الإعلام بقواطع الإسلام

ابن حجر الهيتمي

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف نحمدك أن أطلعت لعلم الفتوى في سماء التحقيق شموساً وبدوراً, وجعلت علماء علم الشريعة الغراء أرفع الناس في الدارين مكانة وحبوراً

وسروراً, واخترتهم لحفظ فرائض الإسلام وسننه, وأقمتهم نجوماً يُهتدى بها في ظلمات الجهالات إلى منهجك القويم وسننه. ونشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك شهادة يلوح عليها أمائر الإخلاص, وينجو مدخرها من أهوال قبائح المفترين عليك حين لا مناص, ونشهد أن سيدنا محمداً عبدك ونبيك أفضل من أوذي فيك فصبر, وأجلّ من ابتليته فرضي وشكر, وأرسلته لخير أمة أخرجت للناس، فهديت به كل حائر، وأرديت به كل جائر، ومحوت به ظلم البدع والكفر لا سيما من بلدك الحرام, وقصمت ببراهين دينه الطغاة من الطغام, وأمرته بأن يورثها من بعده من الأئمة الأعلام حتى يردّوا بها على من عاندهم في واقعة من وقائع الأحكام, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين نصروا الحق وأشادوا فخره, ودمغوا الباطل وأهله الكثيرين وأماتوا ذكره, صلاة وسلاماً دائمين ما قام بنصرة دينه القويم بعض وارثيه, وبذل نفسه في الله تعالى رجاء لما أعده لعارفيه. أما بعد: فهذا تأليف جامع، ومجموع إن شاء الله نافع, دعاني إليه وقوع غلط فاحش في مسألة أفتيت بها فأحببت بيانها مع ما يتعلق بها؛ لأن الحاجة ماسة إلى جميع ذلك. سيما وقد توعرت هذه المسالك حتى صار الغلط في الواضحات فضلاً عن المشكلات أقرب إلى المنسوبين إلى العلم من حبل الوريد, ولسان حالهم يعلن أنه ليس لهم عنها من محيد, لما جبلوا عليه من مخالفة سنن الماضين, والخلود إلى أرض الشهوات والطمع فيما بأيدي

القضية الحاملة على هذا التأليف

الظلمة والمتمردين, نسأل الله تعالى أن يعافينا من ذلك، وأن ينجينا من ظلم هذه المهالك, وأن يوفقنا إلى ما كان عليه أئمتنا من صالح العمل، وأن يجنبنا الزلل، إنه أكرم مسؤول وأرجى مأمول. هذا, وقد لوّحت لك بالقضية الحاملة على هذا التأليف, وبيانها: أني لما كنت بمكة في مجاورتي الثالثة سنة اثنتين وأربعين وتسعمائة، رفعت إليّ فتوى صورتها: ما قولكم رضي الله عنكم في من تزوج غير بالغة ثم أشهد عليها أنه أقبضها حالّ صداقها، فهل يصح هذا الإشهاد؟ وهل للوصي مطالبته بالمهر، والدعوى به عليه؟ وهل له ولو حاكما أن يقول له: يا كلب يا عديم الدين أم لا؟ فماذا يلزمه في ذلك؟ فأجبت بما صورته: إن بلغت مصلحة لدينها ومالها صح قبضها والإشهاد عليها، ولم يكن للوصي مطالبته ولا الدعوى عليه, وقوله له ما ذكر محرم التحريم الشديد, بل ربما يكون قوله: يا عديم الدين كفراً، فيعزر التعزير الشديد اللائق به والزاجر له ولأمثاله، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وكتبه فلان. ثم دفعتها إلى صاحبها، فوقعت في أيدي جماعة أصدقاء للصادر منه ذلك، فقصدوا التقرب إليه بالكذب على الله (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) الشعراء/227, فاعترضوا ما كتبته وشنعوا به عند العوام وموّهوا عليهم حتى

الحكم الذي أبديناه في "يا عديم الدين"

قال بعض مجازفيهم لعوامه: هذا الإفتاء كفر, وعلله بأنه يقتضي أنّ قائل هذا اللفظ يكفر مطلقاً وليس كذلك، ومن كفّر مسلماً فقد كفر, ثم اعترضوه بأمور أخرى، منها: كيف يُفرع التعزير على الحكم بأنه كفر، ومنها: كيف يكتب المفتي التعزير الشديد، والتعزير راجع إلى رأي الإمام في الشدة والضعف. ومنها أن من صدر منه ذلك مثله لا يفتى عليه, ومنها أن الجواب غير مطابق للسؤال، هذا ما نُقل إلي، وسمعته من اعتراضاتهم، وهي لدلالتها على غباوة قائلها غنية عن التعرض لها بردّ أو إبطال, لكن أحببت في هذا التأليف تحرير الألفاظ المكفرة التي ذكرها أصحابنا وغيرهم، فإن هذا باب منتشر جداً، وقد اضطربت فيه أفكار الأئمة وعباراتهم، وزلت فيه أقدام كثيرين, ولخطر أمره وحكمه كان حقيقاً بالإفراد بالتأليف, ولم أر أحداً عرج على ذلك، فقصدت تسهيل جمعه وبيان ما وقع للناس فيه بحسب ما اطلعت عليه، وضممت إلى ذلك فوائد عثر عليها فكري الفاتر، واستنتجها نظري القاصر. أسأل الله أن يجعلني ممن هداه، وهدى به، وأن يصيّرني ممن وصل الخير لهذه الأمة بسببه، إنه جواد كريم رؤوف رحيم، غافر الزلات وراحم العثرات, فعليه التكلان ومنه التأييد والامتنان، وإليه المفزع في المهمات، ومن فيض فضله يغترف أسباب السداد والعصمة في الملمات. ولنتكلم أولاً على الحكم الذي أبديناه في "يا عديم الدين" مقدمين عليه الكلام على من قال لمسلم: "يا كافر" فإنه الأصل الذي أخذت منه ما أشرت إليه في الجواب من التفصيل, ثم نعقبه برد ما ذكروه من الشُبه، ثم بتحرير بقية الألفاظ التي تقع بين الناس مما اتفق على أنها كفر أو اختلف فيه, فنقول: عبارة

الرافعي في العزيز نقلاً عن التتمة: أنه إذا قال لمسلم: "يا كافر" بلا تأويل كفر؛ لأنه سمى الإسلام كفراً، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا)، والذي رماه به مسلم فيكون هو كافراً. انتهى. وتبعه النووي في الروضة وعبارته: قال المتولي: ولو قال لمسلم: يا كافر بلا تأويل كفر؛ لأنه سمى الإسلام كفراً. انتهى.

واعتمد ذلك المتأخرون: كابن الرفعة والقمولي، والتتائي والإسنوي

والأذرعي وأبي زرعة وصاحب الأنوار وشارح الأنوار, بل كثير منهم كالتتائي والقمولي وصاحب الأنوار وغيرهم جزموا به من غير عزو, ولم ينفرد المتولي بذلك، بل سبقه إلى ذلك ووافقه عليه جمع من أكابر الأصحاب، منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني

والحليمي والشيخ نصر المقدسي، وكذا الغزالي وابن دقيق العيد، بل

قضية كلام هؤلاء: أنه لا فرق بين أن يؤول أو لا، كما سيتضح لك من كلامهم الذي أذكره عنهم. فإن قلت: قد خالف ذلك النووي نفسه في الأذكار، فقال: يحرم تحريماً غليظاً. قلت: لا مخالفة، فإن إطلاق التحريم في لفظ لا يقتضي أنه لا يكون كفراً في بعض حالاته، فعبارة الأذكار لا تنافي عبارة الروضة وغيرها, على أن الكفر يحرم تحريماً غليظاً فتكون عبارة الأذكار شاملة للكفر أيضاً، ونكتة التعبير بالتحريم الغليظ قصد الشمول للحالة التي يكون فيها كفراً وغيرها. وإذا تأملت هذا التقرير ظهر لك حسن ما فعلته في الجواب المذكور من قولي: فيعزر إلى آخره ... ، حيث فرّعت على التحريم ولم أفرّع على الكفر, لأن التحريم هو الأمر المحقق, وأما الكفر فقد يوجد عند عدم التأويل، وقد لا يوجد، ولم نعلم أن قائل ذلك لم يؤول, فتعيّن التفريع على الأمر المحقق، وطرح الأمر المشكوك فيه, وبهذا اندفع الاعتراض السابق، وهو: كيف يفرع التعزير على الحكم بالكفر؟ وسيأتي لذلك مزيد. فإن قلت: يؤيد ما في الأذكار قول ابن المنذر في الإشراف في باب

القذف: وأجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لرجل من المسلمين: يا يهودي، يا نصراني، عليه التعزير ولا حد عليه. ثم قال: ويشبه ذلك مذهب الإمام الشافعي. قلت: قد علمت مما تقرر في عبارة الأذكار أن عبارته كهذه العبارة مطلقة، وعبارة الشيخين وغيرهما السابقة عن المتولي مفصلة، والمطلق لا ينافي المفصل. ثم رأيت الأذرعي ذكر ما هو صريح في ذلك حيث قال عقب كلام ابن المنذر: وقياس ما تقدم أي: عن المتولي أنه إذا قاله بلا تأويل أنه يكفر، لأنه جعل الإسلام يهودية أو نصرانية، فتأمله. انتهى, فجعله مطلقا وجعل كلام الشيخين عن المتولي مفصلا، وحمل هذا الإطلاق على هذا التفصيل أخذاً بالقاعدة الأصولية الشهيرة. فإن قلت: عبارة النووي في شرح مسلم قد تنافي ما تقرر

وحاصلها: أن هذا الحديث مما عده العلماء من المشكلات من حيث إن ظاهره غير مراد, فإن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر المسلم بالمعاصي كالقتل والزنا وكذا قوله لأخيه: يا كافر. من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام، ثم حكى في تأويل الحديث وجوهاً: أحدها: أنه محمول على المستحل "ومعنى باء بها أحدهما": بكلمة الكفر، وكذا "حار عليه" في رواية أي: رجعت عليه كلمة الكفر، فباء وحار ورجع بمعنىً. الثاني: رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره. الثالث: أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين, وهذا نقله القاضي عياض عن مالك

وهو ضعيف؛ لأن المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع. الرابع: معناه أنه يؤول إلى الكفر فإن المعاصي -كما قالوا- بريد الكفر, ويخاف على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر, ويؤيده رواية أبي عوانة في مستخرجه على مسلم: (فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَه وَإِلَّا فَقَدْ بَاءَ بِالْكُفْرِ) وفي رواية: (إِذَا قَالَ لأخيه: يَا كَافِرُ فَقَدْ وَجَبَ الْكُفْرُ عَلَى أَحَدِهِمَا). الخامس: معناه فقد رجع عليه تكفيره، فليس الراجع حقيقة الكفر، بل التكفير لكونه جعل أخاه المؤمن كافراً فكأنه كفر نفسه, إما لأنه كفر من هو مثله، وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام انتهى. ومنازعة السبكي في بعض فتاويه, مبنية على رأي انتحله مذهبا واعترف

بأنه خارج عن قواعد الشافعي وهو أن من كفر أحداً من العشرة المشهود لهم بالجنة كفر، وإن كان مؤولا, وقد بسطت الكلام على ذلك في كتابي [الصواعق المحرقة] في الرد على الروافض وغيرهم. قلت: لا تنافي عبارته المذكورة ما مرّ؛ لأن قوله من غير اعتقاده بطلان دين الإسلام هو من التأويل الذي مرّ عن المتولي أنه إذا سلكه لا يكفر. نعم في الوجه الأول تقييد لما قاله المتولي بالمستحل، كذا قيل. وأقول: إن أريد أنه تقييد للمفهوم فظاهر أو للمنطوق فليس كذلك, وبيانه: إذا قيل: يا كافر، مؤولا بكفر النعمة أو نحوه كان مع ذلك حراماً إجماعاً أخذاً مما مرّ عن ابن المنذر, فإن اعتقد حله حينئذ انبنى القول بكفره على الخلاف الآتي في مستحل الحرام المجمع عليه. فإن قلنا باشتراط أن يكون معلوما من الدين بالضرورة احتمل أن نقول بالكفر هنا، وندعي أن حرمة ذلك معلومة من الدين بالضرورة؛ لأن أحداً لا يجهل تحريم إيذاء المسلم، سيما بهذا اللفظ القبيح, وإن قلنا بعدم اشتراط ذلك فالكفر بهذا اللفظ واضح. وإن ذكر هذا اللفظ من غير تأويل، فإن قصد مع ذلك أن دينه الذي هو متلبس به وهو الإسلام كفر، فلا نزاع بين أحد في أنه يكفر بذلك، وإن أطلق فلم يؤول

ولا قصد ذلك اتجه ما أفاده كلام شرح مسلم من أنه إن استحل ذلك كفر وإلا فلا. وإذا تأملت هذا التقرير علمت أن كلام شرح مسلم لا ينافي كلام الشيخين عن المتولي إلا من حيث أن قضية كلامهما التكفير مطلقا في حال الإطلاق, وهو وإن كان له وجه لكن التفصيل بين الاستحلال وغيره أوجه, هذا ما يتعلق بالوجه الأول من الوجوه التي ذكرها في شرح مسلم، وأما الوجه الثاني: فهو لا ينافي ما مر عن المتولي؛ لأن رجوع نقيصته إليه صادقة بالكفر في بعض الحالات. وأما الثالث: فاعترضه الزركشي بأن ما حكاه عن الأكثرين من عدم تكفير الخوارج ممنوع. قال: بل هو الحق لما سنذكره في كتاب "الشهادات" وينبغي حمل كلامه على ما إذا لم يصدر منهم سبب مكفر كما إذا لم يحصل إلا مجرد الخروج والقتال ونحوه، أما مع تكفير منهم لمن تحقق إيمانه من الصحابة المشهود لهم بالجنة فلا. انتهى. وأقول: الخوارج لم يكفروا غيرهم إلا بتأويل, ولم يسموا الإسلام كفراً وحينئذٍ فالمعتمد ما في شرح مسلم وغيره من عدم تكفيرهم, نعم إن أنكروا صحبة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، أو كفروا الصحابة أو ضللوا الأمة

فسيأتي مع ما شاكله. وأما الرابع والخامس فلا ينافيان ما مر أيضا نظير ما سبق من أنهما محمولان على من أوّل, ووقع في الحديث روايات لا بأس بالإشارة إليها فروى مسلم: (إِذَا كَفَّرَ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا). وفي رواية له: (أَيُّمَا رجل قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ). وفي رواية له أيضا: (لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلَّا كَفَرَ. وَمَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ: عَدُوُّ اللهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ). ومرّ في رواية أبي عوانة: (فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلَّا فَقَدْ بَاءَ بِالْكُفْرِ). وفي رواية: إِذَا قَالَ لأخيه: يَا كَافِرُ فَقَدْ وَجَبَ الْكُفْرُ عَلَى أَحَدِهِمَا). ومعنى كفّر الرجل أخاه: نسبته إياه إلى الكفر بصيغة الخبر نحو أنت كافر, أو بصيغة النداء نحو: يا كافر, أو اعتقد فيه ذلك كاعتقاد الخوارج تكفير المؤمنين بالذنوب, وليس من ذلك تكفير جماعة من أهل السنة أهل الأهواء، لما قام عندهم من الدليل على ذلك, ومعنى: (باء بها أحدهما) أي: رجع بكلمة الكفر كما مر, والجزم بأنه لا بدّ أن يبوء بها أحدهما، بيّنه قوله في الرواية الأخرى: (إن كان كما قال وإلا رجعت

عليه). ومن ثم كانت هذه الرواية في قوة قضية منفصلة أقيم البرهان على صدقها بخلاف الأولى، إذ معناها كل مكفر أخاه: فدائماً إما أن يكفر القائل أو المقول له، وبرهن على صدق ذلك في الرواية الثانية، بأنه إن كان كما قال وإلا كفر القائل أي: بالمعنى السابق بيانه. وقوله: (أو قال: عدو الله) نص كما قاله بعض الشارحين في أن نسبة الرجل غيره إلى عداوة الله تعالى تكفير له، وكذا نسبة نفسه إلى ذلك, ويوافقه قوله تعالى: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ) الآية. البقرة/98, وسيأتي آخر الكتاب ما لو قال: إنه عدو للنبي صلى الله عليه وسلم, ومر أن معنى (حار): رجع، والاستثناء قيل: معنوي، أي: لا يدعوه أحد إلا حار عليه؛ لأن القصد الإثبات ولو لم يقدر النفي لم يثبت ذلك, ويحتمل عطفه على ليس من رجل فيكون جارياً على اللفظ. وقد فسر الحليمي في المنهاج الحديث بما يوافق كلام المتولي فقال: إن أراد به أن الدين الذي يعتقده كفرٌ كفرَ هو دون أخيه إن كان أخوه مسلماً حقيقياً, وإن كان يُبطن الكفر ولا يظهره فذلك غير مراد بالحديث إذ لا يبوء واحد منهما بالكفر, وحينئذٍ يعذر القائل. انتهى. فتأمله تجده صريحا فيما مر عن المتولي وأن التعزير إنما يجب عند كون المقول له ذلك كافراً باطناً. فإن قلت: كيف يكون كافراً باطناً ويبقى؟ قلت: يمكن بقاؤه لاستتابته إن قلنا: إن المرتد يمهل ثلاثة أيام، أو لإزالة شبهة أو تغلب أو غير ذلك. فان قلت: قضيته أن من قال لمرتد: يا كافر يعزر.

قلت: قد يلزمه ذلك لأنه إيذاء, وإيذاؤه إنما يجوز للإمام بالقتل إن لم يتب، ويمكن الفرق بأن المرتد لم يُظهر الإسلام فلم يكن له احترام أصلاً بخلاف من أظهر الإسلام، وإن كان كافراً باطناً, ومع ذلك فالموافق للقواعد أنه حيث ثبت كفره باطناً كان حكمه حكم المرتد، ولا تعزير على من قال له: يا كافر. وفسر الغزالي في الإحياء الحديث بما يوافق كلام المتولي أيضا حيث قال: معناه أنه يكفره وهو يعلم أنه مسلم، أي: فيكفر بدليل قوله، فإن ظن أنه كافر ببدعة أو غيرها كان مخطئاً لا كافراً انتهى. وقد يؤخذ من كلامه حمل كلام الحليمي السابق على غير ما مرّ, بأن يقال: معنى قوله: إن كان أخوه مسلماً حقيقياً أي: في اعتقاده, وقوله: وإن كان يُبطن الكفر ولا يُظهره أي: في اعتقاده وحينئذٍ فاتضح قوله: وحينئذٍ يعزر القائل، وهذا التأويل متعين لا ينبغي العدول عنه. وقد فسر ابن رشد من أكابر أئمة المالكية الحديث بما يوافق كلام المتولي أيضا، حيث قال: حُمِل الحديث على أن من قال ذلك كفر حقيقة, لكن فيمن كفر أخاه حقيقة؛ لأنه إن كان المقول له كافراً فقد صدق، وإلا كفر القائل؛ لأنه اعتقد ما عليه المؤمن من الإيمان كفراً، واعتقاد الإيمان كفراً كفر, قال الله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) المائدة/5. وقال غيره من أئمتهم: لا يبعد حمل الحديث على ظاهره من تكفير القائل على القول بأن الدعاء على غيره بالكفر كفر. واعترضه بعضهم بأن الداعي إنما كفر على

القول بذلك من جهة أنه لما دعا بالكفر كأنه رضيه، والرضا بالكفر كفر بخلاف هذا. وظاهر كلام الحليمي والغزالي الذي ذكرته عنهما أن القائل حيث اعتقد أن المقول له مسلم كفر مطلقا وإن أوّل، لكن ما مر عن المتولي أوجه. قال ابن دقيق العيد في قوله عليه الصلاة والسلام: (وَمَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ). أي: رجع. وهذا وعيد عظيم لمن كفر أحداً من المسلمين وليس هو كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق من العلماء اختلفوا

في العقائد وحكموا بكفر بعضهم بعضاً، وخرق حجاب الهيبة في ذلك جماعة من الحشوية وهذا الوعيد لاحقٌ بهم، ثم نقل عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني من أكابر أصحابنا أنه قال: لا أكفر إلا من كفرني، قال: وربما خفي هذا القول على بعض الناس وحمله على غير محمله الصحيح، والذي ينبغي أن يحمل عليه أنه لمح هذا الحديث الذي يقتضي أن من دعا رجلاً بالكفر وليس كذلك رجع عليه الكفر، وكذا قوله عليه الصلاة والسلام: (من قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا) وكان الأستاذ أبو إسحاق يقول: الحديث دلّ على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين إما المُكَفِّر أو المُكَفَّر، فإذا كفرني بعض الناس فالكفر واقع بأحدنا، وأنا قاطع بأني لست بكافر، فالكفر راجع إليه، انتهى. فتأمله تجده صريحاً فيما مرّ عن المتولي، وفي أن ابن دقيق العيد موافقه على ذلك، وفي أنه لا فرق بين التأويل وعدمه. وكلام الشيخ نصر المقدسي في تهذيبه في كتاب الصلاة صريح في ذلك، فإنه لم يقيد التكفير إلا بما إذا كان المقول له ظاهر العدالة، لكن الأوجه ما مرّ عن المتولي من التفصيل. وفي كافية الخوارزمي لو قال: لست من أُمة محمد أو لا أعرف الله

ورسوله أو أنا كافر، أو بريء من الإسلام كفر. انتهى. والحكم فيه ظاهر إلا أن يزعم أنه أراد أنه ليس منهم قطعاً بل ظناً وأنه لا يعرف الله ورسوله على طريقة أهل الأصول ونحو ذلك فيما يظهر. وللفتى تلميذ ابن المقري اعتراض على الروضة أحببت ذكره مع التنبيه على رده، وعبارته: قال في الروضة: قال المتولي: لو قال للمسلم: يا كافر بلا تأويل كفر لأنه سمى الإسلام كفراً. انتهى. ذكر القمولي مثله ولم يعلله ولم يعزه إلى أحد، قال: فإن أراد كفر النعمة والإحسان فلا. انتهى. ولا نسلم قول الروضة: لأنه سمى الإسلام كفراً، فإن هذا المعنى لا يفهم من لفظه ولا هو مراده، ومعنى لفظه: أنك لست على دين الإسلام الذي هو حق، وإنما أنت كافر، دينك غير الإسلام وأنا على دين الإسلام، هذا مراده بلا شك؛ لأنه إنما وصف بالكفر الشخصَ، لا دين الإسلام، فنفى عنه كونه على دين الإسلام فلا يكفر بهذا القول، وإنما يعزز بهذا السبّ الفاحش بما يليق به، ويلزم على ما قاله أن من قال لعابد: يا فاسق كفر؛ لأنه سمى العبادة فسقاً، ولا

أحسب أحداً يقوله، وإنما يريد أنك تَفْسق وتفعل مع عبادتك ما هو فسق، لا أن عبادتك فسق، وأيضاً فكيف يحكم عليه بالكفر بإطلاق هذه الكلمة المحتملة للكفر واحتمال غيره أكثر وأظهر؟ وإنما يصح المعنى الذي ذكره لو قال يهودي أو نصراني لمسلم: "يا كافر" فهذا بلا شك لا يريد إلا أن دينك وهو دين الإسلام كفر، وأما المسلم فلا يريد هذا أصلاً. انتهى كلام الفتى. ولك ردّه بأنه مبني على ما زعمه من أن معنى لفظه ما ذكره، وليس معناه ما زعم، بل معناه: يا متصفاً بالكفر، وهذا كما ترى صادق بأن ما اتصفت به من الإسلام يسمى كفراً، وبأنك لم تتصف بالإسلام من أصله، وهو الذي زعمه، ولا أثر لكون هذا الثاني هو الذي يغلب قصده بهذه الكلمة؛ لأن وصفه له بالكفر مع مشاهدة الإسلام منه وعدم تأويله قرينة ظاهرة على تسمية الإسلام كفراً، فعلمنا بما دل عليه لفظه صريحاً بواسطة القرينة المذكورة، وألغينا النظر إلى ما يُقصد بهذه الكلمة بين الناس؛ لأن هذا لا تعويل عليه في هذا الباب. وقلنا له: أنت حيث أطلقت هذا اللفظ ولم تؤول كنت كافراً لتضمن لفظك تسمية الإسلام كفراً، وإن كنت لم تقصد ذلك لأنا إنما نحكم بالكفر باعتبار الظاهر، وقصدك

وعدمه إنما ترتبط به الأحكام باعتبار الباطن لا الظاهر، فاندفع زعمه أن هذا المعنى لا يُفهم من لفظه، وقوله: إنما مراده ومعنى لفظه إلى آخره، بل ذكره المراد لا وجه له هنا البتة، لما قررناه بأن حكمنا إنما هو باعتبار الظاهر، فلا يبحث عن المراد ولا ندير عليه حكماً ظاهراً، واندفع حصره بقوله: إنما وصف بالكفر الشخص لا دين الإسلام. وأما ما زعمه من اللزوم المذكور فغير صحيح، بل لا يلزم عليه ذلك؛ لأن العبادة لا تنافي الفسق لإمكان اجتماعهما في آن واحد؛ إذ من ارتكب كبيرة فاسق، وإن كان أعبد الناس، بخلاف الكفر والإسلام فإنه لا يمكن اجتماعهما في شخص واحد في حالة من الأحوال، فلا يلزم من القول لعابد: يا فاسق تسمية العبادة فسقاً، بخلاف القول لمسلم: يا كافر فإنه ظاهر في الوصف بالكفر، ولو مع ما هو عليه من الإسلام، فلزم تسمية الإسلام كفراً، وما تعجب منه يُردّ بأن اللفظ إذا كان محتملاً لمعانٍ فإن كان في بعضها أظهر حمل عليه، وكذا إن استوت ووجد لأحدها مرجح وهو هنا ما مرّ من وصفه بالكفر مع علمه بما هو عليه من الإسلام، فقوله: "واحتمال غيره أكثر" ظاهر، وقوله: "وأظهر" ليس في محله كما تقرر، وقوله: وإنما يصح المعنى الذي ذكره إلى آخره، يُرد بما علمته مما هو غني عن الإعادة. وقوله: "وأما المسلم فلا يريد هذا أصلاً" ليس في محله أيضاً؛ لأن الإرادة وعدمها لا شغل لنا بها.

رد كلام المعترضين

وإذا تقرر لك حكم: يا كافر بما لم تجده في كتاب، وعلمت أن ما ذكره الشيخان فيه نقلاً عن المتولي هو الحق الذي لا محيد عنه، وأن كلام جمع من الأصحاب صريح في كفر قائله مطلقاً، وأن ما مرّ من عبارة الأذكار وشرح مسلم وغيرهما لا يخالفه، وظهر لك أن ما أفتيت به في: يا عديم الدين حق ظاهر لا يسع أحداً إنكاره، وأن من أنكره فقد أنكر على هؤلاء الأئمة الذين هم آباؤنا في الدين، لكِنْ المعترضون عليّ لا يحترمون أحداً من المتأخرين ولا من المتقدمين، فلي بهم أسوة ولله الحمد على ذلك. فمن قال لآخر: يا عديم الدين، نقول له: ما الذي أردته بذلك؟ فإن قال: أردت أن ما هو عليه من الدين لا يسمى ديناً، قلنا له: قد كفرت، فإن لم تسلم، وإلا ضربنا عنقك، وإن قال: أردت أنه لا دين له في المعاملات ونحوها، قلنا: لا كفر عليك، لكن عليك التعزير الشديد اللائق بك، وإن قال: لا نية لي، قلنا له: فهل تعتقد أنه يحل لك أن تقول له ذلك؟ فإن قال: نعم، قلنا له: كفرت إن كان ذلك مما لا يخفى عليك بناء على ما مرّ، وإن قال: لا أستحل ذلك أو كان ممن تخفى عليه ذلك قلنا: عليك التعزير لأنك ارتكبت معصية ليست كفراً، وإلى هذا التفصيل كله المستفاد مما قررته في يا كافر أشرت بقولي في الجواب السابق: بل ربما يكون قوله: يا عديم الدين كفراً. وإذا تمهّدت حقيقة ما أجبت به، فلترجع إلى رد كلام المعترضين، وهو لركاكته وكونه بالخيال أشبه غَنِيٌّ عن الرد، لكن في ضمن رده فوائد، فأما قول من قال: هذا الإفتاء كفر لاقتضائه أن قائل هذا اللفظ يكفر مطلقاً وليس كذلك، ومن كفَّر مسلماً فقد كفر، فيُردّ عليه بأمور: منها: أن دعواه اقتضاء قولي: ربما إلى آخره الكفر مطلقاً مجازفة وجهل بمدلولات الألفاظ، فإن مدلول "ربما" أنه له حالة يكون فيها كفراً، وحالة لا تكون

فيها كفراً، وهذا جلي واضح فلا نطيل فيه؛ لأن الكلام فيه لا يليق بهذا المصنَّف المبني على غاية من الإتقان والتحرير. ومنها: أن احتجاجه بما ذكر مكفر له صريحاً، فإنه كفّر مسلماً من غير تأويل؛ لأن المفتي إذا أفتى بحكم فلا يخلو إما أن يكون حقاً أو خطأً، فإن كان حقاً فلا كلام في تكفير مكفره، وإن كان خطأ فكذلك، وإن تعمد الخطأ؛ لأنه لم يتعمد تكفير أحد بعينه، إذ المفتي لا يفتي على أحد معين. والعجب من جرأته كيف يكفر غيره، ويستدل بما يكفر به نفسه؟ فإن قلت: فلمَ ذكرتَ هذه الإشارةَ الخفية ولم تفصل في الجواب، كما فصّلت هنا، ولا أطلقت القول بالحرمة كما في الأذكار؟ قلت: إيثاراً للاختصار، وحذراً من الوقوع في ورطة الإطلاق، فإنه قال في آداب المفتي من الروضة: وإذا كان في المسألة تفصيل لم يطلق الجواب فإنه خطأ بالاتفاق، وليس له أن يكتب الجواب على ما يعلمه من صورة الواقعة إذا لم يكن في الواقعة تعرّض له. انتهى. وليس الإطلاق في المصنفات كالإطلاق في الفتاوى، فإن الناظر في المصنفات لا يقتصر على مصنف واحد وإلا كان مقصّراً، بخلاف المستفتي، فإنه لا أهلية له في النظر في المصنفات حتى يعلم حكم الواقعة، وإنما الواجب عليه دفعها للمفتي، فمتى أفتاه وأطلق له في محل التفصيل ألجأه إلى الوقوع في الخطأ، فكان المفتي مخطئاً اتفاقاً. وأيضاً فالمصنفات تكثر مسائلها، فلو كلف المصنفون إلى استيعاب سائر التفاصيل في كل مسألة لشق عليهم، بل عجزت عن ذلك قدرتهم، فساغ لهم ذكر أصول المسائل، والإطلاق في بعض الأبواب اتِّكالاً على فهم التفصيل من محل آخر، وغير ذلك مما لا يخفى على ناظر في كتبهم. وأيضاً فإنما لم أفصّل في الجواب تفصيلاً واضحاً قصداً لستر المعنى المكفر عن العامة حتى لا تتطرق إليه أفهامهم، فإن غالب فطرهم سليمة، ولا يقصدون بقولهم لبعضهم: يا كافر يا عديم الدين إلا كفر النعمة، أو: يا من فعله كفعل

الكافر ونحو ذلك مما لا يقتضي الكفر، فأبرزت لهم أن هذا اللفظ قد يكون كفراً ليحذروه ويبعدوا عنه، ولم أبين لهم الوجه المكفر ستراً له عليهم لئلا يسمعه أحدهم فيكون سبباً له في أنه ربما يقصده، فكان ما فعلته من الإشارة إلى التفصيل به بـ: "ربما"، ومن ترهيبهم بأن ذلك كفر أبلغ وأولى، والله سبحانه وتعالى يوفق من شاء لما يشاء. وأما الاعتراض على التفريع بالفاء بما مرّ فسببه الجهل بالأحكام وبمدلولات الألفاظ أيضاً؛ لأن الحكم المحقق هو الحرمة، وأما التكفير فأمر أخص يشترط له ما مرّ، فكيف يعدل عن الأمر المحقق وهو الحرمة ولا يفرّع عليه، ويفرّع على الأمر الذي لم يعلم وجوده لإناطته بقصد المتكلم ولم يطلع عليه، بل ويندر وقوع المعنى المكفر من أحد من المسلمين كما مرّ، وذِكْر الفقهاء له إنما هو خشية من وقوعه، وإذا كان وقوعه في غاية الندور، فعلم أن التفريع على الحرمة هو الصواب الذي لا مرية فيه. وأما الاعتراض بأن المفتي كيف يكتب التعزير الشديد، والتعزير راجع إلى رأي الحاكم في الشدة والضعف. فجوابه وإن كان لا يستحق جواباً لولا ما في جوابه من الفوائد التي لا تخفى على ذي لب: أن الحكام والقضاة أسرى المفتين لغلبة الجهل عليهم، وعدم معرفتهم بظواهر الأحكام فضلاً عن دقائقها. وقد قال الأذرعي عن قضاة زمنه: ولا تغتر بقضاة زماننا فإنهم كقريبي عهد بالإسلام، هذا في قضاة زمنه، فما بالك بغيرهم، وقد أشار إلى ذلك الفارقي أيضا في قضاة زمنه مع تقدمه على زمن الأذرعي بكثير.

ولما أن كان غالب قضاة زماننا بلغوا إلى ما لم يبلغه غيرهم، صنفت كتاباً في قبائحهم، وصدرته بأربعين حديثاً فيه مزيد الذم وشديد الوعيد على أكثر القضاة، وسميته: "جمر الغضا لمن تولى القضا" ولئن سلمنا أن القضاة فيهم المفتون، فللمفتي أن يكتب أن التعزير شديد أو غير شديد، ولا مانع من ذلك عند من له أدنى بصيرة. على أن لأصحابنا وجهاً أن القاضي ليس له أن يفتي في الأحكام، فعليه: صار المفتي من القضاة كغيره، والاستدلالُ للاعتراض المذكور بأن التعزير راجع إلى أمر الحاكم في الشدة والضعف ناشئٌ عن الجهل بكلام الفقهاء وقواعدهم؛ لأنه ليس راجعاً إليه في الشدة والضعف، بل يجب عليه أن يفعل بالمُعَزَّر ما يناسب معصيته من التغليظ والتخفيف، وإنما الراجع إليه تعيين نوع من الأنواع التي يحصل بها ذلك، فتأمل هذا الإبهام الذي أوقع المعترضين في الاعتراض بذلك عليّ، إن للمفتي أن يغلظ في الجواب ولو بغير الواقع، حيث لا مفسده. ففي المجموع والروضة وأصلها: للمفتي أن يشدد في الجواب بلفظ متأوَّل عنده زجراً وتهديداً في مواضع الحاجة. زاد في الروضة: قلت: المراد ما ذكره الصيمري وغيره قالوا: إذا رأى المفتي المصلحة أن يقول للعامي ما فيه تغليظ وهو لا يعتقد ظاهره وله فيه تأويل جاز زجراً، كما روي عن ابن عباس

رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن توبة القاتل؟ فقال: لا توبة له. وسأله آخر فقال: له توبة، ثم قال: أما الأول فرأيت عليه إرادة القتل فمنعته، وأما الثاني فجاء مسكيناً قد قتل فلم أقنطه، قال الصيمري: وكذا إن سأله فقال: إن قتلتُ عبدي فهل عليَّ قصاص؟ فواسع أن يقول: إن قتلته قتلناك، فعن النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ)، ولأن القتل له معنيان وهذا كله إذا لم يترتب على الإطلاق مفسدة والله أعلم. انتهى كلام الروضة، وهو حريّ أن يتأمله المعترضون ويفهموه، فإنهم بمكان سحيق عنه وعن غيره من كلام الأئمة وإلا لما صدرت منهم هذه الخرافات. وأما الاعتراض بأن القاضي لا يُفْتَى عليه فقد مرّ ما يتكفل برده، بل لا يصدر ذلك إلا ممن ترك الشريعة الغراء وراءه ظِهرياً ونسياً منسياً؛ لأن القاضي إما أن يكون محقا فالإفتاء يؤيده وينصره، وإما أن يكون مُبطلاً فهو ليس بقاضٍ، فإن فُرض أنه قاضٍ ضرورةً وجب رفعه إلى مُستنيبه ليقيم عليه الأحكام الشرعية، فإن فرض أنه لا يفعل، فوض الأمر إلى الله تعالى حتى يحكم الله وهو خير

الحاكمين، على أن القاضي في صورة السؤال خصم مدعٍ على آخر ما يتعلق بالوصاية التي ذكر أنها فوضت إليه، فليس متحاكماً إليه حتى يكون له أدنى شبهة في نوع من الشتم أو السب، وإنما الحامل على ذلك استطالته على أعراض المسلمين وشتمهم بالألفاظ القبيحة التي لا تصدر من أدنى العوام. وأما الاعتراض بأن الجواب ليس مطابقاً للسؤال فكلام مهمل لا معنى له بوجه حتى يتكلم عليه، ومزيد المقت والغضب من الله سبحانه يُلجئ الشخص إلى أن يقول ما لا يعقله ولا يفهمه نعوذ بالله من ذلك، ونسأله العفو عما اقترفنا من الزلات والجهالة إنه جواد كريم، رؤوف رحيم.

الكلام على بقية الألفاظ والأفعال التي توقع في الكفر

وإذ قد أنهينا الكلام على هذه القضية فلننتقل إلى الكلام على بقية الألفاظ والأفعال التي توقع في الكفر عندنا أو عند غيرنا اعتناءً بهذا الباب لخطره، وفي الحقيقة هذا هو المقصود بالكتاب، وما مرّ كالمقدمة له أو السبب الباعث عليه، فنقول: هذا باب واسع وأكثر من اعتنى به الحنفية، ثم أصحابنا كما ستعلمه. فمن ذلك العزم على الكفر في زمن بعيد أو قريب، أو تعليقه باللسان أو القلب على شيء ولو محالاً عقلياً فيما يظهر، فيكون ذلك كفراً في الحال، كما نقله الشيخان عن التتمة، وجزم به البغوي وغيره كالحليمي وصححه الروياني، وقول الشافعي رضي الله تعالى عنه في الأم: كل ما لم يحرك به لسانه هو حديث النفس الموضوع عن بني آدم لا يخالف ذلك، خلافاً لمن وهم فيه؛ لأنه محمول على الخاطر الذي لا يستقر كما حمل الأئمة الحديث عليه، وقول أبي نصر القشيري: عندنا لا يتصور العزم على الكفر الذي هو

الجهل بالله، إذ لا يصح من العالم بالله أن يعزم على الجهل به. يجاب عنه: بأن المراد بالكفر في هذا الباب ما أشعر بالجهل وإن كان قلب من صدر منه شيء مما ذكر، وما يأتي ممتلئاً إيماناً. ألا ترى أن الاستهزاء أو الهزل كغيرهما وكذلك الفعل الآتي، فإن أراد أبو نصر أنه وإن عزم لا يكون كافراً فغير مُسَلَّمٍ له ذلك، بل لا وجه لكلامه حينئذ، وإن أراد أن حقيقة الكفر الذي هو الجهل لا يجامع حقيقة العلم فَمُسَلَّمٌ، لكن لا مدخل لذلك فيما نحن فيه، وفارق ذلك عزم العدل على مقارفَة كبيرة فإنه لا يفسق بأن نية الاستدامة على الإيمان شرط فيه بخلاف نية الاستدامة على العدالة فإنها ليست شرطاً فيها، وكأن وجه ذلك أن الإيمان: التصديق، وهو منتف مع العزم، والعدالة اجتناب الكبائر مع عدم غلبة المعاصي، والنية لا تنافي ذلك وهو ظاهر لا غبار عليه، ومن ثم قال البغوي: لو قال الكافر: آمنت بالله إن شاء الله لم يكن إيماناً؛ لأن الإيمان لا يتعلق بالشرط، ولو قال المسلم: كفرت إن شاء الله كفر في الحال. انتهى. ونقل الإمام عن الأصوليين أن من نطق بكلمة الردة، وزعم أنه أضمر توريةً كفر ظاهراً وباطناً، وأقرهم على ذلك، فتأمله ينفعك في كثير من المسائل، وكأن معنى قصده التورية أنه اعتقد مدلول ذلك اللفظ، وقصد أن يورّي على السامع، وإلا فالحكم بالكفر باطناً فيه نظر، ولو حصل له وسوسة فتردد في الإيمان أو الصانع أو تعرض بقلبه لنقص أو سب وهو كاره لذلك كراهة شديدة ولم يقدر على دفعه لم يكن علية شيء ولا إثم، بل هو من الشيطان فيستعين بالله

على دفعه، ولو كان من نفسه لما كرهه. ذكره ابن عبد السلام وغيره، ومن ذلك اعتقاد ما يوجب الكفر، وإن لم يظهر بقول أو فعل. ومنها: كل فعل صدر عن تعمد واستهزاء بالدّين صريح، كالسجود للصنم أو الشمس، سواء كان في دار الحرب أم دار الإسلام، بشرط أن لا تقوم قرينة على عدم استهزائه وعذره، وما في الحلية عن القاضي عن النص أن المسلم لو سجد للصنم في دار الحرب لا نحكم بردته، ضعيف، وواضح أن الكلام في المختار. واستشكل العز بن عبد السلام الفرق بين السجود للصنم وبين ما لو سجد الولد لوالده على جهة التعظيم حيث لا يكفر, والسجود للوالد كما يقصد به التقرب إلى الله تعالى كذلك يقصد بالسجود للصنم كما قال تعالى: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ) الزمر/3. ولا يمكن أن يقال: إن الله شرع ذلك في حق العلماء والآباء دون الأصنام.

قال القرافي في قواعده: كان الشيخ يستشكل هذا المقام ويعظم الإشكال فيه، ونقل هذا الإشكال الزركشي وغيره، ولم يجيبوا عنه، ويمكن أن يجاب عنه بأن الوالد وردت الشريعة بتعظيمه, بل ورد شرع غيرنا بالسجود للوالد كما في قوله تعالى: (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) يوسف/100، بناء على أن المراد بالسجود ظاهره، وهو وضع الجبهة على الأرض كما مشى عليه جمع. وأجابوا عنه بأنه كان شرعا لمن قبلنا, ومشى آخرون على أن المراد به الانحناء, وعلى كل فهذا الجنس قد ثبت للوالد ولو في زمن من الأزمان أو شريعة من الشرائع, فكان شبهة دارئة للكفر عن فاعله بخلاف السجود لنحو الصنم أو الشمس فإنه لم يرد هو ولا ما شابهه في التعظيم في شريعة من الشرائع, فلم يكن لفاعل ذلك شبهة لا ضعيفة ولا قوية فكان كافراً، ولا نظر لقصده التقرب فيما لم ترد الشريعة بتعظيمه بخلاف من وردت بتعظيمه, فاندفع الإشكال واتضح الجواب عنه كما لا يخفى. وفي المواقف وشرحها: من صدّق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك سجد للشمس كان غير مؤمن بالإجماع؛ لأن سجوده لها يدل بظاهره على أنه ليس بمصدق ونحن نحكم بالظاهر, فلذلك حكمنا بعدم إيمانه؛ لأن عدم السجود لغير الله تعالى داخل في حقيقة الإيمان حتى لو علم أنه لم يسجد لها على سبيل التعظيم واعتقاد الإلهية، بل سجد لها وقلبه مطمئن بالتصديق لم يحكم بكفره فيما بينه وبين الله تعالى, وإن أُجري عليه حكم الكافر في الظاهر. انتهى.

ثم ما اقتضاه كلامه -أعني الشيخ عز الدين- من أن العلماء كالوالد في ذلك يدل عليه ما في الروضة آخر سجود التلاوة، وعبارته: وسواء في هذا الخلاف وفي تحريم السجود ما يفعل بعد صلاة وغيرها، وليس من هذا ما يفعله كثيرون من الجهلة والظالمون من السجود بين يدي المشايخ, فإن ذلك حرام قطعاً بكل حال سواء أكان إلى القبلة أو لغيرها وسواء قصد السجود لله تعالى أو غفل, وفي بعض صوره ما يقتضي الكفر عافانا الله تعالى منه. فأفهم أنه قد يكون كفراً بأن قصد به عبادة مخلوق أو التقرب إليه, وقد يكون حراماً بأن قصد به تعظيمه أو أطلق, وكذا يقال في الوالد. فإن قلت: ما ذكرته من الجواب عن الإشكال في الوالد لا يأتي في العلماء؛ لأنه لم ينقل صورة السجود لهم. قلت: بل يأتي فيهم؛ لأن تعظيمهم ورد به الشرع على أنه ثبت لجنسهم السجود كما في قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا) البقرة/34، وآدم صلوات الله عليه وعلى نبينا وعلى سائر الأنبياء والمرسلين كان بالنسبة للملائكة عليهم السلام هو العالم الأكبر, فثبت لجنس العلماء السجود، فكان شبهة وإن كان المراد في الآية بالسجود الانحناء عند جماعة, وأن آدم عليه الصلاة والسلام لم يكن هو المسجود له، وإنما كان قبلة لسجودهم كما أن الكعبة قبلة لسجودنا لصلاتنا. ومن المكفرات أيضا السحر الذي فيه عبادة الشمس ونحوها, فإن خلا عن ذلك كان حراماً لا كفراً، فهو بمجرده لا يكون كفراً ما لم ينضم إليه مكفر. ومن ثم قال الماوردي: مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه لا يكفر بالسحر ولا يجب به قتله ويسأل عنه, فإن اعترف معه بما يوجب كفره كان كافراً

بمعتقده لا بسحره, وكذا لو اعتقد تأثير السحر كان كافراً باعتقاده لا بسحره، فيقتل حينئذ بما انضم إليه السحر هذا مذهبنا. وأطلق مالك وجماعة سواه الكفر على الساحر, وأن السحر كفر، وأن الساحر يقتل ولا يستتاب سواء أسحر مسلماً أو ذمياً كالزنديق. لكن قال بعض أئمة مذهب المالكية: والصواب لا نقضي بهذا حتى يبين معقول السحر إذ هو يطلق على معان مختلفة, وسيأتي بيانها في الخاتمة مع بيان أن الصواب في هذه المسألة مذهبنا كما اعترف به كثير من أصحاب مالك. ومذهب أحمد في الساحر أقرب إلى مذهب مالك فيه, وسيأتي في الخاتمة أيضا كلام أهل مذهبه في ذلك.

ومنها: إلقاء المصحف في القاذورات لغير عذر ولا قرينة تدل على عدم الاستهزاء وإن ضعفت, والمراد بها النجاسات مطلقاً، بل والقذر الطاهر أيضاً كما صرح به بعضهم. قال الروياني: وكالمصحف في ذلك أوراق العلوم الشرعية، ويؤيده ما يأتي فيمن قال: قصعة ثريد خير من العلم وكتب الحديث, وكل ورقة فيها اسم من أسمائه تعالى أولى بذلك في كون إلقائه في القذر مكفراً, وهل مراد الروياني بالعلوم الشرعية الحديث والتفسير والفقه وآلاتها كالنحو وغيره، وإن لم يكن فيها آثار السلف، أو يختص بالحديث والتفسير والفقه؟ الظاهر الإطلاق وإن كان بعيد المدرك في ورقة من كتاب نَحوٍ مثلاً ليس فيها اسم معظم. وعبارة الزركشي في هذا المحل: ما ذكره: الرافعي في إلقاء المصحف في القاذورات لا يختص بالمصحف، بل كتب الحديث في معناه, وقد ألحق الروياني به أوراق العلوم الشرعية، ولا شك أن الحديث وما اشتمل عليه اسم من أسماء الله تعالى أعظم. انتهى. وفهم بعض المتأخرين من هذه العبارة أنها مضعفة لكلام الروياني, وأنت خبير إذا تأملتها رأيت أن الأمر ليس كذلك، وأنه إنما ذكر ذلك تقوية لما ذكره من إلحاق كتب الحديث بالمصحف، فكأنه يقول: هو أولى بالحكم مما ذكره الروياني فتَعين ذكرها كما ذكر الروياني أوراق بقية العلوم الشرعية، وإن كانت داخلة في كلامه, ومن ذلك يعلم أن كل ورقة فيها اسم معظم من أسماء الأنبياء والملائكة يكون كذلك, وأن المراد بالمصحف ونحوه كل ورقة فيها شيء من القرآن أو الحديث أو نحوهما سواء أكتب القرآن للدراسة أم غيرها، وأن هذا المحل فارق فساد بيع ذلك من كافر والدخول به للخلاء لفحش ما هنا. فإن قلت: الفرق ينافي ما تقرر قولهم: يحرم الاستنجاء بيد فيها خاتم عليه معظم، ولم يجعلوه كفراً. قلت: الفرق أن تلك حالة حاجة، وأيضاً فالماء يمنع ملاقاة النجاسة للمعظم,

فإن فرض أنه قصد تضمّخه بالنجاسة يأتي فيه ما هنا، على أن الحرمة لا تنافي الكفر كما مر. وكإلقاء المصحف ونحوه في القذر تلطيخ الكعبة أو غيرها من المساجد بنجس, ولو قيل: إن تلطيخ الكعبة بالقذر الطاهر كذلك لم يبعد إلا أن كلامهم ربما يأباه. قال إمام الحرمين: وفي بعض التعاليق عن شيخي أن الفعل بمجرده لا يكون كفراً، قال: وهذا زلل عظيم من المُعلّق ذكرته للتنبيه على غلطه انتهى. وأقره الشيخان على ذلك وهو جدير بالغلط, وإن نقل عن الشيخ أبي محمد أيضا وعن غيره، خلافاً لمن نظر فيه بذلك, وقول الأذرعي: لم لا يؤوّل ويحمل على محمل صحيح لا يخفى على الفقيه استخراجه كأنه يشير به إلى أن حقيقة الفعل لا يمكن أن يكون كفراً, وإنما الكفر ما استلزمه من التهاون بالدين ونحوه, وهذا تأويل صحيح، وبه يندفع الغلط إلا أن المراد لا يدفع الإيراد.

ومنها: القول الذي هو كفر سواء صدر عن اعتقاد أو عناد أو استهزاء, فمن ذلك اعتقاد قدم العالم أو حدوث الصانع أو نفي ما هو ثابت للقديم بالإجماع المعلوم من الدين بالضرورة ككونه عالماً أو قادراً, أو كونه يعلم الجزئيات، أو إثبات ما هو منفي عنه بالإجماع كذلك كالألوان أو إثبات الاتصال أو الانفصال له. فإن قلت: المعتزلة ينكرون الصفات السبعة أو الثمانية ولم تكفروهم. قلت: هم لا ينكرون أصلها وإنما ينكرون زيادتها على الذات حذراً من تعدد القدماء فيقولون: إنه تعالى عالم بذاته قادر بذاته وهكذا. فالجواب عن شبهتهم المذكورة أن المحذور تعدد ذوات قدماء لا تعدد صفات قائمة بذات واحدة قديمة, وكذا يقال في اختلاف الأشاعرة في نحو البقاء والقدم والوجه واليدين. وبهذا إن تأملته تعلم الجواب عن قول العز بن عبد السلام، والعجب أن الأشعرية اختلفوا في كثير من الصفات كالقدم والبقاء والوجه واليدين, وفي الأحوال كالعالمية والقادرية وفي تعدد الكلام واتحاده، ومع ذلك لم يكفر بعضهم بعضاً. واختلفوا في تكفير نفاة الصفات مع اتفاقهم على كونه حياً قادراً

متكلماً واتفقوا على كماله بذلك، واختلفوا في تعليله بالصفات المذكورة انتهى, فأخذ عدم تكفير المعتزلة وغيرهم الذي هو الأصح وإن جرى عليه جماعة، بل نقل عن الأئمة الأربعة أنهم لم يسلكوا اعتقاد بعض في الذات, بل زعموا بذلك أنهم الموحدون المعظمون دون غيرهم. وأما القدم والبقاء فأمور اعتبارية فلا يلزم على نفيها نقص أيضاً، وكذا نفي الوجه واليدين ونحوهما فاتضح ما مشى عليه الأكثر، وعدم تكفير بعض الأشعرية لبعض, وقد أشار ابن الرفعة إلى مدرك القول بالكفر والقول بعدمه بما حاصله: أن المخالفين لصفات الباري تعالى الذي هو متصف بها إنما لم يحكم بكفرهم؛ لأنهم يعترفون بإثبات الربوبية لذات الله تعالى وهي واحدة, والقول بالكفر نظر إلى أن تغيير الصفات بما لا يعتبر فيه النظر، والعبارة بمنزلة تغيير الذات، فكفروا لأنهم لم يعبدوا الله تعالى المنزه عن النقص؛ لأنهم عبدوا من صفته كذا وكذا, والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك، فهم عابدون لغيره بهذا الاعتبار. قال: وهذا ما يحكى عن اختيار شيخ الإسلام ابن عبد السلام قدس الله تعالى روحه انتهى. وميل كلام ابن الرفعة إلى عدم التكفير، وهو كذلك، وإن لزم على هذا الاعتقاد نقص, لأن لازم المذهب غير مذهب كما يأتي, ومن ثم قال الإسنوي: المجسمة ملزمون بالألوان وبالاتصال والانفصال، مع أنا لا نكفرهم على المشهور، كما دل عليه كلام الشرح

والروضة في الشهادات. انتهى. وسيأتي الجمع بين هذا وقول النووي في شرح المهذب بكفرهم. فالحاصل أن من نفى أو أثبت ما هو صريح في النقص كفر أو ما هو ملزوم للنقص فلا, ومعنى إثبات الاتصال والانفصال يرجع إلى قول من قال: الباري تعالى لا داخل العالم ولا خارجه، ومن ثم قال الغزالي: معناه أن مصحح الاتصال والانفصال الجسمية والتحيز وهو محال فانفك عن الضدين, كما أن الجماد لا هو عالم ولا جاهل؛ لأن مصحح العلم هو الحياة فإذا انتفت

الحياة انتفى الضدان، وهذا كما ترى ظاهر في تكفير القائلين بالجهة, لكن مشى الغزالي في كتابه: التفرقة بين الإسلام والزندقة، والعز بن عبد السلام في فتاويه الموصلية وغيرهما على عدم كفرهم. قال ابن عبد السلام: لأن علماء الإسلام لم يخرجوهم عن الإسلام, بل حكموا لهم بالإرث من المسلمين وبالدفن في مقابرهم وتحريم دمهم وأموالهم. قال الزركشي: وهذا بناه الشيخ على تفسير المتكلمين بالإيمان بما علم من دين محمد صلى الله عليه وسلم بالضرورة وعلى هذا العلم بكونه عالماً بالعلم أو عالماً بذاته أو كونه مرئياً أو غير مرئي ليس بداخل في مسمى الإيمان, وكذلك كونه في جهة أو ليس في جهة انتهى. وبه يتأيد ما قدمته في وجه عدم تكفير المعتزلة ونحوهم. قال الشيخ: ومن زعم أن الإله سبحانه وتعالى يحل في شيء من آحاد الناس أو غيرهم فهو كافر, لأن الشرع إنما عفا عن المجسمة لغلبة التجسيم على الناس, وأنهم لا يفقهون موجوداً إلى غير جهة بخلاف الحلول, فإنه لا يعم الابتلاء به، ولا يخطر على قلب عاقل فلا يعفى عنه أ. هـ. وكالحلول الاتحاد كما يأتي: والحاصل, أن في كفر سائر الفرق خلافاً بين أئمة السلف والخلف، حرره القاضي عياض آخر الشفاء، ومذهبنا أنه لا يكفر إلا نافي العلم

بالجزئيات أو بالمقدور, وزاعم قدم العالم أو بقائه أو الشاك في ذلك, ومنكر البعث أو شيء من متعلقاته كما يعلم مما يأتي عن الروضة عن القاضي عياض, وزاعم الحلول أو الاتحاد ونحوهم كالقائلين بالتناسخ وغيرهم من الطوائف المذكورة في الشفاء وغيرهم، وإنما تركت ذكرهم لأن كفرهم معلوم مما قررته في هذا الكتاب. ومن ذلك جحد جواز بعثة الرسل أو إنكار نبوة نبي من الأنبياء المتفق على نبوتهم صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين لا كالخضر وخالد بن سنان ولقمان وغيرهم، وكإنكار ذلك الشك فيه, قال الخوارزمي في "كافيه": أو إنكار رسالة واحد من الأنبياء المعروفين. انتهى.

وينبغي حمل قوله: المعروفين، على من أجمع المسلمون على رسالتهم، وأراد نفي الرسالة على سائر الأقوال, فإنه قد وقع خلاف في تعريف الرسول. ومن ذلك أيضاً تكذيب نبي أو نسبة تعمد كذب إليه أو محاربته أو سبه أو الاستخفاف به, ومثل ذلك كما قاله الحليمي ما لو تمنى في وقت نبي من الأنبياء أنه هو النبي دون ذلك النبي, أو في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم أو بعده أن لو كان نبياً أو أنه صلى الله عليه وسلم لم تكن النبوة به فيكفر في جميع ذلك, والظاهر أنه لا فرق بين تمني ذلك باللسان أو القلب. تنبيه: قضية قولهم: "أو تكذيب نبي" أنه لا فرق بين تكذيبه في أمر ديني أو غيره, وهو ما يصرح به كلام العراقي شارح المهذب, لكن كلام غيره ينازع فيه،

وأصل ذلك أنهم صرّحوا بأن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بلا شهود, لأن اعتبارهم لأمن الجحد وهو مأمون في حقه صلى الله عليه وسلم, ثم قالوا: والمرأة لو كذبته لم يلتفت إليها. وقال العراقي المذكور: بل تكفر بتكذيبه. فقضية كلام غيره عدم كفرها لكن كلامه أوجه؛ لأن تكذيبه ولو في الأمر الدنيوي صريح في عدم عصمته عن الكذب وفي إلحاق النقص به وكلاهما كفر, ولا ينافي ذلك ما وقع من بعض جفاة الأعراب مما يقرب من ذلك، لأنهم كانوا معذورين لقرب إسلامهم, وصريح كلامهم هنا أن كون الاستخفاف بالنبي كفراً لا يختص بنبينا صلى الله عليه وسلم. ومنه يؤخذ إشكال في عد أصحابنا كون الاستخفاف به كفراً من خصائصه صلى الله عليه وسلم. وقد يجاب أخذاً من استقراء كلامهم بأنهم كثيراً ما يعدون شيئا من خصائصه ويكون المراد به ما اختص به عما عدا الأنبياء من بقية الأمم, وقد عدوا من خصائصه أيضاً أن من زنى بحضرته صلى الله عليه وسلم كفر، ونظر فيه في "الروضة", ويجاب بأن هذا ظاهر في الاستخفاف فكان كفراً، ومنه يؤخذ أن غيره من الأنبياء كذلك، ويعود الإشكال والجواب المذكوران. ومن ذلك أيضاً جحد آية أو حرف من القرآن مجمع عليه كالمعوذتين بخلاف البسملة، أو زيادة حرف فيه مع اعتقاد أنه منه.

فإن قلت: قد أنكر ابن مسعود كون المعوذتين قرآناً فكيف تكفرنا فيهما؟ قلت: قال النووي في المجموع: إن نسبة ذلك لابن مسعود كذب عليه. فإن قلت: فهل فيه جواب على تقدير الصحة؟ قلت: الجواب عنه أنه لم يستقر الإجماع عند إنكاره على كونهما قرآناً, وأما الآن فقد استقر وصارت قرآنيتهما معلومة من الدين بالضرورة فكفرنا فيهما، عالماً كان أو عامياً مخالطاً للمسلمين أم لا، على أن ما روي من إنكاره إنما هو إنكار

لرسمهما في مصحفه لا لكونهما قرآنا كما قاله الشيخ أبو علي بن أبي هريرة, والقاضي أبو بكر الباقلاني؛ لأنه كانت السنة عنده أن لا يثبت في المصحف إلا ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإثباته أو كتبه، ولم يجده كتب ذلك ولا سمع أمره به. وفي وجه حكاه القاضي حسين في تعليقه أنه يلحق بسبّ النبي صلى الله عليه وسلم سبّ الشيخين

وعثمان

وعلي رضي الله تعالى عنهم أجمعين فقال: من سب الصحابة فسق, ومن سب الشيخين أو الحسنين

يكفر أو يفسق وجهان كذا في النسخة وصوابهما الختنين بمعجمة ففوقية فنون يعني عثمان وعلياً رضي الله تعالى عنهما, وعبارة البغوي: من أنكر

خلافة أبي بكر يبدع ولا يكفر, ومن سب أحداً من الصحابة ولم يستحل يفسق. واختلفوا في كفر من سب الشيخين: قال الزركشي، كالسبكي: وينبغي أن يكون الخلاف إذا سبهما لأمر خاص به, أما لو سبهما لكونهما صحابيين فينبغي القطع بتكفيره, لأن ذلك استخفاف بحق الصحبة وفيه تعريض بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى الترمذي: أنه صلى الله عليه وسلم رَأَى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ: (هَذَانِ السَّمْعُ وَالبَصَرُ). وهكذا القول في شأن غيرهما من الصحابة, وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يقول اللَّهَ تعالى: مَنْ آذى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بالمحاربة أو بِالحَرْبِ) وفي رواية: (فَقَدْ اسْتَحَلَّ مُحَارَبَتِي).

ولا شك أنا نتحقق ولاية العشرة، فمن آذى واحداً منهم فقد بارز الله تعالى بالمحاربة, فلو قيل: يجب عليه ما يجب على المحارب لم يبعد، ولا يلزم هذا في غيرهم إلا من تحققت ولايته بإخبار الصادق انتهى. وما بحثه من القطع بالتكفير ظاهر نقلاً ومعنى، ومن الإلحاق بالمحارب ظاهر دليلاً لا نقلاً, وسيأتي لذلك بسط آخر. ومن ذلك أن يستحل محرماً بالإجماع كالخمر واللواط ولو في مملوكه, وإن كان أبو حنيفة لا يرى الحدَّ به؛ لأن مأخذ الحرمة عنده غير مأخذ الحد, أو يحرّم حلالاً بالإجماع كالنكاح، أو ينفي وجوب مجمع على وجوبه كركعة من الصلوات الخمس, أو يعتقد وجوب ما ليس بواجب بالإجماع كصلاة سادسة بأن يعتقد

فرضيتها كفريضة الخمس ليخرج معتقد وجوب الوتر ونحوه، وكصوم شوال. هذا ما ذكره الرافعي، زاد النووي في الروضة أن الصواب تقييده بما إذا جحد مجمعاً عليه يعلم من دين الإسلام ضرورة، سواء أكان فيه نص أم لا, بخلاف ما لم يعلم ذلك بأن لم يعرفه كل المسلمين، فإن جحده لا يكون كفراً انتهى. وما زاده ظاهر، وخرج بالمجمع عليه الضروري استحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب، وتحريم نكاح المعتدة, فلا يكفر جاحدهما، كما بينته في شرح الإرشاد، مع بيان أنه هل الكلام في جاحدهما جهلاً أو عناداً, ومع بيان ردِّ قول البلقيني أن نكاح المعتدة معلوم من الدين بالضرورة وأنه قيد استحلال الدماء والأموال بما لم ينشأ عن تأويل ظني البطلان كتأويل البغاة. وللضرورة أمثلة كثيرة استوعبتها في الفتاوى. ومن ذلك أيضاً ما لو أجمع أهل عصر على حادثة فإنكارها لا يكون كفراً، ومحل هذا كله في غير من قرب عهده بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة عن العلماء وإلا عُرّف الصواب فإن أنكر بعد ذلك كفر فيما يظهر، لأن إنكاره حينئذٍ فيه

تضليل للأمة، وسيأتي عن "الروضة" عن القاضي عياض أن كل ما كان فيه تضليل الأمة يكون كفراً, ثم ما ذكره الشيخان كالأصحاب في استحلال الخمر استبعده الإمام بأنا لا نكفر من ردّ أصل الإجماع, ثم أوَّل ما ذكروه بما إذا صدق المجمعين على أن التحريم ثابت في الشرع ثم حلله فإنه يكون رداً للشرع, قال الرافعي: وهذا إن صح فليجر مثله في سائر ما حصل الإجماع على افتراضه أو تحريمه فنفاه. وأجاب عنه أبو القاسم الزنجاني بأن ملحظ التكفير ليس مخالفة الإجماع، بل استباحة ما علم تحريمه من الدين بالضرورة, ولهذا قال ابن دقيق العيد: مسائل الإجماع إن صحبها التواتر كالصلاة كفر منكرها لمخالفة التواتر لا لمخالفة الإجماع، وإن لم يصحبها التواتر فلا يكفر نافيها, وفرّق الزركشي بين تكفير منكر الإجماع أي المجمع عليه وعدم تكفير منكر أصل الإجماع بأن منكر الحكم وافق على كون الإجماع حجة، ثم أنكر أثره المترتب عليه فكفرناه, بخلاف منكر الأصل فإنه لم يوافق على شيء البتة انتهى. وفي فرقه نظر لاقتضائه أن منكر الحكم لا بد أن يسبق منه اعتراف بحجية الإجماع وهو خلاف قضية إطلاقهم, وأن من سبق منه الاعتراف بذلك يكفر وإن لم يكن الحكم ضرورياً أو ليس كذلك, فالذي يتجه هو ما أشار إليه الجواب الأول من أن ملحظ التكفير إنكار الضروري سواء أسبق منه الاعتراف بحجية الإجماع أم لا.

فإن قلت: هل بقي من فرق آخر بين إنكار أصل الإجماع حيث لم يكن كفراً، وإنكار الحكم المجمع عليه الضروري حيث كان كفراً؟ قلت: نعم, وتقدم قبله مقدمة، وهي أن النظام وغيره إنما أنكروا كون الإجماع حجة زعماً منهم أنه لا يستحيل الخطأ على أهل الإجماع وأنه لا دليل على عصمتهم قطعاً، إذ ما أستدل به على ذلك يحتمل التأويل, فالإجماع الذي أنكروه هو تطابق العلماء على تفرقتهم وكثرتهم على رأي نظري، وهذا ليس كإنكار الضروري الذي هو تطابقهم على الإخبار عن محسوس على نقل التواتر وذلك قطعي لحصول العلم الضروري به، والقدح فيه يسري إلى إبطال الشريعة من أصلها فتطابق العلماء على رأي واحد نظري لا يوجب العلم القطعي إلا من جهة الشرع فلم يكن إنكار كونه من أصله حجة, ولا إنكار إفادته القطع مع الاعتراف بحجيته مكفراً على الأصح فإنه بخلاف إنكار الضروري فإنه يجر إلى إنكار الشرع بل الشرائع كلها، فمن ثم كان كفراً كما تقرر, فاتضح الفرق بين إنكار أصل الإجماع أو كونه حجة قطعية وبين إنكار الضروري, وبما قررته يعلم رد تنظير الغزالي في كفر جاحد المجمع عليه, بأن النظام أنكر كون الإجماع حجه فيصير مختلفا فيه، ووجه رده أن النظام لا ينكر الحكم كما مر, وعلى التنزل فهو بهذا الإنكار مبتدع ضال، فلا نظر لإنكاره ولا لخلافه. فإن قلت: نافي حكم الإجماع أخف حالاً من جاحد المجمع عليه, لأن الأول ليس معه اعتقاد مخالف بخلاف الثاني فإن الجاحد يقتضي سبق الاعتراف والاعتقاد. قلت: إذا تأملت ما سبق من التقرير علمت أن الملحظ في التكفير إنما هو

إنكار الضروري المستلزم لإنكار الإجماع بخلاف إنكار الإجماع من أصله أو حجيته أو المجمع عليه غير الضروري, فإنه لا يكون كفرا، خلافا لما يوهمه كلام بعض المتأخرين. ومما يوضح هذا المقام أن من أنكر ما عرف بالتواتر فإن لم يرجع إنكاره إلى إنكار شريعة من الشرائع كإنكاره غزوة تبوك أو وجود أبي بكر وعمر وقتل عثمان وخلافة علي وغير ذلك مما علم بالنقل ضرورة وليس في إنكاره جحد شريعة لا يكون إنكار ذلك كفراً. إذ ليس فيه أكثر من الكذب والعناد كإنكار هشام وعباد وقعة الجمل ومحاربة علي من خالفه. نعم إن اقترن بذلك اتهامه للناقلين، وهم المسلمون أجمع، كفر كما في "الشفاء" وغيره لسريانه إلى إبطال الشريعة, وليس هذا كمنكري أصل الإجماع، لأنه لا يتهم جميع المسلمين بل ولا بعضهم, وإنما ينكر اجتماعهم وتوافقهم على شيء، وإن رجع إنكاره إلى إنكار قاعدة من قواعد الدين أو حكم من أحكامه, كإنكار الخوارج حديث الرجم فإن كان لإنكارهم الرجم كفروا،

لأنه حكم من أحكام الشريعة مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة, وإن أنكروا واقعته واعترفوا بأن الرجم ثابت في هذه الشريعة بدليل آخر لم يكفروا، ما لم يقترن بذلك اتهامهم للناقلين وهم المسلمون أجمع. وإذا تدبرت هذا الذي قررته واستحضرت قواعدهم ظهر لك أنه أحق بالاعتماد والتصويب مما ذكره بعض المتأخرين وغيرهم في هذا المحل, وسيأتي بهذا المبحث زيادة تحقيق وتنقيح. وفي تعليق البغوي: من أنكر السنن الراتبة أو صلاة العيدين يكفر, والمراد إنكار مشروعيتها لأنها معلومة من الدين بالضرورة, لو أنكر هيئة الصلاة زعماً منه أنها لم ترد إلا مجملة وهذا الصفات والشروط لم ترد بنص جلي متواتر كفر أيضا إجماعا كما يؤخذ من كلام الشفاء. قال القمولي: ومن ذلك أي جحد الضروري أن يعتقد في شيء من المكوس أنه حق. قال: ويحرم تسميتها بذلك انتهى. وقضيته أن مجرد تسمية الباطل حقاً لا يطلق أنه كفر، وهو ظاهر في نحو هذه المسألة مما فيه ضرب من التأويل، وهو أخذ الإمام له على نية الزكاة, أما فيما لا تأويل فيه بوجه فينبغي أن يكون تسميته حقاً كفراً.

ومن المكفرات أيضاً أن يرضى بالكفر ولو ضمناً كأن يسأله كافر يريد الإسلام أن يلقنه كلمة الإسلام فلا يفعل, أو يقول له: اصبر حتى أفرغ من شغلي أو خطبتي لو كان خطيباً, أو كأن يشير عليه بأن لا يسلم وإن لم يكن طالباً للإسلام فيما يظهر, وكلام الحليمي الآتي قريباً قد يدل على أن إشارته عليه بأن لا يسلم إذا كانت لكونه عدوه فيشير عليه بما يكرهه، وهو الكفر، ويمنعه عما يحبه وهو الإسلام لم يكفر، وفيه نظر, والذي يظهر أنه يكفر بذلك، وإن قصد ما ذكر بأنه كان متسبباً في بقائه على الكفر، وليست هذه كمسألة الحليمي الآتية خلافاً لما توهمه؛ لأن تلك فيها مجرد تمنٍ فقط. وهذه فيها تسبب إلى البقاء على الكفر أو يشير على مسلم بأن يرتد، وإن كان مريداً للردة، كما هو ظاهر, أو يكرهه على الكفر على الأصح أو يطلب منه أو من كافر الكفر كما صرح به الإمام حيث قال في يهودي تنصر: ففي قول يطالب بالإسلام, أو العود إلى ما كان عليه, والتعبير عن هذا القول يحتاج إلا تأنق, فلا ينبغي أن يقال هو مطالب بالإسلام أو بالعود إلى التهود فإن طلب الكفر كفر. انتهى. بخلاف ما لو قال لمسلم: سلبه الله الإيمان، أو لكافر: لا رزقه الله الإيمان، فإنه لا يكون كفراً على الأصح، لأنه ليس رضاً بالكفر, وإنما هو دعاء عليه بتشديد الأمر والعقوبة عليه. هذا ما ذكره الشيخان, وأنت خبير من قولهما: لأنه ليس رضاً بالكفر إلى آخره أن محل ذلك ما إذا لم يذكر ذلك رضاً بالكفر وإلا كفر قطعاً, والذي يظهر من فحوى كلامهما أنه لو أطلق، ولم يقله على جهة الرضا بالكفر، ولا على جهة تشديد العقوبة عليه لا يكون كافراً وهو ظاهر. ولو رضي كافر بالإسلام أو أكره كافراً آخر عليه أو عزم عليه في المستقبل لم يكن بذلك مسلماً، ويفرق بما مر في العزم على الكفر والعزم على فعل كبيرة. وليس من الرضا بالكفر أن يدخل دار الحرب ويشرب معهم الخمر ويأكل لحم الخنزير؛ إذ ارتكاب كبائر المحرمات ليس كفراً ولا ينسلب بها

اسم الإيمان، بل اسم المدح كتقي أو ديّن وولي ومخلص وموفق على الإطلاق, فإذا مات فاسقاً لم يخلد في النار، خلافاً للخوارج، فأنهم يحكمون بكفره، وللمعتزلة فإنهم يقولون: إنه فاسق ليس بمؤمن ولا كافر, والفسوق عندهم منزلة بين الإيمان والكفر، ومنعا وصفه باسم مدح مما ذكر مطلقاً أو مقيداً. تنبيه: ما ذكر في مسألة عدم التلقين، وفي الإشارة هو ما نقله الشيخان في "الروضة" وأصلها عن المتولي وأقره، وهو المعتمد، وبه جزم البغوي. وأما ما في باب الغسل من المجموع من أن الصواب أنه ارتكاب معصية عظيمة، فضعيف, بل الصواب الأول، كما قاله الزركشي خلافاً لقول الأذرعي، والتصويب ظاهر في ما سوى إشارته بأن لا يسلم, وممن جزم أيضاً بالكفر في ذلك الفخر الرازي.

ونقل عن بعض العلماء أنه ينبغي له أن لا يطول المدة في كلمة لا, ليحصل الانتقال من الكفر إلى الإيمان على أسرع الوجوه. وما ذكر في مسألة: لا رزقه الله الإيمان استشكل بما إذا قال لمسلم: يا كافر بلا تأويل. ويجاب بأن الكفر ثم إنما جاء من تسمية الإسلام كفراً كما مر، وهذا ليس فيه ذلك, وبهذا يزيد اتجاه ما قدمته من أنه لو طلب ذلك رضا بالكفر كان كافراً، ويؤديه أيضاً ما دل عليه كلام الحليمي من أنه لو تمنى مسلم كفر مسلم فإن كان ذلك كما يتمنى الصديق لصديقه ما يستحسنه كفر، لأن استحسان الكفر كفر, وإن كان كما يتمنى العدو لعدوه ما يستعظمه لم يكفر, فإذا أسلم عدوه الكافر فحزن المسلم لذلك، وتمنى أنه لم يسلم وود لو عاد إلى الكفر، لا يكفر لأن استقباحه الكفر هو الذي يحمله على أن يتمناه له، واستحسانه الإسلام هو الذي يحمله على أن يكرهه له, وإنما يكون تمني الكفر كفرا على وجه الاستحسان له, وقد تمنى موسى على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين الصلاة والسلام ألا يؤمن فرعون وزاد على التمني فدعا الله بذلك بقوله: (رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) يونس/88، فلم يضره ذلك ولا عاتبه الله تعالى عليه ولا زجره عنه انتهى, لكن في الاستدلال نظر, لأن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا, ولأنه يجوز أن موسى

صلى الله على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة والسلام على عدم إيمانهم فسأله قصداً, والكلام فيمن انطوت عاقبته. وقد يجاب: بأنه وإن كان شرعاً لمن قبلنا إلا أنه لم يرد في شرعنا ما يخالفه فيكون حجة على الخلاف, وبأن الأصل في السؤال طلب حصول ما ليس بحاصل، فلا نظر للاحتمال المذكور، على أنه ورد في القصة ما يخالفه وهو أن الإجابة لم تقع إلا بعد أربعين سنة من السؤال, فقوله تعالى: (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا) يونس/89 امتنان عليهما بالإجابة، وما كان واقعاً قبل الإجابة في علم السائل لا يمتن عليه بأنه استجيب له فيه.

فإن قلت: ما تقرر أولاً في مسألة سلبه الإيمان أو: لا رزقه الله الإيمان ينافيه ما اقتضاه كلام الإحياء من أنه لو لعن كافراً معيناً في وقتنا كفر, ولا

يقال: يلعن لكونه كافراً في الحال، كما يقال للمسلم: رحمه الله لكونه مسلماً

في الحال وإن تصور أن يرتد, لأن معنى: رحمه الله، ثبته الله على الإسلام الذي هو سبب الرحمة، ولا يقال: ثبت الله الكافر على الكفر الذي هو سبب اللعنة؛ لأن هذا سؤال الكفر الذي هو سبب اللعنة وهو في نفسه كفر انتهى. قال الزركشي عقبه: فتفطن لهذه المسألة فإنها غريبة، وحكمها متجه، وقد زلّ فيه جماعة انتهى. قلت: لا منافاة لما قررته ثانياً من التفصيل الذي ينبغي أن يجري مثله هنا, كما أنه ينبغي أن يجري مثل هذا ثمَّ، فيقال: إن أراد بلعنة الله الدعاء عليه بتشديد الأمر أو أطلق لم يكفر, وإن أراد سؤال بقائه على الكفر أو الرضا ببقائه عليه كفر، وفي: سلبه الله الإيمان لمسلم، ولا رزقه الله الإيمان لكافر إن

أراد سؤال الكفر للمسلم أو البقاء عليه للكافر أو رضي بذلك كفر, وإن أراد الدعاء بتشديد العقوبة أو أطلق فلا, فتدبر ذلك حق التدبر، فإنه تفصيل متجه قضت به كلماتهم. واستشكل الفخر الرازي ما ذكر في ارتكاب الكبائر من أنه ليس كفراً بأن الأعمال عند الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه من الإيمان, فكيف لا ينتفي

عند انتفائها؟ لأن المجموع المركب من أمور إذا انتفى واحد منها لا بدّ وأن ينتفي ذلك المجموع, فإذا كان العمل داخلاً في حقيقة الإيمان فلا بد من انتفائه في حق الفاسق. وحاول ابن التلمساني الجواب فقال: والظن بالشافعي أنه لم يحكم على الفاسق بخروجه عن الإيمان، لكن لا يلزم من عدم الحكم بالخروج عن الإيمان الحكم بعدم خروجه عن الإيمان, بل من الجائز أنه لم يحكم بالخروج ولا بعدمه، وإن كان يلزم من قوله: إن الإيمان عبارة عن مجموع الأمور الثلاثة، الحكم بالخروج لكن ضمناً لا صريحاً. وأما المعتزلة, فقد طردوا أصلهم؛ لأنه لما كان العمل عندهم داخل في حقيقة الإيمان قالوا: الفاسق ليس بمؤمن ولا كافر. قال الزركشي: وهذا الجواب لا ينفع في هذا المضيق ولعل الله ييسر حله. انتهى. وأقول: قد يسر الله تعالى حله بما هو جلي وهو أن يقال في جوابه: إن الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول: الإيمان يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصها, فإن أريد الإيمان الكامل كانت الأعمال داخلة في مسماه، ولزم انتفاؤه بانتفائها أو انتفاء بعضها, وصدق حينئذ على الفاسق أنه ليس بمؤمن بهذا الاعتبار, وإن أريد الإيمان المتكفل بالنجاة من النار المشار إليه بقوله تعالى:

(أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِن الإِيمَان) فالأعمال ليست داخلة في مسماه، إذ هو التصديق بالقلب مع النطق باللسان بشرطه، فلا يلزم من انتفائها انتفاؤه, ويصدق على الفاسق أنه مؤمن من أهل الجنة، فعلم أن مبنى الأشكال على نوع من المغالطة وزيادة الإبهام, وأن الشافعي رضي الله تعالى عنه لم يقل بأن الإيمان بسائر أنواعه عبارة عن مجموع الأمور الثلاثة، أعني التصديق بالقلب والنطق باللسان والعمل بالجوارح، خلافاً لما يوهمه كلام ابن التلمساني السابق, وأنه لا يلزم على كلامه رضي الله تعالى عنه ما ذكره ابن التلمساني لا ضمناً ولا صريحاً.

واعلم أن الشيخين قالا: في كتب أصحاب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه اعتناء تام بتفصيل الأقوال والأفعال المقتضية للكفر، وأكثرها مما يقتضي إطلاق أصحابنا الموافقة عليه، واعترضهما الزركشي أخذاً من كلام شيخه الأذرعي وغيره بأن أكثرها مما يجب التوقف فيه، بل لا يوافق أصل أبي حنيفة، فإنه صحَّ عنه أنه قال: لا أكفر أحدا من أهل القبلة بذنب، ولا يجوز الإفتاء بذلك لا على مذهب الشافعي لسكوت الرافعي عنه، ولا على مذهب أبي حنيفة لأنه ذلك مخالف لعقيدته، ومن قواعده أن معنا أصلاً محققاً وهو الإيمان، فلا نرفعه إلا بيقين مثله يضاده، وغالب هذه المسائل موجودة في كتب الفتاوى للحنفية ينقلونها عن مشايخهم وكان المتورعون من متأخري الحنفية ينكرون أكثرها ويخالفونهم، ويقولون: هؤلاء لا يجوز تقليدهم لأنهم غير معروفين بالاجتهاد، ثم لم يخرّجوها على أصل أبي حنيفة؛ لأنه خلاف عقيدته، وليتنبه لهذا وليحذر من يبادر إلى التكفير في هذه المسائل منا ومنهم، فيخاف عليه أن يكفر؛ لأنه كفَّر مسلماً، ونحن لا نكفر إلا من شاق النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر ما يعلم بالضرورة من شرعه أنه من الدين انتهى. ولا يخفى عليك أن الشيخين هما الحجة وعلى ما قالاه المعوّل وإن تُعقبا بمثل هذه الكلمات. والعجب من المتعقبين لذلك والقائلين لهذه الكلمات حيث وافقوا الشيخين على أكثرها، بل وقالوا في كثير مما قال النووي وحده أو مع الرافعي أنه ليس بكفر أن الصواب أنه كفر، وستعلم ذلك جميعه إن صدق تأملك مما سأمليه

عليك مما تقر به عينك ولا تجده في كتاب غير هذا الكتاب، فإن أكثر ما مرّ وما يأتي لم أرَ أحداً تعرض له، والحمد لواهب القوى والقدرة سبحانه، عليه أتوكل، وإليه أنيب. حيث سكتا على شيء من هذه المسائل صحت نسبته لمذهب الشافعي، وجاز الإفتاء به ما لم يتفق المتأخرون على خلاف ما سكتا عليه، فحينئذ للمفتي أن يفتي بما اتفقوا عليه. وأما مذهب أبي حنيفة وكونه يقتضيها أو لا فلا شغل لنا به. فمن تلك المسائل: ما لو سخر باسم من أسماء الله تعالى، أو بأمره أو بوعده أو وعيده كذا نقلاه عنهم وأقراه وهو ظاهر جليّ، إلا أن محل ما ذكر كما يعلم مما يأتي فيمن لا يخفى عليه نسبة ذلك إليه سبحانه وتعالى ولا سيما الأسماء المشتركة فيستفسر ويعمل بتفسيره. ومنها: لو قال: لو أمرني الله بكذا لم أفعل، أو لو صارت القبلة في هذه الجهة ما صليت إليها كذا نقلاه عنهم أيضاً وأقراه، وبحث الأذرعي أنه يأتي فيهما التفصيل الآتي في إن أعطاني الله الجنة، وهو قريب وإن أمكن الفرق. ومنها: لو قال: لو أعطاني الله الجنة ما دخلتها، أقرهم الرافعي، زاد في الروضة قلت: مقتضى مذهبنا والجاري على القواعد أنه لا يكفر وهو الصواب انتهى. وفصَّل غيره بين أن يقوله استخفافاً أو إظهاراً للعناد فيكفر، وإلا فلا وهو متجه ويؤيده ما يأتي في مسألة: قلم أظفارك.

ومنها: لو قال لغيره: لا تترك الصلاة فإن الله يؤاخذك، فقال: لو آخذني الله بها مع ما فيّ من المرض والشدة ظلمني، أو قال المظلوم: هذا تقدير الله تعالى، فقال الظالم: أنا أفعل بغير تقدير كفر. ولو قال: لو شهد عندي الملائكة والأنبياء بكذا ما صدقتهم كفر، كذا نقلاه عنهم وأقراه، وهل لو قال: الملائكة فقط أو الأنبياء فقط يكفر أيضاً؟ الذي يظهر نعم؛ لأن ملحظ الكفر كما لا يخفى نسبة الأنبياء أو الملائكة إلى الكذب. فإن قلت: جرى خلاف في العصمة؟ قلت: أجمعوا على العصمة من الكذب ونحوه، والذي يظهر أيضاً أنه لو قال: الرسل بدل الأنبياء كان كذلك، وهل قوله: لو شهد عندي جميع المسلمين ما صدقتهم كذلك أو لا؟ الذي يظهر: نعم، لما مرّ من أن الشرع دل على عصمتهم من الاتفاق على الكذب. ومنها: لو قيل له: قلم أظفارك فإنه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا أفعل وإن كان سنة كفر، أقرهم الرافعي، زاد النووي في الروضة: المختار أنه لا يكفر بهذا إلا أن يقصد الاستهزاء انتهى. وما اختاره متعين، وكقص الأظفار حلق الرأس كما صرّح به الرافعي عنهم وأقرهم لكن محله إن كان في نسك، وإلا فلا، لاختلاف العلماء في كراهته.

ومنها: قال الشيخان عنهم: واختلفوا فيما لو قال: فلان في عيني، كاليهودي والنصراني في عين الله أو بين يدي الله تعالى، فمنهم من قال: هو كفر، ومنهم من قال: إن أراد الجارحة كفر، وإلا فلا. قالوا: ولو قال: إن الله تعالى جلس للإنصاف أو قام للإنصاف فهو كفر. واختلفوا فيما إذا قال طالب اليمين خصمه، وقد أراد الخصم أن يحلف بالله تعالى: لا أريد الحلف بالله تعالى، إنما أريد الحلف بالطلاق والعتاق، والصحيح أنه لا يكفر. واختلفوا فيمن ينادي رجلاً اسمه عبد الله وأدخل في آخره الكاف التي تدخل للتصغير بالعجمية، فقيل: يكفر، وقيل: إن تعمد التصغير كفر، وإن كان جاهلاً لا يدري ما يقول أو لم يكن له قصد لا يكفر. واختلفوا فيمن قال: رؤيتي إياك كرؤية ملك الموت، وأكثرهم على أنه لا يكفر انتهى كلام الشيخين رحمهما الله تعالى. والمشهور من المذهب كما قاله جمع متأخرون أن المجسمة لا يكفرون، لكن أطلق في المجموع تكفيرهم، وينبغي حمل الأول على ما إذا قالوا: جسم لا كالأجسام. والثاني على ما إذا قالوا: جسم كالأجسام، لأن النقص اللازم على الأول قد لا يلتزمونه، ومرّ أن لازم المذهب غير مذهب، بخلاف الثاني فإنه صريح في الحدوث والتركيب والألوان والاتصال فيكون كفراً؛ لأنه أثبت للقديم ما هو

منفي عنه بالإجماع، وما علم من الدين بالضرورة انتفاؤه عنه ولا ينبغي التوقف في ذلك، وبذلك يعلم أنه لا يطلق الكفر ولا عدمه في مسألة فلان في عيني إلى آخره ومسألة القيام والجلوس المذكورين والتفصيل المنقول في مسألة التصغير هو الذي يتجه، والأوجه ما قاله أكثرهم في مسألة رؤية ملك الموت. ومنها: قال الرافعي عنهم: قالوا: ولو قرأ القرآن على ضرب الدف والقضيب أو قيل له: تعلم الغيب؟ فقال: نعم فهو كفر. واختلفوا فيمن خرج لسفر فصاح العقعق فرجع هل يكفر انتهى. زاد في الروضة: قلت: الصواب أنه لا يكفر في المسائل الثلاث انتهى. واعترض تصويبه في الثانية لتضمن قوله: نعم، تكذيب النص وهو قوله تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ) الأنعام/59. وقوله عز وجل: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا *إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) الجن/26 - 27. ولم يستثن الله غير الرسول. ويجاب بأن قوله ذلك لا ينافي النص، ولا يتضمن تكذيبه لصدقه بكونه يعلم الغيب في قضيته، وهذا ليس خاصاً بالرسل، بل يمكن وجوده لغيرهم من الصديقين على أن في الآية الثانية قولاً أن الاستثناء منقطع، فيكون الرسل كغيرهم، وعلى كل فالخواص يجوز أن يعلموا الغيب في قضية أو قضايا كما وقع لكثير منهم واشتهر، والذي اختص تعالى به إنما هو علم الجميع وعلم مفاتح الغيب المشار إليه بقوله تعالى: (إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) الآية. لقمان/34.

وينتج من هذا التقرير أن من ادعى علم الغيب في قضية أو قضايا لا يكفر،

وهو محمل ما في الروضة، ومن ادعى علمه في سائر القضايا كفر، وهو محمل ما في أصلها إلا أن عبارته لما كانت مطلقة تشمل هذا وغيره ساغ للنووي الاعتراض عليه، فإن أطلق فلم يرد شيئاً، فالأوجه ما اقتضاه كلام النووي من عدم الكفر، ثم رأيت الأذرعي قال: والظاهر عدم كفره عند الإطلاق في جميع الصور سوى مسألة علم الغيب انتهى. ومراده بجميع الصور: مسألة الطالب ليمين خصمه وما بعدها، وما ذكره في الإطلاق وفي مسألة علم الغيب فيه نظر ظاهر، بل الأوجه ما قدمته من عدم الكفر. ومنها: قوله لو كان فلان نبياً ما آمنت به، وقوله: إن كان ما قاله الأنبياء صدقاً نجونا فيكفر، كذا أقراه. قال الإسنوي: الذي شاهدته بخط المصنف

آمنت بدون "ما" النافية قبلها وهو كذلك في بعض نسخ الرافعي وفي بعضها ما آمنت بإثبات "ما" وهو الصواب انتهى. وما ذكر أنه الصواب ظاهر، ويفرق بينهما بأن الأول فيه تعليق الإيمان به على تعليق كونه نبياً وهو تعليق صحيح لما فيه من تعظيم مرتبة النبوة، وفي الثانية تعليق عدم الإيمان به على كونه نبياً ففيه تنقيص لمرتبة النبوة، حيث أراد تكذيبها على تقدير وجودها، وهذا فرق صحيح لا غبار عليه، والذي يظهر أنه لو قال: إن كان ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم الفلاني صدقاً نجوت أو كفر مكذبه أو نحو ذلك يكون كفراً أيضاً، ولا يشترط ذكر جميع الأنبياء ولا أن يكون ما قاله ذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقطع بأنه عن وحي. فإن قلت: للأنبياء الاجتهاد، وجرى قول في أنه يجوز عليهم الخطأ في الاجتهاد، فإذا قال ذلك في شيء يحتمل كونه ناشئا عن اجتهاد لا وحي كيف يكفر به؟ قلت: القول بعدم الكفر حينئذ وإن كان له نوع من الظهور، لكن القول بالكفر أظهر؛ لأن الإتيان بـ "إن" التي هي للشك والتردد في هذا المقام يشعر بتردده في تطرق الكذب إلى ذلك النبي، وهذا كفر، على أن القول بجواز الخطأ عليهم في اجتهادهم قول بعيد مهجور فلا يلتفت إليه، وعلى التنزل فقوله: إن كان صدقاً يدل كما تقرر على تردد في الكذب وهو غير الخطأ، لأن الخطأ هو ذكر خلاف الواقع مع عدم التعمد بخلاف الكذب، فإنه يدل شرعاً على الإخبار بخلاف الواقع تعمداً فنتج الكفر بذلك، وإن قلنا بهذا القول البعيد المهجور، لأن قوله: إن كان صدقاً لا ينافي بناءه عليه لما تقرر واتضح ولله الحمد. ومنها: قوله لا أدري أكان النبي صلى الله عليه وسلم إنسياً أم جنياً أو قال: إنه جُنّ أو صغر عضواً من أعضائه على طريق الإهانة، كذا أقراه، واعترضا بأن الحليمي صرّح بخلاف ذلك في الأولى حيث قال: من آمن به عليه الصلاة والسلام وقال: لا أدري أكان بشراً أم ملكاً أم جنياً لم يضره ذلك إن كان ممن لم يسمع شيئاً من

أخباره صلى الله عليه وسلم سوى أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لو لم يعلم أنه كان شاباً أو شيخاً مكياً أو عراقياً عربياً أو عجمياً، لأن شيئاً من ذلك لا ينافي الرسالة لإمكان اجتماعهما بخلاف من قال: آمنت بالله ولا أدري أهو جسم أم لا؛ لأن الجسم لا يمكن أن يكون إلها انتهى. وفي أمالي الشيخ عز الدين عن أبي حنيفة أن من قال: أؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وأشك في أنه المدفون بالمدينة وأنه الذي نشأ بمكة، أو أؤمن بالحج إلى البيت وشك في أنه البيت الذي بمكة لا يكون كافراً في جميع ذلك. قال الشيخ: والحق التفصيل فنكفره في البيت دون ما عداه وذلك لأنه لا يكون كافراً إلا بما علم أنه من الدين بالضرورة لا بما علم سواء أكان من الدين أو لا، وكون النبي صلى الله عليه وسلم مدفوناً بالمدينة ونشأ بمكة أمر معلوم بالضرورة ولكنه ليس من الدين بالضرورة، لأنا لم نتعبد به فيكون جاحده كجاحد بغداد ومصر فإنه يكون كاذباً لا كافراً، وأما البيت فإن الأمة أجمعت على التكليف بعين هذا البيت ومتعلقه من الدين، لأنه إما شرط في الحج أو ركن فيه، وأيا ما كان يكون من الدين فجاحده يكون جاحداً لما علم من الدين بالضرورة فيكون كافراً انتهى. وسيأتي عن الروضة عن القاضي عياض ما يردّ كلامه كما ستعلمه، وجزم بعض المتأخرين بتكفير من اعترف بوجوب الحج، ولكن قال: لا أدري أين مكة ولا أين الكعبة ولا أين البلد الذي يستقبله الناس ويحجونه، هل هي البلدة التي حجها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ووصف الله تعالى في كتابه لأنه مكذب إلا أن يكون هذا الشخص قريب العهد بالإسلام ولم يتواتر بعد عنده. قال: ولسنا نكفره لإنكاره التواتر، فإنه لو أنكر بعض غزوات النبي صلى الله عليه وسلم أو نكاحه بنت عمر

أو وجود أبي بكر وخلافته لم يلزم منه كفر، لأنه ليس مكذباً بأصل من أصول الدين يجب التصديق به، بخلاف الحج والصلاة وأركان الإسلام انتهى. وأنت خبير من قول الحليمي إن كان لم يسمع شيئاً من أخباره صلى الله عليه وسلم ومما يأتي ثم، ومن قول هذا المتأخر إلا أن يكون هذا الشخص قريب العهد بالإسلام، ولم يتواتر بعد عنده أن محل ما قاله الشيخان من تكفير من قال: لا أدري أكان النبي إنسيا أو جنياً فيمن هو مخالط للمسلمين، لأن قوله ذلك ينبئ عن تكذيبه للقرآن والسنة والإجماع بخلاف قريب العهد الذي لم يكن مخالطاً للمسلمين، فإنه لا يكفر بالتردد في شيء مما مرّ ولا بإنكاره، كما يؤخذ مما يأتي عن الروضة عن القاضي عياض لعذره، وهل قول المخالط للمسلمين لا أدري أكان شيخاً أو شابا، ً مكياً أو عراقياً، عربياً أو عجميا، ً أو أنه الذي نشأ بمكة أو دفن بالمدينة يتأتى فيه التفصيل، أو لا يكفر به مطلقاً؟ للنظر فيه مجال، وقضية كلام الحليمي الأول وقضية كلام ابن عبد السلام الثاني، وقد يوجه بأن التردد في ذلك لا يترتب عليه تكذيب القرآن بخلاف التردد في كونه إنسياً أم جنياً. فإن قلت: ينافي ذلك ما سيأتي عن الروضة عن القاضي عياض أن من قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أسود أو توفي قبل أن يلتحي أو قال: ليس بقرشي كفر لأنه وصفه بغير صفته ففيه تكذيب له.

قلت: يمكن الفرق بأنه هنا لم يجزم بذلك، وإنما تردد فيه بخلافه ثم فإنه جزم بذلك، وجزمه يستلزم التكذيب لمن هو بغير تلك الصفة، بخلاف التردد في ذلك، ومن ثم لو جزم بما ذكر هنا كان كافراً قياساً على ذلك، لكن سيعلم مما يأتي ثم أن الأوجه أنه حيث كان مخالطاً للمسلمين حتى ظن به علم ذلك كفر بإنكار ذلك وبالتردد فيه. ومنها: قال الشيخان عنهم: واختلفوا فيما لو قال كان أي: النبي صلى الله عليه وسلم طويل الظفر، واختلفوا فيمن صلى بغير وضوء متعمداً أو مع ثوب نجس أو إلى غير القبلة، زاد في الروضة: قلت: مذهبنا ومذهب الجمهور لا يكفر إن لم يستحله. انتهى، واعترضه الإسنوي وغيره بأنه لا ينبغي أن يكفر وإن استحل ذلك، لما نقله في المجموع عن جمع من المجتهدين أن إزالة النجاسة

في الصلاة سنة لا واجبة، والاعتراض متجه للخلاف المذكور، بل ذلك قول مشهور في مذهب مالك فليس مجمعاً عليه فضلاً عن كونه معلوماً من الدين بالضرورة. قال الأذرعي: وينبغي أن يستثني أيضاً صلاة الجنازة فقد ذهب الشعبي

وغيره من السلف إلى جوازها بغير وضوء، ونسب للشافعي رضي الله تعالى عنه وإن كان غلطاً، ولم يتعرض الشيخان ولا غيرهما فيما رأيت للراجح في المسألة الأولى أعني قوله: طويل الأظفار، والذي يظهر أنه إن قال ذلك احتقاراً له صلى الله عليه وسلم واستهزاء به أو على جهة نسبة النقص إليه كفر، وإلا فلا ويعزر التعزيز الشديد. ومنها: لو تنازع اثنان فقال أحدهما: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال الآخر: لا حول لا تغني من جوع، كفر، ولو سمع أذان المؤذن فقال: إنه يكذب كفر، أو قال: وهو يتعاطى قدح الخمر أو يقدم على الزنا: بسم الله استخفافا باسم الله تعالى كفر، كذا أقراه، واعترضا بأن أبا حنيفة صح عنه أنه قال: لا أكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، وهذا الاعتراض في غاية السقوط، أما أولاً فلأنا وإن سلمنا أن أبا حنيفة وإن صرح بكونه غير كفر كذا لا ينظر إليه؛ لأن الشيخين -وكفى بهما حجة- رضياه، وأما ثانياً فإن كلام أبي حنيفة لا ينافي ذلك، لما مر من أن الاستخفاف بنحو أمره تعالى أو تصغير اسمه كفر عندهم، فأوّلى الاستخفاف باسمه على أن قول أبي حنيفة المذكور ليس من خواص مذهبه، بل مذهبنا كذلك أيضا، والتكفير هنا لم يأت من حيث ارتكابه لذنب، بل من حيث استخفافه باسم الله تعالى المستلزم للاستخفاف به تعالى، وهذا لا يتوقف أحد في التكفير به.

ومنها: لو قال: لا أخاف القيامة، كفر، كذا أقراه، ومحله إن قصد الاستهزاء. أما إذا أطلق أو لمح سعة عفو الله تعالى ورحمته وقوة رجائه فلا يكفر. ومنها: قالا عنهم: واختلفوا فيما لو وضع متاعه في موضع، وقال: سلمته إلى الله تعالى، فقال له آخر: سلمته إلى من لا يتبع السارق إذا سرق، ولم يرجحا شيئا، والذي يظهر أنه إن قال ذلك على جهة نسبة العجز إليه سبحانه وتعالى كفر، وإن أراد سعة حلمه تعالى على السارق، أو أطلق لم يكفر، ثم رأيت الأذرعي قال: الظاهر أنه لا يكفر عند الإطلاق، وقوله: لا يتبع السارق أي لستره إياه ونحو ذلك، نعم إن ظهرت منه قرينة استخفاف فالتكفير ظاهر انتهى. ومنها: لو حضر جماعة وجلس أحدهم على مكان رفيع تشبيهاً بالمذكرين فسألوا المسائل وهم يضحكون ثم يضربونه بالمجراف، أو تشبيها بالمعلمين فأخذ خشبة وجلس القوم حوله كالصبيان فضحكوا واستهزؤوا، أو قال: قصعة من ثريد خير من العلم كفر. زاد في الروضة قلت: الصواب أنه لا يكفر في مسألتي التشبيه انتهى. ولا يغتر بذلك وإن فعله أكثر الناس حتى من له نسبة إلى العلم، فإنه يصير مرتداً على قول جماعة، وكفى بهذا خساراً وتفريطاً. وظاهر كلام النووي رحمه الله تعالى التقرير على المسألة الثالثة، ولا يبعد أن يقيد بما إذا قصد الاستهزاء بالعلم بسائر أنواعه، أو أراد أنها خير من كل علم، لشموله العلم بالله وصفاته وأحكامه. أما لو أراد العلوم التي لا تتعلق بالله تعالى وصفاته وأحكامه، فلا ينبغي أن يكون ذلك كفراً لأنه لا يلزم عليه الاستهزاء بالدين ولا تنقيصه، بخلاف ما إذا أطلق أو أراد العلم المتعلق بالله أو بصفاته أو بأحكامه لأن ذلك نص في الاستهزاء بالعلم وبالدين فكان كفراً.

ومنها: ما لو دام مرضه واشتد فقال: إن شئت توفيتني مسلما وإن شئت توفيتني كافراً كفر، وكذا لو ابتلي بمصائب فقال: أخذت مالي وأخذت ولدي وكذا وكذا وماذا تفعل أيضاً، أو ماذا بقي لم تفعله، ووجه الأول ما مرّ من أن تمني الكفر والرضا به كفر، ووجه الثاني نسبة الله سبحانه وتعالى إلى الجور. ومنها: لو غضب على غلامه أو ولده فضربه ضرباً شديداً، فقال له رجل: لست بمسلم فقال: لا، متعمداً كفر، ولو قيل له: يا يهودي يا مجوسي، فقال: لبيك، كفر، زاد النووي عفا الله تعالى عنه قلت: في هذا نظر إذا لم ينو شيئاً انتهى، والنظر واضح، والأوجه أنه إن نوى إجابته أو أطلق لم يكفر، وإن قال ذلك على جهة الرضا بما نسبه إليه كفر، ثم رأيت الأذرعي قال: والظاهر أنه لا يكفر إذا لم ينو غير إجابة الداعي، ولا يريد الداعي بذلك حقيقة الكلام، بل هو كلام يصدر من العامي على سبيل السبَّ والشتم للمدعو، ويريد المدعو إجابة دعائه بلبيك طلباً لمرضاته انتهى. ومنها: لو أسلم كافر فأعطاه الناس أموالاً، فقال مسلم: ليتني كنت كافراً فأسلم فأُعطى. قال بعض المشايخ: يكفر. زاد النووي عفا الله عنه. قلت: في هذا نظر؛ لأنه جازم بالإسلام في الحال والاستقبال وثبت في أحاديث صحيحة في قصة أسامة رضي الله عنه حين قتل من نطق بالشهادتين فقال له صلى الله عليه وسلم: (كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال: "حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ

يومئذ". ويمكن الفرق بينهما انتهى. وما أشار إليه أخيراً من الفرق بين الصورتين هو الظاهر المعتمد، فإن ما هنا فيه تصريح بتمني الكفر للدنيا، وأما أسامة رضي الله عنه فلم يتمنه، وإنما ودّ أنه لم يكن أسلم إلا ذلك اليوم حتى إنه لم يكن يقتله لأنه لم يكن حزيناً عليه، أو أن الإسلام يَجُبّ ما قبله فيسلم من تلك المعصية العظيمة، وليس في ذلك شهوة الكفر ولا تمنيه فيما مضى البتة، لأن سبب ودّه ما تقرر، وكأنه استصغر ما كان منه من الإسلام والعمل الصالح قبل ذلك في جنب ما ارتكبه من تلك الجناية، لما حصل في نفسه من شدة إنكار النبي صلى الله عليه وسلم وغضبه. ومنها: قال الشيخان نقلاً عنهم: لو تمنى أن لا يحرم الله الخمر، وأن لا يحرم الله المناكحة بين الأخ والأخت لا يكفر، ولو تمنى أن لا يحرّم الله تعالى الظلم أو الزنا أو قتل النفس بغير حق كفر، والضابط أن ما كان حلالاً في زمان فتمنى حله لا يكفر، لو شد الزنار على وسطه كفر، واختلفوا فيمن وضع قلنسوة المجوس على رأسه. والصحيح أنه لا يكفر، ولو شد على وسطه حبلاً فسئل عنه فقال: هذا زنار فالأكثرون على أنه لا يكفر، ولو شدّ على وسطه زناراً ودخل دار الحرب للتجارة كفر، وإن دخل لتخليص الأسرى لم يكفر، زاد في الروضة، قلت: الصواب أنه لا يكفر في مسألة التمني وما بعدها إذا لم تكن نية انتهى.

أي فحيث لم ينوِ بتمنيه ذلك جميعه سواء أكان حلالاً في ملة أم لا ما يجر إلى الكفر من نسبة الله سبحانه وتعالى إلى الجور وعدم العدل ونحو ذلك بتحريمه ذلك علينا لم يكفر وإلا كفر، وتمني تغيير الأحكام، حرام كما صرّح به الشافعي رضي الله تعالى عنه في الأم، وحيث لبس زي الكفار سواء دخل دار الحرب أم لا بنية الرضا بدينهم، أو الميل إليه أو تهاوناً بالإسلام كفر وإلا فلا، واعترض ما ذكره النووي في مسألة زي الكفار بأن القاضي حسيناً نقل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه لو سجد لصنم في دار الحرب لم يحكم بردته وإن لبس زي الكفار في دار الإسلام حكم بردته، ونقل في المطلب عن القاضي الارتداد في المسألتين؛ لأن الظاهر أنه لا يفعله إلا عن عقيدة، ويجاب بحمل هذا الإطلاق على التفصيل الذي أشار إليه النووي، وقد بينته، وقولي فيه: أو تهاوناً بالإسلام هو ما صرح به الخوارزمي في "كافيه" حيث قال: لو وضع على رأسه غيار أهل الذمة تهاوناً بالإسلام صار كافراً انتهى. وفهم ابن الرفعة من قول الرافعي السابق، والصحيح أنه إشارة إلى وجه في القلنسوة وليس كما فهم، فإن الرافعي إنما حكى الخلاف فيه عن الحنفية وهذه الفروع كلها من كتبهم، ولم ينقل منها شيئاً عن الأصحاب.

قال الأذرعي: وأعلم أن أكثر العامة يسمون ما يشد به الإنسان وسطه من حبل ونحوه زناراً، ولا يتخيل في إطلاق هذا منهم كفر انتهى. ومنها: قال الشيخان عنهم: لو قال: معلم الصبيان اليهود خير من المسلمين بكثير؛ لأنهم يقضون حقوق معلمي صبيانهم كفر، قالوا: ولو قال: النصرانية خير من المجوسية كفر، ولو قال: المجوسية شر من النصرانية لا يكفر، زاد النووي: قلت: الصواب لا يكفر بقوله: النصرانية خير من المجوسية إلا أن يريد أنها دين حق اليوم انتهى. وظاهر كلامه تقرير الرافعي على تقريره لهم في كفر المعلم، لكن ينبغي أن محله ما إذا قصد الخيرية المطلقة فإن أراد الخيرية في الإحسان للمعلم ومراعاته لم يكفر، وإن أطلق فهو محل نظر، والأقرب عدم الكفر. ومنها: قالا عنهم: قالوا: لو عطس السلطان، فقال له رجل: يرحمك الله، فقال آخر: لا تقل للسلطان هذا، كفر الآخر، زاد النووي قلت: الصواب لا يكفر بمجرد هذا انتهى، ووجهه أنه إنما أنكر عليه من حيث عدم تعظيمه للسلطان، بل هذا هو الظاهر، فإن كان الإنكار من حيث إن السلطان غني عن الرحمة أو نحو ذلك كان كفراً كما لا يخفى. ومنها: قالوا: لو سقى فاسق ولده خمراً فنثر قرناؤه الدراهم والسكر كفروا. قال: قلت: الصواب أنهم لا يكفرون. ومنها: لو قيل لعبد صلِّ، فقال: لا أُصلي، فإن الثواب يكون لمولاي كفر، أقرهم الرافعي وفيه نظر، ولا يبعد أن الصواب أنه لا يكفر إلا إن قصد مع ذلك الذي اعتقده نسبة الله تعالى إلى الجور أو نحو ذلك.

ومنها: قالا عنهم: قالوا: ولو قال كافر لمسلم: اعرض عليَّ الإسلام، فقال: حتى أرى أو اصبر إلى الغد، أو طلب عرض الإسلام من واعظ، فقال: اجلس إلى آخر المجلس، كفر، وقد حكينا نظيره عن المتولي، قالوا: ولو قال لعدوه: لو كان نبياً لم أؤمن به، أو قال: لم يكن أبو بكر الصديق رضي الله عنه من الصحابة كفر. قالوا: ولو قيل لرجل: ما الإيمان؟ فقال: لا أدري، كفر، ولو قال لزوجته: أنت أحب إليَّ من الله تعالى كفر. وهذه الصور تتبعوا فيها الألفاظ الواقعة في كلام الناس وأجابوا فيها اتفاقاً واختلافاً بما ذكر، ومذهبنا يقتضي موافقتهم في بعضها، وفي بعضها يشترط وقوع اللفظ في معرض الاستهزاء انتهى كلام الشيخين. وقد قدمنا ما يحتاج إلى التنبيه عليه حكماً وتفصيلاً، ونقداً وردّاً، واتفاقاً واختلافاً في جميع المسائل السابقة ولله الحمد. وبقي الكلام في هذه المسائل الأخيرة، فأما مسألة تأخير عرض الإيمان فقد مرَّ تحقيقها عند ذكر كلام المتولي، وأما مسألة لو كان نبياً لم أؤمن به، فقد مرَّت أيضاً والتكفير فيها واضح؛ لأنه رضي بتكذيب النبي، وأما ما قالوه في إنكار صحبة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فظاهر، بل ليس ذلك من خصوصياتهم حيث ينقل عنهم فقط، فقد نص عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه كما حكاه العبادي

وحكاه أيضاً الخوارزمي في كافيه، وعبارته: لو أنكر كون أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه صحابياً كان كافراً، نص عليه الشافعي رضي الله عنه لأن الله تعالى قال: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ) التوبة/40. وصريح كلامهم أن إنكار صحبة غير أبي بكر رضي الله عنه لا يكون كفراً، لكن اختار بعضهم أن إنكار صحبة غيره المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة كفر. ويجاب بأن شرط إنكار المجمع عليه الضروري أن يرجع إلى تكذيب أمر يتعلق بالشرع، كما في إنكار مكة بخلاف إنكار ما لا يتعلق بذلك كما مر ذلك مستوفى، وإنكار صحبة غير أبي بكر لا يتعلق به ذلك بخلاف إنكار صحبة أبي بكر؛ لأن فيها تكذيبا للقرآن، وقد مرَّ ما يؤيد ذلك، ويأتي ما يؤيده أيضاً. قال في الكافي أيضاً: ولو قذف عائشة رضي الله عنها صار كافراَ بخلاف غيرها من الزوجات؛ لأن القرآن الكريم نزل ببراءتها انتهى.

وأما ما قالوه فيمن قال له: ما الإيمان إلى آخره؟ فاعترض بأن الصواب مخالفتهم فيه، لأن كثيراً من العوام جبلت فطرتهم على الإيمان ولا ينقدح لهم عبارة عنه، وقد قال الغزالي في كتابه التفرقة: ذهبت طائفة إلى تكفير عوام المسلمين لعدم معرفتهم أصول العقائد بأدلتها، وهو بعيد نقلاً وعقلاً، وليس للإيمان عبارة عما اصطلح عليه النظار، بل نور يقذفه الله تعالى في القلب لا يمكن التعبير عنه كما قال تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) الأنعام/125. وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من تكلم بلفظ التوحيد أجري عليه أحكام المسلمين، فثبت أن مأخذ التكفير من الشرع لا من العقل؛ لأن الحكم بإباحة الدم والخلود في النار شرعي لا عقلي خلافاً لما ظنه بعض الناس. وبقي في الرافعي فروع أُخرى مما نقله عن الحنفية حذفها من الروضة؛ لأنها بالفارسية، وقد نقل القمولي تعريبها عن بعض فقهاء الأعاجم، فنذكر تعريبها معقبين كلا منها بما يقيده أو يضعفه أو يوضحه. فمنها: لو قال: عمل الله في حقي كل خير وعمل الشر مني كفر، ونظر فيه الرافعي بقوله: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) النساء/79. والنظر واضح حيث أطلق أو قصد أنه يخلق أفعال نفسه بالمعنى الذي تقوله المعتزلة، أما إن أراد استقلاله بالخلق، فلا شك في كفره. ومنها: لو قال لزوجته: أنت ما تؤدين حق الجار. فقالت: لا. فقال: أنت ما تؤدين حق الله. فقالت: لا كفرت انتهى، والوجه خلافه إلا إن أرادت بذلك جحد سائر الواجبات. ومنها: لو قال جواباً لمن قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل لحس أصابعه، هذا غير أدب، كفر، وقد يوجه بأن هذا إنكار لسنة لعق الأصابع ورغبة

عنها، فيأتي فيه ما مرّ فيمن قيل له: قصّ أظفارك فقال: لا أفعل، رغبة عن السنة. ومنها: لو قال جواباً لمن قال: فلان بين يدي الله: يد الله طويلة، فقيل: يكفر. وقيل: إن أراد الجارحة كفر، وإلا فلا. وقد مر الكلام في المجسمة فيأتي هنا إن أراد الجارحة، أما لو أطلق، أو لم يردها فلا يكفر. ومنها: لو قال: الله في السماء فقيل: يكفر، وقيل: لا، وقد مرَّ أن القائلين بالجهة لا يكفرون على الصحيح، نعم إن اعتقدوا لازم قولهم من الحدوث أو غيره كفروا إجماعاً. ومنها: لو قال: الله ينظر من السماء أو من العرش أو الله يظلمك كما ظلمتني كان حكمه كسابقه، أما في غير الآخرة فواضح لأنه مجسم أو جهوي، وأما في الأخيرة فالكفر فيها واضح، نعم. إن أول تأويلاً قريباً احتمل أن يقال بعدم كفره.

ومنها: لو قال: الله يعلم أني دائماً أذكرك بالدعاء أو أني بحزنك وفرحك مثل ما أنا بحزني وفرحي، أو قال لمن قال له: ألا تقرأ القرآن أو ألا تصلي؟: إني شبعت من القرآن أو من فعل الصلاة أو: إلى متى أعمل هذا؟ أو العجائز يصلون عنا أو الصلاة المعمولة وغير المعمولة واحد، أو صليت إلى أن ضاق قلبي أو قال لمن قال له: صل حتى تجد حلاوة الصلاة: صل أنت حتى تجد حلاوة ترك الصلاة، أو قال وهو قن: لا أصلي فإن الثواب لمولاي وفي الحكم بالكفر في جميع هذه المسائل نظر، والأوجه خلافه ما لم يرد بقوله: العجائز يصلون عنا أو بقوله: المعمولة وغير المعمولة واحد عدم وجوبها عليه، لما مرّ أن إنكار الصلاة أو نحو سجدة منها كفر. ولو أراد الاستخفاف بشيء مما قاله في المسائل كلها كفر. ومنها: لو قال لمحوقل: لا حول أي شيء يكون؟ أو أي شيء يعمل؟ كفر، والكفر له وجه قياساً على ما مرّ في: لا حول لا يغني من جوع إلا أن يفرق بأن تلك أقبح. ومنها: لو قال عند سماع المؤذن: هذا صوت الجرس كفر، وفيه نظر، والأوجه خلافه إلى إن أراد تشبيه الأذان بناقوس الكفر. ومنها: لو قال ظالم لمن قال له: اصبر إلى المحشر: أي شيء في المحشر؟ كفر وهو ظاهر إن أراد به الاستخفاف.

ومنها: لو قالت لزوجها وقد رجع من مجلس العلم: لعنة الله على كل عالم كفرت، وفيه نظر، والأوجه خلافه ما لم ترد الاستغراق الشامل لأحد من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. ومنها: لو ألقى فتوى أعطاها له خصمه وقال: أي شيء هذا الشرع كفر وهو ظاهر إن أراد الاستخفاف، ويحتمل الإطلاق لأن قرينة رميها تدل على الاستخفاف. ومنها: ما لو قالت لزوجها وقد قال لها: يا كافرة: أنا كما قلت، وهو ظاهر، ولا يتأتى فيه التفصيل فيمن أجاب من ناداه بيا يهودي كما هو ظاهر. ومنها: لو قال لمن قال له وهو يرتكب الصغائر: تب إلى الله تعالى: أي شيء عملت حتى أتوب كفر، وفيه نظر ظاهر فالأوجه خلافه. ومنها: لو قال: فلان كافر وهو أكفر مني كفر وهو ظاهر؛ لأنه أقر بالكفر على نفسه. ومنها: لو قال لمحوقل: لا حول لا يسير في الزبدية، أو العلم لا يسير فيهم بريداً, أو قال لمن أمره بحضور مجلس العلم: أي شي اعمل بمجلس العلم؟ أو قال: اذهب اعمل بالعلم، العلم في الزبدية, أو قال في حق فقيه: هذا هوسي، وفي إطلاق الكفر بجميع ذلك نظر فالأوجه أنه لا كفر عند الإطلاق.

تعليق المؤلف على أحد كتب الأحناف في هذا الباب وفيه زيادات

وبعد أن أكملت هذا التأليف رأيت كتاباً مؤلفا في هذا الباب لبعض الحنفية ساق فيه جميع ما مرّ عن الحنفية وزيادات كثيرة فأحببت ذكرها في هذا

المحل تتميماً للفائدة، فإنها اشتملت على غرائب وعجائب من ذكر كثير من محاورات الناس في حيز المكفرات، وفي هذا التأليف تسامح فإنه جعله ثلاثة فصول: فصلاً في الألفاظ المتفق على أنها كفر، وفصلاً في ألفاظ اختلف فيها، وفصلاً في ألفاظ يخشى على من تكلم بها الكفر، وحكى في الفصل الأول كثيراً من المسائل التي مرّ أن الحنفية اختلفوا في أنها كفر أو لا. وفي الفصل الثاني ما أجمع على أنه كفر. وفي الثالث ما هو ظاهر في الكفر على قواعدهم، وستعلم ما في كل ذلك من سياقي لغالب ما فيه وإن مرّ بعضه متعقباً كلاً من مسائله بما يبين ما فيه وأن القواعد توافقه أو تخالفه.

فمن مسائل الفصل الأول المعقود للمتفق على أنه كفر في زعمه: أن من تلفظ بلفظ الكفر يكفر وإن لم يعتقد أنه كفر ولا يعذر بالجهل، وكذا كل من ضحك عليه أو استحسنه أو رضي به يكفر انتهى، وإطلاقه الكفر حينئذ مع الجهل وعدم العذر به بعيد. وعندنا إن كان بعيد الدار عن المسلمين بحيث لا ينسب لتقصير في تركه المجيء إلى دارهم للتعلم أو كان قريب العهد بالإسلام يعذر بجهله فيعرّف الصواب، فإن رجع إلى ما قاله بعد ذلك كفر، وكذا يقال فيمن استحسن ذلك أو رضي به. قال: ومن أتى بلفظ الكفر حبط عمله وتقع الفرقة بين الزوجين ويجدد النكاح برضا الزوجة إن كان الكفر من الزوج، وإن كان من الزوجة تجبر على النكاح وهذا بعد تجديد الإيمان والتبرؤ من لفظ الكفر حتى أن من أتى بالشهادة عادة ولم يرجع عما قال لا يرتفع الكفر عنه، ويكون وطؤه زنا، وولده ولد زنا، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه لو مات على الكفر حبط عمله، ولو ندم وجدد الإيمان لم يحبط عمله ولا يلزمه تجديد النكاح، ولو صلى صلاة الوقت ثم أسلم لم يقضها، وعندنا يقضيها وكذا الحج، فلو أتى بكلمة فجرى على لسانه كلمة الكفر بلا قصد لا يكفر. انتهى. وما ذكره من الخلاف في إحباط العمل عندنا وعندهم محله في قضاء ما

سبق زمن الردَّة، فعندهم يجب، وعندنا لا يجب لقوله تعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) البقرة/217. فقيد الإحباط بالموت على الردة، وبه يتقيد إحباط العمل بالردة في الآية الأخرى وهي قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) المائدة/5. للقاعدة الأصولية أن المطلق يحمل على المقيد لا يقال: التقييد بالموت على الردة في الآية الأولى إنما هو لأجل قوله: (وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة/217. لأنا نقول: كونه قيداً في إحباط العمل محقق، وأما جعله قيداً لما بعده فهو محتمل، فأخذنا بالمحقق وتركنا المحتمل، على أن الآية الثانية فيها التصريح بالتقييد بالموت من جهة أنه حكم على من كفر بالإيمان بأنه يحبط عمله، وبأنه في الآخرة من الخاسرين، وهذا مستلزم لموته على الكفر، إذ لو أسلم ومات مسلماً لم يقل في حقه: إنه في الآخرة من الخاسرين، وإنما يقال ذلك للكافر فقط، كما يشهد له استقراء النصوص، ومن ادعى خلافه فعليه البيان، أما بالنسبة لثواب أعماله التي سبقت الردة فإنه يحبط اتفاقاً منا ومنهم، أما عندهم فواضح؛ لأنه إذا وجب القضاء صارت تلك العبادات كأنها لم تفعل، وأما عندنا فكذلك كما نص عليه الشافعي رضي الله عنه في "الأم"، ويفرق على طريقته بين عدم وجوب القضاء وإحباط الثواب بأن ملحظ وجوبه عدم الفعل بالكلية أو وقوعه مع عدم الإجزاء، ولا شيء من هذين هنا؛ لأن الفرض أنه حال إسلامه فعل الواجبات بشروطها فوقعت مجزئة، فلا يجب قضاؤها إلا بنص صحيح صريح في ذلك، وقد عملت أن الآية المقيدة ناصة على خلافه. وأما ملحظ الثواب فهو القبول بمعنى الإثابة، وبالردة يتبين أن لا قبول لأنه وجدت منه الآن حالة تنافي تأهله للثواب من كل وجه، فسقط حينئذ، وبعد سقوطه الأصل عدم عوده له حتى يدل دليل على عوده بالإسلام، فتأمل هذا الفرق فأنه دقيق، ولم أرَ من حام حوله ولا بأدنى إشارة.

ومحل الخلاف أيضاً فيما قبل الردة كما مرّ، فما مضى عليه فيها يلزمه إعادته مطلقا. وما ذكره في الفرقة بين الزوجين عندنا فيه تفصيل غير تفصيلهم، وهو أن الردة إن كانت قبل الدخول أبطلت النكاح سواء ارتدا أم أحدهما، معاً أو مرتباً، لأن النكاح إلى الآن ضعيف لخلوه عن المقصود به وهو الوطء وإن كانت بعده وقف على انقضاء العدة، فإن جمعهما الإسلام قبل انقضائها فالنكاح بحاله وإلا بان انفساخه من حين الردة. وما قاله في تجديد الإيمان من أنه لا يكفي مجرد لفظ الشهادة، بل لا بدّ معه من التبرؤ، مما كفر به ظاهر موافق لمذهبنا، فينبغي التنبيه لهذه المسألة فإنها مهمة، كثيراً ما يغفل عنها ويظن أن من وقع في مكفر مما مرّ أو يأتي، يرتفع حكمه عنه بمجرد تلفظه بالشهادتين وليس كذلك، بل لا بدّ مما ذكر. وما ذكره من أن من سبق لسانه لمكفر لا يكفر ظاهر موافق لمذهبنا أيضا، ومحل ذلك بالنسبة للباطن، أما بالنسبة للظاهر فظاهر ما ذكره أئمتنا في باب الطلاق أنه لا يصدق في ذلك إلا بقرينة. قال: ومن وصف الله بما لا يليق به أو سخر باسم من أسمائه تعالى أو بأمر من أوامره أو نهي من نواهيه، أو أنكر أمره أو نهيه أو وعده ووعيده، أو قال: فلان في عيني كيهودي في عين الله، أو قال: يد الله وعَنَى الجارحة، أو قال: الله تعالى في السماء أو على العرش، وعنى به المكان، أو ليس له نية، أو قال: ينظر إلينا ويبصرنا من العرش، أو قال: هو في السماء أو على الأرض، أو قال: لا يخلو منه المكان، أو قال: الله فوق وأنت تحته، أو قال: أنصف الله ينصفك يوم القيامة، أو قال: الله قام أو نزل أو جلس للإنصاف انتهى. وما ذكره أولاً إلى قوله "ووعيده" مرّ عنهم بقيده. وما ذكره فيمن قال: فلان في عيني إلى آخره من أنه كُفر اتفاقا، في الاتفاق نظر بل لا يصح، وكذا في إطلاق الكفر؛ لأنه إنما يأتي بناءً على تكفير المجسمة والجهوية، ومرّ ما فيه من الخلاف والتفصيل.

وما ذكر في: ليس له نية في الكفر نظر فضلاً عن كونه متفقاً عليه لأن النية القصد. وقد ذكر النووي عفا الله عنه في شرح المهذب أنه يقال: قصد الله كذا بمعنى أراد، فمن قال: ليس له نية، أي: قصد، فأن أراد أنه ليس له قصد كقصدنا فواضح، وكذا إن أطلق، أو أراد أنه لا إرادة له أصلاً، فإن أراد المعنى الذي يقوله المعتزلة فلا كفر أيضاً، أو أراد سلبها مطلقاً لا بالمعنى الذي يقولونه فهو كفر. وما ذكره في: أنصف الله ينصفك يوم القيامة، من أنه كفر، فيه نظر ظاهر، لأنه إن أراد به أنك إن أطعته أثابك فواضح أنه غير كفر، وإن أراد حقيقة الإنصاف المشعرة بالاحتياج اتجه الكفر؛ لأن من اعتقد أن الله يحتاج إلى أحد من خلقه فلا شك في كفره، وإن أطلق تردد النظر فيه، والظاهر أنه غير كفر؛ لأن الإنصاف لا يستلزم ذلك، وعلى تسليم أنه يستلزمه فلا بدّ من قصد ذلك اللازم كما عُلم مما مرّ في المجسمة. قال: أو قال: يا رب اكفنا رأساً برأس، أو قال: أنا كافر أو بريء من الله أو من النبي أو من القرآن أو من حدود الله تعالى أو من الشرائع أو من الإسلام ولم يعلق بشيء، أو قال: يمينك والضراط سواء، أو قال له خصمه: أحاكمك بحكم الله تعالى، فقال: لا أعرف الحكم، أو ما يجري الحكم هنا، أو ليس هنا حكم ما هنا إلا دبوس، إيش يعمل الحكم هنا. انتهى. وما ذكره في: يا رب اكفنا رأساً برأس في كونه كفراً مطلقاً نظر فضلاً عن كونه متفقاً عليه، فقد نُقل عن الشيخ الأمام أبي محمد الجويني والد إمام الحرمين الذي قيل في ترجمته: لو جاز أن يرسل الله نبياً في زمن أبي محمد الجويني لكان هو أبا محمد الجويني إنه كان يحيي الليل ثم يقول عند السحر: سواء بسواء أي: لا شيء لي ولا شيء عليّ، ولك أن تفرق بين هذا اللفظ واكفنا رأساً برأس، بأن ذكر الكفاية يستدعي أنك كما تكفينا نكفيك

ففيه إشعار باحتياج الله سبحانه وتعالى إلينا، فكأن الحنفية نظروا لذلك، ومع ذلك ففي إطلاق الكفر نظر، بل ينبغي التفصيل بين أنه يريد هذا المعنى فيحكم بكفره، وبين أن يريد اكفنا سواء بسوء: أي لا شيء لنا غير طلب الكفاية كما لا شيء علينا فلا كفر، وكذا إن أطلق؛ لأن اللفظ ليس نصًا في المعنى الأول، ولا ظاهراً فيه. وما ذكره فيما بعد ذلك ظاهر وقد مرّ ما يوافقه. وما ذكره في يمينك والضراط سواء إنما يتجه إن أراد باليمين المقسم به الذي هو اسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته، أما لو أقسم بنحو طلاق أو إعتاق فلا كفر كما هو ظاهر، وكذا إن أقسم بالأول وأراد بيمينه فعله الذي هو حلفه دون المحلوف به، ويتردد النظر هنا فيما لو أطلق، وقد أقسم بالأول ويظهر أنه لا كفر، لما علمت أن اليمين مترددة بين الفعل والمحلوف به وتبادرها إلى المحلوف به إن سلم لا يقتضي الحكم بالكفر عند الإطلاق لما علمت من أنها مع ذلك محتملة احتمالاً غير بعيد، وعند وجود الاحتمال الذي هو كذلك لا يتجه الكفر، وذكر اسم نبي أو ملك في اليمين كذكر اسم الله تعالى فيما ذكرته فيه من التفضيل، ولا يمنع من ذلك كراهة الحلف به لأنها لمعنى آخر غير ما نحن فيه.

وما ذكره في: لا أعرف الحكم وما بعده إنما يتجه الكفر فيه عندنا إن أراد الاستهزاء بحكم الله تعالى أو استخفافه. قال: أو قال: أنت أحب إليّ من الله تعالى أو من النبي أو من الدين، أو قال: لو كنت إلهاً ما أخذت ظلمي منك، أو قال: ظلمني الله أو هو ظالم، أو قال: الله تعالى جعل الإحسان في حق جميع الخلق والسوء في حقي، أو قال: أنا كالإله، أو الله في ست جهات، أو يوجد في كل مكان، أو أنكر الله أو شك فيه أو في آياته أو سخر بها انتهى. وما ذكره في: أنت أحب إليّ من الله أو من النبي محتمل، وكذا من الدين

إن أراد تنقيصه بذلك، بخلاف ما لو أطلق أو أراد الإخبار عن قبح خلق نفسه من أن ميلها إلى ما يضرها أكثر منه إلى ما ينفعها. وما ذكره من الكفر في بقية الصور واضح وقد مرّ بعضه، نعم ما ذكره في: الله في ست جهات، أو يوجد في كل مكان مرّ أنه لا يأتي إلا على الضعيف من إطلاق كفر المجسمة. قال أو قال: ذهب بخلدي (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) الإخلاص/1. أو قال: أخذت بريقي (ألم) أو قال: يا أقصر من (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) الكوثر/1 انتهى. وهذا ما رأيته في النسخة التي اطلعت عليها، وهو كلام مظلم يكاد أن يكون لا معنى له، ولعله تحريف من ناسخ. ويمكن أن يكون في الأول إشارة إلى أن من قال: وقع بخلدي أي فكري مثل سورة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) كان كافراً ولا شك في ذلك، لأنه إذا جوَّز على نفسه أنه يأتي بمثل تلك السورة أبطل إعجاز القرآن، وإنكار إعجازه كفر. وأن يكون في الثاني إشارة إلى ما وقع في شعر بعض المجازفين المشهورين من أنه يريد محبوبه شفاء أول سورة البقرة بأول سورة الأعراف أي شفاء ألمه بالمص من ريق محبوبه فصحف الحروف المقطعة، أوّل الأولى بـ (ألم) وأوّل الثانية بـ (المص) مصدر مص، وهذا تهور فاحش، ومع ذلك إطلاق الكفر فيه بعيد إلا فيمن قال: إن هذا معنى تلك الحروف لأنه حينئذ مكذب ببعض القرآن. وأن يكون في الثالث إشارة إلى أن من ادعى أن الإعجاز وقع بأقصر من آية (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) وزعم أن هذا كفر ليس في محله، فقد قال بعض الأئمة: إن الإعجاز وقع بآية وهو قول شهير وله وجه ظاهر، فلا يتصور القول بأنه كفر بل يعد من محاسن قائله، وإن كان الجمهور على خلافه. قال: أو قرأ القرآن على ضرب دف أو مزمار أو غيره انتهى. ومرّ عن الروضة تصويب عدم الكفر. قال: أو قال: من يقرأ عند المريض (يس) لا يصح. أو قال للقارئ: لا

تقرأ عنده (يس) أو قال: لمن يقرأ القرآن بالاستهزاء (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) القيامة/29. أو ملأ قدحاً فقال: (وَكَاسًا دِهَاقًا) النبأ/34 أو فزع فقال: (فَكَانَتْ سَرَابًا) النبأ/20 أو قال بالاستهزاء عند الوزن أو الكيل: (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) المطففين/3. أو رأى جمعاً فقرأ باستخفاف: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) الكهف/47. أو قال: اجعل بيننا مثل: (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ) الطارق/1 وكذا في نظائرها، أو دعي إلى الصلاة فقال: أنا أصلي لأن (الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) العنكبوت/45. أو قال: كل التفشلة لتذهب الريح، قال الله تعالى: (فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) الأنفال/46 انتهى. وفي الكفر في سورة يس نظر، فضلاً عن كونه متفقاً عليه، بل الصواب أنه لا يكفر إلا إن أراد بذلك الاستخفاف بسورة يس. وما ذكره في الصور بعدها من الكفر ظاهر بقيده الذي ذكره، وهو أن يستعمل القرآن في غير ما وضع له بقصد الاستخفاف أو الاستهزاء بخلاف استعماله في ذلك لا بهذا القصد لكن لا تبعد حرمته، وليس كالتضمين كما هو ظاهر. على أن جمعاً قالوا بحرمة التضمين أيضاً، كما بينت ذلك بفوائد نفيسة، لا يُستغنى عنها، في شرح العباب قبيل باب الغسل. قال: أو قال: المصحف آلة الفساد واللهو، أو لم يقر بكتاب الله تعالى، أو قال: القرآن حكايات جبريل، وينكر وحي الرب الجليل، أو شتم ملك الموت، أو لم يقر بالأنبياء والملائكة، أو اغتاب نبياً أو صغر اسمه أو لم يرض بسنته، أو قال: لو كان فلان نبياً لا أؤمن به، أو قال: لو أمر الله بكذا لم أفعل، أو قال: لو صارت القبلة إلى هذه الجهة ما صليت إليها انتهى. وما ذكره في المصحف والقرآن ظاهر جلي، وفي شتم ملك الموت غير

بعيد، ويلحق بالأنبياء والملائكة النبي الواحد إذا أُجمع على نبوته وعلمت من الدين بالضرورة، وكذا في الملك الواحد كجبريل عليه الصلاة والسلام وكاغتياب النبي ذكر كل منقص له كما يعلم مما مرّ، ومما يأتي. وما ذكره في تصغير اسمه مرّ تقييده بما إذا قصد به احتقاره، وفي عدم رضاه بسنته إن أراد به نبينا صلى الله عليه وسلم فظاهر؛ لأنه يجب الإيمان بشريعته إجمالاً وتفصيلاً أو غيره من بقية الأنبياء، وهو ما يصرح به كلامه، ففي إطلاق الكفر نظر؛ لأن الإيمان إنما يجب ببقية الأنبياء إجمالاً فقط، فالذي يتجه أنه لا يكفر إلا إن أراد بسنته طريقته، لأن عدم الرضا بطريقته يشمل عدم الرضا بنبوته، وأيضاً فالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم متفقون في أصل التوحيد والعقائد، وإنما الخلاف بين شرائعهم في الفروع فقط؛ لأن مدارها على المفاسد والمصالح، وهي تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، بخلاف مسائل أُصول الدين فإنها لا تختلف بذلك، فمن ثم لم يختلفوا فيها، وحينئذ فعدم الرضا بطريقة واحد منهم يستلزم عدم الرضا بجميع أصول الدين، لما علمت أن طريق كل واحد منهم مشتملة على جميع تلك الأصول. وما ذكره في: لو كان فلاًن نبياً ... والمسألتين بعده مرّ ذلك بما فيه من التقييد والتفصيل فراجعه. قال: أو قال: لا أعرف النبي إنسياً أو جنياً، أو قال استخفافاً: النبي طويل الظفر خَلِقُ الثياب جائع البطن كثير النساء، أو قيل له: قص شاربك فإنه سنة، فقال بالإنكار: لا أفعل، أو كان النبي يحب القرع أو الخل،

فقال: لم أرهما أو لا أرى بينهما شيئاً، أو قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فقال آخر: لا حول ما تغني أو ما تنفع، أو إيش تعمل بها، أو لا تغني من جوع ولا عطش، أو لا تؤمن من خوف أو لا تثرد في قصعة انتهى. والمسألة الأولى تقدمت بما فيها، وكذا الثانية وتقييده لها بالاستخفاف حسن، ولا يشترط الجمع بين الألفاظ التي ذكرها فيها، بل واحد منها أو من غيرها مع الاستخفاف كفر. وما ذكره في قص الشارب مرّ مثله في نحو: قلم أظفارك بما فيه. وما ذكره في القرع أي: الدّباء والخل فيه نظر، ويتجه أنه لا كفر إن أراد الإخبار عن طبعه أو أطلق، بخلاف ما لو أراد بعدم محبته لهما أو لأحدهما عدمها، لكونه صلى الله عليه وسلم كان يحب ذلك؛ لأن إرادة ذلك فيها استهزاء به صلى الله عليه وسلم، واحتقار له. وما ذكر في: لا حول ... إلى آخره مرّ تقييده لكن هنا زيادة صور وإلحاقها بها الذي جرى عليه هذا الحنفي ظاهر. قال: وكذا إذا قال عند التسبيح أو التهليل والتكبير أو الاستغفار أو استماع علم غَضِباً: سمعت هذه الكلمات كثيراً، أو قال: باسم الله عند أكل حرام أو شربه، أو سمع الغناء فقال: هذا ذكر الله تعالى، أو سمع الأذان فقال: هذا صوت الحمار أو الجرس، أنا لا أحبه أو سمع حديث: (بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ) فقال: كذب، أو أعاده على وجه الاستهزاء، أو قيل له: قل: لا إله إلا الله فقال: إيش من هذه الكلمات حتى أقول: لا إله إلا الله، أو قيل لفاعل ذنب: قل: أستغفر الله، فقال استخفافا: إيش فعلت حتى أقول: أستغفر الله انتهى.

وقوله "غضباً" راجع إلى جميع ما بعد كذا، والكفر حينئذ واضح؛ لأن قوله: سمعت هذا كثيراً مع الغضب يدل بطريق التصريح أو قريب منه على الاستخفاف بالذكر، ولا شك أن الاستخفاف به من حيث هو ذكر كفر. وشرط الكفر بالبسملة على الحرام أن يقصد الاستخفاف بها، كما علم مما مرّ وبقوله في الغناء: هذا ذكر إن قصد أنه مثله من كل وجه استخفافا بالذكر، فإن أطلق أو قصد أن بينهما مشابهة ما لم يتجه الكفر حينئذ، ومسألة سماع المؤذن مرّت بما فيها لكن في هذه زيادة: أنا لا أحبه، والظاهر أن في الزيادة لا تقتضي الحكم بالكفر مطلقاً، بل لا بدَّ أن يقصد أنه لا يحبه من حيث هو ذكر، فحينئذٍ الكفر محتمل. وقوله عند سماع ذلك الحديث: كذب، إن أعاد الضمير فيه على النبي صلى الله عليه وسلم كفر مطلقاً، وكذا لو أعاده على وجه الاستهزاء، مع علمه بأنه حديث، بخلاف ما لو أعاد الضمير على المتكلم، أو أعاد إلى لفظ الحديث على وجه الاستبعاد لجهله المعذور به فإنه لا يكفر. وقد وقع قريباً أن أميراً بنى بيتاً عظيماً فدخله بعض المجازفين من أهل مكة فقال: قال صلى الله عليه وسلم: (لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ) وأنا أقول: وتشد الرحال إلى هذا البيت أيضاً، وقد سئلت عن ذلك. والذي يتحرر فيه أنه بالنسبة لقواعد الحنفية والمالكية وتشديداتهم يكفر بذلك عندهم مطلقاً، وأما بالنسبة لقواعدنا وما عرف من كلام أئمتنا السابق واللاحق، فظاهر هذا اللفظ استدراك على حصره صلى الله عليه وسلم وإنه ساخر به وأنه شرع شرعاً آخر غير ما شرعه نبينا صلى الله عليه وسلم وأنه ألحق هذا البيت بتلك المساجد الثلاثة في الاختصاص على بقية المساجد بهذه المزية العظيمة التي هي التقرب إلى الله تعالى بشد الرحال إليها، وكل واحد من

هذه المقاصد الأربعة التي دلّ عليها هذا اللفظ القبيح الشنيع كفر بلا مرية، فمتى قصد أحدها فلا نزاع في كفره، وإن أطلق فالذي يتجه الكفر أيضاً لما علمت أن اللفظ ظاهر في الكفر، وعند ظهور اللفظ فيه لا يحتاج إلى نية كما علم من فروع كثيرة مرّت وتأتي، وإن أُوِّل بأنه لم يرد إلا أن هذا البيت لكونه أعجوبة في بلده يكون ذلك سبباً لمجيء الناس إلى رؤيته، كما أن عظمة تلك المساجد اقتضت شد الرحال إليها قُبِلَ منه ذلك، ومع ذلك فيعزر التعزير البليغ بالضرب والحبس وغيرهما بحسب ما يراه الحاكم، بل لو رأى إفضاء التعزير إلى القتل كما سيأتي عند أبي يوسف لأراح الناس من شره ومجازفته، فإنه بلغ فيهما الغاية القصوى تاب الله علينا وعليه آمين. وما ذكره من كفر من قيل له: قل: لا إله إلا الله، فقال ما مرّ، إنما يتضح إن نوى بذلك الاستهزاء أو الاستخفاف نظير ما قاله بعد فيمن قيل له: قل: أستغفر الله. قال: أو سخر بالشريعة أو بحكم من أحكامها، أو قال بعد فراغ صلاة: عملت سخرة أي: من التسخير في الأعمال الشاقة ظلماً أو لي زمان ما عملت سخرة، أو قال: أكون قوّاداً إن صليت وطوّلت الأمر على نفسي، أو قال: من يقدر أن يتم هذا الأمر، أو قال: العاقل لا يشرع في أمر لا يقدر أن يتمه، أو قال: الناس يعملون الصلاة لأجلي، أو قال: غسلت رأسي من الصلاة، أو قال: أعطيتها للزراعة حتى يزرعوها، أو قال: أؤخر حتى يجيء رمضان أصلي جميعها،

أو قال: كم صليت ما أصبت خيراً، أو قال: أبي وأمي كانا يعيشان فلما صليت ماتا، أو قال: الصلاة لا تصلح لي، إذا صليت هلك مالي، أو قال: إن صليت أو لم أصل سواء، أو قال: لا أصلي حتى أجد حلاوة الإيمان. أو قال: كم هذه الصلاة أصلي، وقلبي نفر منها. أو قال بالاستهزاء في رمضان هذه صلوات كثيرة وزيادة. أو قال: صلاة ليست بشيء لو بقيت تحمض أو تنتن أو لا يتغير عجينها، أو قال: هذه فعل الكسلان أو فعلك وليس فعل أحد غيرك. أو قال: ليت رمضان لم يكن فرضاً آخر. أو قال: هذا الصوم نفر قلبي منه وهو ضيف ثقيل انتهى. وما ذكره من كفر من سخر بالشريعة أو حكم منها اتفاقا ظاهر بخلاف جميع ما ذكره في مسائل الصلاة والصوم، فإن إطلاق الحكم بكفر قائل واحدة من تلك الصور لا يظهر وجهه فضلاً عن كونه متفقاً عليه، بل كثير منها لا وجه للحكم بكفر قائله إلا بنوع تكلف وتعسف. فالذي يتجه فيمن قال عن الصلاة أو غيرها من الطاقات: إنها سخرة أنه يكفر سواء أراد حقيقة السخرة السابقة أم أطلق، أما الأولى فواضح لأنه نسب الله تعالى إلى الجور والظلم، وأما الثانية فلأن ذلك هو وضع السخرة فلم يحتج إلى قصده، بخلاف ما لو قصد أنه لعدم خشوعه مثلاً لا ثواب له في صلاته فأشبهت السخرة حينئذ، فإنه لا يبعد قبول تأويله. وفي مسألة القيادة وما بعدها لا يكفر إلا أن قصد بذلك الاستخفاف أو الاستهزاء بالصلاة أو الصيام، أو استحل تركهما أو أحدهما لغير عذر، أو أن الصلاة يتشاءم بها من حيث كونها صلاة، فحينئذٍ يكفر بخلاف ما لو أطلق أو قصد معنى آخر.

ومرّ عن الرافعي مسائل من ذلك عنهم مع تعقبها فلا يغب عنك استحضارها. قال: أو قيل: لِمَ لم تأمر بالمعروف ولا تنه عن المنكر؟ فقال: إيش عمل بي أو ما يجب، أو قال: هذا فُشار أو غوغاء وهذيان على وجه الإنكار، أو قال: إيش فضولي أنا، أو قيل له: كل حلالاً فقال: الحرام أحب إليَّ، أو قال: هات آكل الحلال أسجد له، أو قال: يجوز لي الحرام، أو قال: ليت الزنا أو اللواط أو الظلم حلال، أو دفع لفقير حراماً من مال مسلم أو ذمي وهو يعلمه ورجا ثوابه أو دعاء الفقير، أو قال: لم تثبت حرمة الخمر في القرآن أو إيش أعمل بالشريعة وعندي الدبوس، أو قال: وقد أخذ دراهم بقوته: حين أخذت الدراهم أين كانت الشريعة والقاضي؟ أو أنا أريد الذهب والفضة إيش أعمل بهذه الأحكام، أو صدق كلام أهل الأهواء، أو قال: عندي كلامهم كلام معنوي أو معناه صحيح، أو حَسَّنَ رسوم الكفار، أو قال: بارك الله في كذبك. أو قيل له: لا تكذب فقال: قلت من كلمة الإخلاص انتهى. وما ذكره قبل مسألة التمني في إطلاق الكفر به نظر ظاهر. والذي يتجه في مسائل الأمر بالمعروف أنه لا كفر فيها، إلا إن قال شيئاً من ذلك على وجه

الاستهزاء لما مر أن من سخر بحكم من أحكام الشريعة كفر، لا شك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حكم شرعي، فمن قال فيه شيئاً من ذلك استهزاء أو سخرية كفر وإلا فلا، وإن قال ما يجب لأنه غير معلوم من الدين بالضرورة. والذي يتجه أيضاً في: الحرام أحب إليّ أنه لا يكفر إلا إن أراد أنه يحب سائر أنواع الحرام دون سائر أنواع الحلال الصادق بالمباح والمندوب والواجب. والوجه أنه لا يكفر أيضاً بـ: هات آكل الحلال أسجد له؛ لأن نفس السجود لإنسان آخر لا يكون كفراً مطلقاً، بل في بعض صوره كما صرّح به الأئمة، ومرَّ في ذلك مزيد بحث وتفصيل، فإذا كان هذا في السجود له بالفعل فما ظنك بالعزم عليه، على أن ذلك إنما يراد به الدلالة على استبعاد وجود شخص لا يأكل إلا الحلال الصرف، أو على تعظيمه فلا وجه لإطلاق الكفر به. والوجه أيضاً أنه لا يكفر من قال: يجوز لي الحرام إلا إن نوى العموم أو الحرام المعلوم من الدين بالضرورة. وأما مسألة التمني فتقدم الكلام فيها مستوفى. ورجاء الثواب على الحرام إنما يتجه كونه كفراً إن أعتقد أنه يثاب على الحرام، من حيث كونه حراماً لأنه مكذب للنصوص حينئذٍ، بخلاف ما لو نوى أن الثواب من جهة أخرى غير جهة كونه حراماً فإن ذلك لا محذور فيه، إذ المحققون على أن الصلاة في الدار المغصوبة أو الثوب المغصوب أو الحرير أو نحو ذلك فيها الثواب وإن كانت حراماً لانفكاك الجهة. وما ذكره في رجاء دعاء الفقير بعيد، بل لا وجه له فالصواب أنه لا يكفر به. وكفر زاعم أنه لا نص في القرآن على تحريم الخمر ظاهر، لأنه مستلزم لتكذيب القرآن الناص في غير ما آية على تحريم الخمر.

فإن قلت: غاية ما فيه أنه كذب، وهو لا يقتضي الكفر. قلت: ممنوع لأنه كذب يستلزم إنكار النص المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، ومن ثم يتجه أنه لو قال: الخمر حرام، وليس في القرآن نص على تحريمه لم يكفر؛ لأنه الآن محض كذب، وهو لا كفر به. وما ذكره من الكفر في مسألة الشريعة والقاضي والأحكام المذكورات ظاهر إن قال ذلك استهزاء أو استخفافا، وكذا إن أطلق على احتمال فيه لأن اللفظ ظاهر في الاستخفاف أو الاستهزاء. وما ذكره من الكفر في تصديق أهل الأهواء إنما يتجه إن أراد بهم ما يعم من نكفرهم ببدعتهم، أما من لا نكفرهم فتصديقهم غير كفر. وما ذكره من الكفر في: بارك الله في كذبك لا يظهر له وجه إلا إن أراد أن الكذب من حيث هو كذب قربة بسائر اعتباراته تطلب البركة فيها من الله تعالى. وما ذكره في المسألة الأخيرة ظاهر إن أراد أن ما قاله الموصوف بالكذب من أجزاء كلمة الإخلاص بخلاف ما إذا أطلق لأن اللفظ ليس ظاهراً في الأول، أو أراد الرد على من نسبه للكذب بأن ما يقوله حق، كما أن سورة الإخلاص حق، فإنه لا كفر بذلك، كما هو ظاهر لاحتمال اللفظ لذلك احتمالاً قريباً. قال: أو قال: العلم الذي يتعلمونه أساطير وحكايات أو هذيان أو هباء أو تزوير، أو قال: إيش مجلس الوعظ أو العلم، والعلم لا يثرد، أو وَعَظَ على

سبيل الاستهزاء، أو ضحك على وعظ العلم، أو قال لرجل صالح: كن ساكناً حتى لا نقع وراء الجنة، أو قال: إيش هذا القبيح الذي حففت شاربك، أو قال: بئس ما أخرجت السنة. أو قال: الكفر والإيمان واحد، أو لا أرضى بالإيمان، أو لا أدري أين مصير الكافر، أو أهل الأهواء، أو قال: سخيّ أهل الكفار أو أهل الأهواء يدخل الجنة، أو رأى سلطاناً فقال: إله عظيم، أو قال بالفارسية: خداي بزرك وهو يعلم تفسيره انتهى. وما ذكره من الكفر بتلك الأوصاف التي للعلم ظاهر، لكن إن أراد العلم من حيث هو أو خصوص علم أُصول الدين أو علم التفسير أو الحديث أو الفقه. وما ذكر في إيش مجلس الوعظ ... إلى آخره إنما يتجه إن أراد الاستهزاء، وكذا إن أطلق على احتمال قوي فيه لظهور هذا اللفظ في الاستخفاف بمجلس الوعظ أو العلم، وقد مرّ في: قصعة ثريد خير من العلم كلام استحضره هنا. وما ذكره في الوعظ استهزاء إنما يتجه إن أراد الاستهزاء بالوعظ، وكذا بالوعظ من حيث هو وعظ، أما لو أراد الاستهزاء بالواعظ وبكلماته لا من حيث كونه واعظاً فلا يتجه الكفر حينئذٍ، وكذا يقال في الضحك على الواعظ. وما ذكره في: كن ساكناً إلى آخره إنما يتجه أيضاً إن أراد الاستهزاء بالجنة، أو بالعمل المقرب إليها، وإلا فلا وجه لإطلاق الكفر فيه فضلاً عن كونه متفقاً عليه كسابقه ولاحقه. وما ذكره من الكفر في مسألة الشارب لا يظهر أيضاً إلا أن أراد عيب السنة أو نحوه نظير ما مرّ في قص أظفارك. وما ذكره من إطلاق الكفر في بئس ما أخرجت السنة والمسائل بعده إلى قولي انتهى ظاهر؛ لأنه صريح في الاستهزاء بالدين. نعم ما ذكره في أهل الأهواء إنما يصح إن أراد بهم الكفرة وما يعمهم نظير ما مرّ، لا المسلمين منهم.

والظاهر أنه لا يقبل تأويله في كل هذه المسائل؛ لأن لفظها يأباه. نعم إن قال: لم أرد بقولي: إله عظيم أو خداي بزرك: أي الله كبير إلا أنَّ مُعْطِيَ هذا المُلكِ لهذا الرجل إله عظيم أو الله الكبير، قُبِلَ منه؛ لأن الفرض أنه لم يقل: هذا إله عظيم ولا هذا خداي بزرك، وحيث لم يقل ذلك تقبل إرادته ما ذكر، بل لو قيل: لا ينبغي أن يكفر إلا إن قصد أن قوله: إله عظيم أو خداي بزرك وصف للسلطان الذي رآه لم يبعد. قال: أو قال له كافر: اعرض عليّ الإسلام، فقال: لا أدري صفة الإيمان، أو قال: اذهب إلى فلان الفقيه، أو أسلم كافر فمات أبوه فقال: ليتني لم أسلم لأجل الميراث، أو نادى مناد: يا كافر، فقال: لبيك، أو قال: أنا كافر إيش عليك، أو قال: عملت بي عملاً حتى كفرت، أو علّم الارتداد للمطلقة بالثلاث لتحل لزوجها بلا محلل ارتد، ولو رضيت هي ارتدت ولم تحل لزوجها، وكذا لو ارتدت ولحقت بدار الحرب، ثم سبيت فاشتراها مطلقها ثلاثاً لم يطأها إلا بالتحليل من مسلم بعد إسلامها عند أهل السنة، خلافاً للروافض والفلاسفة. أو قال لمن أسلم: أي ضرر لحقك في دينك حتى انتقلت عنه إلى دين الإسلام، أو قال: هذا زمان الكفر ما بقي زمان الإسلام، أو قال لولده: ولد الكافر، أو شد في وسطه الزنار باختياره، أو دخل دار الحرب ولبس ثوب الكفار، بخلاف ما لو دخل لتخليص الأسرى وبخلاف ما لو لبس السواد في الدارين؛ لأن لبس السواد حلال والبياض أفضل انتهى. وما ذكره في المسألتين الأولتين هو المعتمد كما قدمته بما فيه، لما مرّ أنه متضمن للرضا ببقائه على الكفر ولو لحظة، والرضا بالكفر كفر، ومسألة تمني الكفر مرّت أيضاً بما فيها، وكذا مسألة الإجابة بلبيك مرت بما فيها فراجع ذلك. والكفر في قوله: أنا كافر واضح، وكذا فيما بعدها إلى الفلاسفة، وكفر من

قال لمن أسلم ما ذكر ظاهر إن أراد الرضا ببقائه على الكفر لا مطلقاً كما علم مما مرّ، وإطلاق الكفر فيمن قال: هذا زمان الكفر إلى آخره لا يظهر إلا إن أراد تسمية الإسلام كفراً أو نحو ذلك، بخلاف ما لو أطلق أو أراد أنه غلب على أهله الكفر، فإن الوجه أنه لا يكفر بذلك، وقوله لولده: ولد الكافر لا يتجه إطلاق الكفر فيه أيضاً، بل لا بدّ أن ينوي بالكافر نفسه، فإن أطلق فالتكفير بعيد، وإن أراد أن يشبه ولد الكافر قُبِلَ ولا كفر. ومسألة شدّ الزنار تقدمت أيضاً بما فيها. قال: أو قال: إن أعطاني الله الجنة لا أريدها دونك أو لا أدخلها دونك، أو قال: إن أمرني الله بدخول الجنة معك لا أدخلها، أو قال: إن أعطاني الله الجنة لأجلك أو لأجل هذا العمل لا أريدها، أو أنكر القيامة أو الصراط أو الميزان أو الحساب أو الكتاب أو الجنة أو النار أو المصحف أو اللوح أو القلم أو قال: الله لا يرى أو لا يراه أحد أو شبهه بشيء أو وصفه بالمكان أو الجهات، أو قال: الله تعالى لا يخلق فعل العبد أو أنكر رؤية الله بالعين في الجنة أو شك في رسالة المرسلين، أو شك في ثبوت وعده ووعيده أو وصف محدثاً بصفاته، أو أسمائه، أو قال: لا يضر المسلم ذنب أو رأى خلود المذنب في النار، أو شك في فرائضه، أو أحب ما أبغضه الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو بالعكس، أو يئس من الثواب أو أمن من العقاب، أو أنكر الحرام والحلال، أو اعتقد قدم الزمان والروح والأفلاك انتهى. ومسائل دخوله الجنة مرّ عن الروضة أنه صوّب عدم الكفر في بعضها ويقاس به الباقي، ومرّ أيضاً أن الأوجه في ذلك تفصيل فراجعه. وما ذكره من الكفر بإنكار القيامة واضح كإنكار حشر الأجساد، وأما إنكار

الصراط والميزان ونحوهما مما تقول المعتزلة قبحهم الله تعالى بإنكاره، فإنه لا كفر به. إذ المذهب الصحيح أنهم وسائر المبتدعة لا يكفرون، وإنكار الجنة والنار الآن لا كفر به لأن المعتزلة ينكرونهما الآن، وأما إنكار وجودهما يوم القيامة فالكفر به ظاهر؛ لأنه تكذيب للنصوص المتواترة القطعية، وإنكار المصحف بمعنى القرآن كفر إجماعاً، بخلاف إنكار صحف الأعمال. وما ذكره في إنكار اللوح والقلم ورؤية الله تعالى مطلقاً أو في الجنة فيه نظر، فإن المعتزلة قائلون بذلك ولم يكفروا به، وتشبيه الله تعالى بحادث أو وصفه بما يستلزم الجهة لا كفر به إلا إن اعتقد ثبوت لازم ذلك له تعالى من الحدوث ونحوه، وزعم أن الله تعالى لا يخلق فعل العبد لا كفر به أيضاً؛ لأنه مذهب المعتزلة نظير ما مرّ. والشك في رسالة المرسلين صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم أجمعين، أو رسالة من علمت رسالته منهم ضرورة كفر بلا نزاع، بخلاف الشك في ثبوت وعده أو وعيده، فإن في إطلاق كونه كفراً نظراً لا إن جوز شرعاً دخول كافر الجنة أو تخليد مسلم مطيع في النار، ووصف محدث بما يستلزم قدمه، إنما يتضح كونه كفراً إن اعتقد ذلك اللازم، لما مر أن الأصح أن لازم المذهب ليس بمذهب، لأن القاتل بالملزوم قد لا يخطر له القول بلازمه. وزعم أنه لا يضر المذنب ذنب أو أنه مخلد في النار لا كفر به؛ لأن الأول مذهب المرجئة، والثاني مذهب المعتزلة، وقد مرّ أنهم لا يكفرون.

والشك في الفرائض الكفر به واضح، لأنه يستلزم الشك في الضروريات المعلومة من الدين، وهو كفر كإنكارها، بخلاف محبة ما أبغضه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أو عكسه، فإنه لا يتجه فيه الكفر إلا إن أحب ذلك من حيث كون الشارع يبغضه أو أبغضه من حيث كون الشارع يحبه، بخلاف ما لو أحبه أو أبغضه لذاته مع قطع النظر عن تلك الحيثية، فإنه لا وجه لإطلاق الكفر حينئذ. وجرى هذا الحنفي في إطلاق الكفر باليأس والأمن المذكورين على إطلاق الحديث للكفر عليهما، لكن قال أئمتنا وغيرهم: المراد به كفر النعمة أو إن استحل. وإنكار الحرام والحلال الكفر به ظاهر، ولا خصوصية لهما بذلك، بل من أنكر حكماً من الأحكام الخمسة الواجب أو الحرام أو المباح أو المندوب أو المكروه من حيث هو كأن أنكر الوجوب من حيث هو، أو التحريم من حيث هو، وكذا الباقي كان كافراً. أو اعتقد قِدَمَ العالمِ أو بعض أجزائه كفر كما صرّحوا به. قال: أو قيل له: دع الدنيا لتنال الآخرة. فقال: أترك ذلك بعد سنة، أو قيل له: أتعلم الغيب؟ قال: نعم، أو قال: أنا أعلم بما كان وما لم يكن، أو قال: فلان مات وسلم روجه إليك، أو كان إذا شرع في الفساد قال: تعال حتى نطيب أو نعيش طيباً، أو قال: إني أحب الخمر ولا أصبر عنها، أو قال: أفعل كل يوم مثلك من الطين، أو قال: أريد خيراً أو راحة في الدنيا وأدع ما يكون في الآخرة إيش ما يكون، أو قال له: انصرني بالحق، فقال له: أنصرك بالحق وبغير الحق انتهى. وإطلاقه الكفر في المسألة الأولى فيه نظر، والذي يتجه أنه لا كفر بذلك إلا إن أراد الاستهزاء بالآخرة. ومسألة علم الغيب مرت بما فيها من الخلاف والتفصيل.

وإطلاقه الكفر في بقية المسائل كلها فيه نظر، والوجه أنه لا كفر بشيء من ذلك إلا إن أراد بقوله: فلان مات ... الخ ما يقوله أهل التناسخ فإن القول به كفر، وإلا إن أراد بقوله: تعالوا حتى نطيب .. إلى آخره استباحه الفساد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، وبقوله: أحب الخمر استباحتها من حيث هي بسائر اعتباراتها، وبقوله: أفعل مثلك من الطين أن له قدرة على الخلق بمعنى الإيجاد، وبقوله: أريد خيراً .. الخ الاستخفاف بالآخرة، وبقوله: أنصرك بغير الحق استحلال ذلك من حيث هو، فالكفر في جميع هذه الصور عند إرادة ما ذكرناه أو نحوه واضح، بخلافه عند التأويل بمعنى صحيح، وكذا عند الإطلاق، فإنه لا وجه للكفر بشيء من ذلك. قال: الفصل الثاني: في الاختلاف لو قال: أنا بريء من الله تعالى إن فعلت كذا ثم فعل حنث ولا يكفر، وكذا لو قال: إن فعلت كذا فأنا كافر ففعله، وقيل: إن كان عالما لا يكفر، وإن كان جاهلا يكفر في الماضي والمستقبل، ولو رضي بكفر غيره قال بعضهم: يكفر، وكذا لو قال: الله تعالى يظلمك كما ظلمتني، أو قال: يعلم الله أني لم أفعل كذا وهو قد فعله، أو قال لخصمه: لا أريد يمينه بالله، بل أريد بالطلاق، أو قيل له: أحسن كما أحسن الله إليك، فقال: ماذا أعطاني، أو قال: المعوذتان ليستا من القرآن، أو قال: لشَعرَ النبي صلى الله عليه وسلم شُعَيراً، أو قال: لو لم يأكل آدم الحنطة ما وقعنا في هذا البلاء، أو ادعى النبوة فطلب

آخر منه معجزة أو ردّ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو قال بعد أكل الحرام أو شربه: الحمد لله، أو قيل له: قل: لا إله إلا الله فقال: لا أقول، أو قيل له: صلّ، قال: لا أصلي أو أصلي بغير طهارة، أو قيل له: أدّ الزكاة فقال: لا أؤدي، أو قال: الصوم يضر، أو قال الفقيه وجهاً شرعيا، ً فقال: هذا الذي قلت عمل السفهاء، أو قالت المرأة لزوجها: يا كافر، فقال: لم صحبتني أو إن كنت هكذا لا تسكني معي، أو وضع على رأسه قلنسوة المجوسي وغيره بلا ضرورة، أو قال: المجوسي خير من النصراني، أو النصراني خير من المجوسي وغيره، أو قال: آخذ حقي يوم المحشر، فقال: إيش شغلي مع المحشر، أو قال: أين تجدني في ذلك المجمع؟ أو قال: أعطني حقي وإلا آخذ منك يوم القيامة عشرين، أو قال عند المبايعة: الكفر خير مما يفعل، أو قال: أطيب الحلال أن لا أصلي، أو سجد للسلطان أو غيره أو قبّل الأرض، قيل: وهو قريب من السجود، أو قال: ما دام هذا المذهب معي ما يعود لي رزقي، ففي هذه المسائل قيل: يكفر، وقيل: لا يكفر انتهى. ومذهبنا أن من قال: إن فعلت كذا فهو كافر إن أراد التعليق كفر حالاً، أو تبعيد نفسه لم يكفر، وكذا إن أطلق، ويسن له أن يستغفر الله تعالى، وأن يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، خروجاً من خلاف من قال بكفره بذلك. وما ذكره في الرضا بكفر الغير من الخلاف فيه، ينافيه جزمه بالكفر فيما لو قال له كافر: اعرض عليّ الإسلام، فقال: اذهب إلى فلان الفقيه، وليس علة الكفر ثَمَّ إلا رضاه ببقائه عليه تلك المدة، فالصواب أن الرضا بكفر الغير كفر. وكذا ما ذكره من الخلاف في: الله تعالى يظلمك كما ظلمتني ينافيه ما قدمه من الاتفاق على كفر من قال: ظلمني الله، إلا أن يفرق بأن هنا يحتمل أنه من باب المشاكلة نحو: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ) آل عمران/54. والذي يتجه

أنه إن نوى هنا بـ: يظلمك الله: يخلص حقي منك، وإنما سماه ظلماً للمشاكلة لا يكفر، وكذا إن أطلق للقرينة، بخلاف ما إذا أراد حقيقة الظلم لاستحالته على الله تعالى، إذ هو إما مجاوزة الحد أو التصرف في ملك الغير وكل منهما محال، أما الأول فلأنه تعالى ليس فوقه من يحدّ له شيئاً، وأما الثاني فلأن العالم كله ملك الله تعالى، وإضافة الأملاك إلى غيره إنما هو بطريق الصورة دون الحقيقة، ثم رأيتني فيما سبق ذكرت في هذه ما يقتضي الكفر عند الإطلاق ولعل ما هنا أقرب. ومرّ أن الرافعي حكى عنهم كفر من قال: الله يعلم أني دائماً أذكرك بالدعاء وهو صريح في كفر من قال: الله يعلم أني ما فعلت كذا وقد فعله؛ لأنه نسب الله تعالى إلى الجهل؛ لأنه نسب إليه أنه يعلم الشيء على خلاف الواقع. ومرّ أن الصحيح فيمن قال: لا أريد يمينه بالله، بل بالطلاق أنه لا يكفر. نعم إن أراد بذلك الاستخفاف باسم الله تعالى كفر كما هو واضح. والذي يتجه في: ماذا أعطاني أنه لا يكفر به إلا إن قاله استخفافا بالنعمة من حيث نسبتها إلى الله تعالى. وإنكار المعوذتين وتصغير نحو شعره صلى الله عليه وسلم مّر الكلام فيهما. والذي يتجه في: لو لم يأكل آدم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام الحنطة .. الخ أنه لا يكون كفراً إلا إن قصد بذلك تنقيصه صلى الله عليه وسلم. وواضح تكفير مدعي النبوة ويظهر كفرُ مَنْ طلب منه معجزة؛ لأنه بطلبه لها منه مجوز لصدقه مع استحالته المعلومة من الدين بالضرورة. نعم إن أراد بذلك تسفيهه وبيان كذبه فلا كفر.

وردّ حديثه صلى الله عليه وسلم إن كان من حيث السند فلا كفر به مطلقاً أو من حيث نسبته له صلى الله عليه وسلم كفر مطلقاً كما هو ظاهر فيهما. وقوله: الحمد لله، بعد تناول الحرام يأتي فيه ما مرّ في التسمية على نحو الخمر، ويحتمل الفرق. ويتجه في: لا أقول ولا أصلي ولا أزكي ولا أصوم، أو الصوم يضر، ولا أحج، أنه لا كفر فيها إلا إن أراد الاستخفاف بكلمة الشهادة أو بالصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج. وحكم الصلاة بلا طهر مرّ بتفصيله. ويظهر في: هذا الذي قلت عمل السفهاء أنه لا كفر به إلا إن أراد الاستخفاف بالحكم الشرعي من حيث كونه حكماً شرعياً، وفي قول الزوج: إن كنت .. إلى آخره أنه لا كفر به أيضاً إلا إن قصد التعليق، أو قال ذلك رضا بوصفها له بكافر. ووضع قلنسوة المجوسي مرّ حكمه وما فيه. وكذا: المجوسي خير من النصراني وما بعده مرّ حكمه أيضاً. ويظهر أنه لا يكفر بإيش شغلي مع المحشر إلا إن قصد الاستخفاف به. ولا بـ: أين تجدني .. الخ إلا إن أراد أن الله تعالى لا يقدر على أن يجمعه به في ذلك اليوم، بخلاف ما إذا أراد أن له ذنوباً يذهب به بسببها إلى النار ابتداء فلا يجتمع به. والقول بالكفر في أعطني حقي وإلا آخذ منك .. الخ لا وجه له. ومن قال: الكفر خير مما يفعل إن أراد أن بالكفر خيراً ولو بوجه ما كان كافراً، وإلا فلا. ومن قال: أطيب الحلال أن لا أصلي: الظاهر أنه يكفر به لأنه جعل ترك

الصلاة من حيث هي من الحلال، بل أطيبه، وهذا كفر بلا نزاع لأن فيه إنكارَ وجوبِ الصلاةِ الشاملة للخمس وذلك كفر. والسجود للسلطان أو غيره مر حكمه وما فيه. وعجيب من هذا المصنف حيث حكى فيما مر الاتفاق على كفر من قال: هات آكل الحلال أسجد له، وحكى الخلاف في السجود نفسه للسلطان أو غيره مع أن هذا فيه السجود الحقيقي بخلاف ذلك. والوجه أنه لا كفر بتقبيل الأرض ولا بما بعده.

قال: الفصل الثالث: فيما يخشى عليه من الكفر: إذا شتم رجلاً اسمه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن الزانية وهو ذاكر النبي صلى الله عليه وسلم، أو قال له فقيه وجهاً شرعياً فقال: هذا عمل الفقهاء ويعمل معي عمل السفهاء، أو بغض عالماً من غير سبب ظاهر، أو سمع الأذان أو القرآن الكريم فتكلم بكلام الدنيا، أو قال للقراء: هؤلاء آكلو الربا، أو قال لصالح: وجهه عندي كوجه الخنزير، أو قال: أريد المال سواء كان من حلال أو حرام، أو قال: أحب أيهما أسرع وصولاً، أو قال: ما نقص الله من عمر فلان زاده الله في عمرك، أو قال: من ليس له درهم لا يساوي درهماً، ففي هذه المسائل يخشى عليه الكفر انتهى. ووجه خشية الكفر في كل هذه الصور أن كلاً منها يحتمله لكن احتمالاً بعيداً، فربما مال خاطره إلى ذلك الاحتمال فيكون حينئذ كافراً، وبهذا يعلم أن ما في معنى هذه الصور من كل ما يحتمل الكفر احتمالاً بعيداً يكون مثلها، فينبغي تجنب التلفظ بجميع ذلك أي: يندب تارة كتجنب كلام الدنيا عند سماع القرآن أو الأذان، ويجب أخرى كأكثر الصور الباقية.

قال: فصل آخر في الخطأ: لو قال: الله يطلع من السماء أو من العرش، أو قال: بين يدي الله، أو قال: يا رب لا ترضَ بهذا الظلم، أو قال: فلان قضاء سوء، أو قال: أعطيت واحداً وأخذته من واحد، أو قال: تأخذ ممن له واحد، ولا تأخذ ممن له عشرة، أو قال: الفقر شقاوة. فهذه المسائل خطأ لا يكفر به، والله تعالى الهادي إلى الصواب انتهى. وجعله ما في الفصل الثالث مما يخشى منه الكفر دون ما في هذا الفصل فيه نظر، فإن هذه الصور التي في الرابع أقرب إلى احتمال الكفر من الصور التي في الثالث، فخشية الكفر فيها أقرب، على أنه قدم في الفصل الأول المعقود لما هو كفر اتفاقاً -بحسب زعمه- كفرَ من قال: الله ينظر إلينا ويبصرنا من العرش، وهذه مثل: الله يطلع من السماء أو من العرش، فجعله في تلك كفراً اتفاقاً، وهذا غير كفر اتفاقا كما أفهمه صنيعه، فإنه لم يجعلها في الفصل الثاني المعقود لبيان ما اختلف في أنه كفر، وظاهر أن المسألتين حكمهما واحد، وأن التفرقة بينهما التي زعمها هذا المصنف عجيبة. وإذا انتهى الكلام على ما في كتابه هذا، فلنرجع إلى سَوْقِ بقية كلام الروضة الذي انفرد به عن الرافعي فنقول: في الروضة فروع زائدة عن "الشفاء" فنسوقها بلفظها، ثم نتكلم على ما فيها. وعبارته: قلت: قد ذكر القاضي الإمام الحافظ أبو الفضل عياض رحمه الله تعالى في آخر كتابه "الشفاء" بتعريف حقوق نبينا المصطفى صلوات الله تعالى وسلامه عليه

جملة من الألفاظ المكفرة غير ما سبق نقلها عن الأئمة أكثرها مجمع عليه، وصرح بنقل الإجماع فيه: فمنها: أن مريضاً شفي ثم قال: لقيت في مرضي هذا ما لو قتلت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم أستوجبه، فقال بعض العلماء: يكفر ويقتل؛ لأنه يتضمن النسبة إلى الجور. وقال آخرون: لا يتحتم قتله ويستتاب ويعزر، وأنه لو قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أسود أو توفي قبل أن يلتحي، أو قال: ليس بقرشي فهو كافر لأنه وصفه بغير صفته ففيه تكذيب به، وأن من ادعى أن النبوة مكتسبة أنه يبلغ بصفاء القلب إلى مرتبتها، أو ادعى أنه يوحى إليه وإن لم يدَّعِ النبوة، أو ادعى أنه يدخل الجنة ويأكل من ثمارها ويعانق الحور فهو كافر بالإجماع قطعاً، وأن من دافع نص الكتاب أو السنة المقطوع بها المحمول على ظاهره فهو كافر بالإجماع وأن من لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى، أو شكَّ في تكفيرهم أو صحح مذهبهم فهو كافر، وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده، وكذا يقطع بتكفير كل قائل قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة أو تكفير الصحابة. وكذا من فعل فعلاً أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا من كافر، وإن كان صاحبه مصرحاً بالإسلام مع فعله كالسجود للصليب أو النار أو المشي إلى الكنائس مع أهلها بزيهم من الزنانير وغيرها، وكذا من أنكر مكة والبيت أو المسجد الحرام

أو صفة الحج، وأنه ليس هذه الهيئة المعروفة أو قال: لا أدري أن هذه المسماة بمكة هي مكة أم غيرها، فكل هذا وشبهه لا شك في تكفير قائله إن كان ممن يظن به علم ذلك وطالت صحبته للمسلمين، فإن كان قريب عهد بالإسلام أو بمخالطة المسلمين عرّفناه بذلك ولا يعذر بعد التعريف، وكذا من غيَّر شيئاً من القرآن، أو قال: ليس بمعجز، أو قال: ليس في خلق السموات والأرض دلالة على الله تعالى، أو أنكر الجنة أو النار أو البعث أو الحساب أو اعترف بذلك، ولكن قال: المراد بالجنة والنار والبعث والنشور والثواب والعقاب غير معانيها، أو قال: الأئمة أفضل من الأنبياء والله تعالى أعلم، انتهى كلام الروضة المنقول عن الشفاء بالمعنى من محال متعددة، وإلا فصاحب الشفاء لم يسقه كذلك، وهو كلام نفيس مشتمل على فوائد بتأملها يُعْلَم تقييد كثير مما سبق، ولم يرجح النووي عفا الله تعالى عنه شيئاّ من الخلاف في المسألة الأولى. أعني مسألة المريض إذا شفي، والذي رجحه المحب الطبري أنه لا يكفر. والحق عندي أن يفصّل فيقال: إن أراد بذلك أن الله شدّد عليه لذنوب سلفت له أو نحو ذلك لم يكفر، وإن أراد أنه لم يفعل معه الأصلح في حقه، فإن

كان مع اعتقاد أن ما فعله معه جور كفر، أو أنه تعالى لا يجب عليه الأصلح أو أطلق لم يكفر. وفي الشفاء عن ابن أبي زيد قيل هذه المسألة: لو لعن رجلاً ولعن الله عز وجل وقال: إنما أردت أن ألعن الشيطان فزلّ لساني قتل بظاهر كفره، ولا يقبل عذره، وقضية مذهبنا قبوله. وما قاله في المسألة الثانية متجه أيضاً لكن محله كما يعلم من آخر كلامه فيمن طالت صحبته للمسلمين حتى ظُنِّ به علم ذلك. وبه يعلم رد ما مرّ عن ابن عبد السلام عن أبي حنيفة وقوّاه من أن من قال: أؤمن بالنبي وأشك في أنه المدفون بالمدينة أو الذي نشأ بمكة لا يكفر؛ لأنه وإن كان معلوماً بالضرورة إلا أنه ليس من الدين؛ لأنا لم نتعبد به فيكون جاحده كجاحد بغداد ومصر انتهى. ووجه ردّهَ أن الشك في ذلك من المخالط للمسلمين يستلزم تضليل الأمة وغير ذلك من العظائم في الدين، وظاهر كلام النووي عفا الله تعالى عنه والقاضي رحمه الله تعالى أن مجرد الكذب عليه صلى الله عليه وسلم في صفة من صفاته المعلومة يقيناً يكون كفراً، وسببه ما مرَّ من أن إنكارها يتضمن التكذيب به، لكن قال بعض المتأخرين: كلام القاضي يوهم أن مجرد الكذب عليه صلى الله عليه وسلم في صفة من صفاته كفر يوجب القتل، وليس كذلك بل لا بدّ من ضميمة ما يشعر بنقص في ذلك كما في مسألتنا؛ لأن الأسود لون مفضول انتهى. وإذا تأملت ما علل به القاضي الذي نقله عنه النووي عفا الله تعالى عنه وأقره علمت أن الوجه أنه لا فرق، على أن إثبات صفة له صلى الله عليه وسلم وافرة لا تكون إلا مشعرة بنقص لأن صفاته صلى الله عليه وسلم لا يتصور أكمل منها، بل كل ما أثبت له غيرها كان نقصاً بالنسبة

لها فالاعتراض حينئذ ليس في محله. وذكر القاضي: أن إنكار كونه صلى الله عليه وسلم كان بتهامة يكون كفراً، ثم نقل عن بعض أئمة مذهبه أن تبديل صفته صلى الله عليه وسلم ومواضعه كفر وهذا يشمل إنكار الهجرة وكونه كان أولاً بمكة وآخراً بالمدينة وغير ذلك مما يشاكله وهو متجه. ومحل ما قاله في المسألة الثالثة ما إذا زعم أنه يوحى إليه بنزول ملك عليه، وإلا فالذي ينبغي أنه لا يكفر. والظاهر أن ما زعمه من دخول الجنة ماضياً أو حالاً أو مستقبلاً قبل موته مرة أو أكثر، سواء ضم إلى ذلك الأكلَ أو المعانقةَ المذكورين أم لا يكون كفراً، وإن كان ربما يتوهم متوهم من كلام الروضة عن القاضي خلاف ذلك، والظاهر أيضاً أن معنى قوله المحمول على ظاهره أي بالإجماع، وقد يستفاد ذلك من كلام الروضة بجعل قوله متعلقاً به أيضاً، وقوله: وإن من لم يكفر إلى آخره ذكر فيه الإجماع وجعله حجة على كفر من ذهب إلى أنه لا حجة لله تعالى على كثير من العامة والنساء والبله ومقلدة النصارى واليهود وغيرهم إذا لم يكن لهم طباع يمكن معها الاستدلال، ثم قال: وقد نحا الغزالي قريباً من هذا المنحى في كتابه "التفرقة" انتهى. وما نسبه إلى الغزالي صرّح الغزالي في كتابه الاقتصاد بما يرده، وعبارته التي أشار إليها القاضي على تقدير كونها عبارته، وإلا فقد دسّ عليه في كتابه عبارات حسداً لا تفيد ما فهمه القاضي ولا تقرب مما ذكره، وعبارته: وصِنْفٌ بلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم ولم يبلغهم مبعثه ولا صفته، بل سمعوا أن كذاباً يقال له: فلان ادعى النبوة فهؤلاء عندي من الصنف الأول: لم يسمعوا اسمه أصلاً،

فإنهم لا يسمعون ما يحرك داعية النظر انتهى. فانظر كلامه تجده إنما عذرهم لعدم بلوغ دعوته صلى الله عليه وسلم لهم، وهذا لا ينجو منحى ما ذكره القاضي. وقد قال ابن السبكي وغيره: لا يبغض الغزالي إلا حاسد أو زنديق. واعلم أن ابن المقري ذكر في روضه أن من لم يكفر طائفة ابن عربي كان كمن لم يكفر اليهود والنصارى، وهذا منه قدح في ابن عربي وطائفته كابن الفارض وغيره ورمي لهم بالكفر لمعتقدهم، بل ولمن لم يكفرهم بالكفر،

ولقد بالغ في ذلك بما لا دليل له عليه ولا مستند يرجع إليه، وقد ردّ عليه ما قاله شيخنا خاتمة المتأخرين زكريا الأنصاري في شرحه للروض، ورددت عليه ما قاله بأبسط مما ذكره شيخنا في إفتاء طويل سطرته في الفتاوى، وبينت فيه أنهم علماء عارفون بالله تعالى وبأحكامه، لكن اغترّ كثير من الجهلة ببعض كلماتهم فضلوا ضلالا ًمبينا، ولعل ابن المقري أشار إلى هؤلاء بقوله: طائفة ابن عربي، ولم يقل: ابن عربي لكن في عباراته من القبح ما لا يخفى. ويؤخذ من قول الروضة: وكذا يقطع بتكفير كل قائل قولاً يتوصل به إلى

تضليل الأمة أو تكفير الصحابة رد ما وقع في الأمالي المنسوبة إلى الشيخ عز الدين بن عبد السلام من أن من كفر أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً رضي الله تعالى عنهم لا يكفر، وإن كان إسلامهم معلوماً بالضرورة؛ لأن جاحد الضرورة لا يكفر على الإطلاق، وإلا لكفرنا من جحد بغداد انتهى. ووجه رده أن تكفير هؤلاء الأئمة يستلزم تضليل الأمة، وربما يستلزم أيضاً إنكار صحبة أبي بكر، وقد مرَّ أن إنكارها كفر، فزعْم كُفرِه رضي الله عنه يكون كفرا بالأولى، ومن ثم قال الزركشي: والظاهر أن هذا مكذوب به على الشيخ انتهى. وقد يجاب عنه بأن الذي يفهم من كلامهم أن تكفير جميع الصحابة كفر؛ لأنه صريح في إنكار جميع فروع الشريعة الضرورية فضلاً عن غيرها بخلاف تكفير طائفة منهم، كما يصرح به ما مرّ عن شرح مسلم من أن المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون عدم تكفير الخوارج المكفرين للمؤمنين، ومما يصرح به أيضاً كلام السبكي في فتاويه، فإنه اختار أن مكفر أبي بكر أو أحد من الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة كافر، وأن كل ما ذكر اختيار له أخذه من رواية عن مالك في كفر الخوارج لتكفيرهم للمؤمنين، ونازع النووي عفا الله تعالى عنه فيما مرّ عنه وأطال فيه بما يعلم من فحواه أنه اختيار له خارج عن مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه، وقد سقت حاصل كلامه هذا في كتابي "الصواعق المحرقة" وبينت ما فيه، وبهذا كله يتأيد رد كلام الشيخ عز الدين فافهم ذلك فإنه مهم.

وحذف من الروضة قول القاضي بعد أن قال: وكذلك وقع الإجماع على تكفير كل من دافع نص الكتاب أو خص حديثاً مجمعاً على نقله مقطوعاً به مجمعاً على حمله على ظاهره، كتكفير الخوارج بإبطال الرجم كأنه لما قدمْته فيه من التفصيل بين أن ينكروا حديثه ويعترفوا به، أو ينكروه من أصله، وظاهر كلام القاضي هذا أنهم ينكرونه من أصله وحينئذ فلا شك في كفرهم، وما ذكره من السجود للصليب ونحوه مرّ في السجود للصنم ونحوه ما يوافقه. وما ذكره في المشي إلى الكنائس مرّ ما قد يخالفه فيمن شد الزنار على وسطه إلا أن يفرق بأن الهيئة الاجتماعية من التزيي بزيهم والمشي معهم إلى كنائسهم قاضية برضاه بكفرهم أو تهاونه بدين الإسلام، أو بأنه معهم على دينهم، وكل ذلك كفر كما مرّ مبسوطاً. وما ذكره في إنكار مكة إلى آخره ظاهر، وقد مرّ ما يؤيده ويشهد له. وما ذكره بقوله: إن كان ممن يظن به علم ذلك .. الخ ظاهر متجه، وينبغي بل يتعين طرده في جميع ما مر من المكفرات. وقوله: أو قال: ليس بمعجز بذاته، وإنما هو لكون الله تعالى صرف القوى

عن معارضته كفر، والتصريح بكفره مشى عليه الحنابلة، وكلام القاضي هذا الذي أقره النووي عفا الله تعالى عنه قد يؤيده. والذي يظهر لي عدم كفره؛ لأن هذا لا يترتب عليه طعن

في الدين ولا تكذيب لضروري من ضرورياته، بخلاف منكر الإعجاز من أصله، ثم رأيت بعض المتكلمين على الشفاء حكى ذلك قولا في معنى الإعجاز، وحينئذ فتكفير قائل ذلك بعيد. ووقع بتونس سنه أربع وثمانين وسبعمائة أن رجلا قال لآخر: أنا عدوك وعدو نبيك فعقد له مجلس فأفتى بعض أئمة المالكية بأنه مرتد يستتاب وأخذ كفره من قوله تعالى: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ) البقرة/98. وأفتى بعضهم بأن كفرَه كفرُ تنقيص فلا يستتاب، وأخذ ذلك مما في الشفاء من أن امرأة سبت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (مَنْ يَكْفِينِي عَدُوّتي؟) فقتلت، ومن كون خالد رضي الله تعالى عنه قتل من قال له عن النبي صلى الله عليه وسلم: صاحبكم،

ومن إفتاء ابن عتاب بقتل من قال: إن سألت أو جهلت فقد سأل وجهل نبيك. واعترضه بعض أئمتهم ممن مال إلى الأول بأن الأول نص في أن كل سابّ عدو ولا شك فيه، وإنما الكلام في عكس هذه القضية وهي لا تنعكس بنفسها، بل قوله: أنا عدوك وعدو نبيك ربما أشعر بترفيع المقول له ذلك؛ لأنا نجد الوضعاء يجعلون لأنفسهم منزلة بذلك، يقول الواحد منهم: أنا عدو الأمير والأمير عدو لي، وقصده به رفع نفسه؛ لأنه في نسبة من يعادي الأمير، وبأن قتل خالد لمن ذكر مذهب صحابي، على أن عمر رضي الله تعالى عنه ودى القتيل من بيت المال ورأى أن قتله غير صواب، وبأن إفتاء ابن عتاب إنما هو لأن ما ذكر في قضيته صريح في التنقيص، فالتحقيق أن قاتل ما مر مرتد لا متنقص، هذا كله على قواعدهم من التفرقة بينهما. أما على قواعدنا فالذي يظهر أنه ردة، وفي الشفاء أيضا يكفر من ذهب إلى أن في كل جنس من الحيوان نذيرا أو نبيا من القردة والخنازير والدواب وغيرها ويحتج بقوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) فاطر/24. إذ ذاك يؤدي إلى أن توصف أنبياء هذه الأجناس بصفاتهم المذمومة، وفيه من الازدراء من هذا المنصب المنيف ما فيه، مع إجماع المسلمين على خلافه وتكذيب قائله. ويكفر أيضا من قال: ليس في معجزاته صلى الله عليه وسلم حجه له، ومن كذب بشيء مما صرح به في القرآن من حكم أو خبر أو أثبت ما نفاه، أو نفى ما أثبته على علم منه بذلك، أو شك في شيء من ذلك، أو جحد التوراة والإنجيل وكتب الله المنزلة أو كفر بها أو لعنها أو سبها أو استخف بها، ومن نودي، فأجاب بـ لبيك اللهم لبيك، فإن اعتقد تنزيل المنادي منزلة الرب كفر، وإلا فلا.

وفيه أيضا مسائل أخرى حسنة تركها النووي للعلم بها مما مرّ، لكن لما كان في أخذها من ذلك نوع خفاء أحببت ذكرها لتصير واضحة بينة مع زيادة فوائد أخرى لا تعلم مما مر. فمن ذلك أن من سبّ نبيا عليه أفضل الصلاة والسلام -ويلحق به في جميع ما يذكر غيره من الأنبياء المتفق على نبوتهم- أو عابه أو الحق به نقصا في نفسه أو في نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله، أو عرض به أو شبهه بشيء على طريق السب والازدراء أو التصغير بشأنه أو الغض منه، أو العيب له، أو لعنه أو دعا عليه، أو تمنى له مضرة أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بمستحق من الكلام وهجر ومنكر من القول وزور, أو عيّره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه كان كافرا بالإجماع كما حكاه جماعة, وحكاية ابن حزم

الخلاف فيه لا معول عليها سواء أصدر منه جميع ذلك أو بعضه فيقتل، ولا

تقبل توبته عند أكثر العلماء، وعليه جماعة من أصحابنا، بل ادعى فيه الشيخ أبو بكر الفارسي الإجماع، وسيأتي بسط الكلام فيه.

وليس من تنقيص النسب ما وقع من الاختلاف في إسلام أبويه كما لا يخفى، وقد قتل خالد بن الوليد رضي الله عنه تعالى عنه من قال له عن النبي صاحبكم، وعد هذه الكلمة تنقيصا له صلى الله علية وسلم. ويدل لما قدمته من إلحاق سائر الأنبياء به صلى الله وسلم في ذلك ما في الشفاء: أجمع العلماء على أن من دعا على نبي من الأنبياء بالويل أو بشيء من المكروه أنه يقتل بلا استتابة، وقد ذكر ذلك آخره فقال: وحكم من سب سائر

أنبياء الله تعالى وملائكته واستخف بهم وكذبهم فيما أتوا به، أو أنكرهم أو جحدهم حكم نبيا صلى الله عليه وسلم على سياق ما قدمناه. وفيه عن مالك: من قال: رداء النبي صلى الله عليه وسلم أو إزاره وسخ، وأراد به عيبه قتل، ويؤخذ منه أنه لو أطلق ذلك أو قصد الإخبار عن تواضعه صلى الله عليه وسلم لا يكفر، وهو ظاهر في إرادة التواضع ومحتمل عند الإطلاق؛ لأنه ليس صريحا في النقص، وإذا قلنا بعدم الكفر، فظاهر أنه يعزر التعزير البليغ لذكره ما يوهم نقصا. وفيه عن القابسي من قال فيه صلى الله عليه وسلم: الحمال يتيم أبي طالب قتل والظاهر أن مذهبنا لا يأبى ذلك، لما في عبارته من الدلالة على الازدراء، فأن ذكر يتيم أبي طالب فقط لم يكن صريحا في ذلك فيما يظهر. نعم إن كان السياق يدل على الازدراء كان كما لو جمع بين اللفظين.

وفيه عن ابن أبي زيد: من قال: صفته صلى الله عليه وسلم كصفة رجل قبيح الوجه واللحية، قتل، ومذهبنا قاض بذلك. وفيه عن صاحب سحنون في رجل قيل له: لا وحق رسول الله، فقال: فعل الله برسول الله كذا وكذا، وذكر كلاما قبيحا, ثم قال: أردت برسول الله العقرب أنه لا يقبل دعواه التأويل، ومذهبنا لا يأبى ذلك، وعن ابن عتاب في عشار قال لرجل: أد واشك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إن سألت أو جهلت فقد جهل وسئل، أنه يقتل، ومذهبنا قاض بذلك أيضا، بل الذي يظهر أن مجرد قوله: أد واشك إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقصد عدم المبالاة كفر أيضا.

وعن فقهاء الأندلس أنهم أفتوا بقتل من سماه صلى الله عليه وسلم يتيما وختن

حيدرة, وزعم أن زهده لم يكن قصدا، لو قدر على الطيبات أكلها، ومذهبنا لا ينافي ذلك، بل زعمه ما ذكر في الزهد ينبغي أن يكون كافيا في كفره، وهو ظاهر لنسبة النقص إليه صلى الله عليه وسلم، وعن ابن المرابط من قال: إنه صلى الله عليه وسلم هزم يستتاب، فأن تاب وإلا قتل؛ لأنه تنقيص، إذ لا يجوز عليه ذلك، وقضية مذهبنا أنه لا يكفر بذلك إلا إن قاله على قصد التنقيص؛ لأنه ليس صريحا فيه؛ لأن الهزيمة قد تكون من الجبلات البشرية، فأن لم يقصد ذلك لم يكفر، لكن يعزر التعزير الشديد. قال القاضي عياض بعد ذكر ما تقدم وغيره: وكذالك أقول: حكم من غمصه أو عيّره برعاية الغنم أو بالسهو أو بالنسيان أو السحر، أو ما أصابه من جرح أو هزيمة لبعض جيوشه، أو أذى من عدوه أو شدة في زمنه أو بالميل إلى نسائه، فحكم هذا كله لمن قصد به نقصه القتل انتهى. وما ذكره ظاهر لقصد النقص وهو كفر كما مر. ثم قال: من تكلم غير قاصد للسب ولا معتقد له في جهته صلى الله عليه وسلم بكلمة الكفر من لعنه أو سبه أو تكذيبه أو إضافة ما لا يجوز عليه أو نفي ما يجب له مما هو في حقه صلى الله عليه وسلم نقيصة مثل أن ينسب إليه إتيان كبيرة أو مداهنة في تبليغ الرسالة,

أو في حكم بين الناس، أو نقص في مرتبته أو شرف نسبه أو وفور علمه أو زهده، أو يكذب بما اشتهر به من أمور أخبر بها عليه أفضل الصلاة والسلام وتواتر الخبر بها عنه عن قصد لرد خبره، أو يأتي بسفه من القول أو نوع من السب في جهته، وان ظهر بدليل حاله أنه لم يتعمد ذمه ولم يقصد سبه، إما لجهالة حملته على ما قاله، أو لضجر أو سكر اضطره إليه، أو قلة مراقبة وضبط للسانه, فحكمه القتل دون تلعثم، إذ لا يعذر أحد في الكفر بالجهالة ولا بدعوى زلل اللسان، ولا بشيء مما ذكرناه إذا كان عقله في فطرته سليما, إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، وبهذا أفتى الأندلسيون على من نفى الزهد عنه صلى الله عليه وسلم كما مر انتهى. وما ذكره ظاهر موافق لقواعد مذهبنا، إذ المدار في الحكم بالكفر على الظواهر، ولا نظر للمقصود والنيات ولا نظر لقرائن حاله. نعم يعذر مدعي الجهل، إن عذر لقرب إسلامه، أو بعده عن العلماء، كما يعلم مما قدمته عنه في الروضة، ويعذر أيضا فيما يظهر بدعوى سبق اللسان بالنسبة لدرء القتل عنه, وان لم يعذر فيه بالنسبة لوقوع طلاقه وعتقه, والفرق أن ذلك حق الله تعالى وهو مبني على المسامحة بخلاف هذين. ولو قال: فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرياء، فإن أراد الرياء المحرم الذي هو كبيرة فقد ذكره القاضي، أو أطلق، أو أراد به إظهار خلاف ما يبطن لم يكفر كما هو ظاهر، لكنه يعزر التعزير البليغ, وقوله: وتواتر الخبر بها عنه: أي: لفضا وهو موجود، خلافا لمن زعمه نفيه، أو معنى ولا نظر في ذلك، خلافا لمن زعمه، ولو كان في ضيق من حبس أو فقر، وقصد بالتلفظ بمكفر مما مر أو غيره أن يقتل ليستريح لا حقيقة المكفر، فهل هو كافر باطنا أو نقول: هذه قرينة تنفي الكفر عنه باطنا كل محتمل، ولعل الثاني أقرب.

وحكى عن أئمة مذهبه خلافا فيمن أغضبه غريمه فقال له: صل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم, فقال: لا صلى الله على من صلى عليه، فقيل: ليس بكفر؛ لأنه إنما شتم الناس، وليس ثم قرينة تصرف الشتم له صلى الله عليه وسلم ولا إلى الملائكة الذين يصلون عليه, وقيل: كفر, واللائق بقواعدنا الأول؛ لأن اللفظ ليس صريحا في شتم الملائكة ولا الذات المقدسة، وإنما هو ظاهر في شتم نفسه إن صلى أو غيره من الناس، مع عدم الكفر يعزر التعزير البليغ. وعن القابسي يتوقف فيمن قال: كل صاحب فندق -أي: خان- قرنان ولو كان نبيا مرسلا. قال: فيستفهم: هل أراد صاحب الفنادق الآن؟ فليس فيهم نبي مرسل فيكون أمره أخف، ولكن ظاهر لفظه العموم انتهى، والأوجه أن اللفظ ليس صريحا في ذم الأنبياء ولا سبهم فلا يكفر بمجرد هذا اللفظ، بل يعزر التعزير الشديد. وعن ابن أبي زيد أن من قال: لعن الله العرب أو بني إسرائيل، أو بني آدم، وقال: لم أرد الأنبياء، بل الظالمين لم يكفر بل يعزر، وكذالك لو قال: لعن الله من حّرم المسكر، وقال: لم أعلم من حّرمه, وكذا لو لعن حديث: (لاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ) ولعن من جاء به، وكان ممن يعذر بالجهل وعدم معرفة السنن؛ لأنه لم يقصد بظاهر حاله سب الله تعالى ولا سب رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما لعن من حرمه من الناس انتهى.

وهو ظاهر، ولا بد من تقييد لاعن محرم المسكر بأن يكون ممن يجهل ذلك أيضا، ويعذر بالجهل به، بأن كان قريب الإسلام، ولم يكن مخالطا للمسلمين، وإلا فتحريمه معلوم من الدين بالضرورة كما مر، ولو كان لعنه من جاء بالحديث المذكور بعد قول أحد له: هذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك كان ذلك كفرا، ولا يقبل قوله: ما أردته؛ لأن لفظه ظاهر في تكذيبه فليتب، وإلا قُتل. وذكر فيما قال لآخر: يا ابن ألف خنزير أنه لا يكفر، وإن شمل هذا اللفظ جماعة من الأنبياء ما لم يعلم أنه قصد سبهم. وما ذكره في ظاهر؛ لأن ظاهر هذا اللفظ المبالغة في سب المخاطب دون غيره، لكن يعزر ويبالغ في تعزيره. وظاهر كلامه أن من قال لهاشمي: لعن الله بني هاشم، وقال: أردت الظالمين منهم، أو قال لمن يعلم أنه من ذريته صلى الله عليه وسلم قولا قبيحا في آبائه أو من نسله أو ولده لا يقبل تخصيصه بإرادة غير النبي صلى الله عليه سلم من غير قرينة، وهو محتمل لعموم لفظه، لكن الأقرب إلى قواعدنا قبوله مطلقا؛ لأن اللفظ بوضعه لا ينافي تلك الإرادة، لكن يبالغ في تعزيره. وحكى عن بعض أئمته فيمن قال لآخر: لعنه الله إلى آدم أنه يقتل, وقضية قواعدنا بخلافه، لما قدمته من أن لفظه ليس صريحا في سب نبي، لاحتماله إلى أن يلقى آدم في القيامة، بل لو قال: لعن الله آباءه إلى آدم كان عدم التكفير أقرب أيضا، إن ادعى إرادة غير الأنبياء منهم، لاحتمال ما ادعاه، وعدم صريح يدل على خلافه, ولا يقال: كلامه يتناول آدم للخلاف المشهور في دخول الغاية. وعن مشايخه خلافا فيمن قال لشاهد عليه بشيء قال له: تتهمني, الأنبياء

يتهمون فكيف أنت؟ فقيل: يقتل لبشاعة لفظه، وقيل: لا، لاحتمال أن يكون خبرا عمن اتهمهم من الكفار، وهذا الثاني هو الأوجه. وعن شيخه أنه عزر من سب رجلا، ثم قصد كلبا فضربه برجله، وقال: قم يا محمد وما دل عليه كلامه من عدم كفره بذلك هو الصواب. وميل كلامه رحمه الله تعالى بل صريحه عدم الكفر في مسائل ليس فيها قصد نقص ولا ذكر عيب, لكن فيها ذكر بعض أوصافه، واستشهاد ببعض أحواله عليه الصلاة السلام الجائزة عليه على سنة ضرب المثل والحجة لنفسه أو لغيره أو على التشبه به أو عند مظلمة نالته أو تنقيص حصل له ليس على طريق الناس والتحقيق: بل على مقصد الرفع لنفسه أو غيره أو على سبيل التمثيل وعدم التوقير لنبيه عليه الصلاة والسلام أو قصد الهزل. فمن تلك المسائل أن يقول: إن قيل فيَّ السوء فقد قيل في النبي, وإن كُذّبت فقد كُذب الأنبياء, أو إن أذنبت فقد أذنبوا، أو أنا أسلم من الألسنة ولم يسلموا، أو صبرت كما صبر أولو العزم أو كصبر أيوب، وهل يحرم ذكر ذلك؟

الذي يظهر أنه إن قصد به الترفع وأنه شاركهم في أصل هذه الفضائل كان حراما شديد التحريم, وإن قصد هضم نفسه على طريق المبالغة بمعنى أنه لا نسبة لي بإتباعهم، وقد وقع لهم ذلك فوقوعه لي أولى، لم يكن حراما, وعلى هذا يحمل ما وقع لبعض الأكابر من استشهادهم على ما حصل لهم بنحو هذه الكلمات في خطب كتبهم وغيرها. نعم قوله: إن أذنبت فقد أذنبوا شديد التحريم لا يجوز الاستشهاد به بحال. ومنها: ما يقع في إشعار المتعجرفين في القول المتساهلين في الكلام كقول المتنبي:

أنا في أمة تداركها الله ... غريب كصالح في ثمود وكلامه محتمل لقصده تشبيه حاله في الغربة بحال صالح عليه الصلاة والسلام، فيكون من قصد الترفع، أو تشبيه حال من هو فيهم بحال ثمود من المشاق وعدم الطواعية له، فيكون مستلزما للترفع وصريحا في سبهم، وعلى كل فهو غير كافر، ونحوه قول ابن نبيه: في حُسْن يوسفَ إلا أنه ملك ... فلا يباع ببخس النقد معدود ومنها: قول أبي العلاء:

كنت موسى وافته بنت شعيب ... غير أن ليس فيكما من فقير ولا يستنكر كلامه هذا الدال على الإزراء والتحقير لموسى صلى الله عليه وسلم، فإنه كان زنديقا كافرا، وقد أتى في كثير من شعره بصرائح الكفر، وقد نحا نحوه في زيادة القبح والتصريح بالكفر في شعره ابن هانئ الأندلسي، ومن كلام أبي العلاء الذي ليس صريحا في الكفر قوله:

لولا انقطاع الوحي بعد محمد ... قلنا محمد من أبيه بديل هو مثله في الفضل إلا أنه ... لم يأته برسالة جبريل وإنما لم يكن كفرا؛ لأن ظاهر قوله إلا .. إلى آخره أن الممدوح نقص لفقد ذلك، فإن أراد أنه استغنى عن ذلك فلا يحتاج إليه في المماثلة كان أقرب إلى الكفر، بل كفرا، ونحوه في القبح قول الآخر: وإذا ما رفعت راياته ... صفقت بين جناحي جبرئين ونحوه أيضا قول حسان الأندلسي في محمد بن عباد المعتمد ووزيره أبي بكر بن زيدون:

كأن أبا بكر أبو بكر الرضا ... وحسان حسان وأنت محمد

وليحذر الشاعر وغيره من ارتكاب هذه القبائح الشديدة الوزر العظيمة الإثم، فإنها ربما جرت إلى الكفر، نعوذ بالله تعالى من ذلك. ولم يزل المتقدمون والمتأخرون ينكرون مثل هذا ممن وقع منه، فمما أنكر على أبي نواس قوله: فإن يك باقي سحر فرعون فيكم ... فإن عصا موسى بكف خصيب

ووجه الإنكار عليه أن عصا موسى إنما تتصرف بحقيقتها من الإضافة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن كان إنما أراد بها نجما معروفا، فإنها اسم له، وكف الخصيب بالمعجمة قيل: وبالمهملة: اسم لنجم أيضا. ومما كفر به قوله في محمد الأمين وتشبيهه إياه بالنبي صلى الله عليه وسلم قوله: تنازع الأحمدان الشبه فاشتبها ... خلقا وخُلقا كما قُدَّ الشراكان وهو وإن كان في غاية القبح إلا أنه لا يكون كفرا على قضية مذهبنا إلا إن قصد المشابهة المطلقة، ومما أنكر عليه أيضا قوله:

كيف لا يدنيك من أمل ... من رسول الله من نفره لأن من واجب تعظيمه صلى الله عليه وسلم أن يضاف إليه ولا يضاف. ومنها: ما نقله عن مالك من تأديب من عيّر بالفقر، فقال: قد رعى النبي صلى الله عليه وسلم الغنم؛ لأنه عرّض بذكره صلى الله عليه وسلم في غير موضعه، قال مالك: ولا ينبغي لأهل الذنوب إذا عوتبوا أن يقولوا: قد أخطأت الأنبياء قبلنا. ونقل عن سحنون: لا ينبغي أن يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم عند التعجب إلا على طريق الثواب والاحتساب تعظيما له كما أمرنا الله تعالى. ومنها: ما نقله عن القابسي فيمن قال لقبيح: كأنه وجه نكير، ولعبوس: كأنه وجه مالك الغضبان أنه لم يكفر، إذ لا تصريح فيه بسب المَلك، وإنما السب فيه للمخاطب، بل يعاقب العقاب الشديد، فإن قصد ذم الملك قتل، وما ذكره ظاهر، ويؤخذ من كلامه أن ذم بعض الملائكة وتنقيصهم كذم

الأنبياء وتنقيصهم وهو ظاهر، ثم رأيته صرح بذلك في آخر الكتاب وقد قدمته عنه. ثم قال: وهذا كله فيمن تكلم فيهم بما قلناه على جملة الملائكة والنبيين، أو على معين ممن حققنا كونه من الملائكة والنبيين ممن ذكره الله تعالى في كتابه، وحققنا علمه بالخبر المتواتر أو المشهور المتفق عليه بالإجماع القاطع كجبريل وميكائيل ومالك وخزنة الجنة وجهنم، والزبانية وحملة العرش المذكورين في القرآن من الملائكة، ومن سمى فيه من الأنبياء، وكعزرائيل

وإسرافيل ورضوان والحفظة، ومنكر ونكير من الملائكة المتفق على قبول الخبر بهم، فأما من لم يثبت الإخبار بتعيينه، ولا وقع الإجماع على كونه من الملائكة والأنبياء كهاروت وماروت في الملائكة، والخضر ولقمان وذي القرنين ومريم وآسية وخالد بن سنان، فليس الحكم في شأنهم، والكافر بهم كالحكم فيمن قدمناه، إذ لم يثبت لهم تلك الحرمة، ولكن يزجر من ينقصهم انتهى كلامه.

وهو ظاهر جلي، وبه يعلم خطأ من قال: إن ما يحكيه المفسرون في قصة هاروت وماروت في آيتهما في سورة البقرة كفر، وليس كما زعم، ولقد وقع بذلك في ورطة عظيمة، وإن كان جليلا، فقد حكى هذه القصة أكابر من المفسرين كابن جرير الطبري والإمام البغوي وغيرهما، ومن ثم انتصر لهم بعض المتأخرين من المحدثين، وخرّج هذه القصة بأسانيد صحيحة، وردّ على من خالف في ذلك فجزاه الله على ذلك خيرا.

وقد قال القاضي: من أنكر نبوة أحد ممن ذكر، وهو من أهل العلم لا حرج عليه لاختلاف العلماء في ذلك. وعن القابسي أيضا أن شابا عرف بالخير قال لمن قال له: إنك أميّ: أليس كان النبي صلى الله عليه وسلم أميّا لم يكفر بذلك، وإن أخطأ في الاستشهاد، لأن الأمية شرف له صلى الله عليه وسلم ونقص لغيره. ومنها: ما نقله عن شيخه فيمن قال لمن تنقصه: إنما تريد نقصي بقولك: وأنا بشر وجميع البشر يلحقهم النقص حتى النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يكفر، خلافا لمن أفتى بقتله، لأنه لم يقصد السب.

وللقاضي رحمه الله تعالى تفصيل حسن في حاكي السب ونحوه، وهو إن ذكره: إن كان على وجه التعريف بقائله والإنكار عليه فقد يجب وقد يندب. وقد أجمع السلف والخلف على حكايات مقالات الكفرة والملحدين في كتبهم ومجالسهم لبيانها وردها. وإن كان على وجه الحكايات والإسماع والظرف وأحاديث الناس ومقالاتهم في الغث والسمين وهو الكلام الجامع لاختلاف الدلالات حسنا وقبيحا، إذ الغث الهزيل ونوادر السخفاء والخوض في قيل وقال، وما لا يعني، فكل هذه ممنوع منه، وبعضه أشد في المنع والعقوبة من بعض. وقد سأل رجل مالكا عمن يقول: القرآن مخلوق، فقال مالك: كافر اقتلوه، فقال: إنما حكيته عن غيري فقال مالك: إنما سمعناه منك، وهذا منه رحمه الله تعالى على طريق الزجر، وإن كان على وجه الاعتبار له، أو أظهر استحسانه، أو كان مولعا بمثله حفظا ودراسة وتطلبا له وبرواية أشعار هجوه عليه الصلاة والسلام وسبه، فهو كالساب ولا ينفعه نسبته إلى غيره فيبادر بقتله. وقد قال أبو عبيد القاسم بن سلام: حفظ شطر بيت مما هجي به صلى الله عليه وسلم كفر، وأجمعوا على تحريم رواية ما هجي به النبي صلى الله عليه وسلم وكتابته وقراءته انتهى. وما ذكره من المبادرة بقتله أي: إن لم يتب، ومن الكفر ظاهر عند الرضا

بذلك واستحسانه لا إن قصد به غير ذلك، وما ذكره من الإجماع محله في روايته لغير غرض مسوّغ لذلك. ثم ذكر تفصيلا آخر فيمن ذكر ما يجوز عليه صلى الله عليه وسلم أو اختلف في جوازه عليه، وما يلحقه من الأمور البشرية ويمكن إضافتها إليه، أو مما امتحن به وصبر عليه، أو ما يعرف به ابتداء حاله وسيرته وما لقيه من قومه، وهو أن ذلك إن كان على طريق الرواية ومذاكرة العلم ومعرفة ما صحت منه العصمة للأنبياء، وما يجوز عليهم، فلا حرج فيه، بل يكون حسنا إن كان من أهل العلم وفهماء طلبة أهل الدين ممن يفهم مقاصده، ويجتنب ذلك مع من عساه لا ينفعه أو يخشى به فتنة، فقد كره بعض السلف تعليم النساء سورة يوسف، وإن كان على غير وجهه، وعلم منه بذلك سوء مقصده لحق ما تقدم من السب ونحوه، وكذلك ما ورد من أخباره وأخبار سائر الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام مما ظاهره مشكل لاقتضائه أمورا لا تليق بهم بحال، ولا يتحدث منها إلا بالصحيح، ولقد كره مالك رضي الله تعالى عنه التحدث بها إذ أكثرها لا محمل تحته، وإنما أوردها صلى الله عليه وسلم لقوم عرب يفهمون كلام العرب على وجهه حقيقة ومجازا واستعارة وغيرها، وإنما أشكلت على قوم جاؤوا بعد ذلك غلبت عليهم العجمة. وما اقتضاه كلامه من حرمة ذكر ما مرّ للعوام ظاهر إن ظن بقرينة حالهم تولد فتنة لهم منه أو استخفاف أو نحوهما، وإلا فالذي ينبغي الكراهة.

هذا، وفي الأنوار من كتب أئمتنا المتأخرين مسائل أخرى غير ما مر فلنذكرها وإن كان في ضمنها ما علم مما مرّ. وهي أن إلقاء المصحف في المكان القذر كإلقائه في القاذورات، وأن سب الملك كالنبي، وأن من استخف بالمصحف أو التوراة أو الإنجيل أو الزبور كفر، وأنه لو قال: ليست المعوذتان من القرآن اختلف في كفره، وقال بعضهم: إن كان عاميا كفر أو عالما فلا، وأنه لا يكفر بالإقامة في بيعة أو كنيسة، وأنه يكفر من قال: إن الولي أفضل من النبي، أو المرسل إليه أفضل من الرسول أو أعز أو أعلى مرتبة، وأنه لو أنكر السنن الراتبة أو صلاة العيدين كفر، وأنه لو استحل إيذاء أحد من الصحابة، أو نفى علم الله بالمعدوم أو بالجزئيات كفر، واستحلال إيذاء غير الصحابة يكفر أيضا كما هو ظاهر مما مرّ، وأن من أنكر خلافة الصديق مبتدع لا كافر، ومن سب الصحابة أو عائشة رضي الله تعالى عنهم من غير استحلال فاسق. واختلفوا فيمن سب أبا بكر وعمر. قال غيره: وفي كفر من سب الحسنين رضي الله تعالى عنهما وجهان، وأنه لو قال: الروح قديم، أو قال: إذا ظهرت الربوبية زالت العبودية، وعنى بذلك رفع الأحكام، أو قال: إنه فني من صفات الناسوتية إلى اللاهوتية، أو قال: إن صفاته تبدلت بصفات الحق،

أو قال: إنه يرى الله تعالى عيانا في الدنيا ويكلمه شفاها، أو أن الله يحل في الصور الحسان، أو قال: إن الحق يطعمه ويسقيه، وأسقط عنه التمييز بين الحلال والحرام، وأنه يأكل من الغيب ويأخذ منه، أو قال: أنا الله أو هو أنا، أو قال: دع الصلاة والزكاة والصوم والقراءة وأعمال البر، الشأن في عمل الأسرار، أو قال: سماع الغناء من الدين وأنه أنفع للقلوب من القرآن، أو قال: العبد يصل إلى الله تعالى من غير طريق العبودية، أو قال: وصلت إلى رتبة تسقط عني التكليف، أو قال: الروح نور الله فإذا اتصل النور بالنور اتحد، كفر في جميع هذه المسائل. بخلاف ما لو قال: وصلت إلى رتبة خلصت من رقية النفس وعتقت منها فإنه لا يكفر لكنه مبتدع مغرور، وكذا لو قال: أنا أعشق الله أو يعشقني، والعبارة الصحيحة: أحبه ويحبني، أو قال: يلهمني الله ما أحتاج إليه من أمر ديني، فلا أحتاج إلى العلم والعلماء، بل هو مبتدع كذاب، ومن أظهر السكر والوجد، ولا يستقيم ظاهره، ولا تتقيد جوارحه بالورع، فهو مغرور بعيد من الله تعالى، ومن تخلى واعتزل وترك الجماعات بلا عذر شرعي فمبتدع لا يقبل الله منه الزهد، ومن ادعى الكرامات لنفسه بلا غرض ديني فكاذب يلعب به الشيطان، ومن قال في غير الغلبات: ما بقي لسوى الحق فيّ موضع، فهو بعيد من الله تعالى مبتدع، انتهى حاصل ما في الأنوار. والوجه كفر منكر المعوذتين إذا كان مخالطا للمسلمين؛ لأن ذلك لا يخفى على أحد منهم. والذي يتجه أيضا كفر من أنكر سنة راتبة مجمعا عليها معلومة من الدين بالضرورة كما يدل له قوله: أو صلاة العيدين، لكن إنكار أحدهما كذلك، خلافا لما يوهمه قوله: السنن الراتبة، وقوله: العيدين، بل يكفي في الكفر إنكار سنة واحدة بالشروط المذكورة، وأن محل تكفير المستحل إيذاء الصحابة، ما لم يكن عن تأويل ولو خطأ، لأنه ظني، فله شبهة ما تمنع الكفر، وأنه لا يشترط في كفر من زعم أنه يرى الله عيانا في الدنيا ويكلمه شفاها اجتماع هذين،

خلافا لما توهمه عبارة الأنوار، بل يكفر زاعم أحدهما، ثم رأيت الكواشي صرح في تفسيره بكفر معتقد الرؤية بالعين، وهو صريح فيما ذكرته، لكن عندي في إطلاق ذلك نظر، والذي يتجه حمله على رؤية أو كلام متضمن للإحاطة بذاته تعالى، لما مرّ أن الأصح أنا لا نكفر الجهوية ولا المجسمة، إلا إن صرّحوا باعتقادهم للوازم قولهم في الحدوث أو ما هو نص فيه كاللون والتركيب والاحتياج، فتأمل ذلك. وكذا يكفر زاعم إسقاط التمييز عنه بين الحلال والحرام. أو أن الله يطعمه ويسقيه، أو أنه يأكل من الغيب ويأخذ منه، ولا يشترط اجتماع هذه الثلاثة، خلافا لما يوهمه كلام الأنوار أيضا، وكذا القائل: دع الصلاة .. إلى آخر ما مرّ فيه، لا يشترط في تكفيره بذلك جمعه بين تلك الأمور، بل يكفي: دع الصلاة مثلا، الشأن في عمل السر، وكذا زاعم أن سماع الغناء من الدين، وأنه أنفع من القرآن الكريم لا يشترط في تكفيره جمعه بين هذين، بل يكفي أحدهما، وهذا الذي تعقبته به جميعه، لم أرَ من نبه على شيء منه، لكنه ظاهر للمتأمل فليتنبه لذلك.

ووقع للرافعي كلمات بالعجمية، ترجمها بعض فقهاء الأعاجم، ومرّ منها جملة، وحاصلها وإن مرّ كثير منها: أن من قال: عمل الله في حقي كل خير وعمل الشر مني، كفر، ونظر فيه الرافعي بقوله تعالى: (وَمَا? أَصَابَكَ مِن سَيِّئَة فَمِن نَّفسِكَ) النساء/79 والنظر واضح فالصواب عدم الكفر. إذ هذا من بعض اعتقادات المعتزلة، وهم لا يكفرون على الصحيح. وأن من قال: أنا الله، على سبيل المزاح كفر، وأنه لو قال قائل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل لحس أصابعه، فقال آخر: هذا غير أدب كفر، وأن من قال: يد الله طويلة فقيل: لا يكفر وقيل: إن أراد الجارحة كفر انتهى. ومر الخلاف في كفر المجسمة. وأنهم اختلفوا في كفر من قال لغيره: الله يظلمك كما ظلمتني أو الله يعلم أني أحزن لحزنك وأفرح لفرحك مثل ما أحزن لحزن نفسي وأفرح لفرحها انتهى. والذي يتجه ترجيحه في الأول أنه إن أراد نسبة حقيقة الظلم على الله تعالى كفر وإلا فلا، وفي الآخرين إن أراد حقيقة الدوام في أولاهما أو حقيقة المماثلة في ثانيتهما كفر، لأنه نسب إلى علم الله تعالى غير الواقع، ومن اعتقد أنه تعالى يعلم الواقع على غير ما هو عليه فلا شك في كفره، لأن هذا العلم عين الجهل، ونسبة الجهل إلى الله تعالى كفر اتفاقا، وأما إذا أراد بذلك المبالغة فإنه لا يكفر به.

وأنه لو قيل له: ألا تقرأ القرآن أو ألا تصلي؟ فقال: شبعت من القرآن أو من الصلاة كفر انتهى. والذي يتجه أن محل الكفر هنا إن أراد الاستخفاف بالقرآن أو بالصلاة وإلا فلا، لأن ذلك قد يعبر به عن وقوع ملل في النفس وإبائها عن تحمل ثقل الطاعات من غير استخفاف بها. وأنه لو قيل له: صل، فقال: العجائز يصلون عنا، أو الصلاة المعمولة وغير المعمولة واحدة، أو صليت إلى أن ضاق قلبي. أو قيل له: صل حتى تجد حلاوة الصلاة، فقال: لا تصل أنت حتى تجد حلاوة ترك الصلاة، أو قيل لعبد: صل فقال: لا أصلي فإن الثواب لمولاي كفر المجيب بما ذكر في الجميع انتهى. وله وجه في غير الأخيرة، فإن ذلك ظاهر في الاستخفاف والاستهزاء بالصلاة، والفرق بين قوله فيما مرّ: شبعت، وقوله هنا: إلى أن ضاق قلبي ظاهر، فإن الشبع من الشيء لا يستلزم ذمه بوجه، بل يستلزم مدحه، إذ لا يشبع إلا من الحسن غالبا بخلاف ضيق القلب، فإنه إنما يعبر به عن القبيح، ففيه غاية الذم والاستخفاف، وأما الأخيرة أعني قول العبد ما مرّ، فلا دلالة فيما قاله على الاستخفاف والاستهزاء، ومن ثم صرح في الأنوار بعدم الكفر فيها وهو الأوجه. وأنه لو سمع خصمه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال: إيش يكون لا حول، أو إيش تعمل أو نحو ذلك كفر انتهى. قلت: وكأن وجهه أن هذا فيه استخفاف بحول الله وقوته ونسبة الله تعالى إلى العجز وهو ظاهر فيمن عرف معنى لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قائل ذلك إما جاهل لا يعرف معنى هذه الكلمة، فينبغي فيه ألا يطلق القول بكفره، بل يعرف معناها فإن عاد عالما لما قاله كفر، وإلا فلا. وأنه لو سمع مؤذنا فقال: هذا صوت الجرس كفر انتهى. وفي إطلاق الكفر هنا نظر، والذي يتجه أنه لا يكفر إلا إن قصد بذلك الاستخفاف أو الاستهزاء بالأذان نفسه.

وأنه لو قيل لظالم: اصبر حتى المحشر، فقال: أي شيء في المحشر كفر، وأنه لو قيل له: فلان يأكل حلالا، فقال: أحضره حتى أسجد له كفر انتهى. وفي إطلاق الكفر هنا نظر، إذ غاية العزم للسجود لإنسان أنه كالسجود لا على السجود له بالفعل, وقد صرَّحوا بأن سجود جهلة الصوفية بين يدي مشايخهم حرام، وفي بعض صوره ما يقتضي الكفر, فعلم من كلامهم أن السجود بين يدي الغير منه ما هو كفر، ومنه ما هو حرام غير كفر, فالكفر أن يقصد السجود للمخلوق، والحرام أن يقصده لله تعالى معظماً به ذلك المخلوق من غير أن يقصده به أو لا يكون له قصد. وأنه لو رجع من مجلس عالم فقالت زوجته: لعنة الله على كل عالم كفرت انتهى. ويتوجه أن محله فيمن أرادت حقيقة العموم الشامل للأنبياء أو أطلقت, بخلاف من أرادت نوعاً غير ذلك. وأنه لو أمره آخر بحضور مجلس العلم، فقال: أي شيء أعمل بمجلس العلم كفر انتهى. وفي إطلاق الكفر هنا نظر, ويتجه أن محله فيمن أراد الاستخفاف أو الاستهزاء، لأن اللفظ يحتمل غيرها، وليس ظاهراً فيهما. وأنه لو قال لفقيه: هذا هوسي كفر انتهى. وفيه نظر، اللهم إلا أن يستخف أو يهزأ به من حيث الفقه الذي هو متلبس به, فلا شك في كفره حينئذٍ. وأنه لو أعطى خصمه فتوى علم فألقاها بالأرض، وقال: أي شيء هذا الشرع كفر، وأنه لو قال لزوجته: يا كافرة أو يا يهودية فقالت: أنا كما قلت كفرت، وأنه لو قيل لمرتكب الصغائر: تب إلى الله تعالى، فقال: أي شيء عملت حتى أتوب كفر انتهى. وفي إطلاق الكفر في هذه الأخيرة نظر لاحتمال أن يريد أنها تكفر باجتناب الكبائر كما قال به جماعة، بل هو الأصح، وتكفيرها بذلك لا ينافي وجوب

التوبة منها كما هو ظاهر, لأن التكفير من أمور الآخرة التي لا تظهر فائدتها إلا ثم, بخلاف وجوب التوبة فإنه من أُمور الدنيا وترتبط به أحكام دنيوية، فاختلفا فائدة وأحكاماً فلا يلزم من التكفير سقوط وجوب التوبة، وإذا احتمل اللفظ ما ذكر احتمالاً ظاهراً لم يحسن إطلاق القول بالكفر, فالذي يتجه أنه لا يكفر إلا إن أراد أنه لم يعمل معصية من أصلها، لما مرَّ أن إنكار المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة كفر، كبيرة كان أو صغيرة. وأنه لو قال: فلان كافر وهو أكفر مني كان إقراراً بالكفر، انتهى حاصل مما وقع في العزيز بالعجمية، وترجم عنه بما مرّ مما علمت ما في أكثره من النظر وترجيح خلاف إطلاقه فتأمل ذلك واعتن به فهماً وحفظاً فإنه مهم, والعجب من القمولي وغيره حيث نقلوا ذلك، ولم يعترضوه بشيء مع ظهور ما قدمته فيه.

فرع: قال بعض المالكية أيضاً: من قال: إن كان قيل في حقي أو حق فلان أو إن جرى له كذا, فقد قيل في حق الأنبياء أو جرى لهم حرم عليه إطلاق ذلك، لأن ما انتقص به بضيفه للأنبياء فيؤدب, وفهم بعضهم من كلام الشفاء السابق أنه يكفر بذلك، وليس كما فهم. وقد قال الغزالي أول منهاجه رداً على من تكلم في كلامه: وأي كلام أفصح من كلام رب العالمين، وقد قالوا أساطير الأولين, وقد قال الإمام الكبير إمام أصحابنا أبو منصور البغدادي أنه قال في جواب من طعن في الشافعي رضي الله تعالى عنه بأنه لم يكمل اجتهاده لتوقفه في الراجح من القولين له، وليس الشافعي أجل من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد توقف في قذف الرجل زوجته حتى نزلت آية اللعان.

وقال: الشيخ أبو إسحاق رداً على من طعن على الأشعري وأصحابه: وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مع معجزاته لم يخل من عدو منافق وحاسد فاسق ينسب إليه ما ليس عليه، فغيره أولى وأحرى أن لا يسلم من ذلك.

ولما حكى اليافعي ما مرَّ قال: وليس في مذهبنا ما يوافق القول بالتفكير لا تصريحاً ولا تلويحاً، وليس لمن قال به دليل, وتعليله بأن القصد التشبيه والانتقاص فاسد، إذ لا يقصد ذلك من في قلبه إسلام، بل المراد: كيف لا يتكلم في حقير مثلي وقد تكلم في الأكابر؟ قال بعض المتأخرين: بل إطلاق التحريم في ذلك بحسب مذهبنا منظور فيه انتهى. والوجه عدم التحريم حيث كان المراد ما قاله اليافعي أو أطلق.

وإذ قد علمت أكثر المكفرات عند الحنفية والمالكية, فلنذكر لك طرفاً من المكفرات عند الحنابلة سواء وافقوا ما مرّ أو خالفوه. وحاصل عبارة الفروع أن مما يكون كفراً جحد صفة له تعالى اتفق على إثباتها، أو بعض كتبه أو رسله أو سبه أو رسوله، أو ادعاء النبوة، أو بغض الرسول أو ما جاء به، وترك إنكار كل منكر بقلبه، وجحد حكم ظاهر مجمع عليه والشك فيه ومثله لا يجهل، وبعضهم يكفر جاحد تحريم النبيذ وكل مسكر, ومن ذلك أن يجعل بينه وبين الله تعالى وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم قالوا: إجماعا، أو يسجد لنحو شمس أو يأتي بفعل أو قول صريح في الاستهزاء أو توهم أن من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم من قاتل مع الكفار أو أجاز ذلك، قيل: أو كذب على نبي، أو أصر في دارنا على خمر أو خنزير غير مستحل، ولا كفر بجحد قياس اتفاقاً بل بسنة راتبة، وخالف فيه جماعة من التابعين والعراقيين. ومن أظهر الإسلام وأسر الكفر فمنافق كافر كابن أبي سلول، وإن ظهر أنه قائم بالواجب وفي قلبه أنه لا يفعل فمنافق كقوله تعالى في ثعلبة:

(وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ ضله) الآية. التوبة/75. وفي كفره وجهان: والراجح أن ما كان من النفاق في الأفعال لا كفر به كالرياء للناس. ومنهم من كفر الحجاج لإخافته المدينة وانتهاكه حرم الله

وحرم رسوله، فأورد عليه يزيد ونحوه، ومن ثم كان الراجح ما نص عليه الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وأصحابه من عدم الكفر وحرمة اللعن، خلافاً لابن الجوزي منهم وغيره، ولا يكفر حاكي كفر سمعه من غير اعتقاده، ولعله إجماع.

وفي الانتصار: من تزيا بزي الكفار من لبس غيار أو شد زنار أو تعليق صليب بصدره حَرُم ولم يكفر، وميل كلام بعضهم إلى الكفر، وفي الفصول: إن شهد عليه أنه كان يعظم الصليب مثل أن يقبله أو يتقرب بقربانات أهل الكفر ويكثر من دخول بيعهم وبيوت عباداتهم احتمل أنه ردة، وهو الأرجح؛ لأن المستهزئ بالكفر يكفر، ولأن الظاهر أنه يفعل ذلك عن اعتقاد. وجزم ابن عقيل بأن من اتهم القرآن أو غمصه أو طلب أن يناقضه، أو ادعى أنه مختلف فيه أو مختلق أو مقدور على مثله، ولكن الله منع قدرتهم كفر، بل هو معجز بنفسه والعجز شمل الخلق. انتهى حاصل كلام الفروع. وبتأمله يعلم أنه موافق لما قدمناه من مذهبنا وغيره في أكثر ما ذكر. وعندهم أن ترك الصلاة كفر إن دعي إليها وامتنع دون غيرها من العبادات. واعلم أن الدعاء ينقسم إلى كفر وحرام وغيرهما. فما هو كفر أن يسأل نفي ما دل السمع القاطع على ثبوته، كاللهم لا تعذب من كفر بك، أو اغفر له أو لا تخلد فلانا ً الكافر في النار، لأن ذلك طلب لتكذيب الله تعالى فيما أخبر به، وهو كفر، وكأن يسأل الله تعالى أن يريحه من البعث حتى يستريح من أهوال يوم القيامة، لما ذكر قبله، ومنه أن يطلب ثبوت ما دلّ السمع القاطع على نفيه، كاللهم خلد فلاناً المسلم عدوّي في النار، ولم يرد

سوء الخاتمة، أو يطلب أن الله يحييه أبداً حتى يسلم من سكرات الموت، أو أن الله يجعل إبليس محباً له وناصحاً لبني آدم أبد الدهر حتى يقل الفساد. هذا والتكفير بجميع ما ذكر ذكره القرافي. ولك أن تقول: لعله مبني على أن لازم القول قول، وقد مرّ أن لازم المذهب ليس بمذهب، فعليه لا كفر بمجرد هذه الأقوال إلا إن أراد مع ذلك عدم حقيقة ما دل على الوقوع أو عدمه أو أنه يتطرق إليه الكذب، أو شك في ذلك. أما إذا لم يكن له قصد أو أراد أن الله لا يجب عليه شيء، فلا ينبغي أن يكون كفرا. ثم رأيت بعض أئمة مذهب القرافي، قال عقب كلامه المذكور: ولك أن تقول هذا: من طلب ما لا فائدة في طلبه من حيث العلم بحصول ذلك، ولا كفر يلزم منهما وليس إلزام الكفر بأولى من إلزام طلب العبث، بل إلزام هذا أولى، استصحابا للإيمان المعلوم منه بأشياء كثيرة وبالصريح انتهى. وهو حسن، ومما يكون من الدعاء كفراً أيضاً أن يطلب الداعي نفي ما دلَّ العقل القطعي على ثبوته مما يخل بإجلال الربوبية، كأن يسأل الله تعالى سلب علمه حتى يستتر العبد في قبائحه، أو سلب قدرته حتى يأمن المؤاخذة، أو ثبوت ما دلَّ القاطع العقلي على نفيه مما يخل بإجلال الربوبية كأن يعظم شوق الداعي إلى ربه فيسأله أن يحل في شيء من مخلوقاته حتى يجتمع به، أو أن يجعل التصرف في العالم بما أراد. قال القرافي: وقد وقع هذا لجماعة من جهلة الصوفية، ويقولون: فلان أعطي كلمة "كن" فيكون ويسألون أن يعطوا كلمة "كن" التي في قوله تعالى: (إِنَّمَا

أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يس/82. وما يعلمون معنى هذه الكلمة في كلام الله تعالى، ولا يعلمون ما معنى إعطائها إن صح أنها أعطيت، ومقتضى هذا الطلب الشركة في الملك، وهو كفر، والحلول كفر، أو أن يجعل بينه وبينه نسباً يشرف به على العالم؛ لأنه طلب استيلاء وهو كفر. وما ذكره في هذه الأنواع صحيح لما مرَّ أن من شك في سلب صفات الله تعالى الذات عنها، أو أنه تعالى يحل في شيء أو يحل فيه شيء أو أن له ولداً أو أنه يلد أو يولد كفر، وسؤال شيء من ذلك إنما ينشأ عن تجويز وقوعه وهو كفر، لكن ما ذكره عن الصوفية فيه نظر؛ لأنه لا يلزم عليه نسبة النقص إليه تعالى فضلاً عن كونه مصرحاً بذلك، فالصواب فيه عدم الكفر. ثم رأيت بعض أئمة مذهبه قال: قلت: إلزامه الكفر للصوفية من حيث قولهم: أعطي فلان كلمة "كن" غير صحيح، فإن هذا الكلام يصدق على من خرق الله تعالى له العادة مرة أو مرتين، بأن طلب من ربه شيئاً أوْهم بشيء فتصور مطلوبه على وفق مراده بغير تدريج، بل دفعة، وهذا القدر صحيح وجوده، ولا يلزم منه الشركة لله تعالى في الملك ولا بأكثر من ذلك انتهى وهو حسن. قال القرافي: واعلم أن الجهل بما تؤدي إليه هذه الأدعية ليس عذراً عند الله تعالى، لأن القاعدة الشرعية دلت على أن كل جهل يمكن المكلف رفعه لا يكون حجة للجاهل على الله تعالى. ثم قال: نعم، الجهل الذي لا يمكن المكلف رفعه بمقتضى العادة يكون عذراً، كما لو تزوّج أخته يظنها أجنبية، وأصل هذا الفساد الداخل على الإنسان في هذه الأدعية إنما هو الجهل، فاحذر منه واحرص على العلم فهو النجاة كما أن الجهل هو الضلال انتهى.

وقد ذكر بعد ذلك انقسام الدعاء إلى محرّم وغيره، وأطال فيه بما في بعضه نظر، ولا غرض لنا في ذكره في هذا الكتاب، وقد ذكرت جملاً من أحكام الدعاء في كتابي (شرح مختصر الروض) آخر باب صفة الصلاة، فانظره إن أردت فإنه جمع في ذلك فأوعى، أسأل الله تعالى قبوله وتيسير إتمامه في عافية بلا محنة، آمين.

تتمات وفوائد

تتمات وفوائد منها: 1 - قد مرَّ أن السحر قد يكون كفراً، وغرضنا الآن استقصاء ما يمكن من الكلام فيه، وفي أقسامه وحقيقته، وبيان أحكامه ردعاً لكثيرين انهمكوا عليه وعلى ما يقرب منه، وعدّوا ذلك شرفاً وفخراً فنقول: مذهبنا في السحر ما بسطناه فيما مرَّ. وحاصله أنه إن اشتمل على عبادة مخلوق كشمس أو قمر أو كوكب أو غيرها أو السجود له أو تعظيمه كما يعظم الله سبحانه وتعالى، أو اعتقاد أن له تأثيراً بذاته أو تنقيص نبي أو ملك بشرطه السابق، أو اعتقد إباحة السحر بجميع أنواعه كان كفراً وردة، فيستتاب الساحر فإن تاب وإلا قتل. والسحر له حقيقة عند عامة العلماء خلافاً للمعتزلة وأبي جعفر الاستراباذي وسيأتي لذلك مزيد. وقد يأتي الساحر بفعل أو بقول يغيّر حال المسحور فيمرض ويموت منه، إما بواصل إلى بدنه من دخان أو غيره أو دونه. ويحرم فعله إجماعاً ويكفر مستبيحه. وفي الحديث: (لَيْسَ مِنْا مَنْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ) ومن يحسنه إن وصفه كفر كالتقرب إلى الكواكب

السبعة وأنها تحسنه أو أنه يفعل به دون قدرة الله تعالى كفر، كما علم مما مرّ، وإلا لم يكفر. وتعلمه إن لم يحتج لاعتقاد هو كفر، قيل: حلال وهو ما في الوسيط كمقالات الكفرة وقد يقصد به دفع ضرره وكمعرفة حقائق الأشياء، وقيل: يكره، والأكثرون على حرمته مطلقاً لخوف الافتتان والإضرار. ويحرم التكهن وإتيان الكاهن وتعلم الكهانة، وكذا التنجيم والضرب بالرمل والشعير والحصا والشعبذة، وأما الحديث الصحيح: (كَانَ نَبِيٌّ يَخُطُّ الرمل فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ ...) فمعناه فمن علمتم موافقته، فالجواز معلق بمعرفة الموافقة، ونحن لا نعلمها هذا حاصل كلام أئمتنا. وأما الإمام مالك رحمه الله تعالى فقد أطلق هو وجماعة سواء الكفر على الساحر وأن السحر كفر، وأن تعلمه كفر كذلك، وأن الساحر يقتل ولا يستتاب سواء سحر مسلما أم ذمياً كالزنديق، ولبعض أئمة مذهبه كلام نفيس في المسألة فيه استشكالات ما ذهب إليه إمامه وبيان حقيقة السحر.

وحاصله أن الطرطوشي قال: قال مالك وأصحابه: الساحر كافر فيقتل ولا يستتاب، سحر مسلماً أو ذمياً كالزنديق، قال محمد: إن أظهره قبلت توبته، قال أصبغ: إن أظهره ولم يتب فقتل فماله لبيت المال، وإن تستر فلورثته من المسلمين، ولا آمرهم بالصلاة عليه، فإن فعلوا فهم أعلم، قال: ومن قول علمائنا القدماء لا يقتل حتى يثبت أنه من السحر الذي وصفه الله تعالى بأنه كفر، قال أصبغ: يكشف عن ذلك من يعرف حقيقته ولا يلي قتله إلا السلطان، ولا يقتل الذمي إلا أن يضر المسلم بسحره فيكون نقضا فيقتل، ولا يقبل منه الإسلام، وإن سحر أهل ملته أدب إلا أن يقتل أحداً فيقتل به. وقال سحنون: يقتل إلا أن يسلم وهو خلاف قول مالك، ويؤدب من تردد إلى السحرة إذا لم يباشر سحراً ولا علمه، لأنه لم يكفر، ولكنه ركن للكفرة.

قال: وتعلمه وتعليمه عند مالك كفر. وقالت الحنفية: إن اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر، وإن اعتقد أنه تخييل وتمويه لم يكفر. وقالت الشافعية: يصفه فإن وجدنا فيه كفراً كالتقرب للكواكب ويعتقد أنها تفعل فيلتمس منها فهو كفر، وإن لم نجد فيه كفراً، فإن اعتقد إباحته فهو كفر. قال الطرطوشي: وهذا متفق عليه؛ لأن القرآن نطق بتحريمه، واحتج من لا يقول: إن تعلمه كفر، بأن تعلم الكفر ليس بكفر، فإن الأصولي يتعلم جميع أنواع الكفر ليحذر منه ولا يقدح في شهادته ومأخذه، فالسحر أولى أن لا يكون كفراً، ولو قال الإنسان: أنا تعلمت كيف يكفر بالله لأجتنبه، أو كيف الزنا أو أنواع الفواحش لأجتنبها لم يأثم. قال القرافي: هذه المسألة في غاية الإشكال على أصولنا، فإن السحرة يعتمدون أشياء تأبى قواعد الشريعة أن نكفرهم بها كفعل الحجارة المتقدم ذكرها قبل هذه المسألة كذلك يجمعون عقاقير ويجعلونها في الأنهار والآبار أو في قبور الموتى أو في باب يفتح إلى الشرق، ويعتقدون أن الآثار تحدث عن تلك الأمور بخواص نفوسهم التي طبعها الله تعالى على الربط بينها وبين تلك الآثار عند صدق العزم، فلا يمكننا تكفيرهم بجمع العقاقير ولا بوضعها في الآبار ولا باعتقادهم حصول تلك الآثار عند ذلك للفعل؛ لأنهم جرّبوا ذلك فوجدوه لا يخرم عليهم لأجل خواص نفوسهم، فصار ذلك الاعتقاد كاعتقاد الأطباء عند شرب الأدوية وخواص النفوس، ولا يمكن التكفير بها لأنها ليست من كسبهم، ولا كفر بغير مكتسب. وأما اعتقادهم أن الكواكب تفعل ذلك بقدرة الله فهذا خطأ؛ لأنها لا تفعل ذلك، وإنما جاءت الآثار من خواص نفوسهم التي ربط الله تعالى بها تلك الآثار

عند ذلك الاعتقاد، فيكون ذلك الاعتقاد في الكواكب، كما إذا اعتقد طبيب أن الله تعالى أودع في الصبر والسقمونيا عقد البطن وقطع الإسهال، وأما تكفيرهم بذلك فلا، وإن اعتقدوا أن الكواكب تفعل ذلك والشياطين تقدرها لا بقدرة الله تعالى، فقد قال بعض علماء الشافعية: هذا مذهب المعتزلة من استقلال الحيوانات بقدرتها دون قدرة الله تعالى، فكما لا نكفر المعتزلة بذلك لا نكفر هؤلاء، ومنهم من فرق بأن الكواكب مظنة العبادة، فإذا انضم إلى ذلك اعتقاد القدرة والتأثير كان كفراً. وأجيب عن هذا الفرق بأن تأثير الحيوان في القتل والضر والنفع في مجرى العادة مشاهد من السباع والآدميين وغيرهم. وأما كون المشتري أو زحل يوجب شقاوة أو سعادة فإنما هو حزر وتخمين للمنجمين، لا حجة في ذلك، وقد عبدت البقر والشجر فصار هذا الشيء مشتركا بين الكواكب وغيرها والذي لا مرية فيه أنه كفر إن اعتقد أنها مستلقة بنفسها لا تحتاج إلى الله تعالى، فهذا مذهب الصابئة وهو كفر صريح لا سيما إن صرح بنفي ما عداها. وأما قول الأصحاب أنه علامة الكفر فمشكل، لأنا نتكلم في هذه المسألة باعتبار الفتيا ونحن نعلم أن حال الإنسان في تصديقه الله تعالى ورسوله بعد عمل هذه العقاقير كحاله قبل ذلك, وإذا أرادوا الخاتمة فمشكل؛ لأنا نكفر في الحال بكفر واقع في المآل. والمستقيم في هذه المسألة ما حكاه الطرطوشي عن قدماء أصحابنا أنه لا نكفره حتى يثبت أنه من السحر الذي كفر الله تعالى به، أو يكون سحراً مشتملاً

على الكفر, كما قاله الإمام الشافعي، وقول الإمام مالك: إن تعلمه وتعليمه كفر في غاية الإشكال، إذ هو خلاف القواعد، وقال قبل ذلك: والصواب أن لا يقضي بهذا حتى يبين معقول السحر، إذ يطلق على معان مختلفة، وبيانها أن الفخر الرازي رحمه الله تعالى قال: استحدث الخوارق, إن كان بمجرد النفس فهو السحر، وإن كان على سبيل الاستعانة بالفلكيات فذلك دعوة الكواكب، وإن كان على سبيل طرح القوى السماوية بالقوى الأرضية فذلك الطلسمات، وإن كان على سبيل اعتبار النسب الرياضية فذلك الحيل الهندسية، وإن كان على سبيل الاستغاثة بالأرواح الساذجة فذلك العزيمة انتهى. قال القرافي: والسحر: اسم يقع على حقائق مختلفة وهي السيميا والهيميا وخواص الحقائق من الحيوانات وغيرها، والطلسمات والأوفاق والرقى والعزائم والاستخدامات. فالسيميا: عبارة عما تركب من خواص أرضية كدهن خاص أو كلمات خاصة توجب تخيلات خاصة، وإدراك الحواس الخمس أو بعضها لحقائق خاصة من المأكولات والمشمومات والمبصرات والملموسات والمسموعات، وقد يكون لذلك وجود يخلقه الله تعالى إذ ذاك، وقد يكون لا حقيقة له، بل هي تخيلات. والهيميا: امتيازها عن السيميا بأن الآثار الصادرة عنها تضاف للآثار السماوية من الاتصالات الفلكية وغيرها من أحوال الأفلاك، فتحدث جميع ما تقدم ذكره فخصصوا الواحد بالسيميا والآخر بالهيميا. والخواص للحيوانات كثيرة. ذكروا منها أنه يؤخذ سبعة أحجار ويرجم بها كلب شأنه أنه إذا رمي بحجر عضه فإذا رمي بسبعة أحجار وعضها كلها لقطت

بعد ذلك وطرحت في ماء فمن شرب منه ظهر فيه إشارة خاصة يعبر عنها السحرة فهذه تثبت للسحر. وليس ما يذكره الأطباء من الخواص في هذا العالم للنباتات وغيرها من هذا القبيل، ولا يشك في الخواص في هذا العالم. فمنها ما يعلم كاختصاص النار بالإحراق، ومنها ما لا يعلم مطلقا، ومنها ما تعلمه الأفراد كالحجر المكرم وما

يصنع منه الكيمياء ونحو ذلك، كما يقال: إن في الهند شجراً إذا عمل منه دهن ودهن به إنسان لا يقطع فيه الحديد، وشجراً آخر إذا استخرج منه دهن وشرب على صورة خاصة مذكورة عندهم بالعمليات استغنى عن الغذاء، وأمن من الأمراض والأسقام، ولا يموت بشيء من ذلك، وطالت حياته أبداً حتى يأتي من يقتله، أما موته بالأسباب العادية فلا. وخواص النفوس لا شك فيها فليس كل أحد يؤذي بالعين، والذين يؤذون بها تختلف أحوالهم في ذلك، فمنهم من يصيد بالعين الطير من الهواء ويقلع الشجر العظيم من الثرى، وآخر إنما يصل لتمريض لطيف، ومن الناس من طبع على صحة الحزر ولا يخطئ غالباً، ثم نجد واحداً له خاصية في علم الكشف، وآخر في الرمل، وآخر في النجم، ومن خواص النفوس ما يقتل. وفي الهند جماعة إذا ركبوا نفوسهم لقتل شخص مات، ثم إذا شق صدره في الوقت لا يوجد قلبه بل انتزعوه من صدره بالهمة والعزم وقوة النفس، ويجربون بالرمل فيجمعون عليه همتهم فلا يوجد فيه حبة، وخواص النفوس كثيرة. والطلسمات: نقش أسماء خاصة لها تعلق بالأفلاك والكواكب على زعم أهل هذا العلم في أجسام من المعادن أو غيرها، فلا بدّ في الطلسم من هذه الثلاثة الأسماء المخصوصة وتعلقها ببعض أجزاء الفلك، وجعلها في جسم من الأجسام، ولا بدَّ مع ذلك من قوة نفس صالحة لهذه الأعمال، فليس كل النفوس مجبولة على ذلك. والأوفاق: ترجع إلى مناسبات الأعداد وجعلها على شكل مخصوص، وهذا كأن يكون شكل من تسعة بيوت مبلغ العدد من كل جهة خمسة عشر هو لتيسير

العسير وإخراج المسجون ووضع الجنين، وكل ما كان من هذا المعنى، وضابطه بطد زهج واح، وكان الغزالي يعتني به كثيراً حتى نسب إليه. والرقى: ألفاظ خاصة يحدث عندها الشفاء من الأسقام والأدواء والأسباب المهلكة، ولا يقال لفظ الرقى على ما يحدث ضرراً، بل ذاك يقال له: السحر، وهذه الألفاظ منها مشروع كالفاتحة، وغير مشروع كرقى الجاهلية والهند وغيرهما، وربما كان كفراً فنهى الإمام مالك رحمه الله تعالى عن الرقى بالعجمية.

والعزائم كلمات يزعم أهل هذا العلم أن سليمان عليه الصلاة والسلام لما أعطاه الله تعالى هذا الملك وجد الجان يعبثون بالناس في الأسواق ويخطفونهم من الطرقات، فسأل الله تعالى أن يولي على كل قبيلة من الجن ملكاً يضبطهم عن الفساد، فولى الله تعالى الملائكة على قبائل الجان فمنعوهم من الفساد ومخالطة الناس، وألزمهم سليمان عليه الصلاة والسلام القفار والخراب من الأرض دون العامر ليسلم الناس من شرهم، فإذا عتا بعضهم وأفسد ذكر المعزم كلمات تعظمها تلك الملائكة، ويزعمون أن لكل نوع من الملائكة أسماء أمرت بتعظيمها، ومتى أقسم عليها بها أطاعت وأجابت وفعلت ما طلب منها، فالمعزم بتلك الأسماء على ذلك القبيل يحضر له ملك القبيل من الجان الذي طلبه أو الشخص منهم يحكم بينهم بما يريد، ويزعمون أن هذا الباب إنما دخله الخلل من جهة عدم ضبطه تلك الأسماء فإنها عجمية لا يدرى هل هي مضمومة أو مفتوحة أو مكسورة؟ وربما أسقط النساخ بعض حروفه من غير علم فيختل العمل، فإن المقسم به لفظ آخر لا يعظمه ذلك الملك، فلا يجيب ولا يحصل مقصود المعزم. والاستخدامات قسمان: الكواكب والجان فيزعمون أن للكواكب إدراكات إذا قوبلت بتجوّد وتلي شيء خاص على الذي يباشر التجود، وربما تقدمت منه أفعال خاصة منها ما هو حرام كاللواط، ومنها ما هو كفر صريح، وكذلك الألفاظ التي يخاطب بها الكواكب منها ما هو كفر صريح يناديه بلفظ الإلهية ونحو ذلك، ومنها ما هو غير محرم، فإذا حصلت تلك مع التجود ومع الهيئات المشروطة كانت روحانية تلك الكواكب مطيعة له متى أراد شيئا فعلته له على زعمهم، وكذلك القول في ملوك الجان على زعمهم إذا عملوا لهم تلك الأعمال الخاصة، فهذا هو الاستخدام على زعمهم، والغالب على المشتغل بهذا الكفر، ولا يشتغل به مفلح ولا مسدد النظر وافر العقل.

وبعد أن علمت حكم السحر على مذهب الشافعية والمالكية والحنفية، فلا بأس بذكر حكمه عند الحنابلة، فإن كتبهم مشتملة على غرائب فيه بيّنها صاحب الفروع. وحاصل عبارته: ويكفر الساحر باعتقاد حله، وعنه أي: عن أحمد: لا، واختاره ابن عقيل وجزم به في التبصرة، وكفره أبو يعلى بعمله. قال في الترغيب: هو أشد تحريما، وحمل ابن عقيل كلام الإمام أحمد في كفره على معتقدِه، وأن فاعله يفسق ويقتل حداً فعلى الأول يقتل، وهو أي: الساحر: من يركب مكنسة فتسير به في نهر أو نحوه، وكذا قيل في معزم على الجن ومن يجمعها بزعمه، وأنه يأمرها فتطيعه، وكاهن وعراف، وقيل: يعزر، وقيل: يجوز تعزيره ولو بالقتل. وفي الترغيب: الكاهن والمنجم كالساحر عند أصحابنا، وإن ابن عقيل فسقه فقط إن قال: أصبت بحدسي وفراستي، فإن أخبر قوماً بطريقته أنه يعلم الغيب فللإمام قتله لسعيه بالفساد. وفي الفروع من كتبهم بعد ذكر ما مرّ قال شيخنا: التنجيم كالاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية من السحر. قال: ويحرم إجماعاً وأقرّ أولهم وآخرهم أن الله يدفع عن أهل العبادة والدعاء ببركته ما زعموا أن الأفلاك تستجلبه وتوجده، وأن لهم من ثواب الدارين

ما لا تقوى الأفلاك أن تجلبه، ومن سحر بالأدوية والتدخين، وسقي مُضر عُزِّر، قيل: ولو بالقتل. وقال القاضي والحلواني: إن قال: سحري ينفع وأقدر على القتل به قتل، ولو لم يقتل، والمشعبذ والقائل بزجر الطير والضارب بحصا وشعير وقداح إن لم يعتقد إباحته وأنه يعلم به عزر وكفّ عنه وإلا كفر. ويحرم طلسم ورقية بغير عربي وقيل: يكره، وتوقف الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه في الحل لسحر أي: لأجل إزالته بسحر آخر، وفيه وجهان وسأله مُهنّا عمن يأتيه مسحورة فيطلقه عنها قال: لا بأس. قال الخلال: ربما كره فعاله ولا يرى به بأساً كما بينه مُهنّا، وهذا من

الضرورة التي يباح فعلها، ولا يقتل ساحر كتابي على الأصح، وفي التبصرة: إن اعتقدوا جوازه. وفي عيون المسائل: أن الساحر يكفر، وهل تقبل توبته؟ على روايتين. ثم قال: ومن السحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس، وذلك شائع عام في الناس، ثم قال في عيون المسائل: فأما من يسحر بالأدوية والتدخين وسقي شيء مضر فلا يكفر ولا يقتل، ويعزر بما يردعه، وما قال غريب، ووجهه أن يقصد الأذى بكلامه وعمله على وجه المكر والحيلة فأشبه السحر، وهذا يعلم بالعادة والعرف أنه يؤثر وينتج ما يعمله السحر أو أكثره، فيعطى حكمه تسوية بين المتماثلين أو المتقاربين. لا سيما إن قلنا بقتل الآمر بالقتل على رواية سبقت, فهنا أولى، أو الممسك لمن يقتل فهذا مثله. ولهذا ذكر ابن عبد البر عن يحيى بن أبي كثير قال: يفسد النمام

والكذاب في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة. ورأيت بعضهم حكاه عن يحيى بن أكثم قال: النمام شر من الساحر. يعمل النمام في ساعة ما لا يعمله الساحر في شهر، لكن يقال: الساحر إنما كفر لوصف السحر فهو أمر خاص ودليله خاص، وهذا ليس بساحر، وإنما يؤثر عمله ما يؤثره فيعطى حكمه إلا فيما اختص به من الكفر وعدم قبول التوبة, ولعل هذا القول أوجه من تعزيره فقط، فظهر مما سبق أنه رواية مخرّجة من الممسك والآمر. ومن أطلق الشارع كفره كدعواه غير أبيه ومن أتى عرافاً فصدقه بما يقول

فقيل: كفر النعمة وقيل: قارب الكفر، وذكر ابن حامد روايتين: إحداهما تشديد وتأكيد، نقل ابن حنبل: كفر دون كفر لا يخرج من الإسلام، والثانية يجب التوقف، انتهى ما في الفروع وهو مشتمل على غرائب ونفائس يرتدع بها السحرة. وعبارة التنقيح: ولا تقبل في الدنيا توبة زنديق وهو المنافق، وهو من يظهر الإسلام ويخفي الكفر، ولا من يظهر الخير ويبطن الفسق، ولا من تكررت ردته، أو سب الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم صريحاً أو بغضه، ولا الساحر الذي يكفر بسحره.

ثم قال: ويقتل الساحر المسلم الذي يركب المكنسة فتسير به في الهواء ونحوه ويكفر هو ومن يعتقد حله, وأما الذي يسحر بأدوية وتدخين وسقي شيء يضرّ فإنه يقتص منه إن قتل بفعله غالباً وإلا فالدية، ومشعبذ وقائل بزجر طير وضارب بحصى وشعير وقداح إن لم يعتقد إباحته وأنه لا يعلم به، يعزر ويكف عنه، ويحرم طلسم ورقية بغير عربي ويجوز الحل بسحر للضرورة انتهى. وبقيت هنا فوائد لا بأس بذكرها وإن لم يكن لها كبير مناسبة فيما نحن فيه. وهي أن الفخر الرازي رحمه الله تعالى قال في كتابه الملخص: السحر والعين لا يكونان في فاضل، لأن من شرط السحر الجزم بصدور الأثر، وكذلك أكثر الأعمال من شرطها الجزم، والفاضل الممتلئ علماً يرى وقوع ذلك من الممكنات التي يجوز أن توجد وأن لا توجد، فلا يصح له عمل أصلا. وأما العين، فلا بدَّ فيها من شرط التعظيم للمرئي، والنفس الفاضلة لا تصل في تعظيم ما تراه إلى هذه الغاية، فلذلك لا يصح السحر إلا من العجائز والتركمان والسودان ونحو ذلك من أرباب النفوس الجاهلة، فيقال: السحر له حقيقة، وقد يموت المسحور أو يتغير طبعه قاله الشافعي وابن حنبل رضي الله تعالى عنهما، وقالت الحنفية: إن وصل إلى بدنه كالدخان ونحوه جاز أن يؤثر وإلا فلا. وقالت القدرية: لا حقيقة للسحر وهذا لا يصح فإن ما لا حقيقة له لا يؤثر، وقد سحر النبيُّ صلى الله عليه وسلم

وقد سحرت عائشةً رضي الله عنها جاريةٌ اشترتها، وقد أطبقت الصحابة رضي الله تعالى عنهم على صحة ذلك. ومن حجة الزاعمين أنه لا حقيقة له قوله تعالى: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) طه/66. ولأنه لو كانت له حقيقة لأمكن الساحر أن يدعي النبوة فإنه قد يأتي بالخوارق على اختلافها. والجواب أن السحر أنواع فبعضه هو الذي يخيّل، وعن الثاني أن إضلال الخلق ممكن، ولكن الله تعالى أجرى العادة بضبط مصالحهم، فما ييسر ذلك على الساحر، وكم من ممكن يمنعه الله تعالى من الدخول في العالم لأنواع من الحكم، مع أنا سنبين الفرق بين السحر والمعجزة من وجوه فلا يحصل اللبس.

واعلم أن الفرق بين معجزات الأنبياء وسحر السحرة وغيرهم مما يتوهم أنه خارق للعادة قد أشكل على جماعة من الأصوليين وغيرهم وهو عظيم الموقع في الدين. والكلام عليه من ثلاثة أوجه: فرق في نفس الأمر باعتبار الباطن، وفرق باعتبار الظاهر، أما الفرق الواقع في نفس الأمر فهو أن السحر والطلمسات والسيميا، وجميع هذه الأمور ليس فيها شيء خارق للعادة، بل هي عادة جرت من الله تعالى بترتيب مسببات على أسبابها، غير أن تلك الأسباب لم تحصل لكثير من الناس، بل للقليل منهم كالعقاقير التي يعمل منها الكيمياء، والحشائش التي يعمل منها النفط الذي يحرق الحصون، والدهن الذي من أدهن به لم يقطع فيه حديد ولا تعدو عليه النار، فهذه كلها في العالم أمور عزيزة قليلة الوقوع، وإذا وجدت أسبابها جرت على العادة فيها، وكذلك أسباب السحر إذا وجدت حصل، وكذلك السيميا وغيرها كلها جارية على أسبابها العادية، غير أن الذي يعرف تلك الأسباب قليل من الناس. وأما المعجزات فليس لها سبب في العادة أصلاً، فلم يجعل الله تعالى في العالم عقاراً يفلق البحر أو يسير الجبل ونحو ذلك، وهذا فرق عظيم، غير أن الجاهل بالأمرين يقول: وما يدريني أن هذا له سبب والآخر لا سبب له، فنذكر له الفرقين الأخيرين: أحدهما: أن السحر وما يجري مجراه مختص بمن عمل له حتى أن أهل هذا الحرف إذا استدعاهم الملوك ليصنعوا لهم هذه الأمور يطلبون منهم أن يكتب أسماء كل من يحضر ذلك المجلس، فيصنعون صنيعتهم لمن سمي لهم، فإن حضر غيرهم لا يرى شيئاً مما يراه الذي سموا. قال العلماء: وإليه الإشارة بقوله تعالى: (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ) الأعراف/108 والشعراء/33. أي لكل ناظر ينظر إليها، ففارقت بذلك السحر والسيميا وهذا فرق عظيم. الفرق الثاني: قرائن الأحوال المفيدة للعلم القطعي الضروري المختصة

2

بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام المفقودة في حق غيرهم فنجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الناس نشأة ومولداً وشرفاً وخَلْقاً وخُلُقاً وصدقاً وأدباً وأمانة وزهادة وإشفاقاً ورفقاً وبعداً عن الدناءة والكذب والتمويه: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) الأنعام/124. ثم أصحابه يكونون في غاية العلم والنور والبركة والتقوى والديانة، كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا بحراً في العلوم على أنواعها من الشرعيات والعقليات والحسابيات والسياسات والعلوم الباطنة والظاهرة، حتى إنه روي أن علياً جلس مع ابن عباس رضي الله تعالى عنهم وأنهما تكلما في الباء من (بِسْمِ اللَّهِ) من العشاء إلى أن طلع الفجر مع أنهم لم يدرسوا ورقة، ولا قرؤوا كتاباً ولا تفرَّغوا من الجهاد. ولقد قال بعض الأصوليين: لو لم يكن شاهداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أصحابه لكفوا في إثبات نبوته، وكذلك أيضاً ما علم من فرط صدقه حتى كان يقال: محمد الأمين، وما من نبي إلا وله في هذه القرائن الحالية والمقالية العجائب، والساحر على العكس في ذلك. 2 - ومنها: قال بعض الحنفية: اعلم أن من تلفظ بلفظ الكفر يكفر، وإن لم يعتقد أنه لفظ الكفر ولا يعذر بالجهل، وكذا كل من ضحك عليه أو استحسنه أو رضي به يكفر، ومن أتى بلفظ الكفر حبط عمله وتقع الفرقة بين الزوجين ويجدد النكاح برضا الزوجة إن كان الكفر من الزوج وإن كان من الزوجة تجبر على النكاح، وهذا بعد تجديد الإيمان والتبرؤ من لفظ الكفر، حتى أن من أتى بالشهادة عادة ولم يرجع عما قاله لا يرتفع الكفر عنه، ويكون وطؤه وطء زنا، وولده ولد الزنا، وعند الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه لو مات على الكفر حبط أعماله، ولو ندم وجدد الإيمان لم يحبط عمله، ولا يلزم تجديد

3

النكاح، ولو صلى صلاة الوقت ثم أسلم لم يقضها، وعندنا يقضيها، وكذا الحج، فلو أتى بكلمة فجرى على لسانه كلمة الكفر بلا قصد لا يكفر انتهى كلام هذا الحنفي. وما حكاه عن مذهبنا صحيح، بل مذهبنا موافق لجميع ما قاله إلا في إطلاق عدم العذر بالجهل، فإنه عندنا يعذر إن قرب إسلامه أو نشأ بعيداً عن العلماء، وإلا في إطلاقه وقوع الفرقة بين الزوجين، فإنها عندنا لا تقع إلا إن صدرت الردة من أحد الزوجين قبل الوطء، فحينئذ تقع الفرقة مطلقاً، فإن وقعت من أحدهما بعد الوطء انتظرنا المرتد، فإن أسلم قبل انقضاء العدة بان بقاء النكاح، وإن استمر لانقضائها بان بطلان النكاح من يوم الردة, وما ذكره من الخلاف بيننا وبينهم في الإحباط صحيح, لكن محله في وجوب القضاء بعد الإسلام، أما بالنسبة لبطلان ثواب جميع ما مضى من عبادات المرتد قبل ردته فنحن موافقوهم على ذلك. وقد نص الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه في "الأم" على أن الإنسان إذا ارتد والعياذ بالله حبط ثواب جميع أعماله, وإنما الذي يبقى له صورها فقط حتى لا يلزمه القضاء لقوله تعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) الآية البقرة/217 فرتب فيها حبوط الأعمال على الموت مرتدا، وبه تتقيد الآية الأخرى المطلقة لحبوط الأعمال بالردة. 3 - ومنها: أن من كفر بغير سبه صلى الله عليه وسلم أو تنقيصه تقبل توبته اتفاقا، وتجب استتابته على الأصح، وأما من كفر بسبه صلى الله عليه وسلم أو تنقيصه صريحا أو ضمناً، ومثله الملَك، فاختلفوا في تحتم قتله، فقال مالك رضي الله عنه وأصحابه: يقتل حداً لا ردة ولا تقبل توبته ولا عذره إن ادعى سهوا ونحوه. ومن ثم قال صاحب المختصر منهم أخذاً مما قدمته عن الشفاء: وإن سب نبياً أو ملكاً، وإن عرّض أو لعنه أو عابه أو قذفه أو استخف بحقه أو

غير صفته أو ألحق به نقصاً في دينه أو خصلته أو غض من مرتبته أو وفور علمه أو زهده، أو أضاف له ما لا يجوز عليه أو نسب له ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو قيل: له بحق رسول الله فلعن، وقال: أردت العقرب قتل، ولم يستتب حداً إلا أن يسلم الكافر، وإن ظهر أنه لم يرد ذمه لجهل أو سكر أو تهور انتهى. واستدلوا على ذلك بأمور: الأول: بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) الأحزاب/57 وجه الدلالة أن من لعنه الله تعالى كذلك وأعد له ما ذكر فقد أبعده من رحمته وأحله في وبيل عقوبته، وإنما يستوجب ذلك الكافر، وحكمه القتل، فاقتضت الآية أن أذى الله وأذى رسوله كفر. نعم إطلاق الأذى في حقه تعالى إنما هو على سبيل التجوز, إذ هو إيصال الشر الخفيف للمؤذي، فإن زاد كان إضرارا. والثاني: بقوله تعالى: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ* لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) التوبة/65 - 66. قال المفسرون: كفرتم بقولكم في رسول الله. والثالث: بخبر أبي داود والترمذي (من لنا بْابنِ الْأَشْرَفِ؟ مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ؟)

أي: من ينتدب لقتله (فقَدِ اسْتَعْلَنَ بِعَدَاوَتِنَا وَهِجَائِنَا) وفي رواية: (فَإِنَّهُ يؤذي اللهَ وَرَسُولَهُ) ثم وجه إليه من قتله غيلة دون دعوة بخلاف غيره من المشركين وعلله بإيذائه له, فدل على أنه لم يأمر بقتله للإشراك، وإنما أمر به للأذى.

والرابع: بما رواه أبو داود: "أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الفتح أمَّنَ النَّاس إلا جماعة كانوا

يؤذونه منهم ابْنُ أَبِي سَرْحٍ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فجاء به َلَمَّا دَعَا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ وطلب من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبايعه، فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَابَى ثم بايَعَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: (ما كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْن كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ؟) قَالُوا: هلا أَوْمَاتَ إِلَيْنَا فإنا لا نَدْرِي مَا فِي نَفْسِكَ؟ فقَالَ: (إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ) ومنهم عبد الله بن خطل وجاريتاه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم؛ لأنه كان يقول الشعر يهجوه به ويأمرهما أن يغنيا به. وروى البزار: "أن عُقْبَة بْن أَبِي مُعَيْطٍ نادى يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ: مَالِي أُقْتَلُ مِنْ بَيْنِكُمْ صَبْرًا؟ فقَالَ له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِكُفْرِكَ وَافْتِرَائِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ"، وكذب عليه صلى الله عليه وسلم رجل فبعث عليا والزبير

رضي الله تعالى عنهما ليقتلاه، وهجته صلى الله عليه وسلم امرأة فقال: من لي بها؟ فقال رجل من قومها: أنا يا رسول الله فقتلها، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (لَا يَنْتَطِحُ فِيهَا عَنْزَانِ) أي: لا يجري فيها خلف ولا نزاع. قالوا: فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من آذاه أو تنقصه والحق له وهو مخير فيه، فاختار قتل بعضهم والعفو عن بعضهم, وبعد وفاته تعذر تمييز المعفو عنه من غيره فبقي الحكم على عمومه في القتل لعدم الاطلاع على العفو, وليس لأمته بعده أن يسقطوا حقه؛ لأنه لم يرد عنه الإذن في ذلك. والخامس: بإجماع الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابه, وممن حكى الإجماع على ذلك ابن المنذر والخطابي وغيرهما كمحمد بن سحنون. وعبارته: أجمع العلماء على كفر شاتمه المنتقص له وجريان الوعيد عليه، وحكمه عند الأئمة القتل، فمن شك في كفره وعذابه كفر انتهى. وما

صرح به من كفر الساب والشاك في كفره هو ما عليه أئمتنا وغيرهم كما علم مما مر، لكنه عندنا كالمرتد فيستتاب وجوبا فورا، فإن أصر قتل، ولو امرأة، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) وإن أسلم صح إسلامه وترك كما قاله ابن عباس وغيره لقوله تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ) الآية. التوبة/5. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يقولوا لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) الحديث, وقيل: لا تجب استتابة المرتد، لأنه مهدر الدم, وقيل: لا يقتل فورا إذا لم يتب، بل يمهل ثلاثة أيام لاحتمال شبهة عرضت له فيسعى في إزالتها. والجواب عن أدلتهم المذكورة: أما عن الأول والثاني فالآيتان ليس فيهما إلا كفر مؤذيه عليه الصلاة والسلام، وهذا محل وفاق، أما كونه يقتل بعد التوبة والإسلام، فلا دلالة فيهما على ذلك أصلا، وعن الثالث والرابع وما شابههما مما ذكر فيهما وغيره أنه لا دليل لهم في ذلك أيضا لقيام الكفر بالمحكي عنهم مع الزيادة في العناد فيه, وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا عصمة لأحد بعد دعواه إلى الإسلام إلا بالإسلام, فكل من المذكورين مهدر الدم؛ لأنه دعي إلى الإسلام ولم يسلم، فقتله لذلك، لا لمجرد سبه للنبي صلى الله عليه وسلم, ومن ثم ذكر صلى الله عليه وسلم لهم في قتل عقبة سببين: كفره وافتراءه عليه, ولقتل كعب سببين: إيذاءه الله وإيذاءه رسوله صلى الله عليه وسلم, وبعثِ علي والزبير لقتل

الكاذب عليه إنما هو لكذبه مع كفره، على أن هذا كذب فيه إفساد وفتنة بين المؤمنين، فيكون به قد حارب الله تعالى ورسوله وسعى في الأرض بالفساد فتحتم قتله لذلك لا لمطلق الكذب؛ لأنه بالاتفاق منا ومنهم لا يوجب القتل، وقتل المرأة التي هجته إنما هو لكفرها مع هجائها لا لهجائها فقط، ومن ثم نقل عنها أنها كانت تعيب الإسلام وتحرض على إيذائه صلى الله عليه وسلم. والحاصل أنه لا دليل لهم إلا أن ذكروا صورة فيها أن مسلما طرأ عليه الكفر بسبب السب ثم رجع وأسلم، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله حينئذ، إذ هذا هو محل الخلاف دون ما ذكروه, إذ لا نزاع بيننا وبينهم في أن الكافر الأصلي إذا بلغته الدعوة وامتنع من الإجابة وحارب بيده أو لسانه أو لم يحارب بالكلية أنه مهدر الدم قطعاً, وكل ما ذكروه في الثالث والرابع من هذا القبيل. وبهذا يندفع قولهم: قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من آذاه ... إلى آخر ما قدمته عنهم. ولم يتقل أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل مسلم لسبه بل عفا عمن قال من المسلمين: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى، ومن قال: اعدل، ومن قال: أعطني من

مال الله لا من مال أبيك وجدك, ومن قال: (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) المنافقون/8. ونظائر ذلك كثيرة مشهورة, على أنه لو فرض أنه قتل مسلما بالسب لم يكن فيه دليل, لأنا نقول قتله أيضا لكفره, وإنما الدليل أن لو ورد قتل الساب بعد إسلامه بسبب سبه من غير قبول لتوبته ولم يرد ذلك. لا يقال: سبه صلى الله عليه وسلم حق له وحقوق العباد مبنية على المشاححة، فكيف جاز لنا مع ذلك إسقاطه؟ لأنا نقول: حقوقه صلى الله عليه وسلم تشبه حقوق الله تعالى تغليظا من حيث إن تنقيصه كفر كتنقيص الله تعالى، فلتكن مثلها تخفيفا من حيث إن الإسلام يرفع تحتم قتل فاعل ذلك مع أن قوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) الأنفال/38 دليل ظاهر على ما قلناه.

4

فإن قالوا: إنما يقتل حدا لا ردة، قلنا: فالدليل حينئذ قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) النساء/48. وهذا حينئذ من دون ذلك؛ لأن الفرض أنه حد لا ردة. فإن قلت: حد الزنا ونحوه لا يسقط بالتوبة فالقياس أن هذا مثله. قلت: ذلك خارج عن القياس، إذ الأصل في كل معصية أن تسقط بالتوبة إلا ما استثني كحد الزنا فلا يقاس عليه؛ لأن ما خرج عن القياس لا يقاس عليه. 4 - ومنها: أنه ينبغي التنبيه لما وقع في الشفاء نقلاً عن أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه أن من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم يقتل وإن تاب, فإن هذا وهم منه على أصحاب الإمام الشافعي رضي الله عنه لاتفاقهم على عدم قتله في سب غير قذف, وأما السب الذي هو قذف فجمهورهم كما قاله غير واحد من المتأخرين مرجحون لعدم قتله أيضا لعموم قوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) الأنفال/38. ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ). وقوله: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ). وقوله: (الْإِسْلَام يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ). ومن ثم نص الشافعي رضي الله تعالى عنه في "الأم" على ما يوافق ما مرّ عن الأصحاب الموافق لهذه الآية والأحاديث, وعبارتها: وإذا ارتد القوم عن الإسلام إلى يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو تعطيل أو غير ذلك من أصناف الكفر، ثم تابوا عصموا دمهم بالتوبة وإظهار الإسلام انتهت. فتأمل عموم قوله أو غير ذلك.

5

قال الإمام النجم ابن الرفعة فقيه المذهب وتلميذه التقي السبكي وغيرهما: وأصحابه متفقون على ذلك ويوافقه قول أبي بكر الفارسي فيما نقله عن القاضي حسين: أجمعت الأمة على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل حداً؛ لأن من سب النبي صلى الله عليه وسلم خرج عن الإيمان، والمرتد يقتل حداً, فإن تاب قبلت توبته, ولا ينافيه قوله: من قذف نبياً قتل حدا بعد توبته؛ لأن هذا في قذف نبي وليس كلامنا فيه, ولأن ما ذهب إليه في ذلك ضعيف كما قاله جماعة، منهم حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى, وبتقدير صحته لا يصح قياس السبّ على القذف؛ لأنه يوجب الحد بمرة واحدة, والسب الموجب للكفر لا يوجب تعزيراً بمرة واحدة بعد التوبة كالردة بغير السب، فكان القذف أفحش من السب. وأما ما قاله السبكي من أن ساب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان مشهوراً قبل سبه له بفساد عقيدته، وتوفرت القرائن على أنّه سبّه قاصداً التنقص يقتل، ولا تقبل له توبة, فهو مما انتحله مذهباً وارتضاه رأياً لنفسه معترفا بأنه مع جملة مسائل أخرى خارجة عن مذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه كما صرح بذلك هو، وكذا ابنه في طبقاته، ومن ثمّ قال شيخنا زكريا سقى الله تعالى عهده لما سئل عمن سبّ النبي صلى الله عليه وسلم هل يقتل بذلك حداً وإن تاب؟ كما في "الشفاء" عن أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه: الفتوى على عدم قتله كما جزم به الأصحاب في سبّ غير قذف, ورجحه الغزالي رحمه الله تعالى, ونقله ابن المقري عن تصحيحهم في سب هو قذف؛ لأن الإسلام يجب ما قبله, ونقل قتله عن أصحاب الشافعي وهمٌ، بل هم متفقون على عدم قتله في الشق الأول وجمهورهم مرجحون له في الثاني انتهى. 5 - ومنها: أفتى السبكي رحمه الله تعالى فيمن قال: القاضي يقضي والمفتي يهذي أي: من الهذيان كما يدل عليه الجواب الآتي, فقال ما حاصله:

6

يخشى على قائل ذلك الكفر؛ لأن الفتوى تبيين حكم الله تعالى وأصلها تبيين ما أشكل، والمفتي بحق مبيّن لحكم الله تعالى، وهو وارث النبوة، والقاضي يفصل ويلزم بمقتضى الفتوى, قال الله تعالى: (قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) النساء/176. (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) غافر/20. فكل من المفتي أو القاضي بحق له أجر عظيم, والمفتي أعلى والقاضي تابع له؛ لأنه -وإن كان مجتهد فتوى- تابعٌ لفتوى إمامه, فمن زعم أن المفتي يهذي مع اعتقاد أن فتواه صواب فيما أخبر به عن الله تعالى فهو كافر, ومن أطلق تلك العبارة فإنما هو لجهله بمعناها واعتقاده أن الفتوى لا إلزام فيها, وليس كذلك بل يلزم المستفتي الأخذ بها، إلا أن كان عنده ما هو أرجح منها، وتصور اختلاف بين مفتٍ بحق وقاضٍ كذلك إنما هو لاختلاف تصوير أو نحوه, فإن القاضي يبحث ويستكشف أكثر من المفتي, أما مفتٍ أو قاضٍ بغير حق فليس الكلام فيه. وما ذكره أن المفتي أعلى من القاضي فإنما يتضح فيما أومأ إليه كلامه من أن القاضي تابع له ولو مجتهد فتوى, أما بالنسبة لأصل منصب القضاء بحق ومنصب الإفتاء بحق, فالظاهر أن الأول أفضل؛ لأن فيه إفتاء وإلزاما بالحق وتحرياً وتقصياً أشد مما في الإفتاء, فإن المفتي إنما يتحرى في تحرير الحكم، والقاضي يتحرى فيه، وفي مطابقة الصورة الخارجية له، ولا يتم له ذلك إلا بعد مزيد تحّر وفحص وتعقب تام, فكان منصب القاضي أفضل للأخبار الصحيحة المصرحة بأن أفضل الأعمال أشقها إلا لعارض, وعلى هذا يحمل قول من قال: أفضل المراتب الإمامة العظمى فالقضاء فالإفتاء. 6 - وأفتى أيضا فيما نسب إليه مكفر كذبا، فطلب من شافعي أن يحكم بحقن دمه حتى لا يرفع لمالكي بيّنة زور فيهدره ولا تقبل توبته, فهل للشافعي أن يحكم بحقنه وعدم تعزيره، وإن لم يقم عنده بيّنة بذلك؟

فقال ما حاصله: الذي أراه أنه إذا تلفظ بين يدي شافعي مثلا بكلمة الإسلام، وطلب منه الحكم له بذلك، وقد ادعى عليه بخلافه جاز له الحكم بإسلامه وعصمة دمه وعدم تعزيره، ولا يحتاج لاعترافه بمكفر، لأنه قد يكون بريئاً, فإلجاؤه للكذب بذلك لا معنى له, بل لا يجوز أمره بذلك. ويكفي في الحكم استناده لما سمع منه من إسلامه، وبه يمتنع على المالكي التعرض له؛ لأن إسلامه الآن وعصمة دمه مقطوع به. أما فرض أنّه بريء فواضح أو أنه فعل مكفراً فإسلامه ماح له، فعصمته ثابتة قطعاً، والحكم بالحق حق ولا يقدح في ذلك أن إسلامه الآن إنشاء، وشرط الحكم بصحته سبق مكفر؛ لأنه إنما حكم بالعصمة وهي مستندة إلى مقطوع به، إسلامه المستمر أو المنشأ فلم يضر الشك في تعيينه. ولذلك نظائر: منها: ما لو قال موكل في شراء جارية بعشرين: إنما أمرتك بعشرة، فإنه يحلف ويقع شراء الجارية ظاهراً للوكيل. ويستحب للحاكم أن يرفق بالموكل حتى يقول للوكيل: إن كنت أمرتك بعشرين فقد بعتكها بها بلا تعليق فيقبل لتحل له باطناً بتقدير صدقه، ووافقنا المالكية على ذلك, ولو طلب الوكيل حينئذ الحكم بصحة ملكه لها أجيب بلا شك، فيحكم له بالملك وحل التصرف المترتب عليه لتحقق سببه، إما بالشراء الأول أو الثاني، وإن كان مبهما لا بصحة الشراء الثاني، لأنه لم يتحقق سببه لاحتمال كذبه، فيكون شراؤه الأول صحيحا حكما، وجاز حكمه بذلك مع إبهام سببه، فكذا في مسألتنا يحكم بالعصمة لتحقق سببها من الإسلام المستمر أو المنشأ. ولنا أن نقول له هنا أيضا: أن يحكم بصحة إسلامه، ويفرق بينه وبين ما مرّ من عدم الحكم بصحة الشراء الأول بأن البيع يشترط لصحته أمور منها: الملك، ونحن شاكون في ملك الموكل وحاكمون بملك الوكيل لها ظاهرا، فلا يتصور مع ذلك الحكم بصحة الشراء الثاني للشك في سببه, وأما الإسلام فلا يتصور أن يقع غير صحيح، إذ التلفظ بكلمة الإسلام، إما إقرار كلا إله

7

إلا الله ... الخ، وإما إنشاء، أو محتمل لهما، كأشهد أن لا إله إلا الله ... الخ. ومعنى الإقرار الإخبار عن العلم بها, ومعنى الإنشاء معروف كالشهادة بين يدي الحاكم, وبأي معنى فرض فهو إقرار صحيح وإنشاء صحيح, ومعنى صحته ترتب أثره عليه, ومن أثره عصمة الدم وجبّ ما قبله, فإذا حكم القاضي بذلك، فمعناه أنه يترتب هذه الآثار عليه. وسبب الاحتياج إلى حكمه أن الألفاظ التي يصير بها الكافر مسلماً ذكرها الفقهاء، وقسموا الكفار إلى أقسام: منهم من يصير ببعض الألفاظ مسلماً, ومنهم من يشترط فيه زيادة، فحكم القاضي بالإسلام بالنسبة إلى اللفظ الموجود معناه كاف في صيرورته مسلماً فيرفع الحكم الخلاف في اشتراط لفظ آخر، وفي منع إباحة دمه بشيء صدر منه وإن جهل، ولو لم يقصد القاضي رفع الخلاف، وقلنا باشتراط قصده في غير هذا، لأن الصورة أنه ادعى عليه أنه صدر منه ما ينافي الإسلام فالقاضي إنما يحكم ليدراً عنه القتل بما عساه يثبت. 7 - ومنها: لو شك هل طلّق أو لا؟ سنّ له الرجعة، فإن راجع، ثم قامت بعد ثلاثة أقراء بيِّنة بأنه كان طلق جاز للحاكم الحكم ببقاء العصمة مستنداً إلى مراجعته تلك، وإن كان حين الرجعة شاكاً في صحتها فكذا إذا ثبت هنا بعد الحكم بعصمة دمه بلفظه بمكفر لا يلتفت إليه، ويحكم بأنه ارتفع أثره بالإسلام، بل لو شك هل طلق بلفظ الحرام أو بغيره، فراجع وحكم القاضي ببقاء العصمة مستنداً للرجعة، ثم ثبت أنه قال: أنت حرام لم يكن للحنفي وإن كانت الكنايات عنده ثوابت أن يحكم عليه بذلك، لأن الشافعي منعه من ذلك بحكمه السابق، وإن كان عند الحكم شاكاً هل خاطبها بلفظ الكناية؟ لاستناده إلى ثبوت العصمة في اعتقاده بالمراجعة بيقين سواء أطلق بصريح أم بكناية. 8 - ومنها: لو قال: إن كان هذا الطائر غراباً فأنت طالق وإن لم يكنه فأنت طالق فطار وجهل، فللحاكم الحكم بطلاقها، لأنه لازم على كل تقدير، وإن جهل عين سببه، فلو علق بمختلف في صراحته ولم ينو، ورأى الحاكم أنه

9

صريح فحكم بالطلاق، أو كناية فحكم ببقاء العصمة، ثم بان أنه غراب فليس لحاكم آخر الحكم بخلاف ذلك مستندا إلى أنه حكم قبل تيقنه أحد الطرفين. إذ لو كان كذلك لم يتجه حكم أصلاً، وحصل الضرر ببقاء المرأة مع الجهل بالحال معلقة لا منكوحة ولا مطلقة. واعلم أنه لا يشترط قصد الحاكم رفع الخلاف فإذا حكم مستنداً لشيء، وهناك ما لو اطلع عليه لم يحكم كما إذا حكم ببينة خارج فظهر للداخل بيِّنة، وهو يرى تقديمها نقضه وإن لم يره لم ينقضه. ونظيره هنا لو حكم مالكي بعصمته مستنداً للإسلام المستمر، ثم ثبت عنده مكفر جاز له الحكم بإهداره، وكذا لغيره ممن يرى ذلك؛ لأن الحكم الأول إنما كان لظن عدم مكفر، فحيث ثبت بانَ بطلانه بخلاف حكم الشافعي فإنه صحيح، وإن فرض وجود ذلك المكفر، فليس هناك ما لو اطلع عليه لم يحكم، فالضابط أن كل حكم قارنه ما لو علم به الحاكم لم يحكم بنقض على تفصيل فيه بيناه في مسألة الفرس، وكل حكم قارنه ما لو علم به حكم لا ينقض. وبالجملة: من ادعي عليه بكفر لم يثبت، لو طلبه ظالم ليقتله، فطلب من حاكم شافعي أن يحكم بعصمته، فمن يمنعه يلزمه أنه مكّن الظالم من قتله مع قدرته على إنقاذه بمنعه. 9 - ومنها: لو انتُزعت دار من داخلٍ ببينة وحكم له بها، ثم أقام الداخل بينة عنده نقض، وقيل: لا، وقيل: إن كان قبل التسليم، فإن أقامها عند حاكم آخر، فإن علم أن الحاكم الأول إنما حكم لعدم علمه ببينة الداخل فكذلك، وإن احتمل أنه إنما حكم ذهاباً إلى ترجيح بينة الخارج، وهو من أهل الترجيح، أو شك الحاكم لم ينقض على الأصح، بل تقر في يد المحكوم له، فإذا كان هذا قول الأصحاب فيمن لم يقصد بحكمه منع ما هو متوقع ثبوته، فكيف في مسألتنا التي قصد الحاكم بحكمه عصمة المحكوم له عما نسب إليه ويتوقع ثبوته، وهذه المسألة ينبغي أن تحرر ويعتنى بها، فإن الناس يحتاجون إليها.

ولقد بلغني عن ابن دقيق العيد أنه ارتدت الشهادة عنده بحكم حنفي بعصمه دم من نُسب إليه مكفر لينقذه، فامتنع وأمر الشاهدين بأن يشهدا على المنسوب إليه ذلك بالإقرار به، فذهبا إليه وشهدا على إقراره بما نسب إليه ثم حكم بعصمة دمه حكماً مبتدأ، وهذا منه إما احتياط أو لعدم نظر في المسألة مع أني كنت أتبعه في ذلك حتى نظرت فيها فوجدت الحق يقتضي أن ذلك ليس بشرط، والحق أحق أن يتبع، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في مختصر المزني لو شهد عليه شاهدان بالردة فأنكر قيل له: إن أقررت بالشهادتين وتبرأت عن كل دين يخالف دين الإسلام لم يكشف عن غيره انتهى. قيل: أراد الكشف عما شهد الشهود من ردته، وقيل: الكشف عن باطن أمره، لأنا لا نطلع على أفعال القلوب، وعلى كل فقد صرح الأصحاب بأنهما لو شهدا عليه بالردة قبلا، وأن أنكر، فعليه أن يسلم، ولا يفيده إسلامه في رفع الحكم بطلاق زوجته بردته، قال ابن الصباغ: ولا يفيده أيضاً الحكم بإسلامه، فكلامهم سيما كلام ابن الصباغ صريح في الحكم بإسلامه، فيشهد لما قلناه لشمول كلامهم للمحلّ المختلف فيه كالمجمع عليه. نعم الحكم بإسلامه فقط لا يرفع الخلاف؛ لأن المالكي يقتله للحد لا للكفر بخلاف الحكم بعصمة الدم. انتهى المقصود من كلام السبكي.

10

وفيه مناقشات لا يحتملها هذا الكتاب، فالأولى إن لم يكن هو المتعين رعاية لما قدمه عن ابن دقيق العيد، نعم قال الغزالي في أدب القضاء وتبعه شيخنا في مختصره: قال ابن القاص: قال الشافعي رضي الله عنه: إذا ادُّعي على رجل أنه ارتد وهو مسلم لم أكشف عن الحال، وقلت له: قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وأنك بريء من كل دين يخالف دين الإسلام انتهى. فقول بعض القضاة لمن ادعي عليه بذلك أو جاء بنفسه يطلب الحكم بإسلامه بلفظ ما قلت: غلط انتهى كلامهما، وهو يوافق بعض ما ذكره السبكي إلا أن يقال: الحكم بالإسلام غير الحكم بعصمة الدم الذي الكلام فيه. وقالا أيضاً: شهدوا بكفره وفصلوه فقال: أنا مسلم لم يكف حتى يتلفظ بالشهادتين ويتبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام، ولا يشترط أن يقر بالكفر ثم يسلم. 10 - وسئل السبكي أيضا عن حكم الساحر وما يجب عليه وما ورد فيه من الأحاديث. فأجاب: من العلماء كمالك وأحمد من يقول بقتله مطلقاً، وإن تاب كالزنديق. وعند الشافعي إنما يكفر إن تكلم بكفر أو اعتقد أن كوكباً يفعل بنفسه، أو أنه يقدر على قلب العين، وتُقبل توبته، ولا يثبت اعتقاده ذلك إلا بإقراره ككونه قتل بسحره، ويقتص منه بشروطه وما عدا ذلك يعزر، ودليلنا الخبر الصحيح: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إيمان) أي: كما في الحالة الأولى (وزِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، وقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي: كما في الحالة

الثانية، والحالة الثالثة لا قتل فيها بنص هذا الحديث؛ لأنها ليست إحدى الثلاث، ولم يصح حديث يقتضي قتله، وخبر: (حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ) ضعفه الترمذي، وجعله موقوفاً فهو قول صحابي، ولم يقتل صلى الله عليه وسلم لبيداً اليهودي الذي سحره. والآثار عن الصحابة رضي الله تعالى عنه أجمعين مختلفة، فعن عمر رضي الله تعالى عنه: (اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ). وعن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قتلت جارية سحرتها. وعن عائشة رضي الله عنها أنها باعت جارية سحرتها وجعلت ثمنها في الرقاب، وحمل الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فعل عمر وبنته على سحر فيه كفر، وفعل عائشة على ما لا كفر فيه، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يقولوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّه مُحَمَّد رَسُولُ اللَّهِ) الحديث، وإذا اختلف الصحابة اتبع أشبههم قولاً بالكتاب والسنة، وكف القتل عمن لم يكفر ولا زنى ولا قتل أشبه بهما. وقد سئل الزهري شيخ الإمام مالك رضي الله تعالى عنهما أعَلى من سحر من أهل العهد قتل؟ قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُحِر، فلم يقتل من سحره، وكان من أهل الكتاب.

11

11 - وسئل السبكي أيضاً عمن قال: ما أعظم الله فقيل له: لا يجوز. فأجاب بما حاصله: يجوز ذلك. قال الله تعالى: (أَبْصِرْ بِهِ) أي: الله (وَأَسْمِعْ) الكهف/26. أي: ما أبصره وما أسمعه، فمعنى ما أعظمه أنه تعالى في غاية العظمة. ومعنى التعجب من ذلك أنه حارت فيه العقول، فالقصد الثناء عليه بالعظمة أو اعتقادها له، وكلاهما سائغ، وموجبهما أمر عظيم يصح أن يراد بما أعظمه. وبلغني عن شيخنا أبي حيان أنه كتب بعدم الجواز، فنظرت فرأيت ابن السراج قال: حُكِيت ألفاظ من أبواب مختلفة مستعملة بحال

التعجب نحو: ما أنت من رجل، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، وكاليوم رجلا، وسبحان الله من رجل ورجلا، وحسبك بزيد رجلاً، ومن رجل، والعظمة لله من رب، وكفاك زيد رجلاً، فقوله: العظمة لله من رب دليل لجواز التعجب في صفات الله تعالى، وإن لم يكن بصيغة ما أفعله وأفعل به، ومن جهة المعنى لا فرق من حيث كونه تعجباً. وحكى ابن الأنباري عن الكوفيين أن: "ما أحسن زيداً" اسم عندهم لا فعل، تقديره شيء أحسن زيداً، خلافاً للبصريين لأدلة. منها: قوله: ما أعظم الله، ولو كان التقدير ما ذكر وجب أن يقدر هنا: شيء أعظم الله، والله تعالى عظيم لا بجعل جاعل، وقال الشاعر: ما أقدر الله ..... ويلزم من قال: إنه فعل أن تقديره شيء أقدر الله، والله تعالى قادر لا بجعل جاعل.

وأجاب البصريون بأنه لا محذور أن التقدير شيء أعظم الله: أي: وصفه بالعظمة كما تقول عظمت عظيماً والشيء، إما من يعظمه من عباده، وإما ما يدل على عظمته وقدرته من صفاته أو ذاته تعالى: أي أنه أعظم لذاته لا لشيء جعله عظيماً، فرقاً وبينه وبين غيره. وحكى أن بعض أصحاب المبرّد قدم من البصرة إلى بغداد فحضر حلقة ثعلب فسئل عن هذه المسألة فأجاب بجواب أهل البصرة، وهو أن التقدير بشيء أحسن زيداً فأورد عليه: ما أعظم الله، فالتزمه فيه، فأنكروا عليه بأنه عظيم لا بجعل جاعل، وسجنوه حتى قدم المبرّد فوافقه، وبان قبيح إنكارهم عليه، وفساد ما ذهبوا إليه. وقيل: قولنا: شيء أعظم الله بمنزلة الإخبار بأنه عظيم لا بشيء جعله عظيماً لاستحالته، وقول الشاعر: ما أقدر الله .... فهو وإن كان لفظه لفظ التعجب فالمراد به المبالغة في وصفه تعالى بالقدرة، كقوله تعالى: (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا) مريم/75 بلفظ الأمر، وإن لم يكن في الحقيقة أمراً. وإن شئت قدرته تقدير: ما أعظم الله، على ما بينا. انتهى كلام ابن

الأنباري، وهو نص صريح في المسألة وناطق بالاتفاق على صحة هذا اللفظ وأنه غير مستنكر، وإنما اختلفوا هل يبقى على حقيقته من التعجب، ويحتمل الأوجه الثلاثة التي ذكرها، أو يجعل مجازاً عن الإخبار؟ وأما إنكار اللفظ فلم يقل به أحد. والأصح أنه باق على معناه من التعجب وتأويل الشيء على ما ذكر. وذكر أبو الوليد الباجي في كتابه "السنن" أدعية مستحبة من غير القرآن من جملتها: ما أحلمك على من عصاك، وأقربك ممن دعاك، وأعطفك على من سألك. وروى ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن جده أبي

بكر رضي الله تعالى عنهم: أن بعض سفهاء قريش حثا على رأس أبي بكر تراباً فمّر به الوليد بن مغيرة أو العاص بن وائل فقال: ألا ترى ما فعل هذا السفيه؟ قال: أنت فعلت ذلك بنفسك، فقال أبو بكر: أي رب ما أحلمك، ولو لم يكن هذا إلا عن القاسم لكفى فضلاً عن روايته عن جده، وإن كانت مرسلة. وفي الكشاف في (ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) الرحمن/27 معناه: الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه أو الذي يقال له: ما أجلك وما أكرمك.

وفيه في (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) الكهف/26 أنه جاء بما دل على التعجب من إدراكه للمسموعات والمبصرات للدلالة على أن أمره تعالى في الإدراك خارج عن حد ما عليه إدراك السامعين والمبصرين؛ لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها كما يدرك أكبرها حجما وأكثفها جرما، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر. وفيه في: (حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا) يوسف/31 المعنى: تنزيهه تعالى من صفات العجز، والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله وأما (حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) يوسف/51 فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله. وذكر أبو محمد عبد الله بن علي بن إسحاق الصيمري في كتابه التبصرة والتذكرة في النحو في: ما أعظم الله، أي: شيء أعظمه، وفسر الشيء بنحو ما مّر عن ابن الأنباري، ومنه: ويجوز أن يكون ذلك الشيء هو الله تعالى فيكون لنفسه عظيماً لا لشيء جعله عظيماً ثم قال: ومثل هذا يستعمل كثيراً في كلام العرب كما قال الشاعر: نفس عصام سوّدت عصاما .... انتهى.

وقال نحو ذلك أيضاً ابن الدهان سعيد بن المبارك في شرح الإيضاح: ففسر ما أعظم الله بشيء أعظمه، وفسر ذلك الشيء بنحو ما مرّ عن ابن الأنباري، وقال المتنبي:

ما أقدر الله أن يخزي خليفته .... وأقره عليه الواحدي في شرحه، وتبع السبكي على ذلك الولي أبو زرعة فقال في فتاويه: لا نعلم أحداً من معتبري العلماء رضي الله تعالى عنهم منع إطلاق هذا اللفظ. أي ما أعظم الله، ما أحلم الله، وهو لفظ دال على تعظيم الرب جل جلاله وتفخيم ِآثار صفاته العلية فلا مانع من إطلاقه، وفي التنزيل: (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) الكهف/26، ثم حكى عن قتادة قال: لا أحد أبصر من الله ولا أسمع، وقد وردت صيغة التعجب في حق الله تعالى في السيرة أيضاً، فالمانع لذلك إن كان استناده إلى أن أهل العربية يقدرون في مثل هذا من التعجب: شيئا صيره كذا، مثل هذا لا يستعمل في حق الله تعالى،

12

فهذا التقدير غير لازم ولا مطرد فقد يمتنع لمانع، وإذا كان أصل وضع اللفظ في اللغة للتعظيم فلا يمنع منه لأجل ذلك التقدير، ولا تمشي ألفاظ الناس على دقائق أهل العربية التي لا دليل عليها على أنه يمكن تقدير ما يوافقهم بما لا إنكار فيه، من غير إخلال باللائق بالرب جل جلاله بأن يقدر شيء وصفه لذلك، وهو إما نفسه أو من ِشاء من خلقه، ولا يقدر: شيء صيره كذلك. 12 - وأفتى السبكي أيضاً فيمن سئل عن شيء فقال: لو جاء جبريل ما فعلته، بأنه لا يكفر؛ لأن هذه العبارة تدل على عظمة جبريل عنده. 13 - وأفتى أبو زرعة فيمن قال لآخر: سألتك أن تهجرني في الله فقال: هجرته لألفٍ لله بأن مقتضى هذا اللفظ تعدد الآلهة، وذلك كفر صريح، فإن أراده ضربنا عنقه إن لم يتب، فإن ادعى تأويلا يصرفه عن الكفر بأن أراد أسباب الهجرة التي هي لأجل الله، فكأنه قال: هجرتك لألف سبب لله تعالى، فأطلق السبب على المسبب له قُبِل ذلك منه بيمينه، لاحتمال اللفظ له، أو قال: هجرتك ألف هجرة لله، فذلك مما يحتمله اللفظ بتأويل فيقبل أيضاً حقناً للدم بحسب الإمكان، ولا سيما إن كان القائل لذلك مما لا يعرف بعقيدة سيئة، لكن يؤدب على إطلاق هذا اللفظ لبشاعة ظاهرة. 14 - وأفتى شيخنا زكريا الأنصاري سقى الله عهده في اثنين تخاصما، فقال أحدهما للآخر: لست مثلك، أدخل للحاكم وأعمل فضوليا، ولو أردت ذلك لدخلت إليهم وتفوضلت وكفرت ألفي كفر، فهل يكفر بذلك أو لا؟ فماذا يلزمه؟ بأنه يكفر بذلك إلا أن يريد غير الكفر من أنواع الإيذاء فلا يكفر، لكنه ارتكب محرماً، فيلزمه التعزيز البالغ الرادع له ولأمثاله عن مثل ذلك، وبأن من تلفظ بالشهادتين بالعجمية، وهو يحسن العربية لا يكون مسلماً بذلك كنظيره في تكبيرة الإحرام.

الخاتمة

حرّمنا الله تعالى على النار، وجعلنا من جملة أوليائه المقربين الأبرار، وأجارنا من سائر محن الدنيا والدين، وأدام لنا رضاه إلى أن نفوز بشهوده في أعلى عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ومنّ علينا بالإخلاص، والنجاة من سائر العلائق حين لا مناص، ونفع بما ألفناه الخاصة والعامة، وتقبله من فضله، لنرى من آثاره غاية الراحة من أهوال الحاقة والطامة، إنه أكرم كريم، وأرحم رحيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ما شاء الله كان، وما لم يشأ الله لم يكن. ما شاء الله، لا قوة إلا بالله على هذا التأليف وغيره من ديني ونفسي وسائر آثاري، والحمد لله أولا وآخرا، ظاهرا وباطنا.

§1/1