته فِي أَمريْن إثنين الأول أَنه مُصدق للتوراة غير نَاسخ وَالثَّانِي أَنه لم يُعْط لأتباعه شَرِيعَة مُنْفَصِلَة عَن شَرِيعَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لم يعطهم إِلَّا خَبرا بمجيء نَبِي الْإِسْلَام صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْخَبَر لَا ينْسَخ التشريع وَالْآيَة الثَّانِيَة قَول الله عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لِقَوْمِهِ {ولأبين لكم بعض الَّذِي تختلفون فِيهِ} الزخرف 63 أَي أَنه كَانَ على شَرِيعَة مُوسَى الَّتِي يَخْتَلِفُونَ فِي تَفْسِير بعض آياتها فيفسر لَهُم التَّفْسِير الصَّحِيح وَالْآيَة الثَّالِثَة {وليحكم أهل الْإِنْجِيل بِمَا أنزل الله فِيهِ} الْمَائِدَة 47 وَقد فهم مِنْهَا الْبَعْض أَن الحكم بالإنجيل يعْنى أَنه شَرِيعَة مُنْفَصِلَة عَن التَّوْرَاة وَفهم مِنْهَا الْبَعْض وَقد أَشَارَ إِلَيْهِم الزَّمَخْشَرِيّ الْمُفَسّر طيب الله ثراه أَن الحكم بالإنجيل هُوَ نَفسه الحكم بِالتَّوْرَاةِ لماذا لِأَنَّهُ مَكْتُوب فِي الْإِنْجِيل رغم تحريفه أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لأتباعه

أتظنون أَنِّي جِئْت لأبطل الشَّرِيعَة والأنبياء الْحق أَقُول لكم لعمر الله إِنِّي لم آتٍ لأبطلها وَلَكِن لأحفظها فعلى قَوْله هَذَا إِذا أَرَادَ النَّصَارَى أهل الْإِنْجِيل أَن يقيموا حكم الله فَعَلَيْهِم بهدى إمَامهمْ وَهدى إمَامهمْ مَعْرُوف من قَوْله لم آتٍ لأبطلها إِذن فليتحاكموا فِيمَا بَينهم على قوانينها وَالْآيَة الرَّابِعَة قَول الله تَعَالَى عَن عِيسَى عَليّ السَّلَام {ومصدقا لما بَين يَدي من التَّوْرَاة ولأحل لكم بعض الَّذِي حرم عَلَيْكُم} آل عمرَان 50 وَهَذِه الْآيَة هِيَ مَوضِع الْإِشْكَال فِي الظَّاهِر حَيْثُ فهم الْبَعْض أَن التَّصْدِيق لَا صلَة لَهُ الْبَتَّةَ بإنجيله الَّذِي أحل فِيهِ وَأَن التَّصْدِيق لَا يتعارض مَعَ شَرِيعَة جَدِيدَة تكون مَعَه وفهمهم هَذَا يكون صَحِيحا إِذا كَانَ الله تَعَالَى قد صرح فِي أَمر عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام بِأَنَّهُ مَعَ التَّصْدِيق مهيمن على التَّوْرَاة فَفِي الْحَالة هَذِه يجب القَوْل بِأَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام قد أعْطى بِنَاء عَن وَحي الله شَرِيعَة مُسْتَقلَّة عَن شَرِيعَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لِأَن معنى الهيمنة السيطرة بِقُوَّة على الْكتاب أَي يصدق على صَحِيحه وَيُصَرح بباطله ويغير من تشريعاته مَا هُوَ غير صَالح للنَّاس فِي زَمَانه فَهَل الهيمنة على التَّوْرَاة من إختصاص عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَا لَيست من إختصاصه بل من إختصاص مُحَمَّد نَبِي الْإِسْلَام صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ هُوَ وَحده الْمُصدق والمهيمن وَحَيْثُ ذَلِك ثَابت فَإِن تَحْلِيل عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام يجب أَن ينظر فِيهِ إِلَى أَي أَمر غير تَغْيِير نُصُوص التَّوْرَاة الَّتِي تحرم مَا يُرِيد هُوَ أَن يحله وَإِلَّا لزم التَّنَاقُض فِي مَفْهُوم دَعوته بَين التَّصْدِيق فَقَط وَحل مَا حرم على بني إِسْرَائِيل وَهَذَا هُوَ الَّذِي حدا بِي إِلَى فحص هَذَا الْمَوْضُوع بدقة متناهية وَقد انْتَهَيْت فِيهِ إِلَى أَنه أحل بعض مَا حرمه على النَّاس عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل من تِلْقَاء أنفسهم وَمَا يزَال الْبَعْض من النَّاس فِي عصرنا هَذَا يعد النَّصْرَانِيَّة دينا سماويا تاليا للديانة الْيَهُودِيَّة سَابِقًا على الْإِسْلَام ويزعمون أَن الْأَدْيَان ثَلَاثَة أَدْيَان الْيَهُودِيَّة والنصرانية وَالْإِسْلَام وَأَنا أعلم أَن زعمهم قَائِم لَا على حسب وَاقع النَّاس الْيَوْم بل على أَنهم عالمون بِأَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام قد أضَاف جَدِيدا على شَرِيعَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَلَقَد علمُوا ذَلِك من التَّرْجَمَة المتداولة للإنجيل وفيهَا يَقُول مَتى عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَا تظنوا إِنِّي جِئْت لأنقض الناموس أَو الْأَنْبِيَاء مَا جِئْت لأنقض بل لأكمل يفهمون من

قَوْله لأكمل أَنه أضَاف جَدِيدا وَلم يكلفوا أنفسهم أَن يبحثوا عَن هَذَا الْجَدِيد الْمُضَاف الَّذِي أكمل بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام كتاب مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَي جَدِيد أَضَافَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَإِن أصُول الْإِنْجِيل باللغة اليونانية فِيهَا بل لأصحح وَفِي التَّرْجَمَة الَّتِي نقلت عَن برنابا لم آتٍ لأبطلها بل لأحفظها وَفِي الْخطاب الْأَخير يَقُول للجموع وللتلاميذ على كرْسِي مُوسَى جلس الكتبة والفريسيون فَكل مَا قَالُوا لكم أَن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه لقد أوصى فَقَط بِحِفْظ شَرِيعَة مُوسَى وَالْعَمَل بهَا وَلم يُصَرح بجديد عَلَيْهَا مُضَاف إِلَيْهَا وَأي جَدِيد يُصَرح بِهِ وَقد أحَال الأتباع إِلَى عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل وَمِنْهُم من يُؤمن بِهِ وَمن لَا يُؤمن بِهِ فَأَي دَلِيل على هَذَا الزَّعْم وَهَذَا كَلَام صَاحب الشَّأْن كَمَا هُوَ مَكْتُوب وواضح للْعَالم والمتعلم لَيست الْأَدْيَان ثَلَاثَة بل إثنين فَقَط لَا ثَالِث لَهما الْيَهُودِيَّة أَولا وَالْإِسْلَام آخرا وَقد نسخ الدّين الْأَخير الدّين الأول الَّذِي حرف من قبل ظُهُوره وَغير وَبدل بِشَهَادَة أَهله فَإِنَّهُ فِي الإصحاح الثَّالِث وَالْعِشْرين من سفر أرمياء على لِسَان الله تَعَالَى لِأَن الْأَنْبِيَاء والكهنة تنجسوا جَمِيعًا بل فِي بَيْتِي وجدت شرهم يَقُول الرب وَقد رَأَيْت فِي أَنْبيَاء السامرة حَمَاقَة تنبأوا بالبعل وأضلوا شعبي إِسْرَائِيل وَفِي أَنْبيَاء أورشليم رَأَيْت مَا يقشعر مِنْهُ يفسقون ويسلكون بِالْكَذِبِ ويشددون أيادي فاعلى الشَّرّ من عِنْد أَنْبيَاء أورشليم خرج نفاق فِي كل الأَرْض أما وَحي الرب فَلَا تذكروه بعد لِأَن كلمة كل إِنْسَان تكون وحيه إِذْ قد حرفتم كَلَام الْإِلَه الْحَيّ رب الْجنُود إلهنا الخ وَأي تَصْرِيح أوضح من هَذَا التَّصْرِيح لنتحدث بعد تِلْكَ الملاحظات فِي محاولة بطرس وبولس وَيَعْقُوب لتغيير التَّوْرَاة فَنَقُول يحْكى هَذَا السّفر أَن بطرس الَّذِي وَصفه الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام بِأَنَّهُ شَيْطَان هُوَ أول من دَعَا إِلَى تَغْيِير التَّوْرَاة فِي الشَّرِيعَة وَقد غَيرهَا هُوَ وَمن مَعَه من أجل الرومان أَولا الَّذين أَرَادوا أَن يُدْخِلُوهُمْ فِي النَّصْرَانِيَّة بسهولة لقد كَانَ من عَادَة الْعلمَاء من بني إِسْرَائِيل بعد سبي بابل أَن لَا يدخلُوا بَيت خاطئ وَأَن لَا يمشوا مَعَه وَأَن لَا يتعرفوا على رجل

لَيْسَ من جنس بني إِسْرَائِيل وَأَن لَا يعاشروه وَأَن لَا يدخلُوا بَيته وَأَن لَا يَأْكُلُوا طَعَامه وَلَيْسَت هَذِه الْعَادة لِأَن الله نَص عَلَيْهَا فِي التَّوْرَاة بل لأَنهم ابتدعوها من سبى بابل وَلذَلِك وبخهم الْمَسِيح وبكتهم فقد روى مَتى أَنه دخل مَعَ تلاميذه بَيت خاطئ لِيَدْعُوهُ إِلَى التَّوْبَة فَلَمَّا نظره الْعلمَاء قَالُوا لتلاميذه لماذا يَأْكُل معلمكم مَعَ العشارين والخطاة فَلَمَّا سمع يسوع قَالَ لَهُم لَا يحْتَاج الأصحاء إِلَى طَبِيب بل المرضى فأذهبوا وتعلموا مَا هُوَ إِنِّي أُرِيد رَحْمَة لَا ذَبِيحَة لِأَنِّي لم آتٍ لأدعوا أبرارا بل خطاة إِلَى التَّوْبَة وَقد اقتفى بطرس أثر الْمَسِيح مَعَ الْفَارِق فقد دخل الْمَسِيح وَأكل حَسْبَمَا تنص شَرِيعَة مُوسَى فِي الْأَطْعِمَة وَدخل بطرس بَيت أممي غير يَهُودِيّ وَأكل مَا هُوَ محرم فِي شَرِيعَة مُوسَى من الْأَطْعِمَة وَلما سَأَلُوهُ عَن تَحْلِيله لما هُوَ محرم لم يجب بِأَن الْمَسِيح أحل مَا كَانَ محرما وَإِنَّمَا أجَاب بِأَنَّهُ رأى السَّمَاء مَفْتُوحَة وإناء نازلا عَلَيْهِ مثل ملاءة عَظِيمَة مربوطة بأَرْبعَة أَطْرَاف ومدلاة على الأَرْض وَكَانَ فِيهَا كل دَوَاب الأَرْض والوحوش والزحافات وطيور السَّمَاء وَصَارَ إِلَيْهِ صَوت قُم يَا بطرس اذْبَحْ وكل فَقَالَ بطرس كلا يَا رب لِأَنِّي لم آكل قطّ شَيْئا دنسا أَو نجسا فَصَارَ إِلَيْهِ أَيْضا صَوت ثَانِيَة مَا طهره الله لَا تدنسه أَنْت وَكَانَ هَذَا على ثَلَاث مَرَّات ثمَّ ارْتَفع الْإِنَاء أَيْضا إِلَى السَّمَاء وَقد واجه المجتمعين بِرَأْيهِ فِي معاشرة الأمميين قَالَ لَهُم أَنْتُم تعلمُونَ كَيفَ هُوَ محرم على رجل يَهُودِيّ أَن يلتصق بِأحد أَجْنَبِي أَو يَأْتِي إِلَيْهِ وَأما أَنا فقد أَرَانِي الله أَن لَا أَقُول عَن إِنْسَان مَا أَنه دنس أَو نجس وَعلل رَأْيه بقوله بِالْحَقِّ أَنا أجد أَن الله لَا يقبل الْوُجُوه بل فِي كل أمة الَّذِي يتقيه ويصنع الْبر مَقْبُول عِنْده وَلما رَجَعَ بطرس من عِنْد الأممي إِلَى أورشليم وَقد علم الْيَهُود أَنه دخل بَيت أممي وَأكل عِنْده خاصموه فَقص عَلَيْهِم قصَّة الْإِنَاء الَّذِي يشبه الملاءة فعندئذ سكتوا عَن الْخِصَام قَالَ

كَاتب السّفر فِي الإصحاح الْحَادِي عشر وَلما صعد بطرس إِلَى أورشليم خاصمه الَّذين من أهل الْخِتَان قائلين إِنَّك دخلت إِلَى رجال ذَوي غلفة وأكلت مَعَهم فابتدأ بطرس يشْرَح لَهُم بالتتابع قَائِلا أَنا كنت فِي مَدِينَة يافا أُصَلِّي فَرَأَيْت فِي غيبَة رُؤْيا إِنَاء نازلا مثل ملاءة عَظِيمَة مدلاة بأَرْبعَة أَطْرَاف من السَّمَاء الخ ثمَّ يَقُول الْكَاتِب فَلَمَّا سمعُوا ذَلِك سكتوا وَكَانُوا يمجدون الله قائلين إِذن أعْطى الله الْأُمَم أَيْضا التَّوْبَة للحياة أَي أَن بطرس بِتِلْكَ الرُّؤْيَا رُؤْيا الْإِنَاء المشابه للملاءة يُرِيد أَن يَقُول أَن كل مَا كَانَ محرما فِي التَّوْرَاة أصبح حَلَالا من الأن إِن من الْأَطْعِمَة الْمُحرمَة فِي التَّوْرَاة الْجمل والأرنب والوبر وَالْخِنْزِير والنسر والأنوق وَالْعِقَاب والحدأة والباشق والشاهين على أجناسه والغراب على أجناسه والنعامة والظليف والسأف والباز على أجناسه والبوم والكركي والبجع والقوق والرخم والغواص واللقلق والببغاء على أجناسه والهدهد والخفاش وكل دَبِيب الطير وَالْميتَة وتعبر التَّوْرَاة عَن عدم حلّه بِلَفْظ أَنه نجس لكم نجس لكم نَجِسَة لكم فِي الإصحاح الرَّابِع عشر من سفر التَّثْنِيَة وَفِي الإصحاح الْحَادِي عشر من سفر اللاويين تعبر التَّوْرَاة عَن عدم حلّه بِلَفْظ نجس لكم إِنَّهَا نَجِسَة لكم لَا تدنسوا أَنفسكُم بدبيب يدب وَلَا تتنجسوا بِهِ وَلَا تَكُونُوا بِهِ نجسين وَيُرِيد بطرس أَن يَقُول أَن ماكان دنسا وَمَا كَانَ نجسا فِي التَّوْرَاة أصبح طَاهِرا ومباحا أكله من يَوْمنَا هَذَا هَذَا رَأْي بطرس وَهُوَ نَفسه رَأْي بولس فَإِن بولس يَقُول الْإِنْسَان الَّذِي يحرم طَعَاما مَا على نَفسه فَلهُ هُوَ وَحده هَذَا الطَّعَام حرَام وَلَكِن لَيْسَ للنَّاس جَمِيعًا أَن الْإِيمَان بيسوع الْمَسِيح كَاف فِي دُخُول الْجنَّة بِدُونِ أَعمال لِأَنَّهُ صلب ليكفر عَن خَطَايَا الْمُؤمنِينَ بِهِ يَقُول لأهل غلاطية إِنَّه بأعمال الناموس لَا يتبرر جَسَد مَا وَيَقُول لأهل كولوسى لَا يحكم عَلَيْكُم أحد فِي أكل أَو شرب أَو من جِهَة عيد أَو هِلَال أَو سبت وَيَقُول لأهل رُومِية إِنِّي عَالم ومتيقن فِي الرب يسوع أَن لَيْسَ شَيْء نجسا بِذَاتِهِ إِلَّا من يحْسب شَيْئا نجسا فَلهُ هُوَ نجس وَيَقُول بولس لأتباعه تلونوا ونافقوا وداهنوا فِي الدعْوَة كَمَا أَنا أفعل فَإِن رَأَيْتُمْ إنْسَانا يُرِيد الدُّخُول فِي النَّصْرَانِيَّة وَهُوَ يُرِيد

أَن يحرم على نَفسه طَعَاما فَلَا تجبروه على أكله يَقُول فِي رسَالَته الأولى إِلَى أهل كورنثوس كل الْأَشْيَاء تحل لي لَكِن لَيْسَ كل الْأَشْيَاء توَافق كل مَا يُبَاع فِي الملحمة كلوه غير فاحصين عَن شَيْء من أجل الضَّمِير وَلَكِن إِن قَالَ لكم أحد هَذَا مَذْبُوح لوثن فَلَا تَأْكُلُوا كونُوا بِلَا عَثْرَة للْيَهُود ولليونانيين ولكنيسة الله كَمَا أَنا أَيْضا أرْضى الْجَمِيع فِي كل شَيْء غير طَالب مَا يُوَافق نَفسِي بل الكثيرين لكَي يخلصوا وَلَقَد ظلّ بطرس وبولس على رأيهما هَذَا إِلَى أَن فارقا الْحَيَاة الدُّنْيَا ورأيهما هَذَا هُوَ الَّذِي سَارَتْ عَلَيْهِ النَّصْرَانِيَّة إِلَى يَوْمنَا هَذَا أما رَأْي يَعْقُوب وَهُوَ تَحْرِيم الدَّم والمخنوق من الْأَطْعِمَة فَهُوَ رَأْي لَا يعْتد بِهِ لِأَنَّهُ من من النَّاس يستسيغ فِي حَالَة الإختيار لَا فِي حَالَة الإضطرار أَن يَأْكُل جثة ميتَة خنقها بِحَبل من النَّاس خانق وَمن من النَّاس يستسيغ فِي حَالَة الإختيار أَن يَأْكُل الدَّم لَا فِي حَالَة الإضطرار وَرَأى يَعْقُوب أَيْضا فِي تَحْرِيم الْمَذْبُوح للأوثان هُوَ نَفسه رأى النَّصَارَى كلهم لأَنهم لَا يعْبدُونَ أوثانا بل يعْبدُونَ آلِهَة غير مرئية إِلَّا الْمَسِيح الَّذِي يَزْعمُونَ أَنهم رَأَوْهُ إِلَهًا فِي صُورَة إِنْسَان وخلاصة الْمَكْتُوب عَن رأى يَعْقُوب فِي الإصحاح الْخَامِس عشر من سفر أَعمال الرُّسُل هَكَذَا 1 - ذهب بولس وبرنابا لدَعْوَة الْأُمَم إِلَى النَّصْرَانِيَّة فَآمن جُمْهُور كثير من الْيَهُود واليونانيين وَهنا قاوم نفر من الْيَهُود دَعْوَة اليونانيين لَا على أَنَّهَا دَعْوَة بل لأَنهم دخلُوا فِي النَّصْرَانِيَّة على عاداتهم وتقاليدهم قَالَ المقاومون ليدخلوا ويعملوا بِالتَّوْرَاةِ لِأَن الْمَسِيح مَا جَاءَ للنسخ بل للإصلاح وَقَالَ الداعيان أَن يثبتوا فِي الْإِيمَان وَفِي ذَلِك الْوَقْت دخل نفر من عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل من الفريسيين بِلَاد اليونانيين وَجعلُوا يعلمُونَ الْأُخوة اليونانيين أَنه أَن لم تختتنوا حسب عَادَة مُوسَى لَا يمكنكم أَن تخلصوا فَمن أجل ذَلِك رأى بولس وبرنابا وأناس آخَرُونَ مَعَهُمَا أَن يذهبوا إِلَى أورشليم للتشاور فِي هَذَا الْمَوْضُوع مَعَ حوارِي عِيسَى الْأَوَّلين وَلما الْتَقَوْا بهم فِي أورشليم أخبروهم بِمَا حدث وَقَالُوا لَهُم

إِن اليونانيين لما قبلوا النَّصْرَانِيَّة على عاداتهم قَامَ النَّاس من الَّذين كَانُوا قد آمنُوا من مَذْهَب الفريسيين وَقَالُوا أَنه يَنْبَغِي أَن يختتنوا ويوصوا بِأَن يحفظوا ناموس مُوسَى فعندئذ وقف بطرس خَطِيبًا وَقَالَ مِمَّا قَالَ لماذا تجربون الله بِوَضْع نير على عنق التلاميذ لم يسْتَطع آبَاؤُنَا وَلَا نَحن أَن نحمله أَي يُرِيد إِسْقَاط التكاليف الشَّرْعِيَّة عَن الْأُمَم ووقف يَعْقُوب بعده خَطِيبًا فَكَانَ مِمَّا قَالَه قَالَ أرى أَن لَا يثقل على الراجعين إِلَى الله من الْأُمَم بل يُرْسل إِلَيْهِم أَن يمتنعوا عَن نجاسات الْأَصْنَام وَالزِّنَا والمخنوق وَالدَّم لِأَن مُوسَى مُنْذُ أجيال قديمَة لَهُ فِي كل مَدِينَة من يكرز بِهِ إِذْ يقْرَأ فِي المجامع كل سبت وَاسْتحْسن المجتمعون رأيى يَعْقُوب فَكَتَبُوا رِسَالَة إِلَى الَّذين آمنُوا من غير الْيَهُود فِي مدن أنطاكية وسورية وكليكية وأرسلوها مَعَ أَرْبَعَة أشخاص هم بولس وبرنابا ويهوذا الملقب برسابا وسيلا وَهَذَا نَص الرسَالَة الرُّسُل والمشايخ والأخوة يهْدُونَ سَلاما إِلَى الْأُخوة الَّذين من الْأُمَم فِي أنطاكية وسورية وكليكية إِذْ قد سمعنَا أَن أُنَاسًا خَارِجين من عندنَا أزعجوكم بأقوال مقلبين أَنفسكُم وقائلين أَن تختتنوا وتحفظوا الناموس الَّذين نَحن لم نأمرهم رَأينَا وَقد صرنا بِنَفس وَاحِدَة أَن نَخْتَار رجلَيْنِ ونرسلها اليكم مَعَ حبيبنا برنابا وبولس رجلَيْنِ قد بذلا أَنفسهمَا لأجل إسم رَبنَا يسوع الْمَسِيح فقد أرسلنَا يهوذا وسيلا وهما يخبرانكم بِنَفس الْأُمُور شفاها لِأَنَّهُ قد رأى الرّوح الْقُدس وَنحن أَن لَا نضع عَلَيْكُم ثقلا أَكثر غير هَذِه الْأَشْيَاء الْوَاجِبَة أَن تمتنعوا عَمَّا ذبح للأصنام وَعَن الدَّم والمخنوق وَالزِّنَا الَّتِي إِن حفظتم أَنفسكُم مِنْهَا فَنعما تَفْعَلُونَ كونُوا معافين أنْتَهى نَص الرسَالَة وَلما وصلت إِلَى أَصْحَابهَا وقرأوها

فرحوا كَمَا يَقُول الْكَاتِب وَبهَا ضَاعَ دين عِيسَى الَّذِي هُوَ نَفسه دين مُوسَى وَأَصْحَاب هَذِه المؤامرة لم يستطيعوا أَن يجهروا بهَا فِي أورشليم وجهروا فِي أورشليم بإحترام التَّوْرَاة وَوُجُوب الْعَمَل بهَا وَيَعْقُوب نَفسه الَّذِي اقترح تِلْكَ الرسَالَة خَافَ على بولس لمارجع إِلَى أورشليم بَعْدَمَا أوصل الرسَالَة إِلَى أَصْحَابهَا وَقَالَ لَهُ مَعَ الْمَشَايِخ أَنْت ترى أَيهَا الْأَخ كم يُوجد ربوة من الْيَهُود الَّذين آمنُوا وهم جَمِيعًا غيورون للناموس وَقد أخبروا عَنْك أَنَّك تعلم جَمِيع الْيَهُود الَّذين بَين الْأُمَم الإرتداد عَن مُوسَى قَائِلا أَن لَا يختنوا أَوْلَادهم وَلَا يسلكوا حسب العوائد فَإِذن مَاذَا يكون وَلما خَافَ عَلَيْهِ من الْيَهُود اقترح عَلَيْهِ الإقتراح الْآتِي افْعَل هَذَا الَّذِي نقُول لَك عندنَا أَرْبَعَة رجال عَلَيْهِم نذر خُذ هَؤُلَاءِ وتطهر مَعَهم وَأنْفق عَلَيْهِم ليحلقوا رؤوسهم فَيعلم الْجَمِيع أَن لَيْسَ شَيْء مِمَّا أخبروا عَنْك بل تسلك أَنْت أَيْضا حَافِظًا للناموس وَلَقَد نفذ بولس هَذَا الإقتراح أَخذ بولس الرِّجَال فِي الْغَد وتطهر مَعَهم وَدخل الهيكل مخبرا بِكَمَال أَيَّام التَّطْهِير إِلَى أَن يقرب عَن كل وَاحِد مِنْهُم القربان فَمَاذَا كَانَ من الْيَهُود الَّذين رَأَوْهُ فِي الهيكل لما رَآهُ الْيَهُود الَّذين من آسيا فِي الهيكل أهاجوا عَلَيْهِ جَمِيع الساكنين فِي أورشليم صارخين يَأ أَيهَا الرِّجَال الإسرائليون أعينوا هَذَا الرجل الَّذِي يعلم الْجَمِيع فِي كل مَكَان ضدا للشعب والناموس وَهَذَا الْموضع حَتَّى أَدخل يونانيين أَيْضا إِلَى الهيكل ودنس هَذَا الْموضع الْمُقَدّس وللوقت هَاجَتْ الْمَدِينَة كلهَا وتراكض الشّعب وأمسكوا بولس وجروه خَارج الهيكل وللوقت أغلقت الْأَبْوَاب وبينما هم يطْلبُونَ أَن يقتلوه نما خبر إِلَى أَمِير الكتيبة أَن أورشليم كلهَا قد اضْطَرَبَتْ فللوقت أَخذ عسكرا وقواد مئات وركض إِلَيْهِم فَلَمَّا رَأَوْا الْأَمِير والعسكر كفوا عَن ضرب بولس ولنشرع بعد ذَلِك فِي الحَدِيث عَن عالمية الْملَّة النَّصْرَانِيَّة فَنَقُول

عالمية الملة النصرانية

عالمية الْملَّة النَّصْرَانِيَّة قُلْنَا من قبل أَن شَرِيعَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَت من قبل أَن تنسخ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيم لبني إِسْرَائِيل وللأمم أَيْضا وَأَنه من قبل ظُهُور النَّصْرَانِيَّة كَانَ للشريعة الموسوية دعاة إِلَيْهَا ومدعويون عاملون بالدعوة فِي كل مَكَان كَمَا قَالَ يَعْقُوب حوارِي الْمَسِيح لِأَن مُوسَى مُنْذُ أجيال قديمَة لَهُ فِي كل مَدِينَة من يكرز أَي يبشر بِهِ إِذْ يقْرَأ فِي المجامع كل سبت وَقد رأى النَّصَارَى الْأَولونَ أَن ينطلقوا بالدعوة إِلَى بني إِسْرَائِيل والأمم كَمَا أوصى الْمَسِيح لَكِن إِلَى بني إِسْرَائِيل أَولا وَقد اخْتلف الْيَهُود فِيمَا بَينهم بعد رفع الْمَسِيح إِلَى السَّمَاء فِي مد دعوتهم إِلَى الْأُمَم وَقد كَانُوا أوقفوا مد الدعْوَة من بعد سبى بابل إِلَّا نَفرا مِنْهُم غاروا على دين الله وَلم يَسْتَجِيبُوا لقوانين الحرمان والقطيعة الَّتِي سنّهَا عزرا وطبقها نحميا على وَاحِد من أَبنَاء يوياداع ابْن أليا شيب الكاهن الْعَظِيم فَرَأى بَعضهم مد الدعْوَة وَرَأى بَعضهم قصرهَا على بني إِسْرَائِيل وَالَّذين رَأَوْا مد الدعْوَة إِلَى الْأُمَم كَانُوا مُخلصين فِي دعوتهم وأمناء لأَنهم دعوا إِلَى شَرِيعَة مُوسَى الَّتِي مَا نسخهَا الْمَسِيح وَلَا نقضهَا فَإِن بولس لما فتح للأمم بَاب الْإِيمَان إِلَى النَّصْرَانِيَّة على حسب تقاليدهم انحدر قوم من الْيَهُودِيَّة وَجعلُوا يعلمُونَ الْأُخوة أَنه إِن لم تختتنوا حسب عَادَة ناموس مُوسَى لَا يمكنكم أَن تخلصوا وَلم يدعوا إِلَى الْخِتَان فَحسب بل إِلَى كل أَحْكَام التَّوْرَاة كَمَا يَقُول كَاتب سفر الْأَعْمَال أَيْضا وَلَكِن قَامَ أنَاس من الَّذين كَانُوا قد آمنُوا من مَذْهَب الفريسيين وَقَالُوا أَنه يَنْبَغِي أَن يختنوا ويوصوا بِأَن يحفظوا ناموس مُوسَى وَالْيَهُود الَّذين رَأَوْا قصر التَّوْرَاة على بني إِسْرَائِيل نظرُوا بِعَين العداء وَعين البغض إِلَى إخْوَانهمْ الَّذين سَارُوا إِلَى الْأُمَم بِالتَّوْرَاةِ بنصها دون تَفْسِير أَو بِالنَّصِّ وَالتَّفْسِير مَعًا وَإِلَى النَّصَارَى الَّذين لم

يَسِيرُوا إِلَى الْأُمَم بِالتَّوْرَاةِ كنص يحْتَاج إِلَى تَفْسِير بل بتفسير الْمَسِيح نَفسه للنبوءات الَّتِي فِيهَا عَن نَبِي الْإِسْلَام صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلما نظرُوا إِلَيْهِم بِعَين العداء وَعين البغض صبوا عَلَيْهِم من الْعَذَاب الْأَلِيم مَا قدرُوا عَلَيْهِ وأوحوا إِلَى الرومان أَن يصبوا عَلَيْهِم من الْعَذَاب الْأَلِيم مَا يقدرُونَ عَلَيْهِ قائلين للرومان أَن أَكْثَرهم يَقُولُونَ لرعاياكم سَيظْهر نَبِي ملك تمتد مَمْلَكَته إِلَى أقْصَى الأَرْض وسيزيل الدولة الرومانية من فلسطين وَقَوْلهمْ هَذَا للرعايا يجرؤهم على القياصرة والولاة والرؤساء فَلَا يُعْطون كل ذِي حق حَقه من التوقير وَالطَّاعَة والإحترام وَإِذا تجرأت الرّعية على الْمُلُوك قل الْعَمَل وساء النظام وَظَهَرت الفوضى واضطربت المملكة وَهَذَا كُله يعجل بِفنَاء الدولة الرومانية ويمحوها من الْوُجُود فامتدت يَد الرومان إِلَى الْيَهُود الْأُمَنَاء وَالنَّصَارَى الأتقياء بالتعذيب وَالْقَتْل وَالنَّفْي والتشريد مِمَّا لم يسمع بِمثلِهِ من قبل وَلَا من بعد حَتَّى زماني هَذَا وَأصْبح فِي الْعَالم وقتئذ ثَلَاث فئات الْيَهُود وَالنَّصَارَى والرومان الْيَهُود الَّذين يُرِيدُونَ لأَنْفُسِهِمْ كيانا مُسْتقِلّا إِلَى الْأَبَد وَلَا يتم لَهُم ذَلِك إِلَّا بإنكار النَّبِي الَّذِي سَيظْهر من الْعَرَب أَبنَاء إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَالنَّصَارَى الَّذين يُرِيدُونَ أَن يقدموا خدمَة لله بإعترافهم بذلك النَّبِي الْعَظِيم والرومان الَّذين يُرِيدُونَ من رعاياهم الطَّاعَة التَّامَّة للقياصرة وَالْوَلَاء للدولة وَلَا يتم لَهُم ذَلِك إِلَّا بتكميم أَفْوَاه النَّصَارَى وَالْيَهُود الْأُمَنَاء وَقطع أَيْديهم عَن الْكِتَابَة حَتَّى لَا يَقُولُوا أَن النَّبِي الْعَرَبِيّ قادم ليزيل الدولة وَمن أجل مصَالح الْكل اجْتَمعُوا للمصالحة فَإِن النَّصَارَى من مصلحتهم أَن يخف الإضطهاد عَنْهُم وَاتَّفَقُوا على مَا يل 1 - طلب الْيَهُود من النَّصَارَى أَن لَا يجهروا بِنَبِي الْإِسْلَام صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن يَقُولُوا أَن نبوءات التَّوْرَاة وأسفار الْأَنْبِيَاء تدل على عِيسَى ابْن مَرْيَم وَعِيسَى على جِهَة الْخُصُوص هُوَ الْمَسِيح المتظر 2 - طلب الرومان من النَّصَارَى أَن لَا يجهروا بِنَبِي الْإِسْلَام صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن يصوغوا عقائد النَّصْرَانِيَّة على مِثَال عقائد الرومان فِي تعدد الْآلهَة وَأَن يسْلك النَّاس فِي الْحَيَاة بِحَسب عادات أسرهم وتقاليد آبَائِهِم وأجدادهم وَإِذا سَأَلَ النَّاس عَن يَوْم الرب يَوْم

ظُهُور المسيا الَّذِي قُلْتُمْ عَنهُ من قبل قُولُوا قرب إنتهاء الدُّنْيَا وَقيام الْقِيَامَة 3 - طلب النَّصَارَى فِي مُقَابل ذَلِك أَن يخف الإضطهاد أَولا ثمَّ تعترف الدولة الرومانية رسميا ثَانِيًا بمذهبهم وَقد تمّ ذَلِك وَهل كَانَ يتم ذَلِك فِي عهد النَّصَارَى الْأَوَائِل مَا كَانَ يتم ذَلِك لقرب عَهدهم من النُّبُوَّة ولمشاهدة معجزات الْمَسِيح بأعينهم ولسماع دَعوته بآذانهم أما فِي هَذَا الجيل الثَّالِث فَإِن أَبنَاء أَبنَاء الْأَوَائِل لَيْسُوا فِي الْقُوَّة كَمَا كَانَ الْآبَاء والأجداد وَقد وصلت إِلَيْهِم مبادئ الْمَسِيح سَمَاعا من مغرضين ومعتدلين والمبادئ إِذا وصلت إِلَى النُّفُوس متأرجحة بَين الشَّك وَالْيَقِين لَا تحمس الْقلب على الدفاع عَنْهَا بل تَدْفَعهُ إِلَى عدم المبالاة بهَا حَتَّى يفرغ لَهَا فَمن أجل ذَلِك قبل أَبنَاء الْأَبْنَاء قَرَار الْمُصَالحَة قائلين فِي أنفسهم أَن مَا وعد الله بِهِ لابد كَائِن ولنرحم نَحن أَنْفُسنَا مِمَّا ابتلينا بِهِ لَكِن الَّذين خَافُوا الله وَالْيَوْم الآخر صَرَّحُوا بِأَن قَرَار الْمُصَالحَة بَاطِل وفضلوا سُكْنى الأديرة والكهوف عَن التَّكَلُّم بِالْبَاطِلِ وَمِنْهُم آريوس وَأَتْبَاعه الَّذِي أَشَرنَا إِلَيْهِم من قبل وَمِنْهُم الرهبان الَّذين أسسوا الأديرة خوفًا من الظُّلم ولكي يفهم القارئون معي أَكثر وَأكْثر عَن قَرَار الْمُصَالحَة هَذَا عَلَيْهِم أَن يقرأوا الإصحاح السَّابِع عشر من سفر أَعمال الرُّسُل عَالمين أَنه لم ينتشر بصورته هَذِه إِلَّا فِي الْقرن الرَّابِع فَمِنْهُ يُمكنهُم أَن يفهموا وَلَا نحيل القارئين إِلَى غير هَذَا السّفر من الْكتب المناوئة للنصرانية الَّتِي فصلت القَوْل فِي قَرَار الْمُصَالحَة تَفْصِيلًا جيدا لِأَنَّهُ من السهل على نَصْرَانِيّ أَن يدْفع تفاصيلهم بقوله هَذَا كَلَام من أَعْدَائِنَا لَا تحتجون بِهِ علينا وَلَا شكّ أَن الْمَكْتُوب فِيهِ فِيهِ لبس للحق بِالْبَاطِلِ وَلَكِن من الْمُمكن استخلاص الْحق من الْبَاطِل بمضاهاة النُّصُوص بَعْضهَا بِبَعْض انه من الَّذِي يقدر أَن يَقُول عَن النَّص الْآتِي أَنه خَال من الْبَاطِل وَحدث بعد هَذِه الْأُمُور أَن الله امتحن إِبْرَاهِيم فَقَالَ لَهُ يَا إِبْرَاهِيم فَقَالَ هَا أنذا فَقَالَ خُذ ابْنك وحيدك الَّذِي تحبه إِسْحَق واذهب إِلَى أَرض المريا وأصعده هُنَاكَ محرقة على أحد الْجبَال الَّذِي أَقُول لَك أَن الْبَاطِل فِي كلمة إِسْحَق فَإِنَّهُ

لَيْسَ الإبن الوحيد لإِبْرَاهِيم أَن الإبن الوحيد لإِبْرَاهِيم هُوَ إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَأَن الْبَاطِل فِي كلمة أَرض المريا فَإِن مريا لم تعين لبني إِسْرَائِيل مَكَانا مقدسا إِلَّا فِي زمن دَاوُود عَلَيْهِ السَّلَام لما وضع أساس الهيكل وأكمله إبنه سُلَيْمَان وَعرف بهيكل سُلَيْمَان وَمن الَّذِي لَا يقدر على إستخلاص الْحق فِي قَرَار الْمُصَالحَة مِمَّا سطره لوقا فِي ذَاك الإصحاح من سفر الْأَعْمَال كَانَ للْيَهُود العبرانيين فِي مَدِينَة تسالونيكي اليونانية مجمع أَي مَوضِع لعبادة الله كالمسجد عندنَا نَحن الْمُسلمين فَدخل بولس إِلَيْهِم حسب عَادَته وَكَانَ يحاجهم ثَلَاثَة سبوت من الْكتب موضحا ومبينا أَنه كَانَ يَنْبَغِي أَن الْمَسِيح يتألم وَيقوم من الْأَمْوَات وَأَن هَذَا هُوَ الْمَسِيح يسوع الَّذِي أَنا أنادي لكم بِهِ فَمَاذَا جرى اقتنع قوم وأبى آخَرُونَ وَالَّذين أَبَوا وامتنعوا آخذوا رجَالًا وقفلوا أَبْوَاب الْمَدِينَة وتجمعوا حول الْبَيْت الَّذِي دخله بولس لما خرج من الْمجمع ثمَّ ذَهَبُوا إِلَى حكام الْمَدِينَة صارخين أَن هَؤُلَاءِ الَّذِي فتنُوا المسكونة حَضَرُوا إِلَى هَهُنَا وَهَؤُلَاء كلهم يعْملُونَ ضد أَحْكَام قَيْصر وَيَقُول الْكَاتِب فأزعجوا الْجمع وحكام الْمَدِينَة إِذْ سمعُوا هَذَا وبحيلة طريفة هرب بولس إِلَى مَدِينَة بيرية ثمَّ إِلَى مَدِينَة أثينا وَإِذ وجدهم يعْبدُونَ تمثالا لاله مَجْهُول وقف فِي وَسطهمْ وَقَالَ أَيهَا الرِّجَال الأثينيون أَرَاكُم من كل وَجه كأنكم متدينون كثيرا لأنني بَيْنَمَا كنت أجتاز وَأنْظر إِلَى معبوداتكم وجدت أَيْضا مذبحا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ لاله مَجْهُول فَالَّذِي تتقونه وَأَنْتُم تجهلونه هَذَا أَنا أنادي لكم بِهِ وَقَالَ النَّصَارَى أَنه أَرَادَ بالإله الْمَجْهُول الَّذِي نَادَى لَهُم بِهِ الله عز وَجل الَّذِي هُوَ قد تجسد وتأنس فِي شخص عِيسَى ابْن مَرْيَم كَمَا يَزْعمُونَ فِي قَوْله الله ظهر فِي الْجَسَد وَقد مر الْبَيَان وانتهز بطرس وبولس وَمن نحا نَحْوهمَا فرْصَة الْجَهْل فِي تِلْكَ الْأَزْمِنَة بِسَبَب تَقْصِير عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل فِي الدعْوَة فاعتمدوا على الخرافات فِي إقناع النَّاس بِمَا يُرِيدُونَ وللخرافات كَمَا هُوَ مَعْرُوف أثر عَظِيم فِي الْعَامَّة ويقل هَذَا الْأَثر تدريجيا إِذا ظهر الْعلمَاء بِالْحَقِّ ونكتفي من خرافاتهم بِهَذَا النَّص الْمَكْتُوب فِي الإصحاح الثَّامِن من سفر الْأَعْمَال

ثمَّ إِن ملاك الرب كلم فيلبس قَائِلا قُم وإذهب نَحْو الْجنُوب على الطَّرِيق المنحدرة من أورشليم إِلَى غَزَّة الَّتِي هِيَ بَريَّة فَقَامَ وَذهب وَإِذا رجل حبشى خصى وَزِير لكنداكة ملكة الْحَبَشَة كَانَ على جَمِيع خزائنها فَهَذَا كَانَ قد جَاءَ إِلَى أورشليم ليسجد وَكَانَ رَاجعا وجالسا على مركبته وَهُوَ يقْرَأ النَّبِي أشعياء فَقَالَ الرّوح لفيلبس تقدم ورافق هَذِه المركبة فبادر إِلَيْهِ فيلبس وسَمعه يقْرَأ النَّبِي أشعياء فَقَالَ ألعلك تفهم مَا أَنْت تقْرَأ فَقَالَ كَيفَ يمكنني إِن لم يرشدني أحد وَطلب إِلَى فيلبس أَن يصعد وَيجْلس مَعَه وَأما فصل الْكتاب الَّذِي كَانَ يقرأه فَكَانَ هَذَا مثل شَاة سيق إِلَى الذّبْح وَمثل خروف صَامت أَمَام الَّذِي يجزه هَكَذَا لم يفتح فَاه فِي تواضعه إنتزاع قَضَاؤُهُ وجيله من يخبر بِهِ لِأَن حَيَاته تنتزع من الأَرْض فَأجَاب الخصى فيلبس وَقَالَ أطلب إِلَيْك عَن من يَقُول النَّبِي هَذَا عَن نَفسه أم عَن وَاحِد آخر فَفتح فيلبس فَاه وابتدأ من هَذَا الْكتاب فبشره بيسوع

وَفِيمَا هما سائران فِي الطَّرِيق أَقبلَا على مَاء فَقَالَ الخصى هُوَ ذَا مَاء مَاذَا يمْنَع أَن أعْتَمد فَقَالَ فيلبس إِن كنت تؤمن من كل قَلْبك يجوز فَأجَاب وَقَالَ أَنا أُؤْمِن أَن يسوع الْمَسِيح هُوَ ابْن الله فَأمر أَن تقف المركبة فَنزلَا كِلَاهُمَا إِلَى المَاء فيلبس والخصى فعمده وَلما صعدا من المَاء خطف روح الرب فيلبس فَلم يبصره الخصى أَيْضا وَذهب فِي طَرِيقه فَرحا وَأما فيلبس فَوجدَ فِي أشدود وأصبحت النَّصْرَانِيَّة دينا عالميا بعد قَرَار الْمُصَالحَة هَذَا الَّذِي تمّ فِي عهد القيصر قسطنطين دينا عالميا بجبروت الرومان وقوتهم لَا بالإقناع وَالْبَيَان وَقد قُلْنَا من قبل أَنهم تفادوا النبوءات وَلِأَن النبوءات تدل على شَرِيعَة جَدِيدَة غير شَرِيعَة مُوسَى سَتَكُون مَعَ النَّبِي المنتظر قَالُوا بشريعة للمسيح ليَكُون هُوَ الْمشَار إِلَيْهِ بالنبوءات فِي زعمهم ونقول أَيْضا أَنهم يعلمُونَ أَن النَّبِي المنتظر سَتَكُون دَعوته عالمية لجَمِيع أُمَم الأَرْض فَهَل تفادوا هَذِه الصّفة فِيهِ لقد جعلُوا النَّصْرَانِيَّة دينا عالميا بالمبادئ الَّتِي قرروها وَمَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان رُبمَا ليتفادوا هَذِه الصّفة فِيهِ وَلَو أَنَّهَا عالمية على الأَصْل الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ الْمَسِيح وَهُوَ الْعَمَل بِالتَّوْرَاةِ حَتَّى يَأْتِي النَّبِي المنتظر فَيدْخلُونَ فِي دينه مَا صَحَّ لإِنْسَان أَن يعْتَرض عَلَيْهَا بِأَدْنَى إعتراض لِأَنَّهَا بِهَذَا الْمَعْنى فارضة نَفسهَا على الْعَالم من قبل مَجِيء الْمَسِيح لَكِن قصدهم من العالمية هُوَ تفادي الصّفة من جِهَة وليكسبوا أنصارا يناوئون بهم أَتبَاع النَّبِي المنتظر إِذا ظهر فِي حِينه من جِهَة أُخْرَى وَكسب الْأَنْصَار عِنْدهم أهم من تفادي الصّفة فَإِنَّهُم لَا يعجزون إِذا لزم الْأَمر عَن تَحْرِيف الْكَلم عَن موَاضعه لقد فَهموا صفة االعالمية من النبوءات هَكَذَا 1 - بيّنت التَّوْرَاة أَن لإسماعيل عَلَيْهِ السَّلَام بركَة كَمَا لإسحاق

عَلَيْهِ السَّلَام بركَة وَالْيَهُود يعلمُونَ أَن بركَة إِسْحَاق تعنى ملكا ونبوة وَإِسْمَاعِيل مثله وَأَن النُّبُوَّة فِي إِسْحَاق لم تكن لنسله فَقَط لِأَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي اصطفاه الله على النَّاس عُمُوما بِرِسَالَاتِهِ وبكلامه كَانَت دَعوته لنسل إِسْحَاق وللمصريين وَغَيرهم 2 - لما حضر يَعْقُوب الْمَوْت قَالَ لِبَنِيهِ عَن النَّبِي المنتظر وَله يكون خضوع شعوب 3 - لما وصف مُوسَى النَّبِي المنتظر بأوصاف تِسْعَة فِي الإصحاح الثَّامِن عشر من سفر التَّثْنِيَة قَالَ عَنهُ فِي تَرْجَمَة الْيَهُود وَيكون أَن الْإِنْسَان الَّذِي لَا يسمع لكلامي الَّذِي يتَكَلَّم بِهِ بإسمي أَنا أطالبه وَمن هَذِه التَّرْجَمَة يفهم أَن الْإِنْسَان يكون من جنس الْيَهُود فَقَط لِأَن أول النبوءة أقيم لَهُم نَبيا وَمن تَرْجَمَة بطرس فِي الإصحاح الثَّالِث من سفر الْأَعْمَال وَيكون أَن كل نفس الخ يفهم أَن كل نفس من الْيَهُود أَو من غير الْيَهُود وَهَذَا هُوَ قصد بطرس 4 - لما قسم مُوسَى فِي الإصحاح الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ من سفر التَّثْنِيَة بركَة الله فِي نسل إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وتحدث عَن بركَة من فاران مَوضِع سُكْنى أَبنَاء إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ عقب الحَدِيث عَنْهَا أَنه أحب الشّعب فِي التَّرْجَمَة العبرانية وَفِي التَّرْجَمَة السامرية قَالَ محب الشعوب أَي أَن دَعْوَة النَّبِي الَّذِي سَيكون من أَبنَاء إِسْمَاعِيل سكان فاران سَتَكُون عالمية لجَمِيع الشعوب هَذَا من الْأَسْفَار الْخَمْسَة ونبوءاتها هِيَ الْعُمْدَة فِي الإستدلال لنذكر الْآن من الْأَدِلَّة الَّتِي اعْتمد عَلَيْهَا بطرس وبولس فِي عالمية الدعْوَة ملاحظتين أَنَّهُمَا نَادِيًا 1 - بعالمية الْملَّة النَّصْرَانِيَّة 2 - وبتشريعات مُخَالفَة لتشريعات التَّوْرَاة وعقائد مُخَالفَة أَيْضا وهما بِهَذَيْنِ الْأَمريْنِ مخالفان للمسيح ابْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي قَالَ بالعالمية على وفْق التَّوْرَاة وَفسّر نبوءات التَّوْرَاة للأتباع قبل أَن يَأْمُرهُم بالإنطلاق إِلَى الْأُمَم اعْتمد بطرس وبولس فِي النداء بعالمية الدعْوَة على أَن الله رب الْعَالمين وَلَيْسَ رَبًّا للْيَهُود وحدهم كَمَا زعم الْيَهُود من بعد سبى بابل

وَأَن النَّاس جَمِيعًا يهودا أَو غير يهود أَبنَاء لآدَم وآدَم من تُرَاب إِذن النَّاس جَمِيعًا إخْوَة من التُّرَاب فِي البدء خلقُوا وَإِلَى التُّرَاب فِي النِّهَايَة رَاجِعُون إِذن على أَي أساس يُمَيّز الله جِنْسا على جنس وهم متساوون فِي المبدء وَالنِّهَايَة وَإِذا كَانَ مبدأ التَّمْيِيز غير مَوْجُود لعدم مَا يَقْتَضِيهِ فلماذا يصر الْيَهُود على قصر الشَّرِيعَة عَلَيْهِم وَترك الْأُمَم فِي طغيانهم يعمهون إِن الله تَعَالَى لم يفضل الْيَهُود على سَائِر الْأَجْنَاس إِلَّا لِأَنَّهُ ائتمنهم على شَرِيعَة مُوسَى الَّتِي كَانَت للنَّاس هدى ونورا فِي ذَاك الزَّمَان فَلَمَّا خانوا الْأَمَانَة بالتحريف أَولا ثمَّ بقصرها عَلَيْهِم ثَانِيًا نبذهم وأهملهم وماذا يكون الْحَال الْآن لَو جارينا الْيَهُود فِي كفرهم وعنادهم لَيْسَ إِلَّا قلَّة الأصدقاء وَقت ظُهُور النَّبِي المنتظر فيدوسنا برجليه إِذن لَا بُد من أَن نحث الْيَهُود على عالمية الدعْوَة قَالَ بطرس فِي بَيت كرنيليوس بِالْحَقِّ أَنا أجد أَن الله لَا يقبل الْوُجُوه بل فِي كل أمة الَّذِي يتقيه ويصنع الْبر مَقْبُول عِنْده وَلما خاصمه الْيَهُود فِي دَعْوَة الْأُمَم قَالَ لَهُم إِن كَانَ الله قد أَعْطَاهُم الموهبة كَمَا لنا أَيْضا بِالسَّوِيَّةِ مُؤمنين بالرب يسوع الْمَسِيح فَمن أَنا أقادر أَن أمنع الله وَبعد وعظ من بولس للأمم طلبُوا مِنْهُ ثَانِيَة أَن يَعِظهُمْ فانتهره الْيَهُود أَن لَا يَعِظهُمْ فَقَالَ لَهُم كَانَ يجب أَن تكلمُوا أَنْتُم أَولا بِكَلِمَة الله وَلَكِن إِذْ دفعتموها عَنْكُم وحكمتم أَنكُمْ غير مستحقين للحياة الأبدية هُوَ ذَا نتوجه إِلَى الْأُمَم وَفِي مَوضِع آخر يَقُول كَاتب سفر الْأَعْمَال أَن الْيَهُود إِذا كَانُوا يقاومون دَعوته ويجدفون عَلَيْهِ نفض ثِيَابه وَقَالَ لَهُم دمكم على رؤوسكم أَنا برِئ من الْآن أذهب إِلَى الْأُمَم وَكَانَ اسْتِدْلَال بطرس بنبوءات التَّوْرَاة ونبوءة يوحنا المعمدان اللَّاتِي فَسرهَا قسرا على الْمَسِيح ابْن مَرْيَم عيله السَّلَام فمثلا إِذا تحدثت نبوءة عَن أَن النُّور الَّذِي سينزل على النَّبِي المنتظر سيعم المسكونة كلهَا أَي دَعوته عالمية يَقُول بطرس أَن ذَلِك النُّور هُوَ نور الْإِنْجِيل

والعالمية للإنجيل على زَعمه وَلَيْسَت لِلْقُرْآنِ الْكَرِيم كَمَا تدل النبوءات بِالْحَقِّ أما اسْتِدْلَال بولس فَهُوَ بالنبوءات كَمَا فعل بطرس فِي تَفْسِيرهَا وَهُوَ أَيْضا بآيَات فِي أسفار التَّوْرَاة وأسفار الْأَنْبِيَاء فَعَن بطرس يحْكى الْكَاتِب فِي الإصحاح الثَّانِي من سفر الْأَعْمَال أَن كثيرا من النَّاس فِي أورشليم فِي عيد العنصرة الَّذِي بعد عيد الْحَصاد بِخَمْسِينَ يَوْمًا من جَمِيع الْأُمَم من مصر وليبيا وروما وبلاد الْعَرَب وَغَيرهم لما حلت عَلَيْهِم الرّوح كَمَا زَعَمُوا تكلم كل إِنْسَان بلغَة غير لغته فتحير الْجَمِيع وارتابوا قائلين بَعضهم لبَعض مَا عَسى أَن يكون هَذَا وَكَانَ آخَرُونَ يستهزئون قائلين أَنهم قد امتلأوا سلافة وعندئذ وقف بطرس خَطِيبًا وَقَالَ هَذَا الْحَال قد أشارت إِلَيْهِ التَّوْرَاة فِي سفر النَّبِي يوئيل وَهُوَ حَال منطبق على أَتبَاع الْمَسِيح الْآن فآمنوا بدعوته مَعَ أَن عِبَارَات يوئيل لَا تُؤدِّي إِلَى غَرَضه وقف بطرس مَعَ الْأَحَد عشر وَرفع صَوته وَقَالَ لَهُم أَيهَا الرِّجَال الْيَهُود والساكنون فِي أورشليم أَجْمَعُونَ ليكن هَذَا مَعْلُوما عنْدكُمْ وأصغوا إِلَى كَلَامي لِأَن هَؤُلَاءِ لَيْسُوا سكارى كَمَا أَنْتُم تظنون لِأَنَّهَا السَّاعَة الثَّالِثَة من النَّهَار بل هَذَا مَا قيل بيوئيل النَّبِي يَقُول الله وَيكون فِي الْأَيَّام الْأَخِيرَة أَنى أسكب من روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم وَيرى شبابكم رؤى ويحلم شيوخكم أحلاما وعَلى عَبِيدِي أَيْضا وإمائي أسكب من روحي فِي تِلْكَ الْأَيَّام فيتنبأون وَأعْطى عجائب فِي السَّمَاء من فَوق وآيات على الأَرْض من أَسْفَل دَمًا وَنَارًا وبخار دُخان تتحول الشَّمْس إِلَى ظلمَة وَالْقَمَر إِلَى دم قبل أَن يَجِيء يَوْم الرب الْعَظِيم الشهير وَيكون كل من يَدْعُو بإسم الرب يخلص إِن هَذَا كُله يَا بطرس قبل مَجِيء يَوْم الرب وَلم يحدث بإعترافك من هَذَا شَيْء قبل ظُهُور الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام فَإِن قلت قبل مَجِيئه قرب الْقِيَامَة من الْأَمْوَات يجب عَلَيْك أَن تثبت دَلِيل الْمَجِيء فِي ذَاك الْوَقْت قبل مَا تَقول شَيْئا وَعَن بطرس أَيْضا يَقُول الْكَاتِب أَن يوحنا المعمدان لما تنبأ عَن

نَبِي من بعده أقوى مِنْهُ وبالتأكيد لَا يُشِير إِلَى عِيسَى كَمَا بَينا قَالَ بطرس أَنه يُشِير إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَقُول بطرس الْكَلِمَة الَّتِي أرسلها إِلَى بني إِسْرَائِيل يبشر بِالسَّلَامِ بيسوع الْمَسِيح هَذَا هُوَ رب الْكل أَنْتُم تَعْمَلُونَ الْأَمر الَّذِي صَار فِي كل الْيَهُودِيَّة مبتدئا من الْجَلِيل بعد المعمودية الَّتِي كرز بهَا يوحنا الخ هَذَا عَن بطرس أما عَن بولس فقد وضح فِي خطبَته فِي مَدِينَة أنطاكية بيسيدية مَا وضحه بطرس قَامَ بولس وَأَشَارَ بِيَدِهِ وَقَالَ أَيهَا الرِّجَال الإسرائيليون وَالَّذين يَتَّقُونَ الله اسمعوا إِلَه شعب إِسْرَائِيل هَذَا اخْتَار آبَاءَنَا وَرفع الشّعب فِي الغربة فِي أَرض مصر وبذراع مُرْتَفعَة أخرجهم مِنْهَا وَنَحْو مُدَّة أَرْبَعِينَ سنة احْتمل عوائدهم فِي الْبَريَّة ثمَّ أهلك سبع أُمَم فِي أَرض كنعان وَقسم لَهُم أَرضهم بِالْقُرْعَةِ وَبعد ذَلِك فِي نَحْو أربعمئة خمسين سنة أَعْطَاهُم قُضَاة حَتَّى صموئيل النَّبِي وَمن ثمَّ طلبُوا ملكا فَأَعْطَاهُمْ الله شاول بن قيس رجلا من سبط بنيامين أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ عَزله وَأقَام لَهُم دَاوُود ملكا الَّذِي شهد لَهُ أَيْضا إِذْ قَالَ وجدت دَاوُود بن يسى رجلا حسب قلبِي الَّذِي سيصنع كل مشيئتي من نسل هَذَا حسب الْوَعْد أَقَامَ الله لإسرائيل مخلصا يسوع إِذا سبق يوحنا فكرز قبل مَجِيئه بمعمودية التَّوْبَة لجَمِيع شعب إِسْرَائِيل وَلما صَار يوحنا يكمل سَعْيه جعل يَقُول من تظنون أَنِّي أَنا لست أَنا إِيَّاه لَكِن هُوَ ذَا يَأْتِي بعدِي الَّذِي لست مُسْتَحقّا أَن أحل حذاء قَدَمَيْهِ الخ وَلَقَد وَجه بولس خطابه هَذَا لَيْسَ إِلَى الْيَهُود الْمعبر عَنْهُم بِالرِّجَالِ الإسرائيليين بل وَجه خطابه أَيْضا إِلَى الْأُمَم الْمعبر عَنْهُم فِي الْخطاب بالذين يَتَّقُونَ الله ثمَّ اسْتدلَّ على أَن آخر الْأَنْبِيَاء من نسل دَاوُود بنبوءة فِي التَّوْرَاة هِيَ وجدت دَاوُود الخ وَأَن الْمَسِيح ابْن مَرْيَم جَاءَ من نسل دَاوُود تتميما للنبواءت وَأَنه هُوَ الَّذِي كَانَ يبشر بمجيئه يوحنا المعمدان وَلَقَد أَخطَأ بولس خطأ بَينا فِي قَوْله أَن آخر الْأَنْبِيَاء

من دَاوُود فَإِن يحيى وَعِيسَى وهما خَاتمًا النَّبِيين فِي بني إِسْرَائِيل لم يَكُونَا من نسل دَاوُود بل كَانَا من نسل هَارُون النَّبِي أخي مُوسَى عَلَيْهِم السَّلَام وَهَذَا وَاضح من الإصحاح الأول فِي إنجيل لوقا فَإِن زَكَرِيَّا وَامْرَأَته اليصابات أم يحيى من نسل هَارُون وَيَقُول لوقا أَن مَرْيَم قريبَة لاليصابات أَي من السبط الَّذِي هُوَ مِنْهُ لِأَن شَرِيعَة بني إِسْرَائِيل تنص على تميز الأسباط بزواج كل إمرأة بِوَاحِد من عشيرة سبط أَبِيهَا وَإِذا ثَبت أَن مَرْيَم قريبَة لإليصابات يثبت أَن مَرْيَم من هَارُون كَمَا أَن اليصابات من هَارُون أما عَن إستدلال بولس بآيَات من التَّوْرَاة على عالمية الدعْوَة فَهَذَا لَيْسَ فِي سفر الْأَعْمَال بل فِي الإصحاح التَّاسِع من رسَالَته إِلَى أهل رُومِية والإصحاح الْعَاشِر لقد صرح بقوله لَا فرق بَين الْيَهُودِيّ واليوناني لِأَن رَبًّا وَاحِدًا للْجَمِيع غَنِيا لجَمِيع الَّذين يدعونَ بِهِ وَأقَام الْأَدِلَّة هَكَذَا قَالَ بولس فَمَاذَا نقُول ألعل عِنْد الله ظلما حاشا لِأَنَّهُ يَقُول لمُوسَى إِنِّي أرْحم من أرْحم وأتراءف على من أتراءف فَإِذن لَيْسَ لمن يَشَاء وَلَا لمن يسْعَى بل لله الَّذِي يرحم لِأَنَّهُ يَقُول الْكتاب لفرعون أَنِّي لهَذَا بِعَيْنِه أقمتك لكَي أظهر فِيك قوتي ولكي يُنَادي بإسمي فِي كل الأَرْض فَإِذن هُوَ يرحم من يَشَاء ويقسى من يَشَاء فستقول لي لماذا يلوم بعد لِأَن من يُقَاوم مَشِيئَته بل من أَنْت أَيهَا الْإِنْسَان الَّذِي تجاوب الله ألعل الجبلة تَقول لجابلها لماذا صنعتني هَكَذَا أم لَيْسَ للخزاف سُلْطَان على الطين أَن يصنع من كتلة وَاحِدَة إِنَاء للكرامة وَآخر للهوان فَمَاذَا إِن كَانَ الله وَهُوَ يُرِيد ان يظْهر غَضَبه وَيبين قوته احْتمل بأناة كَثِيرَة آنِية غضب مهيأة للهلاك ولكي يبين غنى مجده على آنِية رَحْمَة قد سبق فأعدها للمجد الَّتِي أَيْضا دَعَانَا نَحن إِيَّاهَا لَيْسَ من الْيَهُود فَقَط بل من الْأُمَم أَيْضا كَمَا يَقُول فِي هوشع أَيْضا سأدعو الَّذِي لَيْسَ شعبي شعبي وَالَّتِي لَيست محبوبة محبوبة وَيكون فِي الْموضع الَّذِي قيل لَهُم فِيهِ لَسْتُم شعبي أَنه هُنَاكَ يدعونَ أَبنَاء الله الْحَيّ وأشعياء يصْرخ من جِهَة إِسْرَائِيل وَإِن كَانَ عدد بني إِسْرَائِيل كرمل الْبَحْر فالبقية ستخلص لِأَنَّهُ متمم

أَمر وقاض بِالْبرِّ لِأَن الرب يصنع أمرا مقضيا بِهِ على الأَرْض وكما سبق أشعياء فَقَالَ لَوْلَا أَن رب الْجنُود أبقى لنا نَسْلًا لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة فَمَاذَا نقُول إِن الْأُمَم الَّذين لم يسعوا فِي أثر الْبر أدركوا الْبر الْبر الَّذِي بِالْإِيمَان وَلَكِن إِسْرَائِيل وَهُوَ يسْعَى فِي أثر ناموس الْبر لم يدْرك ناموس الْبر لماذا لِأَنَّهُ فعل ذَلِك لَيْسَ بِالْإِيمَان بل كَأَنَّهُ بأعمال الناموس الخ اسْتدلَّ بولس من توراة مُوسَى الَّتِي بيد الْيَهُود وَالنَّصَارَى الْآن على أَن الدّيانَة الموسوية كَانَت ديانَة عالمية لجَمِيع الْأُمَم بدليلين الأول قَول الله لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أتراءف على من أتراءف وأرحم من أرْحم فَإِن من للْعُمُوم وَهَذَا النَّص فِي الإصحاح الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ من سفر الْخُرُوج الْآيَة التَّاسِعَة عشر وَالثَّانِي قَول الله لفرعون على لِسَان مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لأجل هَذَا أقمتك لكَي أريك قوتي ولكي يخبر بإسمي فِي كل الأَرْض يدل على شيوع هَذَا الْخَبَر فِي الْعَالم ليخشوا إِلَه الْعَالم كُله وَهُوَ الله عز وَجل فيعلموا بِشَرِيعَتِهِ وَهَذَا النَّص فِي الإصحاح التَّاسِع من سفر الْخُرُوج الْآيَة السَّادِسَة عشر وإستدل بولس أَيْضا بأسفار الْأَنْبِيَاء بآيَات فِي سفر هوشع وبآيات فِي سفر أشعياء والآيات الَّتِي اسْتدلَّ بهَا من هوشع اسْتدلَّ بهَا بِالْمَعْنَى لَا بِنَصّ الْأَلْفَاظ وَهِي ادْع اسْمه لوعمى لأنكم لَسْتُم شعبي وَأَنا لَا أكون لكم لكَي يكون عدد بني إِسْرَائِيل كرمل الْبَحْر الَّذِي لَا يُكَال وَلَا يعد وَيكون عوضا عَن أَن يُقَال لَهُم لَسْتُم شعبي يُقَال لَهُم أَبنَاء الله الْحَيّ وآيات سفر أشعياء على العالمية هِيَ لِأَنَّهُ وَإِن كَانَ شعبك يَا إِسْرَائِيل كرمل الْبَحْر ترجع بَقِيَّة مِنْهُ قد قضى بِفنَاء فائض بِالْعَدْلِ لِأَن السَّيِّد رب الْجنُود يصنع فنَاء وقصاء فِي كل الأَرْض وَهِي لَوْلَا أَن رب الْجنُود أبقى لنا بَقِيَّة صَغِيرَة لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة يقْصد بالبقية الصَّغِيرَة نسل من غير بني إِسْرَائِيل على فهم بولس وَلَيْسَ هَذَا مُرَاد أشعياء وواضح من الْأَدِلَّة الَّتِي ذكرهَا بولس قُوَّة الإستدلال بآيَات من أسفار مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَا بأسفار الْأَنْبِيَاء

وَالسُّؤَال الْأَخير فِي بحثنا هَذَا لماذا يعد عُلَمَاء مُقَارنَة الْأَدْيَان بولس المؤسس الْحَقِيقِيّ للنصرانية لَا عِيسَى ابْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ أَن بولس لم يزدْ على مَا أثْبته بطرس وَيَعْقُوب هَل لِكَثْرَة جهاده أَكثر من رفقائه هَل لِكَثْرَة رسائله الَّتِي بلغت أَرْبَعَة عشرَة رِسَالَة ولبطرس رسالتان وليعقوب وَاحِدَة هَل لِأَنَّهُ اخْتصَّ بدعوة الْأُمَم وَغَيره دَعَا بني إِسْرَائِيل لَا الْأُمَم هَل لِأَنَّهُ فلسف المبادئ بأسلوب يقنع الْعَوام والسذج والبسطاء من النَّاس هَل لِأَنَّهُ اجتذب أنصارا أَكثر من غَيره لقَوْله الدعْوَة الَّتِي دعى فِيهَا كل وَاحِد فليلبث فِيهَا كَمَا فِي الإصحاح السَّابِع من رسَالَته الأولى إِلَى أهل كورنثوس لَيْسَ لِكَثْرَة الْجِهَاد وَكَثْرَة الرسائل وَلَا لإختصاصه بالأمم فَإِنَّهُم فعلوا كَمَا فعل كَمَا بَينا من قبل وَإِنَّمَا لِأَنَّهُ فلسف المبادئ واجتذب أنصارا أَكثر من غَيره وَلَا أَشك فِي أَنه مَاتَ على يَهُودِيَّته الَّتِي حرف من أجلهَا دَعْوَة الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام وَلَعَلَّ مَا أذكرهُ الْآن يصلح دَلِيلا على الحكم عَلَيْهِ فِي الْيَوْم الثَّالِث عشر من يناير سنة ألف وَأَرْبَعمِائَة وتسع وَثَمَانِينَ من الميلاد كتب شخص يَهُودِيّ إسمه شامور حاخام حَكِيم يهود مَدِينَة ارل بفرنسا إِلَى الْمجمع الْيَهُودِيّ العالمي فِي إسطنبول يستشيره حول بعض الْحَالَات الحرجة قَائِلا إِن الفرنسيين فِي مدن اكس وارل ومرسيليا يتهددون معابدنا فَمَاذَا نعمل فَرد الْمجمع الْيَهُودِيّ العالمي بِمَا نَصه أَيهَا الْأُخوة الأعزاء بمُوسَى تلقينا كتابكُمْ الَّذِي تطلعوننا فِيهِ على مَا تقاسونه من الهموم والبلايا فَكَانَ وَقع الْخَبَر علينا شَدِيد الْوَطْأَة إِلَيْكُم رأى الحاخاميين والربانيين

تَقولُونَ إِن ملك فرنسا يجبركم على إعتناق الدّيانَة المسيحية فاعتنقوها لِأَنَّهُ لَيْسَ بوسعكم أَن تقاوموا لَكِن يجب عَلَيْكُم أَن تبقوا شَرِيعَة مُوسَى راسخة فِي قُلُوبكُمْ وتقولون إِنَّهُم يأمرونكم بالتجرد من ممتلكاتكم فاجعلوا أَوْلَادكُم تجارًا ليتمكنوا رويدا رويدا من تَجْرِيد المسيحيين من أملاكهم وتقولون إِنَّهُم يعتدون على حَيَاتكُم فاجعلوا أَوْلَادكُم أطباء وصيادلة ليعدموا المسيحيين حياتهم وتقولون إِنَّهُم يهدمون معابدكم فاجعلوا أَوْلَادكُم كهنة واكليريكيين ليهدموا كنائسهم وتقولون أَنهم يسومونكم تعديات أُخْرَى كثير فاجعلوا أَوْلَادكُم وكلاء دعاوى وَكتاب عدل ليتدخلوا دَوْمًا فِي القضايا الحكومية ويخضعوا المسيحيين لنيركم فتستولون على زِمَام السلطة الْعَالِيَة وَبِذَلِك يتسنى لكم الإنتقام سِيرُوا بِمُوجب أمرنَا هَذَا فتتعلموا بالإختبار أَنكُمْ من مذلتكم وضعتكم تتوصلون إِلَى ذرْوَة الْقُوَّة وَالْعَظَمَة وضح لنا أَن مبادئ النَّصْرَانِيَّة مبدأين إثنين ثمَّ وضحت لنا عالمية دعوتهم وكل مَا كتبناه إلزاما لَهُم أَثْبَتْنَاهُ من كتب النَّصَارَى أنفسهم وَقد حاولت تبسيط الأساليب عَن الْمعَانِي ليفهم المتعلم كَمَا يفهم الْعَالم وَإِنِّي على يَقِين من أَن الآتين من بعدِي سيكونون أقوى مني على الْإِيضَاح وَالْبَيَان فقد وضعت لَهُم مَا يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ وَالله ولي التَّوْفِيق د أَحْمد حجازي السقا نها لمن

§1/1